مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الثالثة والثلاثون )

الشيخ الصوفي

ضياء الدين خالد النقشبندي

 (1190 – 1242 هـ)

ما هي الصوفية؟

كي نفهم سيرة الشيخ خالد النقشبندي ينبغي أن نعرف ما هي النقشبندية؟

ولا سبيل إلى معرفة النقشبندية إلا بوقفة عند الصوفية والتصوف.

ويستفاد من الدراسات الخاصة بهذا المجال أن الصوفية ثقافة عرفانية الطابع، تقوم على الكشف الإشراقي الوجداني، وليس على الاستدلال العقلي البرهاني، وجاء في (موسوعة لالاند الفلسفية، 2/848):

" الصوفيّة Mysticisme اعتقاد بإمكان اتحاد حميم ومباشر بين الروح البشرية ومبدأ الكون الأساس... وهي حالة ينقطع فيها كل اتصال بالعالم الخارجي، وتشعر فيها النفس بالاتصال مع شيء داخلي، هو الكائن الكامل، الكائن اللامتناهي، الله ".

وجاء في (الموسوعة الفلسفية العربية، 1/258):

" التصوّف بوجه عام فلسفة حياة، وطريقة معينة في السلوك، يتخذهما الإنسان لتحقيق كماله الأخلاقي، والاتصال بمبدأ أسمى، وعرفانه بالحقيقة، وتحقيق سعادته الروحية ".

والحق أن التصوف ظاهرة مشتركة بين ديانات وفلسفات وحضارات متباينة، ومن الطبيعي أن يعبّر كل صوفي عن تجربته في إطار ما يسود مجتمعه من عقائد وأفكار، ويُخضع تعبيره عنها أيضاً لما يسود عصره من اضمحلال أو ازدهار. ويقوم التصوف على خمس خصائص نفسية وأخلاقية وإبستمولوجية (معرفية) هي: الترقي الأخلاقي، والفناء في الحقيقة المطلقة، والعرفان الذوقي المباشر، والطمأنينة، والرمزية في التعبير.

ما أصل (صوفي)؟

لقد تعدّدت الآراء في تحديد أصل كلمة (صوفي) (الموسوعة الفلسفية العربية، 1/260)، فعدّه بعض الباحثين مشتقاً من الصفاء، ومن الصفو، ونسبوه تارة أخرى إلى أهل الصُفّة، وكانوا من فقراء المهاجرين والأنصار، يقيمون في صُفّة (رواق) بمؤخرة مسجد الرسول في المدينة، وكانوا معروفين بالزهد والعبادة. والحقيقة أنه لا أصل لكلمة (صوفي) في العربية من جهة الاشتقاق أو القياس، وقد قال أحدهم:

تنازع النـاسُ في الصوفيّ واختلفوا

وظنّه البعض مشـتقاً من الصوفِ

ولستُ أمنح هــذا الاسمَ غيرَ فتًى

صافى فصُوفيَ حتى سُمّي: الصوفي

والأرجح أن لكلمة (صوفي) علاقة بكلمة (سوفيا) اليونانية التي تعني الحكمة، ويرى بعض الباحثين أن جذور التصوف تعود إلى توجّه عرفاني قديم في الثقافة اليونانية تسمى (غنوصية) Gnosis، قال الدكتور عبد القادر محمود في كتابه (الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص 4):

  " الغنوصية Gnosis كلمة يونانية معناها المعرفة، ولكنها تطورت حتى أخذت معنى اصطلاحياً هي التوصل بنوع من الكشف إلى المعارف العليا، أو هو تذوّق المعارف تذوّقاً مباشراً، بأن تلقى فيه إلقاء، فلا تستند إلى الاستدلال والبرهنة العقلية ".

وألفت الانتباه ها هنا إلى القرابة الصوتية والمعنوية بين كلمة غنوصي Gnosis اليونانية، وكلمة Gi nasi الكردية، والتي تعني المعرفة الكلية الشاملة، ومثلها كلمة (ناسك)، يقابلها في الكردية كلمة Nasik التي تعني العارف، بل أجد قرابة صوتية ودلالية بين كلمة (الناس) العربية ومشتقات كلمة Nas الكردية المشتملة على معنى (التعرّف)، علماً بأنه لا يوجد جذر لغوي لكلمة (ناس) في العربية.

وكم هو رائع أن يقوم اللغويون العرب والكرد بتتبّع ظاهرة التشابه اللغوي بين بعض الكلمات العربية والكردية، فالمعروف أن الشعبين العربي والكردي كانا- وما زالا- متجاورين جغرافياً منذ ما قبل الإسلام بقرون كثيرة، ولم يكن بينهما سد يأجوج ومأجوج، ولا ريب أن الجوار الجغرافي أتاح الفرصة لتفاعل ثقافي قبل الإسلام بقرون كثيرة، وما نلاحظه من تشابه وتقارب في بعض الكلمات العربية والكردية صوتاً ودلالة هو من آثار ذلك التفاعل.

مراحل العرفان الصوفي

أرجع الباحثون التصوف الإسلامي إلى أربعة مصادر: مصدر فارسي، مصدر هندي، مصدر مسيحي، مصدر يوناني؛ إضافة إلى المصدر الإسلامي. وقد مرّ التصوف الإسلامي بالمراحل الآتية:

·       مرحلة الزهد في القرنين الأول والثاني الهجريين، ومن رجاله الحسن البصري (ت 110 هـ).

·       مرحلة التأسيس في القرنين الثالث والرابع، وظهر فيها مصطلح (الصوفية)، وتحدث الصوفية عن السلوك إلى الله، والمقامات والأحوال، والمعرفة الكشفية، والفناء، والاتحاد، والحلول، كما حدّدوا رسوماً معيّنة لطريقتهم، وأصبحت لهم لغة اصطلاحية خاصة، وصار التصوف طريقاًًَ للمعرفة بعد أن كان طريقاً للعبادة، وظهر في هذه المرحلة فريقان من الصوفية:

- فريق ربط التصوف بالكتاب والسنّة، وراح يزنه بميزان الشريعة، ومن مشاهيرهم معروف الكَرْخي (ت 200 هـ)، والجُنَيْد (ت 297 هـ).

- وفريق ثان شطح وقال بالاتحاد والحلول، ومن مشاهيرهم أبو منصور الحلاّج (قتل سنة 301 هـ).

·       مرحلة التطوير منذ القرنين السادس والسابع، وظهر فيها تياران للتصوف:

- تيار فلسفي: مزج التذوق الصوفي بالنظر العقلي، متأثراً بمصادر يونانية وفارسية وهندية ومسيحية، ومن مشاهيرهم السّهْرَوَرْدي (قتل سنة 587 هـ)، ومحيي الدين بن عربي (قتل سنة 638 هـ).

- تيار عملي: يمثله أصحاب الطرق، ومن رجاله عبد القادر الكيلاني (ت 561 هـ)، وأحمد الرفاعي (ت 578 هـ)، وأحمد البدوي (ت 675 هـ).

  (انظر: الدكتور معن زيادة: الموسوعة الفلسفية العربية، 1/261 – 265).

والحق أن التراث الصوفي الأصيل يمتاز بتجارب نفسية عميقة، وهو غني بالآراء الدقيقة في عالم الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، إنه دعوة إلى الارتقاء نحو الأنبل والأكمل، ولنتأمل هذا الحوار القصير الذي دار بين إبراهيم بن أدهم ومعاصره شَقِيق البَلْخي، وقد أورده ابن الملقِّن في كتابه  (طبقات الأولياء، ص 8 – 9):

-       إبراهيم: علامَ أصّلتم أصولكم؟

-       شقيق: إذا رُزقنا أكلنا، وإذا مُنِعنا صبرنا.

-       إبراهيم: هكذا كلاب بلخ؛ إذا رُزقتْ أكلت، وإذا مُنعتْ صبرت. إنّا أصّلنا أصولنا على أننا إذا رُزقنا آثرْنا، وإذا مُنعنا حَمَدْنا وشكرْنا.

فقام شقيق، وقعد بين يديه، وقال: أنت أستاذنا.

وشتّان بين الرؤيتين!

الطريقة النقشبندية

النقشبندية تسمية فارسية كردية مستمدة من كلمة (نقش بَنْد) بمعنى (عامل النقش)، وأسسها الشيخ بهاء الدين البخاري، ونشرها نجله الشيخ محمد النقشبندي، وقد ولد الشيخ محمد النقشبندي في مدينة بخارى سنة (717 هـ)، وتوفي فيها سنة (789 هـ)، وفي رواية سنة (791 هـ)، وللطريقة النقشبندية مريدون من معظم الشعوب الإسلامية، ابتداء من الهند شرقًا، ومروراً بكردستان وبلاد الشام وتركيا، وانتهاء بدول البلقان غرباً. وذكر أحمد النقشبندي الخالدي في كتابه (جامع الأصول، ص 23- 24) أن الطريقة النقشبندية أسهل على المريد للوصول إلى درجات التوحيد، وأضاف يقول:

  " إن الجذب في هذه الطريقة مقدّم على السلوك، ... أما بقية الطرق فمبنية على تقديم السلوك على الجذب في الأغلب، ولذا قالوا: بداية الطريقة النقشبندية نهاية سائر الطرق؛ إلا من كان له قدم المحبوبية والمرادية، كبعض الأولياء الذين تقدم فتحهم على السلوك ".  

وقال مقارناً بين النقشبندية وغيرها من طرق الصوفية (جامع الأصول، ص 24):

" فأول قدم يضعونه في الذكر عند النقشبندية هو القلب، ويأتي عند سائر الطرق في المرتبة الثانية. وليس في هذه المرتبة كثرة الجوع وكثرة السهر، بل الاعتدال يصحبها ".

ونقل طاشْكُبْري زاده في كتابه (الشقائق النعمانية، ص 155) أن الشيخ خواجه بهاء الدين النقشبندي سئل عن معنى طريقته فأجاب: " الخلوة في الكثرة، وتوجّه الباطن إلى الحق والظاهر إلى الخلق ".

نشأة الشيخ خالد

هو أبو البهاء ضياء الدين خالد بن أحمد بن حسين المعروف بالنقشبندي لاشتهاره بها، وقد ذكر الشيخ عثمان بن سند النجدي في كتابه (أصفى الموارد، ص 27) أن الشيخ خالد ولد سنة (1190 هـ) تقريباً، في (قره داغ) وتعني (الجبل الأسود)، وهي قرية جميلة، تزدان بجمال الطبيعة من أشجار ومياه، وتقع على مسافة خمسة أميال (8 كم) من مدينة سليمانية في جنوبي كردستان (إقليم كردستان- العراق)، وفيها مدارس دينية عديدة وصفها النجدي (أصفى الموارد، ص 27 – 28) بقوله:

مدارس فيها للعلـوم نفـائس    

يَضُعن شذًى ما أعمل الفهمَ دارسُ

يحرّر فيها العــلمَ كلُّ محرِّر     

إذا جال بحثاً فهـو لا شكّ فارسُ

ووصف محمد بن سليمان البغدادي في (الحديقة الندية، ص 3) الشيخ خالد بقوله:

" حضرة شيخنا ومولانا الشيخ خالد الشافعي الأشعري النقشبندي القادري السهروردي الكبروي الجشتي الشهرزوري ".

وينتهي نسب الشيخ إلى پير ميكائيل، وينتهي نسب والدته إلى پير خضر؛ وكلمة (پير) من المصطلحات الدينية والاجتماعية القديمة في كردستان، وكل من يحمل هذا اللقب يحظى بكثير من التقدير والاحترام ، ولقب (پير) من المراتب الدينية الكبرى في الديانة الزردشتية التي كان الكرد يعتنقونها قبل الإسلام، وما زال الكرد الأيزديون يحتفظون بهذا اللقب في سلّم المناصب الدينية الإيزدية إلى يومنا هذا. وفي رواية أن الشيخ خالد ينتسب إلى عشيرة ميكائيلي، إحدى فروع قبيلة جاف الكبيرة الممتدة في شرقي كردستان وجنوبيها.

مسيرته العلمية

بدأ الشيخ خالد مسيرته مع العلوم الدينية في إحدى مدارس قريته (قَرَه داغ)، فحفظ القرآن في زمن قصير، ثم انكبّ على علوم اللغة من نحو وصرف، ونهل من علوم الفقه والتصوّف، ورحل طلباً للعلم المنقول والمعقول في أرجاء جنوبي كردستان، وتلقاه على أيدي العلماء المشهورين، ومنهم الشيخ عبد الكريم البَرزَنْجي، فدرس عليه شرح الجامي (وهو شاعر صوفي فارسي شهير)، كما درس على الشيخ عبد الرحيم البرزنجي، وهو أخو الشيخ  عبد الكريم، ثم توجّه إلى كوى (كويسنجق) وحرير، فقرأ كتاب شرح الجلال على تهذيب المنطق بحواشيه على الشيخ عبد الرحيم الزياري المعروف بلقب (ملاّ زاده)، وقد وصف النجدي هذا الشيخ في كتابه (أصفى الموارد، ص 33) بقوله:

" سطعت أنواره في الأكراد، وتفجرت ينابيع حكمه في كل واد، ... لم يدع من الفنون فناً إلا ارتقاه، ... ولا خفياً من الإشكالات إلا أبان محيّاه، ولا وادياً من التحقيق إلا سلكه، ولا تِبراً من التدقيق إلا سبكه ".

ومن أساتذة الشيخ خالد في كويسنجق الشيخ عبد الرحمن، وهو حسبما ذكر النجدي في (أصفى الموارد، ص 34):

" ممن تضرب أكباد الإبل للثم يديه، ويعوَّل في المنقول والمعقول عليه، ... فهو الفاضل الذي أحيا للشافعي آثاره، وأعلى من الفقه بالدقائق مناره ".

وقرأ الشيخ خالد شيئاً من شرح الجامي على الملا محمد صالح، ودرس علم المنطق على الشيخ إبراهيم البياري، ثم شدّ الرحال إلى بغداد، فقرأ على عدد من العلماء، وعاد من بعد إلى كردستان، فعرض عليه بعض الأمراء الكرد أن يعمل مدرساً في إحدى مدارس العلم، فاعتذر بأنه لمّا يبلغ بعد هذا المقام، وتوجّه بالرحلة إلى سِنَنْدَج في شرقي كردستان، وقرأ العلوم الحسابية والهندسية والفلكية على العالم المدقق الشيخ محمد قسيم السنندجي، وعاد إلى مدينة سليمانية ليتولّى التدريس فيها بعد وفاة أستاذه الشيخ عبد الكريم البَرزَنْجي بالطاعون سنة (1213 هـ)، وكان خلال ذلك ينشر العلم، ولا يتردّد على الحكام، ولا يحابي أحداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرحلة الهندية

وفي سنة (1220 هـ) تاق الشيخ خالد إلى حج بيت الله الحرام، فبدأ (الرحلة الحجازية) من طريق الموصل وديار بكر والرُّها وحلب ودمشق، واجتمع في هذه الحواضر بعلمائها الأعلام، ففي دمشق سمع من مدرس دار الحديث الشيخ محمد الكُزْبَري، وصحب تلميذه الشيخ مصطفى الكردي. ثم مضى إلى الحجاز حاجاً، وأشار عليه بعض أهل العلم في مكة بالرحلة إلى الديار الهندية.

وبعد تمام حجه عاد إلى مدينة سليمانية، وبدأ (الرحلة الهندية) سنة (1224 هـ) من طريق الرَيّ (قرب طهران)، وخاض هناك مناظرة مع العالم الضليع إسماعيل الكاشي فأفحمه، ثم دخل بِسْطام، وزار قبر الشيخ الصوفي الشهير أبي يزيد البِسْطامي، ثم دخل طُوس، وزار فيها مشهد الإمام علي الرضا، ثم دخل مدينة هَراة في بلاد الأفغان، واجتمع بعلمائها وحاورهم، فأقرّوا له بالفضل ثم دخل قُنْدِهار وكابُل وبِيشاور، فامتحنه جمعٌ من علمائها، وحاور في مسائل من علم الكلام وغيره مما تسبر به الأفهام. (انظر: أصفى الموارد، ص 59).

وانتهت به الرحلة إلى مدينة دهلي المعروفة باسم (جهان آباد)، وهي نفسها مدينة نيودلهي عاصمة الهند، وهناك أخذ الطريقة النقشبندية بعمومها وخصوصها ومفهومها ومنصوصها على شيخ مشايخ الديار الهندية حضرة الشيخ عبد الله الدهلوي، " فلم يمض عليه نحو خمسة أشهر حتى صار من أهل الحضور والمشاهدة ، وبشره شيخه ببشارات كشفية قد تحققت بالعيان" (انظر: الحديقة الندية ، ص38).

ولم تكمل عليه السنة حتى شهد له شيخه بالوصول إلى كمال الولاية، وأجازه بالإرشاد، وخلّفه الخلافة التامة، وبإشارة من شيخه اجتمع بالعالم والواعظ والصوفي المولى عبد العزيز الحنفي النقشبندي، وبعد سنة من الملازمة أجازه هذا الشيخ بإجازة لطيفة، وأمره بإرشاد المسترشدين وتربية السالكين في كردستان والعراق والشام وغيرها من البلاد.

الرحلة الدمشقية

عاد الشيخ خالد إلى بلاده كردستان عن طريق مسقط (عاصمة سلطنة عمان) وشيراز، ويَزْد، وأصبهان، ثم أتى هَمَذان، وسِنَنْدَج، ووصل إلى مدينة سليمانية سنة (1226 هـ)، فاستقبله الأعيان، وبدأ بإرشاد الناس في علمي الظاهر والباطن، فانبرى له بعض الحساد، وكادوا له عند حاكم كردستان بأشياء كان بريئاً منها، فرحل إلى بغداد سنة (1228 هـ)، فلاحقه الحساد والأعداء بالكيد والدسّ هناك، وألّبوا عليه والي بغداد سعيد باشا، لكن علماء بغداد دافعوا عنه، وفنّدوا مزاعم أعدائه.

وعاد الشيخ خالد إلى سليمانية، فبنى له أمير الأمراء محمود باشا ابن عبد الرحمن باشا الباباني زاوية ومسجداً يأوي إليه الفقهاء والفقراء وطلبة العلم والمريدون، قال البغدادي في (الحديقة الندية، ص 3):

" وانتفع به خلق كثيرون من أهل بغداد، وكركوك، وأربيل والأكراد من نواحي السليمانية وكوى والعمادية، وبعض نواحي الهكّارية وماردين وديار بكر وعَنْتاب وحلب والشام والحرمين الشريفين ".

ويبدو أن الوقيعة دبّت بين الشيخ خالد وبين الباشا الباباني حاكم مدينة سليمانية، نتيجة تعدّد خصومه، ولا سيما بين بعض رجال الطريقة القادرية المنافسة من ناحية، ولأنه بدا وكأنه منافس للباشا من حيث سعة النفوذ بين الجماهير من ناحية أخرى.

فرحل الشيخ إلى دمشق سنة (1238 هـ) الموافق (1820 م)، وصحبه كثير من العلماء والأشراف والخلفاء والمريدين، منهم العلامة عبيد الله أفندي الحيدري مفتي بغداد سابقاً، والعالم العامل الشيخ إسماعيل الأناراني، والشيخ عبد القادر الديملاني، والعلامة إسماعيل البرزنجي، والشيخ عيسى الكردي، والشيخ محمد الفراقي، والشيخ عبد الفتاح العقري، والشيخ عبد الله الهراتي، وغيرهم.

واصطحب الشيخ معه زوجاته الأربع وأبناءه، وأخاه محموداً وولديه، وحين وصل إلى دمشق استقبله كثير من أهلها، ولما استقر به المقام، هُرع لزيارته الخاص والعام، واحتفى به علماء دمشق من أمثال محدّث الديار الشامية الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والشيخ حامد العطّار، والشيخ حسن البيطار، والشيخ عبد الغني السادات، والشيخ حسن الشطّي، وشرع ينشر العلوم الشرعية، ويرسخ دعائم الطريقة النقشبندية، ويرشد السالكين، ويربي المريدين.

ويعرف ذرية الشيخ خالد في دمشق باسم (آل الحضرة)، ويعرف ذرية أخيه الشيخ محمود باسم (آل الصاحب)، ويسمى فرع من هؤلاء باسم (النقشبندي)، وهي أسر متوسطة فيها التجار والموظفون ورجال الدين والضباط، ومنهم الشهيد المقدم عادل الحضرة، استشهد في فلسطين عام (1948 م). وفيهم المحامون والمهندسون والأطباء، على أن بعضهم لا يعرف أنه من أصل كردي إلا بالسماع. كما أن الشيخ محمد أسعد الصاحب تفقه في الدين، ووصل إلى أرفع منصب ديني في السلطنة العثمانية، وهو (شيخ الإسلام) على عهد السلطان محمد رشاد (انظر: منذر موصلي: عرب وأكراد ، ص 281 ، 282 ).

خصال وكرامات

كان الشيخ خالد كريم النفس، حميد الأخلاق، باذل الندى، حامل الأذى، حلو المفاكهة والمحاضرة، رقيق الحاشية والمسامرة، ثبت الجنان، بديع البيان، طلق اللسان، لا تأخذه في الله لومة لائم ، يتكفّل الأرامل والأيتام، شديد الحرص على نفع الإسلام. وكان رجلاً صالحاً وتقياً ورعاً، وعالماً عاملاً، وشاعراً لاهوتياً، عارفاً باللغات الثلاث الكردية والعربية والفارسية، ويعود إليه الفضل في نشر الطريقة النقشبندية في كردستان وإيران والأناضول والبلاد العربية.

أما على الصعيد العلمي فقد اتضح، من خلال رحلاته العلمية الكثيرة والطويلة، أن الرجل لم يكن مجرد شيخ طريقة صوفية، وإنما جمع الثقافة الشرق أوسطية في عصره من جميع جوانبها، ديناً وأدباً وعلوماً عقلية، ويعدّ مثقفاً موسوعياً متبحّراً، وهضم العلوم السائدة في الساحة الشرق أوسطية من بخارى ونيودلهي شرقاً إلى دمشق غرباً، وله من المؤلفات :

-       شرح لطيف على مقامات الحريري (لم يكمل).

-       شرح على حديث جبريل سماه: فرائد الفوائد (باللغة الفارسية).

-       ديوان نظم بديع ونثر .

وذكر له من كتب ترجمته بعض الكرامات، ومنها أن جماعة من أعدائه من أكابر مدينة سليمانية أجمعوا على قتله، واستقر رأيهم أن يكون ذلك يوم الجمعة على باب المسجد، فلما كان يوم الجمعة حضر إلى الصلاة وخلفاؤه معه، فلما قضيت الصلاة خرج الخلفاء، فرأوا زهاء مئتين من الأعداء وقوفاً بالأسلحة، فانتظروه حتى خرج آخر الناس بالسكينة والوقار، فالتفت إليهم بعين الجلال، فمنهم من سقط في الحال، ومنهم من هرب، ومنهم من صاح وانجذب، ثم مشى مع جماعته حتى وصل إلى زاويته.

ووصفه يوسف بن إسماعيل النبهاني في (جامع كرامات الأولياء، 2/57) بأنه:

" مجدد الطريقة النقشبندية، وهو أحد أكابر أئمة العلماء والصوفية ".

وتوفي الشيخ خالد في دمشق بالطاعون سنة (1242 هـ).

المراجع

1.  أحمد النقشبندي الخالدي: جامع الأصول (الطرق الصوفية)، تحقيق أديب نصر الله، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997 م.

2.  أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت- باريس، الطبعة الأولى، 1996 م.

3.     خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977 م.

4.     الدكتور عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، دار الفكر العربي، د. ن. 1967 م.

5.     الشيخ عثمان بن سند النجدي: أصفى الموارد في سلسال أحوال الإمام خالد، المطبعة العلمية، مصر، 1310 هـ .

6.     محفوظ محمد عمر العباسي: إمارة بهدينان العباسية، مطبعة الجمهورية، الموصل، 1969م .

7.  محمد بن سليمان الحنفي البغدادي: الحديقة الندية في آداب الطريقة النقشبندية والبهجة الخالدية، المطبعة العلمية، مصر، 1310 هـ.

8.     الدكتور معن زيادة (رئيس التحرير): الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، 1986 م.

9.     ابن الملقّن: طبقات الأولياء، تحقيق نور الدين شريبة، دار المعرفة، بيروت، الطبعةالثانية، 1986 م.

10. منذر الموصلي : عرب وأكراد ، مطبعة دار العلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1991م.

11. يوسف بن إسماعيل النبهاني: جامع كرامات الأولياء ، تحقيق إبراهيم عطوَه عَوَض، المكتبة الثقافية، بيروت، 1991 م.

وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في  1– 2- 2007

 

 

 

================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الثانية والثلاثون )

القاضي كمال الدين الشهرزوري

 (رجل المهمات الصعبة)

(ت 572  هـ / 1176 م)

الواقعية أولاً

 

  المنعطفات الكبرى

أما المنعطف الأول فكان مع الفتوحات الإسلامية، وكان الكرد حينذاك تابعين للإمبراطورية الفارسية، ولم يكونوا يمتلكون القرار السياسي، وكانت قدراتهم قد شُلّت، وسُحب منهم حق الإسهام في تشييد صرح الحضارة البشرية، وعندما حاقت الهزيمة بالمؤسسة الإمبراطورية الساسانية كان من الطبيعي أن يجد الكرد أنفسهم تحت لواء الدولة الحاكمة الجديدة، أقصد الدولة العربية الإسلامية.

وأما المنعطف الثاني فكان مع العهد العباسي، وهنا برز دور بعض الأسر الكردية الرفيعة الشأن، ومن يقرأ أحداث الثورة العباسية، وتاريخ نشوء الخلافة العباسية بعدئذ، لا بد أن يلاحظ دور الأسرة البرمكية الكردية في نجاح الثورة وقيام الخلافة العباسية من ناحية، وفي صناعة الفترة التي عُرفت في كتب التاريخ باسم (العصر العباسي العباسي الذهبي) من ناحية ثانية.

وأما المنعطف الثالث فكان مع نهضة شعوب شرقي المتوسط- عرباً وكرداً وتركاً بشكل رئيسي- لمقاومة الغزو الفرنجي، ولتحرير الأرض بدءاً من الرُّها (أورفا) الكردية شرقاً وشمالاً إلى دِمياط المصرية جنوباً وغرباً، ولا يمكن ها هنا تغييب دور الكرد الأيوبيين في العهد الزنكي، ودور الجماهير الكردية عامة في العهد الأيوبي، وفي العهد المملوكي بشقيه: التركي والشركسي.

وأما المنعطف الرابع والأخير فكان مع بدايات القرن العشرين، ولا يمكن إغفال دور الزعماء الكرد والجماهير الكردية في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا، ومقاومة الاحتلال الإنكليزي للعراق، ومقاومة الاحتلال اليوناني والطلياني للمدن التركية، مثل أزمير وغيرها، بل إن الزعيم التركي مصطفى كمال (آتاتورك) اتخذ الأناضول الشرقية (المنطقة الكردية في تركيا) قاعدة لانطلاقة المقاومة، وكان وقع حوافر خيول الفرسان الكرد أول ما سمع في شوارع إزمير لطرد الجيش اليوناني.

وفي المنعطفات الثلاثة الأخيرة لا يمكن إغفال دور المثقفين الكرد – أدباء وعلماء ومفكرين ورجال دين- في العمل المخلص للارتقاء بمجتمعات شرقي المتوسط علمياً واجتماعياً، ونقف في هذه الحلقة عند أحد أولئك المثقفين الكرد الكبار؛ إنه الإمام القاضي كمال الدين الشهرزوري.

فماذا عن حياته وشخصيته؟

وماذا عن إنجازاته الشرق متوسطية؟  

  الرجل... والهوية

مر في الحلقة السابقة (أسد الدين شيركوه) أن قاعدة الدولة التركمانية الزنكية كانت في بلاد الكرد، بدءاً من منطقة شهرزور (سليمانية الآن) شرقاً إلى الرُّها (أورفا) غرباً. ومرّ أيضاً أن قوة الزنكيين كانت مستمدة، إلى حدّ كبير، من موارد بلاد الكرد اقتصادياً وبشرياً، ومن موقعها جيوسياسياً. وذكرنا أهمية القوة القتالية للفرسان الكرد وللقادة الكرد في توسيع حدود الدولة الزنكية، وفي الانتصارات التي حققها الزنكيون على الفرنج، سواء أكانت تلك الانتصارات في عهد عماد الدين أم في عهد ابنه نور الدين محمود.

ويبدو أن صليل السيوف يطغى على صرير الأقلام، لكن لولا الاقلام لما استطاعت السيوف وحدها إنجاز الانتصارات، وتأسيس الممالك، وإنتاج الحضارات، وأذكر في هذا الصدد أن جماعة من الضباط الكبار في عهد السلطان صلاح الدين انتقصوا مستشاره الخاص الأديب القاضي الفاضل، وهو من فلسطين، وحطّوا من شأنه، فغضب صلاح الدين، وقال لهم: أتظنون أني فتحت البلاد بسيوفكم؟! إني فتحتها بقلم القاضي الفاضل.

وما صحّ في القاضي الفاضل يصح في القاضي كمال الدين الشهرزوري، فهو لم يكن مجرد قاض يفصل بين الناس في قضاياهم، ويحكم لهذا على ذاك، وإنما كان  من كبار المثقفين في عصره، كما أنه كان من كبار رجال السياسة، وهاهنا تحديداً – أقصد الجمع بين الثقافة والنشاط السياسي – تكمن أهمية الدور الذي قام به هذا الرجل في عصره لصالح مجتمعات شرقي المتوسط.

وأفضل من كتب ترجمة القاضي كمال الدين هو مواطنه القاضي ابن خلّكان في كتابه (وفيات الأعيان)، لأنه قريب من كمال الدين في ثلاثة أمور:

·       أولاً لأنه ابن أربيل المتاخمة لمنطقة شهرزور.

·       وثانياً لأنه كردي مثل القاضي كمال الدين.

·       وثالثاً لأنه ابن مهنة القضاء التي ينتمي إليها كمال الدين.

وقد ذكر ابن خلكان في (وفيات الأعيان، 4/241) أن كمال الدين هو الفقيه الشافعي أبو الفضل محمد بن أبي محمد عبد الله بن أبي أحمد القاسم الشهرزوري، الملقب كمال الدين، وكانت ولادته بالموصل سنة (492 هـ / 1099 م)، ولن أتحدّث عن (شهرزور)، فقد فصّلت فيها القول خلال الحلقة الخاصة بشيخ الإسلام (ابن الصلاح الشهرزوري) ضمن هذه السلسلة، وأفضّل أن يعود إليها من لم يقرأ تلك الحلقة.

وينتمي القاضي كمال الدين إلى أسرة عريقة في العلم والقضاء؛ تعرف باسم (أسرة الشهرزوري)، وقد بدأت شهرة الأسرة بالانتشار بدءاً من الجد الأكبر، قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 4/68) يتحدّث عن الجد:

 " أبو أحمد القاسم بن المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري، والد قاضي الخافقين أبي بكر محمد والمرتضى أبي محمد عبد الله وأبي منصور المظفر، وهو جد بيت الشهرزوري قضاة الشام والموصل والجزيرة، وكلهم إليه ينتسبون، كان حاكماً بمدينة إربل مدة ومدينة سنجار مدة، وكان من أولاده وحفدته علماء نجباء كرماء، نالوا المراتب العلمية، وتقدّموا عند الملوك، وتحكّموا وقضَوا، ونفقت أسواقهم، خصوصاً حفيده القاضي كمال الدين محمد، ...".

وقد تفقه كمال الدين على علماء بغداد، وسمع الحديث من أبي البركات محمد بن محمد بن خميس الموصلي، ثم تولّى القضاء بالموصل، وبنى فيها مدرسة للشافعية، كما بنى رباطاً بالمدينة المنوّرة.

  تحوّلات دراماتيكية

وكانت الموصل وتوابعها – ومعظمها مناطق كردية- عاصمة الدولة الزنكية في طور نشأتها، لذا كان من الطبيعي أن يكون كمال الدين من الموظفين في تلك الدولة، ويبدو أنه، ومنذ بداية حياته- لم يكن من المغمورين، وإنما كان له شأن في عهد الملك الزنكي عماد الدين؛ ودليل ذلك أنه كان مع أخيه تاج الدين أبي طاهر يحيى في عسكر عماد الدين على قلعة جَعْبَر (في شمالي سوريا)، حينما قُتل هذا الأخير سنة (541  هـ/1146 م) ، ولما رجع العسكر إلى الموصل كانا في صحبته.

وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان، 4/241 - 242):

" ولما تولّى سيف الدين غازي ولد عماد الدين... فوّض الأمور كلها إلى القاضي كمال الدين وأخيه بالموصل وجميع مملكته، ثم إنه قبض عليهما في سنة اثنتين وأربعين، واعتقلهما بقلعة الموصل، وأحضر نجم الدين أبا علي الحسن بن بهاء الدين أبي الحسن علي، وهو ابن عم كمال الدين، وكان قاضي الرحبة، وولاه القضاء بالموصل وديار ربيعة عوضاً عن كمال الدين، ثم إن الخليفة المقتفي سيّر رسولاً، وشفع في كمال الدين وأخيه، فأخرجا من الاعتقال، وقعدا في بيوتهما وعليهما الترسيم [الإقامة الجبرية]، وحُبس بالقلعة جلال الدين أبو أحمد ولد كمال الدين، وضياء الدين أبو الفضائل القاسم تاج الدين ".

ولنا أن نستنبط من هذا القول أمرين:

·       الأول أن كمال الدين كان معروفاً، وكانت له مكانة مرموقة، حتى إن الخليفة العباسي في بغداد- وهو أعلى مرجعية دينية وأدبية في العالم الإسلامي حينذاك- يتدخّل للإفراج عنه.

·       والثاني أن مكانة كمال الدين كانت مرتفعة في بداية عهد سيف الدين غازي، لكن ما لبث أن خسر تلك المكانة، وانتهى به الأمر إلى الاعتقال فالسجن، ولم يذكر ابن خلكان سبب هذا التحوّل الدراماتيكي، لكن الأرجح أن له علاقة ما بالصراع المرير الذي دار على السلطة بين أبناء عماد الدين؛ إذ المشهور أنهم صاروا فريقين: الفريق الأول يضم سيف الدين غازي وقطب الدين مودود. والفريق الثاني يضم نور الدين محمود ونصرة الدين أمير أميران.

