مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة الثامنة والأربعون )

  داتيس الميدي: قائد معركة ماراثون

(توفي بعد سنة 490 ق.م)

 

سباق الماراثون.

هل هناك من يهتم بالرياضة ولا يعرف هذا السباق؟

لكن لعل ما لا يعرفه كثيرون من هواة الرياضة أن سباق الماراثون يعود إلى حوالي (2500) سنة قبل الآن، وتحديداً إلى سنة (490 ق.م)، وأنه يرتبط بذكرى واحدة من أضخم المعارك الحربية بين آسيا ممثَّلةً في الفرس، وأوربا ممثَّلةً في الإغريق، وأن المعركة جرت في سهل (ماراثون) على مسافة (40) كم من أثينا، وأن قائد الجيش الفارسي في تلك المعركة كان واحداً من كبار العسكريين الميديين، واسمه (داتيس الميدي).

فماذا عن داتيس الميدي ومعركة ماراثون؟

بل قبل ذلك لماذا كانت معركة ماراثون؟

صناعة الإمبراطورية

لمعرفة أسباب معركة ماراثون، وأسباب أمثالها من المعارك الفاصلة في تاريخ البشرية عامة، وفي تاريخ آسيا وأوربا خاصة، لا بد من وقفة تمهيدية عند (الإمبراطورية)؛ تُرى كيف تنشأ؟

ويبدو أن الإمبراطوريات تقوم على أربعة أركان:

1 - زعيم ذو طموح كوني، وذو شخصية كاريزمية ميكيافلية، يتصف بالذكاء والدهاء والإقدام والعزم والحزم، ويقرأ الوضع الداخلي لشعبه، والمناخ الإقليمي والدولي، قراءة صائبة ودقيقة، ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ويتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب وبالكيفية المناسبة، وفي جميع الأحوال لا يعبأ بأعداد الجرحى والقتلى من فريقه أو من الفريق المعادي ما دام الهدف يتحقق.

2 - شعب شديد المراس يتشرّب رؤية الزعيم وعقيدته الغزوية، ويؤمن بأهدافه الفتوحاتية، ويتبنّى بحماس مشروعه التوسعي، ويسير وراءه سامعاً مطيعاً، باذلاً المال والنفس والولد دون تردد.

3 - جيش مقاتل منضبط محترف متمرّس شرس، مسلّح بكافة أنواع الأسلحة الفتاكة التي تتوافر في كل عصر، وتقوم عقيدته الحربية على طاعة القائد طاعة عمياء، وعلى البطش وإراقة الدماء دون أدنى شعور بوخز الضمير.

4 - موارد وثروات كافية، تمد الزعيم بما يكفي من المال لتنفيذ مشروعه الإمبراطوري، وتجعله قادراً على أن يدفع للجنود رواتبهم.

على أن ولادة الزعيم العبقري الكاريزمي وحدها غير كافية لصناعة الإمبراطورية، ولا بد من توافر عامل آخر هو في الغاية من الأهمية؛ إنه عنصر (التحدي والاستجابة) كما قال المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي فيما أذكر. وبمراجعة تاريخ الإمبراطوريات الكبرى في العالم قديمه وحديثه نجد عامل (التحدي والاستجابة) يحتل موقعاً متقدماً في ظروف نشأتها، وقد يتمثّل التحدي في فقر الجغرافيا بموارد العيش، وقد يكون قهراً ناجماً عن تسلّط قوة أخرى، وقد يكون الأمرين معاً، وحبّذا أن يدقق القارئ النظر في ظروف نشأة الإمبراطوريات: الآشورية، والميدية، والفارسية، والمكدونية، والرومانية، والعربية، والمغولية، والعثمانية، والروسية، والبريطانية، وأعتقد أنه سيجد عامل (التحدي والاستجابة) كان الأبرز والأكثر فاعلية في نشأة تلك الإمبراطوريات.

جغرافيا فارس

ولنعد إلى موضوعنا الأساسي، وهو متصل بظهور الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، فإن كل من كتب عن الموطن الأول للشعب الفارسي في جنوبي بلاد فارس (جنوبي إيران حالياً) ذكر أن قسماً كبيراً من موطن الفرس كان براري فقيرة بموارد العيش، وكان الشعب الفارسي يعيش حياة بدوية فيها قدر كبير من الشظف والتقشف، وهاكم ما قاله هيرودوت في هذا المجال، وهو يتناول خطة كرويسوس ملك ليديا للهجوم على الدولة الأخمينية:  

" لما قرر كرويسوس مهاجمة الفرس نصحه أحد رجالات ليديا الحكماء يدعى ساندانيس قائلاً: أراك أيها الملك تتهيّأ لشنّ الحرب على قوم سراويلهم من الجلد، بل كل ما يرتدون من الجلد [إشارة إلى حياة البداوة]، وهم لا يأكلون ما يطيب لهم، وإنما ما ينتزعونه من الأرض اليَباب، ولا يشربون النبيذ، وإنما شرابهم الماء، وليس لديهم تين أو أي شيء من أطايب الفاكهة، فماذا تُراك تنال منهم لو غزوتهم وانتصرت عليهم، وقد رأيتَ هذا من أمرهم، وعلمتَ من حالهم ما علمت؟ أمّا إذا كانت الغلبة لهم فكم من ثمين ستخسر! ولو ذاقوا ما لديك من أطايب الحياة فستجدهم يُحكمون قبضتهم علينا، ولن نملك فَكاكاً منها بعد ذلك، ولو سألتني الرأي لقلت لك: إني لممتنّ للآلهة؛ لأنها لم تحرّض الفرس على غزو ليديا ".  [هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 62].

ويؤكد هيرودوت شظف العيش الذي كان الفرس يعيشونه، قائلاً:

" فالحق أن الفرس لم يعرفوا شيئاً من أسباب الرَّفاه، ولا تذوّقوا أطايب الحياة قبل انتصارهم على ميديا ". [هيرودوت: تاريخ هيرودوت ص 62. وانظر: ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 2/353].

ويقول هارڤي بورتر في الأمر نفسه:

" وبلاد فارس حيث خرج المتسلّطون عليها ضيّقة، لا تبلغ مساحتها سوى 100000 ميل مربّع، وكان يحدّها شمالاً مادي، وشرقاً الصحراء السبخة، وجنوباً خليج العجم، وغرباً ذلك الخليج وسوسيانا، وكان نحو نصف البلاد صحارى لا تصلح لشيء، والباقي تُرَب بين الجبال، عدا ريف البحر، فإنه كان ضيقاً شديد الحر، غير أن بعضه يصلح للحراثة. أما الأراضي الجبلية فمثل ما يقابلها من أراضي مادي كما ذكرنا، ففيها أودية تجري منها أنهر صغيرة، والأراضي المجاورة لها مخصبة، وفيها عدة بحيرات صغيرة مالحة، ... ". [هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم،  ص 152- 153].

إذاً إن فقر بلاد فارس بموارد العيش من ناحية، ووقوع الفرس تحت سلطة أقربائهم الميديين من ناحية أخرى، واعتياد الفرس على حياة الشظف والتقشف من ناحية ثالثة؛ كل ذلك كان من العوامل التي هيّأتهم لأن يتحوّلوا من شعب مقهور خامل الذكر إلى شعب قاهر حكم غربي آسيا قديماً حوالي ألف عام، وكان المطلوب هو ظهور الزعيم العبقري الكاريزمي، وكان كورش الثاني بن قمبيز الأول هو ذلك الزعيم.

تجّار.. وغزاة

البدوي، المزارع، التاجر.

هؤلاء هم صنّاع حركة التاريخ البشري قديماً.

ويبدو لي ها هنا أمران:

-  الأول: أن (البدوي)، من حيث الذهنية والسايكولوجيا، أقرب إلى (التاجر) منه إلى (المزارع)، وإنه لأمر شاق بالنسبة إلى البدوي أن يصبح مزارعاً قديراً، لكنه لا يجد الصعوبة ذاتها كي يكون تاجراً قديراً، أو ناشطاً في مؤسسة تجارية إقليمية الطابع أو عالمية الامتدادات.

-  والثاني: أن الغزو الفتوحاتي ليس نتاج ثقافة الزراعة، إنه نتاج ثقافة البداوة، ونتاج ثقافة التجارة، بلى، فالمزارع لا يحتاج إلى الغزو، لأنه يملك ما يكفيه للعيش ولو في الحدود الدنيا، أما البدوي فهو بحاجة إلى الغزو لحاجته إلى ما يعينه على الاستمرار في الحياة، والتاجر بحاجة إلى الغزو للسيطرة على الموارد والأسواق وطرق التجارة الإقليمية والعالمية. ولا أزعم أن هذه هي القاعدة الدائمة في نشأة الإمبراطوريات، لكني أجد في تاريخ الإمبراطوريات القديمة والحديثة ما يشجّعني على الاعتقاد بأنها القاعدة الغالبة.

وألمح في تاريخ الدولة الأخمينية شيئاً من صحة هذه القاعدة؛ فالفرس كانوا بداة، يقيمون في بلاد فقيرة بالموارد إذا قورنت ببلاد ميديا، وبعد أن سيطروا على الدولة الميدية وممتلكاتها الشاسعة (من أفغانستان إلى البحر الأبيض المتوسط) أصبحوا في موقع إمبريالي (بالتعبير المعاصر)، وصاروا، بتأثير ذلك الموقع، من كبار القابضين على زمام التجارة الإقليمية والعالمية، وصار مطلوباً منهم أن يسيطروا على مداخل طريق التجارة العالمي (طريق الحرير) إلى آسيا الوسطى، فإلى شبه القارة الهندية، وإلى الشرق الأقصى.

لكن هل كان ذلك كافياً وَفق الحسابات الإمبراطورية؟

لا،  فالإمبراطورية تبقى مهدّدة بالاختناق اقتصاديأ، ومن ثَمّ عسكرياً وسياسياً، ما لم تسيطر على طرق التجارة سيطرة كاملة، وصحيح أن الفرس سيطروا على طرق التجارة المتجهة عبر غربي آسيا إلى الشرق الأقصى، لكنهم ما كانوا يسيطرون على شبكة المواصلات التجارية الهامة في سوريا وآسيا الصغرى، وما كانوا يسيطرون على الموانئ الهامة الواقعة على سواحل شرقي المتوسط، وهكذا شنّ كورش هجماته على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وبسط سلطته على الموانئ السورية، وأخضع الفينيقيين (روّاد البحر الأوائل في غربي آسيا) لسلطانه، وكان من أبرز مكاسبه في هذا المجال أن الأسطول الفينيقي المتميّز صار رهن إشارته في نقل التجارة من ناحية، وفي شن الغزوات البحرية من ناحية أخرى.

 ومرة أخرى لم يكن ذلك كافياً، فما زالت مملكة ليديا- وكانت أقرب إلى الإغريق إثنياً وثقافياً- تَحول بين الدولة الفارسية الناهضة وبين الموانئ المطلّة على بحر إيجا وعلى الهيلسبونت (الدردنيل)، وما زال الإغريق يسيطرون على الجزر المنتشرة في بحر إيجا وفي شرقي البحر المتوسط، ومن غير السيطرة على تلك الموانئ والجزر لا يمكن أن يصبح طريق الحرير العابر إلى داخل القارة الأوربية في قبضة الإمبراطورية الفارسية.

ولذلك هبّ الملك الأخميني كورش إلى مهاجمة مملكة ليديا في آسيا الصغرى سنة (547 ق.م)، ليس لأنها كانت حليفة الميديين (خصوم فارس) فقط، ولا لأن الملك الليدي كرويسوس كان قد هاجم الممتلكات الأخمينية شرقي نهر هاليس (قِزيل إرماق) فقط، وإنما لأنه لا يمكن الوصول إلى موانئ بحر إيجا والهيلسبونت من غير السيطرة على مملكة ليديا نفسها، ومن هناك يمكن الانتقال إلى غزو بلاد الإغريق، وإخضاعها للسيطرة الفارسية، والسيطرة من ثم على الموانئ الكثيرة المرتبطة بطرق التجارة داخل القارة الأوربية، والقبض على أوربا من خناقها، وإركاعها في النهاية.

تلك كانت خطة كورش الستراتيجية فيما يبدو، وقد نفّذ المرحلة الأولى منها بمهاجمة مملكة ليديا والمناطق المجاورة لها في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، وضمها إلى الإمبراطورية الفارسية، وسار ابنه قمبيز (كمبيز= كمبوجيا)على نهجه، وتولّى تنفيذ المرحلة الثانية من الخطة، وكان يعلم، كما كان يعلم كل فاتح في غربي آسيا، أنه لا تكفي السيطرة على طريق التجارة البري العالمي (طريق الحرير) المار من غربي أوربا إلى الصين، مروراً بغربي آسيا ووسطها، وإنما لا بد من السيطرة على طريق تجاري عالمي آخر مكمل لطريق الحرير هو (طريق البخور)، وكان يمتد من الموانئ السورية والمصرية على البحر المتوسط، ويتجه جنوباً عبر غربي شبه الجزيرة العربية، وبموازاة البحر الأحمر، وينتهي إلى الموانئ اليمنية على بحر العرب، ويصبح على اتصال مع موانئ شرقي إفريقيا وجنوبي الهند وجنوب شرقي آسيا.

وكان قمبيز يعلم أيضاً، كما كان يعلم كل فاتح في غربي آسيا، أن السيطرة على طريق البخور لا يتحقق إلا بإحكام السيطرة على البحر الأحمر، باعتبار أن الجزء البحري من طريق البخور كان يمر بذلك البحر، وكان يعلم، كما علم قبله الآشوريون، وبعده المقدونيون والرومان والعرب والعثمانيون قديماً، والفرنسيون والإنكليز حديثاً، أن السيطرة على البحر الأحمر لا يمكن أن تتحقق من غير السيطرة على مصر؛ ولذا شنّ قمبيز الهجوم على مصر واحتلها سنة (525 ق.م)، وما اكتفى بذلك بل أرسل حملة ضخمة للسيطرة على بلاد النوبة الواقعة في الجنوب (موزّعة الآن بين جنوبي مصر وشمالي السودان)، طبعاً لبسط النفوذ الفارسي على القسم الجنوبي من البحر الأحمر، حيث مضيق باب المندب، لكن حملته تاهت وسط الرمال، ولم تحقق الهدف [تاريخ هيرودوت، ص 229].

رمزية التراب والماء

وكانت الستراتيجية الإمبراطورية الأخمينية تقتضي أن يتوسّع النفوذ الفارسي البحري، فيسيطر على السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط (في شمالي إفريقيا)، وكانت الإمبراطورية الفارسية بذلك تُحكم قبضتها على جميع المراكز التجارية الواقعة في غربي آسيا وشمالي إفريقيا، تمهيداً لإخضاع العالم الإغريقي الذي كان يمثل القوة الناهضة في أوربا حينذاك؛ ولهذا الغرض قرر قمبيز إرسال حملة بحرية لمهاجمة قرطاجنّة والمستعمرات الفينيقية الأخرى في شمالي إفريقيا (تونس وما يجاورها حالياً)؛ لأن وجود قوة بحرية منافسة أخرى يحدّ من نفوذ الإمبراطورية الفارسية، ويفسد عليها شهيتها في المزيد من التوسع، والمزيد من السيطرة على ثروات الشعوب. ولغزو قرطاجنّة كان على قمبيز أن يستعين بالأسطول الفينيقي التابع للفرس، وبالبحارة الفينيقيين، قال هيرودوت:

" لكن الفينيقيين رفضوا المهمّة، بسبب الأواصر التي تجمعهم بالقرطاجنيين، ولأن شن الحرب ضد أبنائهم إثم وشر لا يمكن أن يقترفوه، ولما كانت بقية القوات البحرية أضعف من أن تقوم بالحملة بدون الفينيقيين، فقد أفلتت قرطاجنّة من قبضة الفرس". [تاريخ هيرودوت، ص 226].

وبعد السيطرة على مصر، انتقل القادة الفرس إلى تنفيذ المرحلة الثالثة من خطتهم التوسعية، ألا وهي الانتقال إلى مهاجمة الإغريق في عقر دارهم، بدءاً باحتلال الجزر الإغريقية في البحر الأبيض المتوسط، وانتهاء بمهاجمة أثينا وإسبارطا أكثر جمهوريات الإغريق تقدماً وقوة، وكان الملك الإخميني الثالث دارا الأول (داريوس) هو الذي دشّن الخطوات التمهيدية لتلك المرحلة، وكانت عادته أن يطلب من قادة الشعوب إرسال التراب والماء له، رمزاً للتبعية والخضوع، وهذا ما فعله بخصوص الإغريق، فبعث بالرسل إلى دول- المدن الإغريقية، يطالبها بإرسال التراب والماء، وفي الوقت نفسه أرسل أوامره إلى مدن الساحل السوري، وإلى بلدان آسيا الخاضعة لسلطانه، لإمداده بالسفن الحربية والجياد.

 وبينما كان يجري تأمين المعدّات والتجهيزات استعداداً للهجوم، حصل رسل دارا إلى بلاد الإغريق على التراب والماء من بعض المدن الإغريقية الواقعة في البر والبحر، غير أن قادة دولة أثينا ودولة إسبارطا رفضوا إرسال التراب والماء إلى الملك الفارسي، وما اكتفوا بذلك بل رمى أهل أثينا رسله في حفرة عميقة، ورماهم أهل إسبارطا في بئر، "وقيل لهم إنهم سيجدون هناك التراب والماء لمليكهم ". [تاريخ هيرودوت، ص 536]، كما أنهم قرروا عقاب الجهات الإغريقية الأخرى التي أعلنت التبعية للفرس، وكان بعض رجالات تلك الجهات موجودين في البلاط الفارسي بالعاصمة الملكية سوسا، فشجّعوا دارا على مهاجمة أثينا وإسبارطا، ولاقى ذلك صدى طيباً في نفس دارا، يقول هيرودوت:

" علاوة على ذلك فإن داريوس نفسه كان توّاقاً للحصول على مبرّر ليغزو المدن الإغريقية التي رفضت أن ترسل ما يدل على خضوعها له من تراب وماء، ونتيجة لإخفاق ماردونيوس [ابن أخت دارا وقائد فارسي كبير] في حملته فقد أعفاه من مهامّه، وعيّن قائدين آخرين للجيوش التي اعتزم إرسالها للهجوم على إيرتريا [Eretria مدينة تقع شمالي أثينا] وأثينا، هما داتيس الميدي وابن أخيه [داريوس] أرتفرنيس بن أرتفريس، وحمّلهما الأوامر بجعل سكان أثينا وإيرتريا عبيداً، وإحضارهم للمثول بين يديه " [تاريخ هيرودوت، ص 466].

تفريغ الذاكرة

والحقيقة أننا لا نعرف شيئاً عن داتيس الميدي قبل أحداث معركة ماراثون، وسبق أن أشرنا إلى ظاهرة ندرة المعلومات التاريخية عن التاريخ الميدي خاصة، وعن التاريخ الكردي القديم عامة، هذا مع العلم أنه كان للميديين دور فاعل في غربي آسيا طوال قرن وربع قرن من الزمان، بل إنهم قادوا أكبر انقلاب في تاريخ شعوب هذه المنطقة سنة (612 ق.م)، بتحريرها من جبروت الإمبراطورية الآشورية، وكانوا حكّام منطقة شاسعة جداً، تمتد من أفغانستان ضمناً إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.

والسؤال هو: هل من المعقول أن مملكة مثل مملكة ميديا كانت قادرة على إدارة أمور شعبها، وأمور الشعوب التابعة لها، شفهياً ومن غير مدوَّنات ولا سجلاّت؟ وهل يُعقل أن تتوافر معلومات وافية عن السومريين، والأكاديين، والبابليين، والكلدان، والآشوريين والآموريين، والأخمين، والبرث، والساسانيين، وتنخفض المعلومات، أو تكاد تنعدم أحياناً، بل هي تنعدم بشكل مطلق أحياناً كثيرة، حينما يتعلّق الأمر بالميديين وغيرهم من أجداد الكرد؛ مع العلم أنهم جميعاً شعوب منطقة واحدة؟!

أليس هذا أمراً غريباً حقاً؟!

وسبق أن أرجعنا هذه الظاهرة الغريبة إلى التغييب المنهجي الذي خطّطت له القيادات الأخمينية، ونفّذته بدقة وحزم وإصرار، ثم نهجت الإمبراطوريات الفارسية الأخرى نهجها، خوفاً من (عودة الوعي) الميدي إلى النهوض، ومعروف عبر التاريخ، قديم وحديثاً، أن أول ما يهتم به صنّاع الإمبراطوريات هو (تفريغ ذاكرة) الشعوب المقهورة، وأن أقرب طريق إلى تفريغ ذاكرة شعبٍ ما هو أمران: الأول تغييب تاريخه. والثاني تجريده من لغته.

ولنعد إلى داتيس الميدي كما يسمّيه هيرودوت، وبحذف اللاحقة اليونانية (سS ) من اسمه، يبقى اسمه (دات) Dat، ولهذا الاسم صلة في الكردية بمعاني (الهبة ، العطاء)، لكن من هو أبو داتيس؟ ومن هو جده؟ لا شيء عن ذلك. ونحسب أن قيام دارا بإسناد قيادة جيش ضخم، تتمثّل مهمته في مقارعة الإغريق المعروفين بصلابتهم وبأسهم وعشقهم للحرية، وتقع ساحة عملياته على مسافة آلاف الأميال في غربي الإمبراطورية الفارسية، إلى قائد ميدي، يعني أكثر من دلالة:

-      أولها أن داتيس كان كبار القادة العسكريين في الجيش الفارسي.

-      وثانيها: أنه كان يمتاز بخصائص قيادية وبخبرة عسكرية مرموقة.

-      وثالثها: أنه كان من الميديين الذين أثبتوا إخلاصهم للقيادة الأخمينية.

-      ورابعها أنه لم يكن ممن شارك سميرديس (غوماتا) الميدي انقلابه على الأخمين.

الزحف نحو أثينا

وقد غادر القائدان داتيس وأرتفرنيس بلاد فارس على رأس جيش وصفه هيرودوت بأنه "جبّار حسن التجهيز"، واتجها شمالاً وغرباً نحو سهل آليان في منطقة كيليكيا Cilicia (ورد في ترجمة تاريخ هيرودوت بصيغة: قيلقيلية، والصواب ما ذكرناه)، وعسكرا بالجيش هناك، وانضمت إليهما قوات عسكرية بحرية كانت جميع سفنها ورجالها من البلدان الخاضعة لفارس، وكذلك وصلت الجياد التي كان دارا قد أمر بمصادرتها من الدول التي فرض عليها الضرائب، وتم نقل تلك القوات جميعها إلى أيونيا بحراً (في أقصى غربي تركيا الآن)، وقد تألف الأسطول الفارسي من(600) ستمئة سفينة ثلاثية المجاذيف.

ولم يسر الأسطول باتجاه مضيق هليسبونت (الدردنيل) فإلى تراقيا، كما سيفعل بعدئذ الملك الأخميني الرابع أحشويرش (أهاسويروس = اكسركسيس الأول) بن دارا الأول، وهي طريق طويلة، وإنما انطلق الأسطول مباشرة من جزيرة (أو شبه جزيرة) ساموس Samus الواقعة على ساحل بحر إيجا من جانب (تركيا حالياً)، وأبحر مباشرة عبر البحر الإيكاري والجزر، متجهاً مباشرة نحو جزيرة ناكسوس  Naxosالتي كان الفرس قد فشلوا في الاستيلاء عليها في حملة سابقة، وحينما وصلت الحملة إلى ناكسوس " لم يُبد أهلها أية مقاومة، بل هربوا إلى الهضاب، وقد تمكّن الفرس من الإمساك ببعضهم وجعلهم عبيداً، وقاموا بإحراق المدينة بأكملها، بما في ذلك المعابد، ثم أبحروا للهجوم على جزر أخرى". [تاريخ هيرودوت، ص 467].

