مشاهير الكرد في التاريخ  الإسلامي

( الحلقة الثالثة والعشرون )

الصوفي الكبير أبو القاسم الجُنَيْد

( ت 297 هـ )

 

شيخَهْ مُوكْ!

ترجع معرفتي بالجُنَيْد إلى أيام الصبا.

لكنها كانت معرفة مقتصرة على اسمه فقط.

حينذاك كنت في عالم آخر.

بصراحة أكثر: كنت أعيش خارج التاريخ وخارج العالم.

وكذلك كان مجتمعي الريفي البدائي.

كنا نطل على التاريخ والعالم عبر الخرافات والأساطير.

وكنا نعد الغث والسمين منها مقبولاً.

بل كنا نعدّها حقائق لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها.

حينذاك.. في قريتي كُرْزَيل Korzail (قُرْزَيْحِل)، وفي ضحى يوم ربيعي جميل، سمعت فجأة ضربات دُّف وإيقاعات صَنْج، وألحان أغنية غير معهودة تنطلق بالقرب من دارنا، كانوا رجالاً غرباء ثلاثة، كانوا يرتدون ثياباً غريبة أيضاً، عرفتهم.. كان الكبار يسمّونهم (شيخَهْ مُوكْ)، وكذلك كنا- نحن الصغار- نسميهم.

كل ما كنت أعرفه حينذاك أن تسمية (شيخَهْ مُوكْ) الكردية هذه تتضمن دلالات الاستصغار والازدراء، فالـ (شيخَهْ مُوكْ) أناس يتجوّلون في الأرياف، ويضربون على الدفوف ويقرعون الصُّنوج، ويغنّون بعض الأغاني الدينية، رجاء أن يجود عليهم القرويون ببعض الطحين أو البرغل أو الزيت، وكثيراً ما سمعت بعض رجال قريتي ونسائها يعبّرون عن عدم رضاهم عن تصرفات شخص ما أو هيئته فيقولون: إنه (شيخَه مُوكْ)!.. كأنه (شيخَه مُوكْ)!

  وبعد زمن طويل اكتشفت في لقب (شيخَهْ مُوكْ) أمراً آخر.

ألا إن  الحكمة تقول: " أن تصل متأخراً خيرٌ من ألا تصل أبداً ".

وأقول لنفسي: أن تعرف متأخراً خيرٌ من ألا تعرف أبداً.

مُوغْ.. وليس (مُوكْ)!

إن تسمية (شيخَهْ مُوكْ) هذه تتألف من كلمتين: الأولى عربية هي (شيخ) بمعنى (رجل الدين)، والثانية كردية هي (مُوكْ)؛ فماذا تعني كلمة (مُوكْ)؟ وما حقيقة هذا التركيب؟ ولماذا صيغ بهذه الكيفية؟ وكيف اكتسبت تلك الدلالة الدونية في مجتمعنا الكردي؟

أحسب أن تسمية (شيخَهْ مُوكْ) تخفي في طيّاتها واحدة من أكثر الشرائح التراثية الكردية أصالة، شريحة قطعت رحلة تراجيدية يقارب عمرها ثلاثة آلاف عام، فالمعروف في المصادر التاريخية أن الكرد، وسائر الشعوب الآريانية، كانوا يعتنقون الديانة الميثرائية، نسبة إلى الإله الآري ميثرا Mithras (ميثرو)، وهو إله يحفظ الحقوق والنظام، ويقضي على قوى الشر، كما أنه إله الضياء الآري القديم، وكان يُرمز إليه بالشمس.

ثم أحدث النبي الميدي الأصل زَرْدَشْت تطويراً في العقيدة الميثرائية، وأطلق أتباعه على الإله (ميثرا) اسم أهورامزدا (إله الخير)، ثم جرى في الزردشتية نفسها تطوير آخر، وظهرت العقيدة الزُرڤانية، نسبة إلى زُرْڤان Zorvan (زُرْوان) إله الخير والنور، وفيه توحّد كلٌّ من إله الخير أهورا مزدا وإله الشر أهريمن، وأصبحا تكويناً إلهياً واحداً بلا ثنائية.

وعلى امتداد هذه التحولات العقدية بين الشعوب الآرية في غربي آسيا، ومنهم الكرد، كان رجال الدين يحملون لقب (مُوغ)، كما يقال في بعض الديانات (كاهن) و(شامان)، وفي اليهودية (حَبْر)، وفي المسيحية (بطريرك)، وفي الإسلام (الإمام)، أو (الشيخ)، أو (حجة الإسلام)، أو (آية الله)، أوغير ذلك.

وكان الموغ – حسبما ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوت- ينتمون حصراً إلى قبيلة ميدية ذات شأن، وعندما غزا الإغريق بلاد ميديا وفارس، في القرن الرابع قبل الميلاد، بقيادة الإسكندر المكدوني، سمّوا الموغ (ماغوس)، ونسبوا إليهم البراعة في السحر والإتيان بالخوارق، ويبدو أن صيغة (ماغوس) الإغريقية دخلت في الأدبيات المسيحية بعد ذلك، واقتبسها العرب، واستعملوها بصيغة (مَجُوس)، وأطلقوها على جميع أتباع الزردشتية.

وصحيح أن الشعوب قد تتخلّى - طوعاً أو كَرْهاً- عن ديانة ما، وتعتنق ديانة أخرى، لكنها لا ترمي تراثها وراء ظهرها دفعة واحدة، بل إن ذلك مستحيل أصلاً، لأن بعض البنى والصيغ والمصطلحات الدينية الخاصة بمنظومة عقدية ما، في أي عصر كان، تخالط ثقافة الشعب كما تخالط الروح البدن، فتستعصي على الاندثار، وتجد لها مواقع في المنظومة العقدية الجديدة، وإن كان ذلك بشكل محوّر، بل قد يُبقي عليها سدنة المنظومة العقدية اللاحقة، من باب التنفير والتشنيع والازدراء.

وأرجّح أن هذا ما حدث لمصطلح (موغ) العقدي الميثرائي الزردشتي الزرڤاني، فبعد أن اعتنق الكرد الإسلام في القرن السابع الميلادي لم يتمّ القضاء قضاء تاماً على البنى الثقافية الزردشتية، وبقي لقب (موغ) الديني يدور على ألسنة الجماهير الكردية، واقترن باللقب الإسلامي (شيخ)، وانتهى به الأمر عبر القرون إلى صيغة محرَّفة جديدة هي (مُوك)، واكتسبت الصيغة الجديدة (شيخَهْ مُوكْ)، بتأثير الثقافة الإسلامية المعادية للمجوسية، دلالات الدونية والازدراء في الوسط الشعبي الكردي المسلم.

اكتشاف الجنيد

كان غرضي من هذا المدخل تِبيان أمور ثلاثة أراها مهمة:

-       أولها أن (المقدسات) تتصارع، ويفترس القوي منها الضعيف.

-       وثانيها أن الشعوب قد تزدري بعض بنى ثقافاتها من حيث لا تدري.

-   وثالثها أهمية مراجعة الرموز والمصطلحات في الثقافة الشعبية، وقراءتها قراءة تاريخية فاحصة؛ لاكتشاف العلاقات بين صيغها المعاصرة، وجذورها التاريخية العريقة.

ولنعد إلى اليوم الربيعي وجوقة المنشدين ال (شيخَهْ مُوكْ).

كان أحدهم يضرب بالدُّفّ، وآخر يقرع الصَّنج، وكانا ينشدان معاً بالكردية أغنية ذات طابع ديني إسلامي، أما الثالث- وكان ضخماً ممتلئ الجسم- فكان يصول ويجول كأنه في ساحة معركة، ويصرخ صرخات حماسية مديدة، ويلوّح بدبّوس متوسط الحجم، له مقبض حديدي رفيع مدبَّب، ثم يرمي به عالياً في الهواء، ويتلقّفه بيده، كان ذلك أمراً مدهشاً بالنسبة إلينا نحن الصبية، وما كنا نعرف حينذاك أن رأس الدبوس هو مركز الثقل، وهو الذي يهبط أولاً، وأن الرامي كان على ثقة بأن الطرف المدبّب سيبقى في الجهة العليا، ولن يخترق يده.

وأذكر من جملة ما أذكر أن رامي الدبوس كان ينادي، وهو يرمي بدبوسه في الهواء، قائلاً: يا إمام علي! يا عبد القادر كَيْلاني! يا جُنيد! تصوّرت حينذاك أن هذه شخصيات أسطورية ذات قدرات خارقة، وأنها تُمِدّ رامي الدبوس بقوة إعجازية كافية، تجعله قادراً على جعل الدبوس يهوي كل مرة بحيث يكون الرأس المدوّر إلى الأسفل، والنهاية المدبّبة إلى الأعلى.

تلك كانت المرة الأولى التي سمعت فيها اسم الجُنيد، والفضل في ذلك للسادة  الـ (شيخَهْ مُوكْ)، وبعد أن أفلتّ من براثن الفكر البدائي، وانهمكت بالمطالعة، فقرأت الشعر، وانتقلت من الشعر إلى الفلسفة، وانتقلت بعدئذ إلى التراث الإسلامي، إذا بي ألتقي بالجنيد في كتب التصوّف، وإذا به أحد كبار رجالات التصوّف ومنظّريها، ووجدتُني شديد الإعجاب بحكمه ومقولاته، وكان من حسن حظي أني انتقلت منذ قرابة عشرين عاماً إلى قراءة التاريخ، وعندئذ اكتشفت أن الجنيد كردستاني أصيل.

وكي أبسط الحقيقة أمامكم لا بد من (الجغرافيا).

بلى، لا بد من العودة إلى جغرافية كردستان.

وتحديداً إلى المدينة العريقة (نَهاوَنْد).

فماذا عنها؟

نَهاوَنْد

كان يطلق اسم (بلاد الجبل) أو (إقليم الجبال) على جنوبي كردستان (تقع اليوم في شمالي العراق وغربي إيران)، وفي بلاد الجبل تلك تقع مدينة (نهاوند) القديمة، قال عنها ياقوت الحموي في (معجم البلدان):

 " نهاوند بلدة من بلاد الجبل قديمة، بينها وبين هَمَذان ثلاثة أيام، فُتحت سنة تِسعَ عشْرةَ أو عشرين، في خلافة عمر بن الخطاب ".

وكانت كردستان – كما هو معروف- تابعة للدولة الساسانية الفارسية قبل الفتح الإسلامي، وقد دارت بعض أشد المعارك ضرواة بين العرب المسلمين والجيش الفارسي في جنوبي كردستان، ومنها المعركة المعروفة في كتب التاريخ الإسلامي باسم (معركة نهاوند)، وذكر البلاذري في (فتوح البلدان، ص 303) أن المسلمين هزموا الجيش الفارسي،  وفتحوا نهاوند صلحاً بقيادة حُذَيْفة بن اليَمان.

أما كردستانية نهاوند فنستدل عليها مما دوّنه الجغرافيون المسلمون بالقدامى في كتبهم، وهي واحدة من أبرز حواضر (إقليم الجبال) كما مر، وكما جاء في خريطة (إقليم الجبال) التي رسمها ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض)، وقد وصف اليعقوبي في كتابه (البلدان، ص 6) بلاد الجبل بأنها " دار الأكراد "، ومادام الأمر كذاك فمن الطبيعي أن تكون نهاوند كردستانية.

نشأة الجنيد

ومن نهاوند الكردستانية خرجت أسرة الجُنَيْد بن محمد، أما هو نفسه فقد ولد ونشأ في بغداد، وكنيته أبو القاسم، وعرف بالخَزّاز والقَواريري، إذ كان خزّازاً يتّجر في الخزّ (نوع من الحرير)، وكان أبوه يبيع قوارير الزجاج.

وهذا يعني أن الجنيد كان من أسرة متوسطة الحال، تمارس التجارة، ونجده مع ذلك علماً بارزاً من أعلام التصوّف في عصره (القرن الثالث الهجري)، والدليل على ذلك أمور ثلاثة: أقواله وأفعاله، وكثرة المهتمين بترجمته، وحرص الذين ترجموا لغيره من الصوفية على أن يقولوا في تراجم بعض الصوفية:

 "  من أقران الجنيد"،  " كان الجنيد يقول فيه: .. "، " صحب الجنيد "، " مات قبل الجنيد .."، " من كبار أصحاب الجنيد "، " لقي الجنيد .. "، " من أقارب الجنيد وجلسائه "، " وكان في عصر الجنيد، وكان الجنيد يقول بفضله "، " أخذ عن الجنيد "، " أبوه صحب الجنيد ".

وهكذا دواليك.

رحلته الصوفية

ولا نعرف إلا القليل عن بدايات تحوّل الجنيد إلى التصوّف، فالذين ترجموا له ذكروا أنه تتلمذ على خاله الصوفي سَرِيّ السَقَطي (ت 253 هـ) وجاء في (الرسالة القشيرية) أن سَرِيّ السقطي كان وحيد زمانه في الورع وأحوال السنة وعلوم التوحيد، وهو تلميذ الصوفي الكبير معروف الكرخي (ت 200 هـ)، وكان سريّ أيضاً تاجراً.

ويبدو أن الجنيد صحب خاله سَرِيّ السقطي مدة طويلة، إضافة إلى تتلمذه على جماعة من مشايـخ الصوفية، منهم الحارث المُحاسبي (ت 243 هـ)، وقد قيل في الحارث: " لا نظير في زمانه علماً وورعاً ومعاملة وحالاً "، كما درس الجنيد الفقه على إبراهيم بن خالد بن اليمان المشهور بكنية أبي ثَوْر الكلبي صاحب الإمام الشافعي، وأحد الأئمة المجتهدين.

  ومهما كان من أمر فقد كان عند الجنيد استعداد لأن ينحو منحى الصوفية منذ صغره، ولا شك أن للوسط الاجتماعي الذي عاش فيه تأثيراً كبيراً في هذا المجال، وفي حديثه عن صباه إشارة واضحة إلى ذلك، لقد قال:

 " كنت بين يدي سَريّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلّمون في الشكر. فقال لي: يا غلام، ما الشكر؟ قلت: الشكر ألا تعصي الله بنعمه. فقال: أخشى أن يكون حظك مـن الله لسانك! قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السَرِيّ ".

ويبدو أن سريّ السقطي كان يتوسّم الخير في ابن أخته الجنيد، ويلمس فيه تباشير الفطنة والتأمل والصلاح، وإلا ما كان ليسأله ذاك السؤال الدقيق الذي لا يتناسب والقدرات الفكرية للصبية، ولعله كان يحاول بذلك أن يوجّه ابن أخته إلى دائرة التصوف، ويشجّعه على المضي فيه، وها هو ذا الجنيد يذكر خبراً آخر يعزّز ما نذهب إليه، قال:

" قال لي خالي سريّ السقطي: تكلّم على الناس! وكان في قلبي حِشمة من ذلك، فإني كنت أتّهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم- وكانت ليلة جمعة- فقال لي: تكلّم على الناس! فانتبهت، وأتيت باب سريّ قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: لم تُصدّقنا حتى قيل لك! فقعدت في غدٍ للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلّم، فوقف عليّ غلام نصراني متنكّر، وقال: أيها الشيخ، ما معنى قوله عليه السلام: (اتّقوا فِراسِة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)؟ فأطرقت، ثم رفعتُ رأسي فقلت: أسلمْ، فقد حان وقت إسلامك! فأسلم ".

هكذا بدأ الجنيد تجربته التصوّفية بإيمان عميق، وهو إلى هذا معدود في طبقات فقهاء الشافعية المرموقين، وحسبنا دليلاً على ذلك أنه كان يفتي بحلقة أبي ثَوْر الكلبي وله من العمر عشرون سنة فقط. قال علي بن إبراهيم الحدّاد:

" حضرت مجلس ابن سُرَيْج الفقيه الشافعي، فكان يتكلّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجيب. فلما رأى إعجابي قال: أتدري من أين هذا؟ قلت: لا! قال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد ".

ونفهم من هذا الخبر أن  الجنيد لم يقتصر في حديثه إلى الناس على علم الحقيقة وأحوال التصوّف فقط، وإنما كان ضليعاً في علوم الشريعة أيضاً.

من أحواله وأقواله

ونذكر من أحوال التصوّف التي نقلت عن الجنيد الخبرين الآتيين:

قال أبو عمرو بن علوان، وهو ممن صحب الجنيد وأخذ عنه:

" خرجت يوماً إلى سوق الرَّحْبة في حاجة، فرأيت جنازة، فتبعتها لأصلّيَ عليها، فوقفت حتى تدفن، فوقعتْ عيـني على امرأة مُسفِرة، من غير تعمّد، فألححت بالنظر إليها، واسترجعت واستغفرت الله تعـالى، وعـدت إلى منزلي. فقالت عجوز لي: يا سيدي، مالي أرى وجهك أسود؟! فأخذت المرآة فنظرت، فإذا هـو كما قالت، فرجعت إلى سِرّي أنظر من أين ذهبتُ، فذكرتُ النظرة، فانفردت في موضع، أستغفر الله، وأسأله الإقالة أربعـين يوماً، فخطر في قلبي أن زُرْ شيخك الجنيد، فانحـدرت إلى بغـداد، فلما جئت حجرته طرقت البـاب، فقال لي: ادخل أبا عمرو! تذنب بالرحبة، ونستغفر لك ببغداد ".

وقال أبو الحسن خير النسّاج (صوفي أصله من سامرّاء، وعاش ببغداد):

" كنت يوماً جالساً في بيتي، فخطر لي خاطر أن الجنيد بالباب فاخرجْ إليه، فنفيته عن قلبي، وقلت: وسوسة! فوقع لي خاطر ثانٍ بأنه على الباب فاخرجْ إليه، فنفيته عن سِرّي، فوقع لي ثالث، فعلمت أنه حق، ففتحتـه، فإذا بالجنيد قائم، فسلّم عليّ، وقال لي: يا خير! لِمَ لا تخرج مع الخاطر الأول "؟!

وجاء في (طبقات الأولياء) لابن المُلقِّن:

" كان يقال: في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان الحِيري بنيسابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله الجلاّء بالشام ".

ويخرج المرء من سيرة الجنيد بنتيجة مفادها أنه لم يكن صوفياً من الغلاة الذين يقولون بالحلول والاتحاد، ولا من أولئك الذين قالوا بإسقاط التكليفات الشرعية؛ إن تصوّفه يرتكز على إيمان عميق، وتمسّك شديد بالسنة النبوية، وحرصٍ كبير على التزام ما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو القائل في هذا الصدد:

" الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر رسول الله عليه الصلاة والسلام ".

وقال أيضاً:

" من لم يحفظ القرآن الكريم، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيّد بالكتاب والسنّة ".

ومن أقواله التي تدعو إلى التأمل:

- " من طلب عزّاً بباطل أورثه الله ذلاًّ بحقّ ".

- " من همّ بذنب لم يفعله ابتُلي بهمّ لم يعرفه ".

- " الأدب أدبان: أدب السرّ، وأدب العلانية؛ فالأول طهارة القلب من العيوب، والثاني حفظ الجوارح من الذنوب ".

- وسئل من العارف؟ فقال: " من نطق عن سرّك وأنت ساكت ".

- وسئل: أنطلب الرزق؟ فقال: إن علِمتم في أيّ موضع هو فاطلبوه. فقالوا: نسأل الله ذلك؟ فقال: إن علمتم أنه نسيَكم فذكِّروه. فقالوا: ندخل البيت، ونتوكّل على الله؟ فقال: تجرّبون الله في التوكل؟! فهذا شك. قالوا: فكيف الحيلة؟ قال: تركُ الحيلة.

- وقال شعراً:

وإنّ امرَأً لم يَصْفُ لله قلبُـه     لفي وَحشة من كل نظرةِ ناظرِ

وإنّ امرَأً باع دنيـا بدينـه    لَمُنقلِبٌ منــها بصفقةِ خاسرِ

-  -  -  -  -

قال أبو بكر العطار:

حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلّي ويَثني رجله، فثقلت عليه حركتها، فمدّ رجليه وقد تورّمتا فرآه بعض أصحابه، فقال: ما هذا يا أبا القاسم؟! قال: هذه نِعَم، الله أكبر! فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمـد الجُرَيري: لو اضطجعت! قال: يا أبا محمـد! هـذا وقت يؤخذ منه؟! الله أكبر. فلم يزل ذلك حاله حتى مات، وكان ذلك سنة (297 هـ).

 المصــادر

 

1-    إحسان يار شاطر: الأساطير الإيرانية القديمة، ترجمة محمد صادق نشأت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1965م.

2-    أرنولد توينبي: مختصر لدراسة التاريخ، ترجمة فؤاد محمد شبل، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، الطبعة الأولى، 1964م.

3-    البلاذري: فتوح البلدان، عني بمراجعته والتعليق عليه رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م.

4-    ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979م.

5-    ابن خَلِّكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968م.

6-    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهيبة شوكت، دمشق.

7-    الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.

8-    السُّلمي: طبقات الصوفية، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1986م.

9-    الشَّعْراني: الطبقات الكبرى، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م.

10-   القشيري: الرسالة القشيرية، دار الكتب الحديثة، القاهرة.

11-   ابن الملقّن: طبقات الأولياء، حققه و خرجه نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1973م.

12-   ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977م.

13-   اليعقوبي: البلدان، ضمن كتاب الأعلاق النفيسة لابن رُسْته، مطبعة بريل، ليدن، 1891 م.

    وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والعشرين.  

              د. أحمد الخليل   في 3 –  9 - 2006  

==========================

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة الثانية والعشرون)

صلاح الدين الأيوبي

 ( ت 532 - 589 هـ )

 

البطل الأنقى

 

لكل زهرة عطرها.

ولكل فراشة تهويمتها.

ولكل شجرة شموخها.

ولكل غيمة بهاؤها.

ولكل نهر جماله.

ولكل جبل جلاله.

وكذلك العظماء والمشاهير.

لكل منهم في التاريخ موقع.

وفي قلوب الناس موضع.

هذا لأنه حرّر الأوطان.

وذاك لأنه كرّم الإنسان.

وثالث لأنه عمّر البلاد.

ورابع لأنه أزاح البؤس عن كاهل العباد.

ومنهم من فعل كل هذا، فجمع الخير من أطرافه، وحاز المجد من ألفه إلى يائه.

ومن هذا الرعيل صلاح الدين الأيوبي، القائد الذي تحدّث عنه أصحابه بكل محبة وإجلال، وكتب عنه أعداؤه بكل إعجاب وإكبار، حتى إنه حاز لقب (البطل الأنقى)، والذي أضفى عليه هذا اللقب هو من حفدة الفرنجة الذين قاتلهم صلاح الدين، وقارعهم في كل ساحة من ساحات شرقي المتوسط، إنه ألبير شاندور، صاحب كتاب (صلاح الدين الأيوبي البطل الأنقى في الإسلام).

فمن هو صلاح الدين؟

ولماذا كان (البطل الأنقى)؟!

على تخوم قفقاسيا

كان الكرد يقيمون في مناطق أذربيجان وأرمينيا المتاخمة لقفقاسيا (القوقاز) منذ عهود أجدادهم الميديين، ولما اعتنقوا الإسلام شاركوا في الحروب التي نشبت في منطقة القوقاز بين المسلمين وجيرانهم المسيحيين، ثم أقاموا بعض الدول والحكومات المستقلة وشبه المستقلة ولا سيما في القرنين الرابع والخامس الهجري.

وفي القرن الرابع الهجري، ومنذ سنة (340 هـ/951 م)، كان الكرد الشَّداديون يحكمون أرمينيا، ودام حكمهم فيها (138 هـ)، واضطرهم موقعهم الجيوبوليتيكي إلى خوض الحرب على جبهتين: في الغرب ضد الدولة البيزنطية، وفي الشمال ضد الجورجيين وغيرهم من سكان القوقاز المسيحيين؛ ولا غرابة في ذلك، فقد كانت الإيديولوجيات الدينية هي التي تصنع الحرب والسلام حينذاك.  

وتنتمي أسرة شادي (شاذي) بن مروان إلى عشيرة رَوادي (رُو آدي) الكردية، وكانت تقيم في بلدة دُوِين بأرمينيا، وتسمّى في بعض المصادر العربية القديمة (دَبِيل)، وكانت تلك الأسرة من طبقة الأعيان بمعايير ذلك العصر، ويبدو أنها كانت مقرَّبة من الأمير الكردي الشدادي فَضْلُون، لكن القبائل التركمانية غزت المنطقة قادمة من الشرق، واحتلّت دُوِين، وقتلت الأمير فَضْلُون، وفتكت بأنصار الأمير المقتول، فلم ير شادي بدّاً من أن يغادر موطنه، وينجو بأسرته.

 

في تَكريت

توجّه شادي بأسرته جنوباً وغرباً، نحو العراق، حيث كان يقيم صديقه القديم جمال الدولة بَهْرُوز شِحْنة بغداد (وزير الداخلية حسب التسميات المعاصرة)، وكان بهروز نفسه مقيماً في دوين سابقاً، واضطر إلى الرحيل عنها بسبب تهمة وُجّهت إليه، ورحّب بهروز بصديقه شادي، وثمة رواية تذكر أنه هو الذي استدعى نجم الدين، وعيّنه حاكماً على قلعة تكريت، وراح شادي يدير أمر تلك القلعة باقتدار، ويسهر على أمن الرعية مستعيناً بولديه نجم الدين أيوب وأسد الدين شَيرگُوه.

وبعد وفاة شادي عيّن بهروز نجمَ الدين حاكماً على القلعة خلفاً لأبيه، ولم يكن أيوب يقلّ عن والده نبلاً وشهامة وحكمة، فحرص كل الحرص على أن يقوم بواجبه خير قيام، واستعان في ذلك بأخيه الشجاع شَيرگُوه.

وفي ذلك العهد كان السلاجقة يهيمنون على مشرق العالم الإسلامي، وكان العراق مسرحاً للصراع بينهم؛ إذ كان كل فريق يحاول السيطرة على بغداد مقرّ الخلافة العباسية، وكان عماد الدين زنكي حاكم الموصل - قد اتفق مع السلطان السلجوقي مسعود سنة (526 هـ/1132 م)، على حصار بغداد، فاستعان الخليفة وأنصاره بحاكم فارس وخوزستان، ويدعى قراجا الساقي، ودارت معركة بين الفريقين، انتهت بهزيمة عماد الدين.

وتراجع عماد الدين بجنوده نحو الموصل شمالاً، وبالقرب من تكريت اعترض نهر دجلة مسيرتهم، وكاد يقع هو وجنوده في قبضة الفريق المعادي، فقدّم له نجم الدين المعونة، وساعده هو وجنوده على اجتياز دجلة، وداوى جراحاته، وزوّده بالمؤن، ولا ريب أن ثمة علاقة طيبة كانت تقوم بين عماد الدين ونجم الدين.

ليلة عصيبة

وفي سنة (532 هـ/1137 م)، وبينما كان شيرگوه يسير ذات يوم في أحد شوارع قلعة تكريت إذا بامرأة تستغيث، وإذا بأحد كبار الموظفين يتحرش بها، فزجره شيرگوه عن فعلته الذميمة، لكنه لم يرتدع، بل سخر من شيرگوه، وسرعان ما دارت بينهما معركة حامية، وسقط المعتدي صريعاً، وأنقذ شيرگوه المرأة، وثمة من يذكر أن الخلاف بين شيرگوه وذلك الشخص كان لأمر آخر.

سمع بهروز خبر مقتل الموظف، وكان مقرَّباً منه، وكان قد نقم على نجم الدين ساعد لقيامه بمساعدة عماد الدين زنكي على عبور دجلة، والتراجع نحو مقرّه في الموصل، فأصدر الأمر إلى نجم الدين بأن يترك منصب حاكم القلعة، ويرحل مع أسرته عن تكريت من غير تأخير.

وبينما كان رسول بهروز ينذر نجم الدين بالرحيل، إذا برسول يأتي من داره، ويبشّره بولادة طفل له، كان ذلك الطفل هو (يوسف) الذي اشتهر بعدئذ بلقب (صلاح الدين)، وما هي إلا ساعات قليلة حتى بدأت الأسرة رحلتها نحو المجهول، يرافقهما شيخ بغدادي مسيحي كان يعمل كاتباً عند نجم الدين.

كانت الرحلة شاقة، وكان الموقف عصيباً، وكان الوليد الصغير يوسف ينفجر باكياً بين حين وآخر؛ الأمر الذي كان يثير غضب نجم الدين، ويجعله متشائماً بمقدم طفله هذا، حتى إنه كاد يبطش به، لكن الكاتب البغدادي الشيخ رجاه قائلاً: أناشدك بالله أن تستبقيه، فهو طفل لا ذنب له، ولعل الله جاعل له شأناً.

ويمّمت القافلة الصغيرة وجهها نحو الموصل شمالاً، فرحّب بهم عماد الدين زنكي، وانضم نجم الدين وأسد الدين إلى جيش عماد الدين، وشاركا في الحروب التي خاضها عماد الدين ضد الفرنجة، وحينما سيطر عماد الدين على مدينة بَعْلَبَكّ في لبنان عيّن نجم الدين حاكماً عليها، فانتقل نجم الدين بأسرته إليها، وفي مرابع المدينة القديمة بعلبك (مدينة الإله بعل) عاش يوسف أيام صباه.

وبعد مقتل عماد الدين زنكي على أيدي بعض خدمه، نشب النزاع بين الأخوين سيف الدين غازي ونور الدين محمود على السلطة، فوقف القائدان نجم الدين وشيرگوه إلى جانب نور الدين، فرجحت كفّته، واستلم زمام الأمور، وسيطر على دمشق بمساعدة نجم الدين، وأصبح نجم الدين من كبار الأمراء في دولته.

وفي دمشق تلقّى صلاح الدين العلم على أيدي كبار العلماء، وأما في مجال الفروسية فقد كان عمه شيرگوه يشجّعه على إتقان  فنونها، من ضرب بالسيوف، وطعن بالرماح، ورمي بالسهام، وركوب للخيل، ومنازلة للأبطال، فأتقن الفنون القتالية جميعها، وساعده في ذلك جسمه الرشيق، وإرادته القوية، وذكاؤه اللماح.

وفي رحلته مع العلوم والفروسية تشرّب صلاح الدين القيم النبيلة: من شجاعة وشهامة، وحلم وكرم، ونبل ومروءة، وكان السلطان نور الدين قد لمح فيه النَّجابة، فرفع من شأنه، وأسند إليه- وهو شاب - منصب رئاسة الشرطة في دمشق، فقام بذلك المنصب أحسن قيام، وطهّر دمشق من عبث اللصوص وشرور المفسدين، ونشر في رحابها الأمن والاستقرار.

في مصر وزيراً

كان العالم الإسلامي حينذاك يعاني من آثار الحملة الفرنجية الأولى التي بدأت سنة (489 هـ/1096 م)، وقد احتل الفرنجة خلال تلك الحملة الساحل السوري، ولبنان، وفلسطين، وقسماً من الأردنّ، وأسّسوا إمارة الرُّها، وإمارة أنطاكيا، وإمارة طرابلس، ومملكة بيت المقدس، وشرعوا يشنّون الغارات على المناطق الداخلية في بلاد الشام، ويهدّدون حلب وحمص ودمشق، وكانت مصر آنذاك تحت سيادة الدولة الفاطمية، لكن تلك الدولة كانت قد أصبحت ضعيفة، فشنّ الفرنجة الحملات على مصر بغية احتلالها.

وإزاء هذا التهديد استعان الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله بالسلطان نور الدين، فأرسل السلطان جيشاً بقيادة أسد الدين شيرگوه لمساعدة الخليفة الفاطمي، واصطحب شيرگوه معه ابن أخيه صلاح الدين، ثقةً منه بشجاعته وحسن تدبيره، وخاض شيرگوه وجنوده معارك ضارية  ضد الفرنجة، واستطاعوا دحر العدوان على مصر.

وأعاد الفرنجة محاولة السيطرة على مصر كرّة بعد أخرى، فتوجّه شيرگوه بدوره إلى مصر ثانية وثالثة بدعوة من الخليفة الفاطمي ووزيره شاور، للوقوف في وجه أطماع الفرنجة، ولما تآمر شاور مع الفرنجة على الجيش الشامي أمر الخليفة الفاطمي بقتله، وحلّ شيرگوه محلّ شاور في منصب الوزارة، وبعد شهور قليلة توفّي شيرگوه، وأصبح صلاح الدين قائدا للجيش الشامي، ونظراً لما كان يتمتع به من شجاعة وحسن قيادة، اختاره الخليفة الفاطمي وزيراً.

وسرعان ما باشر صلاح الدين حكم البلاد بمهارة وحكمة وإخلاص، إنه بدأ بالجبهة الداخلية، فأزال الضرائب الثقيلة عن كاهل الجماهير، وأرسى دعائم العدل، واعتنى بمصالح الشعب، وحرص على تقوية البلاد لردّ عدوان الفرنجة الغزاة، وتمكن من ردّ الهجوم الذي شنّوه على مدينة دمياط، وكسب احترام الخليفة والجماهير في مصر لما أبداه من بسالة وصبر.

السلطان

لم يكن العباسيون السنّة راضين عن قيام خلافة شيعية منافسة لهم، وكان الصراع شديداً بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة، ويبدو أن الاتفاق كان قد تم بين كل من الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله والسلطان نور الدين على إزالة الخلافة الفاطمية، لذلك أمر نور الدين واليه على مصر- وهو صلاح الدين- أن يعلن إلغاء الخلافة الفاطمية، ويجعل مصر تابعة للخلافة العباسية.

ورغم أن الخليفة الفاطمي العاضد بالله مريضاً، وكان في الأيام الأخيرة من عمره، فإن صلاح الدين لم ير بدّاً من تنفيذ أوامر كل من الخليفة العباسي والسلطان نور الدين سنة (567 هـ/1171 م)، لكنه حرص في الوقت نفسه على ألا يعرف الخليفة العاضد أن دولته قد زالت وهو على فراش الموت.

وبعد وفاة الخليفة الفاطمي العاضد، أصبح صلاح الدين سيد البلاد، فساس الناس أحسن سياسة، وهاجم معاقل الفرنجة في جنوبي فلسطين والأردن، بتنسيق مع السلطان نور الدين في بلاد الشام.

وفي سنة (569 هـ/1174 م) توفّي السلطان نور الدين، وكان ابنه إسماعيل صغير السنّ، غير قادر على ممارسة الحكم في تلك الظروف الصعبة، وبدأ بعض كبار القادة يسيّرون الأمور كما يريدون، ويعقدون المعاهدات والأحلاف مع الفرنجة، فاستعان ابن المقدَّم وهو من كبار القادة في دمشق - بصلاح الدين، كي ينقذ البلاد من حالة الضعف والانحطاط، ويوحّد مصر والشام للوقوف في وجه الفرنجة.