وكان الكرد يشكّلون قوة لها وزنها في دولة عماد الدين، سواء أكان ذلك على الصعيد العسكري أم على الصعيد الجيوسياسي، ويبدو أن الكرد انقسموا إلى فريقين أيضاً؛ فريق مع سيف الدين، وفريق مع نور الدين. وعلمنا فيما مرّ أن القوة الكردية الأكثر وزناً كانت تتألف من الأيوبيين وأنصارهم، وهم الذين حسموا الخلاف عندما وقفوا إلى جانب نور الدين، وأوصلوه إلى سدّة الملك، وليس من المستبعد، بل الأرجح أن كمال الدين كان من الذين يميلون ضمناً إلى الفريق الأيوبي، ومن ثم إلى جانب نور الدين محمود.

ولا نبني هذه الأرجحية على الظنون، وإنما تفيد الأخبار أن الترسيم رُفع عن كل من كمال الدين وأخيه بعد موت سيف الدين غازي، فالتحقا ببطانة قطب الدين مودود بن زنكي الذي حلّ محلّ أخيه سيف الدين. وفي سنة (550 هـ) انتقل القاضي كمال الدين إلى خدمة نور الدين، وأقام بدمشق مدة، وتولى فيها القضاء سنة (555 هـ)، قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 4/242):

" واستناب ولده وأولاد أخيه ببلاد الشام، وترقّى إلى درجة الوزارة، وحكم في بلاد الشام الإسلامية في ذلك الوقت، واستناب ولده القاضي محيي الدين في الحكم بمدينة حلب، ولم يكن شيء من أمور الدولة يخرج عنه، ... ".

وهل كان من الممكن أن يجد كمال الدين هذه الحظوة عند نور الدين لو كان من أنصار الفريق المعارض؟ بل ألا تبدو هذه الحظوة وكأنها نوع من المكافأة والتقدير والاستقطاب لكمال الدين؟

مهمات صعبة

حقاً كان القاضي كمال الدين رجل المهمات الصعبة، ولا سيما على صعيد العلاقات الخارجية للدولة الزنكية، وفي الأوقات الحرجة التي كانت تمر بها الدولة وشرقي المتوسط عامة، وكان هذا دأبه في عهد كل من الملك عماد الدين وعهد ابنه السلطان نور الدين، ولو استخدمنا المصطلحات السياسية  السائدة في عصرنا هذا لقلنا: إنه كان يقوم بمهامّ وزير الخارجية في الدولة الزنكية.

فبعد أن بسط عماد الدين سيطرته على المناطق الكردية توجّه إلى شمالي سوريا فسيطر عليها، واتخذ حلب قاعدة له، وبما أن البلاد التي حكمها كانت خط المواجهة ضد الفرنج، قرر بسط نفوذه على جنوبي سوريا، ولا سيما مدينة دمشق، وكان حاكم دمشق جمال الدين محمد بن بُوري بن طِغْدكين، وهو من التركمان السلاجقة، لكن السلطة الحقيقية كانت في يد مملوك لهم يدعى معين الدين أنر، وكان جمال الدين عاجزاً عن مواجهة الفرنج، ونرى أن القاضي كمال الدين كان عنصراً فاعلاً في تنفيذ خطة عماد الدين، فقد أوكل إليه، في سنة (534 هـ)، مهمة استمالة سكان دمشق إلى صفوف الزنكيين، ونجح كمال الدين في ذلك، لكن عماد الدين غيّر خطّته بعد ذلك؛ قال ابن الأثير في (الباهر في أخبار الدولة الأتابكية، ص 58):

" وكان أتابك [عماد الدين] قد أمر كمال الدين أبا الفضل بن الشهرزوري بمكاتبة جماعة من مقدّمي أحداثها وزناطرتها [صعاليكها]، واستمالتهم وإطماعهم في الرغائب والصلات، ففعل ذلك، فأجابه منهم خلق كثير إلى تسليم البلد، وخرجوا متفرقين إلى كمال الدين، وجدّد عليهم العهود، وتواعدوا يوماً يزحف فيه الشهيد [عماد الدين] إلى البلد ليفتحوا له الباب، ويسلّموا البلد إليه، فأعلم كمال الدين أتابك بذلك، فقال: لا أرى هذا رأياً، فإن البلد ضيق الطرق والشوارع، متى دخل العسكر إليه لا يتمكّنون من الفتل فيه لضيقه... ".

وذكر ابن الأثير في (الباهر، ص 62)، أنه في سنة (534 هـ) سار عماد الدين إلى بلاد الفرنج وأغار عليها، وجمع الفرنج قواهم، ودارت معركة ضارية بين الفريقين قرب حصن بارين (بين حمص والساحل السوري)، انتصر فيها عماد الدين، وفتح حصن بارين، فاستنجد الفرنج بالروم وبالفرنج في أوربا، فاجتمعت قوى الفرنج والروم لاسترداد حصن بارين، ومهاجمة البلاد التي في يد عماد الدين، فنازلوا مدينة حلب وحاصروها، وهم في جمع لم يشاهد الناس مثله كثرة، وهم مع ذلك موتورون، فلم ير عماد الدين أن يخاطر بالمسلمين ويلقاهم، فانحاز عنهم، ونزل قريباً منهم يمنع عنهم الميرة، ويحفظ أطراف البلاد من انتشار الفرنج والروم فيها والإغارة عليها.

وبطبيعة الحال كان الموقف صعباً، فإن سيطرة الفرنج والروم على حلب كان يعني توجيه ضربة قاصمة إلى واحدة من أهم المراكز الحربية والاقتصادية في مملكة عماد الدين، هذا عدا أن حلب كانت مدخل بلاد الشام إلى العراق مركز الخلافة، واتضح لعماد الدين أنه غير قادر بمفرده على صدّ الهجوم الفرنجي، ولا بد من الاستعانة بالسلطان السلجوقي مسعود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي في بغداد، واختار القاضي كمال الدين لتنفيذ تلك المهمة.

على أن القاضي كمال الدين نبّه عماد الدين إلى وجه الخطر في طلبه النجدة من السلطان مسعود، وقال (ابن الأثير: الباهر، ص 62):

" قلت للشهيد لما أرسلني: أخاف أن تخرج البلاد من أيدينا، ويجعل السلطان هذا حجة، وينفذ العساكر، فإذا توسطوا البلاد ملكوها. فقال الشهيد: إن هذا العدو قد طمع في البلاد، وإن أُخذ حلب لم يبق بالشام إسلام، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفّار".

والحقيقة أن كمال الدين كان مصيباً في رأيه، فإن عماد الدين كان أحد رجال البيت السلجوقي الحاكم، وكان تابعاًُ لهم ويأتمر بأوامرهم، وها هو ذا قد أنشأ دولة تمتد من شهرزور شرقاً إلى ضواحي دمشق غرباً، وأصبح منافساً لسادته، هذا عدا أن بلاده كانت متاخمة للبلاد التي كان يسيطر عليها الفرنج، وقد اضطرّه موقعه إلى أن يرفع لواء الجهاد ضدهم، ويكسب من ثَمّ تأييد الجماهير في شرقي المتوسط، ففاقت شهرته شهرة أسياده في العراق وبلاد فارس؛ لذا كان الحكام السلاجقة يتحيّنون الفرص لتقليم أظافره وإعادته إلى التبعية لهم، بلى كان كمال الدين يدرك هذا كله، لكن أمام إصرار عماد الدين لم يبق أمامه سوى تنفيذ المهمة، فتوجه إلى بغداد، وقال في ذلك (ابن الأثير: الباهر، ص 62 63):

" فلما وصلت إلى بغداد، وأديت الرسالة، وعدني السلطان بإنفاذ العساكر، ثم أهمل ذلك، ولم يتحرك فيه بشيء، وكتب الشهيد متصلة إليّ يحثني على المبادرة بإنفاذ العساكر، وأنا أخاطب ولا أُزاد على الوعد ".

إذاً ما العمل إزاء تردّد السلطان مسعود وتقاعسه؟

وكيف يحمله كمال الدين على إرسال النجدة المطلوبة؟

ها هنا تفتّق دهاء القاضي عن خطّة بارعة، تتمثّل في إثارة جماهير العامة – ولا سيما الرَّعاع منهم- في بغداد، وتحويلهم إلى قوة ضاغطة على أصحاب القرار السياسي، فينتزع منهم النجدة التي قدم للحصول عليها، وقال موضّحاً خطته (ابن الأثير: الباهر، ص 62 63):

" فلما رأيت قلة اهتمام السلطان بهذا الأمر العظيم، أحضرت فلاناً- وهو فقيه وكان ينوب عنه في القضاء، ... فقلت له: خذ هذه الدنانير وفرّقها في جماعة من أوباش بغداد الأعاجم [يسمّيهم ابن الأثير نفسه في كتابه الكامل في التاريخ، 1/58 - 59 باسم رنود العجم، ولعل المقصود: جماعات الشغب]، وإذا كان يوم الجمعة، وصعد الخطيب المنبر بجامع القصر، قاموا وأنت معهم، واستغاثوا بصوت واحد، وا إسلاماه! وا دين محمداه! ويخرجون من الجامع ويقصدون دار السلطان مستغيثين، ثم وضعت إنساناً آخر يفعل مثل ذلك في جامع السلطان ".

إذاً أحكم القاضي كمال الدين خطته، مستغلاً في ذلك انجذاب الناس العامة إلى داعي الجهاد، ووقوفهم إلى جانب كل من يدعو إليه، وسخطهم على كل من يتقاعس عنه، وشرح كمال الدين ما حصل قائلاً (ابن الأثير: الباهر، ص 62 63):

" فلما كانت الجمعة، وصعد الخطيب المنبر، قام ذلك الفقيه، وشق ثوبه، وألقى عمامته عن رأسه، وصاح، وتبعه أولئك النفر بالصياح والبكاء، فلم يبق بالجامع إلا من قام يبكي، وبطلت الجمعة، وسار الناس كلهم إلى دار السلطان، وقد فعل أولئك الذين بجامع السلطان مثلهم، واجتمع أهل بغداد وكل من بالعسكر قاطبة عند دار السلطان يبكون ويصرخون ويستغيثون، وخرج الأمر عن الضبط، وخاف السلطان في داره، وقال: ما الخبر؟ فقيل له: إن الناس قد ثاروا حيث لم ترسل العساكر إلى الغزاة. فقال: أحضروا ابن الشهرزوري".

لقد أدرك السلطان مسعود أن القاضي كمال الدين هو وراء تحريك الجماهير، وأنه ما لم يرسل النجدة فإن نتائج ثورة العامة في بغداد ستتفاقم، وقد تنتشر إلى المدن الكبرى الأخرى، وقد يخرج الأمر من يديه، قال القاضي كمال الدين (ابن الأثير: الباهر، ص 62 63):

" فحضرت عنده وأنا خائف منه. فلما دخلت عليه قال: يا قاضي، ما هذه الفتنة؟ فقلت: إن الناس قد فعلوا هذا خوفاً من القتل والشرك، ولا شك أن السلطان ما يعلم كم بينه وبين العدو، إنما بينكم نحو أسبوع، وإن أخذوا حلب انحدروا إليك من الفرات وفي البر، وليس بينكم بلد يمنعهم عن بغداد، وعظّمت الأمر عليه حتى جعلته كأنه ينظر إليهم".

إذاً لم يكتف القاضي كمال الدين باستثارة العامة على السلطان وبطانته، وإنما راح يؤثر على السلطان نفسه بصورة مباشرة، موضحاً له خطورة استمراره في التقاعس عن الوقوف مع عماد الدين ضد الهجوم الفرنجي، وأن مركزه في بغداد ليس بعيداً عن خط الدفاع الأول في حلب، وأن سلطنته نفسها واقعة تحت التهديد الفرنجي، وقد أثمرت جهود القاضي، وقال في ذلك (ابن الأثير: الباهر، ص 62 63):

  " فقال [السلطان مسعود]: اردد هؤلاء العامة عنا، وخذ من العساكر ما شئت وسر بهم والأمداد تلحقك. قال: فخرجت إلى العامة ومن انضم إليهم وعرّفتهم الحال، وأمرتهم بالعود، فعادوا وتفرّقوا. وانتخبت من عسكره عشرين ألف فارس، وكتبت إلى الشهيد أعرّفه الخبر، وأنه لم يبق غير المسير، وأجدّد استئذانه في ذلك. فأمر بتسييرهم والحث على ذلك، فعبرت العساكر إلى الجانب الغرب ".

ويبدو أن عماد الدين كان قد تنبّه بدوره إلى خطر وجود قوة سلجوقية منافسة له في بلاده، وأن السلطان مسعود قد يتخذ موضوع الجهاد ذريعة لبسط سيطرته على بلاد الشام، فأرسل رسولاً إلى القاضي كمال الدين، يخبره أن الروم والفرنج قد رحلوا عن حلب، ويأمره بعدم الحاجة إلى قوات السلطان مسعود، وليس من المستبعد أن جواسيس الفرنج هم الذين أنهوا إليهم خبر قدوم الجيش السلجوقي من العراق، فرأوا أنه لا طاقة لهم بملاقاة الجيشين الزنكي والسلجوقي، فآثروا الانسحاب.

لكن الموقف الجديد الذي اتخذه عماد الدين لم تجعل جهود القاضي المضنية تذهب عبثاً فقط، بل زجّت به في موقف أكثر صعوبة، فهو بعد أن أثار العامة على السلطان مسعود، وضيّق عليه الخناق، وجعله يوافق على تزويده بقوة قتالية تشارك في الدفاع ضد الهجوم الرومي الفرنجي، كيف يمكنه أن يطالب بعكس ما ألحّ عليه سابقاً؟ وماذا سيقول للناس الذين حرّضهم على الثورة؟ دعونا نقرأ ما قاله كمال الدين حول معالجة الوضع الجديد (ابن الأثير: الباهر، ص 62 63):

" فلما خوطب السلطان في ذلك أصرّ على إنفاذ العساكر إلى الجهاد، وقصد بلاد الفرنج، وأخذها منه، وإزاحتهم عنها، وكان قصده بذلك أن تطأ عساكره البلاد بهذه الحجة فيملكها... فلم أزل أتوصل مع الوزير وأكابر الدولة، حتى أعدت العساكر إلى الجانب الشرقي، وسرت إلى الشهيد ".

وهكذا فقد أفلح القاضي كمال الدين في تنفيذ سياسة عماد الدين، وإنقاذ مملكته من قبضة السلطان مسعود، وعلق ابن الأثير على هذا الموقف قائلاً وهو يبدي إعجابه الشديد بحنكة القاضي في التعامل مع المهمات الصعبة (ابن الأثير: الباهر، ص 63):

" فانظر إلى هذا الرجل الذي هو خير من عشرة آلاف فارس. رحم الله الشهيد [عماد الدين]، فلقد كان ذا همة عالية، ورغبة في الرجال ذوي الرأي والعقل، يرغّبهم ويخطبهم من البلاد، ويوفّر لهم العطاء، حكى لي والدي، قال: قيل للشهيد: إن هذا كمال الدين يحصل له كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية، وغيره يقنع منك بخمسمئة دينار. فقال لهم: بهذا العقل والرأي تدبّرون دولتي؟! إن كمال الدين يقلّ له هذا القدر، وغيره يكثر له خمسمئة دينار، فإن شغلاً واحداً يقوم فيه كمال الدين خير من مئة ألف. وكان كما قال رضي الله عنه ".  

في عهد نور الدين

في عهد نور الدين زنكي تولّى القاضي كمال الدين قضاء دمشق سنة (555 هـ)، غير أن عمله لم يقتصر على أمور القضاء، وإنما أهّلته خبرته في العلاقات الخارجية خلال عهد عماد الدين لأن يستمر في المجال نفسه خلال عهد نور الدين.

ومن أولى إنجازاته الداخلية في هذا المجال أنه راح ينصح كمال الدين بما يحفظ للدولة الزنكية قوّتها، ويبصّره بما يمكن أن يكون سبباً في ضعفها، ومن ذلك أنه لما امتلك نور الدين الموصل خلعها على سيف الدين ابن أخيه قطب الدين مودود، وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين، فنبّهه القاضي كمال الدين إلى وجه الخطأ في ذلك. قال ابن الأثير في (الكامل في التاريخ، 11/364 – 365)، وهو يسرد أحداث سنة (566 هـ):

" فلما فعل ذلك قال كمال الدين بن الشهرزوري: هذا طريق إلى أذًى يحصل لبيت أتابك، لأن عماد الدين كبير، لا يرى طاعة سيف الدين، وسيف الدين هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين، فيحصل الخُلْف، ويطمع الأعداء، فكان كذلك على ما سنذكر سنة سبعين وخمسمائة ".

ومن إنجازاته الخارجية أنه كانت له اليد الطولى في إقناع ديوان الخلافة بتسليم مقاليد السلطة إلى نور الدين بعد مقتل والده عماد الدين، وكانت الخلافة هي المرجعية الشرعية والدستورية في العالم الإسلامي حينذاك، وكان اعتراف دار الخلافة بالحكّام والملوك والسلاطين أمراً لا بد منه، وإلا فإن سلطة الحاكم لا تكون شرعية، بل يعدّ خارجاً على الشرع؛ لذا كان على نور الدين زنكي أن يحصل على مرسوم صادر من الخليفة، فلم يجد من يقوم بهذه المهمة  أفضل من كمال الدين، فأرسله سنة (568 هـ) إلى الخليفة، قال ابن الأثير في (الباهر، ص 54، 63)، وانظر (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 11/395):

 " وحمّله رسالة مضمونها الخدمة للديوان، وما هو علـيه من جهاد الكفّار [الفرنج]، وفتح بلادهم، ويطلب تقليداً [مرسوماً] بما بيده من البلاد؛ مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما في طاعته كديار بكر، وما يجاور ذلك، ... فأُكرم كمال الدين إكراماً لم يُكرَم به رسول مثله، وأجيب إلى ما التمسه ".  

وكان القاضي كمال الدين هو رسول نور الدين إلى الخليفة المقتفي، كما أن الخليفة المقتفي اتخذه رسولاً للإصلاح بين نور الدين وقلج أرسلان بن مسعود صاحب الروم. وذكر أبو شامة في (عيون الروضتين، 1/328) أنه في سنة (568 هـ) انتصر مليح بن لاون زعيم الأرمن- وكان مخاصماً للروم متحالفاً مع نور الدين- على الروم، وأسر منهم ثلاثين أسيراً، ووجّههم إلى نور الدين، فأرسل نور الدين القاضي كمال الدين إلى الخليفة المستضيء بأمر الله، ومعه هدايا وأسرى، وكتب معه كتاباً يشرح فيه هزيمة الفرنج، وما فتحه من البلاد.

ولما توفي السلطان نور الدين زنكي سنة (569 هـ)، وتولّى صلاح الدين الأيوبي السلطنة، ودخل دمشق، وضمّها إلى مملكته، أقرّ القاضي كمال الدين على المناصب التي كانت موكولة إليه.

خصال رفيعة

إن سيرة القاضي كمال الدين، والمهمات السياسية الصعبة التي قام بها خير قيام، لا تدع مجالاً للشك في أن الرجل قد جمع في شخصه بين خصائص المثقف القدير والسياسي الحكيم، وأنه كان يتميّز بقدرات ومؤهّلات رفيعة، وإلا لما بقي محتفظاً بمكانته المرموقة خلال عهود ثلاثة؛ عهد عماد الدين، وعهد نور الدين، وعهد صلاح الدين، وقد أجمل ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 2/242 – 243) وصف شخصية القاضي كمال الدين قائلاً:

" وكان فقيهاً أديباً شاعراً كاتباً ظريفاً فكه المجالسة، يتكلم في الخلاف والأصولين كلاماً حسناً، وكان شهماً جسوراً كثير الصدقة والمعروف، وقف أوقافاً كثيرة بالموصل ونصيبين ودمشق، وكان عظيم الرياسة خبيراً بتدبير الملك، لم يكن في بيته مثله، ولا نال أحد منهم ما ناله من المناصب مع كثرة رؤساء بيته، وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وله نظم جيد...".

ووصفه ابن القلانسي في (تاريخ دمشق، ص 548) قائلاً:

" وولي قضاء دمشق القاضي الأجل الإمام كمال الدين بن الشهرزوري، وهو المشهور بالتقدم، ووفور العلم، وصفاء الفهم، والمعرفة بقوانين الأحكام، وشروط استعمال الإنصاف، والعدل، والنزاهة عن الإسفاف، وتجنّب الهوى والظلم، وحكم بين الرعايا بأحسن أفصال الحكم، ...".

وكان القاضي كمال الدين مهتماً بالعلماء، حريصاً على إنزالهم منازلهم التي تليق بهم، وذكر أبو شامة في (عيون الروضتين، 1/283) أن العماد الكاتب الأصفهاني قدم دمشق في سنة (562 هـ)، فأنزله القاضي كمال الدين الشهرزوري بالمدرسة النورية بباب الفرج، وهي المعروفة بالعمادية نسبة إلى العماد الكاتب هذا، وذكر لنور الدين حاله، وعرّفه به، وعرض عليه قصيدة له في مدحه. ولا ريب أن هذا التقديم كان مدخل العماد الأصفهاني من بعد للارتقاء في دولة نور الدين، وبصور أكبر في دولة صلاح الدين الأيوبي.

وكان القاضي كمال الدين جريئاً على قول الحق، وذكر ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 5/201) أنه حينما دخل السلطان السلجوقي مسعود بغداد أرسل عماد الدين القاضي كمال الدين من الموصل برسالة إليه، فوقف القاضي يوماً على باب خيمة الوزير حتى قارب المغرب، ولم يتمكن من مقابلته، فعاد والتقى في طريقه بفقيه في خيمة فنزل وصلّى معه المغرب، وسأله كمال الدين: من أين هو؟ فقال أنا قاضي مدينة كذا. فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة، قاضيان في النار وهو أنا وأنت، وقاض في الجنة، وهو من لا يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم. فلما كان من الغد أرسل السلطان مسعود وأحضر كمال الدين، فلما دخل ورآه السلطان ضحك، وقال: القضاة ثلاثة. فقال كمال الدين: نعم يا مولاي. فقال: والله صدقت، ما أسعد من لا يرانا ولا نراه! ثم أمر به فقضيت حاجته، وأعاده من يومه.

وتوفي القاضي كمال الدين سنة (572 هـ) بدمشق، ودفن بجبل قاسيون.

المراجع

1.    ابن الأثير:

-        التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة، القاهرة، مكتبة المثنى، بغداد، 1963 م.

-  الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م.

2.    الأسنوي (جمال الدين عبد الرحيم ت 772): طبقات الشافعية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1987 م.

3.    ابن خلكان: وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1969 م.

4.    خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977 م.

  1. أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق أحمد البيسومي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.
  2. ابن القلانسي: تاريخ دمشق، تحقيق الدكتور سهيل زكّار، دار حسّان للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1983 م.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في  16– 1- 2007

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الحادية والثلاثون )

 شيركوه: أسد الجبل والقائد العبقري

 (ت 564 هـ)

صانعو التاريخ

صانعو التاريخ ثلاثة: المثقف، والسياسي، والتاجر.

أما المثقف فهو صاحب (الفكرة) ومبدعها.

وأما السياسي فهو الذي يحوّل (الفكرة) إلى (موقف عملي).

إنه يجسّدها في نظام وإدارة، وفي بناء علاقات داخلية وخارجية.

وأما التاجر فيبقى وراء الستار، متربّصاً بجهود كل من المثقف والسياسي، حتى إذا أثمرت وآتت أُكُلها انقضّ عليها، واستأثر بها، مستغلاً في ذلك حقيقة أن الشعوب - وليست الجيوش وحدها- تزحف على بطونها.

وتعالوا نقلّبْ أسفار التاريخ قديماً وحديثاً شرقاً وغرباً.

سنجد أنه ما من دين انتشر، ولا مذهب ساد، ولا إيديولوجيا ترسّخت، ولا أمة نهضت، ولا دولة تأسّست، ولا إمبراطورية توسّعت، ولا قوة هيمنت، إلا كان صاحبها في البداية نبياً، أو فيلسوفاً، أو مفكّراً؛ أو عالماً؛ أي أنه كان مثقفاً، وقد يكون المثقف نفسه سياسياً، والأمثله على ذلك كثيرة في التاريخ القديم والحديث.

أقول هذا ليس تحيّزاً للثقافة، ولا تمجيداً للمثقفين، بل إقراراً بالواقع، ولفتاً للانتباه إلى الموقع الرائد للمثقف في المجتمعات، وتذكيراً للمثقفين أنفسهم بالمهمات الملقاة على كواهلهم؛ إنها مهمّات كبرى، ولذا فهي صعبة، ولا عجب، فالقابض على الثقافة الحقيقية كالقابض على الجمر.

جسور.. لا خنادق

ومن أعظم مهمّات المثقف الحقيقي- كائناً من كان- أن يكون صاحب مشروع إنساني، فيقيم الجسور بين الشعوب، ويجعل الطرق بين الأديان والمذاهب سالكة، لا أن يحفر الخنادق، ويقيم الحواجز، وينصب الأسلاك الشائكة. ومن أنبل إنجازاته أن يضيء الدروب، ويؤلّف القلوب، ويوسّع الرؤية، ويعمّق الودّ في النفوس، لا أن يبذر الأحقاد، ويوقظ الضغائن، ويثير العداوات، ويجدّد الخصومات.

وتلك هي مهمّات مثقّفي شرقي المتوسط، ولا سيما في عصرنا هذا.

وهذا ما أحرص عليه مخلصاً، وأسعى إليه جاهداً.

ومع ذلك أجدني مضطراً، في ترجمة القائد الكردي شيركوه، إلى ذكر بعض الصراعات الدينية القديمة؛ فتغييبها يكون تغييباً لحقائق تاريخية، واقتلاعاً للمعلومات من سياقاتها، هذا مع نفوري من إحياء مشكلات عفا عليها الزمن، أو تجديد التناحر حول قضايا أصبحت في ذمة التاريخ، فالمفروض – فيما يراه كل عاقل- أن تتجه البشرية نحو الأمام لا إلى الوراء، وأن تسعى الشعوب نحو علاقات أكثر ودادة وتكاملاً، ونحو حياة أوفر طمأنينة وسلاماً وسعادة.

فمن هو شيركوه؟

بل قبل ذلك: ماذا عن عصره؟   

أحداث على تخوم القوقاز

أما الاسم فهو شيركوه؛ ويعني بالكردية (أسد الجبل).

وأما اللقب فهو أسد الدين؛ على عادة أعلام ذلك الزمان.

وأما كنيته فهي أبو الحارث، وكان العرب يطلقون الكنى على بعض الحيوانات، فالثعلب كنيته (أبو الحُصَين)، والضبع كنيته (أم عامر)، والأسد كنيته (أبو الحارث)، ولا بد أن شيركوه كان على علم بهذه الحقائق في التراث العربي، فاختار كنيته بشكل تتوافق فيه دلالة الأسد بالصيغة الكردية (شيركوه) مع الصيغة العربية (أبو الحارث).

وأما والده فهو (شاذي)، حسبما ورد في أغلب المصادر العربية الإسلامية، وهو تعديل للصيغة الكردية (شادي)، وتعني بالكردية: (السعيد) فيما أعلم.

وشيركوه هو عمّ السلطان صلاح الدين، ويبدو أن شهرة ابن الأخ غطّت على شهرة العمّ، والحق أنه كان وراء عظمة صلاح الدين مربّيان كبيران: أما في رجاحة العقل وحسن السياسة فوالده نجم الدين أيوب. وأما في البسالة والفروسية وقيادة الجيوش، وتحقيق الانتصارات، فعمه أسد الدين شيركوه.

 وبداية لا بد من القيام برحلة عبر التاريخ زماناً ومكاناً.

أما زماناً فإلى القرن الرابع الهجري/الحادي عشر الميلادي.

وأما مكاناً فإلى تخوم القوقاز (قفقاسيا) شمالاً وشرقاً، وتحديداً إلى حيث تقع اليوم دول ثلاث؛ هي جمهورية أذربيجان، وجمهورية جورجيا، وجمهورية أرمينيا؛ وقد مر بنا في حلقة سابقة أن وجود الكرد في تلك المناطق لم يكن طارئاً، وإنما يمتد إلى ما قبل الميلاد بأكثر من ألف عام، حتى إن البلاذري (فتوح البلدان، ص 203) يسمّي نهر كارني الذي عبره حبيب بن مسلمة الفِهْري سنة (22 هـ / 643م)  باسم (نهر الأكراد)، وذكر ابن حوقل (صورة الأرض، ص 291) أنه كان في بَرْذَعة – وهي كبرى مدن الرّان (أرّان) - باب يسمى (باب الأكراد)، وكان ثمة تداخل كبير بين شعوب سمّيت بعدئذ كرداً وفرساً وأرمناً وآذريين وجورجيين، وكانت أسماؤها قبل ذلك: الميد، والأخمين، والبرث، والخالديين، واللان، والسكيث، والتات.

وقد وصلت الفتوحات الإسلامية إلى تلك المناطق في القرن الأول الهجري، وكان الأرمن والجورجيون وشعوب قفقاسية أخرى قد اعتنقت المسيحية قبل ظهور الإسلام، أما الكرد فكانوا زردشتيين، لكنهم تحوّلوا رويداً رويداً إلى الإسلام، وأصبحوا القوة القتالية الإسلامية الضاربة في جنوبي القوقاز، ووقع على كاهلهم – بفعل موقعهم الجغرافي- أن يقوموا بعبء الدفاع عن الدولة الإسلامية في الجبهة الشمالية الشرقية، ويدخلوا من ثَمّ في صراعات وحروب طويلة وعنيفة؛ شمالاً ضد الشعوب المسيحية التابعة للكنيسة الأرثوذكسية (الشرقية)، وغرباً ضد الدولة الرومية (البيزنطية) حامية الكنيسة الكاثوليكية، ومعروف أنه لما سقطت القسطنطينية – عاصمة الروم- تحت ضربات الترك العثمانيين سنة (1453 م) انتقل مركز الكنيسة الأرثوذكسية إلى روسيا، وما زال هناك.

وفي خضم تلك الصراعات الدينية، وصموداً في وجه الهجمات القادمة من الشمال والغرب، أقام الكرد كيانات سياسية جنوبي القوقاز، بدأها في أذربيجان قائد من أب عربي وأم كردية يسمّى ديسم بن إبراهيم الكردي، ودام حكمه (18) ثماني عشرة سنة (327 345 هـ / 938 – 956 م)، ثم ظهرت الدولة الرَّوادية- نسبة إلى مؤسسها محمد بن حسين الروادي- في أذربيجان على أنقاض الدولة السالارية الديلمية، واتخذ الرواديون تبريز عاصمة لهم سنة (343 هـ / 954 م)، وأفل نجمهم السياسي سنة (463 هـ / 1070 م)، بعد حكم دام قرابة (117) سنة.

وأقام الكرد الدولة الشدادية – نسبة إلى مؤسسها محمد بن شداد- سنة (340 هـ/951 م)، وحكم الشداديون المنطقة الواقعة بين نهر الكُر شمالاً، ونهر آراس (آراكس= الرسّ) جنوباً، ويسمّي الجغرافيون المسلمون تلك المنطقة باسم أرّان  (الرّان)، وهي مقسّمة الآن بين أذربيجان وأرمينيا، وتقع فيها منطقة قره باغ ونشوى (نخجفوان) المتصارع عليها بين الدولتين، والتي قامت فيها جمهورية لاتشين الكردية في عهد الزعيم السوفييتي لينين، ثم قُضي عليها في عهد ستالين بتحريض من الآذريين. كما حكم الشداديون بعض أرمينيا، ومن مدنهم المركزية هناك دَبِيل وجَنْزَة (كَنْجة، ويُظن أنها دُوين)، وبَرْذَعة، وآني، وزال حكمهم سنة (468 هـ/1075 م).

وكانت هاتان الدولتان معاصرتين لدولة كردية أخرى ذات شأن، هي الدولة المروانية (الدوستكية)، والحقيقة أن هذه الدول الكردية كانت تحمي تخوم العالم الإسلامي- ولا سيما العراق دار الخلافة- من جهة الشمال، وقد سقطت جميعها تحت ضربات التركمان السلاجقة القادمين من الشرق، والذين هيمنوا على إيران والعراق، ودخل ملكهم طغرل بك بغداد سنة (447 هـ/1055 م)، وأزال الدولة البويهية، وفاز باعتراف الخليفة العباسي القائم بأمر الله ، ثم انطلق السلاجقة غرباً نحو بلاد الشام، وشمالاً نحو كردستان وبلاد الروم.

إلى تكريت

وإثر التصدّع الذي أصاب الدول الكردية في جنوبي القوقاز، على أيدي السلاجقة كما مر، تشردّت الأسر الكردية ذات الشأن، ومن تلك الأسر أسرة شادي الروادي، وقد مر في ترجمتنا لصلاح الدين الأيوبي، ضمن هذه السلسلة، أن الأسرة الأيوبية قدمت إلى العراق من دُوِين في أرمينيا، وأنها من أشراف العشيرة الروادية، وهذه العشيرة هي فرع من قبيلة هدباني (هذباني) الكردية الكثيرة الانتشار في مناطق جنوبي القوقاز (أذربيجان، أرمينيا، جورجيا).

وبدأ أول ظهور لشيركوه في كتب التاريخ وهو يتوجّه مع والده شادي وأخيه الأكبر أيوب إلى العراق، وهناك التحقوا بمجاهد الدين بَهْرُوز، صديق شادي القديم، وكان بَهْرُوز شِحْنة بغداد (وزير الداخلية باللغة المعاصرة)، فعيّن صديقه شادي دِزْداراً (قائداً للشرطة) في مدينة تكريت، وكانت تابعة له، وبعد وفاة شادي أسند بهروز المنصب إلى نجم الدين أيوب بن شادي؛ إذ رأى فيه " عقلاً ورأياً وحسن سيرة " كما قال أبو شامة في كتابه (عيون الروضتين، 1/263).

ومر بنا أيضاً، في حلقة سابقة، أن حاكم الموصل السلجوقي عماد الدين زنكي كان قد اتفق مع السلطان السلجوقي مسعود سنة (526 هـ/1132 م)، على حصار بغداد، فاستعان الخليفة المسترشد بالله وأنصاره بحاكم فارس وخوزستان قراجا الساقي، ودارت معركة بين الفريقين، انتهت بهزيمة عماد الدين، فتقهقر بجنوده شمالاً، وساعده نجم الدين على اجتياز نهر دجلة بجيشه، والخلاص من انتقام خصومه الذين كانوا يطاردونه، وهذا ما أثار غضب مجاهد الدين بهروز.