وبينما كان الجيش الفارسي منشغلاً باحتلال جزيرة ناكسوس كانت الجزر اليونانية الأخرى تعدّ نفسها لمواجهة الخطر المحدق بها، وعرف سكان جزيرة ديلوس Delos الواقعة قريباً من ناكسوس شمالاً أنهم في مرمى الخطر، ففروا منتقلين إلى جزيرة تينوس Tenos  الواقعة في الشمال أيضاً، وبينما كان الأسطول الفارسي يمخر عُباب البحر أصدر داتيس الميدي أمراً إلى جميع السفن بألا ترسو في جزيرة ديلوس، بل تتجه إلى جزيرة رينايا المقابلة لها، وبعد أن تأكد من مكان وجود الديليان (سكان ديلوس)، بعث إليهم  رسالة يعبّر فيها عن احترامه لمقدساتهم، يقول فيها حسبما ذكر هيرودوت:

" أيها السادة المبجّلون، لماذا تهربون؟ ما هذا الرأي الغريب الذي تحملون، والذي يدفعكم إلى التواري؟ من المؤكد أنني أمتلك من الحصافة - دونما حاجة إلى أوامر الملك- ما يكفي لأن أستثني الجزيرة التي ولد فيها أبولو وأرتميس [من كبار آلهة اليونان]، وألا أقوم بأي عمل فيه ضرر لهما ولشعبهما، ولهـذا فإنني أرجوكم أن تعودوا إلى بيوتكم وجزيرتكم". [تاريخ هيرودوت، ص 467].

ويقول هيرودوت: 

" وأتبع داتيس رسالته بإحراق ما زنته ثلاثمئة مثقال من البخور في المعبد في ديلوس تقرّباً من الآلهة، ثم غادر الجزيرة، وأبحر على رأس قواته متوجّهاً إلى إيرتريا، حاملاً معه الأيونيين والأيوليين الذين كانوا خاضعين للفرس ". [تاريخ هيرودوت، ص 467].

وتابعت الحملة الفارسية بقيادة داتيس زحفها نحو شبه جزيرة أتيكا (جنوبي اليونان حيث تقع مدينة أثينا)، وكان الفرس يطلبون من الجزر التي يصلون إليها تقديم الرهائن، أو إمدادهم بالرجال لمحاربة الإغريق الآخرين، ولا سيما أهل أثينا، وكانوا يحاصرون كل جزيرة ترفض طلبهم، ويتلفون محاصيلها الزراعية، ويجبرون السكان في النهاية على الخضوع لأوامرهم.

معركة ماراثون

وظل الفرس يتقدّمون نحو أثينا، وهم يحتلون الجزر الهامة، واستولوا في طريقهم على مدينة إيرتريا، واستعبدوا سكانها، وأخذوهم معهم تنفيذاً لأوامر دارا، قال هيرودوت:

" وبعد استيلائهم على إيرتريا، وقهرهم لأهاليها، واستعبادهم لهم، انتظر الفرس عدة أيام، ثم أبحروا إلى أتيكا  مزهوّين بانتصارهم، وهم يعتقدون بأنهم سيتمكنون من معاملة الأثينيين كما عاملوا الإيرتريين، ووقع الاختيار على سهل ماراثون لكونه أقرب مكان من أتيكا إلى إيرتريا، علاوة على أنه لم يكن في أتيكا مكان يناسب تحركات الفرسان مثل ماراثون " [تاريخ هيرودوت، ص 469].

ولما سمع الأثينيون خبر توجّه القوات الفارسية نحو مدينتهم حشدوا قواتهم، وسارعوا إلى بناء تحصيناتهم وخطوط الدفاع لمواجهة الفرس، ثم توجّهوا مع حلفائهم من الإغريق الآخرين إلى خوض المعركة ضد الفرس في سهل ماراثون، واشتبكوا معهم على طول خطوط القتال، يقول هيرودوت مشيداً بشجاعة الأثينيين، ومنوّهاً بهيبة الفرس:

" كانوا أول الإغريق في تصويب الرماح وهم يركضون، وأول من تجرّأ من الإغريق على النظر إلى اللباس الفارسي، أو مواجهة الرجال الذين يرتدونه دون أن ينتابهم الذعر؛ إذ لم يتمكن أيّ إغريقي قبل هذا اليوم من سماع كلمة (فارسي) دون أن يصيبه الهلع ". [تاريخ هيرودوت، ص 475].

واستمر القتال بين الفريقين في سهل ماراثون ضارياً، إنها كانت معركة مصيرية بين قارتين (آسيا وأوربا)، وفي البداية استطاع الجيش الفارسي إلحاق الهزيمة بقلب الجيش الإغريقي، لكن ما لبث جناحا الجيش الإغريقي أن غيّرا مسار المعركة، فألحقا الهزيمة بجناحي الجيش الفارسي، ثم توحّدا في الهجوم على القلب، ولم يجد الفرس بداً من الهزيمة، واللجوء إلى سفنهم للنجاة، على أنهم توجّهوا بالأسطول إلى ميناء فاليريوم وهو المرفأ الرئيسي لأثينا، بقصد احتلال أثينا قبل وصول الجيش الإغريق، لكن الإغريق وصلوا إلى أثينا قبل الفرس، واتخذوا مواقعهم لصد الهجوم الفارسي، وحينئذ لم ير الفرس بداً من العودة إلى آسيا خائبين.

وفور اندحار الجيش الفارسي قام جندي أثيني اسمه فيديبيدس بالتوجّه جرياً إلى أثينا ليزفّ بشرى النصر إلى الشعب، والمسافة بين سهل ماراثون وأثينا (40) أربعون كيلومتراً، ووصل فيدبيديس مبشّراً بالنصر، لكنه سقط من الإعياء، وتوفّي نتيجة الجهد الذي بذله في الجري المتواصل طوال تلك المسافة؛ وتخليداً لذكرى ذلك الجندي المخلص، وتخليداً لذكرى تلك المعركة الحاسمة، أدخل الإغريق سباق ماراثون ضمن الألعاب الأولمبية التي كانوا يقيمونها بانتظام، ويحتفلون بها على الصعيد الرسمي والشعبي أيّما احتفال، وعندما أحييت الألعاب الأولمبية في أثينا سنة (1896م)، أُحيي معها سباق الماراثون أيضاً، وهو الآن طريق للجري يبدأ من جسر قرية ماراثون إلى أثينا.

احترام للمقدسات

ويبدو من سرد أحداث معركة ماراثون أن داتيس كان القائد الأعلى، ولا نجد للقائد الآخر أرتفرنيس ذكراً له فيها، وكانت حصيلة معركة ماراثون- حسبما ذكر هيرودوت- مقتل (6400) ستة آلاف وأربعمئة جندي من الجيش الفارسي، و(192) مئة واثنين وتسعين جندياً من الإغريق، وقد حدثت المعركة سنة (490 ق.م)، ورغم الهزيمة التي حلّت بداتيس الميدي وجيشه في حربه ضد الأثينيين، نجده رجلاً بعيداً عن روح الانتقام والبطش، نزّاعاً إلى ما هو إنساني، محتفظاً بمبادئه في احترام مقدسات أعدائه.

ومن يدري؟! لعل داتيس كان يعرف في قرارة نفسه أنه يشارك في تعميم القهر الإمبراطوري الفارسي على الشعوب الأخرى، وإذا كان من واجبه العسكري أن يحارب بشجاعة، ويؤدّي المهام العسكرية الموكولة إليه بإخلاص، فإن من واجبه الإنساني أن يحترم خصوصيات الآخرين، وهذه سمة ظاهرة في سيرة معظم مشاهير الكرد عبر التاريخ قديمه وحديثه، ويقول هيرودوت بشأن داتيس واحترامه لمقدسات الإغريق:

" في طريق عودته إلى آسيا على رأس جيشه توقف داتيس في ميكونوس، وفيما هو نائم رأى حلماً لم يتم التعرف على فحواه، فأصدر أوامره منذ الفجر الباكر بتفتيش جميع السفن، فعثر على تمثال أبوللو في إحدى السفن الفينيقية، وقد وُضعت فوقه القطع الذهبية لإخفائه، فاستعلم عن المكان الذي سُرق منه، والمعبد الذي كان فيه، فأخذه وأبحر على متن سفينة إلى ديلوس، وأعاده إلى المعبد هناك، ... وبعد ذلك غادر داتيس ليعود إلى أسطوله" [تاريخ هيرودوت، ص 476].

وقد غضب دارا أشد الغضب من نتائج معركة ماراثون، واشتدت نقمته على أثينا أكثر من السابق، وأصبح أكثر تصميماً على مهاجمة بلاد الإغريق، واستنفر جميع الولايات الخاضعة له، كي تمده بجيش أضخم من سابقه، وتوفير السفن للأسطول، وإعداد وسائط النقل والخيول، وإمداده بالحبوب، قال هيرودوت: " وهكذا دارت أوامر الإرادة الملكية، وعلى وقعها أرعدت آسيا بما فيها ". [تاريخ هيرودوت، ص 487]. وظل الاستنفار قائماً ثلاث سنوات، لكن ما لبث دارا أن توفي سنة (485 ق.م) قبل تنفيذ الهجوم الكبير.

وتولى أحشويرش السلطة بعد والده دارا، واستكمل خطته لقهر الإغريق، وقاد حملة ضخمة جداً بنفسه لغزو بلاد اليونان، ولا نجد للقائد الميدي داتيس ذكراً في تلك الحملة، ولعله كان قد توفي، أو تقاعد عن العمل العسكري، لكننا نجد لولدين له موقعاً قيادياً رائداً في حملة أحشويرش، إذ يقول هيرودوت في وصف قطعات الجيش الفارسي التي عبرت مضيق الدردنيل إلى أوربا: " وكانت قيادة  الفرسان معقودة لولدي داتيس: أرماميثراس، وتيتايوس. أما القائد الثالث فرنوخس فقد أصابه حادث، فتُرك في سارديس".  [تاريخ هيرودوت، ص 521].

ومعروف أن سلاح الفرسان كان يشكّل القوة الضاربة في الجيوش القديمة، وفي الغالب كانت قوة الفرسان هي التي تحسم المعركة لصالح هذا الفريق أو ذاك، إنه كان أشبه بسلاح المدرعات وبالسلاح الجوي في عصرنا هذا، وقد ضمّت حملة أحشويرش- حسب وصف هيرودوت- أضخم جيش توجّه من آسيا إلى أوربا في تاريخ الصراع بين القارتين، ولا ريب في أن إسناد قيادة الفرسان في ذلك الجيش إلى قائدين ميديين، هما ولدا داتيس، دليل أكيد على ثقة القيادة الأخمينية بكفاءتهما من ناحية، وبقدرة الشعب الميدي على إنجاب العباقرة العسكريين حتى بعد زوال دولتهم.

المراجع

1.    هـ. ج. ولّز: معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، لجنة التأليف و الترجمة والنشر، القاهرة، 1967-1972م.

2.    هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991 م.

3.    هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

4.  وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959 م.

وانظر: إ. م. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والنشر، دمشق.

وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 15 – 12 -  2007

dralkhalil@hotmail.com

 

 

================

 

مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة السابعة والأربعون )

  القائد العسكري مازاريس الميدي

(توفي حوالي سنة 546 ق.م)

 

الزعيم!

النُّخَب هي صانعة تواريخ الشعوب.

وهي التي توجّه مسيرة الأمم صعوداً أو هبوطاً.

وهي التي تقود الأمم إلى قمم والحرية، أو تنحدر بها إلى هوّة العبودية.

بلى، هات قائداً عظيماً، أعطك شعباً عظيماً.

والعكس أيضاً صحيح.

هذه هي الحقيقة إذا رغبنا في قراءة التاريخ، قديمه وحديثه، قراءة واقعية، قراءة بعيدة عن التخليط والطوباوية والغوغائية، أما ما يقال عن القيادة الجماهيرية، فما هو إلا تحريفٌ للحقائق، وتصويرٌ للتاريخ واقفاً على رأسه بدلاً من أن يكون واقفاً على قدميه؛ كما كتب ماركس ذات مرة فيما أذكر. وقد يُظن أن ما أقوله شكلٌ من رجعية التفكير، وتأليه للقائد (الزعيم)، وتهميش لقدرات الجماهير، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فالقائد هو أولاً وأخيراً ابن الجماهير، منها ينشأ، وفيها يتربّى، وبها يصبح قائداً (زعيماً)، لكنه يتميّز عن سائر أفراد الشعب بأنه يمتلك خصائص قيادية رفيعة:

-       أولها أنه يستلهم روح الأمة ماضياً وحاضراً بعمق، ويمثّلها بصدق.

-       وثانيها أنه يمتلك بصيرة نفّاذة قادرة على تحديد الخيار الصحيح كل مرة.

-  وثالثها أنه يمتاز بأعلى مستويات قوة الإرادة، وصلابة العزيمة، وبُعد الهمّة، والحزم في المواقف، وبأرفع درجات الجسارة والإقدام، إضافة إلى اتصافه بروح الإيثار والتضحية، فيكون قدوة لشعبه في جميع هذه الميزات.

-  ورابعها أنه يعيش حياة بسيطة ومتقشّفة، لا تُبهره الألقاب، ولا يسعى وراء لذائذ العيش، ولا يرضى حياة الأبّهة والترف، ويكون جادّاً في ممارسة المهامّ، عنيداً في مواجهة الصعوبات.

-  وخامسها أنه يثق بالجماهير، فلا يتعامل معها باستخفاف وازدراء، ولا يقمعها ولا يستعبدها، وإنما ينمّي فيها الشعور بالعزة والكبرياء، ويعدّ كرامة الجماهير جزءاً من كرامته، ولا يتميّز عنها لا في المظهر ولا في المأكل والمشرب، ولا في سائر طرائق العيش.

-  وسادسها أنه يأخذ بأيدي الجماهير، فيخرج بها من متاهات الشعور بالضياع، وينقذها من ظلمات الشعور بالإحباط، ويحيي فيها الأمل المشرق، ويرسم لها الهدف الأسمى، ويدلّها على الطريق القويم إلى الخلاص.

-  وسابعها أنه يرتقي بالجماهير روحياً وفكرياً وسلوكياً، ويحررها من روح التنافس الرخيص على المكاسب، كما يحرّرها من الذهنية العبودية المستكينة، ويوحّد طاقاتها، ويوظّف قدراتها بشكل مدروس وهادف في تحقيق الهدف المرسوم.

تلك هي أبرز خصائص القائد (الزعيم).

وبهذه الخصائص صنع القادة العظماء تواريخ أممهم ومستقبلها.

أهُورامَزْدا وأَهْرِمان

وقد تتمثّل النخبوية في شخص واحد، كما هو أُورنامو السومري، وسرجون الأكّادي، وحمورابي البابلي، ورعمسيس المصري، وبانيبال الآشوري، وكَي خسرو الميدي، وكورش الأخميني، والإسكندر المكدوني، وهانيبال الفينيقي، وغيرهم كثيرون. وقد تتمثّل النخبة في فئة من أبناء الأمة، تجمعهم رؤية واحدة، وتقودهم مبادئ مشتركة، ويعملون لهدف واحد، فيفرزون من بينهم القائد الذي يجسّد رؤيتهم، ويتوسّمون فيه القدرة على تحقيق آمالهم. وسواء أكانت النخبة شخصاً أم فئة، فإنها هي التي تستقطب جماهير الأمة، وترسم لهم مسار المستقبل، وتقودهم إليه، وبعبارة أخرى: إن النخبة تصنع قدر الأمة؛ تقدّماً أو انحطاطاً، وأتحدث عن القدر الآن من المنظور التاريخي الواقعي، وليس من المنظور الديني.

ولم يفتقر الكرد، طوال تاريخهم، إلى النُّخَب النقية والعبقرية والشجاعة، بل لولا تلك النُّخَب لما اجتاز الكرد بسلام موجات المحن الكبرى التي ابتُلوا بها، محن الغزوات والاحتلالات، ومحن الصهر والتذويب، وحتى محن الإبادة أيضاً، لكن المؤسف أن الكرد لم ينجوا، طوال تاريخهم أيضاً، من المصائب الكبرى التي جرّتها عليهم النُّخب الأنانية والمغفّلة والحمقاء والجبانة، إنهما خطان متوازيان أبديان، لكنهما متعاكسان لا بل متصارعان: الأول يرتقي نحو الأعالي، والآخر ينحدر نحو الهاوية، تُرى هل استشعر النبي الميدي زردشت شيئاً من هذا حينما بنى عقيدته على ثنائية الصراع الأبدي بين أَهورامَزْدا (إله النور) وأَهرِمان (إله الظلام)؟ من يدري؟! ربما!

وما زلنا بصدد الحديث عن النخب الميدية التي أصبحت أسيرة أنانيتها، وانساقت خلف أحقادها، فخانت شعبها، وجعلت مصير الأجيال في أيدي من لا يرحمونها، وعلمنا أن هارپاك (هارباجوس) كان أول من دشّن هذا الخط الأهرماني في العهد الميدي، فتآمر على  أستياجيس آخر ملوك ميديا، ونسّق خطة الثورة عليه مع الزعيم الفارسي كورش، والحقيقة أن هارپاك لم يكن الوحيد في هذا المجال، وإنما كان قد ضمّ إلى حلقة التآمر معه عدداً آخر من كبار قادة الميد، حسبما أكد في رسالته السرية إلى كورش، فقد جاء في تلك الرسالة قوله مخاطباً كورش:

" فافعل ما أنا مشير عليك به، وستكون لك مملكة أستياجيس كلها؛ هيّئ الفرس للثورة، وامض لملاقاة الميديين، ولا يضيرنّك إن كنت أنا أو أحد المقدََّمين منهم على رأس الجيش الذي سيرسله الملك لملاقاتك، فالفوز لك في كل الأحوال، لأن أشرف الميديين سيكونون أول من يهجرونه للانضمام إليك في جهدك للإطاحة به، ونحن جميعاً جاهزون للعمل، فافعل ما أنصحك به، وبادر العمل سريعاً ". (تاريخ هيرودوت، ص 90 – 91).

ويبدو أن مازاريس كان من القادة الذين تآمروا على أستياجيس أو تخلّوا عنه.

فمن هو؟ وما هي الجهود التي بذلها في خدمة الدولة الأخمينية؟

طنابير.. وأقلام

الحقيقة أننا لا نعرف شيئاً عن مازاريس في مرحلة التآمر التي قادها هارپاك ضد أستياجيس، فقد سبق القول بأن تاريخ ميديا ملوكاً وشعباً تعرّض للتغييب المنهجي على نحو غريب، ولا ريب في أن الفرس- أخمينيين كانوا أم أشگانيين أم ساسانيين- هم وراء ذلك التغييب؛ لأنهم كانوا أكثر المستفيدين منه والأرجح أن مازاريس كان أكبر من هارپاك سنّاً، وكان أرفع منه مقاماً في المناصب العسكرية القيادية في الجيش الأخميني، والدليل على ذلك أنه توفي قبل هارپاك بسنين طويلة، وأن هارپاك تولّى قيادة الجيش الفارسي في آسيا الصغرى بعد وفاته.

بلى، لا شيء عن مازاريس قبل الهجوم الذي شنّه كورش على مملكة ليديا في أقصى غربي آسيا الصغرى، وقبل أن يقتحم سارديس عاصمة ليديا سنة (547 ق.م)، ويأسر الملك الليدي كرويسوس (قارون)، ومصدرنا الرئيسي بل الوحيد في هذا المجال هو تاريخ هيرودوت، فالنسبة إلى هارپاك أطال هيرودوت الحديث عن دوره القيادي في إسقاط الحكم الميدي، أما مازاريس فلم يذكره إلا خلال الأحداث التي تلت سقوط الدولة الميدية وقيام الدولة الأخمينية، ولا سيما بعد نشوب ثورة ليدية كبرى ضد السلطات الفارسية المحتلة في ليديا.

 وكان قائد تلك الثورة زعيم ليدي كبير يسمى (باكتياس)، فما إن رحل كورش بجيشه عن ليديا ومعه كرويسوس حتى شرع باكتياس يحرّض الليديين على الثورة، ووظّف ما لديه من الذهب في تجنيد المقاتلين، وسيطر على ساحل آسيا الصغرى المطل على بحر إيجه، وأقنع السكان بتأييده، ثم زحف على العاصمة الليدية سارديس، وحررها، وأحكم الحصار على الحاكم الفارسي تبالوس الذي تحصّن مع قواته في القلعة، ووصلت أنباء الثورة إلى كورش وهو في طريق العودة إلى إكباتانا، فاستبدّ به الغضب، والتفت إلى الملك الليدي شبه الأسير كرويسوس، وقال له:

" لست أرى إلا أن هؤلاء الليديين مصدر للمتاعب لي، ولسوف يجرّون الوبال على أنفسهم أيضاً، وفي اعتقادي أن أفضل ما يمكن عمله بشأنهم هو أن أجعلهم أرقّاء، وأبيعهم في سوق النخاسة، ... " (تاريخ هيرودوت، ص 103).

إن القائد الأصيل يظل مخلصاً لشعبه حتى في أحلك المواقف.

وهكذا كان كرويسوس، ويبدو من سيرة هذا الرجل- سواء في عهد كورش أم في عهد ابنه قمبيز- أنه كان ملكاً فَطناً حكيماً، يمتاز ببصيرة نفّاذة، ويقرأ الحاضر والمستقبل قراءة واقعية واعية، وكان يعلم أن شعوب آسيا الصغرى المتفرقة الانتماءات والمصالح غير قادرة على مواجهة قوة إمبراطورية كاسحة، فخشي على سارديس رمز ليديا من الدمار، وخشي على الليديين من أن يصبحوا عبيداً يباعون في أسواق النخاسة، ويتبعثرون في أنحاء العالم، فينقرضون بعد عدة أجيال بشكل كامل، وتلك أكثر الكوارث هولاً في تاريخ الشعوب.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى كان كرويسوس يفهم بدقة ذهنية كورش الإمبراطورية، ويدرك ماذا يرضي تلك الذهنية وماذا يغضبها، وماذا يناسبها وماذا لا يناسبها، فأشار على كورش بألا يعاقب شعب ليديا جميعه، وأن من الحكمة أن يعاقب باكتياس وحده، باعتبار أنه هو الذي دبّر أمر الثورة، وقاد الثوار ضد السلطات الفارسية، وقدّم لكورش حلاً بديلاً، كان يعلم أنه سيلقى القبول منه، إنه قال لكورش:

" فالرأي عندي أن تحظر عليهم حمل السلاح، وليرتدوا من الآن فصاعداً الإزارات تحت عباءاتهم، ولينتعلوا النعال العالية، ومروهم بأن يعلّموا أبناءهم العزف على القيثار، فإذا ما انتهجتم هذا النهج، يا مولاي، وجدتم أن هؤلاء الرجال سرعان ما غدوا نساء، وما عدتم تخشون من أمرهم شيئاً ". (تاريخ هيرودوت، ص 103 - 104).

وكان كورش معروفاً بفطنته ودهائه، وهو بحسب قول ديورانت: " من الحكّام الذين خُلقوا ليكونوا حكّاماً" (قصة الحضارة، 2/403)، وقد أدرك أن الرأي الذي قدّمه كرويسوس هو الأنسب والأقل ضرراً، فالحكم على شعب بأكمله بالعبودية قد يشجّعه على الثورة والدفاع عن النفس بضراوة، بل إن ذلك الحكم الجائر قد يشجّع سكان المدن الإغريقية المجاورة لليديا في آسيا الصغرى، وفي أرخبيل إيجه، وفي بلاد اليونان، على توحيد الصفوف، والتصدي معاً للسلطات الفارسية المحتلة.

وكان كورش صاحب ذهنية إمبراطورية ذكية حقاً، إنه كان يعرف، مثل جميع أصحاب هذه الذهنيات عبر التاريخ، أن أمةً يكون حملةُ الطنابير من أبنائها أكثر من حملة الأقلام والسيوف، وأمة ينصرف أبناؤها إلى حياة الترف وإلى اللهو والعبث، لهي أمة ضلّت طريقها إلى الحرية والكرامة، وحكمت على نفسها بالضعف والتبعية والعبودية، وهذا ما قرر كورش أن يفعله بشعب ليديا؛ إذ هذا هو المطلوب بالنسبة إلى أي حاكم ذي نزعة إمبراطورية.

 وأبدى كورش سروره بنصيحة كرويسوس، واطمأن إلى أنها نصيحة سياسي حكيم، فقرر العمل بها، وكان من الضروري أن يقوم شخص ما من أتباعه بتحويل خطته من النظرية إلى التطبيق، فاختار مازاريس الميدي، من بين سائر القواد، للقيام بهذه المهمة الدقيقة، قال هيرودوت:

" بعث في طلب مازاريس الميدي، وطلب إليه أن يعلن لليديين مرسومه وفق النقاط التي تضمّنتها مشورة كرويسوس، ويتولّى بعدئذ بيع كل من كان له ضلع في هجوم الليديين على سارديس، وأوعز بالإبقاء على حياة باكتياس مهما كانت الظروف، على أن يحضر للمثول أمامه ".(تاريخ هيرودوت، ص 104).

وتابع كورش مسيره نحو أرض فارس.

ويُفهم من هذا الخبر أحد أمرين:

-       إما أن مازاريس كان مكلفاً ببعض المهام في إكباتانا فأرسل كورش في طلبه، وكلّفه بالمهمة.