فاتجه إلى صلاح الدين إلى دمشق، وقضى على نفوذ القادة المتعاونين مع الفرنجة، وأعلن نفسه سلطاناً، وظل يعمل لتوحيد شعوب شرقي المتوسط، ولمواجهة الخطر الذي يحدق بالمنطقة، واستطاع، بعد جهود مضنية، توحيد شمالي السودان، واليمن، والحجاز، وشمالي العراق، والشام، ومصر، وليبيا، وأنشأ دولة كبيرة، كثيرة الخيرات، هائلة القدرات، مرهوبة الجانب، هي الدولة الأيوبية.

واستعداداً لتحقيق النصر على الفرنجة، حرص صلاح الدين على الجمع بين العلم والقوة، ففتح المدارس، وشجّع العلم، وأكرم العلماء، كما أنه اهتمّ بتحسين الأحوال الاقتصادية، فشجّع الزراعة والصناعة والتجارة، أضف إلى هذا أنه اهتمّ بالجيش، فدرّب الجنود على فنون القتال، وبنى أسطولا قوياً قادراً على مواجهة الأساطيل الفرنجية في كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.

معركة حِطّين

بعد أن أعدّ صلاح الدين للحرب عدّتها، وتأكّد من قوة الجبهة الداخلية، انتقل إلى بلاد الشام فهي أقرب إلى المناطق التي يحتلها الفرنجة، وشرع يهاجم قلاعهم وحصونهم، ويفتحها قلعة تلو أخرى، وحصناً بعد آخر، ويفاجئهم تارة هنا، وتارة هناك، ولا يدع لهم سبيلاً إلى الراحة والاطمئنان.

ويذكر الرحّالة الأندلسي ابن جُبَيْر أنه رأى في الحرم المكي سنة (579هـ/1183م) مجموعة من أسرى الفرنج، راكبين على الجمال ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق، وعلم أن هؤلاء هم من الفرنج الذين أرسلهم أمير الكرك رينو دي شاتيون، المعروف في المصادر العربية القديمة باسم (أرناط)، لمهاجمة شواطئ الحجاز والفتك بالحجّاج المسلمين، وأحرقوا في البحر الأحمر ستة عشر مركباً للمسلمين، وفتكوا بالحجّاج القادمين من مصر واليمن.

وفي سنة (582 هـ/1186 1187 م) نقض أرناط العهد الذي كان قطعه على نفسه، فاعترض قافلة من الحجّاج العائدين من بيت الله الحرام، وأخذهم أسرى، ونهب أموالهم، فغضب صلاح الدين أشدّ الغضب، وقرر معاقبة هذا الفارس الفرنجي، فقاد جنوده وهاجم قلعة الكَرك فحاصرها، فهبّت الإمارات الفرنجية الأخرى جميعها لمساعدة أرناط، بقيادة ملك القدس الفرنجي غي دي لوسينيان.  

وفي سنة (583 هـ/1187 م)، ورداً على استفزازات الفرنجة، استنفر صلاح الدين القوات الإسلامية في كل من مصر والشام وكردستان، ثم هاجم حصون الفرنجة وقلاعهم، وخاض ضدهم معركة فاصلة قرب بحيرة طبرية بفلسطين، في منطقة تدعى (حِطِّين).

وقد اعتمد صلاح الدين خطّة حربية بارعة، تقوم على إنهاك العدوّ، واستنفاد طاقاته القتالية، وجرّه إلى القتال في ظروف نفسيّة وجغرافية وتعبوية غير مناسبة، وفي يوم السبت (24 ربيع الثاني 583 هـ/4 تموز 1187م) حقق صلاح الدين نصراً حاسماً على الجيش الفرنجي، وأسر الفارس الكردي المِهْراني دِرْباس الملك الفرنجي (غي)، ووقع في الأسر أخو الملك، وأرناط أمير الكرك، وقادة كبار آخرون.

استرداد القدس

لم يخلد صلاح الدين إلى الراحة بعد النصر الكبير في حطّين، فتقدم بسرعة نحو حصون الفرنج يدكّها دكّاً، إنه فتح حصون: طبريّا، وعكا، والناصرة، وقيساريا، وحيفا، وصَفُّورية، واستولى أيضاً على صيدا، وبيروت، وجُبَيْل، وزحف أخوه الملك العادل بجيش من مصر ففتح يافا.

وبعد هذه الفتوحات الكبيرة أصبحت طريق القدس مفتوحة أمام جيش صلاح الدين، فسار بجنوده نحوها، ووصل إليها في 15 رجب سنة (583 هـ/20 أيلول 1187 م)، ولم يرغب صلاح الدين في إراقة الدماء، فأجرى المفاوضات مع حاميتها الفرنجية بشأن الاستسلام، وتعهّد باحترام الأماكن المقدسة وشعائر الديانة المسيحية، لكن الإفرنج رفضوا الدعوة إلى السلم، وأصروا على القتال.

وكان قد اجتمع بالقدس كثير من جنود الفرنج، ولما كان يوم 27 من رجب (583 هـ/2 تشرين الأول 1187 م)، حمل صلاح الدين وجنوده على المدينة حملة رجل واحد، وتقهقر جنود الفرنج عن مواقعهم، واضطروا إلى دخول المدينة والاحتماء بالأسوار، وواصل الجيش الأيوبي زحفه تحت وابل من قذائف الفرنج وسهامهم، ووصلوا إلى الخندق فاجتازوه، ثم وصلوا إلى السور فنقّبوه، واشتد القتال بين الفريقين، وشرع المسلمون يحفرون الأنفاق تحت الأسوار والأبراج، تمهيداً للدخول إلى المدينة.

ولما تأكّد للفرنج أنهم غير قادرين على الاستمرار في المقاومة، اجتمع رأيهم على طلب الأمان، فأرسلوا وفداً إلى صلاح الدين بزعامة قائدهم باليان، ودارت المفاوضات بين الجانبين، ولم يكن صلاح الدين راغباً في إراقة الدماء، فوافق على استسلام الفرنج وفق شروط محددة، وشرع الفرنج يغادرون القدس، وشرطة صلاح الدين تحفظ الأمن، كي لا يقع أي اعتداء أو انتقام على أحد من الفرنج المغادرين.

وقد أثنى المؤرخون جميعاً- شرقيين وغربيين- على الموقف النبيل الذي وقفه صلاح الدين أثناء فتح بيت المقدس، وتحدثوا بإعجاب عن عطفه على المرضى والمسنّين والمحتاجين من الفرنجة، وعن إكرامه للنساء، ورأفته بالأطفال، ورعايته للضعفاء منهم، وشهدوا أن جنوده كانوا على غراره في المروءة والشهامة، هذا بخلاف ما ارتكبه الفرنج من قتل وسفك للدماء، ونهب للأموال، وهتك للأعراض حين احتلوا بيت المقدس قبل ثمانية وثمانين عاماً من ذلك التاريخ.

وكانت فرحة شعوب شرقي المتوسط بتحرير القدس كبيرة، وتذكّر صلاح الدين أنّ سلفه السلطان نور الدين كان قد أمر بصناعة منبر في مدينة حلب، كي يضعه  بجانب المحراب في المسجد الأقصى، استعداداً لتحريره، فأمر صلاح الدين بإحضار ذلك المنبر من حلب، وأقيمت صلاة الجمعة في اليوم الرابع من شهر شعبان، بعد ثمانية أيام من تحرير القدس، " وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكُرُبات، وأقيمت الصلوات "؛ حسبما ذكر ابن كثير في كاتبه (البداية والنهاية).

مناقب صلاح الدين

كان صلاح الدين حاكماً عادلاً، رؤوفاً رحيماً، ينصر الضعفاء، وينصف المظلومين، وكان كريماً بالمال، ويتحلّى بالخصال الحميدة، من تواضع وحب للخير، وعطف على المحتاج والغريب، وصبر على المكروه، وحلم عن الجاهل، ولطف في المعشر، ونجدة للملهوف، وإكرام للضيف وإن كان من الأعداء.

ويقول ابن الأثير الجزري :

" وكان- رحمه الله - كريماً، حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، وكان عنده علم ومعرفة، وسمع الحديث وأسمعه، وبالجملة كان نادراً في عصره، كثير المحاسن والأفعال الجميلة، ... ". 

ويقول القاضي ابن شدّاد في وصف شخصية صلاح الدين:

" وكان حسن العِشرة، لطيف الأخلاق، طيّب الفكاهة، حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم، عارفاً بسيرهم وأحوالهم، حافظاً لأنساب خيلهم، عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره، وكان حسن الخلق، يسأل الواحد منّا عن مرضه ومداواته، ومطعمه ومشربه، وتقلّبات أحواله، وكان طاهر المجلس، لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير، وطاهر السمع، فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا بالخير، وطاهر اللسان، فما رأيته يشتم قط، وطاهر القلم، فما كتب بقلمه إيذاء مسلم قط ".

وأما عن قلبه الرحيم فحسبنا هذا الخبر الذي يرويه ابن شدّاد، قال:

كنت راكباً معه ذات يوم في مواجهة جيش الفرنج في إحدى المعارك، وإذا بأحد الحراس يصل ومعه امرأة فرنجية تبكي بحُرقة، وتضرب صدرها بيديها، وقال الحرسي: خرجت هذه المرأة من جيش الفرنج، وطلبت الحضور بين يديك.

فأمر صلاح الدين الترجمان أن يسألها عن مشكلتها، فذكرت أن اللصوص دخلوا خيمتها، وسرقوا طفلتها الصغيرة، فظلّت تبكي طوال النهار، وأضافت: قيل لي: إن السلطان صلاح الدين رحيم، فأتيت إليك، ولا أعرف ابنتي إلا منك.

فرقّ قلب صلاح الدين، ودمعت عيناه، وحرّكته مروءته، فأمر الحرس بالذهاب والبحث عن الطفلة، ولم يزل مهتماً بالأمر حتى أُحضرت الطفلة وتسلّمتها المرأة، وخرّت إلى الأرض وهي تمرّغ وجهها في التراب شكراً، والناس يبكون من حولها على ما نالها، وأمر صلاح الدين بأن تعاد إلى معسكر الفرنج في أمان.

وكان بعض أولاد صلاح الدين الصغار يرافقونه في إحدى المعارك، فأرادوا ذات يوم أن يأذن لهم بقتل أحد الأسرى من الفرنج، فغضب لطلبهم ذاك، وزجرهم عن ذلك، لئلا يعتادوا على سفك الدماء منذ الصغر، ويهون ذلك عليهم من بعد.

الرحيل

ظل صلاح الدين بعد تحرير القدس يخوض المعارك ضد الفرنجة، ويتصدّى بقوة للحملة الفرنجية الثالثة التي استهدفت استرداد بيت المقدس سنة (585هـ/1189 م)، وكانت حملة هائلة من حيث العدد والعدّة، وقادها أكبر ملوك أوربا، وهم: فردريك بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب أوغست ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، وظل صلاح الدين يخرج من معركة ليخوض معركة أخرى، إلى أن ألحق الفشل بالفرنجة، وأعادهم خائبين من حيث أتوا. 

وفي سنة (589 هـ/1193 م) كان صلاح الدين في دمشق، يتفقّد أمور الرعية، ويعدّ لخوض معارك جديدة ضد الفرنجة، فخرج يستقبل الحجّاج القادمين من مكة، ثم عاد إلى داره فمرض مرضاً شديداً، وكان في السابعة والخمسين من العمر.

وبعد أيام قليلة، وفي فجر اليوم السابع والعشرين من شهر صفر، الموافق  4 مارس/آذار، وحين انتهى المقرئ من تلاوة قوله تعالى: "لا إله إلا هو عليه توكّلتُ"، توقّف ذلك القلب الكبير عن الخفقان، وكم كان حزن المسلمين عليه شديداً! وخرج أهل دمشق كباراً وصغاراً يشيّعونه إلى قبره بعيون دامعة وقلوب تتفطر حزناً، وما زال قبره ينتصب بشموخ إلى جانب المسجد الأموي بدمشق.

هكذا العظماء!

إن ذكرى صلاح الدين لتخفق في قلب كل محب للقيم السامية، وإن تاريخه الكفاحي ما زال شعلة وقّادة لشعوب شرقي المتوسط، كما أن شهامته وأخلاقه الرحيمة مع أعدائه خير مثال على أن صناعة التاريخ المجيد لا تكون بسفك الدماء، وإنما عبر ممارسة القيم الإنسانية بأبهى الأشكال في أكثر الميادين عنفاً وشراسة.

ولم يكن صلاح الدين عظيماً لأنه كان سلطاناً فقط، وإنما لأنه كان الابن البارّ لشعوب شرقي المتوسط، عرباً وكرداً وتركاً، ومسلمين ومسيحيين، واستطاع بحكمته قيادة هذه الشعوب في واحدة من أخطر المراحل التاريخية، من غير تعصبٍ لقومية، ولا تحيّز لدين، فرسّخ بذلك حقيقة أن التعايش بين مكوّنات البيت الكبير ممكن جداً، وأن قوة شعوب هذه المنطقة إنما تكمن في تآلفها وتكاملها ووحدتها.

وكان صلاح الدين عظيماً لأنه كان الابن البارّ للإنسانية، لم يحمله عداؤه للفرنج على ارتكاب المجازر، وسفك الدماء البريئة، وإنما كان يقاتل بشرف، ويتصرف مع أعدائه بكرم أخلاق، ففي أحيان كثيرة كان يعفو عن الأسرى، وعلم في إحدى المعارك أن فرس خصمه الملك الإنكليزي ريتشار قلب الأسد قد صُرع، فأرسل له في قلب المعركة بجوادين، كما كان يهدي إلى ملوك الفرنجة الفواكه النادرة، ويرسل لهم طبيبه الخاص إذا مرضوا.

ألا بهذه الرؤية الإنسانية تُصنع الأمجاد.

وبهذه القيم الرفيعة يُحاز التقدير والإجلال.                   

 

المصــادر

1-     ألبير شاندور: صلاح الدين الأيوبي البطل الأنقى في الإسلام، ترجمة سعيد أبو الحسن، دار طلاس، دمشق، 1988م.

2-     ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة، بغداد.

3-     أحمد بن إبراهيم الحنبلي: شفاء القلوب في مناقب بني أيوب، مكتبة الثقافة الدينية، مصر، 1996 م.

4-     بهاء الدين بن شدّاد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ط 1، 1964 م.

5-     ابن جبير: رحلة ابن جبير، دار صادر، دار بيروت، بيروت، 1964 م.

6-     جنفياف شوفيل: صلاح الدين بطل الإسلام، ترجمة جورج أبي صالح، دار الأميرة، بيروت، 1992 م.

7-     ابن خلّكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، دار الثقافة، بيروت، 1968 م.

8-     ستانلي لين بول: صلاح الدين وسقوط مملكة القدس، ترجمة فاروق سعد أبو جابر، وكالة الأهرام، القاهرة، 1995 م.

9-     الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1982 م.

10- أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين، تحقيق أحمد البيسومي، وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.

11- الفتح بن علي البنداري: سنا البرق الشامي، تحقيق فتحية النبراوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1979 م.

12- فوشيه الشارتري: الوجود الصليبي في الشرق العربي، ترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط 1، 1993 م.

13- المرتضى الزبيدي: ترويح القلوب في مناقب بني أيوب، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجّد، دمشق، 1969.

14- المقريزي: الخطط، تحقيق الدكتور محمد زينهم، مديحة الشرقاوي، مكتبة مدبولي، 1998 م.

    وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والعشرين.  

              د. أحمد الخليل   في 16 – 8 - 2006   dralkhalil@hotmail.com   

 

 

================================

===============

=====

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الحادية والعشرين )

العلاّمة الموسوعي أبو حنيفة الدِّينَوَري

( ت 282 هـ )

 

ماذا عن دينور ؟

دِينَوَر Dinewer ، هذا هو اسمها المشهور، ويقال لها: (دَيْنَوَر) أيضاً، وتسميها المصادر السريانية (ديِنهور)، وهي من أهم مدن إقليم الجبال في كردستان الشرقية (غربي إيران)، تقع غربي هَمَذان، وشمالي كرمنشاه (قَرْمِيسين) وترتفع عن سطح البحر بنحو خمسة آلاف قدم، وتقع إلى جانب الطرف الشمالي الشرقي لواد خصيب، يرويه نهر (آب دينور). قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان، ج2، ص 616):

" دِينَوَر مدينة من أعمال الجبل، قرب قَرْميسين، ينسب إليها خلق كثير، وبين الدينور وهمذان نيّف وعشرون فرسخاً، ومن الدينور إلى شهرزور أربع مراحـل، والدينور بمقدار ثلثي هَمَذان، وهي كثيرة الثمار والزروع، ولها مياه ومستشرف، وأهلها أجود طبعاً من أهل همذان، ويُنسب إلى الدينور جماعة كثيرة من أهل العلم والأدب، منهم: عبد الله بن محمد بن وهب أبو محمد الدينوري الحافظ، ... روى عنه جعفر بن محمد الفريابي الحافظ ".

وقال ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض، ص 308 - 309) متحدثاً عن مدن (إقليم الجبال):

" ... والدينور فإنها كثلثي هَمَذان، وهي مدينة أيضاً كثيرة الثمار والزروع خصبة، وأهلها أحسن طبعاً من أهل همذان، وفيها مياه ومستشرف [متنزَّه] وإن قلت إها تزيد على همذان من جهة آداب أهلها وتصرفهم في العلم واشتهارهم به صدقت ". 

وكانت دينور في عهد الخليفة عمر بن الخطاب أكبر مدن إقليم همذان عمارة، وقد سلّمها الوالي الفارسي للعرب المسلمين عقب موقعة نهاوند الحاسمة حوالي سنة (21 هـ / 642 م)، وعرفت في عهد معاوية بن أبي سفيان بالاسم الجديد (ماه الكوفة) - كلمة (ماه) فارسية، تعني (قصبة = مقاطعة = ولاية) – لأن الضرائب المتحصلة منها كانت تنفق في مصالح أهل الكوفة عامة، وفي دفع رواتب جنودها خاصة.

وقد ازدهرت دينور في العهدين الأيوبي والعباسي، وسكنها بعض الفرس والعرب، لكن الغالب على أهلها هم الكرد، باعتبارها تقع أصلاً في المنطقة التي ينتشر فيها الكرد صيفاً وشتاء، حسبما ورد في خريطة إقليم الجبال التي رسمها ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض). وكانت قبيلة الشوهجان (الشاهجان) الكردية الرعوية هي الأكثر ارتياداً للأراضي المحيطة بها.

وبما أن دينور مدينة كردية بشكل عام، وتقع في منطقة يسكنها الكرد على الغالب، فقد استقلّ بحكمها الأمير الكردي حسنويه ( ت 369 هـ / 931 م )، واحتفظ بها مدة خمسين سنة، وظلت دينور مدينة عامرة إلى أن راحت ضحية الغزو المغولي في القرن السادس الهجري.

أصله ونشأته 

هو أبو حنيفة أحمد بن داود بن وَنَنْد الدينوري، ولد في العقد الأول من القرن الثالث الهجري بمدينة دينور، وإليها يُنسَب أجداده الأقربون، والحقيقة أن المصادر الإسلامية لم تذكر نسبته إلى الكرد، وإنما نسبته إلى (أسرة فارسية).

وهذا جزء من الحيف الذي وقع على الكرد عامة، وعلى أعلام الكرد خاصة، فقد نُسبوا إلى الفرس تارة، وسمّوا (عجماً) تارة أخرى، لأن الكرد كانوا تابعين للدولة الساسانية الفارسية قبل الإسلام، ووصل العرب الفاتحون إلى كردستان وهي على تلك الحال، فنسب المؤرخون والجغرافيون الشعب الكردي إلى الفرس والعجم، ولا سيما أن السياسات الفارسية المتعاقبة - بدءاً من حكم الأخمين حوالي سنة (550 ق.م)، وانتهاء بالحكم الساساني الذي سقط في القرن السابع الميلادي- حرصت على تغييب الهوية الكردية، وعلى إحلال الهوية الفارسية محلها في المجتمع الكردي.

لكننا نرجح أن أبا حنيفة كردي لأسباب ثلاثة:

-             أولاً: إن دينور كانت تقع جغرافياً في قلب منطقة كانت مصايف ومشاتي للكرد؛ أي أن المنطقة كانت مسكونة بالكرد على الدوام، وهذا واضح في الخريطة التي رسمها ابن حوقل.

-             ثانياً: إن المنطقة التي كانت تقع فيه دينور هي جزء من منطقة غربي إيران حالياً، وتسمى في خريطة دولة إيران المعاصرة باسم (كردستان)، وعاصمتها الحالية هي مدينة كرمنشاه (قَرْميسين قديماً).

-             ثالثاً: وصف اليعقوبي (ت 284 هـ) في كتابه (البلدان، ص 6) بلاد الجبل (إقليم الجبال) بأنها " دار الأكراد "، وتقع دينور في قلب إقليم الجبال.

-             رابعاً:  كانت دينور عاصمة الدولة الحَسْنَوَيْهية الكردية (344 – 406 هـ / 955 – 1015 م)، وكانت منطقة نفوذ هذه الدولة تمتد من نهر الزاب الصغير في كردستان الجنوبية (إقليم كردستان- العراق) غرباً، إلى همذان شرقاً، ومن حدود الأهواز (خوزستان) جنوباً إلى حدود أذربيجان شمالاً، ثم صارت بعدئذ تابعة للدولة العنازية الكردية (406 – 500 هـ / 1015 - 1107 م).

ونخرج مما سبق بالنتيجة الآتية:

إن أبا حنيفة ليس بعربي، وهذا أمر لا جدال فيه.

وبقي أن يكون فارسياً أو كردياً.

وبما أن دينور كانت تقع جغرافياً وديموغرافياً، في قلب منطقة كانت معروفة بأنها " دار الأكراد " حسبما ذكر اليعقوبي، وما زالت كذلك، فأيهما أقرب إلى الصحة: أن يكون أبو حنيفة منسوباً إلى الغالبية العظمى من سكان المنطقة- نقصد الكرد- أم أن يكون من الجالية الفارسية التي كانت تقيم في ينور؟

ثم إن المؤرخ الكردي الأستاذ عبد الرقيب يوسف نص في كتابه (حدود كردستان الجنوبية تاريخياً وجغرافياً خلال خمسة آلاف عام، ص 97)، على أن أبا حنيفة عالم كردي، ونحن نثق بما ينص عليه، فهو باحث محقق، كما أنه يجيد اللغة الفارسية، وخبير بجغرافيا الكرد وتاريخهم في كل من العراق وإيران.

وقد عاش أبو حنيفة معظم حياته في دينور، ودرس فقه اللغة على اللغوي الشهير ابن السِّكِّيت، كما درس معارف كثيرة، وكان متفنّناً في علوم النحو، واللغة، والهندسة، والهيئة، والحساب. وتجمع المصادر أنه كان نحوياً، لغوياً، مهندساً، منجّماً، حاسباً، راوية ثقة، قورن في النبوغ بالجاحظ.

مسيرته الثقافية

قام أبو حنيفة في شبابه برحلات طويلة طلباً للعلم، كما كانت عادة طلبة العلم في عصره، إنه توجّه إلى العراق مركز الحضارة والثقافة والسياسة حينذاك، حيث العلماء والأدباء والمكتبات والمؤسسات الثقافية الأخرى، ثم توجّه إلى المدينة المنوّرة، وانطلق بعدئذ شمالاً نحو فلسطين، كما عاش بعض الوقت في سواحل الخليج العربي.

ويبدو أنه أسس نفسه علمياً وثقافياً بشكل عام خلال زيارته إلى العراق، فقد أخذ العلم عن البصريين والكوفيين، وتتلمذ في فقه اللغة على والد النحوي الكوفي الشهير ابن السِّكِّيت، وعلى ابن السكِّيت نفسه. وانتقل أبو حنيفة إلى أصفهان سنة (235 هـ)، وعاش فيها مدة، واشتغل هناك برصد الكواكب، وتسجيل نتائج الأرصاد التي كان يقوم بها، وقد شاهد الفلكي المشهور عبد الرحمن الصوفي (ت 376 هـ) المنزل الذي كان أبو حنيفة اتخذه موقعاً للدراسات الفلكية.

مكانته العلمية

قال القِفْطي (ت 624 هـ) في كتابه (إنباه الرواة، ج1، ص 76):

" ... وكان متفنناً في علوم كثيرة، منها النحو واللغة والهندسة والهيئة والحساب، ثقة فيما يَرويه ويُمليه، معروفاً بالصدق ".

وقال السيوطي (ت 911 هـ) في (بغية الوعاة، ج1، ص 306):

" كان نحوياً لغوياً مع الهندسة والحساب، راويةً ثقةً ورِعاً زاهداً، أخذ عن البصريين والكوفيين، وأكثر عن ابن السكِّيت. ... وكان من نوادر الرجال، ممن جمع بين آداب العرب وحكمة الفلاسفة ".

وقال الزركلي في (الأعلام، ج1، ص 123):

" جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، وله تصانيف نافعة،... وللمؤرخين ثناء كبير عليه ".

وروى القِفْطي موقفاً يدل على سعة علم أبي حنيفة، وهو الآتي:

ورد أبو العباس المبرِّد (ت 286 هـ) مدينة دينور زائراً لعيسى بن ماهان، فأول ما دخل إليه، وقضى سلامه، دار الحوار الآتي:

-        عيسى: أيها الشيخ، ما الشاة المُجثَّمة التي نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أكل لحمها؟

-         المبرّد: هي الشاة القليلة اللبن مثل اللَّجْبة.

-         عيسى: هل من شاهد؟

-        المبرّد: نعم، قول الراجز:

لم يَبْقَ من آلِ الجُعَيْدِ نَسَمَهْ      إلا عُنَيْزٌ لَجْبـَةٌ مُجَثَّمــهْ

وبينما الحوار دائر بين عيسى والمبرّد إذا بالحاجب يستأذن لأبي حنيفة الدينوري، فأذن له عيسى، فلما دخل سأله عيسى بن ماهان:

-        عيسى: ما الشاة المجثّمة التي نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أكلها؟

-        أبو حنيفة: هي التي جُثِّمت على رُكُباتها، ونُحِرت من قفاها.

-        عيسى: كيف تقول وهذا شيخ العراق- يعني أبا العباس المبرّد- يقول هي مثل اللَّجْبة، وهي القليلة اللبن، وأنشد البيتين [جعلهما بيتين لأنهما من مشطور الرجز].

-        أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة إن كان هذا الشيخ سمع هذا التفسير، وإن كان البيتان إلا لساعتهما هذه.

-        المبرّد: صدق الشيخ أبو حنيفة، أَنِفت أن أرِد عليك من العراق، وذِكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه.

فاستحسن عيسى منه هذا الإقرار وترْك الكذب.

 شهادات أخرى

وحسبنا أن نستشهد بما أورده الأديب الموسوعي أبو حيّان التوحيدي بشأن أبي حنيفة في كتاب للتوحيدي عنوانه (تقريظ الجاحظ)، قال التوحيدي:

 " قلت لأبي محمد الأندلسي – وكان من أصحاب السِّيرافي- قد اختلف أصحابنا، في مجلس أبي سعيد السيرافي، في بلاغة الجاحظ وأبي حنيفة، ووقع الرضا بحكمك، فما قولك؟ فقال: أنا أحقر نفسي عن الحكم لهما أو عليهما. فقال: لا بد من قول. قال: " أبو حنيفة أكثر نداوة، وأبو عثمان أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة [ لصيقة ] بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأعرب، وأدخل في أساليب العرب ".

ثم أضاف التوحيدي قائلاً:

" والذي أقول وأعتقده، وآخذ به، وأُستهام عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر إلا ثلاثة: لو اجتمع الثَّقَلان على تقريظهم ومدحهم، ونشر فضائلهم وأخلاقهم، وعلمهم ومصنّفاتهم ووسائلهم مدى الدنيا، إلى أن يأذن الله بزوالها، ما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم ".

والثلاثة- حسب رأي التوحيدي هم: الجاحظ، وأبو حنيفة، وزيد البَلْخي.

وقال التوحيدي في ذلك:

" والثاني أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة، وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم، ورُواء وحِكم، وهذا كتابه في الأنواء يدل على حظ وافر من علم النجوم وأسرار الفلك، فأما كتابه في النبات فكلامه فيه في عروض كلام أَبَدي بدويّ، وعلى طباع أفصح عربي ".

وقال الأستاذ عبد المنعم عامر، محقق كتاب (الأخبار الطوال) لأبي حنيفة:

 " نعم لقد كان أبو حنيفة الدينوري عالماً بحق في شتى العلوم والمعارف، حَباه الله بعقلية واسعة، استوعبت معارف كثرة، وانفرد بها عن علماء تلك الفترة وما تلاها ممن كان لهم شأن في تاريخ الأدب العربي، وعلوم اللغة، فلقد كان أبو حنيفة عالماً في كثير من فروع العلوم، وكان دائماً مجدداً، وظل مع كل هذا مبدعاً ". 

مؤلفــاته

حظيت مؤلفات أبي حنيفة باهتمام رجال التراجم قديماً وحديثاً، وقد بلغت حوالي عشرين كتاباً، أوردها القفطي في (إنباه الرواة)، وحققها المستشرق فلوجل Flugel، من أبرزها:

كتاب (تفسير القرآن) في ثلاثة عشر مجلداً، وكتاب (الوصايا) في أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية، وكتاب (الشعر والشعراء)، وكتاب (ما تلحن فيه العامة)، وكتاب (إصلاح المنطق)، وكتاب (النبات)، وكتاب (البيان)، وكتاب (رسالة في الطب)، وكتاب (الجبر والمقابلة)، وكتاب (البلدان)، وكتاب (الأنواء) وكتاب (الأخبار الطوال) وهو كتاب تاريخي هام.

وتوفي أبو حنيفة سنة 281، أو 282، وقيل سنة 290 هـ.

 

المصــادر

1-    أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، مكتبة المثنى، بغداد، 1970 م.

2-    ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.

3-      الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.

4-    السيوطي: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1964.

5-    عبد الرقيب يوسف: حدود كردستان الجنوبية تاريخياً وجغرافياً خلال خمسة آلاف عام، دار شفان، السليمانية، إقليم كردستان، الطبعة الأولى، 2005 م.

6-    القِفْطي: إنباه الرواة على أنباه النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1950م.

7-    ياقوت الحموي: معجم الأدباء (إرشاد الأديب إلى معرفة الأريب)، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1993 م.

8-    اليعقوبي: البلدان، ضمن كتاب الأعلاق النفيسة لابن رُسْته، مطبعة بريل، ليدن، 1891 م.

    وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والعشرين.  

              د. أحمد الخليل   في 1 – 8 - 2006   dralkhalil@hotmail.com   

 

================================

===============

=====

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

الحلقة العشرون

الملك نصر الدولة

( ت 453 هـ / 1061 م)

أمر غريب!

لم يكن المجتمع الكردي على الدوام سليل الصمت وأسير الضياع.

ولم يكن على الدوام خارج التاريخ كما يحلو للبعض أن يصوّر.

ولم تكن كردستان على الدوام أرض الجهل والفظاظة كما صوّرها آخرون.

كانت كردستان، كلما سنحت الظروف، موطن العلم والعلماء والمفكرين.

وقامت فيها، على فترات مختلفة، ممالك ودول وإمارات مزدهرة.

وعجيب أمر كثيرين من المؤرخين المحدثين، إنك تجدهم يغربلون التاريخ الإسلامي وينخلونه، ويذكرون تفاصيل إمارات ودول مختلفة قامت هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي القديم، أما الدول والإمارات التي قامت في كردستان فيضربون عنها صفحاً، ولا يشيرون إليها لا من قريب ولا من بعيد.

وها أنا ذا آخذ كتاب (تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي) الجزء الثالث، للمؤرخ القدير الدكتور حسن إبراهيم حسن، فأجده قد قام بمسح سياسي دقيق للعصر العباسي، في الفترة الواقعة بين عامي (232 – 447 هـ / 847 هـ / 1055 م)، وأفرد (الباب الرابع) لذكر (الدول المستقلة)، حسب تسميته هو، وأجده يذكر الدولة الغزنوية في أقصى شرقي العالم الإسلامي، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، في بلاد فارس، والدولة البُوَيهية في بلاد فارس والعراق، والدولة الحَمْدانية في شمالي سوريا، والدولة الطُّولونية في مصر، والدولة الفاطمية في شمالي إفريقيا وفي مصر، ودولة الأغالبة في تونس، ودولة الأدارسة في مراكش، والدولة الأموية في الأندلس.

وأُبدئ النظر في الفهرس وأعيده، فلا أجد شيئاً عن الدول الكردية التي قامت في تلك الفترة، وفيما يلي أسماؤها: الحكومة الرََّواديـة في أذربيجان (230 - 618 هـ)، والحكومة السالارية في أذربيجان (300 - 420 هـ)، والحكومة الحَسْنَويهية البرزيكانية في هَمَذان (330 - 405 هـ)، والحكومة الشَّدّادية في أَرّان (340 - 465 هـ) [ تقع أرّان في جمهورية أذربيجان وجمهورية جورجيا الحاليتين، ومن مدنها نَخْجوان، وتفليس، وقَرَه باغ ]، والدولة الدُّوستكية (المروانية) في كردستان الوسطى (350 - 478 هـ)، والحكومة العَنازية في حُلْوان بجنوبي كردستان (380 - 446 هـ).

وقد يقال: أتقيس هذه الإمارات والدول الكردية بالدولة الغزنوية، والدولة البويهية، والدولة الطولونية، والدولة الفاطمية، والدولة الأموية، وأنت تعلم المساحات الواسعة التي حكمتها تلك الدول، والأحداث الخطيرة التي جرت فيها؟!

وأقول: حسناً، ولماذا لا نقيس تلك الدول الكردية بكل من الدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الحمدانية، ودولة الأغالبة، ودولة الأدارسة؟! هذا مع العلم أنها لم تكن أقل شأناً، ولا أقصر عمراً، من هذه الدول.

أمر غريب حقاً أن تُرى كل (الدول المستقلة) في تاريخ الإسلام.

إلا الدول الكردية، فهي لا تُرى حتى بالميكروسكوب.

ومهما يكن فقد رأينا أن نقف عند سيرة أحد ملوك الكرد.

إنه الملك نصر الدولة أحمد بن مروان.    

عهد التأسيس

وما دمنا بصدد الحديث عن الملك نصر الدولة، فلا بد لنا من رحلة إلى منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، فهو – نصر الدولة – كان ملكاً يقود دولة، وكانت تلك الدولة في البداية إمارة صغيرة، ثم نمت وتطورت، فصارت دولة ذات مكانة، وذلك هو شأن معظم الدول عبر التاريخ، إن لم يكن شأن كلها.

وتسمى هذه الدولة باسم (الدولة المروانية)، وتسمى (الدولة الدوستكية) أيضاً، وقـد نشأت سنة (372 هـ / 982 م)، وظلت قائمـة إلى سنة (478 هـ / 1086 م)، وكانت عاصمتها مدينة فارقِين (مَيّافارقِين)، وشمل نفوذها ولايات: ديار بكر، وماردين، وسِعَرْد (سيرت)، وبَدْليس، وقسماً من ولاية مُوش، إضـافة إلى قضاء أَرْجِيش من ولاية وان، وأجـزاء من ولايات: آلَزِگ ( العـزيز)، وولاية أُورفـا (الرُّهـا)، ونصيين وأطراف الموصل.