وفي سنة (532 هـ/1137 م)- وهي السنة التي ولد فيها صلاح الدين- يظهر شيرگوه مرة أخرى، لكن في مشهد عنيف هذه المرة، فقد قتل أحد كبار الضباط أو الموظفين في حامية قلعة تكريت، لخصومة كانت بينهما، فطلب بهروز من نجم الدين وأخيه الخروج من تكريت، فتوجّها بمن معهما من الأتباع إلى الموصل، حيث يحكم صديقهما عماد الدين.

ومن الطبيعي أن يرحّب عماد الدين بأيوب وأخيه شيركوه ويكرمهما؛ أولاً لردّ الجميل، وثانياً لأنه صاحب مشروع سياسي كبير في شرقي المتوسط، يتمثّل أول ما يتمثّل في مقارعة الفرنجة، وتوسيع حدود دولته في الأناضول وبلاد الشام، وها هو ذا يجد بين يديه قوة قتالية كردية متمرّسة وفاعلة، يقودها قائدان يتميّزان بالخبرة والبسالة، وما عليه إلا أن يجيد توظيف هذه القوة في تحقيق مشروعه الطموح.

في جيش زنكي

وعمل نجم الدين وشيركوه في الجيش الزنكي، وحينما بدأ عماد الدين هجومه على جنوبي سـوريا سنة (534 هـ) عيّن نجم الدين حاكماً على قلعة بعلبـك في لبنـان، ويبدو أن الأخوين أصبحا من القوى المؤثرة  في الدولة الزنكية؛ إذ نجدهما، بعد اغتيال عماد الدين على أيدي بعض خدمه سنة (541 هـ)، يقفان إلى جانب ولده نور الدين محمود، وذلك في خضم التنافس على السلطة بين أبناء عماد الدين الأربعة، واستطاعا أن يحسما الأمر لصالحه، فحل محل والده في سدّة المُلك.

بل إن استعراضاً سريعاً لنشاطات عماد الدين جيوسياسياً وتعبوياً لا تدع مجالاً للشك في أن المناطق الكردية، جغرافياً وبشرياً واقتصادياً، كانت حصنه الحصين، كما أنها كانت نقطة انطلاقه لخوض المعارك ضد الفرنج شمالاً وغرباً نحو الأناضول، وجنوباً وغرباً في بلاد الشام، يقول أبو شامة (عيون الروضتين، 1/183 –185) في بداية تولّي عماد الدين ولاية الموصل؛ بعد مقتل والده قسيم الدولة آقسنقر خلال الصراعات السلجوقية الداخلية:

 " فأخذ جزيرة ابن عمر [جزيرة بوتان] وإربل، وسنجار، والخابور، ونصيبين، ودارا، وبلاد الهكّارية، وبنى قلعة العمادية، وملك من ديار بكر، طَنْزة، وإسعرد [سيرت]، ومدينة المعدن، وحيزان، وحائي، وعانة، وغيرها، واستولى على قلاع الحميدية وولاياتهم من العَقْر، وقلعة شوش ".

وبعد أن بسط عماد الدين نفوذه على كل تلك المناطق- وهي كردية في غالبيتها العظمى- وأسس قاعدة متكاملة الموارد عسكرياً وبشرياً واقتصادياً، انطلق نحو بلاد الشام، يقول أبو شامة (عيون الروضتين، 1/185 –186):

" وعبر الفرات، فملك منبج، وحلب، وحماة، وحمص، وغيرها، وفتح شيزر، وبعلبك، وحاصر دمشق ".

واستكمل نور الدين تنفيذ مشروع والده الطموح، وهو توسيع دولته في كردستان وبلاد الشام والأناضول، وما كان ليتمكن من ذلك إلا بمقارعة الفرنج، وكان هؤلاء يسيطرون على منطقة شاسعة الاتساع في شرقي المتوسط، تبدأ من منطقة الرُّها (أورفه) شمالاً، وتنتهي بالعريش في مصر جنوباً، ومروراً بكل السواحل الشامية، وبعض مناطق الداخل حتى أبواب حلب.

الرجل الثاني

إن قدرات شيركوه العسكرية، من حيث التخطيط والقيادة والتنفيذ، إضافة إلى شجاعته وبسالته، جعلت منزلته ترتفع عند نور الدين، وقديماً قيل: إن الطيور على أشكالها تقع، وقد كان السلطان نور الدين زنكي متصفاً بالوقار والهيبة، وبحسن القيادة، وبالبسالة والشجاعة، ومن الطبيعي أن يكون أول من يكتشف عبقرية شيرگوه الحربية، وهذا ما تمّ فعلاً، فقد جعله كبير قوّاده.

بل كان نور الدين يسند إلى شيركوه المهامّ التي يعجز عنها الآخرون، ويعدّه كبير قوّاده (وزير دفاع بلغة عصرنا)، ويتعامل معه باعتباره الرجل الثاني في الدولة، ولا ننس أن شيركوه، وبالتعاون مع أخيه نجم الدين، أفلح في فتح دمشق، وضمها إلى الدولة الزنكية، ولا يجهل كل قارئ لتاريخ تلك الفترة مكانة دمشق الخطيرة في الصراع ضد الفرنج. وكان نور الدين يدرك أهمية ذلك الإنجاز، فكافأ كلاً من نجم الدين وشيركوه مكافأة كبرى، حسبما ذكر ابن الأثير في (التاريخ الباهر، ص 120)، وقال أبو شامة (عيون الروضتين، 1/264):

" وصارا عنده في أعلى المنازل، لاسيما نجم الدين، فإنّ جميع الأمراء كانوا لا يقعدون عند نور الدين إلا أن يأمرهم، أو أحدهم بذلك، إلا نجم الدين، فإنه كان إذا دخل قعد من غير أن يؤمر بذلك ".

وذكر أبو شامة (عيون الروضتين، 1/244) أن نور الدين مرض ذات مرة، فحُمل في محفّة إلى قلعة حلب، " وأوصى أن يكون أخوه نصرة الدين في منصبه مقيماً في حلب، وأسد الدين نائب عنه في دمشق، ثم عافاه الله تعالى ". وكانت حلب مركز القيادة العليا في الشمال السوري، وكانت دمشق مركز القيادة العليا في الجنوب السوري، وكان نور الدين قد اتخذها عاصمة لدولته، ونقطة انطلاق لمواجهة الفرنج في الساحل السوري.

ولنتأمل خبراً آخر ذكره أبو شامة (عيون الروضتين، 1/246 إنه يقول:

 " وسار نور الدين بعد أخذ شيزر إلى سرمين [بلدة في غربي حلب]، لأنه بلغه حركة الفرنج، فاعترضه هناك مرض أشفى منه [كاد يهلكه]، فأحضر شيركوه، وأوصاه بالعساكر، وأن يكون الأمر بعده لأخيه نصرة الدين أمير أميران، فسار أسد الدين إلى دمشق، وأقام بمرج الصُفَّر، خوفاً أن يتحرك الفرنج إلى جهة دمشق أو غيرها، ولم يزل هناك حتى تعافى نور الدين، فعاد إلى خدمته مهنئاً ".

ومعروف أن نور الدين تركماني سلجوقي، وكان جيشه يعجّ بمئات القادة والضباط التركمان البارزين، لكنا نراه في المواقف العصيبة يثق بشخصين اثنين، هما أخوه نصرة الدين وشيركوه، بل نجده يكل أمر القوة العسكرية الزنكية بأجمعها إلى شيركوه وحده، وهذا يعني أنه كان يثق بوزير دفاعه ثقة مطلقة، ويأتمنه على الأسرة الزنكية وعلى الدولة من بعده، ومرة أخرى قام شيركوه بالمهمة خير قيام، فتوجه إلى دمشق، ورابط قريباً منها، ليصدّ كل هجوم قد يقوم به الفرنج، مستغلين مرض نور الدين.

وكان نور الدين يجلّ كبير قوّاده، ففي سنة (556 هـ) قام شيركوه بالحج إلى مكة، ولما عاد خرج نور الدين إلى لقائه (عيون الروضتين 1/254)، وكان يندبه للمهام العسكرية الجسام، فعيّنه  قائداً على الجبهة الغربية (منطقة حمص) في مواجهة الفرنج؛ يقول الفتح بن علي البُنْداري  في كتابه (سنا البرق الشامي، ص 24):

" ولما كان ثغر حمص أخطر الثغـور تعيّن أسـد الدين لحمايته وحفظه ورعايته، لتفرّده بجـدّه واجتهـاده وبأسـه وشجاعته ".

وذكر ابن الأثير مكانة شيركوه عند نور الدين (التاريخ الباهر، ص 120) قائلاً:

" فقرّبه نور الـدين، وأقطعه، ورأى منه في حروبه ومشاهـده آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعـته وجرأته، فزاده إقطاعاً وقرباً، حتى صار له حمص والرَّحْبة وغيرهما، وجعله مقدّم عسكره ".

الحملة الأولى على مصر

ومن أعظم إنجازات شيركوه العسكرية والإستراتجية حماية مصر من الوقوع في قبضة الفرنج، وضمها من بعد إلى الدولة الزنكية (توحيد مصر والشام)، والتمهيد بذلك لإقامة الدولة الأيوبية بقيادة ابن أخيه صلاح الدين.

وكانت مصر حينذاك مركز الخلافة الفاطمية، غير أن تلك الدولة كانت تعـاني الضعف، وأصبحت ألعوبة بين أيدي الوزراء والقواد؛ الأمر الذي أحـدث كثيراً من الاضطرابات، وأسال لعاب الأطماع الفرنجية. وقد جاء شاور وزير الخليفة الفاطمي إلى دمشق، مستنجداً بنور الدين على منافسه ضرغام الذي سلبه منصب الوزارة قهراً، فانتدب نور الدين قائده المحنّك شيركوه لهـذه المهمة، قال أبو شامة في أحداث سنة (559 هـ) (عيون الروضتين، 1/265)، مؤكداً ما ذكره ابن الأثير في ( التاريخ الباهر، ص 120):

" فلما كانت سنة تسع وخمسين هذه، وعزم نور الدين- رحمه الله- على إرسال العسكر إلى مصر، لم يرَ لهذا الأمر الكبير أقوم ولا أشجع من أسد الدين، فسيّره ".

وأضاف أبو شامة قائلاً (عيون الروضتين، 1/266):

 " واستصحب شيركوه معـه ابن أخيـه صلاح الدين يوسف بن أيوب، وجعله مقدَّم عسكره، وصاحب رأيه، وكان لا يفصل أمراً، ولا يقدّر حالاً، إلا بمشورته ورأيه، لما لاح له من من آثار الإقبال والسعادة الصحيحة، واقتران النصر بحركاته ".

وهكذا بدأت حملة شيركوه الأولى على مصر سنة (559 هـ / 1164 م)، وانتصر على قوات الوزير ضرغام، وأعاد شاور إلى منصب الوزارة، لكن ما لبث شاور أن غدر بشيركوه، ونقض الشروط التي كان قد اتفق عليها معه، وأرسل إليه يأمره بالعودة إلى بلاد الشام.

ورداً على استفزازات شاور وغدره بسط شيركوه سلطته على بَلْبيس وشرقي مصر، فاستنجد شاور بالفرنجة، فزحف ملك الفرنج من القدس، وحاصر جيش شيركوه في بلبيس ثلاثة أشهر، ففتح نور الدين جبهة الحرب ضد الفرنج في بلاد الشام، وألحق بهم هزيمة نكراء في حارم (غربي حلب)، فاضطر ملك القدس الفرنجي إلى التفاوض مع شيركوه، مشترطاً عليه أن ينسحب من مصر، ويعود إلى بلاد الشام، فأجابه إلى ذلك، وعاد إلىالشام سالماً وفي نفسه من شاور وغدره حنقٌ شديد.

ووصف أبو شامة شجاعة شيركوه في خروجه من بَلْبِيس، بعد حصار الجيشين المصري والفرنجي، فقال (عيون الروضتين، 1/336):

" حدّثني من رأى أسد الدين حين خرج من بلبيس، قال: رأيته وقد أخرج أصحابه بين يديه، وبقي آخرهم وبيده لَتّ [فأس حربية كبيرة] من حديد يحمي ساقتهم [مؤخرة الجيش]، والمسلمون والفرنج ينظرون، قال: وأتاه فرنجي من الغرباء، فقال له: أما تخاف أن يغدر بك هؤلاء المسلمون والفرنج، وقد أحاطوا بك وبأصحابك فلا يبقى لك معهم بقيّة؟! فقال شيركوه: يا ليتهم فعلوا! كنتَ ترى مـا لم تر مثله، كنتُ والله أضـع سيفي فلا أُقتل حتى أقتل رجالاً ... فوالله لو أطـاعني هؤلاء- يعني أصحابه- لخرجت إليكم أول يوم، لكنهم امتنعوا. فصلّب الفرنجي على وجـهه، وقال: كنا نعجب من فرنج هـذه الديار ومبالغتهم في صفتك وخوفهم منـك، والآن قـد عذرناهم ".

الحملة الثانية على مصر

وفي سنة (562 هـ / 1166 – 1167 م) قاد شيركوه حملة ثانية على مصر، ومعه ابن أخيه صلاح الدين أيضاً، وذكر ابن الأثير (التاريخ الباهر ص 132) أن شاور "راسل الفرنج، يستغيث بهم ويستصرخهم، فأتوه على الصعب والذلول، فتارة يحثهم طمعهم في ملك مصر على الجد والتشمير، وتارة يحدوهم خوفهم أن يملكها العسكر النوري "، فوصلوا إلى مصر بعد وصول شيركوه، وهاجمت قوات شاور والجيش الفرنجي- وهم آلاف كثيرة- قوات شيركوه في صعيد مصر، وكانت لا تتجاوز ألفي فارس، لكن شيركوه وظّف حنكته القيادية ومهاراته الحربية أحسن توظيف، وألحق بأعدائه الهزيمة في موضع يعرف بالبابين، يقول أبو شامة (عيون الروضتين، 1/281) في ذلك الحدث:

" وهذه الوقعة من عجيب ما يؤرَّخ، وذلك أن ألفي فارس بعيدة عن بلادها، هزمت عساكر مصر في بلادها، وفرنج الساحل ". 

وتوجه شيركوه من صعيد مصر إلى الإسكندرية في الشمال، وجبى الأموال في طريقه، وسلّم أهل الإسكندرية مدينتهم إليه، فعيّن فيها صلاح الدين نائباً عنه، وعاد إلى صعيد مصر، وأقام فيها باسطاً سلطته، فهاجم الجيشان المصري والجيش الفرنجي الإسكندرية معاً، وحاصروها، فتوجّه إليهم شيركوه، فراسله المصريون والفرنجة طالبين الصلح، وبذلوا له الأموال، فأجابهم إلى ذلك، مشترطاً عليهم ألا يقيم الفرنج في مصر، ولا يتسلّموا منها قرية واحدة، ثم عاد إلى الشام.

الحملة الثالثة على مصر

وفي سنة (564 هـ / 1168 م) قام شيركوه بحملة ثالثة إلى مصر بأمر من نور الدين، وكان الفرنج حريصون على ضم مصر إلى ممتلكاتهم، والاستقواء بمواردها على التصدي للسلطان نور الدين زنكي، كما أنهم كانوا يخافون أن تقع مصر في قبضة نور الدين، فتختل موازين القوى بين الجهتين المتصارعتين: القوة الفرنجية والقوة الإسلامية، ويصبح نور الدين هو الأقوى. وقال بعض قادة الفرنج- حسبما ذكر ابن الأثير (التاريخ الباهر، ص 137):

" إن مصر لا مانع لها ولا حافظ، وإلى أن يصل الخبر إلى نور الدين، ويجهّز العساكر، ويسيّرهم إلينا، نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنّى نور الدين منا السلامة فلا يقدر عليها ".

ونقض الفرنج الشروط التي كانوا قد اتفقوا عليها مع شيركوه، فهاجموا بلبيس، وسيطروا عليها، ونهبوها وسلبوا أهلها، ثم توجّهوا إلى القاهرة وحاصروها، وراسلهم شاور الفرنج طلباً للصلح، وبذل لهم الأموال، فاستنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين، وأرسل في الكتب شعور النساء، وقال: " هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك، لتنقذهن من الفرنج، فقام نور الدين في ذلك وقعد، وشرع في تجهيز العساكر إلى مصر"؛ حسبما ذكر ابن الأثير (التاريخ الباهر، ص 138).

وضيّق الفرنج الحصار على القاهرة، وأصبح الناس في كرب شديد، كان هوى شاور مع الفرنج، فألحّ الخليفة العاضد على نور الدين طالباً النجدة، وباذلاً له ثلث دخل مصر، وأن يكون شيركوه وعسكره مقيمين عنده في مصر، وأنه يتحمّل نفقات الجيش الشامي كاملة.

فأرسل نور الدين إلى شيركوه يستدعيه من حمص، وأمره بالتجهّز إلى مصر والسرعة في ذلك، فاختار شيركوه من الجيش ألفي فارس، وجمع من التركمان ستة آلاف فارس، وضم نور الدين إلى جيش شيركوه بعض كبار القواد، ومنهم صلاح الدين، وتوجّه شيركوه إلى مصر فوصلها، واجتمع بالعاضد، فخلع عليه وأكرمه.

وبدأ شاور يماطل في تسديد نفقات الحملة، إضافة إلى تواصله سراً مع الفرنج، ونيته الغدر بشيركوه ومن معه من كبار القواد في وليمة يقيمها لهم، لكن ابنه الكامل نهاه عن ذلك، قال ابن الأثير يوضّح ذلك (التاريخ الباهر، ص 140):

" فقال له أبوه: والله لئن لم أفعل هذا لنُقتلن جميعاً. فقال: صدقت. ولئن نُقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين، خير من أن نُقتل وقد ملكها الفرنج، وليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل فارساً واحداً، ويملكون البلاد، ويظهرون الفساد. فترك ما كان عزم عليه".

 ولما رأىالجيش الشامي تلكّؤ شاور ومماطلته اتفق صلاح الدين وضابط آخر يدعى عز الدين جُرْديك على قتل شاور، وأعلموا شيركوه بذلك، فنهاهما وأنكر ذلك. لكن صلاح الدين وعز الدين قررا الاستمرار في الخطة، فاستغلا غياب شيركوه عن الجيش في زيارة إلى قبر الإمام الشافعي، وألقيا القبض على شاور بينما كان يقوم بزيارة المعسكر الشامي، وسجناه في خيمة، منتظرين عودة شيركوه.

وعلم العاضد بالأمر، فأرسل إلى شيركوه يطلب منه قتل شاور، ويحثه على ذلك، وألحّ في الأمر، فقُتل شاور، وحُمل رأسه إلى القصر، وعيّن شيركوه وزيراً بدلاً منه، ولُقّب بالملك المنصور أمير الجيوش؛ حسبما ذكر كل من ابن الأثير (التاريخ الباهر، ص 139 - 140)، وأبو شامة (عيون الروضتين، 1/289 - 291).

وقد مدح العماد الأصفهاني شيركوه بهذه المناسبة، قائلاً:

بالجدّ أدركتَ ما أدركت، لا اللعبِ    

              كم راحةٍ جُنيتْ من دوحة التعبِ!

افخرْ، فإن ملوك الأرض قاطـبةً    

               أفلاكـها منك قد دارت على قُطُبِ

فتحتَ مصرَ وأرجو أن يصير بها   

               ميسَّراً فتح بيت القدس عن كثبِ

_   _   _   _

وصحيح أن بقاء شيركوه في منصب الوزارة بمصر لم يطل، فقد فاجأه الموت بعد شهرين وخمسة أيام، وتوفي سنة (564 هـ / 1169 م)، وحلّ صلاح الدين محلّه، لكن ما أنجزه كان مهماً جداً بالنسبة إلى مستقبل شعوب شرقي المتوسط.

بلى، فلولا ضم مصر إلى الدولة الزنكية لما أصبحت بعدئذ قاعدة للدولة الأيوبية، ولما تمكّن صلاح الدين من تحقيق الانتصارات على الفرنج في بلاد الشام، واسترداد القسم الأعظم من البلاد التي سيطروا عليها، ولما استطاع المماليك بعدئذ استكمال مشروع التحرير الشرق متوسطي، والقضاء على آخر معقل من معاقل الفرنجة سنة (691 هـ/ 1291 م).

المراجع

1.  ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة، القاهرة، مكتبة المثنى، بغداد، 1963 م.

2.    البلاذري: فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978 م.

  1. ابن حوقل: كتاب صورة الأرض، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.

4.  أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق أحمد البيسومي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.

5.    الفتح بن علي البنداري: سنا البرق الشامي، تحقيق الدكتورة فتحية النبراوي، مكتبة الخانجي بمصر، 1979 م.

وانظر:

  1. جمال رشيد أحمد: لقاء الأسلاف، رياض الريّس للكتب والنشر، لندن، الطبعة الأولى، 1994 م، ص 208 - 220.

2.    ابن خلكان: وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق الدكتور إبراهيم عباس، دار صادر، بيروت. 2/479 – 481.

  1. خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977 م، 3/ 183.

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 5 – 1- 2007

 

=============================

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الثلاثون)

 الأديب والمفكر أحمد أمين

هل هو كردي؟

( 1886 – 1954 م )

الفكر والشخصية

إنتاج المرء امتداد لشخصيته ولعصره ولبيئته.

ولا يكفي أن نقرأ أدب الأدباء وفكر المفكرين.

وإنما ينبغي أن نقرأ سيرهم أيضاً.

فعندئذ نفهمهم بشكل أفضل وبكيفية أعمق.

ولو كان ممكناً لاقترحت على الكتّاب أن يكتبوا سيرهم أولاً، ثم ينشروا مؤلفاتهم، لكن ذلك غير ممكن، فالقضايا والأفكار تختطفهم من أنفسهم، ولا يلتفت معظمهم إلى نفسه إلا في خريف العمر، ومع ذلك فلا بأس، فالتجربة تصبح أكثر نضجاً، والرؤية أكثر وضوحاً، وحينئذ يكون التأثير أبلغ، والفائدة أعمّ.

أقول هذا وأنا أرجع بالذاكرة إلى ما قبل أربعين سنة خلت؛ حينذاك كان لهونا الأكثر متعة هو المطالعة، ورغم أن المركز الثقافي في مدينة (عفرين) كان في طور التأسيس، وما كان ثمة بناء فخم ضخم، ولا قاعة مسرح، ورغم أن الكتب كانت قليلة، فقد كان الإقبال أكثر، بل كنا لا نجد أحيانًا طاولات كافية لنطالع عليها. وأذكر أني كتبت في إحدى حلقات سلسلة (عفرين بوّابتي إلى العالم): " أمة لا تقرأ، أمة بلا ملامح ". وما زلت أؤمن بما كتبت حينذاك، بل أقول أكثر: " شخصٌ لا يقرأ هو شخصٌ خارج العالم ". وأقول أيضاً: " أمةٌ لا تقرأ هي أمةٌ خارج التاريخ ".

وخذوا مثقّفاً- أيّ مثقّف- تنتمي ثقافته التأسيسية إلى عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، واسألوه: من الأديب/المفكر الذي قرأت له، وتأثرت به أكثر؟ ستجدون أسماء معيّنة تتردد كل مرة: عبد الرحمن الكواكبي، مصطفى لطفي المنفلوطي، طه حسين، عبّاس محمود العقّاد، عبد القادر المازني، أحمد أمين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، أحمد شوقي، جميل صدقي الزهاوي، معروف الرصافي، إيليا أبو ماضي، جبران خليل جبران، ميخائل نعيمة، وآخرون.

وتعود معرفتي بأحمد أمين إلى فترة التأسيس الثقافي الخاصة بي، وأذكر أني كنت أقرأ له حينذاك (فيض الخاطر)، و(فجر الإسلام)، و(ضحى الإسلام)، ولعله من أوائل كتّاب التاريخ الذين تعلّمت على أيديهم قراءة المعلومات التاريخية الخاصة بالعهود الإسلامية، ولعله أيضاً من الأوائل الذين تعرّفت في كتاباتهم فن النقد عبر كتابه (النقد الأدبي)، على أنه وقع بين يديّ منذ سنتين كتاب له بعنوان (حياتي)، وإذا بي أكتشف الرجل من جديد، ولذا كانت هذه الحلقة.

منهجي

وقد آليت على نفسي- وأنا أكتب هذه الحلقات-  ألا أكون حاطب ليل، كما أني لا أجد نفعاً في اختلاق المعلومات وتلفيق الأباطيل وخلط الأمور، بل أجد في ذلك الضرر كل الضرر؛ ولا سيما عندما يكون الأمر متعلّقاً بمعلومات تاريخية، ألم أكتب في مدخل هذه الحلقات أن " التواريخ مقدّسات"؟! إذاً كيف لي أن أنتهكها؟! ألم أكتب أن كتابة التاريخ " مسؤولية "؟! إذاً كيف لي أن أدير ظهري لهذه المسؤولية؟!

ثم إني لا أرضى لنفسي- كما لا أرضى لغيري- أن تركبني (النرجسية)، فأشن الحملات الشعواء على تراث الشعوب، لأنهب منه كل ثمين، وأضمّه إلى تراث الكرد، أو أن أغزو تواريخ الأمم، وأسلبها مشاهيرها، وأضع على كل منهم طابع (كردي)، فذلك ما لا يفعله عاقل دعك من مثقّف أو محبّ للثقافة، ولا ينشغل به إلا كل محدود الرؤية، ضيّق الأفق، هو إلى الجهلة والغوغاء أقرب منه إلى المثقفين والعلماء، وكنت – وما زلت – أؤمن أن هذا العالم آية من آيات الله، إنه جميل بتنوّع شعوبه، رائع بتفاعل ثقافاته، وينبغي أن يبقى جميلاً رائعاً.

  ولذا كان منهجي في هذه السلسلة أن أصرّح بالأصل الكردي للعَلَم الذي أكتب عنه؛ إذا كانت الوثائق التاريخية لا تترك مجالاً للشك في أنه كردي. وأن أرجّح الأصل الكردي للعلَم، إذا كان بين يديّ من الأدلّة والقرائن ما يعطيني حق الترجيح من المنظور العلمي. وأجدني في هذه الحلقة لست بالجازم ولا بالمرجّح، وإنما أقف موقف (المتسائل)؛ فأتساءل مع القارئ: هل أحمد أمين من أصل كردي؟

والذي حملني على ذلك هو أحمد أمين نفسه، رحمه الله.

وإليكم التوضيح.

رأس كردي!

بلى، وقفنا في حلقة سابقة عند (زيت كردي!)، و(سمّاق كردي!)، و(عقل كردي!)، وها نحن نقف الآن عند تسمية جديدة؛ إنها (رأس كردي!)، والحق أني لست صاحب براءة اختراع هذه التسميات، وإنما أنقلها كما سمعتها أو قرأتها، وقد نقلت التسمية الجديدة من أحمد أمين، فهو يقول في كتابه (حياتي،ص 56):

" نظر مرة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا، وحدّق فيه، ثم قال لي: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد. ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك – كما يدل عليه علم السلالات – رأس كردي ".

ويضيف معلّقاً على سؤال الأستاذ الجامعي:

" ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية؟! فأسرة أبي من بلدة (سُمُخراط)، من أعمال البحيرة، أسرة فلاحية مصرية، ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى، فقد يكون جدي الأعلى كما يقول الأستاذ كردياً أو سورياً أو حجازياً أو غير ذلك. ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب، لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم، ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي ".

وبالتدقيق في قول أحمد أمين نخرج بما يلي:

أولاً: أن من ربط بين رأس أحمد أمين والأصل الكردي ليس شخصاً عادياً، وإنما هو " أستاذ جامعي في علم الجغرافيا "؛ أي أنه مختص أكاديمياً في مجال الجغرافيا البشرية، وما يتفرّع على هذا المجال من علم السلالات، ومعروف أن هذا العلم من العلوم الدقيقة والمعتمَدة في ميادين التأصيل السلالي، حتى وإن كان قد مرّت على جمجمة ما آلاف السنين.

وثانياً: أن أحمد أمين لم يُنكر على الأستاذ الجامعي قوله، ولم يقل له: لا، لست كردياً، وكان بالإمكان أن يقول ذلك، ونحسب أن الذي منعه من ردّ قول الأستاذ الجامعي هو شعوره، وربما من اجتماع قرائن أخرى، بأن في قول الأستاذ الجامعي قدراً ما من الصحة.

وثالثاً: أن أحمد أمين لم يمرّ بقول الأستاذ الجامعي مروراً سريعاً، ولم يتعامل معه تعامل من لا يعبأ به، وإنما وقف عنده، وصار يقلّب فيه النظر، ولخّص رأيه في المسألة قائلاً: " ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي ".

ورابعاً: لو لم يكن أحمد أمين مهتماً بالأمر، منشغلاً به، لعدّ كلام الأستاذ الجامعي أمراً عابراً، ولما حرص- بعد سنوات كثيرة- على أن يورده في كتاب خاص بحياته، ولما بحث عن قرائن تجعله لا يستبعد الأمر، وكانت القرائن- حسبما ذكر- هي طباعه وأخلاقه.

وخامساً: لماذا اتخذ أحمد أمين طباعه وأخلاقه قرينة تقوّي احتمال صحة قول الأستاذ؟ هل كان على معرفة بالشخصية الكردية؟ لا شك في ذلك، وكيف لا وهو الموسوعي الثقافة، وكاتب الدراسات التاريخية؟! ثم إنه كان طالباً في الأزهر، وكان يعرف (رواق الكرد) فيه، ولعله كان يخالط الطلبة الكرد في ذلك الرواق، كما أنه كان معاصراً لمشاهير آخرين من الكرد المصريين، منهم: أحمد تيمور وأبناؤه، وقاسم أمين، وأحمد شوقي.

وسادساً: هل ثمة خصوصية ما للشخصية الكردية؟ نعم، بكل تأكيد. وكذلك الأمر بالنسبة للشعوب الأخرى، فالشعوب تتشابه في بعض الطباع والصفات، لكنها تختلف في بعضها الآخر، ومن الطباع التي شهد بها الآخرون للكرد قديماً وحديثاً: الصدق، والاستقامة، والأمانة، والإخلاص، والجدّية، والانفتاح على الآخر، وشدّة الاحتمال، والصلابة في الموقف، وعدم السكوت على القهر، والحدّة، وارتكاب أية حماقة عند الغضب، وسرعة الرضا. وأتحدث هنا عن الصفات الكردية الأصيلة، وليس الصفات الدخيلة التي باتت تتفشّى في المجتمع الكردي.

وسابعاً: كانت مصر- إضافة إلى بلاد الشام- المهجر المحبَّب إلى الكرد منذ عهد الدولة الأيوبية (1171 – 1250 م)، وهاجر إليها خلال تلك الفترة آلاف الأسر الكردية، وانتشر فيها الكرد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وكانوا بين حاجب، وجندي، وموظف، وعالم، وتاجر، وإقطاعي، فهل انقرض أحفاد هؤلاء دفعة واحدة؟

وأحسب أننا أطلنا الوقوف عند هذه المسألة، و لا بأس في ذلك، فهي محور الحلقة، وكم أتمنى لو أن بعض أولاد أحمد أمين وأحفاده في مصر، أو بعض الكرد المصريين، بحث في هذا الأمر، وأطلعنا على القول الفصل فيه.

ولننتقل الآن إلى سيرة الرجل.

في القاهرة

أحمد أمين بن إبراهيم الطبّاخ، من أسرة فلاحية من بلدة سُمُخْراط، وكانت تملك فيها نحو اثني عشر فداناً من الأرض، لكن توالى عليهم ظلم السخرة وظلم الضرائب، فخرج والد أحمد أمين وأخاه الأكبر في ليلة من الليالي، يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأرض مباحة لمن يستولي عليها، ونزلا في القاهرة، حي (المنشية) قسم الخليفة، حيث لا قريب ولا مأوى، وكان قسم الخليفة من أكثر أحياء القاهرة عدداً، وأقلها مالاً، وأسوأها حالاً، ولم تمسّها المدنية الحديثة إلا مسّاً خفيفاً.

وسكن الأخوان المهاجران في بيت صغير بحارة العيادية المتواضعة، وعاشا على القليل مما ادّخرا، ولقيا كثيراً من البؤس والعنت في أيامهما الأولى بالقاهرة، لكن سرعان ما شقّ الأخ الكبير (عمّ أحمد أمين) طريقه في الحياة، فكان صانعاً كسوباً، ووجّه أخاه الأصغر (إبراهيم) نحو العلم، واحتمل نفقته.

وتقدّم إبراهيم في طريق العلم بعزيمة قوية، فحفظ القرآن، والتحق بالأزهر، وكان ذا خطّ جميل، وكان كلما احتاج إلى كتاب يقرأه خطّه بيمينه، كي لا يرهق أخاه الأكبر بالإنفاق عليه، وأعانه على ذلك – حسبما يذكر أحمد أمين (حياتي، ص 58)- أنه " لم يتعوّد لعباً قطّ، ولا جلس على مقهى قطّ، وإنما كانت حياته جدّ في جدّ ".

ونجح إبراهيم في دراسته الأزهرية، رغم طول مدتها وصعوبة موادّها، وعمل مصحّحاً في المطبعة الأميرية ببُولاق، ثم مدرّساً في مدرسة حكومية أحياناً، وتزوّج من فتاة أصلها من (تلا) من أعمال المنوفية كان أهلها يسكنون القاهرة، وولد أحمد أمين سنة (1886 م)، وكانت ولادة في بيت متواضع طابعه البساطة والنظافة.

شخصية والده

كان والد أحمد أمين مولعاً بالكتب في مختلف العلوم، في الفقه، والتفسير، والحديث، واللغة، والتاريخ، والأدب، والنحو، والصرف، والبلاغة، فكانت الكتب تشغل الحيّز الأكبر من البيت، وكانت أثمن ما فيه. وقد استفاد أحمد أمين من مكتبة والده العامرة، واتخذها نواة لمكتبته من بعد، وكان – الوالد- يغلب عليه الجد، وكان صارماً في تربية أولاده بقدر ما كان رحيماً بهم، وكان صاحب الكلمة الأولى في أمور البيت، يقول أحمد أمين (حياتي، ص 61 – 62):

" أما إيناسنا، وإدخال السرور والبهجة علينا، وحديثه اللطيف معنا، فلا يلتفت إليه، ولا يرى أنه واجب عليه، يرحمنا ولكنه يخفي رحمته، ويظهر قسوته، وتتجلّى هذه الرحمة في المرض يصيب أحدنا، وفي الغيبة إذا عرضت لأحد منا، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي،... وقلّما يلقانا إلا ليقرئنا، أما أحاديثنا وفكاهاتنا ولعبنا فمع أمنا .... ولكن كان بيتنا – على الجملة- جدّاً لا هزل فيه، ومتحفّظاً ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير، وذلك من جدّ أبي وعزلته الشديدة ".