-       وإما أنه كان مع كورش في الجيش العائد من ليديا إلى إكباتانا، وهذا هو الأرجح.

وعلى الحالين هذا دليل على ثقة كورش بقدرات مازاريس القيادية والعسكرية من ناحية، فقد كان الليديون شعباً مقاتلاً، لا تسهل السيطرة عليهم. كما أنه دليل على ثقة كورش بإخلاص مازاريس له، فليديا كانت تقع في أقصى غربي آسيا، أي في أقصى غربي الإمبراطورية الفارسية حينذاك، وكانت الموانئ التجارية التي تربط الإمبراطورية بالبلقان وبلاد اليونان، عبر بحر إيجه تقع في ليديا والبلاد المجاورة لها؛ تلك البلاد التي ما كان للفرس أن يسيطروا عليها إلا بالسيطرة على ليديا أولاً، هذا عدا أن ليديا كانت قريبة من بلاد اليونان العدو الأوربي الرئيسي للفرس حينذاك.

فكيف نفّذ مازاريس المهمات الموكولة إليه؟

المطاردة!

تصدّى مازاريس للمهمة بكفاءة تامة، وكان من الطبيعي أن يزحف بجيشه نحو العاصمة الليدية سارديس، ليستردها من باكتياس، وليفك الحصار عن الحاكم الفارسي وجنده في القلعة، قال هيرودوت يصف الأمر:

" ولما علم باكتياس أن جيشاً غدا يطارده، وبات على مشارف موقعه، انتابه الهلع، فهرب إلى سايمه Cyme [مدينة على ساحل بحر إيجه]، بينما كان مازاريس يتابع الزحف على سارديس مع فوج من جنود قورش ". (تاريخ هيرودوت، ص 105).

 تلك كانت هي المرحلة الأولى في خطة مازاريس.

وماذا كانت المرحلة الثانية؟

كان على مازاريس، بعد السيطرة على سارديس، أن يبدأ في تنفيذ المخطط الإمبراطوري الذي طابت به نفس كورش، أقصد قتل إرادة الحرية في نفس الليديين، وتجريدهم من روح الفروسية، وإلهائهم بالغناء واللهو، وهذا ما كان على مازاريس الميدي أن يفعله تلبية لإرادة سيده الفارسي، قال هيرودوت:

" وحين وجد [مازاريس] أن باكتياس ومناصريه قد غادروا كان أول ما فعله أن فرض على الليديين ما رسمه لهم قورش، وكان ذلك بداية تحول في حياة الليديين كلهم ". (تاريخ هيرودوت، ص 105).

ووصل مازاريس إلى المرحلة الثالثة في الخطة، ألا وهي القضاء على قائد الثورة، والعقل المدبّر لها، وكان باكتياس هو القائد وهو العقل المدبّر، وكان على مازاريس أن يلقي القبض عليه حسب أوامر كورش، ويرسله إلى البلاط الملكي؛ وكان باكتياس قد لجأ إلى جزيرة سايمه، قال هيرودوت: " وبعث [مازاريس] بعد ذلك بكتاب إلى سايمه يطالب أهلها بتسليم باكتياس" (تاريخ هيرودوت، ص 105)، ولا ريب في أن رسالة مازاريس كانت رسالة تهديد ووعيد شديدة اللهجة كما يقال في العُرف السياسي المعاصر، ولا ريب في أن مازاريس أنذر السايميين في رسالته باجتياح مدينتهم ما لم يبادروا فوراً إلى القبض على باكتياس وتسليمه.

وكان على قادة سايمه، والحال هذه، أن يتخذوا القرار المناسب، ويجدوا حلاً لهذه المشكلة، فهم بين أمرين أحلاهما مُرّ كما يقول المثل: إما أن يتعاطفوا مع باكتياس، ويأخذون بنهجه الثوري، ويرفضوا تسليمه، ويعرّضوا أنفسهم لخطر الانتقام الفارسي المرعب. وإما أن يخرجوا على التقاليد المرعيّة، ويفضّلوا السلامة، ويسلّموا باكتياس لمازاريس. ويبدو أن قادة المدينة انقسموا إلى فريقين متكافئين: فريق مع تسليم باكتياس وإيثار السلامة، وفريق مع عدم تسليم باكتياس، وتحمّل النتائج؛ والدليل على التكافؤ بين الفريقين هو اتفاقهم على الاحتكام إلى كهنة الآلهة (رجال الدين) لحسم ذلك الخلاف، وكانت تلك هي العادة قديماً، وما زالت هذه العادة قائمة عند بعض الشعوب إلى يومنا هذا.

احتكام إلى الآلهة

قال هيرودوت:

" فقرّ رأي الناس هناك على استشارة الكهنة في معبد برانشيداي فيما تشير به الآلهة عليهم، إن كان أن يقاوموا أو يستسلموا، وكان معبد برانشيداي يقع في منطقة ملطية [هكذا ترجمها المعرّب، والأرجح أنها مدينة مليتوس Miletus الواقعة على ساحل بحر إيجه، وليس مدينة ملطية المعروفة حالياً]، بالقرب من مرفأ بانورموس، وهو معبد قديم كثيراً ما كان يلجأ إليه الأيونيون والأيوليون" (تاريخ هيرودوت، ص 105).

وحسم عرّاف المعبد الأمر لصالح الفريق الداعي إلى تسليم باكتياس للفرس، لكن الفريق الآخر من أهل سايمه رأى من العار أن يتخلّوا عن باكتياس ويسلّموه للفرس، وبعد خلاف شديد بين الفريقين حول الموضوع اهتدوا إلى حل وسط؛ ألا وهو ترحيل باكتياس إلى ميتلانه Mytilene الواقعة على ساحل بحر إيجه شمالي مدينة سايمه. (تاريخ هيرودوت، ص 105).

ولم يترك مازاريس باكتياس ينجو بجلده، وإنما ظل يطارده، وإلى جانب سلاح الترهيب لجأ مازاريس إلى سلاح الترغيب، فأطمع أهل ميتلانه بمبلغ مغرٍ من المال لقاء قيامهم بتسليم باكتياس إليه. ويبدو أن قادة ميتلانه رضوا بذلك، فقبضُ مبلغ مناسب من المال، حسبما بدا لهم، كان أفضل من تعريض مدينتهم لخطر التدمير، وكانوا يعلمون أنهم غير قادرين على التصدي للجيش الفارسي، وأحس باكتياس بالخطر يتهدده، فانتقل إلى مدينة أخرى تسمى خيوس، ولجأ إلى معبد الإلهة أثينا، قال هيرودوت:

" وفي خيوس جرّ أهلها باكتياس من معبد الإلهة أثينا الحارسة جراً، وسلّموه إلى الفرس، وكان ثمن تسليمه منحهم مقاطعة اتارنيوس وهي قطعة أرض تقع على اليابسة مقابل ليسبوس، وهكذا كان أمر وقوع باكتياس في قبضة الفرس، واحتجازه ليصار إلى ترحيله للمثول بين يدي قورش" (تاريخ هيرودوت، ص 106).

وبعد أن ألقى مازاريس القبض على باكتياس قرر الانتقام من جميع الإغريق والليديين الذين ساروا تحت لواء الثورة، فشنّ حملة عسكرية لملاحقة ومعاقبة كل من كانت له مشاركة في حصار الحاكم الفارسي تبالوس في قلعة سارديس، وكان قاسياً في التعامل معهم، كما كانت هي العادة في السياسة الفارسية القمعية الاحتلالية، قال هيرودوت في ذلك:

" وكان أن باع سكان بييرنه في أسواق النخاسة، واجتاح بعدئذ منطقة ماجنيسيا (مغنيسيا)، وسهل مياندر، وعمل فيها نهباً وسلباً "(تاريخ هيرودوت، ص 106).  

وبينما كان مازاريس يقوم بحملته تلك لإرضاء سادته الفرس أصيب بالمرض، ثم توفي، والأرجح أن وفاته كانت سنة ( 546 ق.م).

المراجع

1.    هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

2.    ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، 1968م.

وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 1 – 12 -  2007

dralkhalil@hotmail.com

 

=====================

مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة السادسة والأربعون )

 هارپاگ الميدي والعبقرية العسكرية

(توفي حوالي عام 515 ق.م)

 

 

نصيحة كيميائي

أن تنفتح على العالم من غير أن تفقد مقوّمات شخصيتك وهويتك.

وأن تتمسك بمقوّمات شخصيتك وهويتك من غير نرجسية فردية أو قومية.

تلك هي المعادلة الدقيقة والصعبة والخطيرة في مسيرة الأفراد والشعوب.

وتحقيق هذه المعادلة بحاجة إلى قدر كبير من الوعي بـ (الذات) والوعي بـ (الآخر)، وإلى القدرة على تحديد وتشخيص طبيعة العلاقة بين (الذات) و(الآخر)، كما أن الأمر، في هذا المجال، بحاجة إلى تطبيق الحكمة التي نصح بها كيميائي قديم أحد طلبته، قائلاً له:"خذ كما ينبغي، وامزج كما ينبغي، تحصلْ على ما تريد".

بلى، إن المسألة هي أن تكون قادراً على التصرف (كما ينبغي) في كل الأحوال، ويبدو لي، في حدود قراءاتي إلى الآن، أن كثيراً من رجالات الكرد طوال تاريخهم القديم والحديث، كانوا عاجزين عن التصرف وفق حكمة (كما ينبغي) هذه، بل يصحّ في كثيرين منهم قول الشاعر العربي القديم، واصفاً أحد أقاربه، قائلاً:

وفي الناس مَن يَغْشى الأباعدَ خيرُهُ   

ويَشقى به حتى الممــاتِ أقاربُهْ

ولم أجد في تواريخ شعوب غربي آسيا، قديماً وحديثاً، شعباً خدم أبناؤه مصالح الشعوب الأخرى بإخلاص منقطع النظير كما فعل أبناء الشعب الكردي، ولم أجد أناساً ضرّوا شعوبهم، وهم يقدّمون تلك الخدمات، كما فعل بعض أبناء الكرد، وهذه ظاهرة جديرة بالدرس والتحليل، وليس الآن مجال ذلك. وأتناول في هذه الحلقة أحد أولئك المشاهير الكرد الذين سيطرت عليهم الأنانية الشخصية، وقّدّموا مصالحهم على مصلحة الجماعة، فعقّوا شعبهم، وقدّموا الخدمات الجليلة لمن تسلّطوا على رقاب أمتهم، إنه الزعيم الميدي هارپاگ.

فماذا عن تلك الخدمات؟

وفي أي مجال كانت؟

ولمن تبرّع بها؟

خارطة غربي آسيا سياسياً

هارپاگ Harpage الميدي ليس جديداً على قارئ هذه الحلقات، فقد مر في حلقة (أستياج الميدي) أن هيرودوت أورد اسمه بصيغة (هارپاجوس) ، ورجّحنا حينذاك أن يكون اسمه في الأصل آر پاك Ar pak ، فتبادل المواقع بين حرفي (الهمزة) و(الهاء) أمر معروف في مسيرة ترجمة الأسماء والمصطلحات من لغة إلى أخرى، و(آر پاك) يعني (النار الطاهرة)، أو (الناري المبارك)، وعلمنا أيضاً أن هارپاگ لم يكن مباركاً على شعبه الميدي أبداً، بل إنه انساق وراء أحقاده وحساباته الشخصية الأنانية، فتآمر مع كورش الأخميني على الملك الميدي الأخير أستياج (أستياجس)، وجرّ إلى صف التآمر والخيانة بعض كبار قادة ميديا، وكانت النتيجة الطبيعية أن أستياج خسر الحرب ضد حفيده وخصمه كورش Kursh، ووقع أسيراً في قبضته، ودخل كورش العاصمة الميدية أكباتانا دخول الفاتحين، وقضى على الدولة الميدية قضاء مبرماً، وأسس على أنقاضها الدولة الأخمينية الفارسية، ولست مبالغاً إذا قلت: إن الكرد دفعوا طوال تاريخهم ثمناً مُرّاً نتيجة ذلك التآمر، وما زالوا يدفعون الثمن.

ولم يكن هارپاگ شخصية عادية، إنه كان قائداً ميدياً كبيراً، وكان يتصف بالذكاء والدهاء، وإلا كيف كان له أن يحبك مؤامرة معقدة، ويُسقط إمبراطورية بكاملها؟ وكان من الطبيعي أن يكافئ كورش حليفه الميدي هارپاگ على خدماته التي لا تُقدَّر بثمن، وأن يستمر في استثمار مواهبه القيادية وقدراته العسكرية إلى أقصى درجة ممكنة، وينعم عليه لقاء ذلك بالمناصب والأموال، ويوظّف جهوده وجهود سائر رجالات ميديا في ترسيخ سلطته، وتوسيع حدود إمبراطوريته، واحتلال أراضي الشعوب الأخرى، ونهب الثروات واستعباد السكان.

وقبل البحث في خدمات هارپاگ العسكرية لكورش الأخميني دعونا نلق نظرة على الوضع الإقليمي في غربي آسيا إبّان سقوط الدولة الميدية ونشأة الدولة الأخمينية. فقبيل سقوط الدولة الميدية كانت ثمة أربع قوى إقليمية بارزة في غربي آسيا وفي الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا، هي:

1-  الدولة الميدية: كانت تحكم من أفغانستان شرقاً إلى الساحل الشمالي الشرقي من البحر المتوسط (سمي بعدئذ خليج الإسكندرونة)، مروراً بإيران الحالية وكردستان جميعها، وكيليكيا، أما حدودها الغربية  فكانت تقف عند الضفة الشرقية لنهر هاليس (قيزيل إرماق) في منطقة الأناضول الوسطى.

2-  الدولة البابلية: كانت تحكم المنطقة الممتدة من الخليج العربي شرقاً إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط غرباً، وتضم العراق (ما عدا المناطق الواقعة شرقي نهر دجلة بما فيها إقليم كردستان)، وسوريا الكبرى (سوريا، الأردن، لبنان، فلسطين).

3-  الدولة الليدية: كانت تبسط نفوذها على المنطقة الغربية من آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، وكانت حدودها تمتد من الضفة الغربية لنهر هاليس شرقاً إلى شواطئ بحر إيجا ومضيق الدردنيل والبوسفور غرباً. وكان الليديون شعباً غير آري، ويتكلم لغة غير آرية، وقد استقر منذ القديم في غربي آسيا الصغرى، وكانت عاصمتهم سارديس، وقد تعرّضت ليديا لغزو الكّمريين الآريين الرحّل في عصر الملك الليدي جيجيس، فردّهم جيجيس وابنه وحفيده بالجهد والمشقة. وإلى إلياتس (إلياتتيس) حفيد جيجيس يرجع الفضل في جعل ليديا قوة يعتدّ بها، وقد ظل في الملك سبع سنين، واشتهر بأنه كان أغنى ملوك آسيا، وخلفه على السلطة ابنه كرُويسوس Croesus (قارون)، فازدادت ليديا ثراء وقوة في عهده، وكانت ليديا تمتاز بموقع تجاري هام، إذ كانت صلة الوصل بين الغرب الأوربي والشرق بشكل عام، وقد اشتهرت بأنها أولى أقطار العالم في إنتاج النقود المسكوكة، وفي إعداد الخانات (الفنادق) للمسافرين والتجار. [هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية 2/345- 347].

4-  الدولة المصرية: موقعها في الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا، وصحيح أن مصر تعدّ من الدول الإفريقية جغرافياً، لكن، بحكم موقعها المتاخم لقارة آسيا، كان حكامها مهتمين بالعلاقات السياسية والعسكرية مع دول غربي آسيا في جميع العهود، وكانت مصر تغزو مناطق غربي آسيا، ولا سيما سوريا الكبرى، وأحياناً آسيا الصغرى، حينما كانت تقوى، كما كانت تتعرض للغزو من ملوك غربي آسيا عندما كانت تضعف، ومثال ذلك: (احتلال مصر لسوريا الكبرى وآسيا الصغرى في عهد رمسيس الثاني، والغزو الآشوري لمصر، والغزو الفارسي لمصر)، وكانت مصر تعقد تحالفات سياسية مع هذه وتلك من الدول في معظم الأحيان، ومنها (التحالف المصري الميتاني ضد الحثيين).

توازنات إقليمية

مر بنا في حلقات سابقة أن الملك الميدي كَيْ خُسرو kai-Khosru (كي أخسار Cyaxares = اكزركيس= اكسركيس = سياشاريس) تحالف مع  الملك البابلي نبوبولاصّر، وتوطّد الحلف بزواج نبوخذ نصّر (بختنصّر) بن نبوبولاصّر من ابنة الملك الميدي وبنى لها الحدائق المعلقة (لعلها سميراميس)، وقضى الحليفان على عدوتهما الدولة الآشورية سنة (612 ق.م)، وتقاسما أملاكها، فكان النصف الشمالي والشرقي للميديين، والنصف الجنوبي والغربي للبابليين. وكانت الدولة الآشورية نفسها قد تحالفت حينذاك مع العدو المشترك لكل من الميديين والبابليين؛ أقصد الغزاة السكيث Scythians.

والسكيث (الإسكيذيون= الأشقوذيون) شعب بدوي محارب شرس، شديد المراس، كثير العدد، كان يمتهن الغزو مثل بقية الشعوب البدوية عبر التاريخ، وكانت مواطنه الشاسعة تقع في شمالي البحر الأسود، وتمتد بين نهر الدانوب غرباً ونهر الدُّون شرقاً، وقد خاض السكيث حرباً ضروساَ ضد شعب آري آخر اسمه السِمِّريون Cimmerians (الكِمِّريون)، ولما خسر السمّريون الحرب ضد السكيث فرّوا باتجاه الجنوب والشرق، وعبروا مضيق البوسفور، واتجهوا شرقاً داخل آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، ووصلوا إلى شمالي الأناضول، واستقروا حول ضفاف نهر هاليس (قيزيل إرماق) الواقع في وسط وشمالي تركيا حالياً، فطاردهم السكيث للقضاء عليهم.

ويبدو أن مكاسب الغزو طابت للغزاة السكيث، فبلادهم سهوب شديدة البرودة، قليلة الخيرات، بعيدة عن طرق المواصلات التجارية العالمية الفاعلة، وها قد وجدوا أنفسهم في بلاد أكثر دفئاً، وأوفر ثراء، وتقع على حافات أهم طريقين تجاريين عالميين حينذاك كانا يربطان أوربا بآسيا، هما: طريق الحرير، وطريق البخور، فتوغّلوا بغزواتهم شرقاً، وهاجموا أرمينيا، ثم انحدروا جنوباً، ووصلوا إلى شرقي كردستان، ودخلوا في صراع مرير ضد الميديين.

وكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يتحالف السكيث مع الآشوريين، حتى إن أميرات آشوريات، من بينهن ابنة الملك الآشوري آسَرْحدون، تزوّجن من بعض رؤساء السكيث، ومر بنا سابقاً أنه حوالي سنة (632 ق.م) هاجم الميديون بقيادة كَيْ خُسرو دولة آشور، ونازلوا العاصمة نينوى، لكن السكيث استغلوا انشغال القائد الميدي بالحرب ضد آشور، فهاجموا ميديا من الخلف، ونشروا الدمار حيثما حلّوا، فاضطر الميديون إلى فك الحصار عن نينوى، والعودة بسرعة إلى ميديا، لرد الغزو السكيثي، وكان من مصلحة الآشوريين أن يثيروا الخلافات بين الشعوب الآرية المجاورة لهم، يقول هـ.ج. ولز: " فإن ملوك دولة آشور يوقعون الشحناء طرفاً من الزمان بين مختلف هذه الشعوب ذوات القربى، ويُغرون الكمّريين والميديين والفرس والإسكيذيين بعضهم ببعض". [هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 2/351].

وجملة القول أنه كان في غربي آسيا حينذاك قوتان كبيرتان متخاصمتان:

1 -  الإمبراطورية الآشورية المهيمنة، ومعها مصر باعتبار أن الآشوريين كانوا قد غزوها سنة (674 ق.م)، وأخضعوها لسلطانهم. ومعها أيضاً الغزاة السكيث، وليديا، باعتبار أن الملك الليدي جيجيس مؤسس أسرة مرمناداي، كان قد تحالف مع الملك الآشوري آشور بانيبال سنة (670 – 652 ق.م). [ديورانت: قصة الحضارة، 2/184. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، 1/85].

2 – الدولة الميدية الناهضة: ومعها عيلام وفارس باعتبارهما كانتا تابعتين لها، ومعها بابل باعتبارها حليفة لها، ومتضررة من التسلّط الآشوري مثل ميديا.

ولما انتصر الحلف الميدي البابلي على الإمبراطورية الآشورية سنة (612 ق.م)، وسقطت الدولة الآشورية سقوطاً نهائياً، اختل التوازن الإقليمي في غربي آسيا، وضاق الخناق على الغزاة السكيث تحت وطأة الدولة الميدية الناشئة، وكانوا ينتهزون الفرص للانقلاب على الميديين ثانية، فهاجمهم كَيْ خُسرو، وأنزل بهم الهزيمة، ففروا غرباً، ولجأوا إلى مملكة ليديا المجاورة لمملكة ميديا.

وطلب الملك الميدي كَيْ خُسرو من الملك الليدي إلياتس (إلياتتيس) تسليمه السكيث الفارين، لكن الملك الليدي رفض ذلك، وكان موقفه ذلك طبيعياً؛ إذ كيف يسلّم حلفاءه السابقين لدولة ناشئة قوية يمكنها أن تهدد حدودها الشرقية؟ وعلمنا سابقاً أن الحرب اندلعت بين ميديا وليديا، واستمرت ست سنوات، ثم تدخّل الملك البابلي نبوبولاصّر بين الفريقين، وأصلح ذات البين، وتعزّزت اتفاقية السلام بين مملكتي ميديا وليديا بزواج أستياجس بن كَيْ خُسرو من ابنة الملك الليدي إلياتس حوالي سنة (597 ق.م)،. وبعد أن تحالفت الدول الكبرى الثلاث في غربي آسيا (بابل، ميديا، ليديا) ساد السلام في المنطقة، ونشطت الحركة التجارية بين الممالك الثلاث، ولا سيما أنها كانت تقع متجاورة في أكثر مناطق غربي آسيا أهمية من حيث حركة التجارة العالمية آنذاك، ونعمت شعوب تلك الممالك بالأمن والاستقرار، وشاع بينها الثراء والازدهار. [تاريخ هيرودوت، ص63- 64].

عبقرية هارپاك الحربية

لكن مع وقوع الملك الميدي أستياج، زوج أخت كرُويْسوس ملك ليديا، أسيراً في يدي كورش الأخميني، وسقوط الدولة الميدية، وحلول الدولة الفارسية محلها، اختل التوازن الإقليمي في غربي آسيا، فدبّ الخوف في نفس كرويسوس من القوة الفارسية الناهضة، وكانت ليديا قد وصلت إلى قمة مجدها في عهده، " وأخذ يعمل بكل ما أوتي من وسيلة على تقويض قوة الفرس وهي ما تزال في طور النمو، وقبل أن تبلغ غاية العظمة "، فعقد تحالفاًَ دفاعياً مع اللاكيديمونيين Lacedemonians الإغريق  ومع المصريين، واجتاز نهر هاليس (قيزيل إرماق) الفاصل بين ميديا وليديا، وهاجم ممتلكات الإمبراطورية الفارسية، والتقى جيشا كورش وكرويسوس في منطقة تدعى (بتريا أو بتيريا)، قال هيرودوت: " وكان القتال ضارياً، سالت الدماء غزيرة، وسقط من القتلى العدد الكبير، وما زالت رحى الحرب دائرة حتى حلّ الليل، وليس هناك منتصر".[ تاريخ هيرودوت، ص 65.  وانظر هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، 2/352، 253، 353. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، 1/86].

وأرجع كرويسوس فشله إلى قلّة عدد جنوده، وفي اليوم الثاني لم يعاود كورش الهجوم، فعاد كرويسوس ببقية جنوده إلى العاصمة سارديس في غربي البلاد، بغرض حشد الحلفاء، ولا سيما حلفاءه المصريين بحسب اتفاقية كان قد عقدها مع الملك المصري أمازيس، كما اتصل بالبابليين وملكهم نبونيد (نبونئيد)، واتصل بالأسبارطيين في بلاد اليونان، وفي الوقت نفسه سرّح جيشه، وكان معظمه من المرتزقة، وكان قد قرر أن يحشد جيشه وقوات حلفائه في فصل الربيع، ويستأنف القتال ضد الفرس، "دون أن يراود خياله أنه يمكن لكورش أن يغامر بالمسير إلى سارديس، بعد معركة استحال عليه النصر فيها" [تاريخ هيرودوت، ص 66].