ويذكر الفارقي في تاريخه أن اسم مؤسس تلك الدولة باد بن دُوستك الحاربختي، وهو أبو عبد الله الحسين بن دُوسْتِك، والأرجح أن (باد) لقب للرجل، ويعني بالكردية (الريح)، ويسمى (باذ) أيضاً، وكان يمتاز بالحنكة وبرجاحة العقل وكرم الطبع، وقد التفّ حوله  المعجبون به، فهاجم أرجيش، وكانت أول مدينة دانت لسلطانه، وأقام علاقات ودّية مع الملك البويهي عضد الدولة، بل إنه قدّم مساعدات قيّمة للجيش البويهي لكسر شوكة الأمير أبي تغلب الحمداني.

وحينما دخل البويهيون الموصل سنة (368 هـ) جاء أبو شجاع للقاء عضد الدولة، وما إن اجتمع بالملك البويهي حتى فطن إلى أنه لن يبقي عليه، وكان ظنه صائباً؛ وذكر ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ، ج 9، ص 35) أن عضد الدولة قال بعد أن خرج باد من مجلسه: " له بأس وشدة، وفيه شر، لا يجوز الإبقاء على مثله ". وأمر بالقبض عليه، لكن كان أبو شجاع قد غادر المدينة سراً، ولحق بجيشه.

وسرعان ما تعاون البويهيون والحمدانيون للقضاء على أبي شجاع واغتياله، فخابت مساعيهم، ثم هاجم أبو شجاع الموصل، وخاض معركة ضارية ضد بني بويه والحمدانيين وبني عقيل، وجرح في المعركة إثر سقوطه حين قفز من على ظهر فرسه إلى ظهر فرس آخر، ثم قُتل، وكان ذلك سنة (380 هـ / 990 م)، قال ابن الأثير: " وحُملت جثّته إلى الموصل... وصُلّي عليها بالموصل، ودُفنت، ولحق أهل الموصل من الحزن عليه والأسف لقتله ما لا يوصف، وعملوا عليه المآتم والنّدب والبكاء ".

عهد الازدهار

بعد مصرع أبي شجاع تولّى القيـادة ابن أخته الأمير أبو علي حسن بن مروان، وكان شهماً جريئاً، ودارت معارك بينه وبين الحمدانيين جنوباً، وبينه وبين الأرمن شمالاً، هذا إلى جانب صراعه مع الدولة البيزنطية من ناحية الغرب، وكان ينوب عنه في شؤون الحكم سياسي كردي موهوب يدعى مَمْ، قال الفارقي: " وكان شيخاً مقداماً مجرَّباً شهماً من الرجال، قد حنّكته التجارب، وبقي يسوس دولة أبي علي ويدبّرها أحسن تدبير".

واغتيل أبو علي سنة (387 هـ / 997 م)، وتولّى الإمارة من بعده الأمير سعيد بن مروان، ولقبه ممهّد الدولة، وفي عهده نالت الدولة المروانية الاعتراف من قبل القوى السياسية الكبرى حينذاك؛ إذ أرسل الخليفة العباسي القادر بالله وفداً رسمياً لتهنئته، كما اعترف بها كل من الملك البويهي بهاء الدولة في العراق وفارس، والخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في مصر، واجتمع ممهّد الدولة بالإمبراطور البيزنطي باسيل سنة (390 هـ) في المنطقة الحدودية بين الدولتين، واتفقا على التفاهم والتحالف.

واغتيل ممهّـد الدولة حوالي سنة (401 هـ) بمؤامرة دبّرها حاجبه شَيرُوه بن مَمْ، وتعرّض كيان الدولة للخطر، فقد حاول شيروه الاستئثار بالحكم والقضاء على الأسرة المالكة، لكن رؤساء العشائر الكردية وقفوا إلى جانب الأمير نصر الدولة أحمد بن مروان، فتولّى الملك بعده أخيه ممهّد الدولة، وبدأ معه عهد القوة والازدهار في الدولة المروانية.

رجل دولة قدير

 ونصر الدولة هو أعظم ملوك الدولة المروانية، واستمر حكمه من سنة (401 هـ / 1011 م) إلى سنة (453 هـ / 1061 م)، إنه بدأ بتنظيم أمور دولته على قواعد متينة، فعيّن الولاة والموظفين على أساس من الكفاءة والإخلاص، ليعيد إلى الدولة هيبتها، ويوطّد حكمه على دعائم من العدل والمساواة، ويهيّئ لشعبه حياة يسودها الهدوء والاستقرار، وأعاد الأمور إلى نصابها بعد أن تزعزعت بشدة إثر اغتيال سلفه وأخيه ممهّد الدولة.

ولما انتهى نصر الدولة من تنظيم أمور الدولة، وإرسائها على العدل والرخاء، اهتم بتعزيز المكانة السياسية لدولته على الصعيد الإقليمي، وكان حصيفاً في بناء العلاقات الخارجية المتوازنة، فكسب ودّ الدول المجاورة واحترامها، وتجنّب الانضمام إلى التحالفات المتعادية، واستعان بعلاقات المصاهرة لتأمين سلامة بلاده، وتعزيز مركزها السياسي، فتزوّج بالفَضْلونية بنت فَضْلُون بن مَنُوجَهْر الكردي صاحب أرّان وأرمينيا العليا، كما تزوّج بالسيدة بنت شرف الدولة قِرْواش بن المقلّد العقيلي، وبنى لها بجانب القصر دار السيدة والبستان، وأكرمها غاية الإكرام، وتزوّج بنت سنخاريب ملك السناسنة الأرمن، وكانت قبل ذلك زوجة أخيه الأمير أبي علي.

واستطاع بهذا السياسة الحكيمة، وعبر هذه العلاقات المتوازنة، أن يجنّب بلاده كثيراً من الويلات، ويحقق لرعيته الرخاء والهدوء والسلام، رغم أن دولته كانت تقع في منطقة تتقاطع فيها مصالح سياسية إقليمية حادة (العباسيون، البويهيون، الأرمن، البيزنطيون، الحمدانيون، الفاطميون).

وأثمرت سياسته الحكيمة سلاماً ورخاء حقيقيين، فاعترفت الدول الشرق أوسطية الثلاث الكبرى في ذلك العصر بالدولة المروانية؛ وهي الخلافة العباسية، والخلافة الفاطمية، والدولة البيزنطية، ووطّدت علاقة الصداقة معها، وأرسلت كل دولة ممثّلها إلى العاصمة ميّافارقين سنة (403 هـ / 1013 م)، مصحوباً بالهدايا والتحف الثمينة، لإبلاغ الملك المرواني اعترافها بحكومته حسب منطق السياسة آنذاك، وهذا دليل واضح على أمرين اثنين:

·       أولهما حنكة الملك الكردي في بناء علاقات سياسية متوازنة مع دول الجوار المتعادية.

·  ثانيهما الأهمية الإستراتيجية التي كانت تحظى بها الدولة المروانية، وتأثيرها في التوازنات الإقليمية والحسابات العسكرية.

بلاط .. وسفراء

ومن الطريف أن ممثلي هـذه الدول وصلوا إلى العاصمة مَيّافارقين في يوم واحد، ومما زاد في سرور الملك نصر الدولة مصادفة وصول الوفود مع الانتهاء من بناء القصر الملكي، ومـع إطـلالة عيد الأضحى؛ ولندع الفارقي يصف طرفاً من الأحـداث السياسية الهـامة التي ازدانت بها الدولة المروانية:

 " في ذي الحجّة من سنة ثلاث وأربعمـائة…، قبل العيد بثلاثة أيام، وصل خادم [موفد] من خدم الخليفة القادر بالله، ومعه حاجب من سلطان الدولة ابن بويه يسمّى أبا الفرج محمد بن أحمد بن مَزْيَد، ووصل معهما الخُلَع والتشريف والمنشور بديار بكر أجمع من الخليفة والسلطان، ولُقّب بنصر الدولة وعمادها ذي الصَّرامتين ".

" وفي عشيّة ذلك اليوم وصل رسول من خليفة مصر، وهو الحاكم بأمر الله أبو علي منصور، وورد معه من الهدايا والتحف والألطاف شيء كثير، ولقّب نصر الدولة بعزّ الدولة ومجدها ذي الصَّرامتين، فخرج كل من في الدولة إلى لقائه، ودخل البلد. ومن بُكرة ذلك اليوم ورد رسول من ملك الروم باسيل الصقلّي وكان ملك القسطنطينية، فخرج الناس إلى لقائه، ووصل معه من القُود [الجياد الطويلة العنق] والجنائب [النُّوق] والتحف ما لا يوصف ".

 " وكان اليوم الرابع للعيد، وجلس نصر الدولة لهناء العيد على التَّخْت [كرسي الإمارة وحضر رسول الخليفة والسلطان، فجلسوا على اليمين، وحضر رسول مصر، ورسول ملك الروم، فجلسا على الشمال، وحضرت الشعراء والقرّاء، وكان يوماً عظيماً وعيداً مشهوداً، وقرئت المناشير على الناس بحضور الرسل والأمراء، ولبس الأمير الخلع، وخلع على الرسل من الخلع ما لم يمكن أن يكون مثلها ".

ونفهم مما أورده الفارقي أن الدول المجاورة كانت تتعامل مع الدولة الكردية باهتمام، وتقدّر مناخ الأمن والاستقرار والعدالة والغنى الذي ساد في الدولة الكردية، فراحت تخطب ودّها، وتقيم معها أفضل العلاقات، ولا ريب أن السياسة الحكيمة التي رسمها نصر الدولة لدولته كانت سبب ذلك الاهتمام، فقد قامت سياسته على الحياد وعدم التدخل في الصراعات والنزاعات الناشبة في المنطقة، وتجنّب الحروب، والانصراف إلى الشؤون الداخلية، والسهر على مصالح الشعب الذي كان آنذاك أغنى شعب وأسعده في المنطقة؛ هذا إضافة إلى ترسيخ مبدأ التسامح الديني بين الأديان والمذاهب والقوميات.

نشاط حضاري

    عُني نصر الدولة بالكثير من المشاريع العمرانية، منها بناء مدينة النصرية على ضفة نهر باطْمان، وصرف اهتمامه إلى بناء المساجد والجسور وقنوات المياه، والتحصينات الدفاعية، ولا سيما في المناطق المتاخمة للحدود البيزنطية. وقرّر تشييد قصر ملكي فخم في العاصمة ميّافارقين، يدل على أبّهـة الملك، فحشد له المهندسين ورجال العمارة والفن، وأجرى في حيطانه وسقوفه الذهب، وعمل فيه ما لا نظير له، وزوّده بكل أسباب الراحة والعيش الرغيد، واشتمل القصر على قاعات للاجتماعات والاحتفالات، وأجرى إليه قناة الماء من رأس العين، وعمل فيه البرك والحمّام.

ولما ذاعت شهرة نصر الدولة، وتناقلت الألسن أخبار عدالته وجوده، أقبل عدد كبير من الشعراء على بلاطه، وتغنّوا بأمجاد الدولة المروانية، ومدحوا نصر الدولة بالقصائد الرفيعة، وحظوا منه بالهبات والجوائز؛ ومنها القصيدة التي قال فيها أبو الحسن علي بن محمد التهامي:

          إنْ قال: لا، فهي آلاء مضاعفـةٌ    

وإن يقل نَعَماً أفضتْ إلى نِعَــمِ

وكان لنصر الدولة شعراء عديدون يلازمون بلاطه، منهم ابن الظريف الفارقي، وابن السوادي، وابن الفطيري، والشاعر الكبير الأمير حسين بن داود البَشْنَوي، والمَنازي، ولم يكن الشعراء وحدهم هم الذين أعجبوا بنصر الدولة وعهده الزاهر، بل شاطرهم العلماء الشعور ذاته، وكذلك أصحاب الفن، يقول ابن الأثير:

" وكان [نصر الدولة] مقصداً للعلماء من سائر الأفاق، وكثروا ببلاده،... وقصده الشعراء، وأكثروا مدحه، وأجزل جوائزهم ".

رجل السلام

ولم يكن نصر الدولة محباً للحروب، إنه كان حريصاً على الأرواح من الهلاك، وعلى البلاد من الخراب، لذا اختار منهجاً سلمياً في علاقات دولته بالدول المجاورة، وحلّ المشاكل عن طريق التفاوض والتفاهم، قال ابن كثير (البداية والنهاية، ج 12، ص87) في ذلك:

" وكان [نصر الدولة] كثير المهادنة للملوك، إذا قصده عدوّ أرسل إليه بمقدار ما يصالحه به فيرجع عنه ".

وقال ابن الجَوْزي (المنتظم، ج 16، ص 70):

" وكان إذا قصده عـدوّ يقول: كم يلزمني من النفقة على قتال هذا؟ فإذا قالوا: خمسون ألفاً. بعث بهذا المقدار، أو ما يقع عليه الاتفاق، وقال: ادفعوا هذا العدوّ ".

أما على الصعيد الداخلي فقد شهد المؤرخون لنصر الدولة بنشر العدل، وبالعطف على الشعب، فهذا ابن كثير يصف انتشار الأمن والعدل في ربوع الدولة المروانية:

" وكانت بلاده آمن البلاد وأطيبها وأكثرها عدلاً ".

وقال ابن الأثير يشيد بسيرة نصر الدولة في رعيته:

" وسيرته في رعيته أحسن سيرة ".

وقال الفارقي يصف ابتعاد نصر الدولة في حكمه عن الطغيان:

" وعظُم شأن نصر الدولة، وكبُر أمره، وتقرّرت مملكته، وفَعَل الخير، وعَدَل في الناس،… وفَعَل من الخير ما لم يفعله أحد من بيته وأهله ".

وبتحقيق العدل وحسن المعاملة مع الرعية ،وتوفير الأمن، تحقّق الازدهار الاقتصادي، فأصبحت كردستان الوسطى واحة وارفة الظلال، يقصدها التجّار والصنّاع وأهل العلم؛ وهذا ما يؤكده الفارقي بقوله:

" وانعمرت ميافارقين أيام نصر الدولة، وقصدها الناس والتجار وجماعة من كل الأطراف، واستغنى الناس في أيامه، وكانت أحسن الأيام ودولته غير الدول ".

مواقف إنسانية

اشتهرت الدولة المروانية في عهد نصر الدولة بالعطف على الغرباء، وأصبحت ملاذاً آمناً لعدد غير قليل من اللاجئين السياسيين في ذلك العصر، فيهم الملك والأمير والوزير، فكان نصر الدولة يرحّب بهم، ويعطف عليهم، ويبالغ في إكرامهم، ويوفّر لهم العيش اللائق بمكانتهم، لقد لجأ إليه- على سبيل المثال- الملك العزيز البويهي، والوزير أبو القاسم المغربي، والوزير ابن جَهِير الموصلي، وابن خان التركي قال الفارقي في ذلك: " وقصده الناس من كل جانب، وحصل كهفاً لمن التجأ إليه ".

وفي سنة(450 هـ) خرج البَساسِيري التركي (قُتل في 451 هـ) على الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وكان البساسيري من مقدّمي الأتراك ومن مماليك الملك بهـاء الدولة البويهي، وخطب البساسيري للخليفة الفاطمي المستنصر بالله صاحب مصر، فهرب الخليفة القائم من بغداد إلى الحَدِيثة، وضاقت الدنيا بأسرته، فلم تجد أمّ ولي العهد الملاذ إلا في كنف الملك نصر الدولة، قال الفارقي:

" وخرجت السيدة ومعها أبو العبّاس محمد بن القائم - وهو الذخيرة أبو المقتدى- فقصدت السيدة ميّافارقين ومعها الذخيرة صغيراً، وخرج نصر الدولة إلى لقائهم، فأنزلهم واحترمهم وأضافهم، وأنفذهم إلى آمد، وأنزلهم في القصر، وتقدّم بما يحتاجون إليه ".

والطريف أن رعاية هذا الملك لم تقتصر على الناس، بل شملت الحيوانات أيضاً، وبكيفية لم نعهدها من سائر الملوك، فقد بلغه أن الطيور تجوع شتاء لكثرة الثلج، وأن الناس يصطادونها بسبب حاجتها إلى الحب، فأمر بفتح مخازن الحبوب، وإلقاء ما يكفيها من الغلات طوال الشتاء، فكانت الطيور في ضيافته طوال الشتاء مدة عمره.

أعياد.. وأعياد!

ومن تتبع سيرة الملوك المروانيين يجد أن الغالب عليهم هو النزوع إلى إشاعة الرخاء والهدوء والسلم، والشغف بالحياة الرغيدة، وإقبالهم على الترف واللهو، وذكر الفارقي أنه كان لنصر الدولة ثلاثمئة وستّون جارية حظايا، وكان لا تصل نوبة إحداهن في السنة إلا مرة واحدة، وكان في كل ليلة له عروس جديدة، وكان له من المغنيات والرقّاصات وأصحاب سائر الملاهي ما لم يكن لسواه من سائر الملوك والسلاطين، وكان كلما سمع بجارية مليحة أو مغنّية مليحة طلب شراءها، وبالغ في مشتراها، ووزن أضعاف قيمتها.

قال الفارقي يلخّص النعيم الذي عاشه نصر الدولة:

" واستقرّ نصر الدولة في الملك، وملك ما لا يملك أحد مثله، وتنعّم بما لا يتنعّم أحد غيره ".

وقال أيضاً: " وكانت أيامه كالأعياد ".

وقال ابن الأثير في هذا الصدد:

" وتنعّم تنعّماً لم يُسمَع بمثله عن أحد من أهل زمانه ".

ولا نستبعد أن يكون في الأخبار المتعلقة بإقبال نصر الدولة على الملذات شيء من المبالغة، لكن مع ذلك يبدو أنه أسرف في الترف ورغد العيش، وأنفق كثيراً من المال في هذا الباب، في وقت كانت المخاطر تتربّص بدولته، ولا سيما من قبل السلاجقة الذين بسطوا نفوذهم على فارس والعراق، وكانوا يخططون لاحتلال كردستان الوسطى.

إن الأوضاع الإقليمية حينذاك كانت تتطلّب من نصر الدولة أن يشمّر عن ساعد الجد، ويتحلّى بالعزم والحزم، ويهيّئ لدولته من القوة الذاتية ما يجعلها قادرة على مواجهة الأطماع المتربّصة بها؛ فالتوازنات الإقليمية والعلاقات السياسية وحدها غير كفيلة بصيانة استقلال الدول، لأنها عرضة للاختلال في كل وقت، وهذا ما لم يأخذه نصر الدولة بالحِسبان، فشهد في أواخر عهده بأم عينيه كيف بدأ السلاجقة ينهشون دولته مرة بعد مرة.

في ذمة التاريخ

ولم يطل الأمد حتى بدأ السلاجقة بتنفيذ مخطط احتلال كردستان الوسطى؛ وذكر الفارقي أنه في سنة (434 هـ) أرسل السلطان طُغْرُلْبَگ أميرين من أصحابه: أحدهما بُوقا، والآخر ناصغلي، وكانا من كبار الأتراك، ومعهما عشرة آلاف فارس إلى ديار بكر، فأغاروا على البلاد، وأعملوا فيها النهب والسلب، وكان هذا أول ظهور الترك بهذه الديار، ولم يكن الكرد رأوا صورهم قبل ذلك.

 ولم يقر السلطان طغرلبگ عيناً ببقاء الدولة المروانية خارج نفوذه، وذكر ابن الأثير أنه (طغرلبگ) " أرسل إلى نصر الـدولة بن مروان يطلب منه إقامـة الخطبة له في بلاده. فأطـاعه وخطب له في سائر ديار بكر ".

وهكذا خسرت الدولة المروانية استقلالها، وأصبحت تابعة للدولة السلجوقية، ومع ذلك تولّى السلطان السلجوقي طغرلبگ بنفسه الهجوم على الدولة المروانية، واحتل أجزاء منها، حسبما ذكر ابن الأثير في أحداث سنة (448 هـ).

 وقد توفي نصر الدولة سنة (453 هـ)، وكان عمره نيّفاً وثمانين سنة، بعد حكم دام قرابة ثلاث وخمسين سنة، وخلف من الذكور نيفاً وعشرين ولداً، وتلاه في الملك من بعده ولده نظام الدين، ونافسه أخوه الأمير سعيد مستعيناً بالسلاجقة، وظل شأن الدولة المروانية يتناقص، تارة بفعل التناحرات الداخلية، وأخرى بتأثير أطماع السلاجقة، وسقطت العاصمة ميّافارقين بين أيديهم، وزالت الدولة المروانية سنة (478 هـ / 1086 م)، بعد أن عاشت مئة وست سنوات.  

المصــادر

1.     ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م، الجزء التاسع.

2.  ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م، الجزء السادس.

3.     ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري، القاهرة ، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999م.

4.     ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968م، الجزء الأول.

5.     عبد الرقيب يوسف، الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى، مطبعة اللواء، بغداد، الطبعة الأولى، 1972م، الجزء الأول.

6.     الفارقي: تاريخ الفارقي، تحقيق عبد اللطيف عوض، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1959 م.

    وإلى اللقاء في الحلقة الحادية والعشرين.  

   د. أحمد الخليل   في  17 - 7 - 2006    dralkhalil@hotmail.com

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

الحلقة التاسعة عشرة

شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي

 شهيد الفكر

( ت 586 هـ)

سُهْرَوَرْد

سُهْرَوَرْد- وقد تسمى سَهْرَوَرْد أيضاً-  بلدة كردية قريبة من زَنْجان، في شمال غربي إيران، وهي منطقة ميديا القديمة. ذكرها كل من الإصطخري (ت 346 هـ)، وابن حوقل (ت بعد 367 هـ)، وياقوت الحموي (ت حوالي 626 هـ)، وأبو الفداء (ت 732 هـ) ضمن منطقة الجبال، ويشكل شرقي كردستان وجنوبيها حوالي ثلاثة أرباع منطقة الجبال، وتقع سُهْرَوَرْد غربي هذه المنطقة، وشمالي شهرزور، على تخوم إقليم كردستان- العراق مع إيران.

وقد ذكر ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض، ص 314) أن سهرورد تشبه شهرزور من حيث " رغد العيش، وكثرة الرخص، وحسن المكان، وخصب الناحية، بحالة واسعة، وصورة رائعة، وقد غلب عليها الأكراد ".

نشأته وثقافته

اسمه – حسبما ذكره ابن خَلِّكان وضبطه- هو يحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك، وكنيته أبو الفتوح، ولقبه شهاب الدين، ولُقّب بالمقتول، وبالشهيد. وابن خلّكان هو خير من يعرف أسماء الكرد ويضبطها، فهو كردي، وموطنه قريب من موطن السهروردي، ولم يكتف ابن خلّكان بضبط كلمة (أَمِيرَكْ)، وإنما أوضح دلالتها عند الكرد، فهي تصغير لكلمة (أمير)، ذاكراً أن (الكاف) تلحق أواخر الأسماء للتصغير؛ وهذا أمر معروف في اللغة الكردية قديماً وحديثاً، مثل: مصطفى – مِصْطِكْ، خليل- خَلِّك، شيخ – شَيخكْ، وهكذا دواليك.

وقد ولد السهروردي حوالي منتصف القرن السادس الهجري، ويقع تاريخ مولده بين سنتي (545 هـ / 1150 م)، و(550 هـ / 1155 م)، وأمضى سني حياته الأولى في بلدته سهرورد، وهناك تلقّى ثقافته الأولى، سواء أكانت دينية أم فلسفية أم صوفية، ولا توجد معلومات حول تفاصيل مرحلته العلمية الأولى.

ولم يكتف السهروردي بما تلقّاه من العلوم في بلدته سهرورد، وإنما قام برحلات علمية عديدة، مثله في ذلك مثل كثيرين من طلبة العلم في عصره، فكان كثير الترحال من بلد إلى آخر، وكان كلما حل ببلد يبحث عن العلماء والحكماء فيه، فيأخذ عنهم، ويصاحب الصوفية، ويأخذ نفسه بما كانوا يمارسونه من مجاهدات ورياضات روحية، وقد قال في آخر كتابه (المطارحات):

" ها هو ذا قد بلغ سنّي تقريباً ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحص عن مشارِك مطّلع على العلوم، ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا من يؤمن بها، وأكثر العجب من ذلك ".

وقد سافر السهروردي وهو صغير شرقاً إلى مَراغة وإصفهان، وغرباً إلى بلاد الشام وآسيا الصغرى (تركيا حالياً)، ومن أساتذته الأوائل في مراغة مجد الدين الجيلي أستاذ فخر الدين الرازي، وفي إصفهان التقى بتلامذة الفيلسوف الشهير ابن سينا، واطمأن إلى صحبتهم، وأولع بهم، فكانوا أصدقاءه.

واتصل السهروردي بالشيخ فخر الدين المارديني، وكانت بينهما صحبة، ويبدو أثر ذلك في مذهبه المَشّائي، وسافر إلى دياربكر أيضاً، وكان يفضل الإقامة فيها، واتصل بأمير خربوط عماد الدين قَرَه أرسلان، وأهدى إليه كتابه (الألواح العمادية)، ويرى المستشرق ماسينيون أنه أسس مذهبه الإشراقي في بلاط هذا الأمير، واستقر به المقام أخيراً في مدينة حلب، وهناك كانت خاتمته المأساوية.

فكره الفلسفي الإشراقي

اليونان هم الآباء الحقيقيون للفلسفة بمعناها الدقيق، تلك حقيقة لا ريب فيها، وقد جمعت فلسفة سقراط (469 – 399 ق.م) بين المثالية والمادية، في حين طغت المثالية على فلسفة تلميذه أفلاطون (427 – 347 ق.م)، وطغت المادية (المشّائية) على فلسفة أرسطو (384 – 321 ق.م) تلميذ أفلاطون.

وترجع الفلسفة الإشراقية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون، وقد يكون أفلاطون في إشراقيته متأثراً بالزردشتية في عهدها المتأخر، وتتخذ الإشراقية عند أفلاطون صيغة فيض العالم عن العقل الأول (العقل الفعال). أما في صورتها الإسلامية فإنها تعود إلى حكمة المشارقة أهل فارس، وهي تعني (الكشف)، وبعبارة أخرى: الإشراقية الإسلامية تعني الوصول إلى المعرفة الحقيقية عن طريق الذوق والكشف، وليس عن طريق البحث والبرهان العقليين.

قال قطب الدين الشيرازي في مقدمة كتاب (حكمة الإشراق للسهروردي):

 " إنها الحكمة المؤسسة على الإشراق الذي هو الكشف، أو حكمة المشارقة الذين من أهل فارس، وهو أيضاً يرجع إلى الأول، لأن حكمتهم كشفية ذوقية، فنُسبت إلى الإشراق الذي هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفوس عند تجردها، وكان اعتماد الفارسيين في الحكمة على الذوق والكشف، وكذا كان قدماء يونان، خلا أرسطو وشيعته، فإن اعتمادهم كان على البحث والبرهان لا غير ".

ويرى الإشراقيون أن المعرفة لا تقوم على تجريد الصور، كما يقرر المشّاؤون (أتباع فلسفة أرسطو)، بل هي معرفة تقوم على الحدس الذي يربط الذات العارفة بالجواهر النورانية صعوداً كان أم نزولاً.

والسهروردي من كبار مفكري الفلسفة الإشراقية، ولا يعني (الإشراق) هنا الذوق والكشف فقط، وإنما استعمله السهروردي استعمالاً خاصاً فقد ذهب إلى أن "الله نور الأنوار"، ومن نوره خرجت أنوار أخرى هي عماد العالمَين المادي والروحي، وأضاف السهروردي أن (النور الإبداعي الأول) فاض عن (الأول) الذي هو (الله/نور الأنوار)، وتصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طولية سماها (القواهر العالية)، وتصدر عن هذه القواهر أنوار عرضية سماها (أرباب الأنواع)، تدير شؤون العالم الحس. وابتدع السهروردي عاملاً أوسط بين العالمين العقلي (نور الأنوار) والعالم المادي، سماه (عالم البرزخ) و(عالم المُثُل)، وهذا يذكّرنا- ولا ريب - بعالم المُثُل في فلسفة أفلاطون.

ويعدّ السهروردي أول من تصدّى للفلسفة المشائية في القرن السادس الهجري، فقد أعرب في مؤلفاته عن تبرّمه بها، ونزوعه إلى الفلسفة الإشراقية، وهذا يعني أنه كان صوفياً أكثر من كونه فيلسوفاً، على أنه يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا توجد عند غيره، وهو يميّز بين نوعين من الحكمة:

-       الحكمة البحثية: وهي تعتمد على التحليل والتركيب والاستدلال البرهاني، وهي حكمة الفلاسفة.

-  الحكمة الذوقية: وهي ثمرة مجاهدات روحية، ويحياها الإنسان لكنه لا يستطيع التعبير عنها، وهي حكمة الإشراقيين.

ولا يرى السهروردي تعارضاً بين الحكمتين، فالإشراقي الحقيقي هو الذي يتقن الحكمة البحثية، وينفذ في الوقت نفسه إلى أسرار الحكمة الذوقية. ويرى السهروردي أن الفكر الإنساني غير قادر وحده على امتلاك المعرفة التامة، ولا بد أن يستعين بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، كما أن الاختبار الروحي لا يزدهر ويثمر إلا إذا تأسس على العلم والفلسفة.

إن رؤية السهروردي هذه جعلته موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقتصر على شيخ، ولا يتقيد بفلسفة، وقد جمع بين حكمة الفرس واليونان وكهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزردشت وبين فيثاغورس وهرمس.

آثاره الفكرية

إن المصير المأسوي الذي انتهى إليه السهروردي جعل إنتاجه الفلسفي غير معروف بعض الوقت، وخاصة أن خصومه من الفقهاء حاربوا فكره ومنطلقاته الثقافية، لكن تلامذته أخلصوا لفكره، واهتموا بتتبّع أخباره وتدوين إنتاجه العلمي، وقد جاء في المصادر اسم تسعة وأربعين كتاباً له، ما بين منثور ومنظوم، وهذا دليل على غزارة علمه، وسعة أفقه الثقافي، ونذكر فيما يأتي بعضها تلك المؤلفات:

حكمة الإشراق - هياكل النور – التلويحات - واللمحات في الحقائق - الألواح العمادية - المشارع والمطارحات – المناجاة - مقامات الصوفية ومعاني مصطلحاتهم - التعرّف للتصوّف - كشف الغطا لإخوان الصفا - رسالة المعراج - اعتقاد الحكماء - صفير سيمورغ. وبالمناسبة سيمورغ هو طائر سيمرغ الأسطوري في التراث الشعبي الكردي، وكنت أسمع من الجدات والأمهات، وأنا صبي،  قصصاً أسطورية حول هذا الطائر، وكن يسمّينه (سِمْلِق).

وقد قسّم ماسينيون إنتاجه العلمي إلى ثلاثة مراحل:

-       مرحلة الشباب (العهد الإشراقي): الألواح العمادية، وهياكل النور، الرسائل الصوفية.

-       مرحلة العهد المشّائي: التلويحات، اللمحات، المقاومات، المطارحات، المناجاة.

-  مرحلة العهد الأخير: وقد تأثر فيها بالأفلاطونية المحدثة، وبابن سينا، ومن مؤلفاته: حكمة الإشراق، واعتقاد الحكماء، كلمة التصوف.

صراعات حادة!

لم يكن عصر السهروردي (القرن السادس الهجري / الثالث عشر الميلادي) عصر تسامح فكري، إنه كان عصر صراعات سياسية ومذهبية حادة، وكان حلقة من من حلقات الصراعات الممتدة في القرنين الرابع والخامس الهجريين:

-  أما مذهبياً ففي القرن الرابع الهجري كان أبو الحسن الأَشْعَري ( ت 324 هـ) قد انقلب على المعتزلة بعد أن كان منهم، وأعلن الثورة عليهم، وراح يعمل في مذهب الاعتزال هدماً وتدميراً، حاملاً لواء السنّة ضد المذاهب الباطنية والتأويلية، وسرعان ما وجد أتباع (المنقول) الحانقين على (المعقول) بغيتهم في النهج الأشعري، ولا سيما أتباع المذهب الشافعي، فاعتنق كثير من الفقهاء والعلماء الفكر الأشعري، وحمل لواءها بعض مشاهير المفكرين، من أبرزهم أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) الذي عُرف بلقب (حجّة الإسلام)، ربما لأنه حمل حملات شعواء على الفلاسفة، وحسبنا دليلاً على ذلك أن ألف لهذه الغاية كتابين هما (مقاصد الفلاسفة) و (تهافت الفلاسفة)، وعلى العموم كانت ثمة حملة شديدة من الاضطهاد والتعصب تشنّ ضد الفلاسفة والباطنية من إسماعيلية وإمامية وغيرهم من مذاهب الشيعة.

-  وأما سياسياً فكان العالم الإسلامي موزّعاً بين الخلافة العباسية السنية، والخلافة الفاطمية الشيعية، وكان البويهيون الشيعة قد هيمنوا على مقاليد الأمور في إيران وكردستان والعراق (334 – 447 هـ)، وأبقوا على الخلافة العباسية ظاهراً، وتحكّموا في الخلفاء حقيقة، وما إن برز التركمان السلاجقة في الشرق- وكانوا قد اعتنقوا مذهب السنّة- حتى استعان بهم الخلفاء العباسيون للخلاص من البويهيين الشيعة، وهذا ما أنجزه السلاجقة، ووجدت المؤسسة السلجوقية الحاكمة أن الخط الأشعري هو خير سلاح لتحقيق الانتصار الإيديولوجي على البويهيين، بعد تحقيق الانتصار العسكري، كما وجدواه خير سلاح لمقارعة الأيديولوجية الفاطمية منافستهم القوية.

وسلك الزنكيون – وهم تركمان من أتباع السلاجقة – مسلك سادتهم، وضغط آخر سلاطينهم نور الدين زنكي على واليه في مصر صلاح الدين الأيوبي في مصر لإلغاء الخلافة الفاطمية سنة (567 هـ / 1171 م )، واتخاذ المذهب الشافعي بتوجهه الأشعري مذهباً رسمياً للدولة، وكان الأيوبيون الكرد قد تربّوا على الثقافة ذاتها، فكان من الطبيعي أن يكون للمذهب الشافعي بتوجهه الأشعري المقام الأول في أرجاء الدولة الأيوبية.

في حلبة المناظرة

في هذا المناخ الذي التحمت فيه السياسة بالثقافة نُظر بعين الريبة إلى كل دعوة باطنية، توجّساً من أن يستعيد أتباع الفاطميين مواقعهم في العالم الإسلامي، وكان من سوء حظ السهروردي أن حياته ذهبت ضحية هذه الصراعات السياسية بصورة مؤلمة ومأسوية.