ويصف أحمد أمين بساطة حياة والده قائلاً (حياتي، ص 194 – 195):

" وهو في حيّه محترم، إذ هو أكبر رجل ديني في الحيّ، يقوم له الناس إجلالاً إذا مرّ عليهم، ويفزع إليه الأغنياء والفقراء في أمورهم الدينية، وفي الفتيا في مسائل الزواج والطلاق والميراث، ... وهو بسيط في أكله وشربه ولبسه ونومه، حتى ليأكل ما قدّم إليه من غير ضجر، وينام على حشية من غير سرير، ويلبس في دقيقة ملبسه البسيط في غير أناقة. يشتد على أولاده فلا يعطيهم من المال إلا بقدر الحاجة حتى لا يفسدوا، ويحاسبهم على تعلّمهم محاسبة عسيرة ".

ويذكر اهتمام الوالد بتعليم أولاده وبناته فيقول (حياتي، ص 194 – 195):

" فهو يمتحنهم في حفظ القرآن وحفظ المتون وفي فهم دروسهم، فإذا أخطؤوا حَسْبل وحَوْقل، وقد يغضب ويضرب، وكل صحبتنا له صحبة درس جديد أو امتحان في درس قديم، ولا أذكر أنه مزح معنا، وقلّ أن ضحك في وجوهنا، ولذلك كان اطمئناننا ومرحنا القليل ساعة يغيب عن البيت، وخوفنا ورهبتنا وحبس أنفاسنا ساعة يحضر، ومن مزاياه أنه كان يرى تعليم البنت كما يعلَّم الابن، فأرسل أختي الكبرى إلى المدرسة السيوفية، وكانت المدرسة الوحيدة المصرية لتعليم البنات، في حين أن أكثر الناس كان يرى تعليم البنت في المدارس جريمة لا تغتفر ".

وكان الشعور الديني يغمر البيت، فوالده يؤدي الصلوات في وقتها، ويربي أولاده تربية دينية، فيوقظهم في الفجر ليصلّوا، ويراقبهم في أوقات الصلاة الأخرى، ويسائلهم عنها؛ متى صلّوا؟ وأين صلّوا؟ ويربط أحمد أمين بين شخصيته وطريقة التربية التي تلقّاها في بيته قائلاً (حياتي، ص 67):

" ثم إن كل خصائص البيت التي ذكرتها انكعست في طبيعتي، وكوّنت أهمّ مميّزات شخصيتي، فإن رأيت إفراطاً في جانب الجدّ، وتفريطاً معيباً في جانب المرح، أو رأيت صبراً على العمل وجَلَداً في تحمّل المشقّات، واستجابة لعوامل الحزن أكثر من الاستجابة لعوامل السرور، فأعلم أن ذلك كله صدى لتعاليم البيت ومبادئه، ... أو رأيت بساطتي في العيش، وعدم احتفائي بمأكل أو بمشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي وإلقائي، وبساطتي في أسلوبي، وعدم تعمّدي الزين والزخرف فيه، وكراهيتي الشديدة لكل تكلّف وتصنّع في أساليب الحياة، فمرجعه إلى تعاليم أبي، وما شاهدته في بيتي ".

من التعلّم إلى التعليم

بدأ أحمد أمين تعليمه في الكتاتيب، كغيره من الصبية حينذاك، ثم انتقل إلى مدرسة حكومية، وقد وضع له والده برنامجاً تعليمياً مرهقاً، وألزمه في المظهر والمخبر بما أثقل كاهله، قال يصف ذلك (حياتي، ص 86، 90):

" ها أنا في سنّ الرابعة عشرة تقريباً، يلبسني القباء والجبّة والعمّة والمركوب [الحذاء الشعبي]، بدل البذلة والطربوش والجزمة[الحذاء الحديث]، ويكون منظري غريباً على من رآني في الحارة أو الشارع، فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير أو الشيخ الوقور. أما الصغير مثلي فإنما يلبس طربوشاً أو طاقية، ولذلك كانوا كثيراً ما يتضاحكون عليّ إذا رأوني بالعمّة، وكثيراً ما أرى الأولاد في الشارع يتغامزون عليّ، فأحسّ ضيقاً او خجلاً، أو أتلمّس الحارات الخالية من الناس لأمرّ بها... ومما آلمني أني أحسست أن العمامة تقيّدني، فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال، ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان ".

واستكمل أحمد أمين دراسته في الأزهر، وبدأ حياته العلمية مدرساً للغة العربية، ثم انتسب إلى (مدرسة القضاء الشرعي)، ووصف تشدد الأزهريين وجمودهم حينذاك، إذ لاحظ أن واضعي منهاج (مدرسة القضاء الشرعي) تجنّبوا ذكر كلمة (الطبيعة)، كي لا يغضب الأزهريون، لأنهم كانوا يتناقلون بيتاً مشهوراً هو:

ومن يقل بالطبع أو بالعلّةْ   

                         فذاك كفرٌ عند أهل الملّةْ

وعمل أحمد أمين بعد تخرّجه قاضياً في جنوبي مصر، وتعلّم الإنجليزية، وكان يتردّد على صاحب مكتبة، بالسكّة الجديدة بحيّ الأزهر، غريب الأطوار، من أصل أناضولي، اسمه أحمد أدهم - يحتمل أن يكون كردياً أيضاً- أمين، صادق المعاملة، يقنع بكفاف العيش وبساطة اللبس، فكانت مكتبته كأنها مقهى، يطالع فيها الناس الكتب، وقد يشترونها وقد لا يشترونها، ويبيع الكتاب لهاويه بجنيه، ولا يرضى أن يبيعه لمن لا ينتفع به بجنيهين، وكان مشهوراً بين معارفه بأنه لا يعترف بالأولياء والأضرحة وزيارة القبور ونحو ذلك، ولا يكتم عقيدته، وقد ركب مرة القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، فلما وصل القطار إلى طنطا قال أحد الحاضرين: الفاتحة للسيد البدوي. فصاح الكتبي: ومن يكون السيد البدوي؟ وما كراماته؟ وما قيمته؟ فأوسعه الحاضرون ضرباً، ولم ينج منهم إلا بعد عناء.

صاحب أسرة

تزوج أحمد أمين سنة (1916 م)، وقال في تجربته الجديدة هذه (حياتي، 182):

" بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات فأنت تتكلّم في الشرق، وهن يتكلمن في الغرب، ... وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضحّ بالمنطق أحياناً ".

ووصف استغراب زوجته لما لمسته من طباعه، فقال (حياتي، ص 180):

 " ولكن صدم زوجي بعد قليل أن رأتني هادئاً غير مرح، قليل الكلام، وقد تربّت في بيت مرح مملوء بالضحك والبهجة، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن، فظنت أني لا أقدّرها أو نادم على الزواج بها، وأؤكد لها أن هذا طبعي كسبته في بيتي، فلم تصدّق ولم تطمئن إلا بعد طول العشرة ووثوقها من أني كذلك مع غيرها لا معها وحدها ".

وقال في طريقة تربيته لأولاده (حياتي، ص 182):

" وقد كنت قاسياً على أولادي الأولين، شديد المراقبة لهم في دروسهم وأخلاقهم، وأعاقبهم على انحرافهم ولو قليلاً، ولا أسمح لهم بالحرية إلا في حدود، حسب عقليتي إذ ذاك، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة أبي عليّ، وكلما تقدّمت بي السن، واتسع تفكيري، أقللت من تدخّلي، وأكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم ".

وكان أحمد أمين راغباً في التقليل من الأولاد، توفيراً للزمن الذي يحتاجه للدرس والتحصيل، لكن زوجته أخذت بالمثل العامي " قصيّه قبل ما يطير "، فرُزق بعشرة من الأولاد، توفّي منهم اثنان، وبقي له ستّة ابناء وابنتان، وها هوذا يقول (حياتي، ص 180 -181):

" لأعجب من لنفسي ويعجب لي غيري كيف استطعت أن أؤلف ما ألّفت، وأكتب ما كتبت، واقرأ ما قرأت، مع ما تتطلّبه تربية الأولاد من جهود لا نهاية لها، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأم وحملها عني الأعباء التي تستطيع القيام بها، واكتفائي بالإشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في إطالة الجلوس معهم، ومسامرتهم، وإطالة عزلتي على مكتبي ".

ووصف ابنه جلال حياة والده قائلاً (في بيت أحمد أمين، ص 7):

" وحياة أحمد أمين العالئلية حياة هادئة مستقرة، لم يعكّرها زواج آخر أو طلاق أو نزوات طارئة، وهو عادل أيضاً في معاملته لأولاده، فلا أذكر أنه أبدى إيثاراً لواحد منا على الآخرين، وهو يريدنا أن نحكّم العقل أيضاً في أشد الأعمار طيشاً ".   

في المجال الأكاديمي

في سنة (1926 م) دعا الدكتور طه حسين صديقه أحمد أمين أن يكون مدرساً في كلية الآداب بالجامعة المصرية، فتردّد ثم قبل، وفي سنة (1927 م) خلع العمة والجلباب، ولبس الطربوش والبذلة بعد سبعة وعشرين سنة من التعمم والتجلبب، وانتخب عميداً للكلية سنة (1939 م)، ثم أقيل، وظل يعمل في الكلية إلى أن أحيل إلى التقاعد سنة (1946)، في سنة 1948 م منحه مجلس كلية الآداب ومجلس جامعة فؤاد الأول الدكتوراه الفخرية، ومُنح جائزة فؤاد الأول، وكانت تُمنح لمن ينتج أحسن عمل في الآداب والعلوم والفنون.

وأحمد أمين كاتب غزير الإنتاج، متنوّع الاهتمامات الثقافية، له من المؤلفات: كتاب (فيض الخاطر) وهو مجموعة مقالات، و(فجر الإسلام)، و(ضحى الإسلام)، و(ظهر الإسلام)، وقد تناول في هذه السلسلة مسيرة الحضارة الإسلامية على نحو عقلاني متدرّج، وله (يوم الإسلام)، و(الصعلكة والفتوّة في الإسلام)، و(هارون الرشيد)، و(زعماء الإصلاح في العصر الحديث)، و(الإمام محمد عبده)، و(الأخلاق)، و(النقد الأدبي)، و(قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية)، و(المهدي والمهدوية)، و(إلى ولدي)، و(حياتي). كما أنه ترجم كتابي (مبادئ الفلسفة) و(الشرق والغرب)، وحقق اثني عشر كتاباً بالاشتراك مع آخرين.

وجدير بالذكر أن أحمد أمين جمع بين التعمّق في الثقافة التراثية والثقافة الحديثة، واطّلع على الفكر الأوربي؛ لذا نجده يوفّق في كتاباته وأفكاره بين أصول الفكر العربي الإسلامي ومقتضيات التطور في عصره. أضف إلى هذا أنه قام برحلات إلى أوربا وإلى دول عديدة في الشرق (لبنان، سوريا، العراق، السعودية، تركيا)، ورغم أنها كانت رحلات قصيرة، لكن فطنة أحمد أمين ودقة ملاحظته مكّنته من أن يخرج منها بملاحظات ثمينة ومقارنات طريفة. 

وساهم أحمد أمين في نشاطات مجمع اللغة العربية في القاهرة، وفي المجمع العلمي العربي في دمشق، وفي عدد من مؤتمرات الاستشراق، وشهد له من كتب عنه بمكانته العلمية، قال محمد السيد عيد في (أحمد أمين، ص 3):

" ودور أحمد أمين في النهضة ليس محدوداً، بل هو دور متعدد الجوانب، بالغ الثراء، فهو صاحب المحاولة الأولى لكتابة تاريخ الإسلام العقلي، وهو أحد الروّاد الأوائل للدراسات النقدية والشعبية ".

وذكر سامح كريّم في (إسلاميات، ص 60) أن من خصال أحمد أمين العلمية:

" خصلة التعميم والتنظيم، فقد كانت لديه قدرة غريبة على استخلاص الأفكار الكلية التي تجمع الجزء إلى الجزء، وتضمّ العنصر إلى العصر، فإذا الكل يستوي قائماً، وإذا الفكرة تتمثل واضحة، وهو لذلك دائم التحوّل من الجزئيات إلى الكليات".

وخصلة أخرى تنبّه لها سامح كريّم في (إسلاميات، ص 61)، هي الحرية العقلية:

" فهو يجهر بالحق في صراحة، وبدون مواربة، وبدون أيّ تكلّف، يجهر به في كل ما يمسّ الحياة دنيا ودين، ومن خير ما يمثّل ذلك موقفه من المعتزلة، فقد كان ينصرهم دائماً ويشيد بهم، ولكن ذلك لم يستر معايبهم، فمضى يشرحها شرحاً واسعاً ".

ومن خصاله أيضاً (إسلاميات، ص 61):

" عدالته في الحكم على الأشخاص والآراء، عدالة ملؤها النزاهة "، و" الطموح إلى تحقيق المثل الأعلى في البحث الدراسة ".

شخصيته وآراؤه

أحمد أمين في شخصيتة يشبه كثيرين من أعلام الكرد عبر التاريخ، فهو مخلص لأصدقائه، ومثال ذلك أنه لم يتخلّ عن صديقه الدكتور طه حسين، حينما تعرّض لانتقادات شديدة من الجهات المناوئة لارائه المنفتحة، ونُقل على أثر ذلك من كلية الآداب إلى وظيفة في وزارة المعارف، وأوذي أحمد أمين في ذلك، وأقيل من عمادة الكلية، وهذا يذكّرنا بالحافظ العراقي، وإخلاصه للشيخ العز بن عبد السلام.

ووصفه محمد نبيه حجاب في (أحمد أمين فيلسوف الأدباء، ص 15) بأنه كان:

" عصبي المزاج، ومن ثمّ كان شديد الحساسية لكلمة تمسّه أو لفعل يجرحه، لا ينام الليل إذا سمع كلمة نابية صدرت في حقه، ومع ذلك في الناحية العلمية كان رحب الصدر، لا يضيق بناقديه، ولا يحزنه نقد كتبه ولا نقد آرائه، وهذه سمة العالم الواثق مما يقول ".

وكان أحمد أمين حريصاً على استقلاله الفكري، وقد شارك في ثورة سنة (1919 م) ضد الإنكليز، لكن حرصه على استقلاله الفكري حال دون انضمامه إلى الأحزاب السياسية، وقال محمد نبيه حجاب في (أحمد أمين فيلسوف الأدباء، ص 16 ):

" كما كانت له الشجاعة في قول الحق مع التزام الصدق، وفي ذلك يقول الدكتور الأهواني: كان حر الفكر إلى أبعد حدود الحرية، لا يقول إلا ما يعتقد، ولا يحفل إلا بالحق وحده، جاهر برأي المعتزلة أهل العقل وأحرار الفكر في الإسلام، وانتصر له، مع أن المسلمين عارضوا أصحاب هذا المذهب وكفّروهم في القرن الرابع الهجري".

وقال ابنه جلال أمين في مقدمة كتاب (في بيت أحمد أمين، ص 6) :

" أحمد أمين رجل معتدل أشد الاعتدال في أحكامه الشخصية والعامة، قادر على إخضاع عواطفه للمنطق، ويأبى أن يترك لها العِنان، وهو من أكثر الناس استعداداً للاعتراف بالخطأ وترحيباً بالنقد العاقل، ... وهو أكثر الناس نفوراً من النفاق وسأماً منه ".

وقد توقّف هو نفسه عند شخصيته في (حياتي، ص 251)، فذكر أنه أقرب إلى الواقعية، يحكمه المنطق، ويحب الاختفاء والهدوء، معتدل إذا أحب أو كره، بطيء في الحكم على الأشخاص والأشياء، هادئ إذا صادق أو عادى، قلق مضطرب، غضوب، ضيق النفس بالأحداث، غير ماهر في الحديث وجذب الناس، وقال (حياتي،ص 292):

" ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر في بعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي، ويهتز لها قلبي، وأكبر ما يتجلّى هذا عند شهود المناظر الطبيعية الرائعة، ... ومزاجي فلسفي أكثرمنه أدبياً، حتى في الأدب أكثر ما يعجبني ما غزر معناه ودقّ مرماه، فيعجبني الجاحظ وأبو حيّان التوحيدي وابن خلدون، أكثر مما يعجبني الحريري والقاضي الفاضل والصاحب بن عبّاد وطريقته، والعماد الأصفهاني ومدرسته ".

ومن آرائه التي وردت في كتابه (حياتي):

- في الثقافة: " فالأديب والفيلسوف من طبيعتهما أن يختزنا في أنفسهما كل ما يقع تحت حسهما في وعي أو غير وعي، ولا يدري أحدهما متى ينتفع بهذا وكيف ينتفع، ولكنه سينتفع على كل حال ".

-  في المرأة: " لو نسب الفضل الأكبر في المدنية الحديثة لكان أكثره يعود إلى المرأة، فالمرأة التي تربّي الأمة هي التي تعوّد أبناءها النظام والأخلاق... حتى لو قلت: إن مقياس رقيّ الأمم التي شاهدتها هو درجة المرأة في الرقي وانهمار الأمطار في أوقات مختلفة لم أكن بعيداً عن الصواب ".

-  وقال في تربية الأولاد: " تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لابنائهم وأمتهم".

وتوفي رحمه الله سنة (1954 م).

عود على بدء

ولنعد إلى العنوان: هل أحمد أمين من أصل كردي؟

بعد أن اطّلعت على سيرة أحمد أمين كما كتبها هو، وكما وصفها ولداه حسين وجلال، وبعد اطّلاعي على ما ذكره الآخرون، وما قدّمه من إنتاج علمي غزير وقيّم، وقياساً بما أعرفه من طباع الكرد عامة، وبما خبرته من خصال أعلامهم، ونهجهم العقلي الفلسفي في تناول الأمور، أجدني أرجّح أن تكون أصول أحمد أمين كردية.

ولست بالراغب في الحديث عن نفسي، لكن أصدقكم القول- معشر القراء- أنه كلما كنت أقرأ ما كتبه أحمد أمين عن والده وعن نفسه كنت أتذكّر والدي – رحمه الله- وشخصيته وطباعه (الهدوء، حب العزلة، طيبة القلب، بساطة المظهر، الحزم والصرامة معنا في الظاهر، والشفقة الخفية، عدم التهاون في مسائل الأخلاق والعلم، الجَلد على العمل، جمال الخط، الإباء، الغضب الشديد، الرضا السريع). بل كأنما كان أحمد أمين يتحدّث بلساني في أحيان كثيرة، ويمكن التأكد من ذلك بالعودة إلى سلسلة (عفرين بوّابتي إلى العلم)، وكنت أنشرها في موقع (تيريج) منذ عامين وأكثر.  

المراجع

1.    أحمد أمين: حياتي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1971م.

2.    حسين أحمد أمين: في بيت أحمد أمين، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2، 198م.

3.    خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، ط 4،  1977م.

4.    سامح كريّم: إسلاميات، دار القلم، بيروت، ط 2، بيروت، 1977م.

5.  عمر الإمام: أحمد أمين والفكر الإصلاحي العربي الحديث في فيض الخاطر، دار محمد علي الحامي، صفاقس، تونس، ط 1، 2001م.

6.    محمد السيد عيد: أحمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.

7.    محمد نبيه حجاب: أحمد أمين فيلسوف الأدباء، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط 1، 1998م.

8.    فهيم حافظ الدناصوري: أحمد أمين وأثره في اللغة والنقد الأدبي، مكتبة الملك فيصل الإسلامية، القاهرة، 1986م.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الحادية و الثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 22 – 12- 2006

 

============================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة التاسعة والعشرون )

 الأديب الشاعر جَحْظة البرمكي

 ( ت 324 هـ )

عود على بدء

مرّ بنا في حلقة سابقة أن البرامكة أسرة من الوزراء المشاهير، ساهموا بقوة في إقامة الخلافة العباسية، وكانوا وزراء بارعين يتميّزون بقدرات إدارية مرموقة، وبثقافة رفيعة، وبخصال نبيلة أشاد بها كل من خالطهم وعاصرهم، ما عدا الحاسدين لهم الناقمين عليهم.

كما سبقت الإشارة إلى أن البرامكة ينتسبون إلى خالد بن بَرْمَك بن جاماس بن يستاشف، وأن برمك كان سادن معبد النُّوبهار (الربيع الجديد) في مدينة بَلْخ (تقع في شمالي أفغانستان)، وكلمة ( بَرْمَك ) معرّبة من (بَرْماك)، وهو لقب ديني زردشتي مرموق، يعادل (سادن الكعبة) في الجاهلية، ويماثل (إمام الحرم) في الإسلام، والكلمة في أصلها الكردي مركّبة من كلمتين ( بَرْ ) Ber، وتعني (حارس، قيّم، سادن) و (ماك) Mak، وتعني (البيت المقدّس، البيت الأول، البيت الأصل).

ومرّ أيضاً أن ما أشيع عن البرامكة أنهم " أسرة فارسية " خطأ تناقله المؤرخون، والسبب في شيوع ذلك الخطأ أن كردستان كانت تابعة للدولة الفارسية منذ سقوط الدولة الميدية على أيدي الفرس الأخمين سنة (550 ق.م)، وكان الكرد من رعايا الدولة الفارسية، وكانت الحكومات الفارسية المتتابعة (الأخمين، البرث، الساسان) تعيش هاجس الخوف من عودة الميديين- ممثَّلين في أحفادهم الكرد- إلى إعلان دولتهم ثانية، فغيّبت كل ما يتعلّق بالكرد وتاريخهم، وزحزحتهم إلى الدرك الأسفل، ولم تدع لهم شأناً يذكر، في الوقت الذي حرصت فيه أيّما حرص على توظيف القوة القتالية الكردية في حروبها الإمبراطورية.

وكان من نتائج تلك السياسات الفارسية أن الفتوحات الإسلامية بدأت والقسم الأعظم من كردستان تابع للدولة الساسانية، والقسم الأكبر من الكرد رعايا للملك يَزْدَجِرْد الساساني، وبلاد الكرد مقسّمة إدارياً وَفق النظام الساساني، واللغة السائدة رسمياً وأدبياً وكهنوتياً هي اللغة الفارسية؛ فكان من الطبيعي أن يدخل الكرد تاريخ الإسلام على أنهم " فرس "، هذا عدا أن الأسر الكردية التي كانت تشغل مناصب كهنوتية أو إدارية كانت قد اندمجت في الهوية الفارسية، وانسلخت من انتمائها الكردي، وصارت تُعرف بأنها فارسية، وهذه سنّة قديمة، وأحسب أن ابن خلدون ذكرها في معرض حديثه عن (تبعيّة المغلوب للغالب).

وذكرنا في حلقة (البرامكة) أيضاً أن المؤرخ والقاضي ابن خَلِّكان – وهو سليل البرامكة- صحّح تلك النسبة الفارسية المزعومة حينما ذكر نسبه هو، وأكّد أن البرامكة هم كرد من قبيلة زَرْزاري (ولد الذئب).

وذكرنا أبرز رجالات البرامكة، وهم خالد بن برمك (90 – 163 هـ)، ويحيى بن خالد (120 – 190 هـ)، والفضل بن يحيى (148 – 193 هـ) وجعفر بن يحيى (151 187 هـ)، وتناولنا النكبة التي حلّت بهم على يدي صديقهم الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة (187 هـ)، وأمره بقتل جعفر، ووضع يحيى وأولاده (الفضل، محمد، موسى) في السجن بالرقّة، واستصفاء ممتلكات البرامكة المنقولة وغير المنقولة، واضطهادهم، وتشريدهم في البلاد، حتى إن كثيرين منهم اضطرّوا إلى التسوّل للحصول على ما يسدّ الرمق، وظلّت تلك حالهم إلى أن تولّى محمد الأمين الخلافة بعد والده الرشيد، فأمر بإخراج كل من محمد وموسى من السجن، وأعاد لهما أموالهما، أما يحيى وولده الفضل فكانا قد توفّيا في السجن.

وصحيح أن الرشيد قضى على مكانة البرامكة، لكن ذكرهم ظل خالداً في بطون الكتب، كما أن سلالتهم أنجبت بعض المشاهير، وأوردنا في حلقة سابقة سيرة حفيدهم القاضي المؤرخ ابن خَلِّكان، وها نحن نقف الآن عند سيرة حفيد آخر لهم، هو الأديب والشاعر والمغنّي المشهور بلقب (جَحْظة البرمكي). فمن الرجل؟

نشأته وشخصيته

هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، وقد افتخر بنسبته إلى أجداده البرامكة في شعره فقال:

       أنا ابنُ أناسٍ موّلَ الناسَ جودُهمْ         فأضحَوا حديثًا للنَّوال المشهَّرِ

       فلم يخلُ من إحسانهمْ لفظُ مُخبِرٍ         ولم يخلُ من تقريظهمْ بطنُ دفترِ

وأجمع معظم من ترجم لجحظة أنه ولد سنة ( 224 هـ ) في بغداد، ونعلم من شعره أن والده كان فقيراً ؛ وهذا أمر بديهي، فإن الخليفة هارون الرشيد لم يكتف بقتل جعفر، وزجّ والده وإخوته في السجن، وإنما جرّد البرامكة من كل ما يملكون، فأصبحوا في أسوأ حال، ويبدو أن موسى جدّ جحظة كان غير مهتمّ بجمع المال؛ إذ يذكر الجهشياري في كتابه (الوزراء والكتّاب) أن الرشيد لم يجد عند موسى بن يحيى بن خالد شيئًا عندما استصفى أموال البرامكة.

ولم أجد في المصادر شيئاً عن جعفر والد جحظة، لكن من دوّنوا أخباره يذكرون له أخاً يدعى سليمان، ويبدو أن سليمان هذا كان مغنياً، فقد أورد أبو الفرج الأصفهاني بيتين من غنائه في كتابه (الأغاني).

وأما لقب (جَحْظة) الذي عُرف به  أحمد بن جعفر فقد لحقه بسبب جحوظ في عينيه، وقد لقّبه به عبد الله بن المعتزّ، وهو شاعر من بني العبّاس تولّى الخلافة ثلاثة أيام فقظ، وكان جحظة قبيح المنظر، حسن المخبر، طيّب القلب، يُضرب المثل برقّة عتابه، وكان لا يقابل الإساءة بمثلها، وإنما يقابلها بالصفح والغفران، على أنه سرعان ما كان يثور إذا شعر أن كرامته قد أهينت، وكان عندئذ يُرى من العجب، وقد لاحظنا توافر هذه الخصلة عند معظم مشاهير الكرد الأقحاح، وجحظة هو القائل في اعتزازه بنفسه:

ولي نفسٌ أبتْ إلا ارتفــاعًا       فأضحت كالسماء على السماءِ

وكان جحظة مرح النفس، محبّاً للفكاهة، حتى إنه ينشد كان أحياناً كثيرة هجاء ابن الرومي لهه، ويتعجّب من حسن إصابته، وقول ابن الرومي هو:

نُبّئتُ  جحظةَ يستعير جحوظَه       من فيل شِطْرَنْج ومن سَرَطانِ

يا رحـمةً لمنادمـيه! تجشّموا      ألمَ العيـــون للـذّة الآذانِ

وكان جحظة أكولاً شرهاً، مولعاً بالشراب، كما كان جواداً متلافاً للمال، يسرف في الإنفاق، ويعدّ الاقتصاد ضرباً من البخل، وقد صرّح بذلك قائلاً:

أنفقْ ولا تخشَ إقلالاً، فقد قُسمت     بين العباد مع الآجــال أرزاقُ

لا ينفع البخـلُ مـعْ دنيا مولّيةٍ      ولا يضرّ مـع الإقبــال إنفاقُ

ومن الطبيعي، وهو الجواد المتلاف، أن يشنّ الحملات الشعواء على البخلاء، ويقرّعهم على شحّهم، وقد أورد له ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية، ج11، ص 185 - 186) أبياتاً طريفة، يهجو فيها صديقاً له، دعاه إلى الغداء، ثم راح يريه البخل ألواناً، فقال:

لنا صاحبٌ من أبرع الناس في البخلِ     يسمّى بفضلٍ، وليس بذي فضـلِ

دعـاني كما يدعـو الصديق صديقَه     فجئت كـما يأتي إلى مِثله مِثلي

فلمّـا جلسـنا للغَــــداء رأيتُـهُ     يرى أنّما مِن بعض أعضائه أكلي

فيغتاظ أحيــاناً، ويَشتِم عبـــدَه     وأعلمُ أن الغيظ والشَّتم من أجلي

أمـدُّ يدي سرّاً لآكلَ لقمـــــةً      فيَلحَظُني شَزْراً، فأعبَثُ بالبقــلِ

وكان جحظة ينادم الخلفاء والوزراء والأمراء، ومعروف أن رتبة النديم كانت أعلى ما يرجوه صاحب العلم والأدب في ذلك الزمان، ومن المفترض – والحال هذه- أن يكون جحظة من الموسرين، ولا سيما أنه لم يكن متزوّجاً، ولم يكن ربّ عائلة ينفق عليها، غير أن ما وصلنا من أخباره وشعره يدل على أنه كان يعاني ضائقة مالية، حتى إنه كان يسكن بالأجرة، ويعتزم بيع كتاب من كتبه ليتمكّن من تقديم وجبة طعام لضيف يحل عليه، والأرجح أن حاله تلك نما كانت بعد أن كبر، وانقطع عن المنادمة، وها هو يصف فقره قائلاً:

       الحمـــد لله ليس لي كاتبْ       ولا على باب منزلي حـاجبْ

       ولا حمــارَ إذا عزمتُ على        ركوبه قيـل: جحظـةُ راكبْ

       ولا قميصَ يكــون لي بدلاً        مخافــةً من قميصيَ الذاهبْ

      وأجــرةُ البيت فهي مقرِّحةٌ        أجفـانَ عيني بالوابل الساكبْ

      إن زارني صاحبٌ عزمتُ على        بيع كتــابٍ لشُبعة الصاحبْ

وقد عاش جحظة في أواخر حياته بائساً معدماً، إذ كان قد أصبح عاجزاً عن منادمة الخلفاء والوزراء، فانقطعت عنه أعطياتهم وهباتهم، وها هو ذا يعاتب الوزير ابن مُقْلَة عتاباً رقيقاً، ويسأله أن يرحمه ويعطف عليه، قائلاً:

       سلامٌ عليكم من شُيَيْخ مقوَّسٍ       له جسدٌ بالٍ، وعَظـمٌ محطَّمُ

       أيصبح مثلي في جِوارك ضائعاً      وحوضُك للطُّرّاق بالجُود مفعَمُ؟!

وإن سيرة جحظة مع المال والجود، والانتهاء في الشيخوخة إلى الفقر الشديد، تذكّرنا بسيرة شاعر كرديّ آخر عاش معظم حياته في النصف الأول من القرن العشرين؛ ألا وهو الشاعر العراقي معروف الرُّصافي.

ويستفاد من شعر جحظة أن هواه كان مع أهل البيت؛ أي أنه كان شيعيّ الهوى، وقد علمنا من خلال سيرة أجداده البرامكة أنهم كانوا يميلون إلى أهل البيت، وأن تعاطف جعفر بن يحيى البرمكي مع الزعيم الشيعي يحيى بن عبد الله العلوي كان من أهم أسباب نقمة هارون الرشيد عليه، وفتكه من ثَ مَّ بالبرامكة، ويقول جحظة في تشيّعه:

وقائلٍ قال لي: من أنت؟ قلت له   مقالةَ ذي حكمةٍ واتتْ له الحِكمُ:

أنا الذي حبُّ أهل البيت أفقـرهُ    فالعـدلُ مستعبِرٌ، والجَوْرُ مبتسِمُ

تهمة باطلة

وقد أورد ياقوت في (معجم الأدباء، 2/242) أن شخصية جحظة لم تخل من صفات سيئة، قال: " كان جحظة وَسِخاً قذراً، دَنيّ النفس، في دينه قِلّة ". وهذا من العجب، فقد أنهى ياقوت نفسه اسم جحظة ولقبه بلقب (النديم)، وكذلك فعل ابن كثير في (البداية والنهاية)، وهذا يعني أن الرجل- أقصد جحظة- كان كثير المنادمة لعلية القوم، حتى إنه عُرف بذلك عند أبناء عصره، ومرّ قبل قليل أن رتبة المنادمة- خاصة منادمة الخلفاء والوزراء- كانت مرتبة مرموقة، وكانت من موارد الرزق الهامة في ذلك العصر، ولم تكن مبذولة لكل من هبّ ودبّ، وما كان يظفر بها إلا من توافرت فيه شروط كثيرة، منها الكياسة في التصرف، والملاءمة في المظهر، والغزارة في المعلومات، والتبحّر في الأدب.

وما أخشاه هو أن تكون حليمة قد رجعت إلى عادتها القديمة كما يقول المثل العربي، وأن يكون ياقوت قد عاد إلى عادته التي ذكرتها ذات مرة، وهو أنه يكون أحياناً حاطب ليل، يجمع في كتبه الغَثّ والثمين، ويقول الشيء وعكسه؛ فهو الذي أنهى ذكر اسم جحظة ونسبه بكلمة (النديم)، فكيف يمكن لجحظة، وهو الوسخ القذر، أن يكون نديماً للخلفاء ومنهم الخليفة المعتمِد، وللوزراء ومنهم ابن مُقلة؟!

ولو وصف ياقوت – أو من نقل عنه ياقوت- جحظة بالرَّثاثة في اللباس والبَذاذة والرثاثة في الهيئة لكان الأمر مقبولاً، فالمرء يمكن أن يكون بسيط الملبس، غير متجمّل في المظهر، لكنه مع ذلك يصلح أن يكون جليساً ونديماً، وقد روى القدماء أن الأصمعي (عبد الملك بن قُرَيب) كان كذلك، رغم أنه كان ينادم الخليفة هارون الرشيد، وينادم وزراءه البرامكة.