لكن كورش كان على علم بخطط كرويسوس، وكان قد قرر القضاء على مملكة ليديا حليفة ميديا، والسيطرة على آسيا الصغرى، والوصول إلى سواحل بحر إيجا، وبذلك يكون قد سيطر على جميع الطرق التجارية في غربي آسيا، وبات على تواصل مباشر مع القارة الأوربية، فأسرع إلى مهاجمة العاصمة سارديس قبل أن يحشد كرويسوس حلفاءه، قال هيرودوت:" ومضى مستعجلاً في سبيله، حتى كان أول المعلنين لملك ليديا عن حضوره". [تاريخ هيرودوت، ص 67].

وفوجئ كرويسوس بالهجوم الفارسي، ومع ذلك استنفر قواته، وخاض القتال ضد كورش، وكان الليديون معروفين بالبسالة والبأس والاندفاع إلى القتال، والتقى الجيشان في سهل قرب سارديس، ولما رأى كورش الليديين ينظمون صفوفهم، لخوض المعركة في ذلك السهل، راعه مشهد فرسان ليديا، ولا ريب في أن المعركة السابقة بين الفريقين أكدت له أن تحقيق النصر على هؤلاء الفرسان ليس بالأمر السهل، والحقيقة أن أهمية سلاح الفرسان في الجيوش القديمة كانت تماثل أهمية سلاح الدبابات في العصر الحديث، وكان سلاح الفرسان هو الذي يرجّح كفّة هذا الطرف أو ذاك على أرض المعركة، وهو الذي يحقق النصر معظم الأحيان، وهل كان من الممكن للآشوريين، ذلك الشعب القليل العدد، أن يؤسس إمبراطورية ضخمة لولا ما كان يمتاز به سلاح الفرسان في جيشه من القوة وسرعة الحركة؟ وهل كان الملك الميدي كَيْ خُسرو يستطيع أن يلحق الهزيمة بالجيش الآشوري لولا أنه طوّر سلاح الفرسان الميدي، مستفيداً من أعدائه الغزاة السكيث في هذا المجال؟

 وأخذ كورش يمعن الفكر فيما ينبغي عليه عمله ليتغلّب على الخصم الليدي، ويبطل فعالية الفرسان الليديين في أرض المعركة، وكان من عادته أن يعقد اجتماعاً خاصاً لكبار قادة جيشه، ويستمع إلى آرائهم في الأمور الحربية الشائكة، وقد وجد الحل في الخطة الحربية التي اقترحها هارپاگ الميدي، إذ اقترح أن يعمد كورش إلى حشد ما في جيشه من الجمال التي كانت تحمل المؤن والعتاد، فيأمر بإراحتها، ثم يجعل على ظهورها جماعة من جنوده كالفرسان، ويدفع بهم إلى المقدمة في مواجهة الفرسان الليديين، ويضع المشاة من وراء راكبي الجمال، ويكون الفرسان على ظهور الخيل من وراء المشاة، يقول هيرودوت: " أما السبب في أن كورش جعل الجمال مقابل جياد الليديين فهو نفور الحصان من منظر الجمل ورائحته، فيتمكّن باستغلال هذا النزوع أن يبعد الخيالة عن المعركة، وتكون له الغلبة " [تاريخ هيرودوت، ص 67].

 وحققت خطة هارپاگ أهدافها كاملة، فحينما بدأت المعركة أحجمت خيول الليديين عن التقدم وهي ترى منظر الجمال الغريب عليها، وتنفر من رائحتها غير المألوفة عندها، وهكذا تعطل سلاح الفرسان الليدي، وكان يشكّل القوة الضاربة في الجيش الليدي، وصار عاجزاً عن مواجهة الجيش الفارسي، فترجل الفرسان الليديون، وخاضوا القتال مع الفرس على الأرض، في حين كان سلاح الفرسان الميدي ما يزال محتفظاً بكافة قدراته، فزجّ به كورش في المعركة، وكان من الطبيعي أن يخسر الليديون المعركة، إذ كيف يمكن لجيش من المشاة فقط أن يردّ هجوم الفرسان الكاسح؟ واستدار الجنود الليديون على أعقابهم هاربين من أرض المعركة، ومتحصنين بأسوار العاصمة المحصّنة سارديس، وبعد حصار دام أربعة عشر يوماً سقطت سارديس في أيدي الفرس، ووقع كرويسوس أسيراً بين يدي كورش، وكان ذلك سنة (547 ق.م). وأصبح كورش سيد غربي آسيا جميعها بلا منازع. [تاريخ هيرودوت، ص، 68].

معارك هارپاك الأخرى

ويبدو من سير الأحداث أن كورش كان معجباً بعبقرية هارپاگ العسكرية، وكان شديد الثقة بإخلاصه له وللدولة الأخمينية، والدليل على ذلك أنه أسند إليه، بعد فتح سارديس، مهمات حربية تماثل المهمات التي كان يقوم بها هو نفسه، فبعد أن فتح كورش العاصمة الليدية سارديس، قرر استئناف فتوحاته في الشرق الأدنى (غربي تركيا حالياً) والوصول إلى سواحل بحر إيجا جنوباً، وإلى سواحل البحر الأسود ومضيق البوسفور شمالاً، فأسند مهمة اجتياح الأجزاء الجنوبية من الشرق الأدنى إلى هارپاگ، وقام هو بإخضاع الأقاليم العليا (الشمالية). [تاريخ هيرودوت، ص، 113 – 114].

وقد قام هارپاگ بالمهام الموكولة أفضل قيام، وكانت أولى تلك المهام أنه حلّ محلّ قائد ميدي آخر توفّي يسمى (مازاريس الميدي)، في استكمال فتح جنوبي آسيا الصغرى (تركيا حالياً)، " وكان أول ما قام به بعد تولّي قيادة الجيش أن زحف إلى أيونيا، وشرع في الاستيلاء على مدنها، وسيلته في ذلك محاصرة المدافعين داخل الأسوار، ثم بناء تلال من التراب ليعتليها الجنود، وبذلك يتمكّنون من المدينة ". [تاريخ هيرودوت، ص، 10].  

ثم زحف هارپاگ بجيشه إلى مدينة فوكاي الإغريقية، وكانت أسوارها في الغاية من القوة والمنعة، كتب هيرودوت: " وبدأ هذا القائد في حصار المدينة، معلناً أنه يرضى من أهلها تهديم برج واحد وجزء من تحصيناتهم ليفكّ عنهم حصاره، فما كان منهم عندئذ، وهم على كراهيتهم أن يصبحوا أرقّاء، إلا أن طلبوا منه إمهالهم يوماً ليتدارسوا هذا العرض، شرط أن يسحب قواته مسافة مناسبة من مواقعها. فقبل هارپاجوس هذا الطلب، ولو أنه زاد بأنه يدرك حقيقة نواياهم كل الإدراك، ولما انسحبت القوات عمد الفوكيون إلى إنزال سفنهم إلى البحر، ودفعوا إليها بنسائهم وأطفالهم وكل ما يمكن حمله، ... ومن ثم أقلعوا إلى خيوس، وهكذا كان دخول الفرس إلى المدينة واستيلاؤهم عليها وهي خاوية على عروشها ". [تاريخ هيرودوت، ص، 107].

وبعد فتح فوكاي استمر هارپاگ في استكمال غزو بقية المدن الأيونية، وإخضاعها للسلطة الفارسية، وقد قاتل الأيونيون ببسالة وإقدام دفاعاً عن أوطانهم، لكنهم لم يستطيعوا الصمود طويلاً أمام قوات هارپاگ وتكتيكاته الحربية ومفاجآت خططه، وتم إخضاع أيونيا للفرس، وسيطر الذعر على سكان الجزر حين وجدوا المدن على البر تسقط تحت ضربات هارپاگ وجنوده، فاستسلموا جميعاً للسلطات الأخمينية. [تاريخ هيرودوت، ص 109].

  وبعد أن أخضع هارپاگ أيونيا قام بمهاجمة الكاريين والكاونيين والليسيين في الجنوب، وكان جيشه يضم خليطاً من أهالي البلاد المفتوحة في غربي آسيا الصغرى، وأخضع الكاريين، ولم يستطع أحد من الإغريق الصمود في وجهه، ثم أخضع شعب الكنديان في المنطقة نفسها، وتوجّه بعدئذ بقواته إلى سهل زانثوس، وخاض معارك عديدة ضد الليسيين سكان ذلك السهل، قال هيرودوت: " وكان جيشه يفوقهم عدداً، ومع ذلك فقد أبدوا من الشجاعة الشيء الكثير، ولكنهم بعد قتال طويل انتهوا بالهزيمة، فاضطرهم هارپاجوس للانسحاب والتحصن خلف أسوار مدينتهم، وهناك جمعوا النساء والأطفال والرقيق وما ملكوا، وحشروهم في القلعة، ثم أشعلوا فيها النيران، حتى أصبحت أثراً بعد عَين، ومضوا بعدئذ فأقسموا أغلظ الأيمان بأن يقاتلوا إلى أن يكون لهم النصر أو يقضوا، وخرجوا للقاء العدو، فكانت مقتلة عظيمة نزلت بهم، فأُفنوا عن بكرة أبيهم، ولم يبق منهم أحد " [تاريخ هيرودوت، ص، 113].

-   -   -   -

خدمات حتى النهاية

ويبدو أن فترة خدمات هارپاگ للإمبراطورية الفارسية كانت طويلة، ويبدو أيضاً أن الرجل كان قد حاز على ثقة الحكام الأخمينين بشكل مطلق، إلى درجة أن موقعه القيادي لم يتزعزع في عهد قمبيز بن كورش، ولم يتأثر بالحركة الانقلابية الفاشلة التي قام بها الكاهنان الميديان الأخوان پيرتزيثيس (باتيزيثيس) وسمرديس (غوماتا)، في أواخر عهد قمبيز حوالي سنة (521 ق.م)، ولا شك في أن عدم تأثر موقع هارپاگ بالحركة الانتقامية ضد الميديين كان نتيجة إخلاصه الشديد لسادته الأخمين، ووقوفه ضد كل معارضة أو تمرد أو ثورة قام بها الميديون لتحرير أنفسهم واسترداد ملكهم، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى رجل كان أول من عمل بكل دهاء وإصرار لتهديم أركان الدولة الميدية.

وظل هارپاگ يعمل ضمن الفريق القيادي العسكري الأخميني إلى أوائل عهد الملك الثالث دارا الأول (داريوس)، فبعد أن قضى دارا على الثورات التي اندلعت ضد الحكم الفارسي في أنحاء الإمبراطورية، ولا سيما في بابل، قرر غزو بلاد السكيث في شمالي البحر الأسود، " فبعث رسله إلى جميع البلدان التابعة له، حاملين معهم الأوامر من الملك، يطلب من بعضهم تجهيز الجيوش بالجنود، ومن بعضهم تزويده بالسفن، ومن بعضهم الآخر تأمين العمال لبناء جسر فوق البوسفور" [تاريخ هيرودوت، ص 325]، ولا نجد ذكراً لهارپاگ في تلك الحملة، والأرجح أن دارا كان قد أوكل إليه الحفاظ على الاستقرار في ليديا والمناطق المجاورة لها في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، باعتبارها كانت مناطق حيوية  ستراتيجياً، وخروجها من قبضة الفرس يعني وقوع دارا وجيشه في الحصار بين جيش السكيث في الشمال والإغريق الثائرين في الجنوب، وقطع طريق العودة إلى بلاد فارس.

والأمر الذي حملنا على الأخذ بهذا الترجيح أننا نجد لهارپاگ ذكراً في أخبار حملة القمع التي قامت بها السلطات الفارسية لإخماد ثورات الإغريق في آسيا الصغرى، وكان يقودها زعيم إغريقي يدعى هستيايوس الملطي (الميليسي)، وكان سبق له أن قدّم للملك دارا خدمات هامة خلال غزو بلاد السكيث، ولا سيما أثناء تقهقر الجيش الفارسي، والتراجع إلى آسيا بعد فشل الحملة، وقد اصطحبه دارا معه إلى العاصمة سوسا بما يشبه الإقامة الجبرية، لكن هستيايوس لم يكن مرتاحاً للاستمرار في خدمة الإمبراطورية الفارسية، وكان يبحث عن طريقة للخلاص من قبضة دارا، فأرسل رسالة سرية إلى بعض قادة الإغريق يحثهم على الثورة، ثم أقنع دارا بأنه الوحيد القادر على إخماد تلك الثورة، فأرسله دارا للقيام بتلك المهمة، وما إن وصل هستيايوس إلى بلاد الإغريق حتى قاد الثورة ضد الفرس بنفسه.

ونجد أن هارپاگ يحتل موقعاً قيادياً عالياً حينذاك، إلى درجة أنه كان يماثل أرتفرنيس حاكم سارديس والأخ غير الشقيق لدارا، وكان هستيايوس قد حشد قواته في منطقة تسمى كيكوس الميسية (على بحر إيجه)، يقول هيرودوت:

" لكن شاء القدر أن يتواجد القائد الفارسي هارباجوس على رأس جيش كبير في نفس المنطقة، فاشتبكت قواته بقوات الإغريق بقيادة هستيايوس، ونشب القتال بين الجيشين في مالينا من أعمال أتارنيوس، واستمر القتال بينهما متكافئاً لفترة طويلة من الزمن، لغياب الفرسان الفرس عن ساحة المعركة، لكن لما وصلوا رجحت كفة الفرس، وتم لهم الانتصار على الإغريق، وقتلوا معظمهم وفرّ البقية. أما هستيايوس الذي لم يكن يتوقع أن يأمر داريوس بإعدامه فقد حاول للمرة الأخيرة إنقاذ حياته، إذ بينما كان يحاول الهرب انقضّ عليه أحد الفرس، وهمّ برميه برمح، فصرخ بالفارسية: إنني هستيايوس الملطي". [تاريخ هيرودوت، ص 439].

ووقع هستيايوس في الأسر، ورجّح هيرودوت أن الملك دارا كان سيعفو عن هستيايوس، ويضيف قائلاً: " لكن الواقع أن أرتفرنيس مَرْزبان [حاكم] سارديس وهارباجوس القائد الذي اعتقله، كانا قد عقدا العزم على قتله، لمنعه من استعادة حظوته ونفوذه في قصر داريوس، وما إن وصل إلى سارديس حتى أُعدم بالخازوق، وقُطع رأسه، وحُنّط وأُرسل إلى داريوس في سوسا ". [تاريخ هيرودوت، ص 439].

إن الانتصارات التي حققها هارپاگ في جنوب غربي آسيا لا تدع مجالاً للشك في عبقريته العسكرية، وفي مهاراته القتالية، ولعل أبرز جانب في تلك العبقرية هو قدرته على اختراع الآلية التي يتمكن بها من إبطال مفعول القوة القتالية الأهم في  جبهة الخصم، وتحويلها إلى ما يعادل الصفر في ميدان القتال، وهذا واضح في إبطال مفعول سلاح الفرسان الليدي، وفي بناء أكوام من التراب تماثل القلاع التي كان يحاصرها ارتفاعاً، فيُفقدها ميزة التحصن خلفها.

وبعد هذه الإنجازات الحربية الكبرى في أقصى جنوب غربي آسيا، انقطعت أخبار هارپاگ، ولم نجد له ذكراً في الأحداث التالية، وإذا أخذنا بالحسبان أن دارا الأول تولّى الملك حوالي سنة (521 ق.م)، وأنه أمضى ثلاث و أربع سنوات في القضاء على ثورة بابل، وفي غزو بلاد السكيث والعودة إلى سوسا، فالأرجح أن هارپاگ توفي بعد سنة (515 ق.م).

 

المراجع

1.    هـ. ج. ولّز: معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، لجنة التأليف و الترجمة والنشر، القاهرة، 1967-1972م.

2.    هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991 م.

3.    هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

4.    ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، 1968م.

5.  وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959 م.

 

 

وإلى اللقاء في الحلقة السابعة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 17 – 11 -  2007

dralkhalil@hotmail.com

 

 

=====================

 

مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة الخامسة والأربعون )

 سمرديس الميدي

وخفايا الصراع الميدي الأخميني

 ( قُتل سنة 521 ق.م)

 

إشكاليات!

قراءة التاريخ القديم أمر ممتع، لكنه لا يخلو من إشكاليات.

وتتفاقم الإشكاليات حينما يتعلق الأمر بتاريخ الكرد.

وفي الحالين لا بد من مراعاة أمور أربعة:

الأمر الأول: معرفة النية المبيّتة وراء تثبيت المعلومة وتوجيهها؛ إذ لا كتابة للتاريخ من غير نوايا، والمؤرخ في كل عصر ينتمي إلى ثقافة ما، وإلى رؤية ما، وهو مرتبط في النهاية بشبكة مصالح اجتماعية، أو دينية، أو مذهبية، أو قومية، أو قبلية، ولا بد أن يكون لطبيعة انتمائه تأثير في ذكر المعلومات أو إخفائها، وكذلك في الطريقة التي يفسر بها الأحداث؛ والحقيقة أن في التاريخ القديم والحديث شواهد لا تحصى على العلاقة بين النيات المبيّتة وسرد الحدث التاريخي.

والأمر الثاني: تحرير سرد الحدث التاريخي من سطوة الخرافة والأسطورة، ومن التلفيقات والخزعبلات وضبابيات الميتافيزيقا، ووضعه في سياقه الواقعي بيئياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ثم التعامل معه بواقعية وموضوعية، ثم البناء عليه. وإلا فسنظل هائمين على وجوهنا (خارج التاريخ)، متوهّمين في الوقت نفسه أننا نتحرك (داخل التاريخ)، ومعروف علمياً أن المقدمات الخاطئة لا يمكن أن توصلنا إلى نتائج صائبة.

والأمر الثالث: إضافة إلى النيّات المبيّتة، تضليلات السرد الأسطوري، لم يكن المؤرخون القدماء يمتلكون الوسائل الكفيلة بالحصول على المعلومات على نحو دقيق ومتكامل، فكانوا يضطرون إلى تدوينها كما هي، ونجم عن ذلك وجود فراغات وفجوات في السرد التاريخي؛ الأمر الذي يحول دون ربط الأحداث بعضها ببعض ربطاً محكماً، ويقود القارئ إلى مناطق مظلمة لا يدري كيف يسير فيها، ويوصله في النهاية إلى نتائج مشوِّشة غير دقيقة وغير منطقية.

والأمر الرابع: لم يصلنا جميع ما دوّنه المؤرخون القدماء، فالوسائل البدائية (أوراق البردي، الفخار، الجلود، النصب التذكارية) التي كانت تستخدَم في تدوين التاريخ لم تساعد على بقاء المعلومات زمناً طويلاً، هذا عدا أن الحروب كانت تدمّر مدناً بأكملها، وتقضي على معظم ما كان يحتفظ به الطرف الخاسر من معلومات، وحسبنا شاهداً على ذلك أن الإسكندر المكدوني حينما انتصر على الملك الأخميني دارا الثالث سنة (331 ق.م)، هدم المعابد الزردشتية (بيوت النيران)، وقتل الهَرابِذة (مفرد هَرْبِذ= آرْ بِدْ= مُوقد النار)، وأحرق كتاب الأفستا للنبي الآرياني زَرْدَشت، وكان مكتوباً في اثني عشر ألف جلد من جلود البقر. (المقدسي: البدء والتاريخ، 3/153)، هذا مع العلم أن الاسكندر كان تلميذ الفيلسوف اليوناني الشهير أرسطو، وكان من المفترض أن يتعامل مع تراث الشعوب بقدر أكبر من الاحترام، وإذا كان الاسكندر نهج هذا النهج فما بالك بالملوك الجهلة وأشباه الجهلة؟!

 ما معنى كل هذا؟!

ومن الضروري مراعاة هذه الأمور الأربعة في الحديث عن سميرديس الميدي، والصراع المرير بين الفرس الأخمين والميديين، والمصدر الرئيسي للمعلومات الخاصة بهذا المجال هو ما دوّنه المؤرخ اليوناني هيرودت (484 – 426، أو 425 ق.م)، وقد ذكر أنه جمع تلك المعلومات من " رواية الثقات من الفرس " [تاريخ هيرودوت، ص 77]. والغريب أنه لم يستق معلوماته من شخصية ميدية؛ مع أن الميديين كانوا موجودين، إذ صحيح أن كورش الأخميني قضى على الدولة الميدية سنة (558 ق.م)، أو سنة (550 ق.م)، لكن لم يقض على جميع الميديين.

ولا فائدة من أن نعزو غياب الجانب الميدي في رواية الأحداث إلى تحيّز هيرودوت للجانب الأخميني، فالرجل يوناني مخلص لقومه، وكان الأخمين يحتلون حينذاك مواطن اليونانيين في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، وبعض الجزر اليونانية الهامة في بحر إيجا، إضافة إلى أنهم هاجموا اليونان في عقر دارهم، وكادوا يحتلون أثينا نفسها سنة (490 ق.م)، لولا هزيمتهم أمام اليونانيين في معركة ماراثون، ثم إنه عاصر في طفولته وصباه أحداث الصراع بين الفرس واليونان، في عهد الملك الأخميني أحشويرش (اكزركيس) بن دارا، وفي عهد ابنه أرتحششتا.

وأحسب أن اكتفاء هيرودوت باستقاء المعلومات من الفرس فقط هو جزء من ظاهرة تاريخية طويلة الأمد، وخطيرة النتائج؛ ألا وهي حرص جهات إقليمية، في غربي آسيا، وبتخطيط مسبق، على تغييب التاريخ الكردي منذ ألفين وخمسمئة عام، رغبةً منها في طمس وجود هذا الشعب، والرمي به خارج التاريخ البشري، بل خارج الكرة الأرضية، وهنا مكمن الخطر الأكبر؛ ليس على الكرد فقط، بل على شعوب غربي آسيا، وعلى البشرية جمعاء، لأن من يتعامل مع شعب ما بذهنية إلغائية إقصائية في هذا المستوى من التطرف يكون على استعداد، إذا سنحت له الفرصة، لأن يتعامل بالذهنية نفسها مع سائر شعوب العالم.

والحديث عن ظاهرة تغييب التاريخ الكردي والوجود الكردي ليس حديثاً عن كائنات خرافية كالغول والعنقاء والسِّعْلاة؛ وإنما هو حديث عن حقيقة واقعة؛ إذ ما معنى أن يتوافر في المكتبة الغرب آسيوية، حتى النصف الأول من القرن العشرين، مئات الكتب عن جيران الكرد فرساً وتركاً وعرباً وأرمناً، أما عن الكرد فلا شيء سوى ما كتبه بعض الرحّالة الروس والغربيين، وبعض المبشرين، ونشروها في بلدانهم، وسوى ما كتبه بعض الكرد ونشروه خفية، وأحياناً بأسماء مستعارة؟

ثم ما معنى أن كثيرين من المثقفين العرب، دعك من الناس العاديين، لا يعرفون عن الكرد إلا القليل، بل إن ذلك القليل نفسه لم ينج من التشويه العارض أو المتعمَّد، وهو في مجمله معلومات مستقاة من وسائل الإعلام، وليس من دراسات موضوعية جادة؟ ومعروف أن آخر ما تهتم به أجهزة الإعلام في غربي آسيا هو تعريف شعوب هذه المنطقة بعضها ببعض الآخر، وأن أول ما يهمها هو تأليب هذا الشعب ضد ذاك، وزرع كراهية هذا الشعب في نفس ذاك؛ فهذا الشعب (مجوسي!)، وذاك (بِسْ مِلَّتْ = شعب رديء)، وآخر (أتراك الجبال وأشقياء!)، وهكذا دواليك.

وما معنى أنه كلما ذكرت لطلبتي- وهم جامعيون- أني كردي، تعجّبوا بل دهشوا، وراحوا يبدئون فيّ النظر ويعيدونه، وكأنهم يكتشفون كائناً عجيباً غريباً قادماً من كوكب بعيد؟ وما معنى أنهم لا يعرفون، بل لا يستطيعون استيعاب وجود شعب اسمه (الكرد) في الشرق الأوسط كله إلا إذا ذكرت أن صلاح الدين الأيوبي منهم، وأن أحمد شوقي أمير شعراء العرب في العصر الحديث منهم؟ هل يعني هذا أنه لولا وجود صلاح الدين وأحمد شوقي وأمثالهما ما كان للكرد حق الوجود؟

ثم بالله عليكم دققوا النظر في أحداث العالم طوال القرن العشرين، وإلى يومنا هذا، ألا تجدون أن نصف المشكلات الكبرى والتناحرات القومية والدينية والمذهبية ظهرت وتظهر في الشرق الأوسط، وتحديداً في غربي آسيا، علماً بأن مساحتها لا تساوي إلا عُشر مساحة العالم المسكون أو أقل؟ وهل وصلنا إلى هذه النتائج المخيفة إلا بسبب ذهنيات الإلغاء والكراهية؟ وهل كانت ظاهرة تغييب التاريخ الكردي والوجود الكردي إلا واحدة من تلك النتائج؟

والسؤال الجدير بالبحث فيه هو:

من كان أول من غيّب تاريخ الكرد في غربي آسيا؟

باختصار: إنهم الأخمين.