لقد توجّه السهروردي إلى حلب، وكانت حينذاك من أهم المدن في شرقي الدولة الأيوبية، إنها كانت تحمي ظهر الدولة من بقايا الزنكيين في مناطق الموصل، ومن سلاجقة الأناضول، وكان هؤلاء يضعون العصي في عجلات الإستراتيجية الأيوبية بين حين وآخر، كما أن حلب كانت مدخل الدولة الأيوبية إلى كردستان، ذلك الخزان الذي كان يستمد منه المقاتلين من أبناء القبائل الكردية في الظروف الحرجة، لذلك كان صلاح الدين قد ولّى عليها - أقصد: حلب - ولده الشاب الملك الظاهر، وأحاطه ببطانة من الفقهاء والعلماء.

وكان من الطبيعي أن يقع التصادم بين السهروردي الفيلسوف الصوفي الإشراقي، بكل ما كان يتصف به من حماس الشباب، واعتداد بالذات، وشجاعة فكرية إلى حد التهور، وبين فريق من العلماء والفقهاء الأشاعرة الذين يعادون الحرية الفكرية، ويتوجسون شراً من عودة الفكر المعتزلي الذي يقدم العقل على النقل، ويحاربون الفلسفة، ويعادون الصوفية، خوفاً مما تشتمل عليه من باطنية، وحذراً من العلاقة بين الباطنية والتشيع؛ سواء أكان فاطمياً أم غير فاطمي.

وكان الملك الظاهر قد أُعجب بالسهروردي، بل أصبح السهروردي من أصدقائه، ونظراً لاشتداد الخلاف بين السهروردي والفقهاء دعاهم الظاهر إلى مناظرة فكرية، وكان من جملة ما دار في المناظرة بين الفقهاء والسهروردي ما يلي:

-       الفقهاء: أنت قلت في تصانيفك إن الله قادر على أن يخلق نبياً. وهذا مستحيل.

-       السهروردي: ما حدا لقدرته؟! أليس القادر إذا أراد شيئاً لا يمتنع عليه؟!

-       الفقهاء: بلى.

-       السهروردي: فالله قادر على كل شيء.

-       الفقهاء: إلا على خلق نبي فإنه مستحيل.

-       السهروردي: فهل يستحيل مطلقاً أم لا؟!

-       الفقهاء: كفرت!

ويبيّن من هذه المناظرة أن السهروردي فرّق بين النقل والعقل، بين (الإمكان التاريخي) و(الإمكان العقلي)؛ فليست هناك استحالة مطلقة تعطل القدرة الإلهية، وليس ثمة اعتراض في الوقت نفسه على صحة النص الديني القاضي بأن النبي محمداً خاتم الأنبياء. أما الفقهاء فقد تمسّكوا بحرفية النص الديني، وأحسب أنهم كانوا أعجز من التحليق في الآفاق الفكرية والفلسفية التي كان السهروردي ينطلق منها.

ثمن الشجاعة

بلى إن الجرأة العلمي كانت طبعاً في السهروردي، وكانت تلك الجرأة تتفاقم فتصل إلى حد التهور أحياناً، وقد أشار الشيخ سديد بن رقيقة إلى تلك الخصلة، فذكر:

" أن شهاب الدين السهروردي كان يتردد إليه في أوقاته، وبينهما صداقة، وكان الشيخ فخر الدين يقول لنا: ما أذكى هذا الشباب وأفصحه، ولم أجد أحداً مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه، لكثرة تهوّره واستهتاره وقلة تحفّظه، أن يكون ذلك سبباً لتلفه ". 

وقال فخر الدين المارديني:

" فلما فارقنا شـهاب الدين السهروردي من الشرق، وتوجّه إلى الشـام، أتى إلى حلب، وناظر بها الفقهـاء، ولم يجاره أحـد، فكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف بن أيوب واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين، ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحَسُن موقعه عند الملك الظاهر، وقرّبه، وصار مكيناً عنـده، مختصاً به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيّروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هـذا فإنه يفسد اعتقاد الملك، وكذلك إن أُطلق فإن يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك ".

وأفاد ابن أبي أُصَيْبعة في (عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص 167):

" أن الشهاب بحث مع الفقهاء في سائر المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلّمهم كلام من هو أعلى قدراً منهم، فتعصّبوا عليه، وأفتوا في دمه، حتى قُتل ".

نهاية مأسوية

وهكذا نرى أن نقمة العلماء والفقهاء على السهروردي لم يكن بسبب الاختلاف الفكري فقط، بل لأنه كشف أمام الملك الظاهر جهلهم أيضاً، ونافسهم على مجالسة الملك وصداقته، وقد علموا- ولا ريب – أن السهروردي إذا تمكّن من قلب الملك فسيخسرون مناصبهم ونفوذهم، فقرروا كما أوضح فخر الدين أن يقضوا عليه ليس فكرياً فقط، وإنما أن يقتلوه جسداً وفكراً.

وكان صلاح الدين أحوج الناس في ذلك الوقت إلى وحدة الصف في دولته المترامية الأطراف، والتي كانت تخوض مواجهة حامية ضد الفرنج غرباً، وصراعاً خفياً ضد الزنكيين في الموصل وأطرافها، وضد السلاجقة في الأناضول، بل أحياناً كانت ثمة خلافات تحت الرماد مع بطانة الخليفة العباسي نفسه في بغداد. وكان الفقهاء والعلماء والمدرسون هم جيشه الضارب في تحقيق تماسك صفه الداخلي، فهم الذين يمسكون الجماهير من خناقها في كل عصر، ويوجّهونها الوجهة التي يريدونها.

وأحسب أن صلاح الدين – وهو السلطان السني الشافعي الأشعري- أخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار، وأرسل إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتاباً بخط القاضي الفاضل يقول فيه: " إن هذا الشاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل أنه يُطلَق، ولا يبقى بوجه من الوجوه ".

إذاً قد حُكم على السهروردي بالموت.

لكن كيف تمّ تنفيذ الحكم؟!

الروايات في هذا الصدد مختلفة.

ولعل أصحها هو ما أورده ابن أبي أُصَيْبعة، إنه قال:

" ولما بلغ الشهاب ذلك، وأيقن أنه يُقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يُترك في مكان منفرد، ويُمنع من الطعام والشراب، إلى أن يلقى الله تعالى. ففُعل به ذلك، وكان في أواخر سنة (586 هـ) بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست ثلاثين سنة ".

وكأنما السهروردي قد تنبّأ بالمصير الذي سيلقاه في قصيدة جاء فيها:

 أبداً تحنّ إليكـــمُ الأرواحُ      ووصـالكمْ رَيحـانُها والراحُ

وقلوبُ أهل وِدادكمْ تشتاقكـمْ     وإلى لذيذ لقــــائكمْ ترتاحُ

وا رحمتا للعاشقـين! تكلّفوا      سترَ المحبّة، والهـوى فضّاحُ

بالسرّ إن باحوا تباحُ دماؤهمْ     وكذا دمـــاءُ العاشقين تُباحُ

-   -    -    -

ألا إنه بقدر ما تعرف تقترب من الحقيقة.

وبقدر ما تقترب من الحقيقة تختلف مع الآخرين.

لا أقصد كل الآخرين، وإنما أقصد الآخرين النمطيين.

أولئك الذي يرتعدون هلعاً من انطلاقات الفكر الحر.

وقد دفع السهروردي حياته ثمناً لأفكاره ولفلسفته.

وليس هذا فحسب، وإنما دفع حياته ثمناً لشجاعته الفكرية.

وصحيح أنه خسر سنوات كان من المحتمل أن يعيشها.

لكنه ربح موقعاً ناصعاً في سجل الخالدين.

 

المصــادر

1.  الدكتور إبراهيم مدكور (مشرف): الكتاب التذكاري شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي في الذكرى المئوية الثامنة لوفاته، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974 م.

2.     الإصطخري: المسالك والممالك، تحقيق محمد جابر عبد العال، دار القلم، 1961 م.

3.     ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.

4.     خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986 م.

5.     السهروردي: اللمحات في الحقائق، تحقيق وتقديم الدكتور محمد علي أبو ريّان، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1988 م.

6.     عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957 م.

7.     الدكتور محمد علي أبو ريّان: أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السهروردي، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1978 م.

8.  الدكتور محمود محمد علي محمد: المنطق الإشراقي عند شهاب الدين السهروردي، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999 م.

    وإلى اللقاء في الحلقة العشرين.  

   د. أحمد الخليل   في  1 - 7 - 2006    dralkhalil@hotmail.com

 

 ===========================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

الحلقة الثامنة عشرة

الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزَّهاوي

( 1863 - 1936 م )

الشعر والفلسفة

الشعر والفلسفة ميدانان متجاوران، وفنّان متكاملان، وما من فيلسوف كبير إلا وله بالشعر اهتمام، وما من شاعر مبدع إلا وله إلى الفلسفة نزوع، كذلك كان الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، والشاعر العربي أبو العلاء المعرّي، وأمير شعراء الكرد قديماً أحمد خاني، والشاعر الهندي طاغور.

وها نحن نقف عند شاعر كردي آخر جمع بين الشعر والفلسفة والعلم، فكان شاعراً وعالماً وفيلسوفاً كما وصفه كراتشوفسكي، بلى، إنه جمع بين الإحساس الجمالي المرهف، والتأمل الفكري العميق، فكان شاعراً أصيلاً بقدر ما كان فيلسوفاً جليلاً، وكان أديباً قديراً بقدر ما كان عالماً فَطِناً، إنه جميل صدقي الزَّهاوي.

فماذا عن حياته ونشأته وثقافته؟

وماذا عن شعره وآرائه الفلسفية واهتماماته العلمية؟!

بل قبل ذلك .. ماذا عن (زَهاو) التي نسب إليها؟

زَهاو في عمق التاريخ

زَهاو ( هكذا ضبطها الزركلي) مدينة كردية قديمة، ذكر ياقوت الحموي أن الفلكي الجغرافي اليوناني الشهير بطليموس (عاش تقريباً بين سنتي 100 – 165 ق.م)، صاحب كتاب المجسطي (ومعناه: المجيد)، أورد اسمها في أحد كتبه، وهي تقع في المنطقة الغربية من كردستان الشرقية التابعة لإيران، بين مدينتي (قصر شيرين) و(كرمنشاه)، بالقرب من الحدود العراقية، وتتبع ولاية (كرمنشاه) الكردية في إيران، وهي تسمّى (زَهاب) و(دَرتَنْك) أيضاً، وكانت تسمى قديماً (ألوان) نسبة إلى نهر (ألوند)، وسماها العرب المسلمون خلال الفتوحات باسم (حُلْوان)، وشاع ذكرها بهذا الاسم في المصادر الإسلامية، سواء أكانت تاريخية أم جغرافية.

وكما هي عادة ياقوت الحمَوي في خلط الحابل بالنابل، وإلباس الحقائق ثوب الخرافات أحياناً، وحرصه - هو وبعض الجغرافيين والمؤرخين المسلمين القدامى – على اتخاذ اللغة العربية قاعدة لتفسير معاني الأسماء، وإرجاع أسماء الأشخاص والأماكن من ثَم إلى أصول عربية، فقد أرجع اسم (حُلْوان) أيضاً إلى أصل عربي، وربطه بشخص يسمى (حُلْوان بن الحاف بن قُضاعة)، فقال:

" ... وحُلوان في عدة مواضع: حلوان العراق، وهي في آخر حدود السواد مما يلي الجبال من بغداد، وقيل: إنها سميت بحُلوان بن عِمران بن الحاف بن قُضاعة، كان بعض الملوك أقطعه إياها، فسمّيت به ".

ثم أضاف ياقوت نقلاً عن جغرافي آخر يدعى أبا زيد:

" ... فإنها مدينة كبيرة عامرة ليس بأرض العراق بعد الكوفة والبصرة وواسط وبغداد وسُرَّ مَن رأى [سامرّاء] أكبر منها، وأكثر ثمارها التين، وهي بقرب الجبل، وليس للعراق مدينة بقرب الجبل غيرها، وربما يسقط بها الثلج، وأما أعلى جبلها فإن الثلج يسقط بها دائماً، وهي وَبِئة رَدِيّة الماء وكبريتيته، ... وبها رمّان ليس في الدنيا مثله، وتينٌ في غاية الجودة، ويسمونه لجودته (شاه أَنْجِير) أي ملك التين، وحواليها عدة عيون كبريتية ينتفع بها من عدة أدواء ".

وقد فتح العرب المسلمون مدينة حلوان (زَهاو) حينما اجتاحوا العراق، وكان سعد بن أبي وقّاص، قائد فتوح العراق، كلّف عبد الله بن جَرِير البَجَلي بفتحها، فحاصرها، وفتحها صلحاً، وكفّ عن أهلها فلم يقتلهم، وآمنهم على ديارهم وأموالهم؛ وكان فتحها سنة (19 هـ) تسع عشرة للهجرة.

وقال ياقوت:

" ويُنسب إلى حُلوان هذه خلق كثير من أهل العلم، منهم: أبو محمد الحسن بن علي الخلاّل الحلواني... روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما، توفي سنة 242 هـ ".

ويبدو أن حلوان (زَهاو) كانت كثيرة الأشجار، طيبة الثمار، تجمع بين ثمار المناطق المعتدلة، وثمار المناطق الحارة، فإضافة إلى الرمان والتين اشتهرت بنخلتين فيها كانتا عاليتين جداً، تُريان من بعيد، وقد أكثر الشعراء من ذكرهما في أشعارهم، وذكر ياقوت أن أول من ذكرهما في شعره هو مُطيع بن إياس اللَّيثي، إذ قال:

أسعداني يا نخلَتَيْ حُلْـوانِ      وابكياني من ريب هذا الزمانِ

ولَعَمْري، لو ذقتما ألمَ الفر      قة أبكاكمــــا الذي أبكاني

(انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 2، ص 335).

نشأته وثقافته

هو جميل صدقي بن محمد فيضي بن الملا أحمد بابان الزَّهاوي، ينتسب إلى قبيلة (بابان) الكردية، في جنوبي كردستان، ولهذه القبيلة شأن كبير في التاريخ الكردي الحديث، إذ قاد أمراؤها أكثر من ثورة كردية ضد الحكم العثماني في بدايات القرن التاسع عشر، ولعل أقدمها هي ثورة قادها عبد الرحمن باشا الباباني بين سنتي (1804 –  1813 م).

واشتهرت أسرة شاعرنا بـ ( بالزَّهاوي ) نسبة إلى مدينة زَهاو (حُلْوان)، وكانت الأسر الكردية الشهيرة تقود الثورات ضد الصفويين تارة، وضد العثمانيين تارة أخرى، ويضطر بعض أبنائها، نتيجة فشل ثوراتهم، للانتقال إلى داخل كردستان من المنطقة الواقعة ضمن النفوذ الصفوي إلى المنطقة الواقعة ضمن النفوذ العثماني، وكان الانتقال بعض الأحيان لأسباب اجتماعية كما هو الأمر بشأن جد الشاعر.

أما والد الشاعر فهو العلامة محمد فيضي مفتي العراق، واسم أمه (فِيرُوز)، وكان جده لأبيه قد هاجر إلى مدينة (زهاو) وتزوج بسيدة زهاوية، ولدت محمد فيضي والد شاعرنا، لذا اشتهر الوالد بلقب (الزهاوي).

وقد ولد الزهاوي – حسبما ذكر هو نفسه - في بغداد سنة ( 1279هـ / 1863م )، وتلقى العلم بداية في الكتاتيب، ثم قرأ على والده مبادئ الصرف والنحو والمنطق والبلاغة، إضافة على ديوان المتنبي، وتفسير البيضاوي، وشرح (المواقف) للنِّفَّري)، كما أن والده كان يتقن الفارسية، ويحب شعر عمر الخيّام والفِرْدَوسي، فأتقن الزهاوي إلى جانب لغته الكردية الأم، اللغة العربية والتركية والفارسية، قراءة وكتابة، وحاول في كبره أن يتعلم الإنكليزية لكن مشاغله الثقافية حالت دون ذلك.

ثم استكمل الزهاوي دراسته في مدارس بغداد وتركيا، ولا سيما العلوم العصرية، وأعجب بالروايات المترجمة إلى العربية والتركية، وتوسع في دراسة الفلسفة، وخاصة حينما كان يعلّمها في الآستانة (إستانبول)، كما أنه توسع في دراسة القانون، عندما عيّنته الحكومة عضواً في محكمة الاستئناف. وقد قال:

 " ولم أَمِل في حياتي كلها إلا إلى الأدب والفلسفة ".

وقال أيضاً:

" لو لم أكن شاعراً أو فيلسوفاً لاخترت أن أكون محامياً ".

وزوّجه أهله، وهو في الخامسة والعشرين، من فتاة اسمها (زكية هانم)، وكانت تركية الأصل فاضلة، فأضفت السعادة على حياته، بما تميّزت به من جمال، ورجاحة عقل، وحسن خلق.

شخصيته وخصاله

اتصف الزهاوي بذكاء لمّاح، فبرع في مجالي الشعر والفكر، واشتهر أمره في العراق، وكبر شأنه بعد سفره إلى الآستانة بدعوة من السلطان، فمر في طريقه بمصر، وتعرف نخبة من مشاهير العلماء والأدباء هناك. وكان شديد التأثر بالجمال، وقد خفق قلبه للحب أكثر من مرة، سواء أكان قبل الزواج أم بعده، كما كان معروفاً بالنشاط في شبابه، قال:

" جوانب الشباب المرحة هي في ركوب الأخطار لنيل الأوطار، وقد كنت في شبابي من أقوى الشبان، وأسرعهم في العَدْو، وأبطئهم في المُكْث تحت الماء إذا تسابقنا فيه، وأكثرهم نشاطاً ".

وقال أيضاً:

" كنت في شبابي زعيماً على أترابي، وكانوا يحترمونني، ويتجنبون مخالفتي، وكنت قوياً في منطقي وعضلاتي وأعصابي، وولعت بركوب الخيل، فكنت أسابق بكرامها غيري من غواتها ".

وقال طه الراوي يصف شخصية الزهاوي:

" كان- رحمه الله – عصبي المزاج، سريع الغضب، سريع الرضا، بعيداً عن الحقد والضغينة، ولوعاً بلفت الأنظار إليه راضية كانت أو غير راضية، كثير التطلع إلى معرفة آراء الناس فيه... وكان شغوفاً بالحرية إلى حد بعيد، ويطالب بإطلاقها إلى الحد الأقصى: حرية التفكير، حرية الاعتقاد، حرية القول، حرية النشر، ... ولشدة ولوعه بالحرية ناضل كثيراً عن حرية المرأة الشرقية، وكان جريئاً في إبداء آرائه، وإن ناقضت آراء الآخرين، وجلبت عليه نقمة المخالفين، وقلما انتصر لرأي ورجع عنه، أو أعلن فكرة وتخلّى عنها ".

" وكان جَلداً على العمل، يطالع كثيراً ويكتب كثيراً، حتى إن الإنسان ليأخذه العجب عندما يرى نشاط فكره، ونتاج قلمه، مع انتكاث بنيته واختلال لصحته، وكان يحفظ لأصحابه حقوق الصحبة، حتى بعد الوفاة،... كان يحب النكتة، ويعشق النادرة، وله في ذلك غرائب وعجائب".

ويحمد للزهاوي أنه:

-       تحدى طغيان السلطان عبد الحميد الثاني في عدد من قصائده، ووقف إلى جانب المناهضين لذلك الطغيان، ورثا من أمر السلطان بإعدامهم.

-       دافع عن العراقيين خاصة، وعن العرب عامة، في (مجلس المبعوثان) العثماني حينما كان عضواً فيه.

-       وقوفه إلى جانب الثوار العراقيين في ثورة (1920 م) ضد الحكم الإنكليزي، رغم استياء المندوب السامي البريطاني.

-       رفضه طلب الملك فيصل أن يكون شاعر البلاط بعد إعلان الحكم الملكي في العراق سنة (1921 م).

وكان الزهـاوي مولعاً بثلاثة أشياء، هي: التدخين الذي كان يسرف فيه بقدر زهده في الطعام. والقراءة والكتابة شعراً ونثراً. والجلوس بمقهى في شارع خالد بن الوليد وسط حلقة من تلاميذه والمتأدبين وجلهم من الشبان، فإذا جلس وبدأ يتحدث فلا يقاطعه أحد، ويظل يروي كثيراً من نوادر الآداب العربية والتركية والفارسية، وغير ذلك من ذكرياته عن الحكم التركي، ونوادر الولاة، كل ذلك محلّى بالنكات الظريفة والفكاهات الأدبية، وبأسلوب فذّ، وإلقاء شائق، وببراعة في التنويع تدعو إلى العجب.

وكان الزهاوي قد أصيب بمرض عضال وهو في الخامسة والعشرين، فتداوى، وما أن نجا من الداء حتى شلّت أصابع رجله اليسرى، وقد أصيب بالفالج وتصلب الشرايين، وأمراض أخر، في أواخر عمره، فلم يكن يستطيع السير وحده طويلاً.  

جواسيس السلطان

 لما حطّ الزهاوي رحاله في الآستانة عاصمة الدولة العثمانية أخذ الجواسيس يتتبّعون خطاه، وعلم السلطان عبد الحميد أن أصحاب الجرائد يترددون عليه، فأوجس منه خيفة، وأراد الزهاوي أن يرجع إلى بغداد، لكن السلطان أمره أن يلتحق بالبعثة الإصلاحية التي كان أوفدها إلى اليمن، فذهب إليها واعظاً عاماً، ورجع بعد سنة إلى الآستانة، فأنعم السلطان عليه بالوسام المجيدي الثالث، وبرتبة البلاد الخمس تقديراً لخدماته، وعاد الجواسيس إلى سيرتهم الأولى بتتبّعه ومراقبته، فضاق بهم ذرعاً، وقال قصيدة يذمّ فيها سياسة السلطان، جاء فيها:

أيأمر ظــلُّ الله في أرضه بما      نهى الله عنه والرسولُ المبجّلُ؟!

فيُفقِر ذا مــال ، ويَنفي مبرَّأً     ويَسجن مظلوماً، ويَسبي ويقـتلُ

تمهّل قليلاً، لا تُغـظ أمــةً إذا     تَحرّكَ فيــها الغيظُ لا تتمهّــلُ

وأيديكَ إن طالت فلا تَغترر بها      فإن يدَ الأيـــام منهـنّ أطولُ

وكانت هذه القصيدة سبباً لسجنه مع الثائر العربي عبد الحميد الزهراوي، والشاعر التركي صفا بگ، ثم نفيه إلى بلاده العراق.

وسافر الزهاوي إلى الآستانة مرة ثالثة في السنة الأولى من الانقلاب العثماني، فعُيّن سنة (1906م) أستاذاً للفلسفة الإسلامية في أكبر مدارسها، ومدرّساً للآداب العربية في فرع الآداب من جامعة ( دار الفنون ).

دفاع عن المرأة 

مرض الزهاوي وهو في الآستانة، فرجع إلى بغداد بعد اشتداد المرض عليه، فعُيّن مدرساً للمجلة في مدرسة الحقوق، وظل يواصل مراسلة مجلات المقتطف والمؤيد بالقصائد والمقالات، وأحدثت رسالته ( المرأة والدفاع عنها ) ضجة كبرى في العالم العربي الإسلامي، فهاج الناس لها وماجوا في بغداد واحتجوا سنة (1908 م) إلى ناظم باشا والي بغداد، يطلبون عزله من وظيفته، وكانت الضجّة التي أحدثها بدعوته هذه شبيهة جداً بتلك التي أحدثها قاسم أمين قبله في مصر.

وهذه ظاهرة جديرة بالتأمل والتحليل.

فلماذا يكون مثقفان كرديان هما أول من نادى بتحرير المرأة في الشرق الإسلامي؟ وتحديداً في وقت كانت فيه هذه الدعوات محرّمة تماماً، وتعرّض صاحبها لكل أنواع الاضطهاد والقدح والتشهير؟!

ونتيجة لهياج الناس أقاله الوالي، واشتد سخط الجمهور عليه، ولا ريب أن بعض القائمين على المؤسسات الدينية، ومن معهم من أعمدة الفكر المتخلف، هم الذين أثاروا الجمهور ضد الشاعر، كما هي عادتهم في ملاحقة كل ذي فكر حر، فاضطر إلى ملازمة داره خوفاً من الاغتيال، ونصره الدكتور شبلي شميّل والأديب وليّ الدين يكن في مقالات نشراها في صحيفة المُقَطَّم المصرية وغيرها، ورد عليه كثير من الشعراء، وأعيد في عهد الوالي جمال باشا إلى تدريس المجلة في مدرسة الحقوق، وأحسب أن المقصود بـ (المجلة) هنا هو الدستور العثماني.

في ميدان السياسة

وخاض الزهاوي ميدان السياسة، فانتخب الزهاوي نائباً عن لواء المنتفق بالعراق، فذهب إلى الآستانة، وأُقفل المجلس بعد أشهر فعاد إلى بغداد، وما لبث أن انتخب نائباً عن بغداد، ودافع في البرلمان عن حقوق العرب في مواقف عديدة، وكان في عهد الاحتلال البريطاني يقيم في بغداد يراقب الأوضاع السياسية.

ثمّ عُيّن عضواً في مجلس الأعيان العراقي، ولعل أفكاره الحرة الجريئة قد أثارت عليه كثيرين من أبناء العراق، وأضرّت به، فلم يُعَد انتخابه لعضوية مجلس الأعيان، ومنذ ذلك اليوم حنق الزهاوي على الحكومة والسياسة، وكان كثيراً ما يعلن سخطه في مجالسه الخاصة.

شعره وآراء النقاد

قال الزهاوي الشعر العربي والفارسي وهــو صبي، وأجاده فيهما بعد أن تخطّى الثلاثين من عمره، وتجلت عبقريته الشعرية بعد أن رجع من الآستانة إلى بغداد منفياً، فإنه طفق ينظم القصائد الشائقة، ويذيعها بتوقيع مستعار في كل من صحيفة المُقتطَف والمُقَطَّم والمؤيَّد بمصر، وظل ينظم الشهر أكثره بموضوع فلسفي أو اجتماعي مستنهضاً به الأمة، يريد إيقاظها من رقدتها، وأحدثت قصائده انقلاباً في الأدب، فدخل في طراز جديد لم يعهد قبله، وأخـذ القراء والأدباء يحذون حـذوه في نظم المعاني المستحدثة، وأبدع الإبداع كله في سنواته الأخيرة.

ويجمع شعر الزهاوي بين التقليد والتجديد، ولا عجب في ذلك، فقد عاش في مرحلة تاريخية كانت تنتمي بجذورها إلى التراث القديم، وتستشرف في الوقت نفسه ما يجود به العصر الحديث من علوم ومعارف جديدة.

والزهاوي فيلسوف بالمعنى القديم للفلسفة، أي حب الحكمة، وقد نهج نهج المعرّي في المزج بين الشعر والفلسفة، وقد قال المعري:

كذب الظنُّ، لا إمامَ سوى العقـ    ـــلِ، مشيراً في صبحه والمساءِ

وقال الزهاوي في المعنى نفسه:

على العقل في كل الأمـور المعوَّلُ     ولولاه لم ينحـلَّ للمرء مُشكِلُ

وما العقلُ في الإنسان إلا ابنُ رأيه      تَولّدَ فيه آخـــراً وهو أوّلُ

وللعقل أنوارٌ بها يهتـــدي الفتى     وأبهِجْ بأنوارٍ لها العقـل يرسلُ

بل صرّح الزهاوي بتقديم (المعقول) على (المنقول)، فقال:

قال: اترك المعقول، لا تعملْ به     حتى يؤيِّد حكــمَه المنقولُ

قلت: اترك المنقول، لا تعمل به     حتى يؤيِّد حكــمَه المعقولُ

ولم يقتصر شعر الزهاوي على الفلسفة، بل نجد فيه كثيراً من الآراء العلمية الحديثة، فها هو ذا يقول، مؤكداً صحة نظرية داروين في النشور والارتقاء:

كلُّ ظنّي أن الحياة على الأر     ض بَدتْ من تفاعل الكيمـياءِ

ولدتْها من الجمـاد، فجاءت      تتخطّى مراتبَ الارتقـــاءِ

ثم إن الحيــوانَ بعد دهور     صار إنسـاناً ماشـياً باستواءِ

وقضت سُنّة الوراثة فــيه      أن تكون الأبنـــاءُ كالآباءِ

وقد أبدى عدد غير قليل من الأدباء والنقاد والدارسين إعجابهم بشعر الزهاوي؛ قال كراتشوفسكي (دائرة المعارف الإسلامية، المجد العاشر، ص 446 – 450 ):

" وأكثر أشعار الزهاوي جيّاش بالقوة والحياة، نظم بلغة سهلة مشرقة، على أن هذه القوة وهذه الحياة لم تحرما هذه الأشعار أن تكون في كثير من الأحيان حافلة بالمشاعر العميقة ".

وقال الأستاذ أحمد حسن الزيات في (وحي الرسالة، مطبعة الرسالة، الطبعة 4 1952، المجلد الأول، ص 366- 375):

" والزهاوي شاعر من شعراء الفكرة، له البصيرة النافذة والفطنة الناقدة، ... وإن الفكرة والفلسفة هي المادة الأصيلة في شعر الزهاوي، وليس الشعر كله فكرة، وإنما هو فضلاً عنها صورة يرسمها الخيال ".

وقال إبراهيم المازني: (صحيفة البلاغ، العدد 4109، 27 فبراير / شباط، 1936، ص 1):

" والحق أن الزهاوي كان أعجوبة، وطراز وحده، وحسبك من أعاجيبه أن ذهنه رياضي أو علمي بفطرته، ولكنه اشتهر بالشعر أكثر مما اشتهر بسواه ".

وكتب طه حسين حينما علم بوفاته:  (صحيفة البلاغ، العدد السابق، ص 1):

" إنني محزون لهذا النبأ الذي نعى إلينا الزهاوي، فلم يكن- رحمه الله- شاعر العربية فحسب، ولا شاعر العراق، بل شاعر مصر وغيرها من الأقطار،... فقد كان مربياً لهذا الجيل الشعري؛ إذ كان شاعر العقل، وكان معري هذا العصر ".

وقد حدث تنافس شديد بين كل من الزهاوي والرصافي، وبطبيعة الحال لا يرقى شعر الزهاوي إلى مستوى شعر الرصافي في الإشراق والجزالة والنصاعة، فكان الناس يعنون بما كان الرصافي ينشده أكثر من اهتمامهم بشعر الزهاوي، فكان الزهاوي ينزعج من ذلك إلى درجة الحسد، فكان يتهم الرصافي بالسرقات الشعرية، وبالأخطاء النحوية والعروضية، وأنه يجهل العلوم العصرية.

كما انتقد الزهاوي (ديوان الشوقيات) عندما صدر سنة (1928 م)، قائلاً:

" لا يخرج شعر شوقي بگ في الأكثر عن أفكار متناقضة، لا صلة لها بالطبيعة والحقيقة ".

مؤلفــاته

للزهاوي مؤلفات كثيرة نثراً وشعراً.

ومن مؤلفاته النثرية:

-       كتاب الكائنات: طبع سنة (1896 م)، وهو كتاب علمي، تناول فيه الزهاوي مفاهيم الزمان والمكان، والقوة والمادة، والحياة والجاذبية، وناموس الارتقاء من الجماد إلى الحيوان.

-                       الخيل وسباقها: نشر سنة (1896 م) تناول فيه صفات الخيل، وإعدادها وتمرينها للسباقات.

-       الجاذبية وتعليلها: طبع سنة (1910 م)، وهو كتاب علمي المضمون كما هو واضح من العنوان، تناول فيه الكاتب العلاقة بين المادة والجاذبية.

-                       رباعيات الخيام: ترجمها عن الفارسية نثراً، ونشرها سنة (1928 م).

-                       رواية ليلى وسمير: ألفها لتمثّّل في بغداد سنة (1927 م).

هذا إضافة إلى عدد من المقالات والأبحاث والمحاضرات، نشرت في عدد من المجلات، ومن تلك المقالات ما هو خاص باللغة العربية وقواعدها، وبعلوم الطبيعة، وبالدفاع عن المرأة، وبالفيزياء. كما أن له مجموعة رسائل ُشرت في (مجلة الكاتب) المصرية، وله مناظرة دارت بينه وبين الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد.

ومن آثاره الشعرية:

-                       الكَلِم المنظوم: نشر سنة (1911 هـ).

-                       رباعيات الزهاوي: نشرت سنة (1824 م).

-                       ديوان الزهاوي: نشر سنة (1924 م).

-                       ثورة الجحيم: قصيدة طويلة عدد أبياتها (433) بيتاً، نشرها سنة (1931 م).

هزيمة بطل!

المثقفون في كل عصر طبقات.

فثمة مثقف هو مجرد جامع للثقافة.

وثمة مثقف هو ناقل للثقافة.

وثمة مثقف هو متمثّل للثقافة.

وثمة مثقف يتمثل الثقافة، ويتخذها أداة للتغيير الشامل.

والحق أن الزهاوي كان ينتمي إلى هذه الفئة الأخيرة من المثقفين، إنه كان صاحب فلسفة في الحياة وفي الوجود بشكل عام، كما أنه كان صاحب رؤية على الصعيد الاجتماعي والوطني، وكان أدبه وفكره ميدانين للتعبير عن فلسفته ورؤيته، وبما أنه كان طامحاً إلى الارتقاء بالمجتمع فقد اضطر إلى خوض معركته ضد فئتين هما اللتان تقفان- على مدار التاريخ- ضد كل تحديث وتجديد؛ أقصد سدنة الثقافات الظلامية المتخلفة، وحرّاس التوجهات السياسية الاستبدادية.

وصحيح أن الزهاوي اضطر إلى التراجع حفاظاً على حياته، بل لعله تجرّع مرارة الهزيمة أيضاً، لكن هزيمته هي هزيمة البطل الذي لم يجبن، وما أكثر الأبطال الذين ناضلوا، لكن هُزموا! ويكفيه أنه قال كلمته الجريئة في أوقات تاريخية صعبة، ولم يستطع أن يعيش أخرس الفكر والقلب واللسان، وانتقل إلى رحمته تعالى ببغداد سنة (1936 م) قرير العين هانيها. 

المصادر

1.           جميل صدقي الزهاوي: ديوانه، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية، 1979 م.

2.           خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة التاسعة، 1990.

3.     الدكتور داود سلوم: أثر الفكر الغربي في الشاعر جميل صدقي الزهاوي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1984 م.

4.           عبد الرزاق الهلالي: الزهاوي الشاعر الفيلسوف والكاتب الفكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1976 م.

5.           عبد الرزاق الهلالي: الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية، وزارة الثقافة والإعلام، العراق، 1982 م. 

6.           هلال ناجي: الديوان المفقود للزهاوي، دار البستاني للنشر والتوزيع، القاهرة، 1999 م.

 

    وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة عشرة.  