وأما ما رواه ياقوت من أن جحظة  كان " دنيّ النفس، في دينه قلّة " فالغرض منه واضح، ألا وهو الانتقاص منه، والطعن فيه، وتشويه سيرته في ذاكرة الأجيال، والعلة في  ذلك  أن جحظة كان شيعيّ الهوى كم صرّح هو نفسه؛ إذ جاء في سيرته أنه كان يميل إلى (آل البيت)؛ والمقصود بعبارة (آل البيت) على نحو أخصّ هم ذرّية علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي محمد.

ولا عجب لا في تشيّع جحظة، ولا في إلصاق تهمة دناءة النفس وقلّة الدين به.

أما تشيّعه فأمر توارثه من أجداده الذين دخلوا الإسلام، فقد كان الجد الأكبر خالد البرمكي من كبار الدعاة الذين ساهموا في الثورة العباسية، وأسقطوا الدولة الأموية، ومعروف في كتب التاريخ أن الدعوة كانت تحت شعار (آل البيت)؛ أي سلالة علي وفاطمة، وأن القيادة آلت إلى سلالة العباس بن عبد المطلب في ظروف لا تخلو من الغموض.

وأما تهمة دناءة النفس وقلّة الدين فكانت جاهزة لكل من كانت له آراء يختلف بها عن الرأي السائد، سواء أكان ذلك على الصعيد الديني أم على الصعيد السياسي، ولم ينج من هذه التهمة كثير من كبار العلماء والأدباء، ونذكر منهم – على سبيل المثال- المفسّر والمؤرخ الشهير أبو جعفر الطَّبَري (ت 310 هـ)، فقد أثار عليه خصومه الغوغاء الذين يسمّون في أيامنا هذه باسم (الشارع)، فراحوا يرشقونه بالحجارة في بيته، ونذكر الإمام البخاري (ت 256 هـ)، فقد حورب الرجل واضطُهد، حت إنه لما توفّي لم يشيّعه سوى ثلاثة من أفراد أسرته أحدهما أخوه والآخر خاله.

جحظة والغناء

أجمع الذين ترجموا لجحظة أنه كان من كبار المغنّين وحذّاقهم في عصره، بل يستفاد من مما أورده ابن النديم في كتابه (الفهرست)، والخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد)، أنه كان من علماء المغنّين، وأنه لم يلحقه أحد في صنعته في الغناء، حتى إن شاعراً كبيراً هو ابن الرومي رجاه أن يلحّن شعره ليصبح رائجاً.

وقد أُولع جحظة بالعزف على الطنبور منذ شبابه المبكّر- وهذا الولع بالطنبور ظاهرة شائعة في المجتمع الكردي منذ القديم وإلى عصرنا هذا- وهذا يعني أنه كان يلحّن ويغنّي معاً، كما أنه كان راوية للأغاني والألحان، وقد اعتمد عليه أبو الفرج الأصفهاني في هذا المجال، وأفاد منه في كتابه (الأغاني)، وكان جحظة يختلف مع الأصفهاني في اختيار بعض الأصوات على أنها أحسن الغناء كله.

وقد استطاع جحظة، مستعيناً بنثره وشعره وغنائه، أن يقدّم لوحات اجتماعية كثيرة وصادقة نابضة بالحياة، تصوّر جوانب اللهو في المجتمع البغدادي، أيام كانت بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ومركز السلطة والثقافة والجاه والمال.

مكانته العلمية

كان أبو الحسن جحظة، على الصعيد الأدبي، راوية كبيراً، حدّث وروى عن كثيرين من العلماء والرواة، وكان حلو النادرة كثير الحكاية، ويقول عنه ابن خلّكان في (وفيات الأعيان)، " ...كان فاضلاً صاحب فنون وأخبار ونجوم ونوادر ومنادمة، وكان من ظرفاء عصره، ... وله الأشعار الرائقة،... وكان مشوَّه الخَلْق".

وقال ياقوت الحموي في (معجم الأدباء، 2/242):

" كان حَسن الأدب، كثير الرواية للأخبار، متصرّفاً في فنون من العلم، كالنحو واللغة والنجوم، مَليح الشِّعر، مقبول الألفاظ، حاضر النادرة، وكان طُنبوريّاً حاذقاً فيه فائقاً ".

ووصفه ابن كثير في (البداية والنهاية، ج11، ص 185)، بأنه " الشاعر الماهر الأديب الأخباري، ذو الفنون في العلوم والنوادر الحاضرة، وكا جيّد الغناء ". ومن أشهر من روى عنهم جحظة: الأديب الشاعر علي بن يحيى المنجِّم، واللغويان ثعلب (أحمد بن يحيى) والمبرِّد (محمد بن يزيد)، والشاعر أبو العَيْناء (محمد بن القاسم)، والمغني محمد بن أحمد بن يحيى المكّي.

أما الذين أخذوا عن أبي الحسن جحظة في الرواية فكثيرون، منهم: أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني)، وأبو علي القالي في كتابه (الأمالي)، والخالديان في (التحف والهدايا)، وهما (أبو عثمان سعيد، وأبو بكر) المنسوبان إلى الخالدية من أعمال الموصل، وكانا خازني كتب سيف الدولة الحمداني في حلب.   

وكان جحظة يجمع بين الكتابة والشعر والغناء، وله من الكتب: (كتاب الطبيخ)، و(كتاب الطنبوريين)، و(كتاب الترنّم)، وكتاب فضائل السِّكْباج)؛ والسِّكْباج مرق يعمل من اللحم والخل، و(كتاب المشاهدات)، وكتاب(أمالي جحظة)، وله ديوان شعر، ومن أغراضه الشعرية: الغزل، والخمريات، والفخر، والمديح، والهجاء، والرثاء، والعتاب، والحكمة.

وقد توفّي أبو الحسن جحظة سنة ( 324 هـ ) ، أو سنة ( 326 هـ ) في (جِيل)، وهي قرية كانت من أعمال بغداد.

المراجع

1.    ابن خلكان: ابن خلّكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إبراهيم عباس، دار صادر، بيروت.

2.  الجهشياري: كتاب الوزراء والكتّاب، تحقيق مصطفى السقّا وإبراهيم الإبياري وعد الحفيظ شلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط 2، 1980.

3.    خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، ط 4،  1977م.

4.    الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، 1970م، ب. د.

  1. القالي: كتاب الأمالي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1990م.

6.    ابن كثير: البداية والنهاية، دار ابن كثير، بيروت، 1965م.

7.    الدكتور مزهر السوداني : جحظة البرمكي الأديب الشاعر ، مطبعة النعمان ، النجف، ط 1، 1977م.

  1. ياقوت الحموي: معجم الأدباء، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1936م.

           

وإلى اللقاء في الحلقة الثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 4 – 12- 2006

 

 

 =============================

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الثامنة والعشرون )

 الأديب الموسوعي: أبو علي القالي

 ( ت 356 هـ )

تنافس ثقافي

كان القرن الرابع الهجري أزهى عصور الحضـارة الإسلامية، فقـد ازدهرت فيه العلوم، وتلاقحت الثقافات، وتمازجت قدرات الشعوب في جناحي العالم الإسلامي آنذاك: المشرق والمغرب، وأصبحت بغـداد، عاصمة الخـلافة العباسية تباهي بعلومـها وآدابها، وكذلك كانت تفعل قرطبة عاصمة الخـلافة الأموية في الأندلس.

ولم يقف الأمر عند حدّ المباهاة، بل نافست الأندلس الأموية بغداد العباسية في العلوم والآداب والفنون، ولا سيما في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، وعهد ابنه الحَكَم، وقد ورث الحكم عن والده الناصر دولة تنعم بالقوة والاستقرار والازدهار، وكان فيه ميل إلى الثقافة والمعرفة، فاهتم بالعلوم والآداب، وأغرى العلماء بالقدوم إلى الأندلس، والتأليف لصالح خزائن الكتب الأندلسية، واستقدم الكتب من خارج الأندلس، وشجّع الثقـافات المختلفة من أدبيـة ودينيـة وفلسفية، ويكفي شاهداً في هذا الصدد أنه قدّم لأبي الفـرج الأصفهاني ألف دينار ذهبي ليرسـل إليه نسخـة من كتابه (الأغاني)، فظهر الكتاب في الأندلس قبل أن يظهر في العراق مركز الخلافة العباسية.

في هذه البيئة الثقافية المزدهرة لمع اسم الأديب الموسوعي أبي علي القالي.

فمن هو أبو عليّ القالي؟!

وما السبب في شهرته؟!

قاليقَلا.. ومَنازكرد

أبو علي القالي هو من أبناء مدينة منازكرد، لكنه اشتهر في المصادر التراثية بنسبته إلى بلدة (قاليقَلا)، فسمّي القالي، فماذا عن قاليقلا ومنازكرد؟

قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان، 4/299):

" قاليقلا بأرمينية العظمى، من نواحي خِلاط، ثم من نواحي مَنازْجِرْد، من نواحي أرمينية الرابعة، ولم تزل أرمينية في أيدي الفرس منذ أيام أنو شروان حتى جاء الإسلام".

أما منازجرد التي تتبعها قاليقلا فإنها مدينة تقع حالياً في شمالي بحيرة وان بجنوب شرقي تركيا، وتسمّى في كتب التراث العربي مَنَازْجِـرْد، ومنازكرت، وملازگرد، وقال ياقوت الحموي في (معجم البلدان، 5/202):

"  مَنازْجِرْد- وأهله يقولون منازكرد بالكاف-  بلد مشهور بين خلاط وبلاد والروم، يُعدّ في أرمينية، وأهله روم وأرمن ".

واسم منازكرد- حسب لفظ أهلها- ليس غريباً على قارئ التاريخ الإسـلامي، فقد نشبت بالقرب منها (معركـة منازكرد) الشهيرة التي حدثت فيها بين المسلمين بقيادة الملك أَلْب أرسلان السلجـوقي والروم بقيـادة أرمانوس سنة (463 هـ/1071 م)، وحقق فيها السلاجقة النصر، ووقع الإمبراطور الرومي أسيراً.

ومر في ترجمتنا للمؤرخ أبي الهيجاء أن السلطان السلجوقي كان قد سرّح أغلب جنوده للراحة، ولم يبق معه سوى أربعة آلاف مقاتل، وحينما باغته أرمانوس بالهجوم انضم إليه عشرة آلاف فارس كردي من أبناء المنطقة، وكان انضمامهم إلى الجانب السلجوقي عنصراً حاسماً في تحقيق ذلك النصر الحاسم والخطير.

والحقيقة أن انتصار السلاجقة، مدعومين بالكرد، في معركة منازكرد لم يكن حدثاً عادياً قط، وإنما كان حدثاً تاريخياً كبيراً؛ لأنه فتح بوّابات الشرق الأدنى (غربي تركيا) أمام السلاجقة التركمان، وجرّ الشرق الإسلامي والغرب المسيحي إلى حروب دينية استمرت قرنين من الزمان، وعُرفت في العصر الحديث بالحروب الصليبية، وليس هذا فحسب، بل إن انتصار السلاجقة في معركة منازكرد مهّد الطريق لقيام الإمبراطورية العثمانية فيما بعد، تلك الإمبراطورية التي خرجت من عباءتها جمهورية تركيا الحديثة.

كرد .. وأرمن

وللباحث أن يقول: إذاً لا صلة لكل من قاليقلا ومنازكرد بالكرد وكردستان، لا من قريب ولا من بعيد، فهما تعدّان " من أرمينية "، وقد بنت ملكة أرمنية تدعى (قالي) مدينة قاليقلا، وباسمها سمّيت المدينة، كما أن أهل ملازكرت "  روم وأرمن ".

ووجه الإشكال في المسألة أن الحكومات الفارسية المتتالية (الأخمينية، البرثية، الساسانية) حالت دون وجود تكوين سياسي خاص بالكرد في جنوب غربي آسيا، فبدأت الفتوحات الإسلامية وبلاد الكرد (كردستان) موزّعة بين ثلاث دول: كانت الدولة الساسانية تبسط نفوذها على الأجزاء الشرقية والجنوبية. وكانت الدولة البيزنطية تحكم الأجزاء الغربية والشمالية. وكانت الدولة الأرمنية تبسط نفوذها على المناطق المتاخمة لأرمينيا من شمالي كردستان، وكان نفوذها يتوسّع ويتقلّص تبعاً لقوتها وضعفها من ناحية، ولطبيعة علاقتها بكل من الدولتين الساسانية والبيزنطية من ناحية أخرى.

وكانت النتيجة أن الكرد أُدخلوا إلى العهد الإسلامي بلا هوية قومية، وبلا هوية جغرافية سياسية، وصحيح أن مؤرخي الفتوحات الإسلامية ذكروا الكرد باسمهم أحياناً، لكنهم لم يذكروا كردستان على أنها كيان إداري يضمّ قومية معيّنة، وأطلقوا على البلاد المفتوحة في غربي آسيا تسميات إدارية مؤسسة على التقسيمات السياسية السابقة، وكان من الطبيعي أن يأخذ الجغرافيون بتلك التسميات أيضاً، فقالوا: بلاد فارس، وأرمينية، وبلاد الروم؛ وعدّوا بلاد الكرد جزءاً من فارس، وجزءاً من أرمينيا، وجزءاً من بلاد الروم، وعُدّ الكرد المقيمون في تلك البقاع من الفرس والأرمن والروم.

وقد تناولنا موضوع الحضور الكردي الباهت، داخل مدن كردستان المتاخمة لفارس وأرمينيا وبلاد الروم، في ترجمة الناقد الحسن بن بِشْر الآمدي، وذكرنا أن المدن كانت مراكز للسلطة الحاكمة ومن يدور في فلكها من الأعيان والتجار وسواهم، وأشرنا إلى التجاور والتداخل بين المناطق الآهلة بالكرد والأرمن منذ العهد الميدي، ثم إن بناء مدينة قاليقلا بأمر من الملكة الأرمنية (قالي) لا يعني مطلقاً أن المنطقة التي بنيت فيها كانت أرمنية، وإلا فإن ذلك يعني أن الإسكندرية كانت يونانية وليست مصرية لأن الإسكندر أمر ببنائها، وأن أنطاكيا يونانية لأن القائد اليوناني أنتيخوس أمر ببنائها، وأن اللاذقية عاصمة الساحل السوري يونانية لأن أحد ملوكها سماها باسم والدته أو زوجته.

والمعروف أن اعتناق الأرمن للمسيحية في بداية القرن الرابع الميلادي جعلهم أقرب إلى دولة الروم، باعتبارها مسيحية العقيدة أيضاً، وكان ثمة تحالف في معظم الأوقات بين أرمينيا وبيزنطا ضد النفوذ الفارسي، الأمر الذي جعل الحكومتين الأرمنية والبيزنطية تتقاسم المناطق الكردية في الشمال، وتكون غالبية سكان المدن من الروم والأرمن.

من هو القالي؟

هو أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عَيْذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان، وفي بعض المصادر (سَلْمان)، وذكرت المصادر أن جده سليمان كان مولى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان؛ إذاً أسرة أبي علي ليست عربية قطعاً، إنها كانت من الموالي، ومصطلح (الموالي) يعني المسلمين من غير العرب، وقد ولد أبو علي بمنازكرد سنة (288 هـ)، وإذا أخذنا بالاعتبار أن عمر كل جيل وسطياً هو أربعون سنة، تبيّن لنا أن أسرة أبي علي اعتنقت الإسلام حوالي سنة خمسين هجرية على أقل تقدير، أي في بداية عهد الخلافة الأموية.

ومعروف أن الكرد كانوا من أتباع الديانة الزردشتية قبل الإسلام، في حين كان الأرمن والروم من أتباع الديانة على المسيحية، وكان ثمة صراع عقدي بين أتباع الديانتين، وكانت السلطات الأرمنية والبيزنطية تعمل لنشر المسيحية في المناطق الكردية المتاخمة لأرمينيا وبلاد الروم، لكن الكرد لم يتقبّلوا المسيحية إلا في حدود ضيقة جداً، وإنما اعتنقوا الإسلام، ولا أستبعد أن إقبالهم على الإسلام كان شكلاً من أشكال مواجهة المدّ المسيحي القادم من أرمينيا وبيزنطا، وضرباً من الاحتفاظ بالخصوصية القومية، ووسيلة للخلاص من الانصهار، بل لا أستبعد أنهم وجدوا في الإسلام كثيراً من أوجه التشابه بتراثهم الزردشتي، وهذا أمر معروف في المصادر المهتمة بعلم الأديان المقارن.

ثم إن انضمام عشرة آلاف فارس كردي إلى جيش السلطان السلجوقي ألب أرسلان في معركة منازكرد في وقت قصير يعني أموراً عديدة:

·  أولها أن هؤلاء الكرد لم يأتوا من مناطق بعيدة عن منطقة منازكرد، وإنما كانوا من أبناء المنطقة نفسها.

·  وثانيها أن أعداد الكرد في منطقة منازكرد لم يكن قليلاً، وإلا فكيف يمكن اجتماع عشرة آلاف فارس دفعة واحدة من جماعات قليلة العدد، ومعروف في التقاليد العسكرية القديمة أن الفارس يعادل، بالمعايير العسكرية، اثنين من الرجّالة.

·  وثالثها أن الكرد في منطقة منازكرد لم يكونوا من الرحّل (الكوچر)، وإنما كانوا يقيمون في المدن والأرياف؛ إذ يصعب جمع هذا العدد الكبير من المقاتلين من مجموعات متنقلة بين شعاف الجبال.

إذاً فالمعطيات التاريخية التي بين أيدينا تحملنا على ترجيح أن أبا علي من أصل كردي، أو هو على الأقل كردستاني، ولو كان أرمنياً أو رومياً لأشارت المصادر إلى ذلك؛ إذ هذا هو المعهود في المصادر القديمة، باعتبار أن قلة من الأرمن والروم اعتنقوا الإسلام، فذُكر الأصل الرومي لكل من الشاعر ابن الرومي، واللغوي ابن جنّي، والجغرافي ياقوت الحموي، كما أشير إلى الأصل الأرمني لشخصيات أرمنية دخلت الإسلام،  نذكر منهم أبو عبد الله الأرمني في عهد الخليفة العباسي الواثق، والقائد علي بن يحيى الأرمني في عهد الخليفة العباسي المتوكل، وبدر الدين لؤلؤ الأرمني (حاكم الموصل في عهد السلاجقة توفّي سنة 657 هـ).

وقد يقال: لم لا يكون أبو علي القالي من أصل تركي؟ فالأتراك كالكرد مسلمون.

حسناً.. دعـونا نضف أنه لم يكن في الوقت الذي أسلم فـيه سليمان جدّ أبي علي، ولا في زمن ولادة أبي علي نفسه، وجود للعنصر التركي في كردستان، بل في كل غربي آسيا، ما عدا المماليك الأتراك الذين جنّدهم خلفاء بني العباس في الجيش منذ عهد المأمون، والذين ازداد عددهم في عهد أخيه المعتصم، وكانوا يسكنون بغداد وجوارها، أما الوجـود التركي في كردستان وفي الأناضول عامة إنما بدأ مـع قـدوم السلاجقة في القرن الخامس الهجري.

وقد ولد أبو علي في منازكرد سنة (288 هـ/ 901 م)، أما حقيقة نسبة (القالي) فيوضّحها لنا تلميذه النجيب أبو بكر الزُّبَيْدي:

 " وسألت أبا علي لم قيل له القالي؟ فقال: لمّا خرجنا من بلدنا كان في جملتنا جـماعة من قاليـقلا، وكانت معهم خيل، فكلّما دخلنا بلداً حـافظ أهلُها أهلَ قاليقـلا، وكانت معهم دوابّ، فأراد بعض العمّـال [الولاة] أخـذها منهم، فلما انتسبوا إلى قاليقـلا تركوهم، ورأيت الناس يعظّمونهم، فلمّا دخلت بغـداد انتسبت إلى قاليقـلا، ورجوت أن ينفعني عند العلماء، فلم أنتفع بذلك، وعرفت بالقالي ".

القالي في بغداد

لم تتّسع منازكرد النائية لمطامح أبي علي في العلم، فشدّ الرحال إلى عاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة (303 هـ)، وكان حينذاك في الخامسة عشرة من عمره، وكانت بغداد منتجع العلماء والأدباء وقبلة طلاب العلم، وكان على طالب العلم الصغير القادم من الشمال الكردي أن يمر بمدينة الموصل، ويقيم فيها بعض الوقت، وكتب فيها عن أبي يَعْلى الموصلي وغيره، ثم دخل بغداد سنة (305 هـ)، وأقام بها إلى سنة (328 هـ).

وفي بغداد اجتهد أبو علي في تلقّي العلم على أيدي كبار علماء الحديث وجهابذة علماء اللغة والراوية، فسمع الحديث على مشاهير علماء ذلك الزمان، نذكر منهم المحـدّث الشهـير أبا القاسم البَغَوي (ت 317 هـ)، وأبا بكر السِّجِسْتاني (ت 316 هـ) محدّث العراق، ومن أهل الفقه والعلم والإتقان ومن كبار حفّاظ الحديث، وابن صاعد (ت 317 هـ) من كبار حفّاظ الحديث أيضاً.

وفي بغـداد أيضاً قرأ أبو علي النحـو والعربية والأدب على مشاهير النحـاة، منهـم ابن دُرُسْتُـويه (ت 347 هـ)، وأبو إسحـاق الزَّجّـاج (ت 311 هـ)، أحـد تلامذة المُبَـرِّد، والأَخْفَش الصغير (ت 315 هـ)، ونِفْطَـويه (ت 323 هـ)، وابن دُرَيْد (ت 321 هـ) صاحب (الجَمْهَرة في اللغـة)، وأبو بكر الأنباري (ت 328 هـ)، ودرس الأدب على الشاعر والأديب الكردي أبي الحسن أحـمد بن جعفر بن موسى بن يحي البرمكي المعروف بلقب جَحْظَـة البرمكي (ت 326 هـ)، وعلى القاضي الأديب ابن قُتَيْـبة (ت 322 هـ)، وعلى آخرين غيرهم.

وبذلك الجد والاجتهاد، والحرص على الأخذ من العلماء والأفذاذ، استطاع أبو علي أن يصبح راسخ القدم في ميادين اللغة وعلوم الأدب، وأن ينبغ فيها نبوغاً جعله من أصحاب الشهرة. لكن يبدو أنه واجه في بغداد مصاعب العيش، وعانى الفاقة، ولم يكن قرير العين بالإقامة فيها، وعندما توفّي شيخه ابن دُرَيْد حزن عليه حزناً شديداً، وقال " لا أرجو أن أقيم بعده في بغداد ". وقد اضطر، بسبب الفاقة، إلى بيع نسخته من كتاب (الجمهرة) الذي ألفه أستاذه ابن دريد، فدُفع له فيها ثلاثمئة مثقال، فضنّ بها أوّل الأمر، ثم اشتدّت عليه الحاجة، فاضطر إلى بيعها بأربعين مثقالاً.

استقبال في الأندلس

مرّ بنا أن الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر كان قد رفع منار العلوم والفنون في الأندلس، وكان يحترم العلماء ويحبّهم، ويقدّرهم أعظم تقدير، ويرغّبهم في الانتقال إلى بلاطه، وكتب الناصر إلى أبي علي ورغّبه في الوفود عليه، وما كان ليفعل ذلك لولا أن شهرة أبي عليّ كانت قد ذاعت، وأصبح ممن يرغب الملوك في أن يزيّنوا بهم مجالسهم.

ولماذا لا يلبّي أبو علي دعوة الناصر؟! فهو في بغداد يعاني الفقر من ناحية، ولا يجد في العراق من يقدّره حق قدره، ثم إن التزاحم بين العلماء في بغداد شديد، وفرص الشهرة فيها أندر، والوصول إلى القمة أصعب، ولا ينجو المثقف من مضايقات بين الحين والحين، وهكذا لم يتردّد في تلبية دعوة الناصر، وشدّ الرحال إلى الأندلس.

وخرج أبو علي من بغداد قاصداً الأندلس (328 هـ)، وهو يناهز الأربعين من العمر، واصطحب معه- وهو ينتقل عبر البراري والقفار- مكتبة منتقاة عامرة بالمؤلفات القيمة، وقال يصف رحلته تلك في مقدمة كتابه الشهير (الأمالي):

 " فخرجت جـائداً بنفسي، باذلاً لحُشاشتي، أجوب متون القفار، وأخوض لجج البحـار، وأركب الفلوات، وأتقحّم الغمرات، مؤمّلاً أن أوصل العِلْق النفيس إلى من يعرفه، وأنشر المتاع الخطير ببلد مَن يُعظّمه ...".

وبعـد رحـلة طويلة قاربت ثلاثة أعـوام، وطئت قدمـا أبي علي القـالي أرض الأندلس، فاستقبل بحفـاوة، واحتفي به رسـمياً، وصوّر المقَّري ذلك في (نَفْح الطِّيب):

 "وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمر ابنُه الحَكَم- وكان يتصرّف من أمر أبيه كالوزير- عاملهم ابن رَماحِس أن يجيء مع أبي علي إلى قُرْطُبة، ويتلقّاه في وفد من وجوه رعيّته، ينتخبهم مـن بياض أهل الكورة- تكرمةً لأبي عليّ، ففعل، وسار معه نحو قرطبة".

وكان دخوله إلى قرطبة سنة (330 هـ).

 ولا ريب أن الاستقبال الحار الذي لقيه القالي على الصعيد الرسمي، برعاية من الخليفة الناصر ووليّ عهده الحَكَم، كان له أبلغ الأثر في نفسه، ولعله أول أستاذ رسمي تعهد إليه الدولة الإسلامية في الأندلس بمهمّة التدريس في جامع قرطبة، حيث كان يملي دروسه التي عرفت بـ (الأمالي)، ولم يكن أبو علي مجرد عالم يملي أو أستاذ يحاضر، ولكنه كان فوق ذلك صاحب مدرسة في اللغة والأدب، تركت طابعها على الأجيال اللاحقة من الأدباء والمتعلمين.

مكانته العلمية في الأندلس

نزل أبو علي ضيفاً على الخليفة الناصر، فأكرم مثواه، ورفع منـزلته، واختصّه بتثقيف وليّ عهده الحَكَم. وامتاز أبو علي بسعة الاطلاع في العلم والرواية، وطول الباع في اللغة، فأقبل عليه علماء الأندلس وأدباؤها للاستـفادة من محاضراته في اللغة والأدب، وكان يمليها من حفظه كل يوم خميس بقرطبة، في المسجد الجامع بالزهراء. وأجمع المؤرخون على الإشادة بذكاء القالي و نبوغه الفائق، وعدّوه أحفظ أهل زمانه.

وعلمنا أن أبا علي كان محلّ إكرام الخليفة الناصر، وكان كذلك بعد ما تولّى الخليفة الحَكَم عرش الخلافة في الأندلس، فبالغ في إكرامه، إذ كان أستاذه الذي ثقّف عقله بالمعارف، وبثّ في نفسه حبّ العلم، وكان يحثّ أبا علي على التأليف، ويُغدق عليه العطاء، فانقطع القالي إلى العلم والأدب، وعكف على التأليف، وأملى مؤلّفاته القيّمة التي فاق بها من تقدّمه، وأعجز من بعده، كما حدّث بهذا المقّري في (نفح الطيب)، وياقوت في (معجم الأدباء).

وجدير بالذكر أن القالي لم يكتف بأنه نقل إلى البيئة الثقافية الأندلسية ما كان يحفظه من أخبار وأشعار، وما كان يعرفه من معلومات ومعارف، وإنما نقل إليها – كما سبق القول- مكتبة عامرة بالمؤلفات، وضعها بين أيدي تلامذته، ينهلون منها وينسخون ما يشاؤون، فأحدث بذلك حركة علمية نشيطة في المجتمع الأندلسي، حتى إن المستشرق الألماني كارل بروكلمان قال: " أما الأندلس فكان أول من نقل إليها علم الأدب أبو علي القالي".

مؤلّفـاته

وُصفت مؤلّفات أبي علي بأنها: كانت في غاية التقييد والضبط والإتقان، ومن أبرزها: كتاب المقصور والممدود، وصف ياقوت بأنه " مستقصًى في بابه،  يَشِذّ منه شيء في معناه لم يُوضَع مثلُه ". وكتاب خلق الإنسان، وكتاب مقاتل الفرسان، وكتاب فعلتُ وأفعلتُ، وكتاب الأمثال، وكتاب البارع الذي قال فيه الزُبَيْدي: " ولا نعلمُ أحداً من المتقدمين ألّف مثلَه ". ونقل ياقوت (معجم الأدباء، 7/29 – 30) أن الشيخ الإمام محمد بن العربي قال: "كتاب البارع لأبي علي القالي يحتوي على مئة مجلّد، لم يُصنَّف مثلُه في الإحاطة والاستيعاب".

 على أن أشهر مصنّفات القالي هو كتاب (الأمالي) أو (النوادر)، والأمالي نوع من المحاضرات، أو هي تقارب مفهوم المحاضرة في عصرنا هذا، كما ذكر الدكتور عمر الدقّاق في مقدمة كتاب (شذور الأمالي) لأبي علي القالي، وكانت الأمالي تُملى في الغالب من الذاكرة، وتُلقى إلقاء مرتجَلاً عن ظهر قلب، وقد ألّف القالي كتاب الأمالي للخليفة عبد الرحمن الناصر،وتوجّه إليه بالثناء في خطبة الكتاب. وقال ابن حَزْم- حسبما نقل ياقوت في (معجم الأدباء، 7/28)-:

" كتابُ نوادر أبي علي مُبارٍ لكتاب الكامل الذي جمعه المُبرِّد، ولئن كان كتاب أبي العبّاس أكثر نحواً وخبراً، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعراً ".

ومن الأدلة على القيمة الثقافية لكتاب (الأمالي) قول ابن خلدون في مقدمته:

 "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم: أصول فنّ الأدب وأركانه أربعة دواوين؛ وهي كتاب الكامل للمُبَرِّد، وأدب الكاتب لابن قُتَيْبَة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع منها".

ووصف القِفْطي كتاب الأمالي قائلاً:

 " وهذا الكتاب غاية في معناه، وهو أنفع الكتب، لأن فيه الخبر الحسن، والمثل المتصرّف، والشعر المنتقى في كل معنى. وفيه أبواب من اللغة مستقصاة، وليست توجد في شيء من كتب اللغة مستقصاة مثل ما هي في هذا الكتاب. وفيه القلب والإبدال مستقصى، وفيه تفسير الاتباع وهو مما لم يستيقظ إليه أحد، إلى فوائد كثيرة". 

وأوضح القالي نفسه، في مقدمة كتابه، محتوى الأمالي، فقال:

" وأودعته فنوناً من الأخبار، وضروباً من الأشعار، وأنواعاً من الأمثال، وغرائب اللغة. على أني لم أذكر فيه باباً من اللغة إلا أشبعته، ولا ضرباً من الشعر إلا اخترته، ولا فنّاً من الخبر إلا انتحلته، ولا نوعاً من المعاني والمثل إلا استجدته".

تلامذته وشخصيته

ما إن حلّ أبو علي في قرطبة حتى ذاع خبره، وكثر قاصدوه، وأقبل عليه الطلبة، فكان منهم الشعراء والأدباء والعلماء، وكان وليّ العهد الحَكَم أول من تتلمذ عليه بتوجيه من والده الخليفة الناصر، ومن الصعب تحديد عدد تلامذة القالي في بلاد الأندلس، لكن أنبه تلامذته على الإطلاق هو أبو بكر محمد بن الحسن الزُّبَيْدي الإشبيلي، وهو شاعر وأديب، راسخ القدم في اللغة والنحو، ومن مؤلفاته: (الواضح في النحو)، و(طبقات اللغويين والنحويين)، و(مختصر العين).

وكان أبو علي القالي رجل علم وثقافة، متمكّناً من اللغة والنحو، غزير الرواية، كثير المحفوظ، جيد الرواية، متمرّساً بالتأليف، أميناً في النقل، بعيداً عن الغرور، شديد الاتّزان، جمّ التواضع، زاهداً في مظاهر الجاه والنفوذ، عصاميّاً، يروي ظروف نشأته ورحيله من بلدته الكردية المالية النائية إلى العراق دونما حرج أو تردّد.

والجِدّ هو الطابع الغالب على كتب القالي، ولا سيما في كتابه (الأمالي)، وقلّما يجنح فيه إلى الفكاهة والهزل، أو البذاءة والمجون، وقلّما نجد فيه أشعاراً وأخباراً تخدش الحياء وتجرح الشعور. وقد خالف القالي بنهجه هذه نهج أصحاب الموسوعات الأدبية كالجاحظ وابن قُتَيْبة وأبي حيّان التوحيدي،  وابن بسّام، وهذا دليل آخر على شخصية القالي الجادة الرصينة العفيفة.

ولأبي علي القالي ابن اسمه جعفر، ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان، 1/488)، وصفه بقوله: " كان أيضاً أديباً، فاضلاً، أريباً".

وقد توفي أبو علي في قرطبة سنة (356 هـ).

المراجع

1.    ابن بسّام: الذخيرة، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 1، 2000م.

  1. ابن خلكان: ابن خلّكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إبراهيم عباس، دار صادر، بيروت.

3.    خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، ط4،  1977م.

  1. السيوطي: بغية الوعاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1964م.
  2. الضبّي: بغية الملتمس، دار الكاتب العربي، 1967م.
  3. الفَرَضي: تاريخ العلماء والرواة للعلم بالأندلس، مطبعة المدني، القاهرة، ط 2، 1988.
  4. القالي: _ شذور الأمالي، دراسة الدكتور عمر الدقّاق، مطبعة الصباح، دمشق،1991م

            _ كتاب الأمالي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1991م.

  1. القفطي: إنباه الرواة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1950 م.
  2. المقّري: نفخ الطيب، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1968م.
  3. ياقوت الحموي: - معجم الأدباء، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1936م.

            - معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977م.

وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة والعشرون.

د. أحمد الخليل   في 17 – 11- 2006

 

 

===================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة السابعة والعشرون )

 الناقد الكبير: أبو القاسم الآمِـدي

 ( ت 370 هـ )

التاريخ مسؤولية

قراءة التاريخ مسؤولية وليست ترفاً.

فإما أن نقرأ التاريخ بعمق، ونسرده بصدق.

وإما أن نلتزم الحديث النبوي القائل: " رحم الله امرأً عرف حدّه فوقف عنده ".

ومن أبسط درجات العمق ألا ننشغل بالحدث التاريخي، ونذهل عن أسبابه.