وكانوا يسترشدون في ذلك بوصية خطيرة، هي (وصية قمبيز).

فماذا عن تلك الوصية؟

وصية قمبيز

إن سيكولوجيا الجبال ترفض القبول بالدكتاتورية والاستبداد وفرض الرأي الواحد بالقوة، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير نشوء دول المدن السومرية، وعدم ظهور دولة سومرية مركزية واحدة، فالسومريون شعب آري الأصل، انحدر من جبال كردستان، واستقر في جنوبي بلاد الرافدين. وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير نفور اليونان القدماء من الساسة الطغاة، وثورتهم عليهم، ونشوء جمهوريات المدن.

والميديون هم أبناء الجبال في الدرجة الأولى، وتهيمن عليهم سيكولوجيا الجبال، لذلك لم تكن الدولة الميدية استبدادية التكوين عندما نشأت، ولا حتى عندما تحوّلت إلى شبه إمبراطورية بعد إسقاط الدولة الآشورية سنة (612 ق.م)، إنها كانت تتألف من اتحاد فيديرالي يضم سبعاً وعشرين قبيلة حسبما يذكر ول ديورانت، أي سبعاً وعشرين تكويناً سياسياً يتمتع بالإدارة الذاتية، لقد كانت الأمور كذلك في عهد كل من دياكو، وفراورتيس، وكَي خسرو، لكنها تغيّرت مع وصول أستياجيس إلى السلطة، فقد جرّد الدولة من طابعها المَلكي اللامركزي، وحوّلها إلى مَلكية استبدادية.

وكان النهج الاستبدادي الذي أخذ به أستياجيس في إدارة شؤون الدولة، وانهماكه في البذخ والترف، وحدوث الانقسامات بين القيادات الميدية، وظهور بوادر الصراع على السلطة، وانغماس المجتمع الميدي في حياة الدعة والرخاء، إضافة إلى خيانة قادة كبار من أمثال هارپاك، من أهم العوامل التي أتاحت للحاكم الأخميني المجاور كورش الثاني، أن يطيح بالدولة الميدية، ويؤسس الدولة الأخمينية على أنقاضها، ولا ريب في أن كورش كان يتمتع بالذكاء والدهاء والشجاعة، ويتجلّى ذلك في الإفادة من الإنجازات الميدية الحضارية، وفي إسناد مناصب عسكرية عليا إلى بعض كبار الشخصيات الميدية، مثل هارپاك ومازاريس، يقول ديورانت: "وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية[أستياجيس] ، وارتضوه [كورش] ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد بالاحتجاج عليه " (قصة الحضارة، مجلد 1/ ج 1، ص 402).

واستطاع كورش بهذه السياسة تحقيق هدفين:

الأول: إسكات الميديين وإشعارهم بأن الدولة دولتهم، وخاصة أنهم أخواله، باعتبار أن أمه ماندانا ابنة أستياجيس، وأنه تربى في قصر جده الملك الميدي، وتأثر بالثقافة الميدية، ويعرف كل من له خبرة بالمجتمع الكردي مدى تعاطف الكرد مع أولاد بناتهم وأخواتهم، وحسبنا مثالاً على ذلك تعاطفهم مع الأمير العربي أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان (كانت أمه كردية) حين أعلن الثورة على العباسيين في الموصل سنة (301 هـ)، وتعاطفهم بعدئذ مع ابنه سيف الدولة الحمداني نفسه، باعتبار أن أمه كانت كردية أيضاً. (تاريخ ابن خلدون، 7/520. وأحمد عدوان: الدولة الحمدانية، ص 111).

والثاني: استثمار طاقات الشعب الميدي العسكرية والاقتصادية في احتلال الدولة البابلية في الجنوب الغربي، والدولة الليدية في الشمال الغربي، وإعلان الحرب على شعب الماسّاجيتاي Massagetae ، حينما غزا بلادهم (شرقي بحر قزوين).

لكن الأمور اختلفت بعد مقتل كورش في حربه ضد الماسّاجيتاي سنة (530 ق.م)، فخلال حكمه هيمن الأخمين على مقاليد الأمور، ودفعوا بالميديين رويداً رويداً إلى الظل، وهم قد فعلوا ذلك بعد أن استيقظ بعض قادة الميد من غفلتهم، وأدركوا أنهم، بسكوتهم على النفوذ الأخميني، إنما كانوا يحكمون على أنفسه بالتبعية والعبودية، قال ديورانت: " وما هي إلا وقعة واحدة حتى انقلبت الآية، فلم تعد ميديا سيدة فارس، بل أصبحت فارس سيدة ميديا، وأخذت تعدّ العدّة لتكون سيدة عالم الشرق الأدنى كله". (قصة الحضارة، مجلد 1/ ج 1 ص، 402)، هذا وتكرّس استئثار الأخمين بالسلطة في عهد قمبيز بن كورش (حكم بين 530 – 521 ق.م).

وقد قاد قمبيز حملة لغزو مصر سنة (525 ق.م)، وكانت تنتابه نوبات من الصرع، كما كانت تنتابه نوبات غضب جنوني، فارتكب كثيراً من الفظائع، سواء أكان في تعامله مع المصريين، أم في تعامله مع الأخمين، ومنها أنه أمر بنش القبور وجلد الموتى، وأمر بجلد كهنة الإله أبيس في مصر، وأمر بإعدام كل مصري يحتفل بعيد ذلك الإله، وأمر صديقه الأخميني بركساسبيس بالسفر من مصر إلى العاصمة الأخمينية سوسا، وقتل أخيه (أخي قمبيز) سمرديس، لأنه رأى في الحلم أن شخصاً قد حل محله في الحكم يدعى سميرديس، ومنها أنه رمى ابن بركساسبيس بسهم أمام أبيه فقتله دونما أي ذنب، وتزوّج أخته روكسانا، رغم أن القانون الأخميني ما كان يبيح ذلك، ثم تزوّج أخته الثانية، وقتلها لأنها انتقدت سلوكه الدموي، وأمر بدفن اثني عشر رجلاً من قادة الفرس أحياء ورؤوسهم إلى الأسفل بتهمة تافهة، حسبما ذكر هيرودوت (تاريخ هيرودوت، ص 233، 234).

 وحينما توجّه قمبيز إلى غزو مصر كان قد أوكل إدارة شؤون قصره إلى كاهن مجوسي يدعى پيرتزيثيس (يسميه هيرودوت باتيزيثيس أيضاً)، وكان پيرتزيثيس يعلم موضوع قتل سميرديس أخي قمبيز، وأن قلة من الفرس فقط لهم علم بالأمر، وأن جمهور الفرس يعتقدون أن سميرديس ما يزال حياً، وكان لپيرتزيثيس أخ اسمه سميرديس، وقد ذكر وليام لانجر أنه يسمى جوماتا أيضاَ (موسوعة تاريخ العالم، 1/93)، وكان شبيهاً بسميرديس بن كورش (أخي قمبيز)، فاستغل پيرتزيثيس حادثة مقتل سميرديس الأخميني، وأقنع أخاه بالجلوس على عرش فارس، يقول هيرودوت: "وأرسل بياناً لجميع القوات في أنحاء فارس ومصر كافة، مفاده أن عليهم في المستقبل تنفيذ الأوامر الصادرة عن سميرديس، وليس عن قمبيز" (تاريخ هيرودوت، ص 246).

ووصلت نسخة من البيان إلى قمبيز في سوريا، وهو في طريق عودته إلى فارس، فنظر إلى القائد الفارسي بركساسبيس قائلاً له:

- " إذاً، فهكذا تنفّذ أوامري"!.

فأجابه بركساسبيس:

- " يا مولاي، إن ما سمعت لكذب وافتراء، وأخوك سميرديس لم يتمرد عليك، ولن يكون لديك سبب للخلاف معه، فلقد نفّذتُ ما أمرتني به، ودفنت جثّته بيديّ هاتين، إذا كان الموتى ينهضون من قبورهم فبإمكانك أن تعتقد أن أستياجيس الميدي قد يعود ليشنّ حرباً عليك، ... ونصيحتي لك أن تقبض على هذا الرسول وتستجوبه، لتعرف من الذي أرسله بأمر إطاعة الملك سميرديس". (تاريخ هيرودوت، ص 246).

وأمر قمبيز بإحضار الرسول، وهدّده بأن يصدقه القول، وسأله:

-  " هل أعطاك سميرديس هذه الأوامر بنفسه أم أحد أتباعه؟ فأجاب الرجل: منذ أن رحل الملك قمبيز بجيشه إلى مصر لم تقع عيني على سميرديس بن قورش، والمجوسي الذي سلّمه قمبيز إدارة شؤون قصره هو من أعطاني هذه التعليمات، لكنه قال لي: إنها صادرة من سميرديس" (تاريخ هيرودوت، ص 247).

واتضح لقمبيز أن الكاهن المجوسي وأخاه قد قادا انقلاباً ضده، وحكما البلاد باسم أخيه المقتول سميرديس، وتبيّن له أن حياة أخيه راحت بلا جدوى، فاستبد به الغضب، وامتطى جواده، عازماً على الوصول إلى بلاد فارس للقضاء على مدبري الانقلاب، وحينما وثب على الجواد سقط غمد سيفه، وانكشف النصل، فأصيب بطعنة في فخذه، فمرض على أثر ذلك، وبعد عشرين يوماً شعر بدنوّ أجله، فأرسل في طلب قادة الجيش الفارسي، وخاطبهم قائلاً:

" يا رجال فارس، إن الظروف لتفرض عليّ أن أبوح لكم بما كنت قد بذلت قصارى جهدي لإخفائه. ثم روى لهم خبر الحلم، وإصداره الأمر بقتل أخيه سميرديس نتيجة لذلك، وأنهم أصبحوا الآن محكومين من قِبل المجوسيين". (تاريخ هيرودوت، ص 249).

وأضاف يقول:

" فلزم عليّ أن أبيّن لكم وأنا ألفظ أنفاسي الأخيرة، ما أرغب إليكم القيام به، فباسم الآلهة التي تحرس أسرتنا الملكية آمركم، وخاصة الأخمينيين منكم الحاضرين هنا، ألاّ تدعوا الميديين يستردّون السلطة، فإذا حصلوا عليها عن طريق الغدر والخيانة فاستردّوها بالسلاح نفسه، أما إذا استردّوها بالقوة فكونوا رجالاً، واستردّوها بالقوة. إذا قمتم بما آمركم به، فإني أدعو لكم بأن تغمركم الأرض بخيراتها، وأن تُرزَقوا بالأطفال، وتتكاثر قطعانكم، وأن تكونوا أحراراً مدى الدهر. أما إذا فشلتم في استرداد السيادة، أو لم تقوموا بأية محاولة لاستردادها، فلتنزل عليكم لعنتي، وليكن مصيركم عكس ما أدعو لكم به الآن، وعِلاوة على ذلك فلتكن نهاية كل فارسي بائسة مثل نهايتي" (تاريخ هيرودوت، ص 249).

فتأثر قادة الفرس وهم يجدون ملكهم يبكي والدموع تنهمر من عينيه، وأخذوا  في تمزيق ثيابهم، وبالبكاء والعويل، ثم استفحل المرض بقمبيز، وتوفي دون أني يكون له عقب من الصبيان أو البنات.

حقائق.. لا خرافات!

تلك كانت وصية قمبيز لكبار قادة فارس.

وعلى ضوء هذه الوصية تتضح الأمور الآتية:

أولاً: إن الميديين استيقظوا على الحقائق المرة بعد سنوات قليلة من الحكم الأخميني، واكتشفوا أن الشراكة الأخمينية الميدية في قيادة الدولة الجديدة كانت طُعماً قدمه لهم كورش، فابتلعوه ودفعوا الثمن من حريتهم، فشرعوا يحاولون الخلاص، واستعادة الدولة الميدية.

ثانياً: إن الأخمين خاصة والفرس عامة كانوا يتخوّفون من قيام الميديين باسترداد السلطة، والعودة إلى حكم الفرس وغيرهم في غربي آسيا، وكان هذا الهاجس يثير قلق كبار قادة فارس، وخصوصاً بعد أن قام الميديون بأكثر من ثورة لنيل حريتهم، واستعادة مجدهم.

ثالثاً: إن ثمة قراراً صدر من أعلى الجهات القيادية في الدولة الأخمينية، قبل ألفين وخمسمئة عام، يقضي بأن يمنع الفرس بكل ما أوتوا من قوة- سواء أكانت قوة الخديعة أم قوة الحرب- قيام الدولة الميدية مرة ثانية، وبعبارة أخرى: أن يحول الفرس دون قيام دولة كردية، وبقاء الكرد إلى الأبد تحت قبضة الفرس، ومن يتتبّع العلاقات الكردية الفارسية طوال القرون الخمسة والعشرين الماضية يخرج بنتيجة واضحة وضوح الشمس؛ مفادها أن روحية وصية قمبيز كانت تحتل مكان الصدارة في كل السياسات الفارسية إزاء الكرد.

رابعاً: إن هذه الوصية كانت وراء تغييب التاريخ الكردي، والثقافة الكردية عامة، وكل ما يتعلق بالهوية الكردية، عن شعوب غربي آسيا، وإبقائها في طيّ الكتمان، سواء عن الأجيال الكردية أم عن الشعوب المجاورة.

خامساً: إن هذه الوصية كانت وراء تشويه سمعة الشعب الكردي، فإنك تجد في كتب التاريخ الغرب آسيوي مثلاً أن أصل الفرس والعرب والأرمن والترك من البشر الأسوياء، إلا الكرد، فإن تلك الكتب تجعلهم أبناء الجن تارة، وأبناء الشيطان تارة أخرى، ونتاج علاقة زنا بين الجواري الأوربيات وعفاريت النبي سليمان تارة ثالثة، والخلاصة أنهم ليسوا من أبناء آدم الأسوياء، إنهم دخلاء على الجنس البشري جملة وتفصيلاً، هذا إضافة إلى النيل من شأن الكرد، وتصويرهم على أنهم رعاة بدائيون.

ولست أبني هذا الرأي على الوهم، فالمعروف أن المعلومات الخاصة بأصل الكرد، على هذا النحو الخرافي، وصلت إلينا من كتابات المؤرخين المسلمين القدماء، والسؤال هو: من أين استقى أولئك المؤرخون تلك المعلومات؟ إذ لا شيء عن أصل الكرد في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولا في أقوال الصحابة، ولا في أقوال التابعين، ثم إن العرب قبل الإسلام لم يكن بينهم مؤرخون، أما في صدر الإسلام فذكر علماء النسب العرب، ومنهم أبو اليقظان سُحَيْم بن حَفْص (ت 190 هـ)، ومحمد بن السائب الكَلْبي (ت 146 هـ)، وابنه هشام بن محمد (ت 204 هـ)، أن الكرد من أصل عربي، ولم يذكروا مطلقاً هذه المعلومات الخرافية.

إذاً فالمصادر التي استقيت منها المعلومات الخاصة بالأصل الخرافي للكرد ليست عربية مطلقاً، والمثير للانتباه أن تلك المعلومات لم ترد في مدوَّنات العصر الأموي (قبل سنة 132 هـ)، وإنما تعود إلى مدوّنات العصر العباسي، وكل من يقرأ تاريخ العصر العباسي الذهبي ( 132 – 232 هـ/ 749 – 847 م) يعرف مدى هيمنة الفرس والسريان (حلفاء الفرس ضد البيزنطيين) على الحركة الثقافية حينذاك، ودورهم الهام في حركة الترجمة، هذا عدا هيمنة الفرس، وأتباع الثقافة الفارسية، على منصب الوزارة معظم الأحيان، وهذا يعني أن المسعودي (ت 346 هـ)، حينما أورد المعلومات الخرافية حول أصل الكرد في كتابه (مروج الذهب)، إنما استقاها من المصادر الفارسية أو السريانية بعد ترجمتها، وهي مصادر متحاملة على الميديين وأحفادهم الكرد كما مر.

  مسار الانقلاب

ودعونا نتساءل: كيف سار الانقلاب الميدي؟

بعد وفاة قمبيز لم يصدق كبار قادة الفرس أن يكون سميرديس الميدي قد استولى مع أخيه پيرتزيثيس على الحكم، وزاد في اقتناعهم أن بركساسبيس نفى بشدة أن يكون قد قتل سميرديس بن قمبيز، خوفاً من العقوبة بعد وفاة حاميه قمبيز، واستمر سميرديس الميدي في الحكم سبعة أشهر، وأول ما اهتم به هو تحرير الشعوب المقهورة من جور ومظالم الحكم الأخميني، وعدم فرض الضرائب الباهظة عليهم، وعدم إرسال أبنائهم إلى ميادين الحروب الإمبراطورية، قال هيرودوت:

" وخلال عهد المجوسي حصل رعاياه على منافع عظيمة، ولذلك أسف لموته جميع الآسيويين التابعين باستثناء الفرس؛ إذ إنه بُعيد اعتلائه العرش أعفى جميع الأمم الخاضعة له من الضرائب والخدمة العسكرية مدة ثلاث سنوات. لكن بعد سبعة أشهر من تولّيه الحكم أدّت الظروف التالية إلى افتضاح أمره" (تاريخ هيرودوت، ص 249).

وبطبيعة الحال لم يقف قادة فارس مكتوفي الأيدي، وصاروا يتابعون ملابسات الأمر بحرص وعناية، وكان أكثر من ارتاب في أمر سمرديس الميدي هو أوتانيس بن فرناسبيس، أكثر نبلاء الفرس ثراء، وأول ما لاحظه أوتانيس أن سميرديس لم يغادر التحصينات في العاصمة، ولم يقم باستقبال أيّ نبيل فارسي في جلسة خاصة بمعزل عن الآخرين، وكان سميرديس الميدي قد استولى على جمع زوجات قمبيز، وفرقهن، فجعل لكل واحدة منهن قصراً بعيداً عن قصر الأخرى، وكان من بينهن فيديم بنت أوتانيس، وطلب أوتانيس من ابنته سراً أن تتأكد هل هذا هو سميرديس بن كورش أم هو سميرديس الميدي، فأفادت فيديم أنها لا تستطيع التمييز، فهي لم تجد سميرديس بن كورش سابقاً.

وكان أوتانيس يعلم أن قورش غضب ذات مرة على سميرديس الميدي، فأمر بقطع أذنيه عقاباً له، فكتب إلى ابنته قائلاً: " عليك القيام بما يلي: حينما يأتي لقضاء الليل معك، انظري حتى تتأكدي من أنه استغرق في النوم، ثم تحسسي أذنيه، فإذا وجدتهما فأنت زوج سميرديس بن كورش، أما إذا لم تكن له أذنان فستعلمين أنكِ زوج سميرديس المجوسي " (تاريخ هيرودوت، ص 250). وحينما حلّت ليلة فيديم مع الملك سميرديس قامت بما طلب منها والدها، وتبيّن لها أن زوجها بلا أذنين، فأسرعت في اليوم التالي إلى إخبار والدها بالحقيقة.

فاتفق أوتانيس مع ستة آخرين من كبار زعماء فارس على التصدي للأخوين الميديين، والقضاء عليهما، واسترجاع العرش الأخميني، وكان دارا (داريوس ) بن هايستاسبيس (هشت أسپ)أبرز أولئك السبعة، وكان والده حاكم مقاطعة فارس، وتبادل الحلفاء السبعة عهود الولاء، وناقشوا الخطوات التي يجب اتخاذها، وقرروا الإسراع في القيام بانقلاب معاكس، لكن شريطة الحذر واتخاذ كافة الاحتياطات الكفيلة بنجاح الخطة، وأصرّ دارا على البدء بالتنفيذ في اليوم نفسه دونما تأخير، وإلا انكشف السر، وباؤوا بالفشل الذريع.

ودارت نقاشات حادة بين المتحالفين، واعترض أوتانيس على قرار دارا؛ إذ كيف يمكنهم دخول القصر الملكي، والوصول إلى الملك، والحرس منتشرون في كل مكان؟! لكن دارا أكد لهم أن الحرس لن يترددوا في السماح لهم بالدخول، باعتبارهم كبار زعماء فارس، وأضاف قائلاً: " فضلاً عن ذلك لديّ عذر مناسب لإدخالنا؛ سأقول: إنني جئت من فارس، حاملاً رسالة من والدي إلى الملك، إذا كان الكذب ضرورياً فلم لا أكذب؟! كلنا يسعى إلى هدف واحد، سواء كنا نكذب أن نقول الحقيقة" (تاريخ هيرودوت، ص 252).

وكان زعيم فارسي آخر يدعى جوبرياس متحمساً لخطة دارا، فقال:

" يا أصحابي، هل تتاح لنا فرصة أفضل مما لدينا الآن لإنقاذ العرش؟ أما إذا فشلنا فلنمت في المحاولة، أفحتم على فارس أن يحكمها ميدي؛ ذلك المجوسي الذي قُطعت أذناه؟ ولن ينسى من كان منكم واقفاً بجانب قمبيز، وهو على فراش الموت، اللعنةَ التي أنزلها بالفرس إذا لم يقوموا بأي جهد لإنقاذ العرش، ... وأعتقد أن علينا الأخذ بنصيحة داريوس، وان ننهي الاجتماع، لنذهب فوراً إلى القصر، ونهاجم المجوسيَّين. فوافقوا جميعاً على الاقتراح " (تاريخ هيرودوت، ص 253).

مجزرة.. ونتائج

وفي الوقت نفسه يبدو أن الشكوك في هوية الملك سميرديس كانت تتزايد، وكان الأخوان الميديان يفكران في مخرج من الوضع الذي كانا فيه، وقررا أن يعملا لجر بركساسبيس إلى صفهما، أولاً لأن قمبيز كان  قد عامله بقسوة، وقتل ابنه. وثانياً لأنه الشخص الوحيد الذي يعلم سر مقتل سميرديس بن قورش. وثالثاً لمكانته السامية في المجتمع الفارسي. فاستدعياه وساوماه على الولاء لهما، وعرضا عليه مبلغاً كبيراً من المال لقاء صمته، فوافق بركساسبيس على ذلك، فدعا الأخوان الفرس إلى الاجتماع في أسفل أسوار القصر، ليعلن بركساسبيس من أعلى البرج أن الملك هو سميرديس بن قورش وليس شخصاً آخر.

وفي الموعد المحدد لاجتماع الفرس، صعد بركساسبيس إلى قمة البرج للإدلاء بتصريحه، ولكن عوضاً عن الوعد الذي قطعه للأخوين الميديين، ألقى خطبة حماسية ذكر فيه سلسلة نسب كورش وصولاً إلى الجد الأكبر أخمينيس، واستعرض الخدمات التي قدمها كورش للفرس، وكشف عن حقيقة أن قمبيز أجبره على قتل سميرديس بن كورش، " وأن البلاد الآن أصبحت في قبضة المجوسيين، وفي النهاية ختم كلامه بالدعاء على الفرس أن ينزل بهم الشقاء إذا لم يستعيدوا العرش، ثم ألقى بنفسه دون تردد من أعلى البرج إلى الأرض"، فكانت نهايته الموت. (تاريخ هيرودوت، ص 254).

لم يكن الحلفاء الفرس السبعة يعرفون شيئاً عما يدور في القصر الملكي، وكانوا متوجّهين إليه لتنفيذ الخطة، وفي منتصف الطريق علموا بما قاله بركساسبيس، وبعد مداولات عاجلة للوضع الجديد، واختلاف في الآراء، وقفت الأكثرية مع دارا في تنفيذ الهجوم على الملك في القصر، ولم يعترضهم الحرس، لكن خصيان القصر استوقفوهم، وعنّفوا الحرس على السماح لهم بالدخول، وهنا استلّ المهاجمون خناجرهم، وفتكوا بالخصيان الذين اعترضوهم. وحينذاك كان الأخوان الميديان يتناقشان في الوضع الناجم عن خيانة بركساسبيس لهما، وسمعا الخصيان يصرخون بشدة، فأسرعا لمعرفة الخبر، وأدركا الخطر المحدق بهما، فاستعدا للمجابهة، وخاضاً القتال ضد المهاجمين السبعة، فجرحا اثنين منهم، لكنهما خسرا الجولة، وكانت نهايتهما القتل.