   د. أحمد الخليل   في 15 6 - 2006    dralkhalil@hotmail.com

 

 ==========================================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

الحلقة السابعة عشرة

الأسرة التيمـورية

هجرات الكرد

ثمة أسر كردية كثير انطلقت من كردستان خلال فترات مختلفة، وتوجّهت معظمها غرباً، نحو بلاد الشام ومصر، وجنوباً نحو مدن العراق والحجاز، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فوصلت إلى اليمن والسودان جنوباً، وإلى ليبيا وتونس غرباً، بل ربما وصلت إلى الجزائر والمغرب، وعبرت مضيق طارق إلى الأندلس (إسبانيا).

وقد مر بنا في حلقة سابقة أن العبقري الموسيقي ذرياب (زر آب ) Zair Ab، انتقل من الشمال الكردي إلى بغداد، وهاجر منها إلى الأندلس، وكذلك فعل الأديب الناقد أبو علي القالي، والذي أرجّح أنه كردي الأصل، وسأفرد له حلقة مستقبلاً، وذكر المؤرخ العلامة محمد أمين زكي في كتابه (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان) أن ثمة قبيلتين كرديتين هاجرتا إلى المغرب الأقصى (المملكة المغربية) في قرون سابقة، وتشيع في الوسط الجزائري عبارة (ليالي وِلْد الكرد)، ولعل المقصود به: (ليالي الطرب)، وذكر لي الزميل التونسي الأستاذ عُبيد عُمُرّي (محاضر للغة الإنكليزية في جامعة الإمارات) أن في مدينته (قابس) أسر كردية، تعرف بكنية (الكردي).

وكعادتي في تفحّص الأسماء والسِّحَن، كنت أتحدث ذات يوم مع الأخ السوداني الدكتور أحمد سمير خليل (طبيب داخلية في مدينة العين – الإمارات)، فذكرت له أني أرى سحنته غير إفريقية وغير سودانية، وأنه أشبه بسكان غربي آسيا، فذكر أنه من مدينة الخرطوم (عاصمة السودان) وأن أصل أسرته من تركيا، وكنيتها (لاز)، ومعروف أن (اللاز) شعب غير تركي، ويقع موطنه في شمالي تركيا قرب البحر الأسود، وعلمت منه أن زوجته من أسرة كردية في الخرطوم، وكنية الأسرة هي (الكردي).

وعلمت من المصادر التاريخية والدينية أيضاً أن ثمة عدداً من الأسر الكردية أقامت في كل من مكة والمدينة المنوّرة بالحجاز. أما انتشار الأسر الكردية في حواضر كل من سوريا والأردن وفلسطين ولبنان ومصر فهو أشهر من أن تساق الأدلة عليه.

لماذا هاجر الكرد؟!

وأسباب هجرات الكرد من ديارهم إلى البلدان والحواضر المجاورة لبلادهم كردستان عديدة، منها:

1  - كانت بلاد الكرد – وهي جبلية في معظمها – موطناً للقلاقل والاضطرابات والتمردات والثورات على السلطات الحاكمة عبر العصور، ونكتفي بذكر أن جبال (إقليم كردستان – العراق)- وهو جزء مما يسمى بإقليم الجبال في المصادر الإسلامية- كانت مقراً لثورات الخوارج على الخلافة الأموية، وأن ثورة بابك الخُرَّمي الخطيرة على الخلافة العباسية إنما كان مقرها في جبال كردستان، وتلك المنطقة واقعة الآن في شمالي العراق وغربي إيران وشرقي تركيا، فكانت بعض الأسر الكردية تهاجر إلى مواطن أكثر أمناً في البلاد المجاورة.

2  - قيام الكرد أنفسهم بالتمرد إثر التمرد، وبالثورة تلو الثورة، على السلطات، وحينما كانت تلك التمردات والثورات تخفق، كانت السلطات الحاكمة تمارس الانتقام، فكانت الأسر المشاركة في التمردات والثورات تهاجر بعيداً، لتكون بمنجاة من العقاب.

3  - وقوع بلاد الكرد على طريق الغزاة القادمين من وسط آسيا، وكان أولئك الغزاة من العنصر الطوراني (التركي)؛ أقصد الغُزّ (الأُوغوز)، والخُوارزميين بقيادة جلال الدين، والمغول بقيادة هولاگو، والسلاجقة بقيادة طُغْرُل بگ، والتتار بقيادة تيمور لِنگ، والعثمانيين، كان هؤلاء يندفعون نحو مراكز الحضارة في العراق وآسيا الصغرى، والشام ومصر، طمعاً في السلطة والثروات، وبغية احتلال الأرض، وتكوين الدول والإمبراطوريات، وما كانوا يستطيعون تحقيق استراتيجيتهم تلك إلا باجتياز بلاد الكرد، ولم يكن الكرد متساهلين معهم، بل كانوا يتصدون لهم بقوة، وكانت بلادهم تصبح ساحة للحروب والدمار، وكان بعضهم يضطر من ثم إلى الهجرة بحثاً عن العيش والملاذ الآمن.

4  - حرمان بلاد الكرد – في معظم العهود الإسلامية - من مراكز الحضارة ومن المؤسسات الثقافية، فكان الكرد الراغبون في العلم مضطرين إلى التوجه جنوباً نحو العراق، وغرباً نحو الشام ومصر، والاستقرار هناك.

5  - مشاركة الكرد في الحركة الثقافية، وفي الأحداث العسكرية، وخاصة خلال الحروب المعروفة باسم (الحروب الصليبية)، منذ العهد الزنكي، وقد وصلت تلك المشاركة إلى القمة في العهد الأيوبي، واستمرت في العهدين المملوكي والعثماني؛ وكان من الطبيعي أن يحدث الانتشار الكردي في معظم حواضر غربي آسيا بما فيه شبه الجزيرة العربية، وفي مصر والسودان وفي شمالي إفريقيا، وكان الكرد حينذاك إما حكاماً وولاة، وإما ضباطاً وجنوداً، وإما علماء وطبقات إقطاعية، وقد استقر أولئك الكرد المهاجرون في مواطنهم الجديدة، واندمجوا فيها على مر القرون.   

دعوة إلى البحث

وكم يكون مفيداً لو أن الباحثين الكرد المقيمين في المهاجر شمّروا عن سواعد الجِد، وقاموا بالتنقيب في أسماء الأسر العريقة في حواضر البلدان المذكورة! إن هذا التنقيب سيفصح ولا ريب عن حقائق قد تكون مذهلة، منها أن عدداً لا بأس به من الشخصيات الوطنية والسياسية والعسكرية والدينية والثقافية في تلك الحواضر إنما يرجعون إلى أصول كردية، وأنهم كانوا مخلصين لمواطنهم الجديدة تلك، يبذلون في سبيلها الجاه والمال والعمر، ويشاركون بنشاط في معركتي التحرير والتعمير.  

ويمكن لمن يود القيام بهذه المهمة الجليلة أن يستعين بالوسائل الآتية:

-       قراءة المصادر المهتمة بتاريخ الشعب الكردي عامة، وبالقبائل الكردية خاصة.

-       قراءة المصادر الجغرافية القديمة والحديثة التي تذكر مواطن الكرد.  

-       استعراض أسماء الأسر العريقة في كل حاضرة وألقابها.

-  استعراض أسماء الشخصيات المشهورة في كل حاضرة: دينياً، وثقافياً، وسياسياً، وعسكرياً، ووطنياً بشكل عام، والتفرس في ألقابها.

-       مراجعة المؤلفات الخاصة بتاريخ كل حاضرة.

-  مراجعة المؤلفات الخاصة بتاريخ ذلك القطر، ولا سيما المؤلفات التي دُوّنت بدءاً من العصر الأيوبي إلى العصر الحديث.

الجد الأكبر: تيمور

إن هذه جملة من الوسائل والطرائق التي تعين على تحديد هوية كثير من مشاهير الكرد في المهاجر خاصة، وقد وجدتُ فيها فائدة كبرى، وها أنا ذا أقف عند واحدة من الأسر الكردية في المهجر، إنها أسرة كردية استقرت في مصر، وأخلصت لموطنها الجديد، شأنها في ذلك شأن بقية الأسر الكردية في مهاجرها، وكانت لها صولات وجولات في ميادين الفكر والأدب؛ ألا وهي الأسرة التيمورية.

فماذا عنها؟!

إن جدّ الأسرة التيمورية هو محمد كاشف، أصله من كردستان الجنوبية (إقليم كردستان – العراق)، من ولاية الموصل في العهد العثماني، وهو أول من وفد إلى مصر من هذه الأسرة في عهد محمد علي باشا، ويبدو أنه كان أحد قوّاد جيشه الكبار، إذ ساعده في حملته للقضاء على المماليك، وخاصة في (مذبحة القلعة) الشهيرة، وكأنه كان ينتقم للسلطان تَوْران شاه، آخر السلاطين الأيوبيين في مصر، إذ كان المماليك قد غدروا به، وقتلوه أشنع قتلة سنة (648 هـ/ 1250 م).

وترقّى محمد كاشف بعد ذلك في سلّم المناصب الرفيعة، حتى صار والياً على بلاد الحجاز. أما لقبه ( تيمور ) فكلمة تركية الأصل، مصاغة من كلمة ( دَمِرْ ) التركية، وتعني بالعربية ( حديد )، وكان هذا اللقب ُطلق عادة على الرجال الأقوياء والشجعان، وذوي الإرادة الفولاذية. ونتناول في حلقتنا هذه أربعة من مشاهير هذه الأسرة، بحسب سنة الميلاد، وهم:

-       الأديبة والشاعرة عائشة التيمورية.

-       الأديب والمفكر أحمد تيمور باشا.

-       الأديب والقاص محمد تيمور.

-       الأديب والقاص محمود تيمور.

1

الأديبة عائشة التيمورية

( 1840 – 1902 م )

 

عائشة عِصمة التيمورية هي كريمة إسماعيل تيمور باشا، وأخت أحمد تيمور، وهي من نوابغ مصر، ولدت بالقاهرة سنة ( 1840 م)، ونشأت نشأة كريمة في كنف أسرتها العريقة، وشجّعها والدها على انتهاج طريق الأدب، ورتّب لها الأساتذة، لتعليمها العربية والتركية والفارسية، فقرأت دواوين الشعراء، ونظمت الشعر بهذه اللغات الثلاث.

وقد تزوّجت من محمد توفيق بگ الإسلامبولي، وانتقلت معه إلى الآستانة (إستانبول) عاصمة السلطنة العثمانية، ولعله كان من الموظفين الكبار، ورجعت إلى مصر بعد وفاة زوجها، وكان والدها قد سبق زوجها إلى الانتقال للعالم الآخر، فعكفت على الأدب، ونشرت بعض المقالات في الصحف، فعلت شهرتها على الصعيد الثقافي، ومن مؤلفاتها:

- حِلْية الطِّراز ( ديوان شعرها، طبع سنة  1885 م).

- شكوفه (ديوان شعر بالفارسية والتركية طبع سنة 1894 م).

- مرآة التأمل في الأمور (موضوعات اجتماعية نثرية).

-----------------------

2

الأديب والمفكر أحمد تيمور باشا

 ( 1871 – 1930 م )

 

نشـأته وثقافته:

هو أحمد بن إسماعيل بن محمد كاشف تيمور، عالم بالأدب، باحث، ومؤرخ مصري، كردي الأصل، ولد في القاهرة سنة (1871 م)، وهو من بيت فضل ووجاهة، مات أبوه وعمره ثلاثة أشهر، فربّـته أخته عائشة، وسُمّي حين ولد ( أحمد توفيق )، ودُعي  في طفولته بـ ( توفيق )، ثم اقتصروا على تسميته بـ ( أحمد )، واشتهر باسم ( أحمد تيمور ).

وتلّقى أحمد تيمور مبادئ العلوم في مدرسة فرنسية، ثم أخذ العلم على كبار العلماء، أمثال العالم المفّكر الزاهد الشيخ حسن الطويل، إذ جعل مزرعته مستراحاً للشيخ يستجّم فيها كل أسبوع، فيتدارسان أشعار المعلّقات، ويوّضح الشيخ ما يتعسّر على أحمد تيمور من غوامض المنطق والأصول والأدلة العقلية والنقلية، ثم اتصل أحمد تيمور بالعلامة الشيخ محمد عبده، وجعل داره ملتقى لتلاميذه.

شخصيته ومكانته العلمية:

يقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة:

"  كنا نشدو في طلب العلم، وعالمان عظيمان يتردّد اسمهما في مجالس العلم، وأحدهما لا نكاد نلقاه، وهو أحمد تيمور ... والآخر أحمد زكي، وأما أحمد تيمور فإنه كان قد ارتضى ... ألا يكون إلا في الندوات الخاصة، التي لا يحضرها إلا عِلية العلماء ... فقد ظهر اسمه بين أوساطنا يتردّد بالإكبار والتقدير، فتُذكر مكتبته وما حوت، وتُذكر إسلامياته، وتُذكر علاقته بالعلماء، ومدارساته معهم، وانصرافه للعلم الإسلامي، وجمْع كل الآثار التي تناولها بيده، سواء أكانت مخطوطة أم مطبوعة، وتركه المناصب العليا، ليتفرغ لعلم الإسلام، وإحياء مآثر علومه، ونشرها بين الناس في هَدْأة العالم، واطمئنان المتثبّت ".

ويضيف الشيخ أبو زهرة قائلاً :

  " وكانت تنشر له مقالات مسلسلة عن أعلام عصره في إحدى المجلات الأدبية، فكنت ألمح القصص، ودقة الخبر، واتصال السند في لفظ بيّنٍ من السهل والممتنع، لا يعلو عن العامة، ولا ينبو عن آذان الخاصة ".

وكان أحمد تيمور من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وتتسم كتاباته بسمات ثلاث نادراً ما تتوافر في كتابات الأدباء والباحثين:

-       الأولى هي الدقة، فكأن اللفظ قد وضع قدر المعنى، فلا يتسّع لسواها.

-       والثانية الإيجاز من غير إخلال.

-       والثالثة جمال العبارات جمالاً هادئاً.

وذكر الزركلي أن أحمد تيمور كان رضيّ النفس، كريماً، متواضعاً، فيه انقباص عن الناس، توفيت زوجته وهو في التاسعة والعشرين من عمره، فلم يتزوج مخافة أن تسيء الثانية إلى أولاده، وانقطع إلى مكتبته ينـقّب ويؤلّـف، وكانت تضم حوالي / 15000 / خمسة عشر ألف كتاب في قرابة ( 18 ) ألف مجلد، غالبها مخطوط، وجميعها مجلد تجليداً جيداً. وأضاف الزركلي:

" وكانت لي معه – رحمه الله – جلسة في عشية السبت من كل أسبوع، يعرض عليّ فيها ما عنده من مخطوطات، وأحمل ما أختار منها، ثم أردّه في الأسبوع الذي يليه ".  

وقد فجع أحمد تيمور بوفاة ولده الأديب القاص محمد تيمور، فجزع عليه، ولازمته نوبات قلبية انتهت بوفاته في مطلع صيف ( 1930 م)، وأهدى مكتبته الضخمة- وكانت كنزاً تاريخياً وعلمياُ ثميناً-  إلى دار الكتب المصرية في القاهرة.

من مؤلفاته:

لأحمد تيمور ما يزيد على سبعة وعشرين مؤلفاً، أغلبها مطبوع، وبقي قسم منها مخطوطاً، ونذكر من مؤلفاته:

- الآثار النبوية.

- أبو العلاء نسبه وأخباره.

- التصوير عن العرب.

- الحب والجمال عند العرب.

- لهجات العرب.

- ضبط الأعلام.

- السماع والقياس. .

- معجم الفوائد.

- اليزيدية ومنشأ نحلتهم.

- الأمثال العامية.

- معجم تيمور الكبير في الأمثال العامية.

- تراجم المهندسين العرب.

- أعيان القرآن الرابع عشر.

- ذيل طبقات الأطباء.

- نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة.

-----------------------

3

الأديب القاص محمد تيمور

 ( 1892 ـ 1921 م )

 

هو ابن الأديب أحمد تيمور باشا،ولد سنة ( 1892 م)، وترعرع في أحضان الأسرة التيمورية، وهو أديب، ناثر، ناظم، قصصي، نال الشهادة الثانوية في القاهرة، ثم توجه إلى برلين لدراسة الطب، وسافر بعدئذ إلى فرنسا لدراسة القانون، ومكث فيها ثلاث سنوات.

وعاد محمد تيمور إلى مصر، وانضم إلى جمعية التمثيل، ثم عُيّن أميناً للسلطان حسين، وشارك في تأسيس الحزب الديمقراطي، وهو أقل شهرة من أبيه أحمد تيمور باشا، ومن أخيه محمود تيمور، أُولع بالتمثيل، وألّف العديد من الروايات التمثيلية، ومن مؤلفاته:

- وميض الروح.

- حياتنا التمثيلية.

- المسرح المصري.

- الأقاصيص المصرية.

- العصفور في القفص (رواية فكاهية).

- ما تراه العيون (مجموعة قصصية).

وقد عاجلته المنية في القاهرة سنة ( 1921 م).

-----------------------

4

الأديب القاص محمود تيمور

 ( 1894 – 1973 م)

هو محمود بن أحمد تيمور باشا، أحد أركان النهضة الثقافية المصرية، ولد بالقاهرة سنة ( 1894 م ) في بيت وجاهة وعلم وأدب وعراقة، هو بيت آل تيمور، وبعد أن أنجز دراسته الثانوية التحق بمدرسة الزراعة، ثم قصد أوربا، واطلع هناك على الأدب القصصي، وتأثر به، وتـفرغ من ثم لدراسة الأدب والعمل في حقوله.

وقد بدأ محمود تيمور كتابة القصة بالعامية سنة (1919 م)، ثم غيّر لغته القصصية، وأصبح من حملة لواء العربية الفصحى، ودعي إلى مؤتمرات في بيروت وجامعة بيشاور الباكستانية، ودمشق، وأصبح من أعضاء مجمع اللغة العربية سنة (1949 م)، ومن أعضاء المجمع اللغوي العراقي، والمجمع اللغوي المجري، وعضو المجلس الأعلى للفنون والعلوم العامة.

وكتب محمود تيمور كثيراً في القصة والمسرحية والبحث، وتُرجمت بعض قصصه إلى الفرنسية، والإنكليزية، والألمانية، والإيطالية، والروسية، والصينية، والإسبانية، وامتازت قصصه ورواياته ومسرحياته بتحليل العواطف الإنسانية، إذ كان يستلهم أحداثها من الواقع والبيئة، وكان في تصويره بعيد النظر، فجاء أدبه ذا طابع إنساني.

وإنتاج محمود تيمور غزير زاد على خمسين مؤلفاً، مابين قصص ومسرحيات وروايات ومقالات أدبية، وأبحاث لغوية، وصور، وخواطر، وأدب الرحلات، وأثار أدبه إعجاب النقاد العرب والأجانب، قال عنه الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي في العصر الحديث يخاطبه:

" لا أكاد أصدق أن كاتباً مصرياً وصل إلى الجماهير المثقفة وغير المثقفة كما وصلت إليها أنت ".

وقال أيضاً:

" وإنك لتوفّى حقك إذا قيل : إنك أديب عالمي بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها ... وسبقت أنت إلى شيء لا أعرف أن أحداً شاركك فيه في الشرق العربي كله إلى الآن ".

وقال فيه المستشرق المجري جرمانوس:

 " يسمو محمود تيمور عن الكاتب الروائي المجرد إلى مصافّ الفلاسفة الأدباء ومعلمي الثقافات، بما يقدّم من أمثلة إنسانية ترقى إلى أهداف رفيعة ".

وجملة القول لقد استطاع محمود تيمور أن يكون رائد القصة العربية، ولذا عُرف بلقب ( شيخ القصة )، ومن كتبه المطبوعة:

- قال الراوي.

- دنيا جديدة.

- نداء المجهول.

- صقر قريش.

- اليوم خمر.

- النبي الإنسان.

- مشكلات اللغة العربية.

- طلائع المسرح العربي.

- كذب في كذب (مسرحية).

- اتجاهات الأدب العربي في السنين المئة الأخيرة.

وتوفي رحمه الله سنة ( 1973 م ) مصطافاً في لوزان بسويسرا، ودفن في القاهرة.

-----------------------

المصــادر

1-    خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.

2-    عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنى، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957.

    وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة عشرة.  

   د. أحمد الخليل   في 1 – 6 - 2006    dralkhalil@hotmail.com

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

الحلقة السادسة عشرة

أسرة الحافظ العراقي

1

الإمام الحافظ العراقي

( 725 ـ 806 هـ )

نحو الجذور

إربيل أو (إربل) مدينة كردية قديمة، وهي الآن عاصمة إقليم كردستان- العراق (كردستان الجنوبية)، و( رازيان ) أو ( رازنان ) بلدة من أعمال إربيل، وفيها ولد الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي، ثم انتقل وهو صغير إلى مصر مع بعض أقربائه، ولازم هناك الشيخ الشريف تقيّ الدين أحمد بن حجون القناوي الشافعي، وغيره من الصالحين.

والحقيقة أن انتقال بعض مشاهير الكرد من كردستان إلى مصر، أو نبوغهم هناك، ظاهرة واضحة للعيان، والملاحظ أن إقبال الكرد على مصر بهذه الكثافة بدأ منذ العهد الأيوبي (567 – 648 هـ / 1171 - 1250 م)، فقد كانوا عماد القوة العسكرية والطبقة الإدارية في الدولة الأيوبية، وتبوّأ كثير من أفراد النخبة الكردية مواقع قيادية، وكان من الطبيعي أن يستقدم هؤلاء أبناء قبائلهم أو معارفهم من كردستان، ويسندوا إليهم بعض المهام العسكرية والإدارية والعلمية.

ولا يعني انتقال الدولة من الأيوبيين الكرد إلى المماليك الأتراك أفول النفوذ الكردي دفعة واحدة، فقد اعتمد بعض سلاطين المماليك على النخبة الكردية، واستمر وفود بعض الأسر الكردية إلى مصر في العهد العثماني، ولا سيما خلال حكم محمد علي باشا والأسرة الخديوية بشكل عام.

ومن طباع الكرد عامة، والمثقفين منهم خاصة، سرعة التلاؤم مع البيئات الجديدة التي ينتقلون إليها، واندماجهم فيها، وانخراطهم في العمل كمواطنين مخلصين للبلد الذي هاجروا إليه، واستقروا فيه، حتى إن كثيرين منهم ينسون لغتهم، ويبدعون بلغة البلد الذي انتقلوا إليه، وهذا سبب صعوبة تمييز كثيرين من أعلام الكرد.

النشأة والثقافة

وقد تزوج الحسين بن عبد الرحمن في مصر، ورزق بولده عبد الرحيم المشهور بالحافظ العراقي، ولما بلغ عبد الرحيم من العمر ثلاث سنين توفي والده، لكن شاء الله أن يجعل له من العلم نصيبًا وافراً، فكان يحضر إلى الشيخ تقيّ الدين (شيخ والده)، فيبرّه ويكرمه، وحفظ القرآن الكريم وعمره ثماني سنين، واشتغل في العلوم، وكان أول اشتغاله في القراءات والعربية، وربما حفظ في اليوم الواحد أربعمئة سطر، وانهمك في ذلك، فقال له قاضي القضاة عز الدين بن جماعة: إنه علم كثير التعب، قليل الجدوى، وأنت متوقّـد الذهن، فينبغي صرف الهمة إلى غيره. وأشار عليه بالاشتغال في علم الحديث. فأقبل عليه، وقرأه على جملة من أبرز مشاهير شيوخ الحديث في عصره.   

وكان على من أراد الرسوخ في العلم حينذاك القيام برحلة طويلة، يرتاد فيها معظم حواضر العالم الإسلامي، وخاصة في العراق وبلاد الشام ومصر، ويلتقي بكبار العلماء، وينهل من أمهات الكتب، وهذا ما فعله عبد الرحيم، فقد قام بالرحلة في طلب العلم إلى بيت المقدس، ومكة، ودمشق، وبعلبك، وحماة، وحمص، وحلب، وصفد، وطرابلس، وغزة، ونابلس، والتقى بكثير من العلماء، وأخذ عنهم، ومنهم شيخ الإسلام تقيّ الدين السُّبْكي.

وقد أحبّ عبد الرحيم علم الحديث، فانهمك فيه، وصرف أوقاته إليه، حتى غلب عليه، وصار مشهوراً به، فتقدم فيه، وانتهت إليه رئاسته في البلاد الإسلامية، مع المعرفة والإتقان، والحفظ بلا ريب ولا مرية، حتى إنه لم يكن له فيه نظير في عصره، وشهد له بالتفرد فيه عدة من حفّاظ عصره، منهم السُّبكي، والعلائي، وعِزّ الدين بن جماعة، وابن كَثِير، والإسنائي، فكانوا يكثرون من الثناء عليه. واشتهر بين الناس باسم (الحافظ العراقي).

هذا وقد جمع الحافظ العراقي بين العديد من فنون العلم، منها القراءات، والفقه وأصوله، والنحو واللغة والغريب، وكان له ذكاء مفرط، وسرعة حافظة؛ قال القاضي عز الدين بن جماعة: " كل من يـدّعي الحديث في الديار المصرية سواه فهو مدّع ". وكان ابن جماعة نفسه يراجعه فيما يهمه ويشكل عليه.

وقال الحافظ تقيّ الدين بن رافع، وهو بمكة، وقد مرّ به الحافظ العراقي: " ما في القاهرة محدّث إلا هذا والقاضي عز الدين بن جماعة ". وكان الشيخ جمال الدين الإسنائي يحث الناس على الاشتغال عليه، وعلى كتابة مؤلفاته، وكان ينقل عنه في مصنفاته.

الشخصية والمناقب

كان الحافظ العراقي عالمًا جليلاً، ورجلاً فاضلاً، شهد له معاصروه بكثير من الخصال الحميدة والمناقب النبيلة، وننقل بعض ما جاء حول ذلك في كتب التراجم، فقد قيل فيه:

" الإمام الأوحد، العلامة الحجة، الحَبر الناقـد، عمدة الأنام، حافظ الإسلام، فريد دهره، ووحيد عصره، من فاق بالحفظ والإتقان في زمانه، وشهد له بالتفرّد في فنه أئمة عصره وأوانه ".

  وقيل فيه أيضاً:

" كان - رحمه الله تعالى - صالحاً خيّراً، ديّناً ورعاً، عفيفاً صيّناً، متواضعاً حسن النادرة والفكاهة، منجمعاً، ذا أخلاق حسنة، منوّر الشيبة، جميل الصورة، كثير الوقار، قليل الكلام، إلا في محل الضرورة فإنه يكثر الانتصار، تاركاً لما لا يعنيه، طارحاً للتكلف، شديد الاحتراز في الطهارة، بحيث إنه يناله بسببها مشقة شديدة، لا يصدّه عن ذلك مرض ولا غيره ".

كما أن الحافظ العراقي كان:

" شديد التواضع، لا يرى له على أحد فضلاً، كثير الحياء، ليس بينه وبين أحد شَحْـناء، حليماً واسع الصدر، طويل الروح لا يغضب إلا لأمر عظيم، ويزول في الحال، ليس عنده حقد ولا غش ولا حسد لأحد، ولا يواجه أحداً بما يكره ولو آذاه وعاداه، مع صدعه بالحق، وقوة نفسه فيه، لا تأخذه في الله لومة لائم، إذا قام في أمر لا يرده عنه أحد، ولا يقوم شيء دونه، لا يهاب سلطاناً ولا أميراً في قول الحق وإن كان مرّاً، يتشدّد في موضع الشدة، ويلين في موضع اللين ".

ويضاف إلى هذا كله أن الحافظ العراقي كان:

" كثير التلاوة إذا ركب، وافر الحرمة والمهابة، نقيّ العرض، ماشياً على طريقة السلف الصالح من المواظبة على قيام الليل، وصيام الأيام البيض من كل شهر، والستّ من شوال، والجلوس في محلّه بعد صلاة الصبح مع الصمت إلى أن ترتفع الشمس، فيصلّي الضحى، ثم ينصرف إلى الإسماع والإقراء والتدريس والتصنيف ".

من آثاره العلمية

للحافظ العراقي مؤلفات مشهورة في علم الحديث، منها:

-  إخبار الأحياء بأخبار الإحياء، في أربع مجلدات، والمقصود بالإحياء هنا كتاب (إحياء علوم الدين) لأبي حامد الغزالي.

- الكشف المبين عن تخريج إحياء علوم الدين.

- تقريب الأسانيد في ترتيب المسانيد، وهو في الأحكام.

- الألفية المسماة بـ( التبصرة والتذكرة ) في علم الحديث.

- التقييد والإصلاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح.

- النجم الوهّاج في نظم المنهاج، (يعني في الأصول للبيضاوي).

- الدرر السنيّة في نظم السير الزكيّة (ألف بيت).

- الإنصاف، وهو في المرسل من الأحاديث.

وتوفي ـ رحمه الله تعالى ـ بالقاهرة سنة (806 هـ) وله إحدى وثمانون سنة، وكانت جنازته مشهورة.

 
2
الحـافظ ابن العـراقي

( 762 ـ 826 هـ)

إن هذه السيرة المجيدة للعالم الجليل الحافظ العراقي كافية لأن تجعل المرء معجباً به خلقاً وعلماً. بيد أن آثاره لم تقتصر على سلوكه الرفيع ومصنّفاته الدينية المفيدة، بل أنجب عالماً جليلاً وحافظاً كبيراً هو ولده أحمد، وجاء عنه في ( ذيل تذكرة الحفاظ): "الإمام العلامة الفريد الحافظ وليّ الدين أبو زُرْعة ".

وقد نهج وليّ الدين نهج والده في طلب العلم بمصر والشام، والأخذ عن مشاهير علماء عصره، فبرع في الفقه وأصوله، وفي علم المعاني والبيان وفهم العربية، "وظهرت نجابته، واشتهرت نباهته، وأجيز وهو شاب بالإفتاء والتدريس، وصار يزداد فضلاً مع ذكائه وتواضعه، وحسن شكله، وشرف نفسه، وسلامة باطنه، فأقبل عليه الناس، وساد بجميع ذلك في حياة والده، واشتهر بالفضل مع الدين المتين ".

وقال عنه القلقشندي في (صبح الأعشى):

" الشيخ الإمام العالم، الحافظ، ولي الدين، شرف العلماء، أوحد الفضلاء، مفتي المسلمين، أبي زرعه أحمد ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى زين الدين، شيخ الإسلام، قاضي المسلمين، أبي الفضل عبد الرحيم، ابن سيدنا العبد الفقير إلى الله تعالى بدر الدين، شرف العلماء، أوحد الفضلاء، مفتي المسلمين، أبي عبد الله الحسين العراقي الشافعي ".

وترك ابن العراقي العديد من المؤلفات، نذكر منها:

ـ المستـفاد من مبهمات المتن والإسناد.

ـ تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل.

ـ ذيل الكاشف.

ـ تحفة الوارد بترجمة الوالد.

ـ الأربعون الجهادية.

ـ التحرير لما في منهاج الأصول من المنقول والمعقول.

وتوفي - رحمه الله-  سنة (826 هـ).

3
زينب بنت الحـافظ العـراقي

( 792 ـ 865 هـ)

ثمرة أخرى من ثمرات الحافظ العراقي، إنها ابنته زينب. وإنها لتذكّرنا بقول المعتمد بن عبّاد ملك إشبيليا:

شيمُ الأُلى أنا منهــمُ     والأصلُ تتبعــه الفروع

فقد نهجت زينب نهج أبيها وأخيها أحمد، فتلقت العلم على أيدي كبار علماء عصرها، ذكر النجم الغزي في كتابه (الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة)، أنها أخذت العلم عن الشيخ الإمام الأوحد العلامة. الحجة العمدة اللهامة شيخ وقته أمين الدين أبو الجود محمد بن أحمد بن عيسى بن النجار الدمياطي، بمصر. وذكرها السيوطي في كتابه (نظم العقيان في أعيان الأعيان) قائلاً:

" زينب بنت شيخ الإسلام حافظ العصر زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي. ولدت في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة. وسمعت على أبيها والهيثمي وحدّثت، ماتت في سنة خمس وستين وثمانمائة ".

المصــادر

1- حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله): كشف الظنون عن أسامي الكتب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992م.

2 - الحافظ العراقي: أمالي الحافظ العراقي، تحقيق أبو عبد الرحمن محمد بن عبد المنعم بن رشاد، مكتبة السنّة، القاهرة.

3 - الحافظ ابن العراقي: الأطراف بأوهام الأطراف، تحقيق كمال يوسف الحوت، دار الجنان، بيروت، 1986م.

4 - خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.

5 - السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1966م.

6 - الشوكاني: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978م.

7 - ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، 1979م.

    وإلى اللقاء في الحلقة السابعة عشرة.  

   د. أحمد الخليل   في 18 – 5 - 2006    dralkhalil@hotmail.com

 

======================================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

الحلقة الخامسة عشرة

الإمام ابن الصلاح الشَّهْرَزُوري

( 577 – 643  هـ / 1181 – 1245 م )

مدينة شَهْرَزُور

شَهْرَزُور مدينة كردية عريقة، كانت قديماً ذات شأن كبير، ولا سيما في العهد العثماني، حتى إن بعض سلاطين آل عثمان جعلوها مركز ولاية تتبعها معظم مناطق جنوبي كردستان (إقليم كردستان في العراق حالياً)، وكانت تسمى (إيالة شهرزور)، وقد وصفها ياقوت الحموي (ت 626 هـ) في (معجم البلدان، ج 3، ص 425 – 427)، قائلاً:

" هي كُورة [منطقة] واسعة في الجبال بين إربل وهَمَذان، أحدثها زُور بن الضحّاك، ومعنى شهر بالفارسية: المدينة. وأهل هذه النواحي كلهم أكراد ".

ونقل ياقوت، في المصدر نفسه، عن جغرافي اسمه مِسْعر بن مُهلْهِل قوله:

" شهرزور مدينات وقرى فيها مدينة كبيرة، وهي قصبتها، في وقتنا هذا يقال لها: نيم إزراي، وأهلها عصاة على السلطان، قد استطعموا الخلاف واستعذبوا العصيان، والمدينة في صحراء، ولأهلها بطش وشدة، يمنعون أنفسهم ويحمون حوزتهم ".

 ثم أضاف ياقوت قائلاً:

 " وأكثر أمرائهم منهم، وهم موالي عمر بن عبد العزيز، وجرّأهم الأكراد بالغلبة على الأمراء، ومخالفة الخلفاء، وذلك أن بلدهم مشتى ستين ألف بيت من أصناف الأكراد الجلالية والباسيان والحكمية والسولية، ولهم بها مزارع كثيرة، ومن صحاريهم يكون أكثر أقواتهم ".