كما أن من أبسط درجات الصدق ألا نقتلع الحدث التاريخي من سياقه.

إن غزو التاريخ على صهوات النزعات القبلية أو القومية أو المذهبية أو الدينية، واحتكار الأمجاد، وصناعة الأوهام، أمور قد تُرضي الأنانية القبلية أو القومية أو المذهبية أو الدينية بعض الحين، لكن في النهاية لا بد أن يذوب الثلج كما يقول المثل، ونستيقظ على حقائق تطاردنا، ومشكلات تؤرّقنا.

ودعونا نبحث عن آمِد انطلاقاً من هذه الرؤية في قراءة التاريخ وسرده، فمنذ فجر التاريخ كان غربي آسيا موطن الحضارات، وكان من ثَم مسرحاً للصراعات بين الدول والممالك التي نشأت فيه، أو قامت على تخومه، ومن غير الموضوعية تناول حاضر شعوب هذه المنطقة بعيداً عن تاريخها في الإسلام، إذ كيف لنا أن نتجاهل أحداثاً كبرى واكبت الفتوحات الإسلامية، وأحدثت انقلاباً شبه كامل في الجغرافيا السياسية والديموغرافية والثقافية، من جبال هندوكوش شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً؟ وكيف لنا أن نضرب صفحاً عن الأمويين، والعباسيين، والفاطميين، والبُوَيهيين، والسلاجقة، والمغول، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين؟

ومن غير الموضوعي أيضاً أن نتوهّم أن الفتوحات الإسلامية كانت بداية تاريخ غربي آسيا، إذ كيف لنا أن نتجاهل التاريخ الممتد من الألف الثالث قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي؟ وكيف لنا أن نفهم المكوّنات القومية والثقافية القائمة الآن في غربي آسيا ما لم نعرف الأحداث الكبرى التي ارتبطت بالسومريين، والغوتيين، والأكاديين، والكاشيين، والبابليين، والآراميين، والفينيقيين، والخالديين، والميتانيين، والحثيين، والآشوريين، والليدييين، والميديين، والأخمينيين، والإغريق، والبرث، والساسانيين، والأرمن، والرومان، والروم البيزنطيين؟

آمِـد.. وليس (ديار بكر)

بلى، من المفيد أن نبحث عن آمد في سياقها التاريخي مكاناً وزماناً، ويوصلنا هذا السياق إلى أنها مدينة كردية عريقة، تقع في المنطقة الكردية بجنوب شرقي تركيا، وتسمى الآن (ديار بَكْر)، ولعل هذه التسمية هي من موروثات العهد العثماني، وقد ذكرها ياقوت الحموي (ت 626 هـ) في كتابه (معجم البلدان، 1/76) قائلاً:

" هي أعظم مدن ديار بكر وأجلُّها قدراً، وأشهرها ذكراً، ... وهي بلد قديم حصين ركين، مبنيّ بالحجارة السود على نَشَزٍ [ مرتفع ]، دجلة محيطةٌ بأكثره، مستديرةٌ به كالهلال، وفي وسطه عيون وآبار قريبة نحو الذراعين، يُتناول ماؤها باليد، وفيها بساتين ونهر يحيط بها السور، ... وفُتحت آمِد في سنة عشرين من الهجرة، وسار إليها عِياض بن غَنْم بعدما افتتح الجزيرة، فنزل على أن لهم هيكلهم وما حوله، وعلى ألا يُحدثوا كنيسة، وأن يُعاونوا المسلمين ويرشدوهم، ويُصلحوا الجسور، فإن تركوا شيئاً من ذلك فلا ذمّة لهم ".

وها نحن أولاء نرى أن ياقوت انطلق في التعريف بآمد بدءاً من العهد الإسلامي، أما قبل ذلك، فلا شيء، سوى الإشارة إلى أنها " بلد قديم، حصينٌ ركين "، ومع ذلك فقد فرّق ياقوت بين دلالة كل من اسمي (آمد) و(ديار بكر)، وأوضح أن اسم (ديار بكر) كان يطلق على المنطقة التي كانت آمد عاصمتها الإقليمية، ولم يكن اسماً لمدينة آمد نفسها، تماماً كما نقول الآن عن مدينة (حلب) إنها عاصمة المنطقة الشمالية في سوريا؛ أي أنها أكبر مدن شمالي سوريا.

ومعروف في كتب التاريخ الإسلامي أن القبائل العربية كانت تتبع مسارات الفتوحات الإسلامية، وكانت الدولة تبيح لتلك القبائل أن تتخذ من البلاد المفتوحة مراعي لأنعامها، وعندما فتح العرب المسلمون الجزيرة- وهي تقع بين نهري دجلة والفرات، وتمتد من العراق جنوباً إلى المناطق التابعة لمدينة آمد شمالاَ، مروراً بشمالي شرقي سوري- انتشرت قبائل ربيعة في المناطق التابعة للموصل، فسمّيت (ديار ربيعة)، وانتشرت قبائل مُضَر في المناطق التابعة للرقة، فسمّيت (ديار مُضَر)، وانتشرت قبائل بَكْر في المناطق التابعة لآمد، فسمّيت (ديار بَكْر).

وهكذا فقد أُطلق الاسم العربي (ديار بكر) على المناطق التي كانت تابعة مدينة آمد حاضرتها وعاصمتها الإداريةً، أما آمد نفسها فاحتفظت باسمها التاريخي العريق، والدليل على ذلك أن الجغرافيين والمؤرخين المسلمين سمّوها (آمد)، ولم يسمّوها (ديار بكر)، وأطلقوا على المشاهير من أبنائها لقب (الآمدي)، ولم يقولوا: (الديار بكري)، وأحسب أن هذه النسبة الجديدة ظهرت في العهد العثماني، وتحوّلت بتأثر قواعد اللغة التركية إلى صيغة (الديار بكرلي).

آمِـد.. وميديا

ويقول ياقوت الحموي في تفسير اسم آمد:

" وما أظنها [ آمد ] إلا لفظة رومية، ولها في العربية أصل حسن، لأن الأمدَ الغايةُ، ويقال: أمِد الرجل يأْمد أَمَداً، إذا غضب، فهو آمِدٌ... والجامع بينهما أن حصانتها مع نضارتها تُغضب من أرادها ".

ونستدل من قول ياقوت على أنه لا يعرف شيئاً عن تاريخ آمد قبل الفتح الإسلامي سوى أنها كانت على صلة ما بالروم البيزنطيين، ظاناً أن الاسم رومي، ثم سرعان ما يعود إلى نهجه المعروف في البحث عن دلالات عربية لبعض الأسماء غير العربية، ويتوصل إلى تفسير لا يخلو من سطحية حول العلاقة بين (الأمد) و(آمد)، ولا أدري كيف استطاع التوفيق بين أن اللفظة رومية (لاتينية) وأنها من أصل عربي في الوقت نفسه؟

ومهما يكن فلا عتب على ياقوت، فهو رومي الأصل، ولا نعرف شيئاً عن اسمه الرومي، وقد اختُطف وهو صغير من دياره، وبيع في الأسواق، فاشتراه تاجر حموي الأصل، بغدادي الإقامة يدعى عَسْكَر، وكان عسكر أمياً، فحرص على تعليم عبده ياقوت، ليعينه في ميادين التجارة، ثم كلّفه بالتجارة في أرجاء العالم الإسلامي حينذاك، وهكذا فإن ياقوت هو في النهاية تاجر يبحث عن تبرير ما لتسويق بضاعته، حتى وإن كانت بضاعته مادة تاريخية.  

وعندما نضع الأمور في نصابها، وننظر إلى آمد في سياقها الجغرافي والتاريخي الحقيقي، نجد أنفسنا مضطرين إلى الاختلاف عن ياقوت في تفسيره، ولاتضح أن آمد كانت- وما زالت- واقعة في صميم المنطقة الكردية، وهي المنطقة ذاتها التي كانت تابعة قبل الميلاد للدولة الميتانية، ثم للدولة الميدية، ومعروف أن الميتانيين والميديين هم من أسلاف الكرد قبل الميلاد، ومن المفيد أن نتذكر أن حدود دولة ميديا كانت تقف عند الشاطئ الشرقي لنهر هاليس (قيزيل إرماق)، لتبدأ حدود دولة ليديا الإغريقية من الشاطئ الغربي لذلك النهر، ولو تتبّعنا اليوم مواطن الكرد في شرقي تركيا لوجدناها تتطابق والمناطق التي كانت تتبع الدولة الميدية قديماً.

واعتماداً على هذه الحقائق التاريخية والجغرافية نرجّح أن لاسم (آمد) علاقة ما بالميديين، وثمة مدينتان أخريان تحملان اسماً مقارباً لاسم آمد، هما مدينة (هَمَذان= آمدان)، وكانت تسمى (أكباتانا) أيضاً، وكانت عاصمة الدولة الميدية، ومدينة العمادية (آمادي = آميدي) في إقليم كردستان بشمالي العراق، وهي من المدن الكردية القديمة.

وللمرء أن يتساءل: كيف تكون آمد كردية في الوقت الذي ذكر ياقوت- وتؤيده أخبار الفتوحات الإسلامية- أن الذين وقّعوا اتفاقية دخول العرب المسلمين إلى آمد كانوا من المسيحيين، إذ وردت بنود حول الهيكل والكنائس، مع العلم أن الكرد كانوا من أتباع العقيدة الزردشتية قبل الإسلام، ولا نجد أية إشارة إلى الكرد والمعابد الزردشتية في تلك الاتفاقية؟!

احتكام إلى التاريخ

ها هنا لا بد من الاحتكام إلى السياق التاريخي، فبعد أن خسر الميديون دولتهم سنة (550 ق.م)، وورثهم جيرانهم- وربما أقاربهم- الفرس الأخمينيون، أصبحوا تابعين للفرس سياسياً وثقافياً، وكانت كردستان بأجمعها تنضوي تحت لواء الأخمينيين، ولما أسقط الإسكندر المكدوني الدولة الأخمينية سنة (331 ق.م) كانت كردستان تتبع الدولة السلوقية الإغريقية حيناً، ثم الدولة البرثية (الأرشاكية)، ثم الدولة الساسانية، لكن مناطق منها كانت تقع تحت الهيمنة الأرمنية في المرحلة التي أسس فيها الملك الأرمني ديكران الثاني إمبراطوريته (حكم بين سنتي 54 – 34 ق.م).

وعندما ورث الرومان إمبراطورية الإغريق واستولوا على ليديا، اجتازوا نهر هاليس، وتوسّعوا شرقاً في أراضي ميديا، بل فرضوا هيمنتهم على أرمينيا نفسها أحياناً، وبعد أن انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى جناح شرقي عاصمته بيزنطة (القسطنطينية)، وجناح غربي عاصمته (روما)، خاض البيزنطيون صراعاً مريراً وطويل الأمد ضد الفرس الساسانيين، وخرجت أرمينيا من ساحة الصراع، وأصبحت كردستان موزّعة بين الفرس والروم، وكان الروم قد أنشؤوا قاعدة هامة لهم في نصيبين، وكانت مناطق نفوذ كل من الدولتين في كردستان تتسع وتضيق تبعاً لمراحل القوة والضعف التي كانت تمر بها كل دولة من الدولتين العظميين في ذلك الزمان.

وحينما بدأت الفتوحات الإسلامية في كردستان عامة كانت بلاد الكرد في جنوب شرقي تركيا تقع تحت هيمنة الدولة البيزنطية، ومعروف أن الدولة الحاكمة، ولا سيما إذا كانت غريبة عن الشعب، تُمركز رجالاتها وقياداتها ومؤسساتها- سواء أكانت إدارية أم ثقافية أم اقتصادية- في المدن والحواضر الكبرى، وهذا ما حصل في الأقاليم الكردية الواقعة تحت الهيمنة البيزنطية، وكان من الطبيعي أن تقوم الجهات البيزنطية الحاكمة بأمور الحرب أو التفاوض مع العرب المسلمين الفاتحين، وأن تحرص قبل كل شيء على تأمين مصالحها في بنود الاتفاقيات.

أضف إلى هذا أن الكرد كانوا يدينون بالعقيدة الأزدائية (الميثرائية)، ثم اعتنقوا العقيدة الزردشتية تحت تأثير السياسات الثقافية الأخمينية والساسانية خاصة، إذ صحيح أن النبي زردشت نفسه كان ميدياً نسباً وإقامة، لكن يبدو لي أن دعوته لقيت قبولاً عند الفرس في الدرجة الأولى، وأصبحت إيديولوجيا وظّفها الفرس على نحو ذكي للقضاء على الدولة الميدية.

والمهم أن معظم الكرد كانوا على الزردشتية قبل الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي (الأول الهجري)، وكانوا على خلاف عقدي مع جيرانهم الأرمن الذين اعتنق ملكهم درطاد الثالث المسيحية في أوائل القرن الرابع الميلادي، كما كانوا على خلاف عقدي مع جيرانهم البيزنطيين الذين اعتنق ملكهم قسطنطين المسيحية حوالي سنة (330 م)، ورغم الجهود الأرمنية والبيزنطية لم يعتنق المسيحية إلا عدد قليل جداً من الكرد، وكان الكرد في غالبيتهم من المزارعين والكُوچَر (الرُّحّل)، ويقيمون في الأرياف والمراعي الجبلية (زُوزان)، ومن الطبيعي ألا نجد لهم حضوراً في الاتفاقيات المعقودة بين الروم والفرس، وبين الروم والعرب الفاتحين.

هذا عن آمد.

وماذا عن الآمدي؟

الآمِـدي طالباً وكاتباً

هو أبو القاسم الحسن بن بِشْر بن يحيى الآمِدي، وهو آمِدي الأصل، وليس بين أيدينا من المعلومات ما يجعلنا نُجزم بأنه كردي قُحّ، لكن كردستانيته حقيقة لا شك فيها، بل إن كردستانيته ظاهرة في لقبه (الآمدي)، وبناء على المعطيات الجغرافية والتاريخية التي سبق ذكرها قبل قليل نرجّح أن الآمدي كردي النسب، وقد ناقشنا أسباب هذا الترجيح باستفاضة في كتابة ترجمة ابن تيمية.

وقد أجمعت كل المصادر على أن الآمدي ولد بالبصرة ونشأ فيها، ولم تذكر المصادر تاريخ ميلاده، أما تاريخ وفاته فقد اختلف فيه، وتردّدت أقوال المؤرخين أنه توفي بين سنتي (370 هـ) و(371 هـ).

وقد بدأ الآمدي حياته العلمية بالتتلمذ على أيدي العلماء في البصرة، ثم في بغداد، فقد أخذ اللغة والنحو عن أبي موسى الحامض (ت 305 هـ )، وأبي إسحاق الزجّاج (ت 311 هـ أو 316 هـ)، والأَخْفَش الصغير (ت 315 هـ)، وأبي بكر بن السرّاج (ت 316 هـ)، وأبي بكر بن دُرَيْد (ت 321 هـ)، وإبراهيم بن عَرَفة المشهور بلقب نِفْطَويه (ت 323 هـ).

ويذكر الآمدي نفسه أنه بدأ يتلقّط محاسن شعر أبي تمام والبحتري سنة (317 هـ)، وقد تكون هذه بداية مرحلة جديدة في التأليف والبحث، بعد أن اكتسب المعارف والعلوم التي هيّأت له عقلية عملية ناضجة.

واستطاع أن يتصل بأبي جعفر هارون بن محمد الضبّي، ويكون من كتّابه،  وهارون هذا كان من سادات بني ضبّة، وكان أسلافه ملوك عمان. وبعد ذلك كتب الآمدي لآخرين، وأشار ياقوت الحموي إلى أن الآمدي ألّف كتاب ( تبيين غلط قُدامة في نقد الشعر ) لأبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد (ت 359/ 360 هـ)، وكان أبو الفضل هذا من أئمة الكتّاب، ولقّب بالجاحظ الثاني في أدبه وترسّله، والأرجح أن اتصال الآمدي بأبي الفضل كان بعد سنة (324 / 325 هـ) وهي السنة التي تقلّد فيها أبو الفضل الوزارة، وامتدت هذه الفترة إلى ما قبل سنة (335 هـ)، إذ يروي الآمدي أنه في تلك السنة كان في البصرة يكتب لأبي أحمد طلحة بن المثنّى.

وبعد مقتل طلحة بن المثنّى عاد الآمدي إلى البصرة، وتولّى الكتابة لقاضي البلد أبي جعفر بن عبد الرحمن الهاشمي، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد لما ولي قضاء البصرة، وبدءاً من سنة (356 هـ) اعتزل الآمدي عمل الكتابة، ولزم بيته إلى أن توفّي سنة (370 / 371 هـ)، وهذا يدل على أنه آثر السلامة، ونأى بنفسه عن دسائس السياسة ومشكلات المناصب.

مؤلفاته وتلامذته

أجمعت المصادر على سعة علم الآمدي، ودقة معرفته بالشعر والأدب، قال القِفْطي في كتابه (إنباه الرواة على أنباه النحاة، 1/285):

" إمام في الأدب، وله شعر حسن، واتساع تام في علم الشعر ومعانيه رواية ودراية وحفظًا، وصنّف كتبًا في ذلك حساناً ... صحب المشايخ والجِلّة ... واتّسع في الآداب وبرز فيها، وانتهت رواية الشعر القديم والأخبار في آخر عمره بالبصرة إليه ".

وتظهر في كتابه (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري) سعة معرفته بالشعر، فقد حوى الكتاب كثيراً من أبيات الشعر التي استشهد بها، وكثيراً من القضايا النقدية التي شرحها ونقدها، وألّف في بعضها كتباً مثل كتابه (تبيين غلط قُدامة بن جعفر في نقد الشعر).

أما ثقافة الآمدي في النحو فتعكسها مؤلفاته النحوية، مثل كتاب (فَعَلتُ وأَفعلتُ)، وقد أورد حاجي خليفة في (كشف الظنون) عدة كتب تحمل العنوان نفسه لكل من أبي علي القالي، وأبي إسحاق الزجّاج، وأبي زيد سعيد بن أَوْس الخزرجي، والآمدي، وقال: " وهو أجوده ". ووصف ياقوت في (معجم الأدباء، 8/86) هذا الكتاب بأنه: " غايةٌ لم يُصنّف مثلُه ".

وذكر الآمدي في ( الموازنة ) أنه ألّف كتاباً في معنى ( قد، وهل )، لخّص فيه ما ذكره النحويون وسيبويه في معناهما، غير أن مؤلفاته في الأدب والرواية هي الغالبة؛ إذ تبلغ أربعة وعشرين كتابًا. هذا ونذكر من مؤلفاته ما يأتي:

كتاب المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء، كتاب الموازنة بين الطائيين، كتاب نثر المنظوم، كتاب ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطأ، كتاب فرق ما بين الخاص والمشترك، كتاب تفضيل شعر امرئ القيس على الجاهليين، كتاب فعلتُ وأفعلتُ، معجم الشعراء، كتاب شرح حماسة أبي تمام، شرح ديوان المسيَّب بن عَلَس، ديوان الأعشى الكبير، كتاب الشعراء المشهورين، كتاب الأمالي، كتاب أشعار بني يَرْبوع، كتاب تبيين غلط قُدامة بن جعفر في نقد الشعر، كتاب في معنى قد وهل.

وإن عالماً بالأدب والنحو مثل الآمدي لا بد أن يحظى به كثيرون من طلبة العلم، ويُقبلوا على تلقي المعرفة منه، ومن أبرز طلبة الآمدي: أبو الحسن علي بن دينار الكاتب ( 323 409 هـ )، وكان شاعراً مجيداً، شارك المتنبي في أكثر ممدوحيه، وعبد الصمد بن حُنيش النحوي، وأبو علي عبد الكريم بن الحسن بن الحسين بن حكيم السكري النحوي.

مكانته النقدية

النقد الأدبي باختصار هو تذوّق النص الأدبي، وتحليل عناصره، تمهيداً للحكم عليه، ويعلم كل قارئ للتراث العربي أن الشعر كان ديوان العرب، ولا عجب من ثم أن يكون الشعر محور الحركة النقدية الأدبية في تاريخ الثقافة العربية القديمة، وكان النقد الأدبي العربي في القرنين الأول والثاني الهجريين قائماً على الذوق، ومسترشداً ببعض المعايير المتعلقة بالفصاحة والبلاغة، ويلخّص مصطلح (الفحولة) تلك المعايير عند من اهتموا بالنقد، وصنّفوا الشعراء ضمن هذه الطبقة أو تلك.

وفي القرن الثالث الهجري برز الاهتمام بالمعاني، وبحث النقاد عن قواعد يحكمون من خلالها على الشعر والشاعر، وألّف ثعلب (ت 291 هـ) كتابه (قواعد الشعر)، وألّف ابن قُتَيْبة (ت 276 هـ) كتابه (الشعر والشعراء)، هذا عدا الآراء النقدية الكثيرة التي أوردها الجاحظ (ت 255 هـ) في كثير من رسائله، وساقها ابن المعتزّ (ت 296 هـ) في كتابه (البديع).

ومع القرن الرابع الهجري دخل النقد الأدبي العربي مرحلة جديدة، يصح أن نصفها بأنها مرحلة التأصيل والتقعيد، ومن أبرز أعلام النقد في هذه المرحلة: ابن طَباطبا العلوي (ت 322 هـ) صاحب كتاب (عِيار الشعر)، وأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي موضوع دراستنا هذه، وقُدامة بن جعفر (ت 310 هـ) صاحب (نقد الشعر)، والقاضي علي بن عبد العزيز الجُرجاني (ت 392 هـ) صاحب (الوَساطة بين المتنبي وخصومه)، وأبو هلال العسكري (ت 395 هـ) صاحب كتاب (الصناعتين).

وكان الآمدي من الرعيل الأول في هذا المجال، حتى إن الدكتور إحسان عباس يقول في كتابه (تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 142):

" فإذا بلغنا أبا القاسم الحسن بن بشر الآمدي نكون قد وصلنا إلى أول ناقد متخصص، جعل النقد أهم ميدان لجهوده، وفيه كتب أكثر مؤلفاته ".

ويضيف الدكتور إحسان عباس قائلاً (ص 154):

" ويأوي الآمدي في نقده إلى ركن شديد، يجعله أساساً لنظرته النقدية، وهو الرجوع في كل أمر يختلف فيه المتذوّقون والنقاد إلى ما تعارفت عليه العرب وأقرّته وأثر عنها، فكما أن على الشاعر أن يلتزم عمود الشعر، فإن على الناقد أن يلتزم عمود الذوق ".

وقال الدكتور عبد الله حمد محارب في دراسته حول كتاب (الموازنة، ص 39):

" وما من شك في أن الآمدي كان يتمتع بحس فني كاشف، وبموهبة في التذوّق مرهفة، أضفيا على أحكامه لمسات جمالية، فجاءت قريبة من القلب، وإن خلت في كثير من الأحيان من التعليل ".

وقال الدكتور إحسان عباس (ص 145) مبدياً رأيه في كتاب (الموازنة):

 " فكتاب (الموازنة) وثبة في تاريخ النقد العربي، بما اجتمع له من خصائص، لا بما حققه من نتائج؛ ذلك لأنه ارتفع عن سذاجة النقد القائم على المفاضلة بوحي من (الطبيعة) وحدها دون تعليل واضح، فكان موازنة مدروسة مؤيَّدة بالتفصيلات التي تلمّ بالمعاني والألفاظ والموضوعات الشعرية بفروعها المختلفة ".

وقال الدكتور علي علي صبح في كتابه (عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي، ص 12):

" والآمدي كما نلاحظ في الموازنة ذو عقل حصيف، وفكر ناضج، وثقافة واسعة، وهو لا يسير وراء العلماء والأدباء، وإنما يجيء في الطليعة مجدّداَ لا مقلّداً، ومتبوعاً لا تابعاً ".

ورغم أن محمد رشاد محمد صالح يرى، في كتابه (نقد الموازنة بين الطائيين أبي تمّام والبحتري، ص 17)، أن الآمدي متعصب على أبي تمّام، متحيّز للبُحتري، فإنه يشيد بكتاب الموازنة قائلاً:

" ذلك كله لا يقلّل من شان كتاب الآمدي (الموازنة)، ولا يهدر من قيمته شيئاً، لأنه هو الأستاذ والمدرسة والمرجع الأم في كل ما كُتب عن النقد والبلاغة منذ 350 هـ وإلى يومنا هذا ".  

المراجع

  1. الآمدي: الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، دراسة وتحقيق الدكتور عبد الله حمد محارب، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990م.
  2. السيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1964 م.
  3. الدكتور علي علي صبح: عمود الشعر العربي في موازنة الآمدي، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1986م.
  4. القفطي: إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1950 م.
  5. محمد رشاد محمد صالح: نقد الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري، المركز العربي للصحافة، القاهرة، 1982م.
  6. ابن النديم: الفهرست، تحقيق ونشر الدكتور شعبان خليفة، وليد محمد العوزة، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 1991 م.
  7. ياقوت الحموي:

- معجم الأدباء، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1936م.

- معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990 م.

وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة والعشرين.

د. أحمد الخليل   في 1 – 11- 2006

 

======================================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة السادسة والعشرون )

 شيخ الإسلام ابن تيمية

 (661 ـ 728هـ)

إمـام جليل، وعالم جريء، وفقـيه بارع، وداعية لامع، ومقاتل شجاع، وكاتب عبقري، وباحث محقّق، وخطيب مفوَّه؛ ذلكم هو شيخ الإسلام ابن تيميّة، وقد وصفه الحافظ الذهبي في (معجم الشيوخ) بقوله:

" فريد العصر علماً ومعرفة، وذكاء وحفظاً، وكرماً وزهداً، وفرطَ شجاعة وكثرةَ تآليف ...".

ووصفه ابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب) قائلاً:

 " الشيخ الإمام العالم، العلاّمة، المفسِّر الفقيه، المجتهد الحافظ المحدّث، شيخ الإسلام، نادرة العصر ذو التصانيف والذكاء".

وجاء في كتاب (العقود الدرّية من مناقب شيخ الإسلام ابن تيميّة):

" هو الشيخ الإمام الرّباني، إمام الأئمـة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيّد الحفّاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وقريع الدهر، شيـخ الإسلام، بَرَكة الأنام، وعلاّمة الزمان، وترجمان القرآن، عَلَم الزهّاد، وأوحد العبّاد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين ".

فماذا عن عصر الرجل؟

وماذا عن نشأته وفكره ومواقفه؟

العصر الصعب

عاش ابن تيميّة في عصر هو من أشد عصور شرقي المتوسط حرجاً وأكثرها خطراً، أجل، كانت شعوب شرقي المتوسط تتعرّض فيه للهجوم من جهات شتى، فمن الشرق كانت جحافل المغول تأتي على الأخضر واليابس، وتقتحم المدن، وتقيم أهرامات من رؤوس البشر، إنهم اقتحموا كردستان، ثم اندفعوا نحو بغداد عاصمة الخلافة العباسية سنة (656 هـ / 1258 م)، فدمّروها تدميراً.

ومن الشمال كانت الدولة البيزنطية تهاجم بلاد الشام وشمالي كردستان كلما سنحت لها الفرصة، وكان الفرنج يهيمنون على مراكز هامة في سواحل بلاد الشام، مستعينين في ذلك بالفرنج القادمين من أوربا، وعندما ولد ابن تيميّة كانت ذكريات الحملة الفرنجية السابعة على مصر، بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع سنة (647 هـ/ 1249 م)، ما تزال حيّة في الأذهان.

وفي أقصى الغرب كان الإسبان قد انتقلوا من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، واستردوا البلاد التي فتحها المسلمون، وعملوا للقضاء على مملكة غرناطة آخر الممالك الإسلامية في شبه جزيرة إيبيريا (الأندلس)، وليس هذا فحسب، بل نشـطوا للانقضاض على سواحل شمالي إفريقيا، وجرّد ملك فرنسا لويس التاسع حملة على تونس سنة (668 هـ)، لكنه لم يفلح في السيطرة عليها.

وكانت مصر وبلاد الشام آنذاك خط الدفاع الأول لحماية شعوب شرقي المتوسط، وكانتا كذلك طوال العهـد الأيوبي، وظلتا كذلك في عهد المماليك البحرية تلامذة المدرسة الأيوبية، بلى، لقد تسلّم المماليك من أساتذتهم الكرد الأيوبيين راية الدفاع عن البيت الشرق متوسطي الكبير، والتصدي للمغول والفرنج، وكان لزاماً عليهم أن يبقوا تلك الراية خفّاقة، إذ كان الخطر ما يزال قائماً.

أصل ابن تيمية

في هـذا العصر الحرج ولد ابن تيمية، وكانت ولادته في مدينة حَرّان بالمنطقة الكردية في جنوب شرقي تركيا، واشتهر بكنية أسرته (ابن تيميّة) أكثر من اشتهاره باسمه، وثمة تفسيرات عديدة لأصل هذه الكنية، أشهرها أن (تيميّة) اسم بعض جدّاته، وكانت واعظة، وفي المجتمع الكردي كثيراً ما يُعرف المرء بأمـه، ويُنسب إليها في الوسط الاجتماعي، ولا تزال آثار هذه العادة باقية في القرى الكردية إلى عصرنا هذا، ونستدل منها على أهمية المرأة في المجتمع الكردي، إلى درجة أنها تمنح اسمها لأولادها وللعائلة بكاملها.  

ولم يذكر المؤرخون القبيلة التي تنتمي إليها أسرة ابن تيميّة، ولم يشيروا إلى أصله، لكن دعونا نتفحص الأمر برويّة، فالمعروف أن غالبية سكان منطقة جنوب شرقي تركيا هم من الكرد، وقد وفد إليها قليل من العرب مع الفتوحات الإسلامية في القرن الأول الهجري، ثم وفد إليها بعض التركمان في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) مع الغزو السلجوقي، وهكذا فنحن أمام ثلاثة احتمالات لأصل ابن تيمية:

-   الاحتمال الأول أن يكون ابن تيمية عربياً، لكننا لا نجد في سلسلة نسبه أية إشارة إلى انتمائه العربي، ولو كان عربياً لما تردّد هو أو أحد أفراد أسرته- ومعظمهم من العلماء- في ذكر قبيلته، ولا سيما أن الانتماء إلى قبيلة عربية كان يعدّ في ذلك الوقت مفخرة، وشكلاً من أشكال التميّز الاجتماعي.

ولو كان ابن تيمية عربي النسب لما تردّد من كتب سيرته قديماً وحديثاً في الإشارة إلى ذلك؛ هذا مع العلم أن الإشارة إلى الأصل العربي للأعلام كان أمراً معهوداً في كتب التراجم القديمة، حتى إذا كان العلَم من سكان بلاد بعيدة جداً من بلاد العرب، وأكتفي في هذا المجال بذكر عَلمين اثنين: الأول هو إسحاق بن راهويه، فقد أشير إلى نسبه الحنظلي التميميى؛ رغم أن اسمه (راهويه) فارسي وأنه كان في خراسان. والثاني هو أبو عبد الله بن مسلم القُشَيْري صاحب (الرسالة القُشيرية) في التصوف، إذ رغم أنه من سكان بلاد فارس فقد ورد اسم قبيلته بني قُشَير في ترجمته.

-   والاحتمال الثاني أن يكون ابن تيمية تركمانياً، وهذا ما لم تحصل الإشارة إليه لا من قريب ولا من بعيد، ولا ظناً ولا ترجيحاً، وعدا ذلك فإن التركمان وفدوا إلى مناطق غربي آسيا، ومنها كردستان، في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وكانوا رجال حرب وغزو، كانوا بداة حديثي عهد بالعلم، ثم إننا لا نجد في سلسلة نسب ابن تيمية ما يُشعر بتركمانيته، بخلاف ما هو معهود في سلسلة نسب الأعلام التركمان، ومنهم الحافظ الذهبي (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز) وقايماز اسم تركماني صرف، وكذلك الصَّفَدي (صلاح الدين خليل بن أيْبَك)، وأَيْبَك اسم تركماني صرف.

-   والاحتمال الثالث أن يكون ابن تيمية كردي النسب، وهذا ما نرجّحه، معتمدين على ثلاثة أدلة: أولها أنه ليس عربياً أو تركمانياً. وثانيها أن أسرته تنتمي إلى منطقة كردية منذ العهد الميتاني على أقل تقدير. وثالثها أن طباعه هي طباع معظم علماء الكرد، وأنه ممثل أصيل لـ (العقل الكردي).

ومن بين الباحثين الذين كتبوا سيرة ابن تيمية- وهم كثر- كان  للشيخ محمد أبو زهرة الفضل في احتمالية نسبه الكردي، فقد قال في كتابه (ابن تيميّة: حياته وعصره آراؤه وفقهه، ص 18- 19):

" لم يذكر المؤرخون الذين قرأت لهم القبيل الذي تنتمي إليه أسرة ابن تيميّة، فلم يذكروا له نسبه إلا أنه الحرّاني، فنسبوه إلى بلده حرّان موطن أسرته الأول، ولم ينسبوه إلى قبيلة من قبائل العرب، وإن هذا يشير إلى أنه لم يكن عربياً، أو لم يعرف أنه عربي منسوب إلى قبيلة من القبائل العربية، ولذلك نستطيع أن نفهم أو أن نعلم علماً ظنياً أنه لم يكن عربياً، ولعله كان كردياً، وهم قوم ذوو همّة ونجدة وبأس شديد، وفي أخلاقهم قوة وحدّة، وإن تلك الصفات كانت واضحة جليّة فيه مع أنه نشأ في دعة العلماء، واطمئنان المفكرين وهدوء المحقّقين، وإن الأكراد كانت لهم في القرن السادس والسابع المواقف الرائعة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين ".

نشأة ابن تيمية

ولد ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم) سنة (661هـ / 1263م)، واسمه الكامل أحمد تقيّ الدين أبو العباس بن الشيخ شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله، وأمه هي الشيخة الصالحة ستّ النِعَم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرّانية،

وعندما بلغ ابن تيميّة السابعة من عمره، كان التتار يشنّون الغارة على مراكز العلم والحضارة في شمالي كردستان، ومنها حرّان، ففر أهلها خوفاً من البطش التتري، وكانت أسرة ابن تيميّة ممن هاجرت إلى دمشق، ووصلت إليها بسلام، بعد كثير من العنت والمشقّة.