قال هيرودوت:

" بعد أن تم قتل المجوسيَّيْن، قطع المتآمرون رأسيهما، وخرجوا إلى الشارع وهم يصرخون، محدثين ضجة عظيمة، حاملين الرأسين المقطوعين، بينما تركوا الجريحين في القصر،... والتقى الخمسة السالمون بالمواطنين، وأخبروهم بما جرى، وأظهروا لهم الرأسين، ثم بدؤوا بقتل كل مجوسي صادفوه في طريقهم، وسرعان ما أصبح الفرس الآخرون على أهبة الاستعداد لأن يحذو حذوهم، بعد أن علموا بالعمل البطولي الذي اضطلع به الحلفاء السبعة، والخدعة التي قام بها المجوسيان، فاستلوا خناجرهم، وقتلوا كل مجوسي وقعت أنظارهم عليه، وكادوا يبيدون المجوس لولا حلول الظلام، فتوقفت المجزرة، وقد أصبح هذا اليوم يوماً مشهوداً في التقويم الفارسي، حيث يقام احتفال سنوي باسم قتل المجوس، ولا يسمح في أثنائه لأي مجوسي بالظهور، فيقبعون جميعاً في بيوتهم طوال اليوم لا يبرحونها". (تاريخ هيرودوت، ص 255 - 256).

إن أحداث الانقلاب الميدي توصلنا إلى النتائج الآتية:

·  كان من الطبيعي أن تنتهي محاولة الأخوين الميديين في استرداد السلطة من الأخمين إلى الفشل، إذ لم يعتمدا على قاعدة جماهيرية ميدية، بل لا نجد فيما رواه هيرودوت وديورانت أن ثمة شخصيات ميدية أخرى شاركت پيرتزيثيس وأخيه سميرديس في تدبير الانقلاب، هذا رغم أنه كان للمجوس (الميديين) حضور في العاصمة الملكية سوسا، والدليل على ذلك تعرضهم لمجزرة عامة من قبل الفرس في اليوم نفسه الذي قُتل فيه الأخوان الميديان.

·  كان قادة الفرس مصرّين على تنفيذ وصية قمبيز، وعدم السماح للميديين بالعودة إلى السلطة ثانية، وأبدوا بسالة شديدة وتضامناً وثيقاً وروحاً فدائية في تنفيذ خطة استرداد السلطة من الأخوين الميديين.

·  ذكر ديورانت أن سميرديس " كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي، فشبّت في البلاد ثورة أخرى أطاحت بعرشه " (قصة الحضارة، مجلد1، جزء 1، ص 406). وهذا يعني أن الصراع بين الفرس والميديين لم يكن سياسياً فقط، وإنما كان صراعاً أيديولوجياً أيضاً.

هل المجوس ميديون؟

سؤال يخطر في بال المرء وهو يقرأ رواية هيرودوت للانقلاب الميدي.

وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من استعراض سريع لعقيدة الشعوب الآريانية قبل الزردشتية، فقد كان الميد والفرس وسائر الشعوب الآرية الشرقية يدينون بالمِثرائية، نسبة إلى الإله الآري مِثرا  Mithraism إله العقود والحق والنظام، وكان الآريون الشرقيون يرمزون إليه بالشمس، وكان الملوك والعامة يركّبون أسماءهم منه، مثل مِثراداتيس (مثرا دات = عطاء الإله مثرا)، وكانت ديانة مِثرا منتشرة شرقاً في الهند، وغرباً في بلاد ما بين النهرين، وآسيا الصغرى، وأرمينيا، وفي معظم مناطق الشرق الأدنى قبل المسيحية، كما دخلت المِثرائية روما أول مرة في سنة (60 ق.م)، وفي القرن الثاني الميلادي انتشرت ديانة مِثرا داخل الإمبراطورية الرومانية حتى وصلت إلى بريطانيا. (جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، ص 125 – 126).

ويمكن القول بشكل عام: إن المثرائية هي من أقدم العقائد الدينية الآرية في العالم القديم، وكانت  طبقة من الكهنة الرسميين الميد يتوارثون المناصب الدينية في تلك الديانة، ويشرفون على أداء الطقوس وممارسة الشعائر الدينية، وكان أبناء تلك الطبقة ينتمون في الأصل إلى القبيلة الميدية ماجُويي (ماغُويي Magoi)، وهذه القبيلة واحدة من ستة قبائل كبرى كان يتألف منها الشعب الميدي، هي: Boussi, Paretaknoi, Strounate, Arizantoi, Bodloi, Magoi، (انظر: دياكونوف: ميديا، ص 143، 146. ل . ديلابورت: بلاد ما بين النهرين، ص 308. Mehrdad Izady: The Kurds, p. 28, 32.  ).

ولا ننس أن اللاحقة (س) هي من خصائص الأسماء في اليونانية، ويُلحقها هيرودوت بمعظم الأسماء غير اليونانية، وهكذا تحوّل اسم (ماغويي)  Magoiالميدي إلى كلمة (ماغوس) Magos اليونانية، وقد أطلقها اليونان على الكهنة الزردشتيين عندما دخلوا فارس في عهد الإسكندر، وكانوا يعنون بها: العظيم أو الهائل، نظراً لبراعة المجوس (الماجويي) في الحكمة والإتيان بالأفعال الخارقة والسحر، ومن اسم ماجوس جاءت كلمة (مَجُوس) العربية، وكلمة  Magic(السحر) الإنكليزية، (انظر: جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، هامش ص 131). وكانت طبقة المجوس هذه تشبه طبقة الكهنوت العبراني التي كانت تنتمي إلى سبط اللاويين حصراً، وتشبه طبقة الكهنوت الوثني العربي المكي التي كانت تنتمي إلى بني عبد مَناف حصراً.

ومعروف أن زَرْدَشت (زَرْتَشت= زرادهشت= زاراتوشترا=  زراوُستر)  ولد في مقاطعة أترُوباتين  Atropautene (أذربيجان) بميديا الصغرى، على مقربة من بحيرة أورميا، وعاش بين سنتي (660 – 583 ق.م)، أو بين (630 – 553)، أو (628 – 551) قبل الميلاد  (صمويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم، ص 294. وحامد عبد القادر: زرادشت نبي قدامى الإيرانيين، ص 29). ولما بلغ الأربعين من العمر أعلن نبوّته، ودعا قومه الميد إلى اعتناق دين جديد عرف بعدئذ باسم (الزردشتية)، لكن الميد رفضوا دعوته، وقاوموه واتهموه بالهرطقة، إذ جاهر زردشت بوجود إله كبير هو إله الخير والنور (أهورامزدا)، وإله أصغر ندّ للإله الأكبر يسمى إله الشر والظلام (أهريمن)، ويشبهه (الشيطان/إبليس) في الديانات السماوية، وزعم أن حرباً كونية تدور بين الإلهين، والمفروض في البشر أن ينضموا إلى صف أهورامزدا، كي تتحقق الغلبة على أهريمن، ولم يكن هذا يتفق مع العقيدة المثرائية القائمة على أنه لا ندّ لله، وأن الله خير ولا يمكن أن يخلق الشر، وكان من الطبيعي أن يتصدّى الكهنة المثرائيون لزردشت، ويقاوموا عقيدته.

فهاجر زردشت إلى مقاطعة باكتريا (باختريا) في شرقي آريانا (إيران حالياً)، واعتنق فشتاسپ (هيستاپس= هشت أسپ) حاكم باكتريا الدين الجديد (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم1/91)، تماماً كما فعل النبي محمد بعدئذ عندما عارضه قومه قريش العدنانيون، فلجأ إلى العرب القحطانيين المنافسين لهم في يثرب (المدينة)، فرحّبوا به واعتنقوا دينه الإسلام. والأرجح أن فشتاسپ كان فارسياً، وليس من المستبعد أنه كان منافساً للسلطات الميدية، وإلا لما توجّه إليه زردشت.

وانتشرت العقيدة الزردشتية بين شعوب آريانا، ولا سيما في مقاطعة فارس، وصارت تزاحم المثرائية، لكن ظلت الميثرائية هي العقيدة الرسمية في الدولة الميدية، أما في العهد الأخميني فالصورة غير واضحة تماماً، فقد مر قبل قليل قول هيرودوت أن سميرديس الميدي كان " من أتباع المذهب المجوسي القديم [يقصد المثرائية]، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي"، ويقول ديورانت في الموضوع ذاته: "ولعل دارا الأول حينما اعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً ملهماً لشعبه، فشرع منذ تولّى الملك يثير حرباَ شعواء على العبادات القديمة وعلى الكهنة المجوس، وجعل الزردشتية دين الدولة" (قصة الحضارة، مجلد1، جزء 1، ص 426).

فهيرودوت يؤكد أن الزردشتية كانت ديناً رسمياً للدولة الأخمينية في عهد قمبيز، في حين يذكر ديورانت أنها صارت ديناً رسمياً في عهد دارا الأول، والأرجح هو ما ذكره هيرودوت، ولعل تسمية الأخوين الميديين باسم (المجوس) من قبل قمبيز وقادة الفرس الآخرين جعل ديورانت يظن أنهما كانا على العقيدة الميثرائية، وبما أن قمبيز جعل الكاهن المجوسي پيرتزيثيس أمين القصر الملكي، فهذا أيضاً جعل ديورانت وغيره يظنون أن العقيدة الرسمية للدولة الأخمينية كانت المثرائية، وغاب عن ديورانت ومؤرخين آخرين أن لقب (موغ= ماغ= مجوسي) كان لقباً دينياً، انتقل من المثرائية إلى الزردشتية، تماماً كما هو لقب (پير= كاهن)، إذ نراه لقباً يسبق اسم تزيثيس، فلم يفرق هيرودوت اللقب من الاسم، فجمع بينهما، وسماه (پيرتزيثيس)، ومعروف أن هذا اللقب الديني موجود إلى الآن في التصنيفات الكهنوتية للديانة الأيزدية. ثم إن الزردشتية لم تكن ديناً جديداً بشكل كلي، وإنما كانت تطويراً للمثرائية، الأمر الذي أبقى في الزردشتية كثيراً من طقوس ومصطلحات دين مثرا.

ويبدو لنا أن الصراع الميدي الأخميني لم يكن سياسياً فقط، وإنما كان أيديولوجياً أيضاً، ويوم خسرت الأيديولوجيا المثرائية، وانتصرت الأيديولوجيا الزردشتية، خسر الميديون (أجداد الكرد) دورهم الثقافي والسياسي في غربي آسيا، وصار تاريخهم، بل ووجودهم، عرضة للتغييب والتشويه، وأحسب أن الكاهنين الميديين پيرتزيثيس وسميرديس كانا يعدّان العدّة لاسترداد نفوذ المثرائية، وكبح جماح الزردشتية، تمهيداً لاسترداد الحكم الميدي، باعتبار أن المثرائية كانت أيديولوجيا الميديين، وكانت الزردشتية أيديولوجيا الفرس.

وأعلم أن معظم الإخوة الكرد الأيزديين، إن لم يكونوا كلهم، يعلنون أن ديانتهم هي الزردشتية، ولعلهم لا يقبلون الرأي بأن الزردشتية كانت الأيديولوجيا التي ساعدت الأخمين على إسقاط الدولة الميدية، وقذفت بالكرد إلى طيات النسيان، هذا بغض النظر عن كون المثرائية هي الأفضل أم الزردشتية، ومع ذلك كم أتمنى أن يعاد البحث في طبيعة العلاقة بين المثرائية والزردشتية، وتعاد قراءة الأحداث السياسية التي واكبت ظهور الزردشتية وانتشارها في غربي آسيا، لأن ما هو ثقافي لم يكن منفصلاً مطلقاً، وعلى مر العصور، عمّا هو سياسي، وأحسب أن كل قراءة لنشأة الأديان بعيداً عن الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العصور التي نشأت فيها تبقى قراءة غير متكاملة. 

المراجع

1.    أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى، 1981م.

2.    جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ترجمة أحمد فخري، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1955م.

3.    حامد عبد القادر: الأمم السامية، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 1981.

4.    ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999م.

5.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.

6.    ديلابورت: بلاد ما بين النهرين (الحضارتان البابلية والآشورية)، ترجمة محرّم كمال، المطبعة النموذجية.

7.  صمويل نوح كريمر (نشر وقدم له): أساطير العالم القديم، ترجمة دكتور أحمد عبد الحميد يوسف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974.

8.    محمد عبد القادر: إيران منذ فجر التاريخ حتى الفتح الإسلامي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1982م.

9.  المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973م.

10.           المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، 1970. (الكتاب منسوب إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي).

11.    نوري إسماعيل: الديانة الزردشتية (مزديسنا)، منشورات دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، 1999م.

12.           هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

13.     ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973.

14.     وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959 م.

وانظر:

ـ الدكتور أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى الأولى، 2007.

- Mehrdad R. Izady: The Kurds, Crane RussakWashington, Philadelphia, London, 1992.

 

 

وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 3 – 11 -  2007

dralkhalil@hotmail.com

 

 

===========================

 

مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة الرابعة والأربعون )

 أستياجيس آخر ملوك ميديا

بين الأسطورة والواقع

 ( توفي بعد سنة 550 ق.م)

 

عشق.. ومذاهب

قال أحد الشعراء قديماً:

ومن مذهبي حبُّ الديار لأهلها    وللناس في ما يعشقون مذاهبُ

وكذا الأمر في قراءة التاريخ، فللناس في قراءته مذاهب شتى.

فبعضهم يقرأ التاريخ من زاوية معرفية استكشافية؛ إنه يعشق الاطلاع، ويهوى البحث عن الحقائق، ويريد معرفة ما جرى على هذه الأرض من مشكلات وأحداث.

وبعضهم يقرأ التاريخ من زاوية علمية فلسفية؛ إنه يشغف بالكشف عن العوامل المباشرة وغير المباشرة في صناعة الأحداث، ويهوى الوصول إلى الدوافع  الخفية لهذا الحدث أو ذاك، ويسعى إلى الربط بين الأسباب والنتائج، وتحديد المسارات الكبرى لمسيرة الأمم وتوجّهاتها.

وبعضهم يقرأ التاريخ من زاوية اتعاظية أخلاقية، إنه يريد معرفة ما مارسه الأقدمون من الإيجابيات والسلبيات، والمنافع والمضار، وما أنجزه الأخيار وارتكبه الأشرار، ليخرج من كل ذلك بدروس وعِبَر عظات.

وبعضهم يقرأ التاريخ بحثاً عن هوية شُوّهت، وجذور طُمست، وجغرافيا نُهبت، وثقافة اغتيلت، وحقوق سُلبت، وتصحيحاً لحقائق حُوّلت إلى أباطيل، وفضحاً لجرائم عُدّت أمجاداً، وتصويباً لمدنَّسات أُنزلت منزلة المقدَّسات.

وبعضهم يقرأ التاريخ من زاوية نرجسية عنصرية، فيبحث عن كل ما يتعلق بقبيلته أو بقومه أو بدينه أو بمذهبه، حتى إذا فاز ببعض ما يريد شرع ينفخ فيه، فيكبّره ويعملقه، ويجمّله ويزخرفه، ويعمد في الوقت نفسه إلى تواريخ الآخرين، فيطمس كل حسنة، ويغيّب كل فضيلة، ويقزّم كل ما يعلي من شأنهم؛ لماذا؟ لأنه لا يطيق وجود الآخرين إلا إذا كان لهم سيداً مطاعاً، وكانوا له عبيداً وأتباعاً.

وبعضهم يقرأ التاريخ من زاوية الذهنية الإمبراطورية التي نشأ عليها، إنه شغف بالأمجاد العظمى، مهووس باجترار أحداث سُفكت فيها الدماء، وقُطعت فيه الرقاب، ويطيب له أن يبارك العهود التي كان فيها أجداده يمتشقون السيوف، وينقضّون على الشعوب الأخرى، فيحتلون البلاد، ويقهرون العباد، وينهبون الثروات، ويستأثرون بالخيرات، ويذيقون الآخرين أنواع البلاء والنكبات.

عصور ولّت!

وأحسب من جانبي أن أفضل قراءة للتاريخ هي تلك التي تجمع بين حب الاطلاع، واستكشاف المجهول، ومعرفة الأحداث كما هي، وتمييز الإيجابيات من السلبيات، والمنافع من المضار، والخروج من كل ذلك بما يحفظ لكل شعب كرامته، ولكل أمة هويتها، ولكل ثقافة نكهتها، ولكل جغرافيا حرمتها، بعيداً عن النزعات العنصرية، وبمعزل عن الطموحات الإمبراطورية، وبما يرسّخ علاقات المودة بين الشعوب، ويقيم الجسور بين الأمم والثقافات، ويربّي الأجيال على رؤية إنسانية واقعية، فيها حرص على الآخر بدل التنكيل به وإلغائه.

أما عصر قعقعة السيوف، وصهيل الخيول، وتجنيد المرتزقة والانكشارية، واكتساح الشعوب، وتشييد الإمبراطوريات القومية أو الدينية أو المذهبية، فقد ولّى، ولم يعد الوعي البشري في القرن الحادي والعشرين يطيق هذه الأحلام الوبائية النرجسية، أجل، إن الأمجاد الوحيدة الممكنة في عصرنا هذا هي أمجاد العلم والمعرفة والحضارة، أمجاد الانتقال بالشعوب من ظلمات التخلف إلى إشراقات التقدم، ومن عذابات الفقر والشقاء بأنواعه إلى زرع المسرة في قلوب المعذَّبين، ورسم الابتسامات على وجوه المسحوقين.

أقول هذا لأني اكتشفت، من خلال قراءتي تاريخ غربي آسيا، حقيقة هي في الغاية من المرارة، ملخّصها أننا- نحن شعوب هذه المنطقة فرساً وعرباً وكرداً  وأرمناً وتركاً وكلداناً وسرياناً وآشوريين ومندائيين- خرجنا من انحطاط إلى انحطاط، وما كدنا نفلت من قبضة السبات الطويل في العصر الوسيط حتى وقعنا في قبضة التناحر في العصر الحديث، هذا يلغي ذاك ويعمل لإفنائه، وذاك يشوّه تاريخ الآخر ويعمل لتغييبه، وثالث يلوّح بأمجاده الإمبراطورية على حساب تقزيم الآخرين، ورابع مشغوف بتطبيق قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كُلثوم:

لنا الدنيا ومَن أضحى عليها     ونَبطِش حين نَبطِش قادرينا

وخامس لسان حاله يقول كما قال أبو فراس الحَمْداني:

ونحن أناسٌ لا توسّطََ بيننا     لنا الصدرُ دون العالَمين أو القبرُ

وسادس يختزل شعوب المنطقة كلها في قضيته، أو في قبيلته أو في قوميته، أو في دينه، أو في مذهبه، وعلى الآخرين جميعاً، شاؤوا أم أبوا، أن يكونوا طوع أمره، ورهن إشارته، وإلا فهم خونة وأعداء، وشراذم وعملاء.

عليكم بحكيم المَعَرّة!

وإني لأتساءل: تُرى ما الذي جرّ علينا كل هذا البلاء؟!

واتضح لي بعد طول تأمل أن المسألة تكمن في طريقة قراءتنا للتاريخ.

ترى من أية زاوية نقرأ – نحن المثقفين خاصة- تاريخ غربي آسيا؟

هل نقرأه من زاوية عنصرية إمبراطورية، أم من زاوية معرفية أخلاقية؟

ومن هنا كنت أعتقد أنه قبل أن نعاتب ساسة الشعوب، ينبغي أن نعاتب مثقفيها، وأرى أن الساسة الذين ينفّذون الأجندات الإمبراطورية هم ضحايا للمثقفين الذين ربّوا الأجيال على الثقافات الإقصائية. إن الخطوات الصائبة في مسيرة الأمم تبدأ من أفواه المثقفين وأقلامهم أولاً، وعلى مثقفي غربي آسيا الانتباه إلى الأدوار الخطيرة التي يقومون بها، والتي يمكن أن يقوموا بها مستقبلاً، لتخليص شعوبنا من التناحرات والتناقضات والاصطفافات العدائية والشكوك والاتهامات.

وأقترح على مثقفي غربي آسيا أن يضعوا رؤية كل من عمرو بن كلثوم وأبي فراس النرجسية جانباً، فالدنيا يمكن أن تكون لنا ولغيرنا، والوجاهة يمكن أن نتقاسمها مع الآخرين، والأمجاد يمكن أن تكون لنا جميعاً، وما أروع قول ذلك الشاعر:

لَعَمْرُكَ ما ضاقت بلادٌ بأهلها      ولكنّ أخـلاقَ الرجالِ تَضيقُ

إن مثقفي غربي آسيا بحاجة ماسة إلى الأخذ برؤية ذلك السوري الأصيل، حكيم المعرّة، أبي العلاء، المثقف الغرب آسيوي العملاق، وابن الإنسانية البارّ، وصحيح أنه كان أعمى البصر، لكنه بثقافته الموسوعية، وبروحه الإنسانية، كان مشرق البصيرة، رحيب الرؤية، عميق الفكرة، أليس هو القائل:

ولو أني حُبِيتُ الخُلـدَ فرداً     لما أحببتُ بالخلـد انفرادا

فلا هطلتْ عليّ ولا بأرضي     سحائبُ ليس تَنتظمُ البلادا

فهلاّ اقتدينا- نحن معشر مثقفي غربي آسيا- بهذا الرجل في رؤيته؟!

عَود على بَدء

ولا أدري لماذا قفزت هذه الخواطر إلى ذهني وأنا بصدد الكتابة عن أستياجيس الميدي؟ ترى ألأني سأستعرض تاريخ أحد قادة الإمبراطوريات القديمة في غربي آسيا، وكان يقود دولة لأشهر جدود الكرد في القرن السادس قبل الميلاد؟ أم أنه الخوف اللاشعوري من الوقوع في أسر الذهنية الإمبراطورية الذي يقع فيه بعض مثقفي غربي آسيا؟ أم هو النفور العفوي الدفين في أعماقي من كل نزعة إمبراطورية، باعتبار أنه لا إمبراطورية من غير عنف؟

ومهما يكن فإن نصيب الكرد من العهود الامبراطورية في غربي آسيا، منذ الألف الأول قبل الميلاد وإلى هذا اليوم، أي طوال ثلاثة آلاف عام، لا يكاد يصل إلى قرن ونصف من الزمان، وصحيح أن الدولة الميدية دامت حوالي (128) سنة كما يذكر هيرودوت (تاريخ هيرودوت، ص 93)، لكن خلال ذلك حكم الغزاة السكيث ميديا والبلاد المجاورة مدة (28) سنة، ومن المئة سنة الباقية حكم الميد حكماً إمبراطورياً حوالي ستين سنة فقط، بين عامي (612 – 550 ق.م)، وفي العهد الأيوبي حكم الكرد حكماً إمبراطورياً بين عامي (1175 – 1250 م)، أي حوالي خمسة وسبعين عاماً فقط.

وكان أستياجيس آخر ملوك ميديا الإمبراطورية.

فمن هو الرجل؟

وكيف كان سقوط دولة ميديا؟

أستياجيس ملكاً

مر في هذه السلسلة أن الميديين كانوا مرغمين على التبعية للإمبراطورية الآشورية صاحبة البأس في غربي آسيا، وأن الزعيم الميدي دياكو Deioces(يسمى ديوكو Dioku، وكيقباد أيضاً، توفي حوالي سنة 675 أو 655 ق.م) كان أول من لملم شتات القبائل الميدية، وانتقل بها من الذهنية القبلية إلى ذهنية الأمة، وبنى العاصمة إكباَتانا (هَمَذان)، وبنى قصراً ملكياً، ووضع التشريعات والمراسيم التي تنظم أمور المجتمع، وأعلن بعدئذ الثورة على السلطات الآشورية، فخسر الجولة، ونُفي إلى حماه في سوريا مع عدد كبير من حاشيته، ثم أعيد إلى ميديا بعد حين.

ومر أيضاً أن فراورتيس Phraortes ابن دياكو، ويقال له خشتاريتي (خشاثريتا) khshathrita أيضاً، تولّى الحكم بعد والده، بين (674 - 653 ق.م)، أو بين (655 – 633 ق.م)، وامتاز هذا الزعيم بالحنكة، فوحّد القبائل الميدية ثانية، وأعاد كيان الدولة إلى سابق عهده من حيث القوة والاستقلال، وأخضع لسلطانه بعض القبـائل الآريانية، وأهمها السميريون Cimmerians والسكيث Scythians، والمانيين  Manens، والأورارتو Ourartens، والفرس، ورفض دفع الجزية للدولة الآشورية، وهبّ بعدئذ لمقارعتها، وكاد أن ينتصر عليها، لولا أن الغزاة السكيث استغلوا غيابه عن دولته، وهاجموا ميديا واحتلوها، فاضطر إلى الانسحاب.