 وقال ياقوت أيضاً:

" فإن هذه البلاد اليوم [عهد ياقوت] في طاعة مظفَّر الدين كُوكبري بن علي كوجك صاحب إربل على أحسن طاعة، إلا أن الأكراد في جبال تلك النواحي على عادتهم في إخافة أبناء السبيل، وأخذ الأموال والسرقة، ولا ينهاهم عن ذلك زجر، ولا يصدّهم عنه قتلٌ ولا أسر، وهي طبيعة للأكراد معلومة، وسجيّة جباههم بها موسومة، وفي مُلح الأخبار التي تُكسَع [تُمحى] بالاستغفار أن بعض المتطرّفين قرأ قوله تعالى: ( الأكرادُ أشدُّ كفراً ونِفاقاً ) فقيل له: إن الآية: (الأعرابُ أشدّ كفراً ونفاقاً ). فقال: إن الله تعالى لم يسافر إلى شهرزور، فينظر إلى ما هنالك من البلايا المخبّآت في الزوايا ".

أژى دهاك وليس (الضحّاك )

وقد أسرع ياقوت، كعادته وعادة بعض المؤرخين والجغرافيين القدامى، إلى طريقته المتعجلة في تفسير الأمور، وإلى منهجه الذي يفتقر أحياناً كثيرة إلى أدنى درجات العلمية والموضوعية، فزعم أن مدينة شهرزور سميت باسم زور بن الضحاك، وأورد هذه المعلومة على أنها حقيقة تاريخية لا ريب فيها؛ إذ لا نجده استخدم عبارات حذرة مثل (ربما، لعل، قيل، رُوي)، وانطلق في زعمه هذا من نهج مؤسس في جملته على التكلف والتلفيق؛ ألا وهو تعريب الأسماء غير العربية، ثم تفسيرها على ضوء ذلك.

فالشخصية التي سماها (الضحاك)، موحياً بأنه عربي، إنما هو (أزدهاك)، وأورد الدكتور إحسان يار شاطر اسمه في كتابه ( الأساطير الإيرانية القديمة، ص 60) بصيغة (أژى دهاك)، وذكر أنه " عفريت مخيف هائل "، كان هو وعفريت آخر يسمّى خِشْم من أبرز جنود إله الشر أَهْرِمَن، وارتبط ذكر أزدهاك في التاريخ الآرياني الشرقي بعيد (نُورُوژ / نَوْرُوز) الموافق للحادي والعشرين من شهر آذار، رأس السنة الآريانية الشرقية، وقيل: إن ظلم أزدهاك الشديد جعل الآريانيين كرداً وفرساً يثورون عليه بقيادة (كاوا) الحداد، ويقضون على حكمه، ويشعلون النيران فرحاً بالنصر.

وما يهمنا هنا أن أزدهاك عاش قبل الميلاد ببضعة قرون، ويُفهم من الأخبار الواردة حوله أن اسمه الحقيقي (بيوراسب / بيوراسف)، وأن (أزدهاك) لقب مقيت أطلقه عليه خصومه، ولا شأن له بالعرب لا من قريب ولا من بعيد، ولا علاقة من ثم بين شهرزور وتلك الشخصية المختلقة (زور بن الضحاك). ومعروف أن لكلمة ( زُور ) في الكردية معنيين: زُور بمعنى (قوة)، وزُور بمعنى (كَرَم). ومن المحتمل أن تكون الصيغة الأساسية لها هي (ژُور) Jor بمعنى (العالي / الرفيع الشأن)، وبما أنه ليس في اللغة العربية حرف ( ژ )، فقد نُطقت بصيغة ( ز )، ومن المحتمل أن يكون لاسم شهرزور علاقة ما بأحد هذه المعاني.

تشويه صورة الكرد

وأسرع ياقوت أيضاً إلى رمي الكرد عامة بصفات قبيحة، فبعد أن وصف الكرد في مناطق شهرزور بالشر، والفساد، وقطع الطرق، وتخويف عابري السبيل، أصدر حكماً عاماً، وجعل هذه الصفات الرديئة من صفات الكرد في كل المناطق، وعبر كل العصور، قائلا: " وهي طبيعة للأكراد معلومة، وسجية جباههم بها موسومة ".

فهل هذا مما يقول به عاقل، فضلاً عن باحث وجغرافي؟! وهل هناك منطقة جبلية أو صحراوية في العالم تخلو من قطاع الطرق، ولا سيما في المناطق التي ينحسر عنها نفوذ السلطة الحاكمة، ويشيع فيها الفلتان الأمني؟! وهل ثمة شعب يكون كل أفراده من الأخيار أو يكون كل أفراده من الأشرار؟! ثم يعرف كل قارئ للتاريخ الإسلامي أن بعض البدو العرب كانوا يقطعون الطريق على حجاج مكة طوال قرون، بعد أن ضعفت السلطة المركزية، وكانوا يسلبون الحجاج أموالهم، بل كانوا يفتكون بهم أحياناَ، حتى إن السلطات الحاكمة كانت تضطر أن تدفع لهم إتاوات ليكفّوا عن عدوانهم، وكانت تكلّف فرقاً عسكرية بمرافقة الحجاج لحمايتهم ذهاباً وإياباً، فهل من العقل والمنطق في شيء أن نلصق صفات الشر والفساد بكل العرب، وأن يقول قائل: ( وهي طبيعة للعرب معلومة، وسجيّة جباههم بها موسومة )؟!

والحقيقة أن ياقوتاً الحموي يعبّر في أقواله هذه عن رأي الحكام الظلمة في عصره وفي العصور السابقة عليه، فقد كانت جبال كردستان على الدوام موطناً لمعظم الثائرين على الحكومات الاستبدادية، سواء أكان أولئك الثائرون كرداً أم عرباً، وإن ظاهرة لجوء قادة الخوارج (الشُّراة)- وكان معظمهم من القبائل العربية- إلى جبال كردستان أشهر من أن نسوق الأدلة عليها، وكانوا يتوجّهون إلى كردستان لسببين: الأول هو الطبيعة الجبلية الوعرة التي تستعصي على جنود الدولة. والثاني هو نزوع الكرد أنفسهم إلى رفض الاستبداد، والثورة على كل من يمارس الاضطهاد.

والغريب أن ياقوتاً سرعان ما أوقع نفسه في تناقض فاضح، فبعد أن أفرغ ما في جعبته من تحامل على الكرد، وقام بدوره في تشويه صورتهم، نجده يقول:

" وقد خرج من هذه الناحية من الأجلّة والكبراء، والأئمة والعلماء، وأعيان القضاة والفقهاء، ما يفوت الحصر عدّه، ويعجز عن إحصائه النفَس ومدّه، وحسبك بالقضاة بني الشهرزوري جلالةَ قدر، وعِظمَ بيت، وفخامةَ فعل. وذكر الذين ما علمت أن في الإسلام كله وليَ من القضاة أكثر من عدّتهم من بيتهم، وبنو عَصْرُون أيضاً قضاة بالشام، وأعيان من فرق بينهم بين الحلال والحرام منهم، وكثير غيرهم جداً من الفقهاء الشافعية. والمدارس منهم مملوءة ".

فكيف تنجب بيئة اجتماعية كردية تعج بالأشرار والفاسدين والمتوحشين كل هؤلاء " الأجلة والكبراء، والأئمة والعلماء، وأعيان القضاة والفقهاء "؟! وهل من المعقول أن يتحوّل أبناء شعب جُبل على التوحش والفساد – حسب زعم ياقوت - بين عشية وضحاها إلى منارات للعلم والمعرفة؟! إن موقف ياقوت هذا يذكّرنا بقول الشاعر القديم:

وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ      ولكنّ عينَ السوء تُبدي المَساويا

وما يثير العجب أكثر أن ياقوتاً الحموي عاش بين سنتي (574 أو 575 - 626 هـ )، أي أنه كان معاصراً للدولة الأيوبية الكردية، وعندما حقق الأيوبيون النصر على الفرنجة في موقعة حطين الشهيرة سنة (583 هـ)، وحرروا القدس، كان عمره عشر سنوات تقريباً، وبما أنه رجل واسع المعرفة، فلا ريب أنه – بعد أن شبّ - كان على علم بالمواقف البطولية التي حققها الكرد مع أشقائهم العرب والتركمان تحت القيادة الأيوبية، فكيف استطاع الكرد- وهم حسب زعمه أشرار وفاسدون – أن يتصدوا لأضخم الحملات الفرنجية وأشرسها (الحملة الثالثة)؟! وكيف استطاعوا مقارعة أقوى ملوك أوربا حينذاك: إمبراطور ألمانيا، وملك فرنسا، وملك إنكلترا؟!

ومهما يكن فإننا نلمح وراء تحامل ياقوت على الكرد سبباً ما خفياً أو أكثر، حتى إن الرجل يحكم على شعب بأكمله بصفات سيئة، منطلقاً من ممارسات قامت بها شريحة صغيرة، ولن نرجم بالغيب الآن، ولن ننهج نهج ياقوت وأشباهه في إطلاق الأحكام، فالأمر بحاجة إلى بحث وتنقيب دقيقين، ليس فيما يتعلق بتحامل ياقوت على الكرد، وإنما ثمة آخرون نهجوا هذا النهج، ولعلنا نتناول هذا الموضوع بالتفصيل في المستقبل، لنميز الخبيث من الطيب، والأباطيل من الحقائق.

ونعود ثانية إلى شهرزور.

فإليها ينتسب أحد كبار الإئمة والفقهاء.

إنه ابن الصلاح الشهرزوري.

فماذا عنه.

نشأة ابن الصلاح وثقافته

ابن الصلاح هو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي النصر الشهرزوري الكردي الشَّرَخاني، أبو عمر، تقيّ الدين، المعروف بابن الصلاح، أحد الفضلاء المقدّمين في التفسير والحدث والفقه وأسماء الرجال، ولد في شَرَخان قرب شهرزور، ولقب أبيه الصلاح، حفظ القرآن في بلدته وجوّده، وتفقّه على والده الصلاح أبي القاسم عبد الرحمن (نحو 539 – 618 هـ)، وكان والده عالماً، فقيهاً، مفتياً من جلة مشاهير شيوخ الكرد، وشيخ شهرزور في وقته، وكان قد دخل بغداد، واشتغل بها على شرف الدين أبي سعد ابن أبي عصرون، وتفقّه بها، ثم سكن حلب، وتولى فيها تدريس المدرسة الأسدية، وتوفي بها.

وظهرت نجابة ابن الصلاح منذ الصغر، فنقله والده إلى الموصل، فسمع الحديث من ابن السَّمِين أبي جعفر عبيد الله بن أحمد الوراق، وقرأ عليه كتاب (المهذّب) لأبي إسحاق الشيرازي في فقه الشافعي، وهو غض الصبا لم يطرَّ شاربه. ومن شيوخه في الموصل: نصر الله بن سلامة الهيتي المقرئ، وعبد المحسن بن عبد الله المعروف بـ (ابن الطُّوسي)،  ثم لزم شيخه العماد أبا حامد محمد بن يونس الإربلي الموصلي، إمام وقته في المذهب والأصول والخلاف، ومدرّس النظامية، ومصنّف (المحيط) في فروع الشافعية.

وبعد أن أقام ابن الصلاح بالموصل زمناً سافر إلى بغداد وله بضع وعشرون سنة، وسمع الكثير من علمائها، ثم سافر إلى هَمَذان، ونيسابور، ومَرْو في خراسان، وسمع من كبار علمائها، ثم دخل إلى بلاد الشام حوالي سنة (613 هـ)، فسمع من كبار علماء حلب ودمشق، ثم أتي بيت المقدس، فتولى التدريس بالمدرسة الناصرية المنسوبة إلى الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وأقام بها مدة، واشتغل الناس عليه وانتفعوا بعلمه.

ثم انتقل ابن الصلاح إلى دمشق، وتولى التدريس في المدرسة الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله بن عبد الواحد بن رواحة الحموي، ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوب دار الحديث بدمشق فوّض تدريسها إليه، واشتغل الناس عليه بالحديث، ثم تولى التدريس في مدرسة ست الشام زُمُرُّد خاتون بنت أيوب، وهي شقيقة شمس الدولة تَوْران شاه بن أيوب، وأخت صلاح الدين، وكانت تلك المدرسة تقع داخل البلد قبلي البيمارستان النوري، وكان ابن الصلاح في عمله مثالاً للعالم المخلص، شهد له بذلك القاضي ابن خلّكان في (وفيات الأعيان ، ج3، ص 244) قائلاً:

" فكان يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها؛ إلا لعذر ضروري لا بد منه، وكان من العلم والدين على قدم حسن ".

عصر ابن الصلاح

عاش ابن الصلاح كل حياته في العصر الأيوبي (567 – 648 هـ / 1171 / 1250)، وتميّز العصر الأيوبي بأمرين اثنين: استمرار الصراع الإسلامي – الفرنجي، والازدهار العلمي. هذا إضافة إلى الخلافات الداخلية بين مراكز القوى في الصف الإسلامي نفسه. أما على الصعيد السياسي فقد أزاح صلاح الدين الخلافة الفاطمية في مصر وبعض بلدان الشام وشمالي إفريقيا؛ بضغط من الخليفة العباسي في بغداد، ومن السلطان نور الدين زنكي في دمشق، ثم أسس الدولة الأيوبية سنة (567 هـ) بعد وفاة السلطان نور الدين، واستمر في مقارعة الفرنجة، وخاض معهم أعنف الحروب، وتصدى لأضخم الحملات الفرنجية، وانتصر عليهم في معركة حطين، وحرر القدس سنة (583 هـ)، وقصم ظهر الإستراتيجية الفرنجية في شرقي المتوسط بأن أسقط مملكة القدس الفرنجية.

أما على الصعيد العلمي فقد اهتم صلاح الدين ومعظم سلاطين الأيوبيين بتنشيط الحركة العلمية، وبتشجيع العلم والعلماء، إنهم بنوا المدارس، وأنشؤوا المكتبات الضخمة، وشيّدوا المشافي، فازدهرت العلوم بأنواعها النقلية ( القراءات، التفسير، الحديث، الفقه، النحو، اللغة، الأدب)، والعقلية (الطب، الكيمياء، الفلسفة، الرياضيات، التاريخ، الجغرافيا)، ونبغ كثير من الأدباء والعلماء في مختلف ميادين المعرفة.

مكانته العلمية

احتل ابن الصلاح مكانة علمية مرموقة بين علماء عصره، وبرز في علوم التفسير والحديث والفقه؛ إنه جمع في الفقه الشافعي بين طريقي المذهب (الخراساني والعراقي)، وروى في الحديث أمهات الكتب عن كبار مشايخه، وشهد له علماء عصره بغزارة العلم، وعمق النظر، وسعة الاطلاع.

 قال تلميذه المؤرخ القاضي ابن خلكان في (وفيات الأعيان):

" كان أحد فضلاء عصره في التفسير، والحديث، والفقه وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسدّدة، وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم ".

وقال تلميذه الفقيه الحنبلي صفي الدين أبو الصفاء المراغي:

" الشيخ الإمام الفقيه الحافظ ذو الفضائل... أحد الأئمة المشهورين، والعلماء العاملين، والحفاظ المذكورين، جمع بين علوم متعددة: علم الفقه، وعلم أصوله، وعلم الحديث، وعلم العربية، مع ما أوتي من التحرّي والإتقان والتحقيق، مضافاً إلى سلوك طريقة السلف، معظَّماً عند الخاص والعام، ولم أرَ مثله بعد شيخنا الإمام أبي محمد بن قدامة المقدسي ".

ووصفه تاج الدين السبكي في كتابه (طبقات الشافعية) قائلاً:

" ربّ الفوائد والفرائد، ومجمع الغرائب والنوادر، ... أحد أئمة المسلمين علماً وديناً، وكان إماماً كبيراً فقيهاً محدّثاً، زاهداً ورعاً، مفيداً معلماً ".  

وأشاد به الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه (تذكرة الحفّاظ) قائلاً:

" كان ذا جلالة عظيمة، ووقار وهيبة، وفصاحة وعلم نافع، وكان متين الديانة، سلفي الجملة، صحيح النِّحلة، كافاً عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمناً بالله وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البِزّة، وافر الحرمة، معظّماً عند السلطان ".

وقال الحافظ ابن كثير الدمشقي في كتابه (البداية والنهاية):

" هو في عداد الفضلاء الكبار، وكان ديّناً، زاهداً، ورعاً، ناسكاً، على طريقة السلف الصالح كما هو طريقة متأخري أكثر المحدثين، مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة ".

وقال ابن كثير في موضع آخر من كتابه:

" ... يكره طرائق الفلاسفة، ويغضّ منها، ولا يمكّن من قراءتها بالبلد، والملوك تطيعه في ذلك، وله فتاوٍ سديدة وآراء رشيدة، ما عدا فتياه في استحباب صلاة الرغائب ".

تلامذته ومؤلفاته

لابن الصلاح تلامذة نشروا العلم في الحواضر الإسلامية، بدءاً من عصره إلى آخر الربع الأول من القرن السابع. وتفقّه عليه أئمة كبار، نذكر منهم:

- الكمال سَلار بن حسن بن عمر بن سعيد الإربلي (ت 670 هـ).

- أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي (ت 665 هـ).

- الضياء الإسْعَرْدي صالح بن إبراهيم (ت 665 هـ).

- تقي الدين المعروف بابن رَزين، قاضي القضاة بمصر (ت 680 هـ).

- عبد الله بن مروان الفارقي (ت 703 هـ).

- عمر بن أسعد الإربلي (ت 675 هـ).

- محمد بن محمد بن عبد الله الكتامي التلمساني ( ت 727 هـ).

- ابن خلّكان شمس الدين قاضي القضاة (ت 681 هـ).

- الشرف النابلسي المقدسي خطيب دمشق ومفتي الشام (ت 694 هـ).

- محمد بن يوسف بن يعقوب بن عثمان الإربلي (ت 702 هـ).

- محمد بن عَرَبْشاه الهمذاني (ت 77 هـ).

ومن مؤلفاته:

- المقدمة في علوم الحديث.

- شرح صحيح مسلم.

- الأمالي.

- النُكت على المهذب لأبي إسحاق الشيرازي.

- شرح مشكل الوسيط، لأبي حامد الغزالي.

- صلة الناسك في صفة المناسك.

- الفتاوى.

- أدب المفتي والمستفتي.

- طبقات فقهاء الشافعية.

- المنتخب من كتاب المُذهِب في ذكر شيوخ المذهب للمُطوَّعي.

- حلية الإمام الشافعي.

- الرحلة الشرقية (فوائد الرحلة).

-    -    -    -

 وتوفي ابن الصلاح سنة (643 هـ) في دمشق، فازدحم الناس على نعشه، وصُلّي عليه مرتين، ثم شيّعوه إلى مثواه الأخير في مقابر الصوفية. وذكر محيي الدين علي نجيب، محقق كتاب (طبقات الفقهاء الشافعية) لابن الصلاح، أن قبر ابن الصلاح قائم إلى الآن داخل مبنى كلية طب الأسنان خلف مشفى التوليد، بجوار قبري الإمامين ابن تيمية وابن كثير.

المصــادر

1– الدكتور إحسان يار شاطر: الأساطير الإيرانية القديمة، ترجمة محمد صادق نشأت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

2- خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.

3- ابن خلّكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت،  1968.

4- الذهبي (شمس الدين): تذكرة الحفاظ، دار الفكر العربي، 1956.

5 - السبكي (تاج الدين): طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، محمود محمد الطناحي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1964-1979م.

6- ابن الصلاح الشهرزوري:

        - أدب المفتي والمستفتي، دراسة وتحقيق الدكتور موفّق بن عبد الله بن عبد القادر، مكتبة العلم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1986.

        - طبقات الفقهاء الشافعية، حققه وعلق عليه محيي الدين علي نجيب، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992.

7- عبد الرحيم الأسنوي (جمال الدين): طبقات الشافعية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987.

8– ابن كثير: البداية والنهاية، دار ابن كثير، بيروت، 1965.

9- هداية الله الحسيني (أبو بكر): طبقات الشافعية، حققه وعلق عليه عادل أبو نهيض، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1979.

10- ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.

    وإلى اللقاء في الحلقة السادسة عشرة.  

   د. أحمد الخليل   في 4 – 5 - 2006    dralkhalil@hotmail.com

 

==============================

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الرابعة عشرة )

الحاكم المؤرخ ابن أبي الهيجاء

( 620 – 700  هـ / 1223 – 1301 م )

معركة ملازگرد

يقول المثل: " رُبّ رَمْيةٍ من غير رامٍ "!

وكذلك كان شأني مع الحاكم المؤرخ ابن أبي الهيجاء الإرْبِلي.

فالحقيقة أني لم أكن أعرف عن الرجل شيئاً، ولا عن كتابه (تاريخ ابن أبي الهيجاء)، فقد كنت، خلال مطالعاتي في المؤلفات التاريخية، مهتماً بكتابات المشاهير من المؤرخين، من أمثال الطَّبَري والمسعودي وابن الأثير، وابن كَثِير. وشاءت الأقدار أن أحطّ رحلي في دولة الإمارات، والتقيت هناك بصديقي الأستاذ الشيخ محمد الموسى، وهو زميل سابق في الدراسات العليا بجامعة حلب، وذكر أنه يعمل في تحرير (مجلّة منار الإسلام) الصادرة في أبو ظبي، ودعاني إلى الكتابة فيها.

وكنت حينذاك أسعى لتأليف كتاب حول صلاح الدين الأيوبي- وما زال المشروع قائماً- فكنت منهمكاً بجمع المعلومات الخاصة بالعهد الأيوبي، وبالحروب التي دارت بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، والتي سُمّيت في العصر الحديث باسم (الحروب الصليبية)، فكنت أقرأ لمؤرخين مسلمين وأوربيين كثر، لهم مؤلفات رصينة في هذا المجال. ووجدتُني أميل إلى الكتابة في موضوع تلك الحروب، ونشرت لي المجلة حوالي خمس مقالات في هذا المجال، وكان ذلك في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، وكان من جملة تلك المقالات مقالة بعنوان (منازگرد ملحمة البطولة والإيمان) فيما أذكر.

ولمدينة منازگرد أسماء عديدة في المصادر الإسلامية، فهي تسمى منازگرت وملازگرد وملازجرت أيضاً، وتقع شمالي بحيرة وان، وقد دارت قربها معركة  كبرى بين السلطان السلجوقي أَلْب أرسلان والملك البيزنطي أرمانوس سنة (463 هـ / 1071 م)، وجاء في المقالة أن ألب أرسلان كان قد سرّح أغلب جيشه للاستراحة، ولم يبق معه سوى أربعة آلاف فارس، وقد باغته أرمانوس بالهجوم، فانضم إليه عشرة آلاف مقاتل كردي من أبناء المنطقة، وحقق ألب أرسلان النصر، ووقع أرمانوس في الأسر، وأصبحت أبواب آسيا الصغرى مفتوحة أمام السلاجقة، وكانت الحروب الصليبية من أهم تداعيات تلك المعركة، فقد استنجدت الكنيسة الأرثوذكسية في القسطنطينية بالكنيسة الكاثوليكية في روما، وبالعالم المسيحي الأوربي، وبدأ الإعداد للحملة الصليبية الأولى سنة (1095 م)، ونُفّذت فعلياً سنة (1096 م).

والملاحظ أن معظم المؤرخين الذين كتبوا عن الحروب الصليببية، في العصر الحديث، يكتفون بذكر أن أوربا شنت حرباً صليبية على شعوب شرقي المتوسط، رغبة في استعادة القدس، وطمعاً في البلاد الإسلامية، ولا يشيرون إلى أن تهديد التركمان السلاجقة للدولة البيزنطية، وغزوهم للأناضول بعد معركة منازگرد، كان العامل الأول والأهم في أن تستنفر أوربا كنيسةً وملوكاً وشعوباً، وأن تندلع تلك الحروب الضارية، وتستمر حوالي قرنين من الزمان.

أتراك الجبال!

وبعد حوالي شهر تقريباً من نشر المقالة وصلتني رسالة من إدارة تحرير المجلة، تطلب مني الاطلاع على رسالة مرفقة أخرى، أرسلها إلى المجلة باحث تركي يعدّ رسالة الماجستير في التاريخ، ويعمل في ملحقية ثقافية تركية بمصر، واطلعت على رسالة الباحث، وكانت في ثلاث صفحات تقريباً، وبدا الأخ الباحث في رسالته حريصاً على التشكيك في المعلومات التي سقتها، كما أنه كان ممتعضاً من اسم ملازگرد، ومن ذكر اسم الكرد، وأنهم سكان تلك المنطقة، وكان ممتعضاً أكثر من أن يكون للفرسان الكرد دور في تحقيق النصر في معركة ملازگرد، والحجّة التي ساقها هي أنه من غير المعقول أن يكون ثمة عشرة آلاف مقاتل كردي في جيش ألب أرسلان، متسائلاً: كيف يكون جيشه من الكرد وهو سلطان تركي؟

ثم أنهى الأخ الباحث رسالته بما خلاصته أن الترك والكرد إخوة، وأنه لا داعي إلى ذكر هذه المعلومات في هذه الأوقات، فهي – حسب رأيه- تزعزع الصف الإسلامي، ولم يتردد، مثل سائر الهاربين من الحقائق، في أن يربط الموضوع جملة وتفصيلاً بالمستشرقين ومحاولاتهم زرع الخصومات بين المسلمين، وألحّ على إدارة المجلة أنه يريد الجواب؛ إما عبر رسالة، وإما نشراً على صفحات المجلة.

والغريب في الأمر أني كنت قد ذكرت في آخر المقالة أهم المصادر التاريخية التي استقيت منها المعلومات، كما هو شأني حينما أتناول القضايا التاريخية، لكن الأخ الباحث لم يكلّف نفسه عناء العودة إلى بعضها على الأقل، للتأكد من صحة المعلومات أو عدم صحتها، قبل أن يطالبني ويطالب المجلة بالجواب. والأغرب من هذا أنه- وهو يحاول أن ينفي المعلومات التي أوردتها أو يشكّك فيها- لم يذكر مصدراً واحداً، لا قديماً ولا حديثاً، اعتمدها هو في الحصول على المعلومات التي ساقها، والتي رآها كافية لنقض معظم ما نشرته في المقالة، ونهج نهج الملك الفرنسي لويس الرابع عشر حينما قال: " أنا الدولة ".

وكنت ألمح- وأنا أقرأ رسالة الأخ الباحث- عقلية إلغائية قد تليق بالجهلة وأنصاف المتعلمين، ولكنها لا تليق مطلقاً بطلبة الدراسات العليا والباحثين، وأدركت أن ما يطل من وراء كلماته ليس حبه للحقيقة التاريخية، ولا رغبته في امتلاك المعرفة الصائبة، وإنما نزعته الأتاتوركية الطورانية، تلك النزعة التي علّمته وأقرانه منذ الصغر أن العنصر التركي أفضل بني البشر، وأنه لا وجود للكرد ليس في تركيا فقط، وإنما في العالم كله، وأنهم في أحسن الأحوال (أتراك الجبال)؛ وهذا دال عُضال ابتُلي به بعض أبناء بيتنا الشرق متوسّطي الكبير، ولا يتم القضاء على هذا الداء إلا بجهود المثقفين المخلصين المتّزنين.

وكان حزني كبيراً بقدر دهشتي: أما دهشتي فهي من باحث في الدراسات العليا ينفي معلومات تاريخية موثّقةً، ويُعفي نفسه من التوثيق، ثم يطالب الآخرين بالرد. وأما حزني فلأني اكتشفت أن ثمة من الباحثين في بيتنا التاريخي الكبير هذا- أقصد شرقي المتوسط – يتخصصون في التاريخ ليس بحثاً عن الحقائق، ولا خدمة لشعوب هذا البيت الكبير، ولا سعياً لتثقيف الجماهير، وإعطاء كل شعب من شعوب هذا البيت حقه من التقدير، وإنما يتخصصون لتغييب الحقائق، وتضليل الجماهير، وزرع الأوهام والأباطيل في ذاكرة الأجيال.

ثقافة (عنزةٌ ولوطارت)!

والحق أني كنت وما زلت أكره السجالات العقيمة، بل أضيق بها ذَرْعاً، فهي مضيعة للوقت والجهد معاً، وأعتقد أنه لا يسعى وراء السجالات العقيمة إلا أحد اثنين: إما امرؤٌ قليل المعرفة، ضيق الأفق، ويعتقد في الوقت نفسه أنه بلغ من العلم أقصاه، ومن المعرفة منتهاها. وإما امرؤٌ من أتباع ثقافة (عنزة ولو طارت!)، فهو مكابر ومناور ومداور، تقدم له الحجج فيصرّ على الباطل، وتضعه على الطريق القويم فيأبى إلا الاعوجاج، وكلما ابتلى بأحد من هؤلاء أتذكر ما أورده أبو حيّان التوحيدي (ت 416 هـ) في كتابه (الإمتاع والمؤانسة، ج 2، ص 90) حول مشكلة المفكر المعتزلي أبي الهُذَيْل العلاّف مع زَنْجَوَيه الحمّال، قال التوحيدي:

" قيل لأبي الهُذيل العلاّف- وكان متكلّم زمانه- إنك لَتناظر النظّام [ إبراهيم النظّام من كبار مفكري المعتزلة ]، وتدور بينكما نَوبات، وأحسنُ أحوالنا إذا حضرنا أن ننصرف شاكّين في القاطع منكما والمنقطِع [ الغالب والمغلوب ]. ونراك مع هذا يناظرك زَنْجَوَيه الحمّال فيَقطعك [ يغلبك ] في ساعة. فقال: يا قوم، إن النظّام معي على جادّة واحدة [منهج واحد]، لا ينحرف أحدنا عنها إلا بقدَر ما يراه صاحبه، فيذكّره انحرافَه، ويَحمله على سَننه [مبادئه]، فأمرُنا يَقرُب، وليس هكذا زَنْجَوَيه الحمّال، فإنه يبتدئ معي بشيء، ثم يَطفِر إلى شيء بلا واصلة ولا فاصلة، وأبقى، فيُحكَم عليّ بالانقطاع، وذلك لعجزي عن ردّه إلى سَنن الطريق الذي فارقني آنفاً فيه ".

أقول: مع نفوري من السجالات العقيمة لم أجد بداً من الرد على صاحبي الباحث التركي، فهو مصرّ على أن يتلقّى الإجابة عن تساؤلاته وأقواله، ويطالب إدارة المجلة بذلك، ومن حق إدارة المجلة بدورها أن تحيل الأمر عليّ وتنتظر مني الرد، ومن واجبي أيضاً أن أدافع عن المعلومات التي سقتها، وأؤكد أنها مستقاة من مصادر تاريخية وأنها موثقة، وأنها ليست أضغاث أحلام، ولا هي حفلة سمر بائسة.

وقمت بما ينبغي أن أقوم به، وكتبت مقالة جوابية، ونشرتها المجلة مشكورة، وبيّنت للأخ الباحث أخطاءه في المنطلقات والمنهج والنتائج، وأوردت عدداً من المصادر التاريخية الأخرى، وقدمت له من الحجج النقلية والعقلية ما يكفي. ثم أوضحت له أن الكرد موجودون على ترابهم التاريخي، وهم لم ينزلوا بالمظلة من كوكب آخر، ولم ينبثقوا دفعة واحدة من الأرض السابعة، بل هم أعرق من الأتراك أنفسهم في هذا المجال، فقد بدأ الوجود التركي في غربي آسيا مع الغزو السلجوقي في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، في حين يعود تاريخ الكرد، في تلك الديار، إلى قرون كثيرة قبل ذلك.

وبما أن الأخ الباحث كان شديد الامتعاض من ذكر اسم الكرد في المقالة، ومن أنهم كانوا من سكان منطقة ملازگرد، حتى إنهم قدموا عشرة آلاف مقاتل من أبنائهم لنصرة السلاجقة في حربهم ضد الروم، أقول: بما أن الأمر كان كذلك، فقد وجدت من واجبي تأصيل ذلك الخبر، وكنت نقلته سابقاً من مرجع عربي حديث، أو من مرجع أوربي. وعدت إلى ذلك المرجع، وإذا بالمؤلف قد استقى المعلومة من كتاب تاريخي قديم اسمه (تاريخ ابن أبي الهيجاء). ومن حسن الحظ أني وجدت الكتاب، وإذا بالمؤلف ابن أبي الهيجاء يقول في الصفحة (118 - 119) ضمن أحداث سنة (463 هـ):" وفيها كانت وقعة عظيمة بين ألب أرسلان وملك الروم ". ثم يفصّل القول فيقول:

... وورد الخبر بأن ملك الروم قاصدٌ بلادَ المسلمين بالجمع الكبير، وكان تفرقَ عسكر السلطان، فأنفذ نظامَ المُلك [ وزيره ] إلى هَمَذان ليجمع العساكر، وبقي السلطان في أربعة آلاف غلام جريدةً، مع كل غلام فرس يركبه وآخر يجنبه، وسار قاصداً ملك الروم. وقصد ملك الروم إلى مناذكرد فأخذها، وتواقف السلطان وملك الروم يوم الجمعة وقت الصلاة، وكان قد اجتمع إلى السلطان عشرة آلاف من الأكراد، وكان مع ملك الروم مائة ألف مقاتل، ومائة ألف جُرجي، فلما كان وقت الصلاة رمى السلطان القوس من يده، وأخذ الدبوس، وساقوا على الروم فكسروهم، ولم ينج منهم إلا القليل، وأسر ملك الروم ".

وكانت تلك بداية معرفتي بالمؤرخ ابن أبي الهيجاء، وكانت- والحق يقال- رَميةً من غير رامٍ. ولو عرفت عنوان الأخ الباحث لشكرته أجمل الشكر، بل ها أنذا أشكره الآن، فقد دفعني إلى مزيد من البحث، وإلى اكتشاف أحد مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي؛ ألا وهو الحاكم المؤرخ ابن أبي الهيجاء

فمن هو الرجل؟

وماذا عن عصره وأخباره وآثاره؟  

نشأة ابن أبي الهيجاء

هو الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهَذْباني الإربلي، ولد سنة (620 هـ / 1223 م) بمدينة أربيل، وها هنا نقف عند أمرين:

-       قبيلة هَذْباني.

-       ومدينة أربيل.

أما قبيلة هَذْباني فهي قبيلة كردية عريقة ضخمة العدد، ذكرها المؤرخون في معرض حديثهم عن نسب الأسرة الأيوبية، فذكروا أنها تنتسب إلى عشيرة رَوادي ( رُوآدي = الشمسانيون) الكردية، وهذه العشيرة بطـن من قبيلة هَذْباني (هازبني) الكبيرة القاطنة في منطقة دَوِين في أرمينيا، وذكر المؤرخ الجليل محمد أمين زكي أن قسماً كبيراً من قبيلة هذباني كان يسكن في منطقة أربيل في عهد الأتابكة التركمان. وبما أن الأسرة الأيوبية كانت تقيم في مناطق أرمينيا، وبما أنها كانت مقرّبة من الحكومة الشدادية الكردية (340 - 465 هـ) التي كانت تبسط نفوذها على مناطق من أذربيجان وأرمينيا، قبل أن يقضي عليها الغزو السلجوقي، فهذا يعني أن قبيلة هذباني كانت تتوزع على أجزاء كبيرة من كردستان، تمتد من المناطق الكردية في أذربيجان وأرمينيا شمالاً إلى منطقة أربيل جنوباً.