وأسرة ابن تيميّة أسرة مثقّفة، ذات قدم راسخة في علوم الدين على وجه خاص، لذا ما كادت تحطّ رحالها في دمشق حتى ذاع شأن الشيخ شهاب الدين والد أحمد، واشتهر أمره، فكان له كرسي للدراسة والتعليم والوعظ والإرشاد بجامع دمشق، وتولّى مشيخة دار الحديث السكرية، وبها كان سكنه، وفيها تربّى ولده أحمد، وكان الأب قوي الحافظة، ناصع البيان، ثابت الجَنان، وهي صفات بارزة في ولده.

كما أن مجد الدين جدّ ابن تيميّة كان عالماً جليلاً، ويعدّ من أئمة الفقه الحنبلي، وله كتابات قيّمة في أصوله، وكان الجدّ نفسه قد تلقّى العلم من عمه فخر الدين، وكان هذا بدوره عالماً خطيباً وواعظاً، وجمع تفسيراً للقرآن في مجلدات ضخمة.

تلك هي أسرة ابن تيميّة، إنها أسرة علم ومعرفة، وبيئة درس وبحث، فكان من الطبيعي أن يتّجه الفتى أحمد منذ نعومة أظفاره الوجهة ذاتها، فحفظ القرآن حسب تقاليد التدريس الديني في ذلك الزمان، واتجه بعد حفظ القرآن إلى حفظ الحديث واللغة، ومعرفة الأحكام الفقهية، وقد ظهرت فيه منذ صغره ثلاث مزايا:

·       الجد والاجتهاد، والانصراف عن لهو الصبيان وعبثهم.

·    انفتاح نفسه وقلبه لكل ما حوله إدراكاً ووعياً.

·       الذاكرة الحادة، والعقل اليقظ، والنبوغ المبكّر.

وقد وصفـه الحافظ الذهبي فقال:

"  كان أبيض، أسود الرأس واللحية، وشعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوريّ الصوت، فصيحاً، سريع القراءة، تعتريه حـدّة، لكن يقهرها بالحـلم، ولم أر مثله في ابتهالاته واستعانته بالله وكثرة توجّهه ".

 مسيرته العلمية

ورث ابن تيميّة الذاكرة الواعية من أسرته، وجاء في كتاب (العقود الدرية) أن بعض العلماء سمع بشهرة الصبي ابن تيميّة بسرعة الحفظ، فأحب التأكّد من ذلك، فالتقاه وهو قادم من الكتّاب، وأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر حديثاً، فقال: اقرأ هذا. فلم يزد أحمد على أن تأمّله مرة واحدة حتى حفظه، وقرأه عليه عرضاً كأحسن ما أنت سامع. فقال له العالِم: يا ولدي امسح هذا. ففعل. وأملى عليه عدة أسانيد انتخبها، ثم قال له: اقرأ هذا. فنظر فيه أحمد وفعل كما فعل أول مرة. فقال الشيخ: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم، فإن هذا لم ير مثله.

وبما أن والد ابن تيميّة كانت له رئاسة في مشيخة الحديث، فقد اتجه ولده أحمد بعد حفظ القرآن إلى حفظ الحديث وروايته، وسماع أمهات كتب الحديث على المشايخ الكبار، كمسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وجامع التِّرْمِذي، وسنن أبي داود والنَّسائي وابن ماجَه والدار قُطْني، وكان مع دراسته للحديث يدرس الرياضيات وعلوم العربية ولا سيما النحو، عِلاوة على كتب التاريخ.

وكانت دمشق آنذاك ثاني مدينتين استقرّ فيهما العلماء من المشرق والمغـرب، وأولاهما القاهرة، وقد استفاد ابن تيمية من بيئة دمشق الثقافية، فنهل من مدارسها الدينية، والتقى علماءها المشهورين، وتعلّم العلوم التي كانت رائجة في عصره، ولم يترك باباً من الأبواب إلاّ أتقنه، حتى قال فيه أحد معاصريه:

" قد ألان الله له العلوم، كما ألان لداود الحديد، كان إذا سئل عن فـنّ من العلم ظنّ السامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرف مثله ".

ولما شبّ أحمد عن الطوق، وبلغ الحادية والعشرين من عمره سنة (682 هـ) توفي والده، فحل محلّه في التدريس، وأصبح نظيراً لأئمة الحديث الممتازين؛ كابن دقيق العيد وغيره من أئمة ذاك العصر.

بهذه الصفات وتلك المواهب، وذلك العلم الغزير، ألقى ابن تيمية دروسه في الجامع الكبير، فاتجهت إليه الأنظار، وتعلّقت به الأفئدة، وتحوّل كثيرون من المستمعين إلى تلاميذ ومريدين معجبين به متحمسين له، وهو خلال ذلك لا يتوانى عن البحث والاطلاع والاستزادة من المعرفة، وكان ينهج في دروسه النهج الذي يعود بالإسلام إلى عهد الصحابة في عقائده وأصوله وفروعه، وقد رآه المحدّث الكبير ابن دقيق العيد، وكان حجة العصر في الحديث وعلومه، فأبدي إعجابه به، وقال:

" رأيت رجلاً جمع العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريده ".

من محنة .. إلى محنة

كان الهدف الأكبر لابن تيمـية هو إعادة الإسلام إلى عهده الأول، وإزالة ما علق به من غبار البدع، لذلك كان الناس إزاءه فريقين: فريق معجب موافق، وآخر مقاوم مخالف؛ وهذا هو شأن المصلحين في كل عصر ومجتمع، وقد جرّت عليه صلابته في مواقفه كثيراً من المحن، وألواناً من الاضطهاد.

إن ابن تيمية وقف بحزم في وجه كل خروج على الشريعة، وكان متشدداً في هذا الباب، كما أنه حارب البدع بقوة، فسار- ومعه جماعات من الناس- إلى مسجد النارَنْج، وكان عند هذا المسجد صخرة قائمة في نهر قلوط (قليط) بدمشق، وكان العامة يزورونها، وينذرون لها النذور، فقطعها وفتّتها، لأنه رأى أن زيارتها من صور الإشراك بالله، وشن في الوقت نفسه حملات شعواء على مغالاة الصوفية، الأمر الذي زاد من أعدائه وحسّاده.

وأرسل إليه أهل مدينة حماه السورية يسألونه عن الصفات التي وصف الله نفسه بها في القرآن الكريم، فأجابهم بـ (الرسالة الحموية)، وفيها خالف الأشاعرة، فتصدّى له المخالفون بالمناقضة، ولكنهم لم يقووا على فصاحة لسانه، فألّبوا عليه جماعة من الفقهاء، واضطهدوا مريديه، وناقشوه في آرائه الواردة في (الرسالة الحموية)، فأجاب عنها بما أسكتهم؛ وجدير بالذكر أن المدرسة الأشعرية الشافعية كانت قد هيمنت على منطقة شرقي المتوسط مع الهيمنة السلجوقية، وقويت في العهد الأيوبي، استمرت مهيمنة في العهد المملوكي.

على أن حسّاد ابن تيمية وأعداءه لم يكفّوا عن الطعن فيه، وإلحاق الأذى به، ولا سيما أنه كان صارماً معهم، حاداً في مناوءتهم، لا يتراخى ولا يهادن، وكان السلطان المملوكي الناصر قلاوون يحكم مصر والشام، فاستطاع منافسو ابن تيمية أن يوغروا صدر السلطان عليه، فاستُدعي إلى القاهرة سنة (705 هـ) وكانت الاتهامات قد حيكت له بعناية، وكان القاضي زين الدين بن مخلوف هو الخصم والحكم، وزُجّ بابن تيميّة في السجن، بعد أن عجز خصومه عن تفنيد حججه بالبرهان.

وكانت محنته الثانية على أيدي الصوفية في مصر، إذ كان لهم عند الحكام سلطان كبير، وقد وجدهم ابن تيميّة يأخذون بمذهب الاتحاد، اتحاد الخالق والمخلوق، وذهب متصوّفة آخرون إلى أنهم إذا وصلوا إلى حال من الروحانية، يمكنهم معها الاتصال بالذات الإلهية، ويكونوا في حِلّ من التكليفات الشرعية مثل الصلاة والصيام، فتصدّى لهم ابن تيميّة، وأبطل مزاعمهم بقوة حجته وسلامة منطقة، وثبات جنانه، ورباطة جأشه. فكثر شكوى الصوفية، وتمكنوا من التضييق عليه، فأودعته السلطات السجن، ولم يلبث قليلاً حتى خرج منه بقرار من مجلس للفقهاء والقضاة.

وتكررت محن ابن تيميّة، وتكرر دخوله السجن وخروجه منه، وهو في كل ذلك لا يكلّ ولا يملّ، ولا يتردّد في مجابهة كل من يخلّ بالشرع، ويلصق بالإسلام ما ليس منه، وكانت محنته الأخيرة هي الأدهى والأمرّ، وفيها كانت نهايته.

من مجالس العلم إلى ميادين القتال

جمع ابن تيميّة في شخصه صفات العالم المحقّق، والباحث المبدع، والفقيه الحازم، والداعية البارع، والخطيب البليغ، والمجادل القدير، والأستاذ الجليل، وكان إلى جانب كل هذا مقاتلاً شجاعاً، ومحارباً باسلاً، يحمل القلم بيد والسيف بيد.

ففي سنة (699 هـ) هاجم التتار بلاد الشام بقيادة قازان، وكانت قوتهم عاتية، فألحقوا الهزيمة بجند السلطان قلاوون حاكم مصر وبلاد الشام، وصل التتار إلى أبواب دمشق، ودبّ الذعر في النفوس، وفر كثير من العلماء وأعيان المدينة إلى مصر، أما ابن تيمية فبقي في دمشق، وحالت شجاعته بينه وبين الفرار، ومنعته مروءته من أن يترك العامة يواجهون المصـير الرهيب وحدهم، وعزّ عليه أن تبقى أمور الرعية فوضى، لا حاكم يردع، ولا نظام يمنع، وأن تصبح مقاليد الأمور بين أيدي أهل الشطارة والدعارة، يسلبون وينهبون.

لقد شمّر ابن تيمـيّة عن ساعد الجـد، فجمع من تبقّى من أعيـان المدينة، واتفق معهم على ضبط الأمور، وشكّل وفداً منهم يقوده هو إلى ملك التتار، وانطلق مع الوفد الدمشقي، والتقى قازان ملك التتار، طالباً منه عدم دخوله دمشق، ويقول أحد الذين شاهدوا اللقاء:

" كنت حاضراً مع الشيخ، فجعل يحدّث السلطان بقول الله ورسوله في العدل، ويرفع صوته، ويقرب منه، والسلطان مع ذلك مُقبل عليه، مُصغ لما يقول، شاخصٌ إليه، ولا يُعرض عنه، وإن السلطان- من شدّة ما أوقع الله في قلبه من الهيبة والمحبّة- سأل من هذا الشيخ؟! إني لم أر مثله، ولا أثبتَ قلباً منه، ولا أوقعَ من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقياداً لأحد منه. فأُخبر بحاله وما عليه من العلم والعمل ".

ومما خاطب به الشيخ ابن تيمية ملك التتار عن طريق الترجمان:

" قل لقازان أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذّنون على ما بلغنا، وأبوك وجدّك كانا كافرين، وما عملا الذين عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت، وجُرت ".

وأثمرت المقابلة خيراً وإن كان محدوداً، وأعلن قازان الأمان.

وفي سنة (700هـ) انتشرت الأخبار أن التتار سيقصدون الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، ففر الأهالي ثانية، وانبرى الشيخ للخطب مرة أخرى، والتقى الجماهير، وحثّها على الجهاد، ونهاها عن الفرار، وحضّ الأغنياء على إنفاق المال في سبيل الدفاع عن الديار. فتوقّف الناس عن الفرار، وسكن جأشهم.

ولكن عندما بلغ التتار حلب، سرى الذعر مرة أخرى في القلوب، وخاصة عندما انتشر النبأ أن السلطان الناصر قلاوون قفل راجعاً إلى مصر، وتطلّعت الأنظار في ذاك الوقت العصيب إلى الشيخ البطل ابن تيميّة، فخرج إلى جند الشام يحثّهم على القتال، ويدفعهم إلى الميدان، ويعدهم بالنصر، ولم يكتف بذلك، بل سار بنفسه إلى القاهرة، والتقى السلطان، وحثّه على إعداد العدّة للقاء العدو، قائلاً له:

" إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه، ولو قدّر أنكم لستم حكّامه ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنه" ؟!

وما زال ابن تيمية يلحّ على السلطان، ويقوّي عزائم الأمراء، حتى خرج السلطان بجنده إلى بلاد الشام مدافعاً، وكان الذعر قد استولى على سكّان دمشق في غيبة الشيخ، لكن بعودته سرعان ما عاد الاطمئنان إلى القلوب، وكشف الله الغمة بعودة التتار من حيث أتوا.

على أن أطماع التتار في بلاد الشام ومصر ما كانت قد توقّفت، ففي سنة (702هـ) زحفت جموعهم إلى دمشق، وأرجف المرجفون، وبلغت القلوب الحناجر، واستعدّت الجيوش المصرية والشامية لملاقاتها، ونشر دعاة التردّد والهزيمة الرعب في قلوب الناس، وهبّ ابن تيميّة يثبّت القلوب، ويعد بالنصر، ... حتى إنه كان يقول حالفاً بالله: " إنكم لمنصورون "، فيقول له بعض الأمراء: قل إن شاء الله! فيقول: أقولها تحقيقاً لا تعليقاً.

وحرّك ابن تيميّة النخوة في النفوس، ثم امتطى صهوة جواده، وخرج إلى ميدان القتال محارباً، فما كان ليقبل أن يدعو إلى الجهاد وينكص على عقبيه، وأن يقول ولا يفعل، وانطلق إلى مرج الصُفَّر قرب دمشق.

 وابتدأت الموقعة التي تعرف في التاريخ بموقعة (شَقْحَب)، وتلاقى الجمعان، وخاض العالم الفارس ميادين الموت مقاتلاً، وراح يثبّت القلوب بأقواله وأفعاله، والتقى قبيل القتال بالسلطان قلاوون، فحثه وجنده على الجهاد في سبيل الله، وردّ المعتدين، إذ كان قد بلغه أنه على وشك أن يرجع.

وكان الوقت رمضان، فحثّ الشيخ الجنود وأمراءهم على الإفطار؛ ليكونوا أقوى على القتال، وكان يروي لهم قول النبي محمد للصحابة في غزوة الفتح: " إنكم ملاقو العدوّ والفطر أقوى لكم". وما اكتفى بذلك، بل راح يدور على الجنود، ويأكل أمامهم من شيء معه، ليبيّن لهم أن إفطارهم في هذا الموقع ليس خروجاً على أمر الله، بل هو ممارسة للشرع في حقيقته ونقائه.

ووقعت الواقعة، واشتد القتال، وشارك فيه ابن تيمية مقاتلاً، وأبلى هو وأخوه زين الدين في المعركة بلاء حسناً، وصدق أهل الشام وجند مصر القتال، واستمرت الحرب طوال اليوم الرابع من رمضان، حتى إذا حلّ العصر كانت الهزيمة قد حاقت بالتتار، فراحوا يقتحمون التلال والجبال، وجنود الشام ومصر يطاردونهم، وما انبلج الفجر إلا كانت الغمّة قد انكشفت، وكان خطر التتار قد زال.

في ظلام السجن

كان الشيخ ابن تيمية مقاتلاً على جبهتين:

-                     جبهة الدفاع عن الوطن، ورد التتار المعتدين.

-                     وجبهة الإصلاح، وتحرير العقول من البدع والجمود.

وكان من الطبيعي أن يصطدم بأصحاب المصالح، ومن لهم نفع في أن تبقى الأمور على ما هي عليه، وجر عليه نقمة الفقهاء، لأنه أصدر فتاوى لا يرضون عنها، وكانوا الأكثرية، فاستطاعوا أن يحملوا السلطان الناصر على إصدار أمر بمنعه من الإفتاء، وكان ذلك سنة (718 هـ).

والتزم الشيخ ذاك الأمر زمناً قليلاً، ثم ما لبث أن عاد إلى الفتيا، إيماناً منه بأنه لا يجوز كتمان العلم؛ إنه امتنع أولاً نزولاً عند نصيحة العلماء، فلما جاء المنع من السلطان علم أنها الدنّية في الدين، فتقدم بالفتيا غير هيّاب ولا وجل.

وترامت إلى أسماع السلطان أنباء عودة الشيخ إلى الفتيا، فلم يقبل أن تردّ أوامره وهو الحاكم، فعاد وأصدر سنة (719 هـ) أمراً آخر يؤكد منع الشيخ من الفتيا، وعُقد مجلس ضم الشيخ والقضاة والفقهاء، وأكدوا فيه عليه المنع، على أن الشيخ لم يعط عهداً بالامتناع، واستمر في الإفتاء، لا يخشى في الله لومة لائم ولا عقاب حـاكم، ولما تكرّر المنع ولم يمتنع الشيخ، قرروا حبسه في القلعة، فحُبس بأمر نائب السلطنة، وظل محبوساً خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، ثم أفرج عنه سنة (721هـ).

وعاد الشيخ إلى دروسه وبحوثه وتصنيفاته، وشرع يمارس حقه في الإفتاء كلما اقتضت الحاجة، بيد أن خصومه لم يكونوا سعداء بأن يكون حراً طليقاً، إنهم كانوا يتربصون به الدوائر، ويتحيّـنون الفرص للإيقاع به، والحدّ من نشاطه العلمي، وأخذوا يحصون عليه الهفوات.

حتى إذا كانت سنة (726 هـ) وجد الخصوم ضالّتهم المنشودة في فتوى أفتى بها الشيخ منذ سبعة عشر عاماً، منع بموجبها من زيارة القبور، معتمداً فيها نهج السلف، ولما أحكموا التدبير، كاتبوا السلطان في مصر بذلك، فأمر باجتماع القضاة عنده، فنظروا في الفتوى في غياب صاحبها، وحكموا بأن الشيخ حرّف الكلم عن مواضعه، فرأى السلطان حبسه في محبس يليق به.

ووصل الأمر إلى دمشق في السابع من شعبان سنة (726 هـ)، وبلغ إلى الشيخ، ونُقل إلى قلعة دمشق، وأخليت له قاعة، وأجري إليها الماء، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان.

وما إن اعتقل الشيخ حتى ظهر الأذى في تلاميذه وأوليائه، فأمر القاضي بحبس جماعة من أصحابه، وعاقب جماعة منهم بإركابهم الدوابّ والمناداة عليهم، ثم أطلقوا من محابسهم، ما عدا تلميذه وحامل لوائه من بعده شمس الدين محمد ابن قَيّم الجَوْزِيّة، فإنه حبس بالقلعة.

وفي الوقت الذي أظهر فيه الخصوم الشماتة، أظهر الشيخ السرور عندما انتقل إلى القلعة، وقال:" أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير كثير ومصلحة كبيرة ". إنه كان آنذاك قد بلغ الخامسة والستين، وأحسّ بحاجته إلى الهدوء بعد أن بلّغ الدعوة وأدّى الأمانة، إنه في هدأته تلك سيكون أقدر على تدوين آرائه لتتلّقاها الأجيال من بعده وتنتفع بها.

وهكذا انصرف الشيخ إلى العبادة من ناحية، وإلى التأليف من ناحية أخرى، وبين يديه الكتب يراجع فيها وينقّب، فكتب في تفسير القرآن الكريم، وكتب في المسائل التي خالف فيها عدّة مجلدات، ويبدو أن تلك المجلدات والردود كانت تصل إلى الناس، وتذاع بين العلماء، ويدور الحديث بشأنها، كما لو أن صاحبها كان حراً طليقاً.

نفس كريمة

أدرك خصوم ابن تيمية أنهم حبسوا شخصه، لكنهم عجزوا عن أن يحبسوا فكره، فنشطوا للسعي من جديد عند ذوي السلطان، ليمنعوا ذاك النور الذي كان يشرق من ردهات السجن، وأثمرت مساعيهم، ففي سنة (728 هـ)، أُخرج ما كان لدى الشيخ من الكتب والأوراق والمحابر والأقلام، ومُنع منعاً باتاً من المطالعة.

وحينذاك فقط بلغ الضيق أقصاه من نفس العالِم المكافح، فهو رجل فكر ودعوة، ولا يهمه أن يلزم بالإقامة هنا أو هناك، ما دامت الفرصة سانحة لأن يمارس ما نذر له نفسه، لكن البلاء هو في أن يعطَّل تفكيره، ويحال بينه وبين الاستمرار في الدعوة. وفي خضم تلك المحنة القاسية كان العالم الحبيس يضطر إلى تدوين بعض آرائه وخواطره، فيكتبها بالفحم على مزق من الورق، وقد جاء في بعضها قوله:

" نحن ولله الحمد في عظيم الجهاد في سبيله، بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان، والجبلية، والجهمية، والاتحادية، وذلك من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".

وقد ظل الشيخ عظيماً في نفسه، أيام كان حبيساً، مثلما كان كذلك أيام كان طليقاً، وها هو ذا وزير دمشق يسمع بمرضه، فيستأذن في الدخول عليه لعيادته، فيأذن له، فلما جلس أخذ يعتذر، ويلتمس منه أن يجعله في حِلّ مما وقع منه في حقه من تقصير، فأجابه الشيخ بقوله:

" إني قد أحللتك، وجميع من عاداني، وهو لا يعلم أني على الحق، وأحللت السلطان المعظّم الملك الناصر من حبسه إياي، لكونه فعل ذلك ولم يفعله لحظ نفسه، وقد أحللت كل أحد مما بيني وبينه، إلا من كان عدو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ".

وتوفي ابن تيمية في الحبس سنة (728 هـ)، وما إن علم أهل دمشق بوفاة عالمهم، حتى حزنوا عليه أشد الحزن، وتحسّروا أبلغ التحسّر، فأحاطوا بنعشه، وخرجت دمشق كلها توّدعه، وتشيّعه إلى مثواه الأخير.

فكره .. وآثاره

قيل عن المتنبي: " ملأ الدنيا، وشغل الناس ".

وإذا كان المتنبي شغل الناس في مجال الشعر، فإن ابن تيمية شغل الناس في عصره وإلى هذا اليوم، إنه شغلهم بشخصه وفكره، وبفتاواه ومواقفه، وما توفي إلا وكان لاسمه دويّ في البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، وكان له تلامذة تخرجوا على دروسه وعلى رسائله، وخلّف طائفة من الكتب والرسائل في عدة أبواب من العلم، بعضها في التفسير، وبعضها في الفقه والأصول، وبعضها في الكلام، وكان بعضها الآخر جدلاً بينه وبين خصومه.

كان ابن تيمية متعدد المواهب والاهتمامات، لقد فكر في السياسة تفكير العالم  الذي يهمه أمر الرعية، وجدّد في الفكر الفقهي، وكان الزمن حينذاك زمن الساسة والفقهاء، وخاصم الشيعة، وخاصم السنة سواء أكانوا من الأشاعرة الشافعيين، أم من الصوفية، فأثار الزوابع الفكرية، وخاض الخصومات السياسية والفقهية، ولم يترك من بأيديهم مقاليد الأمور ينعمون بالسلطة والجاه، فلم يتركوه ينعم بالهدوء والاستقرار.

وقد لخّص الشيخ محمد أبو زهرة منهج ابن تيمية في عناصر أربعة:

-        أولها أنه لا يثق بالعقل ثقة مطلقة في مقدمات الحكم على العقائد والأحكام من حيث سلامتُها وعدم سلامتها، وخصوصاً في متشابهات الأمور، فجرّه ذلك إلى الصدام مع المتكلّمين (المعتزلة) والفلاسفة.

-        وثانيها أنه لا يتبع الرجال على أسمائهم، فليس لأحد عنده مقام إلا الدليل من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح، فخرج على الناس بآراء لم يألفوها، فأثار استياءهم، وكان الاستياء يتفاقم فيصبح نقمة.

-        وثالثها أنه يرى أن الشريعة أصلها القرآن، وقد فسر النبي القرآن، وتلقّى الصحابة منه التفسير، ونقلوه إلى التابعين، فكان ابن تيمية يرجع في الشرع إلى القرآن والسنة، ويستأنس بأقوال التابعين، ويحتج بها أحياناً، فخالف بذلك آراء كثير من الفقهاء.

-        ورابعها أنه كان حر التفكير، لا يتعصب لفكر معيّن، ولا يجمد عليه، وخلع نفسه من كل قيد إلا القرآن والسنة وآثار السلف الصالح، وصحيح أنه نشأ على المذهب الحنبلي، لكنه درس المذاهب الإسلامية جميعها، وتعمّق في فهم المصادر؛ الأمر الذي جعله يخالف المذاهب الأربعة في بعض آرائه.

هذه خلاصة منهجه الفكري.

أما آثاره العلمية فتتمثل في أمرين اثنين:

-        مؤلفاته: لقد ترك ابن تيمية مجموعة كبيرة من الكتب والرسائل في عدة أبواب من العلم؛ بعضها في التفسير والعقائد، وبعضها في الفقه والأصول، وبعضها في علم الكلام، وكان بعضها جدلاً بينه وبين خصومه.

- تلامذته: استقطب ابن تيمية عدداً كبيراً من التلامذة، منهم الشاميون ومنهم المصريون، لأنه كان يتنقّل بن مصر وبلاد الشام، وكان بعضهم من الحنابلة، وبعضهم من الشافعية، وكانوا حُماة تركته الفكرية، بل كان ينالهم نصيب من الاضطهاد الذي كان يناله، ولعل أشهرهم هو ابن قيّم الجَوْزيّة

والحق أن تأثير ابن تيميّة لم يقتصر على عصره بل امتد من أيامه إلى عصرنا هذا، وحسبنا أن نشير هنا إلى أن غالبية دعوات الإصلاح الإسلامية في العصر الحديث إنما استقت من أفكاره، وأفادت من بحوثه، واستضاءت بآرائه واجتهاداته.

-   -   -

إن سيرة ابن تيمية تذكّرني بسيرة عالم كردي آخر من علماء الكرد، إنه الشيخ العبقري سعيد النورسي الشهير بلقب (بديع الزمان)، وصحيح أن بين الرجلين أكثر من ستة قرون، لكنهما كانا يتشابهان في أمور عديدة هي:

-   كان كل منهما من أبناء المنطقة الكردية الواقعة الآن في جنوب شرقي تركيا.

-   وكان كل منهما ذكي الفؤاذ، سريع البديهة، قوي الحجة، موسوعي الثقافة، حر الفكر، عميق الرؤية، عنيد الموقف.

-  وأمضى كل منهما شطراً كبيراً من عمره في السجون، دفاعاً عن المبدأ، إن سطوة السلطان قلاوون وولاته عجزت عن إسكات صوت ابن تيمية، وأفلح مصطفى كمال أتاتورك وأتباعه في إجبار جميع علماء تركيا على خلع العمامة، إلا النورسي، فإنه ارتضى الحكم بالإعدام، وأبى أن يخلع العمامة.

أليس هذا هو (العقل الكردي) الذي ذكرته ذات مرة؟!

المراجع

  1. الحافظ الذهبي: (محمد بن أحمد ): معجم الشيوخ، تحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة، مكتبة الصديق، الطائف، 1988م.
  2. خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، الطبعة الرابعة، 1977م.
  3. الشوكاني (محمد بن علي): البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978 م.
  4. عبد الرحمن النحلاوي: ابن تيمية، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1986م.
  5. عمر فرّوخ: ابن تيمية المجتهد بين أحكام الفقهاء وحاجات المجتمع، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1991م.
  6. ابن القاضي (أحمد بن محمد المكناسي): درّة الحجال في أسماء الرجال، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة، المكتبة العتيقة، تونس، 1970م.
  7. الشيخ كامل محمد محمد عوَيضة: أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية شيخ الإسلام، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1992م.
  8. الإمام محمد أبو زهرة: ابن تيمية (حياته وعصره، آراؤه وفقهه)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1977م.
  9. محمد شاكر الكتبي: فوات الوفيات والذيل عليها، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1973م.
  10. محمد يوسف مرسي: ابن تيمية، العصر الحديث للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1988م.
  11. مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي: الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تحقيق وتعليق نجم عبد الرحمن خلف، دار الفرقان للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م.

وإلى اللقاء في الحلقة السابعة والعشرين.

 

د. أحمد الخليل   في 17 –  10 - 2006

 

ـــــــــــــــــــــــــ

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الخامسة والعشرون )

 خير الدين الزِّرِكْلي

شاعر الثورة السورية

( 1893  - 1976م )

الكرد.. ودمشق

قصة الكرد مع دمشق تعود إلى ثمانية قرون خلت، ولا أستبعد أن يكون بعض الكرد قد أقاموا في دمشق منذ العهود الإسلامية الأولى، لكن وجود الكرد بشكل كثيف، في هذه المدينة العريقة، بدأ منذ العهد الزنكي، وتحديداً منذ أن سيطر السلطان نور الدين زنكي (ت 569 هـ) على دمشق، بفضل جهود كل من القائدين الكرديين نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، وأسد الدين شيرگوه عم صلاح الدين.

ومعروف في المصادر التاريخية الإسلامية أن هذين القائدين الكرديين- نجم الدين وشيرگوه- هما اللذان أوصلا نور الدين إلى سدّة الحكم بعد مقتل والده عماد الدين زنكي سنة (541 هـ)، ولم يكونا مجرد فردين، وإنما كانا يقودان عدداً كبيراً من الفرسان الكرد، ولا سيما من القبيلة الرَّوادية التي كانا ينتميان إليها.

على أن وجود الكرد في دمشق أصبح أكثر كثافة منذ سنة (570 هـ)، ففي هذه السنة دخل السلطان صلاح الدين قادماً من مصر، وضمّ بلاد الشام إلى ملكه، إذ كانت الأوضاع قد اختلّت فيها بعد وفاة نور الدين، وعجز ابنه السلطان إسماعيل- وكان صبياً- عن إدارة دفة الحكم، في وقت كان فيه الفرنجة يسيطرون على سواحل بلاد الشام، ويهدّدون عاصمتها دمشق.

بلى، بعد أن ضم صلاح الدين بلاد الشام إلى ملكه، اتخذ دمشق عاصمة ثانية للدولة الأيوبية، وليس هذا فحسب، بل نقل إليها مركز قيادته، واتخذها قاعدة ينطلق منها لإدارة دفّة معركة التحرير الطويلة والشاقة والشرسة ضد الفرنج، وكان من الطبيعي أن ينتقل إليها المقاتلون الكرد الذي كانوا ينضوون تحت لوائه، ويشكّلون القوة الضارية في جيشه إلى جانب التركمان والعرب.

أصول.. وفروع

وهكذا فإن الكرد المقيمين في دمشق القديمة الآن هم حفدة أولئك الكرد المقاتلين جند صلاح الدين، وجند من بعده من سلاطين الأيوبيين، أولئك الشجعان الذين ساهموا بقوة في تحرير بلاد الشام من الغزو الفرنجي، وسجّلوا الانتصارات الشهيرة في معركة حطّين، واستردّوا مدينة القدس.

ولو تتبّعنا أصول هؤلاء الكرد الدمشقيين لاتضح، بما لا يدع مجالاً للشك، أن أصولهم تعود إلى قبائل وعشائر كردية عريقة، وما زالت أسماء تلك القبائل والعشائر موجودة في أنسابهم إلى يومنا هذا، أذكر منها على سبيل المثال: آلُوسي، آلَ رَشي، أيوبي، باراڤي، بَرازي، زازا، سُوَيرَكْلي، ش\يخاني، كِيكان، مِللي.

وإذا كان الكرد الدمشقيون الأوائل قد بذلوا دماءهم دفاعاً عن البيت الشرق متوسطي، وحرّروا بلاد الشام من الفرنجة الغزاة، فإنهم لم يتوانوا عن المساهمة في النشاط الحضاري في بلاد الشام، ولا سيما النشاط الثقافي. وقد نهج حفدتهم النهج نفسه في العصر الحديث، فتاريخ الثورات السورية ضد الاستعمار الفرنسي حافل بأسماء كثير من مشاهير الكرد الدمشقيين، كما أن ميادين الثقافة في سوريا حافلة بكثير من أسماء الأدباء والعلماء والمفكرين الكرد.

ونتناول الآن سيرة أحد أولئك الكرد الدمشقيين الذين جمعوا بين الشعر والعلم والسياسة، وناضلوا في الوقت نفسه ضد الاستعمار الفرنسي، حتى إنهم أصدروا عليه حكم الإعدام؛ إنه الشاعر والثائر والسياسي والمؤرخ خير الدين الزركلي.

فمن هو الرجل؟

وماذا عن سيرته؟    

نشأته وحياته السياسية

هو خير الدين بن محمود آغا بن محمد بن علي الزِرِكْلي (بكسر الزاي والراء) نسبة إلى عشيرة (زرِكِي) الكردية، وقد ولد خير الدين سنة (1310 هـ / 1893 م) في بيروت، من أبوين دمشقيين، ونشأ بدمشق، وتعلم في إحدى مدارسها الأهلية، وأخذ عن كبار علمائها على الطريقة القديمة، وأُولع بكتب الأدب، وقال الشعر وهو صبي، ودرس في المدرسة الهاشمية.

وانتقل خير الدين إلى بيروت، والتحق بالكلية العلمانية المعروفة باسم (لاييك)، يدرس الدراسات الفرنسية، ثم عمل أستاذاً للتاريخ وللأدب العربي في الكلية نفسها، وعاد إلى دمشق في أوائل الحرب العالمية الأولى، وفي سنة (1920 م) تجنّس بالجنسية العربية في الحجاز، حينما كانت الحجاز تحت سلطة الملك حسين بن علي (الشريف حسين)، وانتدبه الملك حسين لمساعدة ابنه الأمير عبد الله في الدخول إلى الأردن، وإنشاء الحكومة الأولى في عمّان، وقد عُيّن خير الدين مفتّشاً عاماً للمعارف في تلك الحكومة، ثم رئيساً لديوان رئاسة الحكومة، بين سنتي (1921 – 1923 م)، وهو في طريقه إلى الأردن،

وبعد أن سيطرت الأسرة السعودية على الحكم في شبه الجزيرة العربية، وأسس الملك عبد العزيز آل سعود المملكة العربية السعودية، أصبح خير الدين من رعايا تلك الدولة الناشئة، وقويت صلته برجال الدولة السعوديين، فعُيّن سنة (1934 م) مستشاراً للوكالة السعودية في مصر (المفوّضية)، ثم انتُدب سنة (1946 م) لإدارة وزارة الخارجية في جدّة بالتناوب مع صديقه الشيخ يوسف ياسين.