وبعد فراورتيس حكم ابنه أُوفاخاشترا Ouvakhshatra، المشهور باسم كي أخسار Cyaxares أو كَيْ خُسْرو kai-Khosru، بين (633 – 584 ق.م)، أو بين (625 – 593 أو 595 ق.م)- ويسمى في بعض المصادر (اكسركيس) و(سياشاريس)، وهو أقوى ملوك ميديا، وعلى يده تحررت ميديا من حكم السكيث، وبجهوده سقطت الإمبراطورية الآشورية، وانتقلت ميديا في عهده من كونها دولة عادية إلى كونها إمبراطورية كبرى، تتقاسم أراضي غربي آسيا مع الدولة البابلية في بلاد الرافدين، والدولة الليدية في آسيا الصغرى (غربي تركيا)، والدولة المصرية، وخاض حرباً ضروساًَ ضد الجار الغربي الشمالي حاكم ليديا، ثم تمّ الصلح بين الطرفين، وزوّج الملك الميدي ابنه استياج من ابنة آلياتس Alyates ملك ليديا، واستتبّ السلام في غربي آسيا.

وبعد وفـاة كي أخسار سنة (585 ق.م) خلفه على العرش ابنه أستياج، ويعرف باسم أستياگز (أستياجيس) Astuages، فحكم بين (584 – 549 ق.م)، واسمه بالآريانية القديمة (أَرِشْتِفاگا) Arishti vaiga أو  أي (رامي الرمـح)، وهو اسم كردي معنًى ومبنًى، ويعني (الذي يرمي الرمح) é recht Avaije. وذكر مهرداد إيزادي أن أستياگز هو آزهي دهاك (آژي دهاك)  Azhi Daihk، الذي عرف في المصادر الإسلامية باسم الطاغية (الضحّاك)، ولعله استقى هذه المعلومة من المصادر الفارسية، وهي بشكل عام غير موضوعية وغير أمينة فيما يتعلق بملوك ميديا.

والحقيقة أن تعدد أسماء ملوك غربي آسيا في المصادر التاريخية يعود، في الدرجة الأولى، إلى الخلط بين الأسماء والألقاب، فالاسم واحد، لكن الألقاب متعددة، وهذه عادة شغف بها الملوك وكبار الشخصيات في الشرق بشكل عام، وحسبنا أن نتذكر في هذا المجال ألقاب الخلفاء والوزراء وحتى بعض كبار العلماء في العهود الإسلامية، فقلّة من الناس تعرف أن الخليفة العباسي المعتصم بالله اسمه (إسحاق)، وأن اسم الناصر صلاح الدين هو (يوسف)، وأقرب مثال على ذلك تلك الألقاب العديدة التي عُرف بها آخر ملوك إيران في العصر الحديث محمد رضا بهلوي، إنه اتخذ لقب (شاهنشاه= ملك الملوك)، ثم لقب (أُوريا مِهر= شمس الآريين).

أخطاء قاتلة

وقد ورث أستياجيس دولة قوية واسعة الأرجاء، راسخة الأركان، وافرة الخيرات، تتقاسم مع حليفتها الدولة البابلية البلاد الممتدة من الخليج العربي شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً، بما فيها فارس وكردستان وأذربيجان وأرمينيا وشمالي سوريا، وكان من المفروض أن يزيد هذا الملك دولته قوة على قوة، ويحافظ على ممتلكاتها، ويعتني بازدهارها، لكن جرت الأمور على عكس ذلك، وإليكم ما ارتكبه أستياجيس من أخطاء، كانت سبباً في سقوط الدولة الميدية:

·  أولاً: يبدو من سيرة أستياجيس أنه لم يكن ملكاً حازماً كما كان والده وجده، ولم يكن قدوة لشعبه في العدل ونكران الذات، وعلى العكس من اسمه (رامي الرمح)  كان عازفاً عن قيادة الجيوش، وخوض الحروب، باحثاً عن الترف ورخاء العيش بين جدران القصور الملكية، مستغلاً الثراء الهائل الذي كانت تنعم به الدولة الميدية، حتى إن ديورانت سمّاه " طاغية أكباتانا المخنّث ".

·  ثانياً: كسر أستياجيس قاعدة دستورية كانت في منتهى الأهمية بالنسبة إلى المجتمع الميدي؛ أقصد الخروج على مبدأ (الجماعية) في قيادة دفّة الحكم، والانحياز إلى الاستبداد، وفرض الحكم المركزي المباشر، فقد كان الجد الأعلى للأسرة الميدية الحاكمة دياكو خبيراً بسيكولوجيا الجبال المتأصلة في كينونة الشعب الميدي، فنأى بنفسه عن الاستبداد التسلّطي، وأقام دولة لامركزية تعددية، يتمتع فيه زعماء الفروع الميدية وزعماء الشعوب التابعة للميديين بالمشاركة في رسم السياسات العليا وتنفيذها، وبذلك كانت الدولة تحتفظ بتماسكها وحيويتها.

·  ثالثاً: أخلّ أستياجيس بقاعدة ستراتيجية أخرى كان والده وأجداده متمسّكين بها، حريصين عليها؛ أقصد إقامة التحالفات الإقليمية الكفيلة بتحقيق التوازن بين القوى الإقليمية الرئيسية، وكانت الدولة البابلية أقوى حلفاء الدولة الميدية، بل لولا التحالف بين الملك الميدي كي خسرو، والملك البابلي نبوبولاصر، لما استطاع كي خسرو إسقاط الدولة الآشورية، ولما تحررت شعوب غربي آسيا من القهر الآشوري الشرس، وأكبر أخطاء أستياجيس أنه دخل في صراع ضد الدولة البابلية، وشنّ الهجوم عليها، وحوّلها من حليف حميم إلى عدو ناقم يتربّص به الدوائر، ويترقّب أقرب فرصة للانتقام منه، هذا إضافة إلى أنه كان قد أثار حفيظة حكّام أرمينيا التابعين للدولة الميدية.   

·  رابعاً: تقول الحكمة القديمة: " الناس على دين ملوكهم "، وهذا ما فعله كبار رجال الدولة في ميديا، إنهم نهجوا نهج ملكهم في الترف والبذخ والركون إلى حياة الرفاهية والدَّعة، والبحث عن لذائذ العيش، مستغلين وفرة الثراء الذي كان ينعم به المجتمع الميدي، ويصف ديورانت جانباً من ذلك الترف قائلاً:

" " على أن انحطاط الميديين كان أسرع من نهضتهم، فقد أثبت أستياجس، الذي خلف أباه سياخسار، ما أثبته التاريخ من قبل، وهو أن الملكية مغامرة لا تؤمن مغبّتها، وأن الذكاء المفرط والجنون يتقاربان كل القرب في وراثة المُلك. لقد ورث المُلك وهو مطمئن القلب هادئ البال، وأخذ يستمتع بما ورث، وحذت الأمة حذو مليكها، وفنيت أخلاقها الجافة الشديدة، وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، ذلك أن الثروة قد أسرعت إليها إسراعاً لم يستطع أهلها معه أن يحسنوا استخدامها، وأصبحت الطبقات العليا أسيرة الأنماط الحديثة والحياة المترفة، فلبس الرجال السراويل المطرّزة الموشّاة، وتجمّلت النساء بالأصباغ والحلي، بل إن الخيل نفسها كثيراً ما كانت تزيّن بالذهب، وبعد أن كان هؤلاء الرعاة البسطاء يجدون السرور كل السرور في أن تحملهم مركبات بدائية ذات دواليب خشنة غليظة قطعت من سوق الأشجار، أصبحوا الآن يركبون عربات فاخرة عظيمة الكلفة، ينتقلون بها من وليمة إلى وليمة ". [ول ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج1، ص 401 – 402].

·  خامساً: كان الانصراف إلى الترف في العيش، والبذخ في الإنفاق، من أهم أسباب ظهور التناقضات الداخلية في قمة هرم السلطة الميدية، ففي أجواء البذخ والترف تنمو النزعات الأنانية، وتزدهر الوصولية، ويظهر التكالب على الثروة، والاستئثار بالمناصب، وإسناد المناصب العليا إلى رجال غير أكفاء.

·  سادساً: وفي مُناخات سلطوية تسلّطية كهذه تتفاقم المحسوبية، ويتراجع العدل، وتتعمق الفوارق بين طبقات المجتمع، وتكثر المظالم، وبدل أن يكون الشعب صفاً واحداً في مواجهة الأحداث الداخلية والخارجية، ينقسم إلى فريقين: فريق متسلّط يحتكر الحكم والثروة، ويستعمل القهر للحفاظ على مكاسبه، وفريق يعمل للخلاص من القهر بكل وسيلة.

·  سابعاً: إن من يجرؤ على ظلم الأقارب يكون أكثر جرأة على ظلم الأباعد، وأحسب أن أستياجيس تحوّل يوماً بعد يوم إلى (طاغية)، همه الأكبر أن تتمركز السلطة بين يديه، وتعنو له الوجوه، وتخضع له الرقاب، وكان من الطبيعي أن يفيض ظلمه، فيصل إلى الشعوب التي كانت تخضع للدولة الميدية، وكان الفرس أقوى تلك الشعوب حينذاك.

سقوط الدولة الميدية

وفي الوقت الذي كان الملك الميدي منشغلاً بالترف من جانب، وبممارسة الاستبداد والسياسات الطائشة من جانب، كانت بلاد فارس التابعة للدولة الميدية، والواقعة جنوبي شرقي ميديا، تشهد نهوضاً وازدهاراً كبيراً، بقيادة حاكمها قمبيز بن كورش الأخميني، وصحيح أن قمبيز كان تابعاً في سلطته للملك الميدي، لكنه يبدو أنه كان يتمتع بمزايا قيادية رفيعة، حتى إنه أستياجيس زوّجه ابنته (ماندانا) مع ملاحظة عراقة اسم (مَنْد/ماند) في التراث الكردي، ودلالته الدينية، وهو باق إلى الآن في التراث الكردي الأيزدي، ولعل أستياجيس فعل ذلك لكسب ولاء الحاكم الفارسي اللامع، وتحقيق التوازن ضد كبار القادة الميديين الناقمين على سياساته، والذين كانوا ينافسونه في هرم السلطة.

وولدت ماندانا ابنها كورش الثاني من زوجها الفارسي قمبيز، ويسمى كورش Kursh: قورش، وسيروس Cyrius، وكي خسرو الكبير، وقد تولّى الحكم بعد والده قمبيز، وأعلن الثورة الثورة في فارس (پارس) سـنة (552 ق.م)، واستثمر الظروف الإقليمية حينذاك، فأقام تحالفاً وثيقاً مـع الملك البابلي نابونيد ضد الميديين، وكان أستياگز قد هاجم بابل قبل ذلك، وجعل الحليف البابلي يتحوّل إلى عدو كما مر، كما كان كورش الثاني صديق ديگران الأول ابن يروانت حاكم أرمينيا التي كانت تحت النفوذ الميدي، وعندما قرر الثورة على الميديين أقام تحالفاً وثيقاً مع يروانت أيضاً (25).

وكان كورش قد أحكم الخناق ضد جده لأمه أستياجيس، بأن عقد تحالفاًَ سرياً مع أبرز كبار قادة الميد في إكباتانا، وأشهر أولئك القادة هارپاج  harpage(هارپاجوس)، وأحسب أن اسمه الميدي بصيغته الكردية هو آر پاك Ar pak ، ويعني (النار الطاهرة)، أو (الناري المبارك)، أما اللازمة (س) فهي من إضافات مؤرخي اليونان كما هو معلوم، وعلم أستياجيس بما دُبّر ضده، فحشد قواته، وزحف كورش بجيشه من فارس على ميديا، واشتبك مع جيش جده أستياجس، وسرعان ما خذل بعض كبار القادة الميد مع جنودهم الملك الميدي، فحاقت الهزيمة بالملك الميدي، وقبض عليه كورش، وألزمه بالإقامة الجبرية في أحد قصوره، وصارت إكباتانا عاصمة للدولة الأخمينية الجديدة سنة (550 ق.م) مع اختلاف في تحديد تاريخ السقوط.

تفسير أسطوري

وقد أورد هيرودوت أحداث سقوط الدولة الميدية بطريقة يهيمن عليها التفسير الأسطوري للتاريخ، وهيرودوت هو من سكان هاليكارناسوس، إحدى بلدات جنوب غربي آسيا الصغرى (تركيا حالياً)، ولد سنة (490، أو 480 ق.م)، وتوفي نحو سنة (436 أو 425 ق.م)، وقد بدأ رحلاته وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، أي في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، وبعد مرور قرن على سقوط الدولة الميدية، ودامت رحلاته (17) عاماً، زار خلالها اليونان، وشمالي إفريقيا، ومصر، وسوريا الكبرى، وبلاد الرافدين، وبلاد القوقاز، وصحيح أنه أول المؤرخين اليونان وأعظمهم، لكنه كان ينقل كل ما يسمعه وما يقرأه، بما فيه من الخرافات والأساطير، ونادراً ما تجده يقف منها موقف الناقد المتفحّص الحازم.

ويتجلّى دور الأسطورة بشكل واضح في أحاديثه حول سقوط الملك الميدي أستياجيس، والأمر الذي يثير الشك أكثر أنه اعتمد في رواية الأحداث المتعلقة بسقوط الدولة الميدية على الرواة الفرس، ولا نجده ينقل أي خبراً عن أي شخص ميدي في هذا المجال (تاريخ هيرودوت، ص 77)، وإليكم خلاصة ما رواه:

 رأى استياجيس ذات ليلة حلماً غريباً متعلقاً بابنته ماندانا، وفسر له الكهنة الماج (المجوس) ذلك الحلم بأن ابنته ستتزوّج، وستلد طفلاً يزيحه عن الملك ويحل محله. وبما أن أستياجيس كان يتوجّس شراً من كبار الزعماء الميديين المنافسين له، والمماثلين له في العراقة والوجاهة، قرر ألا يزوّج ابنته من ميدي، وزوّجها من الحاكم الفارسي قمبيز، وولدت ماندانا كورش، ورأى أستياجيس حلماً آخر، فسرّه له الكهنة على النحو السابق، وأكّدوا له أن حفيده الفارسي سيقضي على سلطته.

ونتيجة لذلك التفسير قرر أستياجيس الخلاص من الطفل، فاستدعى ابنته من مدينة أنشان عاصمة إقليم فارس، ومعها طفلها، ثم استدعى الزعيم الميدي المقرّب منه جداً هارپاك، وأفضى إليه بالسر، وطلب منه العمل لقتل الطفل، وإذا تراخى في الأمر ولم ينفّذه سيلقى عقوبة قاسية، وبما أن الطفل ينتسب إلى الدم الملكي عبر أمه ماندانا لم يجرؤ هارپاك على قتله بيده، فطلب من راعيه مِثرادات (عطاء الإله مثرا) أن يأخذ الطفل، ويضعه في مكان جبلي بعيد موحش، لتفترسه السباع، ثم يأتيه بما بقي من أشلائه.

لكن جمال الطفل سحر زوجة الراعي، وكانت قد ولدت طفلاً عليلاً، ما لبث أن مات، فألحّت على زوجها أن يأخذ طفلهما الميت، ويضعه في الجبل، لتنهشه السباع، ثم يأخذ بقاياه لهارپاك على أنها أشلاء كورش، وأما كورش فسيحمل اسم طفلهما الميت، ويظل حياً باعتباره ابن الراعي، وأخذ ميثرادات باقتراح زوجته، وأوهم هارپاك بأن الطفل كورش مات، ونقل هارپاك بدوره الخبر إلى استياجيس، فطابت نفسه، وزال الخطر الذي كان يتهدده.

لكن ما لبث الطفل كورش أن بلغ مرحلة الصبا، وصار يتصرف في القرية تصرّفات أبناء الملوك، ويقوم في الألعاب بدور الملك، ويعاقب أبناء الوجهاء إذا خرجوا عن طاعته، فضاق هؤلاء بابن الراعي ذرعاً، وشكوا أمره إلى الملك، فطلب الملك من الراعي ميثرادات الحضور إلى القصر مصحوباً بابنه، وحضر الراعي، ولمح الملك في الصبي الشبه بكورش، فضغط على الراعي، وهدده بالتعذيب، فباح الراعي بالحقيقة، فاحتجز الملك الطفل في القصر، واستشار كبار الكهنة في أمره، فرأوا أن الخطر مر بسلام، فالصبي قد قام بدور الملك في القرية، وهذا ما كان الحلم يشير إليه، ولا داعي إلى قتل كورش.

واقتنع أستياجيس بتفسير الكهنة، فأبقى على كورش، لكنه قرر الانتقام من هارپاك الذي لم ينفّذ أمره بدقة، فطلب منه إحضار ابنه إلى القصر، كي يكون صاحباً للصبي كورش، ولما أحضر هارپاك ابنه أمر الملك بقتل الصبي سراً، ثم أولم وليمة ودعا إليها هارپاك، فتناول هارپاك ما لذ من اللحم مسلوقاً ومشوياً، وبعد أن شبع أعلمه الملك أنه كان يأكل لحم ولده، عقاباً له على عدم تنفيذ ما أوكله إليه بشأن قتل الطفل كروش.

لكن هارپاك كان حكيماً، فلم يظهر انزعاجه، بل أظهر رضاه بما فعله الملك، وظل مقرّباً منه، ويطلع على أسراره، لكنه قرر منذ ذلك اليوم أن يطيح بأستياجيس، ويقضي عليها انتقاماً منه، فشرع يثير الزعماء الميد سراً ضده، ويشوّه صورته بين الجماهير، وما اكتفى بذلك، بل اتصل سراً بكورش وكان قد صار حاكماً على فارس بعد أبيه، وذكر له المؤامرة التي كان جده أستياجيس قد حاكها لقتله، وحرص هارپاك على إنقاذه، والعقاب المريع الذي حلّ به نتيجة ذلك، وحرّضه على إعلان الثورة ضد أستياجيس، وطمأنه بأنه قد جعل المناخ في أكباتانا مناسباً للخلاص منه، وكان الفرس يتململون من سيطرة الميد عليهم، ويترقّبون فرصة الخلاص منهم، فتشجّع كورش، وأعلن الثورة على أستياج. (تاريخ هيرودوت، ص 82 – 92).

وعلم أستياجيس بثورة كورش، فأرسل له رسالة تهديد، واستعد في الوقت نفسه للقضاء على الثورة، قال هيرودوت في ذلك:

"  فما كان منه إلا أن عبّأ الميديين، وحشد له الحشود، ولكن الفطنة خانته يومذاك، فجهل هارپاجوس على رأس قواته، ويبدو أنه نسي ما ارتكبه في حقه قبل حين، وكان من أثر ذلك العمل أن قلة من جنوده، لم تشترك في المؤامرة، هي التي صمدت في ساحة المعركة، حين اشتبك الجيشان ودار القتال، وأما البقية فكانوا بين فارّ إلى معسكر الفرس، ومتكلّف يصطنع القتال اصطناعاً، ليهرب بعدئذ من المعركة " (تاريخ هيرودوت، ص 92 – 93).

ورغم الهزيمة التي حاقت بالجيش الميدي لم يفقد استياجيس رباطة جأشه، "فأقسم ألا يتيح لقورش فرصة النصر السهل، وقام بتسليح من بقي في المدينة من الميديين، كبيرهم وصغيرهم، بعدما عمد إلى إعدام الكهنة الذي أشاروا عليه بإطلاق كورش، بالخازوق، ولقد انتهى بسقوط جنوده في ساحة القتال، بينما حوصر هو واستسلم". (تاريخ هيرودوت، ص 93). 

وكان قد استمر في السلطة خمسة وثلاثين عاماً.

قال هيرودوت:  

" ولما تم أسر أستياجيس جاءه هارباجوس مقرّعاً مندّداً، ينزل به أشدّ الإهانات، وهو يذكّره بالعشاء الذي قدّمه له، وكان من لحم ابنه، وسأله عن حاله بعدما غدا عبداً، وقد كان ملكاً قبل برهة، فحدج أستياجيس بنظره، وردّ عليه سؤاله بسؤال إن كان هارباجوس شريكاً لقورش فيما فعل؟ فأجابه بأن له قطعاً ضلعاً فيما وقع، فهو الذي كتب لقورش يحضّه على الثورة. فقال له أستياجيس: إذنْ، فأنت لست الأشدّ لؤماً بين البشر وحسب، بل أكثر الرجال غباء؛ فإذا كان هذا من تدبيرك حقاً، لكان الأجدر أن تكون أنت الملك، ولكنك أعطيت السلطان غيرَك، واللؤمُ فيك جليّ، لأنك بسبب ذلك العشاء حملت الميديين إلى العبودية، وإذا كان لا بد لك من أن تسلّم العرش لآخر غيرك، لكان الأجدر بك أن تقدّم هذه الجائزة لميدي، بدلاً من فارسي، لكن الحال القائمة الآن هي أن الميديين الأبرياء من كل جنحة غدوا عبيداً بعدما كانوا أسياداً، وأصبح الفرس سادة عليهم، بعد ما كانوا عبيداً عندهم". (تاريخ هيرودوت، ص 93).    

وأحسب أن رواية هيردوت هذه تتناسب مع تعطّش القدماء إلى البحث عما هو خارق وراء الأحداث الكبرى، وإذا حللنا الأمر بعيداً عن الأحلام والخوارق اتضح لنا أن طغيان أستياجيس من جانب، وحماقته في معالجة الأمور، وحدوث الانقسامات في قمة السلطة الميدية، ورغبة الشعوب الأخرى، ولا سيما الشعب الفارسي، في التحرر من السيطرة الميدية، وتوافر قيادة فارسية ذكية، هي عوامل مهمة تفاعلت، وأوصلت الدولة الميدية إلى تلك النهاية سنة (550 ق.م) أو سنة (546 ق.م) ،

 

المراجع

1.    الدكتور أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2007 م.

2.  أرنولد توينبي: مختصر لدراسة التاريخ، ترجمة فؤاد محمد شبل، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، الطبعة الأولى، 1964م، 2/ 302.

3.    جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ترجمة أحمد فخري، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1955م.

4.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.

5.    طه باقر، فوزي رشيد، رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، 1979م.

6.    مروان المدوّر: الأرمن عبر التاريخ، دار مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م، ص 119.

7.    Mehrdad Izady: The Kurds, p. 34.  

8.    هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

9. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973،  المجلد الأول، الجزء الثاني.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 15 – 10 -  2007

dralkhalil@hotmail.com

 

 

====================

 

مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة الثالثة والأربعون )

 كيخسرو الميدي: محرر غربي آسيا

 ( توفي سنة 593 ق.م)

 

عنف إمبراطوري

الذهنية الإمبراطورية والعنف صديقان حميمان.

وحيثما وجدتَ إمبراطورية فابحث عن العنف تحت عباءتها.

وما من إمبراطورية قامت إلا مارست قدراً كبيراً من العنف، وكان ذلك العنف يتناسب طرداً مع الثقافة السادية التي تربّى عليها الحكّام الإمبراطوريون من جانب، ومع مقدار الرفض الذي كانت تعبّر عنه الشعوب المقهورة على شكل تمرّدات وثورات من جانب آخر.

واقتران العنف بالذهنية الإمبراطورية أمر طبيعي جداً؛ لأن الشعب الذي يعتنق عقيدة غزواتية توسّعية، ويسعى لتأسيس إمبراطورية على أسس دينية أو قومية، سيجد نفسه مضطراً إلى الاعتداء على الشعوب الأخرى سواء أكانت مجاورة له أم بعيدة عنه، ومن الطبيعي أن تلجأ الشعوب المعتدى عليها إلى مقاومة الجهة الإمبراطورية، وتدافع عن أوطانها وهوياتها، ومن الطبيعي أيضاً أن تلجأ الجهة الإمبراطورية، وقد تشبّعت بأقصى ما يمكن من مبادئ العنف ونيّات التدمير، إلى وضع مبادئ الرحمة جانباً، والبطش بتلك الشعوب، وإخضاعها بالحديد والنار.