وأما مدينة أربيل فهي مدينة ذات تاريخ عريق، سمّاها ياقوت الحموي (ت 626 هـ) (إِرْبِلُ)، وعلى عادة بعض الجغرافيين والمؤرخين المسلمين القدامى حاول ياقوت أن يجد أصلاً عربياً لاسم هذه المدينة، فقال في كتابه (معجم البلدان، ج 1، ص 166):

" فإن كان إربل عربياً فقد قال الأصمعي: الرَّبْلُ ضرب من الشجر، إذا برد الزمان عليه وأدبر الصيف تفطّر بورق أخضر من غير مطر، يقال: تربّلت الأرض، لا يزال بها رَبْل، فيجوز أن تكون إربل مشتقة من ذلك. وقد قال الفرّاء: الريبال النبات الكثير الملتفّ الطويل، فيجوز أن تكون هذه الأرض اتفق فيها في بعض الأعوام من الخصب، وسعة النبت ما دعاهم إلى تسميتها بذلك. ثم استمر... ".

وهذه ظاهرة عجيبة أجدها في كتابات بعض المؤرخين والجغرافيين المسلمين القدامى، إلى درجة أني أتساءل: أين هو الحس النقدي؟ وأين هو المنهج العلمي؟ وأين هو المنطق في التحليل والاستنتاج؟ أما كان يسع هؤلاء أن يسكتوا عما لا يعرفونه، ولا يكلّفوا أنفسهم عناء التمحّل والتعسّف؟ أليس نصف العلم أن يقول أحدنا: لا أعلم؟!

والحقيقة أن اسم أربيل أقدم بكثير من عهد الفتوحات الإسلامية في كردستان، وهو من ثم أقدم من وصول العرب إلى تلك المناطق في بدايات القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، وأقدم من الأصمعي والفرّاء، فقد جرت في أحد سهولها معركة گُوگَميلا Gugamela سنة (331 ق.م)، وحقق فيها الإسكندر المكـدوني النصرالحاسم على الملك الأخـميني دارا الثالث.

 وأضاف ياقوت قائلاً في (ص 167) من كتابه: " وإربل قلعة حصينة، ومدينة كبيرة، في فضاء من الأرض واسع بسيط، ولقلعتها خندق عميق، ... وأكثر أهلها أكراد قد استعربوا، وجميع رساتيقها وفلاحيها وما ينضاف إليها أكراد ". ولعله يقصد بقوله (استعربوا) أنهم يتحدثون العربية باعتبار أنهم اعتنقوا الإسلام، ولعله نقل عبارة (استعربوا) ممن قبله من الجغرافيين والمؤرخين، إذ كانت العادة قد جرت، ولا سيما في العصر الأموي، أن كل من اعتنق الإسلام من الفرس والكرد وغيرهم، في شرقي العالم الإسلامي، كان يسمى عربياً؛ وهذا أمر معروف في المصادر التاريخية.

عصره علمياً

وقد توجّه الأمير عز الدين إلى الشام شاباً، وشارك في الحياة العلمية بها، فذكر الصَّفَدي في (الوافي بالوفيات، ج 5، ص 170) أنه كان جيد المشاركة في التاريخ والأدب وعلم الكلام، وأنه جالس العزّ الضرير، وروى عنه كثيراً من شعره، وكانت بينهما صحبة، لأنهما من بلد واحد هو إربل، وأنه لازم العز الضرير يوم وفاته، والعز الضرير هذا هو فيلسوف كردي، اسمه الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا الإربلي، ولد سنة ( 586 هـ ) في نصيبين، وكان بارعاً في الأدب والعربية، ورأساً في علوم الأوائل، توفي سنة ( 660 هـ )، ودفن بسفح جبل قاسيون في دمشق.

وظن بعض الدارسين أن ابن أبي الهيجاء كان شيعياً، مستدلاً على ذلك بملازمته للعز الضرير الذي كان من الشيعة حسبما أُشيع عنه، واستدلوا على تشيّع ابن أبي الهيجاء أنه كان ينعت الخلفاء الفاطميين بلقب الإمام، ولا أعتقد أن هذا النعت دليل كاف على تشيّعه، بل هو دليل على أنه عالم موضوعي يتعامل مع الحقائق كما هي، ولا ينساق خلف العنعنات المذهبية، ثم كيف يكون متشيّعاً وقد ولاّه السلطان المملوكي حكم دمشق ربع قرن من الزمان كما سنرى؟! ويعلم كل قارئ للتاريخ الإسلامي أن المماليك كانوا حماة للمذهب السني مثل سادتهم الأيوبيين. ومهما يكن فقد تطوّع مؤرخون آخرون بتبرئة ساحة ابن أبي الهيجاء من تهمة التشيّع، فوصفوه بأنه كان مشكور السيرة حسن المحاضرة.

وكان عصر ابن أبي الهيجاء عصر نشاط علمي وفكري، كثر فيه العلماء، إلى جانب الإنتاج العلمي الغزير، وصحيح أن المماليك الأتراك قضوا على دولة أسيادهم الأيوبيين سنة (648 هـ / 1250 م)، إلا أن الإنجازات العلمية الأيوبية ظلت تفعل فعلها بعد زوال دولتهم بزمن طويل، إنهم كانوا قد أسسوا كثيراً من مراكز العلم، وبذلوا الاهتمام بالعلم وطلبته، واقتنوا الكتب، وأنشؤوا المكتبات، فكانت المكتبة التابعة للمدرسة الكاملية (أنشأها الملك الكامل الأيوبي سنة 621 هـ) تحتوي على ما يقرب من مئة ألف كتاب.

وبرز في عصر ابن أبي الهيجاء كثير من العلماء في مختلف المجالات، نذكر منهم: ابن العديم (ت 660 هـ) صاحب (بُغْية الطلب في تاريخ حلب)، و(زُبْدة الحلَب من تاريخ حلب)، وأبو شامة (ت 665 هـ) صاحب (كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية)، وابن أبي أُصَيْبِعة (ت 668 هـ) صاحب (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، وابن خَلِّكان (ت 681 هـ) صاحب (وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان)، وجمال الدين ابن واصل (ت 697 هـ) صاحب (مُفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب)، وابن منظور المصري الإفريقي (ت 711 هـ) صاحب المعجم اللغوي الشهير (لسان العرب)، والعلامة شمس الدين الذَّهَبي (ت 748 هـ) صاحب (تذكرة الحفّاظ) و(ميزان الاعتدال في نقد الرجال).

عصره سياسياً

عاصر ابن أبي الهيجاء أحداثاً سياسية كبرى، أهمها حدثان اثنان، هما:

-  سقوط الدولة الأيوبية: فقد استولى المماليك البحرية الأتراك على الدولة الأيوبية، وأسسوا الدولة المملوكية سنة (648 هـ / 1250 م)، وكان السلاطين الأيوبيون يجندون المماليك بسبب حروبهم الكثيرة والطويلة ضد الفرنجة، لكن السلطان الصالح نجم الدين أيوب (ت 647 هـ) أكثر من تجنيدهم، وأسكنهم جزيرة الروضة في نهر النيل، فسموا (المماليك البحرية)، وقدّمهم على الكرد والعرب، حتى إنه كان قد أبعد ولده الوحيد تَوْران شاه إلى حِصن كَيفا (حَسَنْكَيف) وديار بكر (آمِد)، وكانت هذه الخطوة من أخطائه الكبرى، إذ سرعان ما استغل المماليك مرض السلطان وحملة الملك الفرنسي لويس التاسع على مصر، فهيمنوا على مقاليد الأمور، وبعد وفاة السلطان تآمروا مع زوجته شجرة الدُّر وهي من جنسهم، على ولده السلطان توران شاه، فقتلوه غدراً، وأزالوا الدولة الأيوبية.

-  الهجوم المغولي: بعد أن وحّد جنگيزخان قبائل المغول والتتار في سهوب آسيا الوسطى، وشكّل قوة حربية ضاربة شرسة ومنضبطة، قضى على الدولة الخُوارزمية الشيعية الهوى، بموافقة من الخليفة العباسي السنّي الناصر لدين الله (ت 622 هـ)، ثم اندفع المغول غرباً بقيادة هولاكو حفيد جنگيزخان، فاجتاحوا إيران وأذربيجان وكردستان، واحتلوا بغداد سنة (656 هـ / 1258 م)، ثم توغّلوا في بلاد الشام سنة (658 هـ)، فهزمهم المماليك بقيادة قُطْز في معركة (عين جالوت) بفلسطين، وردّوهم على أعقابهم. ثم هاجم المغول بلاد الشام ثانية سنة (680 هـ في جيش كبير، فتصدى لهم السلطان المملوكي المنصور قَلاوُون في موقعة حمص وهزمهم. وعاد التتار إلى مهاجمة بلاد الشام بقيادة قازان سنة (699 هـ)، وهزموا المماليك في موقعة المروج بين حمص وحماه، ودخلوا دمشق، وعاثوا فيها فساداً.

وفي الوقت نفسه كان بعض الفرنجة ما زالوا يسيطرون على بعض المواقع في بلاد الشام، ولا سيما حصن المرقب في سوريا. وبعد أن انتصر السلطان قلاوون على المغول في موقعة حمص عزم على ضرب الفرنجة، فاتجه سنة (684 هـ) لمهاجمة الأسبتارية في حصن المرقب، واستعداداً لخطته الهجومية أجرى تغييرات في دمشق، فعزل الأمير سيف لدين طوغان عن ولاية دمشق، وولّى عليها الأمير ابن أبي الهيجاء، ثم توجّه إلى الديار المصرية.

وظل ابن أبي الهيجاء والياً على دمشق إلى أن توفي سنة (700 هـ / 1301 م)، وإن بقاءه والياً على دمشق طوال ربع قرن من الزمان، وفي عصر يموج بالأحداث العصيبة، وبالحروب ضد المغول والتتار شرقاً، وضد الفرنجة غرباً، دليل على أنه كان حاكماً مقتدراً في أزمنة السلم والحرب، كما أنه دليل على ثقة سلاطين المماليك به، ولا ننس أن بلاد الشام كانت الجناح الشرقي من السلطنة المملوكية، وكانت تمثّل العمق الإستراتيجي للسياسات المملوكية، ومن المفيد أن نتذكّر أيضاً أن إستراتيجية المماليك، كانت في جوانب كثيرة، امتداداً لإستراتيجية أساتذتهم الأيوبيين، وبما أن ابن أبي الهيجاء ظل والياً على دمشق عاصمة بلاد الشام تلك المدة الطويلة كان من الطبيعي أن يسهم إسهاماً كبيراً في صناعة الأحداث السياسية والعسكرية، وقد شارك بفعالية في الحرب ضد الفرنجة، حتى تم طردهم سنة (690 هـ / 1290 م) في عهد الملك المملوكي الأشرف خليل بن المنصور قلاوون.

منهجه في التأريخ

يبدو أن ابن أبي الهيجاء أنجز في علم التاريخ أكثر مما وصلنا في كتابه (تاريخ ابن أبي الهيجاء)، فقد ذكر العيني (ت 855 هـ) في كتابه (عقد الجمان، ج 4، ص 155) أن مؤرخنا " جمع مجلداً ابتدأ فيه من النبي عليه السلام إلى وقعة قازان ". لكنه ركّز في تاريخه على الأحداث التي جرت من سنة ( 358 هـ ) إلى سنة (522 هـ )، وصحيح أنه غطّى أهم الأحداث التي وقعت في تلك الفترة على ساحة جغرافية واسعة، تمتد من أفغانستان شرقاً إلى ليبيا غرباً، لكنه كان مهتماً على الغالب بالأحداث التي دارت في العراق وكردستان وبلاد الشام، باعتبار أن تلك البلاد كانت مسرحاً لأبرز الأحداث السياسية والعسكرية حينذاك، ومن أهمها العهد البويهي، ثم سقوط الدولة البويهية على أيدي السلاجقة، والحملات الفرنجية، ثم ظهور الزنكيين، والصراع ضد الفرنجة.     

ويقوم منهج ابن أبي الهيجاء التاريخي على التسجيل الحولي، وذكر الأحداث الصغرى، وبعض الوفيات في نهاية كل سنة. وقد استقى مادة كتابه من عشرات الكتب، وهذا دليل على سعة اطلاعه في مختلف الفنون الشرعية والأدبية والتاريخية، كما أنه استقاها من مؤرخين معاصرين له، ومنهم ابن خلِّكان، وحرص على تعليل بعض الظواهر، ونقد بعض الأخبار، ونقد سلوك بعض الناس.

وقد توفي ابن أبي الهيجاء، كما سبق القول، سنة (700 هـ / 1301م)، وكان حينذاك قادماً إلى دمشق من مصر، ودفن في جبل قاسيون، فكان – رحمه الله – خير مثال على الحاكم القدير والمؤرخ الجليل.

المصــادر

1 - ابن أبي الهيجاء: تاريخ ابن أبي الهيجاء، تحقيق ودراسة الدكتور صبحي عبد المنعم محمد، رياض الصالحين للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 1993.

2  -  ابن الأثير:  الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م.

3  – أبو حيّان التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت، 1970.

4  - أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين، تحقيق أحمد البيسومي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1992م.

5 - ابن شداد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق جمال الدين الشيّال، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1964م.

6  - الصفدي: الوافي بالوفيات، فسبادن، ألمانيا، 1394 هـ.

7  - العيني: عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.

8  - ابن كثير: البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، 1977م.

9  - المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة، دار الكتب المصرية، 1934 م.

10 - ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.

11- اليونيني: ذيل مرآة الزمان، حيدر آباد، 1954م.

    وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة عشرة.  

              د. أحمد الخليل   في 18 – 4 - 2006        dralkhalil@hotmail.com

 

 ===================

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الثالثة عشرة )

المؤرخ الفارقي

( 510 – بعد 577 هـ )

( 1117- بعد 1181م )

 

عباقرة.. وسماسرة

الحضارة شيء، والمدنيّة شيء آخر.

هكذا قال علماء الاجتماع، وهم فيما قالوه صادقون.

 الحضارة أصالة وإبداع، والمدنيّة تقليد واتّباع.

الحضارة روح تُنجز جسداً، والمدنيّة جسد يستعير روحاً.

الحضارة يؤسسها (العباقرة)، والمدنية روّادها (السماسرة).

الحضارة يُنجزها (النبلاء) الحقيقيون، والمدنية يُلفّقها الانتهازيون.

-      -     -

 الحضارة كل متكامل.

الحضارة إبداعات روحانية تفيض عنها إنجازات مادية.

ويقول المثل العربي القديم: " كلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنْضَحُ ".

وكذلك الحضارة.. كل ما يتعلّق بها يدلّ عليها، ويُفصح عنها.

والحضارة لا تقتصر على أن ترتدي ثوباً أنيقاً، أو تسكن قصراً مُنيفاً.

الحضارة رؤية، ومبادئ، وقيم، وطريقة تفكير، ومنهج حياة، وسلوك.

-   -   -

أقولها باختصار: الحضارة ثقافة.

قل لي ما هي ثقافتك، أقل لك ما هي حضارتك.

بل لا داعي لأن تقول لي وأقول لك.

فمن ثقافتك أعرف حضارتك، ومن حضارتك أعرف ثقافتك.

ولك أن تنهج معي النهج نفسه إذا أحببت، بل ينبغي أن تفعل ذلك.

-   -   -

وعرفتُ، من جملة ما عرفت، أن الموسيقا من أبرز إبداعات الحضارة.

وعرفت من ثَمّ أن الموسيقا واحدة من أصدق تجلّيات الثقافة.

هل تريدون أقرب طريق لمعرفة (روح الأمة)؟

تذوّقوا موسيقاها إذاً!

تأمّلوها على أقل تقدير!

حراس الموسيقا

وكنت وما زلت أعشق الموسيقا الأصيلة؛ الموسيقا التي ترتقي بي، الموسيقا التي تساعدني على استعادة إنسانيتي وسط هذا الافتراس الشامل والمحموم. وكنت وما زلت أغتاظ وأحنق من الموسيقا الانحطاطية، الموسيقا التي تشوّهني، وتعمل في روحي تخريباً وتدميراً، وكم أزداد غيظاً عندما يضم المطرب إلى موسيقاه الانحطاطية عبارات أشد انحطاطا!

وأذكر بهذه المناسبة حدثاً يستدعي التأمل حقاً، فقد ذكر الموسيقار والمطرب المصري الشهير محمد عبد الوهاب- رحمه الله- أنه زار مدينة حلب في النصف الأول من القرن العشرين، وكان حينذاك في عهد الشباب، وكانت حلب معروفة بعراقة فنها الموسيقي، وبتذوّق أهلها للموسيقا والغناء الأصيل، ولا ننس أن بعض مشاهير شيوخ الموسيقا فيها كانوا من الكرد، أذكر منهم على سبيل المثال الشيخ بكري الكردي، ذكر ذلك فيض الله الغادري في كتابه (حلب لؤلؤة التاريخ ودرة بلاد الشام، ص 81).

وتعاقد محمد عبد الوهاب مع دار للمسرح – لعلها دار الشَّهْبندر- لإحياء حفل غنائي، وفي الموعد المحدد دخل عبد الوهاب الدار، وأطل من على المنصة، وهو يتوقع أن تكون القاعة قد غصّت بالجمهور، وكيف لا؟! فهو الموسيقار القدير، وحلب هي مدينة الطرب الأصيلة! لكنه فوجئ وأصيب بالإحباط، إذ لم يجد في القاعة الكبيرة سوى بضعة رجال، قد جلسوا في المقاعد الأمامية، وهم يرتدون القنابيز الحلبية، ويضعون على رؤوسهم الطرابيش الحمر الأنيقة.

والتفت الموسيقار إلى صاحب الدار سائلاً عن الجمهور، فقال له: قدّم ما تريد تقديمه، ولا شأن لك بالجمهور. ولم يجد الموسيقار بداً من إحياء الحفل المتعاقد عليه، وبعد فترة إذا بالرؤوس الوقورة بدأت تتمايل طرباً، فتتمايل معها شراشيب الطرابيش يَمْنة ويَسْرة. وفي نهاية الحفل جاء صاحب الدار يبشر الموسيقار قائلاً: لقد نجحت!

وفي الليلة التالية وجد الموسيقار القاعة تغص بالجمهور، وعلم بعدئذ أن قادة الموسيقا والغناء في حلب ما كانوا يسمحون لأيّ كان أن يفسد ذوق أهل مدينتهم، وإنما كانوا يختبرونه أولاً، حتى إذا اطمأنوا إلى أنه موسيقي أصيل ومغنّ قدير سمحوا له بلقاء الجمهور، وإلا صرفوه بالتي هي أحسن.

ألسنا في عصرنا هذا بحاجة إلى حراس للموسيقا الأصيلة كهؤلاء؟!

فارقين

وأقول بصدق: كانت الموسيقا الأصيلة مدخلي إلى معرفة (فارْقِين)، تلك المدينة الكردية التي تقع في شمال شرقي ديار بكر (آمِد)، وتسمى الآن (سليڤان) Slivan، لقد استرعى انتباهي روعة الأغاني الملحمية التي يشتهر بها فنانوها الشعبيون، إضافة إلى كثرة عددهم هناك، وخصوبة التراث الموسيقي. قلت لنفسي: إن وراء الأكَمة [التلّة] ما وراءها. فانظر ماذا هناك؟! وكما هي عادتي بدأت بالجغرافيا؛ أقصد كتب (البلدان)، وأوصلتني الجغرافيا إلى العجب العجاب.

بلى، عرفت أن فارقين تسمى في كتب التراث العربي الإسلامي باسم (مَيّافارِقِين)، وأنها كانت عاصمة لدولة كردية هي الدولة المروانية (الدُّوستكية) بين سنتي (350 - 478 هـ / 982 -  1086 م)، وكانت قبل المروانيين تابعة للدولة الحمدانية، وعلمت مما أورده ابن خلدون في تاريخه ( 7 / 489، 520)، وأحمد عدوان في كتابه (الدولة الحمدانية ص 111، 297) أن والدة الأمير سيف الدولة الحمداني كانت كردية، وأنه ولد سنة (303 هـ) في مدينة ميّافارقين، ولما توفّي بحلب نقل جثمانه إليها ودفن فيها، ولعل زوجته (أم ولده سعد الدولة) كانت كردية، فإنها كانت تقيم في ميّافارقين.

وذكر ياقوت الحموي قصة طويلة، يستفاد منها أن فارقين بُنيت في عهد قسطنطين أول ملوك بيزنطا (القرن الرابع الميلادي)، ووصفها ياقوت في (معجم البلدان، 5/275 ) بقوله: " أشهر مدينة بديار بكر ". وعلمت أيضاً أنها كانت كثيرة الخيرات، حتى إن أحد الشعراء قارن بينها وبين منطقة اليمامة (شرقي المملكة العربية السعودية حالياً) فقال:

فإن يكُ في كَيلِ اليَمامة عُسْرةٌ     فمـا كَيْلُ مَيّافارِقِيـنَ بأعسرا

وعلمت أن ميّافارقين كانت محل صراع بين الفرس الساسانيين والروم البيزنطيين، وقد غزاها الملك الفارسي قُباذ بن فيروز، وسبى أهلها، ونقلهم إلى بلاده، وبنى لهم مدينة بين فارس والأهواز.

وقد فتح العرب المسلمون ميّافارقين سنة (18 هـ)، وذكر ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان، 5/275 – 276) أن فارقين فتحت من قبل عِياض بن غَنْم. وذكر رواية أخرى تفيد أن " خالد بن الوليد والأَشْتَر النَّخَعي سارا إلى ميّافارقين في جيش كثيف، فنازلاها، فيقال إنها فتحت عَنوة، وقيل صلحاً على خمسين ألف دينار، على كل محتلم [بالغ] أربعة دنانير، وقيل دينارين، وقَفِيز حنطة، ومُدّ زيت، ومُدّ خلّ، ومُدّ عسل، وأن يضاف كل من اجتاز بها من المسلمين ثلاثة أيام، وجعل للمسلمين بها محلة، وقرر أخذ العُشر من أموالهم، وكان ذلك بعد أخذ آمِد ". والقفيز مكيال كان تكال به الحبوب قديماً. والمّد مكيال قديم أيضاً، كان يساوي ما وزنه ثمانية عشر كيلوغرام. وهذا دليل على أن ميّافارقين كانت أرض الحنطة والزيت والعنب والعسل؛ وأية خيرات أعظم من هذه!

وعلمت أيضاً أن ميّارفارقين أنجبت مؤرخاً قديراً يدعى (الفارقي).

وأن له كتاباً هاماً عنوانه (تاريخ الفارقي).

فمن هو الفارقي؟ وما هي مكانته العلمية؟

نشأة الفارقي وثقافته

الفارقي هو أحمد بن يوسف بن علي بن الأزرق، ولد بمدينة ميّافارقين سنة (510 هـ) خمسمئة وعشر للهجرة، وينتمي إلى أسرة كردية رفيعة المكانة في تلك المدينة، فقد تولّى جده الرئيس أبو الحسن علي بن الأزرق منصب ناظر مدينة (حِصن كَيْفا= حَسَنْكَيف) خلال حكم الوزير محمد بن جَهِير، في أواخر أيام الدولة المروانية، وكان من أعضاء الوفد الذي ذهب إلى السلطان السلجوقي حينما احتل السلاجقة أجزاء من كردستان في جنوب شرقي تركيا، لينقلوا إليه رغبة أهل ميّافارقين في أن يكون الحاكم عليهم ابن جَهِير لحسن معاملته لهم. وكان الوفد يضم الأمراء وكبار أهل ميّافارقين، مثل الأمير أبو الهيجاء، والرئيس عبد لله بن مُوسَك، والقاضي أبو بكر بن صَدَقة، والقاضي أبو القاسم بن نُباتة.

ولم نجد أخباراً كافية حول طفولة الفارقي وصباه، ولا ريب أنه عاش في صغره كغيره من أطفال الأسر الرفيعة وصبيتهم، يتلقى المبادئ الأولية في التربية والتعليم، وفق معايير ذلك العصر، لكننا نجده شاباً مغرماً بالرحلات، ساعياً بقوة وراء العلم، وهذا يؤكد أنه لم يُمض صباه في العبث، وإنما أُعدّ إعداداً علمياً صائباً، جعله ينطلق بعدئذ تلك الانطلاقة المعرفية الكبيرة.

ونجد الفارقي في البداية متوجهاً إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، وهناك قرأ القرآن، ودرس الحديث، والفقه، والفرائض، واللغة، والنحو، والأدب، والجغرافيا، وسمع من كبار الشيوخ وجهابذة العلماء، فقرأ القرآن على الشيخ أبي منصور الرزّاز، والفرائض على الشيخ أبي المظفَّر بن الشَّهْرَزُوري، وأخذ النحو واللغة على أبي منصور الجَواليقي صاحب كتاب (المعرَّب والدَّخيل)، وأخذ الحديث عن ابن السَّمَرْقَنْدي، والقاضي أبي بكر الباقِلاّني؛ الأصولي والمعتزلي الشهير.

لكن الفارقي شغف بعلم التاريخ أكثر من غيره من العلوم، فاجتهد في طلبه، وقرأ كثيراً من المؤلفات التاريخية المشهورة في عصره، مثل: تاريخ بغداد لابن أبي طاهر طَيْفُور، وتاريخ الموصل لمحمد بن علي الشِّمْشاطي [نسبة إلى شِمْشاط قرب ملطية]، والأوراق للصُّولي، والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والتاريخ لأبي الحسن بن هلال الصابي، والأخبار الطِّوال لأبي حنيفة الدِّينَوَري، والمعارف لابن قُتَيْبة الدِّينَوَري، وغير ذلك من كتب الجغرافيا والأدب التي لها علاقة بالتاريخ.

رحلات الفارقي ومناصبه

كان الفارقي كثير التنقل، محباً للرحلات، فقد زار من المدن بغداد، والرّي (قرب طهران)، وتبريز، وآمِد (ديار بكر)، والموصل، وحرّان، وماردين، وحلب، وحماة، وحمص، ودمشق، وإذا تتبّعنا الدائرة الجغرافية التي شملتها رحلات الفارقي وجدناها تمتد من طهران (حالياً) شرقاً إلى دمشق غرباً، وتقع فيها أبرز مراكز الحضارة الإسلامية في ذلك العصر، وكان في رحلاته دقيق الملاحظة، حريصاً على ذكر أسماء الخلفاء والوزراء والقضاة والعلماء والأولياء والمساجد والمشاهد، وما جرى فيها من الأحداث الكبرى، كالحروب والزلازل وغيرها؛ ومن الأحداث التي ذكرها زلزال هائل ضرب شرقي المتوسط عامة سنة (566 هـ)، وشمل العراق ومناطق ديار بكر، لكنه ألحق أضراراً فادحة ببلاد الشام خاصة، وهدّم كثيراً من القلاع والمدن فيها، مثل حلب، وحماه، وحمص، وشَيْزَر، وطرابلس، وبعلبك، وأنطاكيا.

كما أن الفارقي زار مملكة جورجيا التي تسمى (بلاد الكُرْج) في كتب التراث الإسلامي، وأقام مدةً في عاصمتها تفليس سنة (548 هـ)، وعمل في خدمة ملكها ديمتري بن داود، وزار بعض ولايات المملكة، ومنها الأبخاز والدربند، وسجّل في تاريخه ما شاهده من عادات تلك البلاد ونُظمها، وسجل أحداث المعركة التي دارت بين جيش الملك ديمتري وجيش للسلاجقة سنة (548 هـ)، وكان الجيش السلجوقي بقيادة شمس الدولة طغان أرسلان، صاحب أَرْزَن وبَدْليس، وقد حاقت هزيمة ساحقة في تلك المعركة بالجيش السلجوقي.  

وتولّى الفارقي عدداً من المناصب، وقد بدأ حياته الوظيفية في مدينته ميّافارقين، فأشرف على الأوقاف بظاهر ميّافارقين سنة (543 هـ)، ثم تولّى نظارة حِصن كَيْفا سنة (562 هـ)، وتولّى الإشراف على الوقف في دمشق سنة (565 هـ)، كما تولّى مناصب هامة في مملكة جورجيا حينما زارها. ولا نعرف تحديداً السنة التي توفي فيها الفارقي، لكن الأرجح أنه توفي بعد سنة ( 577 هـ / 1181م).    

تاريخ الفارقي

يسمى (تاريخ ميّافارقين) تارة، و(تاريخ ميّافارقين وآمِد) تارة أخرى، لكنه اشتهر باسم (تاريخ الفارقي)، وألفه الكاتب في أواخر حياته، وربما قبل وفاته بقليل، وقد يوهم اسم الكتاب أنه خاص لتاريخ فارقين فقط، والحقيقة أنه مصدر هام لكثير من الأحداث السياسية والثقافية التي ازدحم بها العصر الذي عاش فيه الفارقي، وهو القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، فنجد فيه سير الخلفاء والسلاطين والأمراء والوزراء، والعلماء، وغيرهم من المشاهير.

وتحدث الفارقي في تاريخه عن الأمم والأقاليم والبلدان، وأورد كثيراً من الأخبار التي تتعلق بالدول والإمارات التي قامت في فارس، والعراق والجزيرة، وكردستان، وأرمينيا، وأذربيجان، وجورجيا، وبلاد الروم، والشام، ومصر، مثل السلاجقة، والمروانيين، والفضلويين، والحمدانيين، والعقيليين، والأراتقة، والبيزنطيين، والفاطميين. وذكر العلاقات السلمية والعدائية التي كانت تقوم بين بعض تلك الدول، وعلاقة تلك الدول والإمارات بعاصمة الخلافة العباسية بغداد. لكن الفارقي يبدو كثير الاهتمام بأخبار مدينة ميّافارقين على نحو خاص.

ولم يؤلف الفارقي تاريخه هذا بطلب من خليفة أو أمير أو زير، كما فعل بعض الكتّاب، وإنما ألّفه حباً في علم التاريخ، وشغفاً منه بمسقط رأسه ميّافارقين، واستعان في كتابه هذا بمعلومات من مصادر تاريخية وجغرافية مهمة، ألفها علماء ومؤرخون وجغرافيون بارزون، مثل أبي حنيفة الدينوري، وابن قتيبة، والشِّمشاطي، والأصفهاني، وابن خُرْداذبّة، والصُّولي، والبلاذري. وكان يقتصد في نقل النصوص، لكن كان ما يقتبسه مهماً، ثم إنه لم يكن مجرد ناقل للنصوص، وإنما كان يبدي رأيه فيها، وينقدها، فيضعّف هذه المعلومة ويرجّح تلك.   

وكان المورد الأهم لمعلوماته هو مذكّراته الشخصية، فقد أودعها مشاهداته وتجاربه خلال أسفاره الكثيرة، وهو مؤرخ جمع بين المعرفة التاريخية الواسعة والخبرة الشخصية، ويصحّ فيه المثل الذي يقول:  وما راءٍ كمن سمعا "، وهذه ميزة علمية، تمنح كتابه قدراً مرموقاً من الأهمية على الصعيد التاريخي.

زمن التحولات الكبرى

وترتبط أهمية كتابات المؤرخ، أيّ مؤرخ كان، بالأحداث التي عاصرها هو بنفسه، والأحداث التي سبقت زمنه بفترة قصيرة، وظلت حية في ذاكرة الجماهير، وهذا ما نجده متحققاً في كتابات الفارقي، وقد مرّ أنه ولد سنة (510 هـ)، وعاش إلى ما بعد سنة (577 هـ). والحق أن الفترة التي عاش فيها الفارقي، إضافة إلى نصف الفرن الذي سبق ولادته، كان عصراً جرت خلاله تحولات سياسية كبرى في شرقي المتوسط؛ بدءأً من أفغانستان غرباً، إلى الساحل السوري ومصر شرقاً. وكان قادة تلك التحولات ينتمون إلى عناصر ثلاثة: السلاجقة والزنكيون التورانيون، والفرنجة الأوربيون، والأيوبيون الكرد.

فقد هاجر السلاجقة من تركمانستان إلى أفغانستان هرباً من الأوضاع السئية، وعملوا مرتزقة في الجيش الغزنوي، وبعد أن قويت شوكتهم قضوا على الدولة الغزنوية، وهيمنوا على أفغانستان وإيران منذ سنة (429 هـ)، ثم دخلوا بغداد سنة (447 هـ)، بقيادة أرطغرل بگ، وبدعوة من الخليفة العباسي العباسي القائم بأمر الله، وأزالوا النفوذ البويهي الآرياني المائل إلى التشيّع، ونصبوا أنفسهم حماة للسنّة، وراحوا يبسطون سلطتهم على عموم العراق وكردستان والأناضول وبلاد الشام، فقضوا على الدول والإمارات الكردية وأبرزها الدولة الشدادية في أرّان بالقوقاز (تتوزّع الآن بين أذربيجان وأرمينيا وجورجيا)، والدولة المروانية في المنطقة الكردية بشرقي تركيا حالياً، وقضوا على الدولة العربية الحمدانية في حلب، والإمارة العربية العقيلية في الموصل، واستكمل التركمان الزنكيون المشروع السلجوقي السياسي.

وكان الفرنج قد شنوا حملتهم الأولى على شرقي المتوسط في أواخر القرن الخامس الهجري (أواخر القرن الحادي عشر الميلادي)، فاحتلوا أنطاكيا والرُّها سنة (1098 م)، ثم احتلوا القدس سنة (1099 م)، وبسطوا نفوذهم بعدئذ على باقي سواحل بلاد الشام، بل احتلوا الأردن أيضاً حتى خليج العقبة، وراحوا يعملون لاحتلال مصر، وحاولوا غزو الحجاز.

وتصدّى الزنكيون التركمان للمشروع الفرنجي بقيادة عماد الدين زنكي، ثم بقيادة ابنه نور الدين زنكي، ثم استلم الكرد الأيوبيون المهمة، وقارعوا الفرنج بدءاً من سنة (567 هـ / 1171م) بقيادة صلاح الدين، إلى سنة (648 هـ/ 1250 م) بقيادة تورانشاه، حيث قضى المماليك الترك على الدولة الأيوبية.

إن هذه الأحداث الكبيرة والمثيرة، والمصيرية حقاً في حياة شعوب شرقي المتوسط، استرعت انتباه المؤرخ الفارقي، لكننا نجده في كتابه مهتماً في الدرجة الأولى بالأحداث التي كانت تقع في العراق وكردستان والقوقاز، المنطقة التي كان يتمركز فيها النفوذ السلجوقي، وما يلفت الانتباه أكثر أنه مهتم على وجه الخصوص بأخبار الدولة المروانية، وعلاقاتها بالحمدانيين في حلب، وبالعقيليين في الموصل، وبالسلاجقة، وبالخلافة العباسية في بغداد، وهذا أمر طبيعي؛ فهو نفسه من أبناء ميّافارقين عاصمة المروانيين. وسنستعرض بعض المشاهد التي أوردها، لكن أرى من المفيد أن نلقي نظرة على الظروف السياسية التي نشأت فيها الدولة المروانية.