وانتُدب الزركلي سنة (1946 م) لإدارة وزارة الخارجية السعودية بجدّة، بالتناوب مع صديقه المرحوم الشيخ يوسف بن ياسين، وفي سنة (1951 م) سُمّي وزيراً مفوّضاً ومندوباً دائماً للمملكة لدى جامعة الدول العربية بالقاهرة، ومثّل السعودية في عدد من المؤتمرات.

وفي سنة (1957 م) عُيّن سفيراً للسعودية لدى المملكة المغربية، فظل فيها عميداً للسلك السياسي حتى سنة (1965 م)، إذ اعتلّت صحته، فمُنح إجازة للراحة غير محدودة، على أن يظل برتبة سفير في وزارة الخارجية السعودية حتى أواخر أيامه، وأذن له الملك فيصل بن عبد العزيز بالإقامة في بيروت، وعكف هناك على التأليف، وقد وافاه الأجل في بيروت سنة (1396هـ / 1976 م).

شاعر .. وثائر

الشعر والثورة أمران واكبا الزركلي منذ صباه، وقد مرّ أنه أنشد الشعر في دمشق وهو صبي، وما إن دخل الجيش الفرنسي دمشق سنة (1920 م)، بعد معركة ميسلون، حتى غادر دمشق، وأقام في عمّان، وراح من هناك يراقب أحداث وطنه عن كثب، ويُصلي الفرنسيين الذين احتلوا سوريا شعراً من سعير لا يطاق، ودوّت قصائده الوطنية مندّدة بالمستعمر، ومحرّضة على الثورة، وداعية إلى المقاومة، فأصدر الفرنسيون حكماً غيابياً بإعدامه وحجز أملاكه، ولما بلغه هذا الحكم وهو في مصر أنشد قصيدة يؤكّد فيها تمسّكه بالحرية، نذكر منها قوله:

      نَذَروا دمي حَنَقاً عليّ، وفاتهـمْ       أنّ الشقيَّ بما لقِيتُ ســعيدُ

      اللهُ شـاء ليَ الحياةَ، وحاولوا        ما لم يشـأْ، ولحكمِـه التأييدُ

      في ذمّة الأجيـال نهضـةُ أمّةٍ        أَوْدى بها التهويلُ والتهـديدُ

  والشعبُ إن عرف الحياةَ فما له      عن دَرْك أسبابِ الحيـاةِ مَحيدُ

وفيما بين سنتي (1921 – 1023 م) أبلغت الحكومة الفرنسية أسرته في دمشق أنها قررت وقف تنفيذ حكم الإعدام فيه، لكن ذلك لم يدفعه إلى الصمت، بل استمر في نهجه الثوري ضد المستعمر الفرنسي قولاً وفعلاً.

وظل الزركلي ناشطاً في الحركة الوطنية، فكان شاعرها الألمعي وفارسها المغوار، ولما اندلعت الثورة السورية الكبرى سنة (1925 م) كان له شرف إشعالها، وكان ما ينفثه من لهيب شعره الثوري أشد وقعاً على الفرنسيين من تأثير قنابلهم على معاقل الثوار، ولذا عرف بأنه شاعر الثورة الأكبر، وها هو ذا يقول في وصف دمشق وهي تعاني من بطش السلطة الاستعمارية الفرنسية:

الأهلُ أهلي، والديـــارُ دياري      وشعارُ وادي النَّيْرَبَين شِـعاري

ما كان من ألمٍ بِجِــلّق نـازلٍ       واري الزنـاد فزَنْـُده بيَ وراي

النارُ مُحــدِقةٌ بجِــلّقَ بعدما       تركتْ (حماةَ) على شفيرٍ هـارِ

ونتيجة لمواقفه الوطنية الصادقة، وتحريضه على الثورة، وتنديده الدائم بالاستعمار الفرنسي، ثارت ثائرة الحكومة الفرنسية، فأصدرت خلال اندلاع الثورة السورية (1925 م)، حكماً غيابياً ثانياً بإعدامه.

والحقيقة أن الزركلي يعدّ من فحول شعراء عصره، وله في الشعر جولات وصولات، وكان كثير العناية بشعره، شديد التنقيح له، وربما نظم قصيدة من خمسين بيتاً، ثم أخضعها للتمحيص والتدقيق، فلا يسلم منها سوى عشرين بيتاً، وبذلك كان يجعل شعره سليماً من الركاكة، مستوفياً خصائص الأصالة والنصاعة، هذا إضافة إلى أن شعره متنوع الموضوعات، شريف المقصد، نبيل المغزى.

الزركلي عالماً

لم يكن خير الدين الزركلي رجل الشعر والثورة والسياسة فقط، وإنما كان رجل الصحافة والعلم أيضاً، فمنذ عهد شبابه الأول أصدر في دمشق مجلة (الأصمعي)، فصادرتها الحكومة العثمانية، لأنه نشر فيها صورة كتب أنها (صورة الخليفة العربي المأمون)،  وأصدر في دمشق سنة (1918 م) جريدة (لسان العرب)، وبعد أن أُقفلت شارك في إصدار جريدة (المفيد).

هذا في مجال الصحافة.

أما في مجال التأليف فله ديوان شعر معروف باسم (ديوان الزركلي)، طُبع الجزء الأول سنة (1925 م)، وكتاب (شبه جزيرة العرب في عهد الملك عبد العزيز)، طُبع في أربعة أجزاء، وكتاب (عامان في عمّان)، وهي تضم مذكراته خلال عامين، وكتاب (ماجدولين والشاعر)، وهي قصة شعرية، وكتاب (وفاء العرب)، وهي قصة تمثيلية نثرية مُثّلت مراراً ابتداء من سنة (1914 م).

والحق أن أعظم كتب الزركلي، وأكثرها فائدة وشهرة، هو كتاب (معجم الأعلام)، وكأني بالزركلي كان يكمل ما بدأه كردي دمشقي آخر، أقصد القاضي ابن خَلِّكان (ت 681 هـ)، ولهذا الكتاب قيمة تاريخية وعلمية ثمينة، وهذه حقيقة يدركها كل مهتمّ بشؤون البحث العلمي الجادّ، ولا تكاد تخلو منه مكتبة من المكاتب الصالحة للدرس والبحث، سواء أكانت خاصة أم عامة، ولا نحسب أن ثمّة باحثاً في علوم الدين والتاريخ والأدب والسياسة وغيرها إلا يجد نفسه محتاجاً إليه بهذا القدر أو ذاك.

وترجع أهمية كتاب (معجم الأعلام) إلى أنه يضمّ كمّاً هائلاً من أسماء المشاهير في مختلف الميادين، قديماً وحديثاً، ولم يكتف المؤلّف بذكر تاريخ ولادة العَلَم ووفاته كلما كان ذلك ممكناً، وإنما أشار في الهوامش إلى المصادر التي استقى منها المعلومات الخاصة بكل علم؛ الأمر الذي يمكّن الباحث من الرجوع إليها بسهولة ويسر. ولا يملك المرء، وهو يتصفّح كتاب الأعلام بمجلداته العديدة، إلا أن يعجب من صبر المؤلّف ومثابرته، ومن قدرته الفائقة على الرصد والجمع والتصنيف والتبويب.

ما قيل في الزركلي!

يقول الدكتور شاكر مصطفى:

"  ... في الشعر كان الزركلي في الصف الأول، من قناديل تلك الأيام الأولى، الدفعة الشعرية التي غذّت نهضة العرب بالقوافي، في الربع الأول من هذا القرن، وكان أسياد المنابر فيها الرصافي وشوقي وحافظ إبراهيم والزهاوي وإسماعيل صبري، وكان فيها للزركلي منبر أيضاً  رغم شبابه الغض، فاتحاً دخل ندوة شعراء النهضة أولئك، وسيداً من أسياد القافية ... ".

وقال الدكتور شكري فيصل في حفل تأبينه:

" ... إننا نؤخذ حين نقرأ شعر الزركلي، ذاك نمط من رفيع البيان، ورائع التصوير ونيّر الأداء، لم يبق من القادرين عليه إلا القلة، إنه أحد هؤلاء الذين صاغوهم وصفّاهم لهب نهضتنا [ شعراء سورية ] ... " .

وقال فيه الشاعر أنور العطّار:

" ما عرفت سورية شاعراً بَرّاً بوطنه، متعلّقاً به على توالي المحن، مثل خير الدين الزركلي، الشاعر الذي حمل قيثارة العزاء في ليالي الوطن السود، وغنّاه أبقى الغناء وأنقاه، فما ناب سورية خطب، ولا ألمّت بالسوريين مُلمّة، إلا مسح بأطراف قلبه مواجع المنكوبين، ومدامع المعذَّبين، فهو شاعر الوطن في جهاده، ومآسيه، وشعره البلسم الشافي لآلام الصابرين وجراحات المجاهدين ... ".

وذكر الدكتور شاكر مصطفى اهتمام الزركلي بالتاريخ، فقال:

" وأما التاريخ ، فللزركلي فيه قصة أخرى، هو نفسه كان يعرفها جيداً، وإن لم تكن فصولها الكاملة معروفة للناس، وكان يعرف ماذا يفعل، وإن كان الكثيرون لا يعرفون قيمة هذا الذي يفعل: يجمع الجُذاذات، وينظم الأوراق، ويضيف الحواشي، ويذيب النظّارات في المخطوطات، ويضيف ورقة هنا وكلمة هناك، سنين بعد سنين، فلا العمل في اعتقاده قد انتهى، ولا الأكثرون، حتى الأقربين، كانوا يفهمون أبعادها ما يصنع، فلما طبع الكتاب الذي اجتمع له، الطبعة الثانية الكاملة سنة (1957 م) في عشر مجلدات، كتب في مطلعه: هذا إنتاج أربعين عاماً أمضيتها في وضع الأعلام. وقد أضاف إليها بعد ذلك عشرين عاماً أخرى، ومجلدين آخرين، وتمنّى أيامه الأخيرة أن يتابع عمله من يتابع ".

     " أحد أصهاره قال له مرة: لو كتبت كتاباً من هذه الكتب الدراجة، التي يقرأها الناس بسرعة وكل يوم، أما كان أجدى وأوسع سمعة؟ فقال له الزركلي: وهل تذكر أنت أسماء هؤلاء الذين يلقون كتبهم للناس في كل يوم؟ كتابي هذا سيذكرني به الناس ألف سنة ".

وقد صدق الزركلي في قوله، فقد زوّد المكتبة العربية خاصّة والمكتبة الإسلامية عامة بسفر جليل، سيظل على توالي الأيام معينًا لكل باحث، وملاذًا لكل دارس.

 

المراجع

 

1-    أدهم آل جندي: أعلام الأدب والفن، دمشق، 1954 – 1958م.

2-    جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1970م.

3-    خير الدين الزركلي:

  - الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986م.

-  ديوان الزركلي (الأعمال الشعرية الكاملة)، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1992 – 1993م.

- ما رأيت وما سمعت، مكتبة المعارف، الطائف، 1977م.

4-    عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957م.

وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والعشرين.

د. أحمد الخليل   في 4 –  10 - 2006

 

===========================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الرابعة والعشرون )

الأستاذ الرئيس محمد كرد علي

( ت 1953 م )

عقل كردي!

" هذا زيت كردي "!

" هذا سُمّاق كردي "!

بهذه العبارات كان تجّار حلب الوقورون والمهرة – لكن بلهجتهم المفخّمة-يزكّون بضاعتهم من الزيت والسمّاق، وينتقلون بالزبون من تخوم الشك إلى دائرة اليقين، ويقنعونهم بالإقدام على دفع الثمن المطلوب.

وبمرور الأيام اكتشفت أن إلى جانب مقولتي (زيت كردي، سمّاق كردي)، في الشمال السوري، مقولة دارجة ثالثة هي (عقل كردي!)، إذ سمعت كثيراً بعض الحلبيين يصف أحدهم فيقول: (يا خَيُّوا، هادا عقلو كردي)؛ أي (يا أخي هذا عقله كردي)، وكانت هذه الصفة تطلق على كل من يتصف بالعناد، ولا يتزحزح عن موقفه مهما كانت العواقب، كما كان يراد بها ما يسمّى بالعامية السورية (يباسة الرأس)، وعدم القبول بالتنازلات، وتجنّب المرونة والمناورات في تحقيق الأهداف.

وتأكّد لي بعدئذ أنه ثمة (عقل كردي) فعلاً.

ولكن ليس بالمعنى العامي المبسّط ذي التوجيه السلبي معظم الأحيان.

وإنما بالمعنى الذي يتوافق فيه الفعل مع القول، ويتطابق فيه الموقف مع المبدأ.

وتؤكّد الأحداث التاريخية أن شرقي المتوسط بحاجة، في اللحظات الحرجة، إلى (عقل كردي)، فلولا أسد الدين شيرگوه الأيوبي، بعقله الكردي، من كان سينقذ مصر من قبضة الفرنجة؟ ولولا صلاح الدين الأيوبي بعقله الكردي لما استُردّت القدس من أيدي الفرنجة، ولما عادت حملة فردريك بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب أوغست ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، على شرقي المتوسط خائبة.

ولولا سليمان الحلبي بعقله الكردي من كان سيقتل كليبر، قائد الحملة الفرنسية على مصر بعد نابليون بونابرت، ويختار الموت الأليم على الخازوق؟ والعقل الكردي هو الذي حمل الكردي مُحو إيبو شاشو من منطقة جُومَه في عفرين عى أن يطلق الرصاصة الأولى ضد المستعمر الفرنسي في سوريا، وأن يكمل من بعده الكردي إبراهيم هنانو مسيرة النضال الوطني المعروفة.

تجلّيات أخرى

ولا تظهر تجلّيات مقولة (عقل كردي) في العناد و(يباسة الرأس)، والقتال والثورة فقط، وإنما لها تجلّيات كثيرة في ميادين العبقرية والنبوغ؛ أقصد نبوغ أبناء الكرد في مجالات الثقافة العربية، ولا داعي إلى الذهاب بعيداً، والغوص في أعماق التاريخ، بل نكتفي بتتبّع هذه الظاهرة في النصف الأول من القرن العشرين.

ففي مصر نبغ أبناء الأسرة التيمورية الكردية في الفكر والأدب عامة، وكانوا من روّاد كتّاب القصة بشكلها الفني الحديث، وفي مصر أيضاً ظهر الأديب والمفكر الكردي قاسم أمين، فكان أول من حمل لواء الدعوة إلى (تحرير المرأة)، على أسس من العلم الراجح والخُلق الفاضل، في وقت كانت فيه هذه الدعوة تعدّ ضرباً من المنكرات والمحرّمات، وفي مصر أيضاً بايع الشعراء العرب الفطاحل الشاعر الكردي أحمد شوقي أميراً لشعراء العربية على امتداد الوطن العربي.

وفي العراق نبغ شاعران كبيران؛ هما جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، ولم يكن نصيب الكرد في سوريا من النبوغ أقل من نصيب إخوتهم في مصر والعراق، ونتناول الآن سيرة أحد النابغين الكرد الذين تمثّلت فيهم مقولة (عقل كردي) بدلالتيها الثقافية والعنادية، نابغة يعدّ من أبرز روّاد النهضة العربية الحديثة، ومن رجال الإصلاح والتجديد؛ كتب في الإصلاح الديني، ودعا إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي، واشترك في المجامع العلمية واللغوية والمؤتمرات الدولية، وتولّى رئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق، وألّف عشرات الكتب النافعة القيمة.

إنه الأستاذ الرئيس محمد كرد علي.

فمن هو الرجل؟

وما هي إنجازاته في ميدان الثقافة العربية؟

نشأته وتعليمه

ترجع أصول محمد بن عبد الرزاق بن محمد، المشهور باسم محمد كرد علي، إلى إقليم كردستان في شمالي العراق، وأبوه كردي وأمه شركسية، قدم جدّه محمد إلى دمشق للتجـارة، ثم اتخذها دار سكن، وإن إقبال الكرد على الهجرة إلى دمشق، والاستقرار فيها، أمر يسترعي الانتباه، ولا أعتقد أن ثمة مدينة عربية تنافس دمشق من حيث ارتفاع نسبة الكرد فيها منذ القديم، ولعل حلب تأتي في الدرجة الثانية.

 وأسباب انتقال الكرد، من جنوبي كردستان وشماليها خاصة، إلى دمشق عديدة؛ فقد كانت دمشق العاصمة الثانية، بعد القاهرة، للدولة الأيوبية، بل كانت العاصمة التي قاد منها صلاح الدين معركة التحرير ضد القوى الفرنجية في بلاد الشام، وفيها توفي ودفن، كما أن دمشق كانت مركزاً تجارياً حافلاً بالنشاط الاقتصادي، إضافة على كونها من أهم مراكز العلم في شرقي المتوسط، ونحسب أن دمشق، بأنهارها وبساتينها وهوائها العليل، جذبت الكرد، فهي شبيهة بديارهم إلى حد كبير.

بلى، في دمشق ولد محمد كرد علي سنة  (1293هـ / 1876م)، وفيها نشأ، وقد أعجب بالكتب منذ الصغر، وذكر أن والدته استصحبته، وهو في السادسة من عمره، لزيارة الشيخ محمد الطنطاوي، فأُدخلا قاعة، ووقع نظر الصبي على رفوف مغروسة في الحيطان، صُفّت عليها مجلدات كثيرة، فشهق متعجّباً مما رأى، وسأل والدته عن هذه الأشياء التي رآها على الرفوف، فقالت: هذه كتب يقرأ فيها العلماء. فقال لأمه: " أنا أحب أن أتعلم هذه الصنعة ".

ثقافته العالية

وقد شاء الله لمحمد كرد علي أن يكون والده الكردي ووالدته الجركسية من محبّي العلم، فاختارا لابنهما أن يكون من طلبة العلم، وبدأ الصبي محمد دراسته في مدرسة (كافل سيباي) الابتدائية، فتعلم فيها القراءة والكتابة ومبادئ العلوم، وَفق المناهج المتبعة آنذاك، ثم التحق بالمدرسة الثانوية، وكانت لغته العربية والفرنسية تؤهّله لأن يطالع الصحف باللغتين، فنشأ فيه ميل عميق إلى الأدب والصحافة والثقافة بصورة عامة، وما إن بلغ السادسة عشرة حتى أخذ يكتب أخباراً ومقالات في الجرائد.

وإلى جانب الحياة نفسها كان لثقافة محمد كرد علي مصدران هامّان، هما الكتب والأساتذة، فقد رشف من منهل الأدب والعلم على أيدي فئة صالحة من علماء عصره، وفي مقدّمتهم الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ سليم البخاري، والشيخ محمد المبارك، أما عن مسيرته مع الكتب فيقول:

" وأهمّ ما أُولِعتُ بمطالعته درس المطبوع من كتب الأدب العربي، وجانب من المخطوط الذي عثرت عليه من كتب الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وأحوال الشعوب ومدنيّاتهم، وطالعت بالفرنسية أهمّ ما كتبه فولتير وروسّو ومونتسكيو وبنتام وسبنسر،... وتدارست المجلات الفلسفية والاجتماعية والتاريخية والأدبية باللغة الفرنجية،... وإني مازلت أذكر ما كنت أكثر من مطالعته واستظهاره أيام ولوعي بالأدب من مقامات الحريري، ورسائل الخُوارزمي، والصابئ، والأصفهاني، والزَّمَخْشَري ".

وإضافة إلى تأثّره ببلاغة القرآن طالع محمد كرد علي كثيراً من كتب الحديث النبوي، وتمثّل بلاغة عبد الحميد الكاتب وابن المقفَّع وسَهْل بن هارون والجاحظ وأبي حَيّان التوحيدي، وحفظ الكثير من أشعار أبي تمّام والبُحْتُري وابن الرومي والمتنبّي والمَعَرّي، وغيرهم من مشاهير الشعراء، وبدأ بالأدب الجاهلي، وانتهى بالأدب في العصر الحديث، وما اكتفى بذلك، بل انكبّ على المخطوطات، وبحث عنها في خزائن الأستانة ودمشق والقاهرة وليدن وروما، واطّلع على ما نشره المستشرقون الفرنسيون والروس والإنكليز والهولنديون والإيطاليون، وبات حجّة فيما يتعلّق بالمستشرقين.

وها هي ذي شهادة صديق له، زامله في وزارة المعارف، وفي المجمع العلمي، وعايشه في دمشق، وهو الشاعر والكاتب شفيق جبري، قال:

 " لقد خالطتُه في وزارة المعارف، فكان وزير المعارف في سورية، فوقفت على كثير من خصائصه وطبائعه ومزاجه، فما عرفت رجلاً أولع بمطالعة الكتب ولعه،... وما أذكر أنه كان يمرّ عليه شهر وأحياناً أسبوع دون أن يطلب كتباً جديدة، للمطالعة من باريس وليسك وروما ولندن ... إذا خلا إلى نفسه فإنما يخلو إلى كتبه، وإذا اعتزل دمشق إلى ريفه في الغوطة، فإنما يعتزلها ليصغي إلى أحاديث كتاب يجالسه ... فما عرفنا في عصرنا من غلبت عليه محبّة القراءة، وشغله الميل إلى التأليف، مثل الأستاذ الرئيس، فقد فتن بالكتب فتنة الجاحظ بها في القديم، فأفضت به هذه الفتنة إلى الإكثار من التأليف ".

والأستاذ محمد كرد علي من الروّاد الذين عبّدوا طريق الصحافة في سوريا، فقد كان أول من أصدر صحيفة يومية في دمشق هي (المقتبس)؛ أصدرها سنة (1908م)، على أثر عودته من مصر بعد إعلان الدستور في الدولة العثمانية، ظناً منه أن عهد الاستبداد زال، وأن فجراً جديداً قد بزغ، فأصدر (المقتبس) اليومية إلى جانب (المقتبس) الشهرية.

وفي سنة (1901م) دخل محمد كرد علي مصر، وعمل فيها ناشراً ومحرراً، فكانت الصحافة مدرسة كبرى له، عادت عليه بالمعرفة والخبرة العلمية، وتعرّف من خلالها كبار الأدباء والكتّاب وأرباب الصحافة في مصر حينذاك، وأصبح من روّاد مجالس الشيخ محمد عبده، والتقى فيها كثيراً من العلماء ورجال السياسة في مصر.

في المجمع العلمي العربي

حين استقلّت بلاد الشام عن الدولة العثمانية بمساعدة الحلفاء، وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا، ودخلت الجيوش العربية سوريا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، قامت في دمشق حكومة عربية برئاسة الملك فيصل بن الحسين، وأُنشئ فيها ديوان للترجمة والتأليف وإدارة شؤون المعارف، يقوم بوضع المصطلحات اللغوية، وإحلال المفردات العربية محلّ المفردات التركية، وتقريب لغة الدواوين، وتقرير الكتب اللازمة للمدارس، وعهد برئاسة هذه الديوان إلى محمد كرد علي.

وفي (8 حزيران/يونيو 1919 م) أصدر علي رضا باشا الركابي الحاكم العسكري العام أمراً يقضي بتسميته ديوان المعارف (المجمع العلمي العربي)، وبذلك تحققت إحدى أكبر أمنيات محمد كرد علي، وعُيّن رئيساً للمجمع، فبذل الكثير من وقته وجهده وماله لتكوين المجمع وإدامته وإبعاده عن التيارات السياسية والحزبية، وحرص على أن يكون ذا مكانة بين مجامع العالم، ومصدر إشعاع فكري، ومركزاً لنشر الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، واستقلّ المجمع عن ديوان المعارف سنة (1921م)، ويعدّ هذه التوقيت تاريخاً رسمياً لتأسيسه.

وقد كرّس محمد كرد علي وقته ونشاطه وعلمه لإدارة المجمع والنهوض به، إنه كان يراسل الأعضاء العاملين والمؤازرين، ويواكب التيارات الأدبية والعلمية، ويواصل سعيه في بعث التراث الإسلامي، ويراسل المستشرقين، ويردّ على أسئلة السائلين منهم، ويكاتب العلماء في أقطار نائية، كان يتفقّده صباح مساء، ويحضر جلساته وندواته، ويوجّه محاضراته، وينجز أعماله بكل أمانة وبحرص بالغ ودقة شديدة، ولقي في سبيله خصومات السلطة الغاضبة، ونقد الخصوم الناقمين، وهجمات الطامعين في العضوية وهم ليسوا لها بأهل، قال:

" لقيت الألاقي من الحكومة السورية في سبيل المجمع العلمي، كأنه كان بعض ملكي، وكان الأدباء الحَسَدة يعرفون حرصي عليه، فيضربونه ليضربوني، ويعبثون بمصلحته ليؤذوني ".

وأضاف يقول:

" شهد الله إني كنت أفكر في أنجع الطرق لإنجاحه ليل نهار، مدة توليتي لرئاسته، وما رأيت باباً يوصلني إلى النهوض به إلا طرقته، ولطالما بذلت ماء وجهي لأناس ما كنت أتنازل للسلام عليهم من قبل، حتى استَهديت له المخطوطات والعاديات، وكنت أقتصد من ميزانيته القليلة مالاً أدّخره لأمور تنفعه في المستقبل، وأحاول إعلاء كلمته بين علماء الشرق وعلماء المشرقيات، وكان من أثر حرصي عليه الابتعاد به عن السياسة، وكان الفرنسي في الشام سيداً في كل مكان إلا في المجمع العلمي العربي، فإنه كان يزوره خاشعاً متواضعاً، حتى لقد قال المفوّض السامي المسيو بونسو، وهو يزور المجمع مع المفوّض السامي في فلسطين: إن الفرنسيين في سورية يعلِّمون، وفي المجمع يتعلّمون ".

وقام المجمع العلمي العربي بمهمات علمية وثقافية كثيرة وهامة، فقد بادر إلى إشاعة المعرفة بالتأليف والنشر والمصطلحات اللغوية، وعني بأمور اللغة في دور العلم عناية فائقة، بدءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاء بالمرحلة الجامعية، واستعان بالأساتذة المتخصصين في هذا الصدد.

نتاجه العلمي  

محمد كرد علي من العلماء الأدباء، مارس الكتابة منذ نعومة أظفاره، وله باع طويل في الصحف والمجلات والمحاضرات، وكتب عشرات المقالات في التاريخ والأدب، وفي الاجتماع والدين والإصلاح، وفي السياسة والدفاع عن العروبة والإسلام، ولازمه القلم طيلة حياته التي زادت على السابعة والسبعين، وهو من أصحاب الأساليب السهلة، يتخذ الكتابة للإفهام والتعليم وبثّ المعرفة، ولذلك قلّما نراه يتأنّق في كتاباته التي " تعلّم العقل أولاً والأدب ثانياً "؛ وهذا ما قاله ابن العميد في كتابات الجاحظ سابقاً، ونحسب أن لقبه الشهير (الأستاذ الرئيس) يرجع إلى تشبيهه بالوزير الأديب (ابن العميد)، فقد كان يحمل هذا اللقب في عصره.

وكان أول ما نشره محمد كرد علي ترجمة راوية (قبّعة اليهودي)، سماها (يتيمة الزمان في قبّعة ليفمان)، وأبرز كتبه (خُطَط الشام)، وهو كتاب تاريخي ضخم، يضم معلومات دقيقة وغزيرة عن بلاد الشام منذ القديم حتى العصر الحديث، وجاء كتابه هذا نتاج خمس وعشرين سنة من القراءة في مئات المجلدات والمخطوطات باللغات العربية والفرنسية والتركية.

 وله كتاب (دمشق مدينة السحر والشعر)، أصدره سنة ( 1944م)، وكتاب (الإسلام والحضارة العربية)، وقد دافع فيه عن حقائق الإسلام، ووضح أثر المدنية الإسلامية في الأقطار الغربية والشرقية بشكل عام.

وفي كتابه (أمراء البيان) درس أدب عشَرة من أساطين البلاغة العربية، وهم عبد الحميد الكاتب، وابن المقفَّع، وسَهْل بن هارون، وعمرو بن مَسْعَدة، وإبراهيم الصُّولي، وأحمد بن يوسف الكاتب، ومحمد بن عبد الملك الزيّات، والجاحظ، وأبو حيّان التوحيدي، وابن العميد.

وله كتاب (كنوز الأجداد)، وهو في الأعـلام والتراجم مثل كتابه (أمراء البيان)، إلا أنه لم يقتصر فيه على الأدباء البارزين، وإنما ترجم لكثيرين من الأعلام الذي خدموا الحضارة العربية والثقافة الإسلامية بالتأليف والدرس، وله أيضاً (رسائل البلغاء)، و(غابر الأندلس وحاضرها)، و(غوطة دمشق)، و(المذكرات).

معاصرون.. وشهادات

وتوفي محمد كرد علي بدمشق سنة (1372هـ / 1953م)، وقد أقيم، بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده، مِهرجان حافل في دمشق خلال أسبوع العلم السادس عشر (15 - 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1976م)، تناول فيه الكتّـاب والمفكرون والعلمـاء مآثر الأستاذ الرئيس، وجُمع كل ذلك في أحد أعداد مجلّة مجمع اللغة العربية بدمشق سنة (1976م).

وننقل فيما يلي بعض ما قيل في الأستاذ الرئيس:

          · " لقد كان الرئيس محمد كرد علي أحد معالم المجتمع العربي والإسلامي في الحديث، وأحد صنّاعه الكبار، وإن آثاره العلمية والأدبية ستظل شاهدة على عبقرية شامخة في تاريخ الفكر العربي ".

     الدكتور محيي الدين صابر- المدير العام للمنظمة العربية للتربية والعلوم.

          ·   " كرد علي من أعلام النهضة السورية الفكرية والأدبية المعاصرة، ورائد من كبار روّادها،... وبرغم أن أباه كان كردياً وأن أمه كانت شركسية فإنه كان مؤمناً بالعروبة إيماناً حازماً، يعتدّ بأمجادها، ويباهي بآثارها الحضارية والإنسانية ".

          الدكتور إبراهيم مدكور- رئيس اتحاد المجامع اللغوية العربية.

          ·   " آمن بالعربية لغةً، فدعا إلى تحريرها وتطويرها،... آمن بالإسلام ديناً يُعبد به الله وحده، فطالب بتنزيهه من شبهات الشرك، وتجريده من طقوس الرهبانية، وآمن به نظاماً حياتياً ميسّـراً ".

          الدكتور عبد الرزاق محيي الدين - رئيس المجمع العلمي العراقي. 

 

المراجع

 

1-    جرجي زيدان: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1970م.

2-    جمال الدين الآلوسي: محمد كرد علي، دار الجمهورية، بغداد، 1966م.

3-    خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.

4-    عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957م.

5-    مجمع اللغة العربية: محمد كرد علي، مؤسس المجمع العلمي العربي، مطبعة الحجاز، دمشق، 1977م.

    وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والعشرين.  

              د. أحمد الخليل   في 15 –  9 - 2006  

 dralkhalil@hotmail.com

 

================================

 

الحلقات السابقة لمشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( 1-2-3-4-5-6-7-8-9-10-11-12-13-14-15-16-17-18-19-20-21-22-23)

 

==============================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(مدخل)

التواريخ مقدّسات.

- 1 -

في شرقنا هذا كثيراً ما نهتم بالتاريخ.

وقليلاً ما نقرأه قراءة رصينة وحكيمة.

وقلّما نعرضه لأجيالنا عرضاً موضوعياً أميناً.

إن النوايا المبيَّتة تسطو على تواريخ شعوبنا بدهاء.

فتزيح ما هو حقيقي ومشترك وجامع وإستراتيجي.

وتُحلّ محلّه ما هو مزيَّف وأناني ومشتِّت ومرحلي.

ولا تكون النتيجة إلا مرارات وخلافات وخصومات.

- 2 -

التواريخ ليست خياماً نقتلعها ساعة نشاء، ونرحل بها بعيداً.

التواريخ ليست نزوات، ولا هي عنعنات تذروها الرياح.

التواريخ جغرافيا تركت بصماتها على جباهنا وفي مآقينا.

التواريخ وهج خلايانا، وعبق أنفاسنا، وخفقات قلوبنا.

التواريخ ذاكرات وذكريات، إضاءات وإشراقات.

التواريخ جينات وهويّات، وتجسّدات وتمثّلات.

ولنا أن نلعب بما نشاء، ونلغو كما نشاء، ونهفو كما نشاء.

إلا تواريخ الشعوب.. فإنها من المقدسات.

- 3 -

العرب والفرس والترك والكرد والأرمن والسريان والكلدان والآشوريون.

شعوب هذا الشرق العريق منذ آلاف السنين.. وما زالت.

هنا في هذا الشرق تجاوروا، وتخاصموا، في فترات من الدهر.

لكنهم، على المدى الأرحب، كانوا قد تآلفوا، وتفاعلوا، وتكاملوا.

إنهم تبادلوا الأدوار في شرقنا هذا شعباً إثر شعب.

تارة كانت القيادة والريادة لهذا، وتارة كانت لذاك.

ومن العدل أن يُحفظ لكل تاريخ مواقعه.

وأن تُنسب إلى كل شعب مآثره.

- 4 -

شعوب هذا الشرق ينبغي أن تظل متآلفة متفاعلة متكاملة.

وتلك هي مسؤوليتنا نحن مثقّفي هذه الشعوب.

بلى.. إن مسؤوليتنا نحن- المثقّفين- كبيرة وخطيرة.

ومن النبل أن نتحمّل مسؤولياتنا بوعي وبحكمة.

علينا أن نعيد قراءة تواريخنا بعمق.

ونعيد سردها على الأجيال بوضوح وصدق.

فنعطي كل ذي حق حقه، بلا ضرر ولا ضِرار.

ونرسم لكلٍ ملامحه بلا تقزيم ولا تفخيم ولا تضخيم.

لتكن المعلومة الصائبة هي الهدف.

فبقدر ما تكون المعلومة صائبة تكون المعرفة دقيقة.

وبقدر ما تكون المعرفة دقيقة تكون الرؤية رحيبة وعميقة.

وبقدر ما تكون الرؤية رحيبة وعميقة تكون العلاقات نبيلة وسليمة.

وبقدر ما تكون العلاقات نبيلة وسليمة يكون المستقبل مشرقاً.

_  _  _

وما حلقات هذه السلسلة إلا خطوة في ذلك الدرب الطويل.

 د. أحمد الخليل                   dralkhalil@hotmail.com

 

==================================

 

العودة إلى الصفحة الرئيسية