ومنذ خمسة آلاف كانت شعوب غربي آسيا ضحية العنف الإمبراطوري، وكانت تلك الإمبراطوريات بهوية شرقية تارة، وبهوية أوربية تارة أخرى، فكان العنف شرقياً أصيلاً حيناً، وكان غربياً دخيلاً حيناً آخر؛ وفي الحالين كانت رؤوس البشر تبدو بالنسبة إلى الإمبراطوريين على أنها ثمار يانعة حان أوان قطافها، ألم يقل الحجّاج بن يوسف الثَّقَفي ذات مرة: " إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لَصاحبها "؟!  والغريب أنه كان للإمبراطوريات الشرقية قصب السبق في ميدان صناعة العنف المبرمج الممنهج، والغريب أيضاً أن العنف الإمبراطوري الشرقي المبرمج الممنهج كان يستند على الدوام إلى مرجعية دينية، إنه كانت عنفاً يتمّ باسم الله، وفي سبيل الله، وبطبيعة الحال كان صنّاع كل إمبراطوريات يتصوّرون (الله) - عزّ شأنه- بالصورة العنيفة التي تتناسب مع نزعتهم السادية وجشعهم الإمبراطوري.

ويعلم كل قارئ لتاريخ الشرق أن الإمبراطورية المغولية، بقيادة جنكيزخان وأبنائه في القرن الثالث عشر الميلادي، كانت الإمبراطورية الأكثر شراسة، والأشد عنفاً، والأقسى تدميراً، إزاء الشعوب المقهورة، ليس لأنها كانت تهدف إلى احتلال الأوطان، ونهب ثروات الشعوب فقط، وإنما أيضاً لأنها كانت تتخذ من الإرهاب عقيدة، ومن البطش بالشعوب رسالة إلهية؛ بحسب ما أوحى به الشامان الأكبر إلى جنكيز خان وخلفائه، ولذلك كان القادة المغول، خلال احتلالهم لمدينة ما، يفرضون على كل مقاتل مغولي أن يأتي برأس بشري، أو بعدة رؤوس، ثم يقيمون من تلك الرؤوس أهرامات تكون فيها الوجوه جميعاً إلى الخارج، ولا تسألوا عن متعة المغول قادةً وجنداً وهم يتأملون لوحاتهم (الرائعة!) تلك.

رؤوس تُقطع .. وجلود تُسلخ!

على أن شعوب غربي آسيا ابتُليت قبل الميلاد بحوالي ألف وخمسمئة سنة بإمبراطورية شرقية أخرى، لم يكن قادتها يقلّون شراسة وعنفاً وبطشاً عن قادة الإمبراطورية المغولية؛ أقصد الإمبراطورية الآشورية، وكما هي العادة في الشرق كان الزعيم الإمبراطوري الآشوري يستند إلى مرجعية دينية في ممارسة عنفه الإمبراطوري، فكان يقدّم نفسه لشعبه وللعالم على أنه ربيب الله وحبيبه، وأن الله منحه صكاً مقدساً أبدياً مفتوحاً، يباح له، بموجب ذلك الصك، أن يغزو الجهات الأربع، وينهب ويسلب ويسبي ويأسر ويقتل ويدمّر بتكليف من (الله) وفي سبيل (الله).

ومنذ مدة قصيرة وقع بين يدي كتاب للباحث البرت كيرك كريسون، بعنوان (الكتابات الملكية لآشور ناصربال الثاني)، يتضمن ترجمة للكتابات الملكية التي دُوّنت في عهد هذا الملك، ويعدّ آشور ناصربال الثاني (884 – 859 ق.م) واحداً من أقوى ملوك آشور، وكان يسيطر على بلاد الرافدين وكردستان وسوريا الكبرى، وإليكم بعض (إبداعات!) هذا الزعيم الإمبراطوري في مجال العنف.

·   من الألقاب الملكية التي خصّ بها نفسه: " أنا آشور ناصربال الأميرُ المطيع الذي يعبد الآلهة العظيمة، أنا التنين الضاري، غازي المدن والجبال كلها، ملكُ الملوك، وفارضُ الحصار على المتعنّت، المتوّجُ بالبهاء، والباسلُ في المعركة، البطلُ الشامخ، عديمُ الرحمة، المثيرُ للصراع، ... " [الكتابات الملكية، ص 22]

·  ويفخر آشور ناصربال بالمرجعية الإلهية التي يعتمدها في نزعته الإمبراطورية: " عندما دعاني آشور ربي العظيم باسمي، وجعل سيادتي مطلقة على ملوك الجهات الأربع، وجعل اسمي العظيم هو الأعلى، وضع سلاحه الذي لا يعرف الرحمة في ذراعيّ الملكيتين، وأمرني بحزم بأن أحكم وأخضع وأدير البلاد والمرتفعات الشامخة ". [الكتابات الملكية، ص 24].

·  ويقول في وصف إحدى غزواته لجبال كردستان: " وأعملتُ السيف في تقطيع أجزاء 200 من رجالهم المقاتلين، وسقت حشوداً من الأسرى وكأنهم قطعان غنم، وبدمائهم صبغت الجبل أحمر مثل صوف أحمر ". [الكتابات الملكية، ص 25].

·  ويقول في غزوة أخرى له: " فأعملتُ السيوف بتقطيع 260 جندياً من مقاتليهم، وقطعت رؤوسهم وجعلت منها كومة، ... وسوّيت مع الأرض مدنهم، ودمّرتها وأحرقتها؛ تلك المدن الواقعة في المرتفعات الشاهقة، ثم نزلتِ القوات الكثيرة التي هربت من أسلحتي إليّ، وركعت عند قدمي، ففرضتُ عليهم الأتاوة وعمل السخرة، وسلخت بوبو بن بابوا حاكم مدينة نيشتون حياً في مدينة أربيل، وعلّقت جلده على السور ". [الكتابات الملكية، ص 25-26].

·  وفي غزوة له إلى منطقة نهر الخابور في كردستان يقول: " وبتأييد من آشور والإله أدد الإلهين العظيمين اللذين جعلا سيادتي مطلقة، حشدت عجلاتي وجندي، وانطلقت إلى نهر الخابور، ... وجعلت آزي- إيلي حاكماً يمثّلني عليهم، وجعلت كومة من الرؤوس أمام بوّابته، وسلخت جلود النبلاء الذين تمردوا عليّ، ثم نشرت جلودهم على الكومة، فبعضها في داخل الكومة، وبعضها علّقتها على أعواد مغروسة في الكومة، وبعضها وضعته على أعمدة حول الكومة، وأتيت بالعديد منهم إلى بلادي، فسلخت جلودهم هناك، ونشرتها على الأسوار، ... ". [الكتابات الملكية، ص 27].

وجملة القول أن مفاخر هذا الملك كلها تدور حول البلاد التي غزاها، والشعوب التي قهرها، والثروات التي سلبها، والهدايا التي سيقت إليه قسراً، والمدن التي أحرقها ودمرها، والزعماء الذي سلخ جلودهم، والأسرى الذين ساقهم كقطعان الغنم، فقتلهم أو أحرقهم أو أبقاهم لأعمال السخرة، ولم يكن آشور ناصربال فريداً في نزعة العنف الإمبراطورية هذه، وإنما كان معظم من سبقه ولحقه من ملوك آشور على هذا المنوال، وكانت حملات العنف والبطش تمتد إلى كل بقعة من بقاع غربي آسيا، بدءاً من قلب بلاد فارس شرقاً إلى مصر غرباً.

وثمة شعبان كان من قدرهما أن يتحمّلا النصيب الأكبر من عنف ملوك آشور وساديّتهم، هما الشعب البابلي في سهول بلاد الرافدين، والشعب الميدي (جدود الكرد) في جبال كردستان، ويبدو من سير الحملات الآشورية أنها كانت متوجّهة على الغالب إلى كردستان، إذ ثمة على الدوام حديث عن اجتياز الممرات الصعبة، وتسلّق الجبال الوعرة، والصعود إلى المدن الواقعة في قمم الجبال الشاهقة، وهذا أمر طبيعي، فمن السهل على الجيوش الإمبراطورية أن تسيطر على المدن الواقعة في السهول، لكن الصعوبات تبدأ مع غزو سكان الجبال، ويبدو مما ورد في كتابات ملوك آشور أن القبائل الكردية – سواء أكانت ممثلة في الميديين أم في الكردوخ- كانت أكثر ثورة على السلطات الآشورية، وكانت أكثر قدرة على مقاومتهم؛ وكان عليها من ثَمّ أن تتحمّل القسط الأكبر من انتقامهم وبطشهم.

كي خسرو  مخططاً

وقد مرّ في الحلقة الخاصة بـ (دياكو الميدي) أن الميديين كانوا يفجّرون الثورة تلو الثورة ضد ملوك آشور، فقد قاد دياكو الثورة الأولى الكبرى، لكنه أخفق، ثم تابع ابنه فراورتيس مسيرة الكفاح ضد القهر الآشوري طوال (22) عاماً، ثم خلفه على الحكم ابنه كي أخسار Cyaxares أو كَيْ خُسْرو kai-Khosru، -حكم بين (633 – 584 ق.م)، أو بين (625 – 593 ق.م)- ويسمى في بعض المصادر (اكسركيس) و(سياشاريس)، ويعود الاختلاف في اسمه إلى الجهة التي ذكرته، سواء أكانت بابلية، أم آشورية، أم يونانية، أم فارسية، أم أرمنية، أم سريانية، أم عربية؛ وهذا أمر معروف في الأسماء عندما تنتقل من لغة إلى لغة.

ولا أستبعد أن يكون اسم كي خسرو الحقيقي هو (كي خاشْ رُو)؛ أي (الملك السعيد) أو (الملك الخالد)؛ باعتبار أن كلمة (كي) تعني (الملك)، و(خاش) تعني (الطيب، السعيد، الحيّ)، وكثيراً ما يحل كل من حرفي (س، ش) محل الآخر حينما تنتقل الكلمة من لغة إلى لغة، ومثال ذلك تحوّل كلمة (شاهبور) الفارسية إلى (سابور) في اللغة العربية.

وكي خسرو هو أعظم ملوك ميديا، إنه ورث عن أبيه فراورتيس خصالاً قيادية متميزة، فكان قائداً محنّكاً حازماً، ورجل دولة عظيماً، كما أن نذر نفسه لاستكمال المشروع التحرري الميدي الذي بدأ على يدي دياكو، ويكفيه عبقرية أنه وقف في وجه الإمبراطورية الآشورية، وكانت أعتى قوة سياسية وعسكرية في غربي آسيا، فألحق بها الهزيمة، وقذف بها إلى خارج التاريخ دفعة واحدة.

وتميّز كي خسرو برؤية إستراتيجية رحيبة، وبحس وسياسي واقعي، وبخصال قيادية نادرة، كما أنه كان توّاقاً إلى تحرير ميديا وشعوب غربي آسيا من عسف الحكم الآشوري، وكي يحقق هذا الهدف الكبير قام بإنجازات ثلاثة مهمة؛ لولاها لما حقق أي نجاح يُذكر.

·  الإنجاز الأول: قيامه بتوحيد القبائل الميدية تحت لواء واحد، ووضعها أمام هدف واحد، يتمثل في الخلاص من التبعية للآشوريين، فأسكن القبائل الرحّالة، ونظّم شؤونهم، وسنّ القـوانين، ونظّم الجيش على أسس حـديثة، مقتبساً بعض أساليب السكيث في القتـال؛ مثل سرعة الحركة والمنـاورة، وأحدث خيّـالة سريعة الحركة، وميّز رماة السـهام عن الفرسـان، كما جعل (إكباتانا) عاصمته الدائمـة.

·  الإنجاز الثاني: قيامه بالقضاء على الخطر السكيثي، وصحيح أنه أفلح في تقليم أظافر الغزاة السكيث، ويبدو أن الفريقين كانا قد عقدا معاهدة فيما بينهما، لكنه كان يدرك أن السكيث يمكن أن يهددوا الدولة الميدية عند أول فرصة سانحة، وأنهم لن يترددوا في طعن الميديين في الظهر، وهذا ما فعلوه أكثر من مرة في عهود سابقة.

 ففي نحو سنة (634 ق.م) هاجم الميديون آشور، لكنهم فشلوا في إسقاطها حينذاك، وبعد نحو سنتين هاجموها مرة ثانية، فهزموا الجيش الآشوري، ونازلوا العاصمة نينوى، لكن السكيث استغلوا انشغال القائد الميدي بالحرب ضد آشور، فهاجموا ميديا، وشرعوا يقتلون، وينشرون الدمار حيثما حلّوا، فاضطر الميديون إلى فك الحصار عن نينوى، والعودة بسرعة إلى ميديا، لرد الغزو السكيثي.

لذلك قرر كي خسرو ألا يدع للسكيث إمكانية عرقلة خطته ضد خصمه الأكبر (الإمبراطورية الآشورية)، وطعن ميديا من الخلف ثانية، فدعا قادتهم إلى حفل عامر بالأطعمة والأشربة المسكرة، ولما أكل القوم من الطعام ما طاب، وشربوا من الخمر ما لذ، وأصبحوا سكارى، أمر كي خسرو المقاتلين الميد بالانقضاض عليهم، والفتك بهم جميعاً، فبقي السكيث من غير قيادة، وتضعضعت صفوفهم، وأصبح من السهل على الملك الميدي السيطرة عليهم، وكبح جماحهم.

·         الإنجاز الثالث: قيامه بعقد تحالف بين ميديا وعيلام في الجنوب، وبين ميديا وبابل في الغرب، وكان تحالفه مع الملك البابلي نبوبولاصّر هو الأهم إستراتيجياً، حتى إنه زوّج ابنته من نبوخذنصّر بن نبوبولاصّر، ولعلها سميراميس التي بنى لها نبوخذ نصّر الحدائق المعلّقة الشهيرة، وكان نبوبولاصّر والياً على بابل من قبل الملك الآشوري آشور بانيبال، لكنه كان يطمح إلى الاستقلال الكامل عن الدولة الآشورية، وبهذا التحالف لم يضم كي خسرو قوة جديدة إلى قوته فحسب، وإنما جرّد السلطة الآشورية من إمكانية تحشيد هذين الشعبين ضد الميديين.

كي خسرو محرراً

وهكذا كان الزعيم الميدي على وعي تام بأن القضاء على قوة عظمى شرسة لا يكون إلا بقوة عظمى مماثلة، وكان يدرك أنه لا يكفي أن يكن القائد طموحاً، وإنما من الضروري أن يكون قادراً على تجسيد ذلك الطموح في أهداف وخطط وبرامج قابلة للتنفيذ، وكان يعلم أيضاً أن أمة تعاني من خصومات داخلية، ومن تشرذم ثقافي وسياسي، ومن تعدد في مصادر صنع القرار، لا يمكن أن تحرر أرضاً أو تردّ عدواً.

بلى إن كي خسرو كان يدرك كل هذه الحقائق، وسلوكه القيادي وسياساته هي خير دليل على ذلك، كما أنه كان يعرف أن تهيئة المناخ الأقليمي لتحقيق الأهداف المرجوّة أمر لا بد منه، وبعد أن استكمل الاستعدادات العسكرية، وأنجز التحضيرات الخارجية عبر التحالفات، هاجم كي خسرو الدولة الآشورية سنة (615 ق.م)، واتخذ أرّابخا (كرخيني = كركوك) قاعدة لانطلاقة أعماله الحربية، وزحف بجيشه على العاصمة الإمبراطورية نينوى، فقاومته مقاومة عنيفة.

لكن القائد الذي يطمح إلى تحرير أمته، وإنقاذها من الاحتلالات والهيمنة الخارجية، لا بد أن يكون مؤمناً بأهدافه، عنيداً في السعي إلى تحقيقها، لا يستسلم لليأس عند أول انتكاسة، وهكذا كان كي خسرو، إنه لم يركن إلى القعود، ولم يتخلّ عن الهدف، وإنما أعاد الكرة ثانية، وشن الهجوم على السلطة الآشورية في عقر دارها، وانضم إليه حليفه البـابلي نبوبولاصر، وهاجم الحليفان العاصمة نينوى من جديد سنة (612 ق.م)، وبعد حرب طاحنة وحصار شديد، سقطت  نينوى بين أيدي الميد والبابليين، وانسحب الملك الآشـوري آشور أوباليت بفلول جيشه غرباً إلى مدينة حرّان (في شمال غربي كردستان حالياً).

وقام الجيش الميدي بمطاردة آشور أوباليت وجيشه في حران، وأنزل الهزيمة به سنة (610 ق.م)، وهكذا زالت من الوجود واحدة من أقوى الإمبراطوريات التي عرفها العالم القديم، وأصبح غربي آسيا مقسّماً بين أربع دول كبرى، هي: الدولة الميدية، والدولة البابلية الحديثة، ودولة ليديا في آسيا الصغرى، والدولة المصرية.

وقال هيرودوت في تاريخه مشيداً بانتصار الميد على الآشوريين:

" شق الميديون عليهم عصا الطـاعة، فحملوا السلاح في وجههم، وقاتلوهم ونزعوا عن أعناقهم نير العبودية، وباتوا أحراراً، وكانت تلك مأثرة اقتـدت بهم فيـها أمـم أخرى قُيّض لها أن تستعيد استقلالها، وهكـذا استفحـل أمر الثورة، فكان أن نعمت الأمـم في كل أرجـاء تلك الأرض بنعمة الاستقلال في تصريف شؤونها ".

وقال النبي العبراني ناحوم (الأصحاح 3، الآية 18، 19)؛ واصفاً سقوط نينوى أمام الهجوم الميدي -البابلي، ومعبّراً عن ارتياح الشعوب التي كانت تخضع للآشوريين:

" نَعِست رعاتُك يا مَلكَ أَشور. اضطجعت عظماؤك. تشتّت شعبُك على الجبال ولا من يجمع. ليس جبرٌ لانكسارك. جرحُك عديم الشفاء. كلُّ الذين يسمعون خبرَك يصفّقون بأيديهم عليك؛ لأنه على من لم يمرّ شرُّكَ على الدوام ؟! ".

عبقرية كي خسرو

إن عبقرية كي خسروا لم تقتصر على إسقاط إمبراطورية كبرى قوية، ولم تنحصر في ميادين الحروب، وإنما تجلّت في ميادين الإدارة والسياسة، إذ أقام  إمبراطورية كبرى، امتدت من أفغانستان ضمناً شرقاً إلى حدود ليديا غرباً (وسط تركيا حالياً)، ومن بحر قزوين والقوقاز شمالاً إلى مضيق هرمز في الخليج الفارسي (العربي) جنوباً، ويكون بذلك قد وحّد لأول مرة جميع الشعوب الآريانية في غربي آسيا، وضمها في دولة واحدة.

ورغم أن الغزاة السكيث فقدوا نصيراً كبيراً لهم بسقوط الإمبراطورية الآشورية، ورغم أن الملك الميدي كان قد قلّم أظافرهم، وأخضعهم لسلطته، لكنهم كانوا ينتهزون الفرص للانقلاب على الميديين ثانية، الأمر الذي جعل كي خسرو يهاجمهم، وينزل الهزيمة بهم، ففروا من وجهه غرباً، ولجأوا إلى مملكة ليديا المجاورة لمملكة ميديا غرباً، وكان الخط الفصل بين حدود المملكتين هو نهر هاليس (قزيل إرماق).

وطالب كي خسرو ملك ليديا الياتس بتسليمه السكيث الفارين، لكن الملك الليدي رفض ذلك، فأعلنت ميديا الحرب على ليديا، وقاد كي خسرو جيشه نحو آسيا الصغرى، فاستعانت ليديا بحلفائها من الفريجيين وغيرهم، واستعان كي خسرو بحليفه البابلي نبوبولاصر، ودامت الحرب بين الدولتين حوالي ست سنوات، دون أن يحقق فريق النصر الحاسم على الفريق الآخر، وصادف أن كسفت الشمس، وأظلم النهار، ففسر الفريقان ذلك بأنه غضب من الله، فتصالحا وتحالفا، وتزوّج استياجس بن كي خسرو من ابنة الياتس، وعلى الأرجح كان ذلك الحدث سنة (597 ق.م).

 وظل كي خسرو يحكم مملكته الشاسعة بمهارة واقتدار، إلى أن توفي سنة (593 ق.م)، أو في سنة (585 ق.م)، وخلفه على الحكم ابنه استياجس، وكانت نهاية الإمبراطورية الميدية على يد هذا الملك في سنة (558 ق.م)، أو في سنة (550 ق.م)، وكان الإقبال على الترف، والانشغال بالتنافسات الداخلية، هما العاملين الرئيسين اللذين انتهيا بالميديين إلى ذلك المصير.

ميديا حضارياًً

لقد ذكر ديورانت في (قصة الحضارة) أن قصر عمر الدولة الميدية لم يتح لها الإسهام في الحضارة بقسط كبير، لكنه أورد في الوقت نفسه إنجازات حضارية هامة قام بها الميديون، وأخذها عنهم الفرس الأخمينيون، وهي دليل على أن ما أنجزه الميد لم يكن قليلاً؛ قال ديورانت:

" وقد كانت هذه الفترة قصيرة الأجل، فلم تستطع لهذا السبب أن تسهم في الحضارة بقسط كبير، إذا استثنينا ما قامت به من تمهيد السبيل إلى ثقافة الفرس؛ فقد أخذ الفرس عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدّتها ستة وثلاثين حرفاً، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع، وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحسن التدبير ما أمكنهم وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب، ودين زردشت وإلهيه أهورا مزدا وأهرمان، ونظام الأسرة الأبوي، وتعدد الزوجات، وطائفة من القوانين بينها وبين قوانينهم في عهد إمبراطوريتهم المتأخر من التماثل ما جعل دانيال يجمع بينهما في قوله المأثور عن ( شريعة ميدي وفارس التي لا تنسخ). أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر".

   ويذكر المؤرخون أن الفرس اقتبسوا الخط المسماري من الميد، كما أن اللغة الأدبية الفارسية تأثّرت كثيراً باللغة الميدية، واتّبع الفرس النظام الإداري الذي كان قائماً في الإمبراطورية الميدية، ولبس معظم الفرس الملابس الميدية، وتحلّوا فيما بعد بالحلي الميدية، بل كان من الأهمية بمكان أن يتلقّى أحد الأشراف من الملك الأخميني بذّة مـيدية من باب التشريف، وقال هيرودوت في تاريخه يصف الفرس الأخمين:

" وليس هناك كالفرس شعب ينزع إلى الأخذ بمناهج من هو غريب عنه، فهم يرتدون أزياء الميديين مثلاً، لاعتقادهم بأن تلك الأزياء أكثر أناقة من أزيائهم ".

   ووصف هيرودوت في تاريخه لباس الفرس وعتادهم في الجيش الذي قاده أحشويرش بن دارا الأخميني لمهاجـمة اليـونان، فذكر أنهم كانوا يرتدون "القبّعة المثلّثة وهي من اللبّـاد الناعـم، والقميص المطرّز مـع أكمامه، وفوقـه الدرع الذي يبـدو كحراشف السـمك، والسروال، وأما عتـادهم فهو الترس المصنوع من قضبان الصفصاف،  وتحته المقلاع والرمح القصير، والقوس القوية، والسهام المصنوعة من الخيزران، والخنجر المربوط بالنطـاق على الفخـذ اليمنى". وأضـاف هيرودوت أن الفـرقة الميـدية في جيش أحشويرش كانت ترتدي الزيّ نفسه، وتتسلّح بالعتـاد ذاته، وأكّد أن " هـذا النمط من اللباس ميدي الأصل، وليس زيّاً فارسيّاً بأيّ شكل ".

المراجع

1.    البرتكيرك كريسون: الكتابات الملكية لآشور ناصربال الثاني، ترجمة صلاح سليم علي، دار ادي شير للنشر والإعلام، أربيل، 2004.

2.    الدكتور أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2007 م.

3.    أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ترجمة الدكتور أحمد الخليل، دار هيرو للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.

4.    أنطون مورتكارت: تاريخ الشرق الأدنى القديم، تعريب توفيق سليمان، علي أبو عساف، قاسم طوير، 1950م.

5.    جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ترجمة أحمد فخري، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1955م.

6.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.

7.    سامي سعيد الأسعد، ورضا جواد الهاشمي: تاريخ الشرق الأدنى القديم، إيران والأناضول، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق.

8.    طه باقر، فوزي رشيد، رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، 1979م.

9.    ل. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين، الحضارتان البابلية والآشورية، ترجمة محرّم كمال، المطبعة النموذجية.

10.     هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991م.

11.     هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

12. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973،  المجلد الأول، الجزء الثاني.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 1 – 10 -  2007

dralkhalil@hotmail.com

 العودة إلى الصفحة السابقة        حلقات 34 ولغاية 42

 

الحلقات السابقة لمشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 )

 

الحلقات السابقة لمشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( 1-2-3-4-5-6-7-8-9-10-11-12-13-14-15-16-17-18-19-20-21-22-23

العودة إلى الصفحة الرئيسية