المسألة مسألة ثقافة

كان الخلفاء العباسيون يعتمدون في إدارة الدولة والجيش على عنصرين هما العرب والفرس، وكان معظم وزرائهم من الفرس، وأحياناً من أسر ذات أصول كردية ذات ثقافة فارسية، مثل البرامكة؛ والسبب أن الأسرة العباسية نفسها كانت عربية هاشمية، وأن الفرس هم أبرز من وقف إلى جانب العباسيين في ثورتهم على الدولة الأموية سنة (132 هـ)، وأن بلاد فارس- ولا سيما خراسان-  كانت مركز الثورة العباسية، إضافة إلى أن الطبقة الفارسية الرفيعة كانت عالية الثقافة، وكانت لها خبرة عريقة في إدارة الدولة وشؤون الحكم؛ فكانت النتيجة أن الخلافة حافظت على مكانتها، وأن الخلفاء احتفظوا بهيبتهم، وأنهم كانوا يعزلون الوزراء والقواد حينما يشاؤون، بل كانوا يفتكون بهم إذا سخطوا عليهم، مثلما فعل الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفّاح (ت 136 هـ) بوزيره أبي سَلَمة الخلاّل، والخليفة الثاني أبو جعفر المنصور (ت 158 هـ) بالقائد أبي مسلم الخراساني، والخليفة الخامس هارون الرشيد (ت 193 هـ) بالوزير جعفر البرمكي.  

غير أن الخليفة العباسي الثامن، ولقبه المعتصم بالله (ت 227 هـ)، أخلّ بهذه القاعدة، إنه كان ضعيف الثقة بالعنصر العربي، وكذلك كان شأنه مع العنصر الفارسي، ووضع ثقته- خاصة على الصعيد العسكري- في العنصر التوراني التركي، وثمة من المؤرخين من يفسّر ميل المعتصم إلى الترك بأن أمه كانت جارية تركية، ولا أستبعد هذا التفسير، لكني ألمح وراءه ما هو أبعد من ذلك، والدليل أن ثمة خلفاء آخرين كانت أمهاتهم من الجواري، لكننا لا نجد أنهم كانوا يسلّطون أخوالهم على مقاليد الأمور، ومثال ذلك أن أبا جعفر المنصور كانت أمه أمازيغية (بربرية)، وأن المأمون كانت أمه فارسية.

بلى، إن المسألة مسألة ثقافة قبل أن تكون مسألة سلالة، فصحيح أن الطبقة الرفيعة من العنصر العربي كانت تنتمي، قبل الإسلام، إلى ثقافة البداوة، لكنها اكتسبت في الإسلام ثقافة حضرية، بل إن الإسلام نفسه نشأ وانتصر في أهم مدينتين متحضرتين من مدن الحجاز هما مكة والمدينة، وكانت الطبقة العربية الرائدة والحاكمة في الإسلام تنتمي إلى هاتين المدينتين على الغالب، إضافة إلى مدينة الطائف، بل إن الإسلام نفسه كان في بعض وجوهه انتصاراًً لثقافة الحضارة على ثقافة البداوة، وتذكّروا الحملة التي شنها القرآن على (الأعراب) باعتبارهم كانوا يمثلون ثقافة البداوة، وكان (العربي) حينذاك يعني (المتحضر)، أما (الأعرابي) فكان يعني (البدوي).

والمعروف أن المعتصم بالله، واسمه إسحاق، هو ابن هارون الرشيد، شأنه في ذلك شأن كل الأمين والمأمون، ويذكر أكثر من مصدر تاريخي أن هارون الرشيد كان قد تربّى في رعاية يحيى بن خالد البرمكي، وأن الأمين والمأمون تربيا في رعاية كل من الفضل وجعفر ابني يحيى البرمكي، فكان الرشيد والأمين والمأمون ذوي ثقافة عالية. أما المعتصم فلم أجد ذكراً للجهة التي تولّت تربيته، ولعله تربّى في رعاية أخواله الأتراك، أو أنه تشرّب ثقافة أمه التركية، وكان الأتراك حينذاك ينتمون إلى ثقافة البداوة، وتغلب على طباعهم الخشونة، ويمتازون بالفروسية والشدة في ميادين القتال، حتى إن أهل بغداد تبرّموا من فظاظة الجنود الأتراك الذين جنّدهم المعتصم، وسخطوا عليهم بسبب عبثهم بالناس واعتدائهم عليهم في الأسواق، فبنى لهم المعتصم مدينة سامراء (سُرّ مَن رأى)، ونقلهم إليها، ليكفّوا أذاهم عن جماهير بغداد.

وما يرجّح كون مسألة ميل المعتصم إلى الترك مسألة ثقافة أنه كان أمياً، وكذلك كان بعض وزرائه، وهو الذي خاطب أحد وزرائه- ولعله الفضل بن مروان- مستنكراً عليه جهله قائلاً: " خليفة أمي، ووزير عامّي! ". والدليل الآخر أن المعتصم كان رجل حرب وقتال، وكان يمتاز بقوة جسدية هائلة، إلى درجة أنه كان يبارز الأسد وحده، وكان يتباهى بقوته الجسدية، وقد شمّر ذات يوم عن ساعده، ودعا أحد جلسائه، وكان وزيراً أو قاضياً، أن يعض ساعده بأقصى ما يستطيع من قوة، ولم ير ذلك الجليس بداً من تنفيذ أمر الخليفة، فراح يعض ساعد خليفته بكل قوة، واعترف بأن ساعد الخليفة صلب كالحديد، وهذا الذي كان المعتصم يريد أن يسمعه، ولم يكن أحد من الخلفاء قبله يسمحون لأنفسهم بهذا النوع من السلوك العامي، وإنما كانوا يبارون الوزراء والعلماء والقضاة في مجالات المعرفة والثقافة، من دين وأدب وتاريخ وفلسفة وغيرها.

 وكانت قوة المعتصم وهيبته تمنع الأتراك ضباطاً وجنوداً من الاستئثار بمقاليد الأمور، لكن الأمور اختلفت بعد وفاته، فقد تفاقم نفوذ الترك في مركز الخلافة بغداد، ووصل الأمر أن الضباط الأتراك دبّروا أمر اغتيال الخليفة العاشر المتوكل على الله سنة (247 هـ)، وسقطت هيبة الخلافة منذ ذلك الحين، وأصبح الخلفاء ألعوبة بين أيدي القادة العسكريين الترك، إلا نادراً، ومن كان يقف في وجوههم كان يلقى جزاءه إما عزلاً، وإما قتلاً؛ ونتيجة لذلك ضعفت قبضة الدولة المركزية، ونشأت في أطراف الإمبراطورية العباسية دول وإمارات ما كانت تخضع لبغداد العاصمة إلا شكلاً، وكانت تكتفي بذكر اسم الخليفة في خطبة الجمعة، مع تزويده ببعض الأموال المقررة كل سنة لمصاريف الخليفة وحاشيته، ونذكر من تلك الدول والإمارات: الدولة السامانية في فارس، والدولة الحمدانية في بلاد الشام، والدولة الطولونية في مصر، والدولتان الشدادية والمروانية في كردستان.

إطلالة على الدولة المروانية

ويدور تاريخ الفارقي بصورة أساسية حول ميّافارقين التي كانت عاصمة الدولة المروانية، وقد نشأت الدولة المروانية في البداية على شكل إمارة، وكان مؤسسها الأول هو زعيم كردي شجاع يدعى باد بن دُوستك، من نواحي ديار بكر (آمد)، ولذلك تسمى هذه الدولة باسم (الدوستكية) أيضاً، لكن سرعان ما قُُتل باد في إحدى معاركه سنة (380 هـ /990 م)، وتسلّم أقاربه من بني مروان شؤون الإمارة، وشرعوا يوسّعون حدودها، وينشرون فيها الازدهار، ويرفعون من شأنها حتى حازوا لقب (ملك)، وظلت الدولة المروانية قائمة إلى أن قضى عليها الترك السلاجقة حوالي سنة ( 478 هـ / 1086 م)، وأشهر ملوكها هو الملك نصر الدولة أحمد بن مروان، وقد حكم بين سنتي (401 - 453 هـ / 1061 - 1080 م). وكانت مدة الدولة المروانية بين سنتي (372 – 478 هـ / 982 - 1086).

  ونجد الفارقي كثير الاهتمام بذكر أمجاد الدولة المروانية ومنجزاتها الحضارية، والإشادة بالنهج الدبلوماسي السلمي الراقي الذي نهجه الملك نصر الدولة، وأكد ابن الجَوْزي هذه الحقيقة إذ قال في كتابه (المنتظَم 16/70):

" وكان إذا قصده عـدوّ يقول: كم يلزمني من النفقة على قتال هذا؟ فإذا قالوا: خمسون ألفاً. بعث بهذا المقدار، أو ما يقع عليه الاتفاق، وقال: ادفعوا هذا العدوّ ".

واستطاع نصر الدولة بسياسته الحكيمة والمتوازنة أن يفوز باعتراف القوى الإقليمية الثلاث الكبرى في عصره؛ نقصد الخلافة العباسية في العراق، والخلافة الفاطمية في مصر، والدولة البيزنطية، وأرسلت كل دولة من هذه الدول ممثّلها إلى العاصمة ميّافارقين سنة (403 هـ /1013م)، مصحوباً بالهدايا والتحف الثمينة، لإبلاغ الملك المرواني اعترافها بحكومته حسب التقاليد الدبلوماسية في ذلك العصر؛ ولندع الفارقي يصف طرفاً من الأحـداث السياسية الهـامة التي ازدانت بها الدولة المروانية، قال في تاريخه ( ص 108- 110):

" في ذي الحجّة من سنة ثلاث وأربعمـائة…، قبل العيد بثلاثة أيام، وصل خادم [موفد] من خدم الخليفة القادر بالله، ومعه حاجب من سلطان الدولة ابن بُوَيه يسمّى أبا الفرج محمد بن أحمد بن مَزْيَد، ووصل معهما الخُلَع والتشريف والمنشور بديار بكر أجمع من الخليفة والسلطان، ولُقّب بنصر الدولة وعمادها ذي الصَّرامتين ".

" وفي عشيّة ذلك اليوم وصل رسول من خليفة مصر، وهو الحاكم بأمر الله أبو علي منصور، وورد معه من الهدايا والتحف والألطاف شيء كثير، ولقّب نصر الدولة بعزّ الدولة ومجدها ذي الصَّرامتين، فخرج كل من في الدولة إلى لقائه، ودخل البلد. ومن بُكرة ذلك اليوم ورد رسول من ملك الروم باسيل الصقلّي وكان ملك القسطنطينية، فخرج الناس إلى لقائه، ووصل معه من القُود [الجياد الطويلة العنق] والجنائب [النُّوق] والتحف ما لا يوصف ".

 " وكان اليوم الرابع للعيد، وجلس نصر الدولة لهناء العيد على التَّخْت [كرسي الملك وحضر رسول الخليفة والسلطان، فجلسوا على اليمين، وحضر رسول مصر، ورسول ملك الروم، فجلسا على الشمال، وحضرت الشعراء والقرّاء، وكان يوماً عظيماً وعيداً مشهوداً، وقرئت المناشير على الناس بحضور الرسل والأمراء، ولبس الأمير الخلع، وخلع على الرسل من الخلع ما لم يمكن أن يكون مثلها ".

ونفهم من هذا أن الدول المجاورة كانت تتعامل مع الدولة المروانية باهتمام واحترام، وتقدّر مناخ الأمن والاستقرار والعدالة والغنى الذي ساد فيها، فراحت تخطب ودّها، وتقيم معها أفضل العلاقات، ولا ريب أنه كان للمصالح التجارية أيضاً دورها في حرص دول الجوار على تمتين علاقاتها بالملك المرواني.

ملك يستضيف الطيور

وقد اشتهرت الدولة المروانية في عهد الملك نصر الدولة بالعطف على الغرباء، وأصبحت ملاذاً آمناً لعدد غير قليل من اللاجئين السياسيين في ذلك العصر، فيهم الملك والأمير والوزير، فكان نصر الدولة يرحّب بهم، ويعطف عليهم، ويبالغ في إكرامهم، ويوفّر لهم العيش اللائق بمكانتهم، لقد لجأ إليه- على سبيل المثال- الملك العزيز البويهي، والوزير أبو القاسم المغربي، والوزير ابن جَهِير الثعلبي الموصلي، وابن خان التركي؛ قال الفارقي في ذلك (ص 143):

" وقصده الناس من كل جانب، وحصل كهفاً لمن التجأ إليه ".

    وفي سنة (450 هـ) خرج البَساسِيري التركي (قُتل في 451 هـ) على الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وكان البساسيري من مقدّمي الأتراك، ومن مماليك الملك بهاء الدولة البويهي، وخطب البساسيري للخليفة الفاطمي المستنصر بالله صاحب مصر، فهرب الخليفة القائم من بغداد إلى الحَدِيثة، وضاقت الدنيا بأسرته، فلم تجد زوجته، أمّ ولي العهد، الملاذ إلا في كنف الملك نصر الدولة، قال الفارقي في كتابه (ص  153 - 154):

" وخرجت السيدة ومعها أبو العبّاس محمد بن القائم- وهو الذخيرة أبو المقتدى- فقصدت السيدة ميّافارقين ومعها الذخيرة صغيراً، وخرج نصر الدولة إلى لقائهم، فأنزلهم واحترمهم وأضافهم، وأنفذهم إلى آمد، وأنزلهم في القصر، وتقدّم بما يحتاجون إليه ".

ويؤكد مؤرخون آخرون غير الفارقي البعد الإنساني في نهج الملك نصر الدولة، فقد ذكر ابن كثير في كتابه ( البداية والنهاية، 12/87). أن رعاية هذا الملك لم تقتصر على الناس، بل شملت الحيوانات أيضاً، وبكيفية لم نعهدها من سائر الملوك، فقد بلغه أن الطيور تجوع شتاء لكثرة الثلج، وأن الناس يصطادونها بسبب ارتيادها للقرى بحثاً عن الحب، فأمر بفتح مخازن الحبوب، وإلقاء ما يكفيها من الغلات طوال الشتاء، فكانت الطيور في ضيافته طوال الشتاء مدة عمره؛ وهذا موقف فريد لم أجد له في  التاريخ القديم مثيلاً، على الأقل في حدود ما أعلم.

    ومن يقرأ سيرة الحكام المروانيين يجد أن الغالب عليهم هو الحرص على أن يعيش شعبهم في رغد العيش، وفي ظلال الأمن والسلام، وكانوا شغوفين بالترف، وذكر الفارقي (ص 169) أن نصر الدولة تزوج أربع نساء، وكانت له ثلاثمئة وستّون جارية حظايا، وكان لا تصل نوبة إحداهن في السنة إلا مرة واحدة، وكان في كل ليلة له عروس جديدة، وكان له من المغنيات والراقّصات، وأصحاب سائر الملاهي، ما لم يكن لسواه من الملوك والسلاطين، وكان كلما سمع بجارية مليحة أو مغنّية مليحة طلب شراءها، وبالغ في مشتراها، ووزن أضعاف قيمتها. قال الفارقي (ص 143) يلخّص النعيم الذي عاشه نصر الدولة:

" واستقرّ نصر الدولة في المُلك، وملك ما لا يملك أحد مثله، وتنعّم بما لا يتنعّم أحد غيره ".

    وقال أيضاً في (ص 144): " وكانت أيامه كالأعياد ".

-    -    -

بعد أن عرفت هذه المعلومات عن فارقين.

وكان الفضل في ذلك للمؤرخ الفارقي رحمه الله.

أصبحت أكثر قدرة على فهم أسرار الموسيقا الفارقينية.

وقديماً قيل: " إذا عُرف السبب، بَطَل العجب ".

 

المصــادر

1 - ابن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م.

2 -  أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى،1981م.

3 - ابن الجوزي (أبو الفرج عبد الرحمن بن علي)): المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقيق محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992م.

4 - ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999م.

5 - خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة التاسعة، 1990.

6 - ابن طباطبا (محمد بن علي المعروف بابن الطقطقا): الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1980.

7 - عبد الرقيب يوسف: الدولة الدوستكية في كردستان الوسطى، مطبعة اللواء، بغداد، الطبعة الأولى، 1972م.

8 - الفارقي: تاريخ الفارقي، تحقيق الدكتور بدوي عبد اللطيف عوض، دار الكتاب اللبناني، 1974.

9 - ابن كثير الدمشقي: البداية والنهاية، مكتبة المعارف، بيروت، 1977م.

10 - ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.

    وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة عشرة.  

              د. أحمد الخليل   في 3 – 4 - 2006        dralkhalil@hotmail.com

 

 

 

===========================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الثانية عشرة )

كريم خـان زند

( 1715 - 1779م )

(حوالي 1118- 1193هـ)

الجغرافيا أولاً

كي نفهم التاريخ فلنبدأ بالجغرافيا.

وكي نفهم العقائد والأديان فلنبدأ بالجغرافيا.

وكي نفهم القيم والأخلاق فلنبدأ بالجغرافيا.

وكي نفهم الآداب والفنون فلنبدأ بالجغرافيا.

وكي نفهم السياسة والاقتصاد فلنبدأ بالجغرافيا.

تلك هي الحقيقة، وعذراً إذا كنت أكررها مرة تلو أخرى.

فالإنسان نفسه جزء من الجغرافيا، وهو لم ينزل على كوكب الأرض بالمظلة من كوكب آخر، إنه في الأصل كائن جغرافي، كائن مجبول من الجغرافيا، وقد أقرت الأديان السماوية الثلاثة هذه الحقيقة في معرض حديثها عن قصة الخليقة، فذكرت أن الله أخذ قبضة من تراب كوكبنا هذا، وخلق منها جد البشرية الأول (آدم).

وبطبيعة الحال لست أقصد بمصطلح الجغرافيا مجرد التضاريس من جبال ووديان، وسهول وصحارى، وأنهار وبحار فقط، كما أني لا أقصد بالجغرافيا المناخ من أمطار وثلوج، وحر وقر، وخصوبة وجفاف فقط، بل أقصد كل هذه العناصر الجغرافية وهي في حالة تفاعل مع البشر أفراداً وجماعات، بلى إنني أقصد (الجغرافيا البشرية)، وأقصد (الجغرافيا السياسية/ جيوبوليتيك).

وعندما نأخذ هذه الحقيقة التاريخية والعلمية بالحسبان في قراءتنا للأحداث عاديّها وخطيرها، وقديمها وحديثها، وفي تحليلنا للأمور صغيرها وكبيرها، نصبح أقدر على فك كثير من الطلاسم في تاريخ البشر، كما نصبح أكثر معرفة بالعوامل الحقيقة التي وقفت وراء كثير من الأحداث الكبرى، وليس هذا فحسب، بل نصبح أكثر قدرة على فهم الأحداث الكبرى المعاصرة، ونغدو أقدر على تأسيس المستقبل لأجيالنا القادمة.

قزلْ قُورْت!..

وأكتفي هاهنا بالوقوف عند مثال بسيط جداً.

إنه عبارة ( قِزِّلْ قُورْت )!

فمن من الكرد في منطقة عفرين لم يسمع هذه العبارة في معرض السخط والاستنكار؟! ومن منا لم يسمعها من الأمهات، وأحياناً من الآباء، وهم يعبّرون عن غضبهم على هذا الصبي أو ذاك، إما لأنه قال ما لا يجب أن يقال، وإما لأنه فعل ما لا ينبغي أن يفعل، وإما لأنه ألحّ على طلب شيء ما إلحاحاً تجاوز به المألوف؟!

إنها عبارة كثيرة التداول في مجتمعنا الكردي، ولم أسمعها في البيئات الاجتماعية العربية الصرف، سوى تلك التي خالطها الكرد منذ قرون كالبيئة الحلبية، فقد سمعتهم يلفظونها للأغراض السابقة الذكر، لكن بصيغة ( أِزِّلْ أُورْت )؛ أي بإبدال  القاف همزة حسب اللهجة الحلبية المعروفة.

بلى، إننا سمعنا عبارة ( قِزِّلْ قُورْت ) صغاراً، وربما قلناها كباراً، وكنا ندرك دلالتها في الحالين، لكن لم يخطر لنا قط أن نحلّلها لنعرف كنهها، شأنها في ذلك شأن كثير من العبارات التي نقولها عفوياً، دونما وقوف عند جذورها؛ وهذا في الحقيقة ميدان لغوي دلالي ما أمتعه وما أنفعه إذا أحسن المرء القيام به!

وكي نفهم حقيقة ( قِزِّلْ قُورْت ) لا بد من العودة إلى الجغرافيا، وإلا فلن ندرك دلالتها الحقيقة، وآمل أن يكون القارئ صبوراً بعض الشيء؛ فمثل هذه الأمور التي تكوّنت وتطورت عبر القرون، وساهمت عوامل عديدة ومتشعبة في تكوينها، وانتقلت من جيل إلى جيل، لا ينفع معها الارتجال والتعجّل، ولا بد من القيام برحلة تاريخية متأنية عبر الميثولوجيا، والسياسة، والاقتصاد، والفولكلور، إلى أن يستقر بنا التطواف أخيراً في رحاب الجغرافيا.

ولنبدأ الرحلة.

إن عبارة ( قِزِّلْ قُورْت ) ليست كردية صرفاً، فاللفظ الصحيح للجزء الأول فيما أعلم، هو ( قِزِلْ )من غير تشديد لحرف (ز)، وقد تكون كلمة ( قِزِل ) كردية وقد تكون تركية، ولست متأكداً من هويتها، وحبذا أن يتفضل عليّ من له دراية جيدة باللغتين بتحديد انتمائها الدقيق! وكلمة ( قِزِل ) تعني فيما أعلم (أغبر/ضارب إلى الحمرة). أما كلمة (قورت) فهي تركية صرف تعني (ذئب)، وهكذا فعبارة ( قزل قورت ) تعني (الذئب الأغبر)؛ أي الذئب الذي في لونه حمرة؛ وهكذا فإن أمهاتنا وآباؤنا عندما كانوا يؤنّبوننا أو يردعوننا بعبارة ( قِزِلْ قُورْت) إنما كانوا يدعون علينا بأن نصبح فريسة للذئب الأغبر.

وقد يقال: أين المشكلة!

فالذئب حيوان معروف بشراسته، وكان معظم الكرد قديماً يملكون قطعان الغنم (كُوچَر)، ويرتادون بقطعانهم الجبال، ويضطرون من ثم إلى خوض صراعات مريرة ضد الذئاب المتربصة بهذه الشاة القاصية أو تلك. ثم لا ننس أن الذئب قد دخل الموروث الإسلامي أيضاً، وذلك عبر قصة النبي يوسف عليه السلام في القرآن، ومن الطبيعي أن تدخل رمزية الذئب في الثقافة الكردية عامة، وفي الفولكلور الكردي خاصة، بهذه الدلالة المخيفة.

نقول: إن رمزية ( قِزِّلْ قُورْت ) أبعد من مسألة الصراع بين الرعاة والذئاب، وأقدم من العهد الذي اعتنق فيه الكرد الإسلام، إنها تعود في جذورها إلى الصراع التاريخي الطويل بين العرق التَوْراني ممثَّلاً في (الغُزّ، المغول، التتر، التركمان، الترك)، والعرق الآرياني ممثَّلاً في (الكرد والفرس). ولست هنا بصدد الحديث عن الصراعات بين الأعراق المتجاورة، لكن تلك هي الحقيقة إذا كنا من محبي معرفة الحقائق كما هي، من غير تحوير ولا تجميل.

 فالمعروف في كتب المصادر التاريخية الموثّقة أن شعوب العالم مرت بمرحلة ميثولوجية (دينية بدائية) عرفت بالمرحلة الطوطمية، وحينذاك كان الوعي البشري بسيطاً وساذجاً وقاصراً، فتصوّرت كل قبيلة، أو مجموعة بشرية، أن جدها الأول كان كائناً حيوانياً أو نباتياً معيناً، وكانت تتخذ ذلك الكائن حامياً لها وإلهاً تعبده، أو تتعامل معه بقدسية على أقل تقدير، وكانت تتخذه من ثَم رمزاً خاصاً لها. ويذكر المؤرخ التركي يلماز أوزتونا في كتابه القيّم (تاريخ الدولة العثمانية، الجزء الأول، ص 22) أن الأتراك يعتقدون أن الجد الأكبر لسلالتهم هو الذئب الأملح؛ أي الضارب إلى الحمرة، لذلك فهو أي الذئب رمز وطني للأتراك. ويؤكد ميرسيا إيلياد هذه الحقيقة في كتابه (التنسيب والولادة الصوفية، ص 172).

وكانت بلاد توران، وهي تمتد من شرقي بحيرة قزوين حتى منغوليا الحالية، بلاداً صحراوية، فقيرة بموارد العيش، شحيحة بالأقوات، شأنها في ذلك شأن معظم البيئات الصحراوية في كوكبنا هذا، ولا يخفى أن البيئات الصحراوية تفرض على المجتمع طابع البداوة، وتنمّي في الإنسان نزعة (الصراع من أجل البقاء)، وتؤسس في النفس والعقل قيم القسوة والشراسة والبطش، كما أنها تجعل المرء مضطراً إلى القيام بالغزو والسلب والنهب؛ كي يضمن لنفسه الاستمرار في الحياة.

وكان من الطبيعي أن يتوجّه التورانيون بغزواتهم نحو مواطن جيرانهم الآريانيين في الجنوب والغرب (أفغانستان، وإيران، وكردستان)، وهي مناطق تمتاز بالخصب والحضارة، وكان من الطبيعي أيضاً أن يدور صراع شديد بين التورانيين والآريانيين للسيطرة على المكان (الجغرافيا)، وفي ملحمة (الشاهنامة) للشاعر الفارسي الفردوسي، وفي غيرها من المصادر التاريخية الفارسية مثل كتاب (الأساطير الإيرانية القديمة) للدكتور إحسان يار شاطر، شواهد كثيرة على حدّة الصراع بين الفريقين، وكان الكرد ميديين وغير ميديين، والفرس أخمينيين وغير أخمينيين، يتبادلون مواقع القيادة في الحرب ضد التورانيين، تارة لرد هجماتهم على مواطن الآريانيين، وأخرى لإخضاعهم.

وقديماً كانت كل قبيلة تحمل في حروبها رايات أو شعارات أو أشكالاً ترمز إلى طوطمها الأكبر، ولا ريب أن التورانيين كانوا يحملون معهم في غزواتهم وحروبهم ما يرمز إلى جدهم الأعلى الطوطمي (قزلْ قُورْت)، (تذكروا معي هاهنا أن الحملة التي شنتها تركيا على شمالي قبرص، لإقامة جمهورية قبرص التركية، كان اسمها: الذئب الأغبر، فيما أذكر). كما أن الآريانيين كانوا يحملون معهم ما يرمزون به إلى (الشمس) باعتبارها إلههم الطوطمي الأقدم، أو باعتبارها رمزاً إلى (الله).

وتفيد الروايات التاريخية أن النبي الآرياني الميدي (زردشت) نفسه قُتل على أيدي التورانيين في معبده، خلال إحدى هجمات التورانيين على مدينة ( بَلْخ ) في شرقي بلاد آريان (شمالي أفغانستان حالياً)، وتذكر المصادر التاريخية أن التورانيين الذين قتلوا زردشت مع ثمانين من مريديه داخل المعبد كانوا قد تخفّوا في شكل الذئاب، والأرجح أن تلك الذئاب كانت من صنف (قزلْ قُورْت).

وظل الآريانيون فرساً وكرداً عرضة للهجمات التورانية طوال التاريخ الإسلامي، بدءاً باندفاعات الغُزّ (الأُوغُوز) المدمرة، ومروراً بهجمات الخُوارزميين، والمغول، والتتار، والسلاجقة، وانتهاء بالعثمانيين. والحق أن الكرد كانوا، طوال تاريخهم القديم والحديث، أكثر الشعوب الآريانية التي تضررت من الغزوات التورانية، وكان لهم النصيب الأوفى من شراسة ذلك الـ (قزلْ قُورْت).

فهل من العجب في شيء أن تتجذّر تلك العبارة المقيتة في اللاوعي الجمعي الكردي، وتدخل إلى الفولكلور الكردي، وتصبح رمزاً إلى الترهيب والتخويف، وتدور على الألسنة بشكل عفوي؟! وهل ترون كيف أن جغرافيا توران الصحرواية الفقيرة، وعبر قرون متتابعة، أوصلت إحدى منتجاتها الثقافية إلى الكرد صغاراً وكباراً حتى في منطقة عفرين النائية؟!

صفويون .. وعثمانيون

وأعلم أني قد استطردت بعض الشيء.

لكن كان من الضروري ألا أكتفي بالتنظير، وشعرت أن من المفيد ذكر ولو مثال واحد على الصلة الوثيقة بين الجغرافيا والتاريخ؛ أقصد التاريخ بكل مكوّناته الميثولوجية والفولكلورية والسياسية والاقتصادية.

والحقيقة أن الصراع التوراني- الآرياني لم يتوقف، بل كان كالنار تحت الرماد تارة، وكان يندلع على شكل حروب تارة أخرى، وقد استطاع الفرس تهميش الدور الكردي في منطقة آريان (فارس وكردستان وأذربيجان)، منذ هيمنة الأخمينيين على الدولة الميدية حوالي منتصف القرن السادس قبل الميلاد، لكنهم كانوا بحاجة على الدوام إلى الاستقواء بالجغرافيا الكردية، وبالقوة القتالية الكردية، للوقوف في وجه التورانيين المتطلّعين إلى الشرق والجنوب، وفعلوا الأمر نفسه حينما تصدوا للفتوحات الإسلامية التي قادها العرب. وما الصراع البويهي السلجوقي، في العصر العباسي، إلا شكل آخر من أشكال الصراع الآرياني- التوراني.

ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي، برز الصراع الآرياني- التوراني في صيغة الصراع الصفوي (الفارسي) والعثماني (التركي)، وقاده من الجانب الفارسي الشاه إسماعي الصفوي (حكم بين سنتي 1501 - 1524م)، ومن الجانب التركي السلطان سليم الأول (حكم بين سنتي 1512 - 1520 م). وكانت كردستان والعراق، على الدوام، في بؤرة الصراع بين الفريقين.

وقبل الحديث عن القائد الكردي كريم خان زَنْد لا بأس من وقفة سريعة عند نشأة الدولة الصفوية، تلك الدولة الإمبراطورية التي شمل نفوذها إيران وأفغانستان وبلوشستان وخوزستان، إضافة إلى أذربيجان وشرقي كردستان، وأحياناً قليلة العراق. إن الجد الأعلى للشاه إسماعيل الصفوي هو الشيخ صفيّ الدين الأَرْدَبِيلي ( 1253- 1334م)، وهـو منسوب إلى الإمـام موسى الكاظـم سابع الأئمة عنـد الشيعة الإمامية، وصفيّ الدين هـو أول شيوخ الطريقة الصفوية.

وفي عهد الشيخ علاء الدين علي (1392 - 1448م) حدث الاجتياح التيموري للعالم الإسلامي، وكان تيمورلنك شيعيّ الهوى، وكان يُجلّ الشيخ علاء الدين، وإكراماً للشيخ أفرج تيمورلنك عن ثلاثين ألفاً من التركمان الذين كان قد أسرهم في حروبه ضد السلطان العثماني بايزيد الأول، ووهبهم له، فصار هؤلاء وأبناؤهم وأحفادهم فيما بعد من أبرز مريدي الأسرة الصفوية، وكانوا يشكلون القوة الضاربة في حروبها الكثيرة ضد العثمانيين.

وفي عهد الشيخ سلطان حيدر (1460 - 1488م) انتقلت الطريقة الصفوية من الطور الديني إلى الطور العسكري؛ إذ نظّم هذا الشيخ مريديه تنظيماً عسكرياً جيداً، واختار لهم لباساً خاصاً يتميّز بقلنسوة حمراء ذات اثنتي عشرة شقّة (تيمّناً بالأئمة الاثني عشر)، لذا عُرف الصفويون من قبل الترك العثمانيين بلقب (قِزِلْ باش)؛ أي أصحاب الرؤوس الحمر.

ويعدّ الشاه إسماعيل الصفوي المؤسس الحقيقي لهذه الدولة، وهو الذي فرض المذهب الشيعي على الشعوب الإيرانية، وعمل للقضاء على المذهب السني، كما أنه خاض حروباً طاحنة ضد العثمانيين حماة المذهب السني، والحقيقة أن الصراع الشيعي والسني كان غطاء خارجياً براقاً لصراع أعمق جذوراً وأطول تاريخاً؛ هو الصراع على الجغرافيا والنفوذ بين سلالة توران وسلالة آريان، وبعبارة أخرى بين الثقافة الآرياينة والثقافة التورانية.

وفي سنة (1722م) أنهى نارد شاه- من قبيلة أفشار التركمانية الأصل- حكم الأسرة الصفوية، لكن عدّه معظم الإيرانيين مغتصباً للعرش، يعتزم إزالة المذهب الشيعي وإعادة المذهب السني، فاغتاله القواد الشيعة سنة (1747م)، في معسكره بمدينة فتح أباد في خبوشان، وكان نادر شاه جاء إليها بجيشه للقضاء على ثورة للكرد نشبت هناك. وإن هذا الزوال السريع لحكم نادر شاه تبعته فوضى عامة في فارس والقوقاز والأقاليم المجاورة لتركيا، وأدى النزاع بين الزعماء القبليين على العرش الفارسي إلى حروب طاحنة جديدة.

وفي خضم تلك الصراعات والحروب الطاحنة برزت الجغرافيا الكردية ثانية، وبرزت معها القوة القتالية الكردية الفاعلة، لتترك بصماتها على المسرح السياسي والحضاري في بلاد آريان، وحدث ذلك بقيادة شخصية كردية بارزة، هو كريم خان زَنْد. فكيف جرت الأمور؟

ظهور كريم خان

يتألف الكرد، في حدود ما أعلم، من أربعة فروع كبيرة رئيسة، هي: الكرمانج في الشمال، والگوران في الوسط، والكلهور واللور في الجنوب. وتنتمي قبيلة زَنْد إلى فرع اللور، وموطنهم في لورستان بجنوب غربي إيران حالياً، وكان اسم المنطقة التي يقيم فيها الزنديون (ملاير)، وكان الزنديون يثورون على كل من نادر شاه والعثمانيين معاً، فهاجمهم نادر شاه بقسوة، وقضى على ثورتهم، وأكره قسماً كبيراً منهم على الهجرة إلى خراسان شرقاً، وأسكنهم حوالي مدينة أَبِيوَرْد، ليكونوا في مواجهة التركمان الغزاة القادمين من الشرق والشمال، وكانت هذه سياسة متبعة ضد الكرد منذ العهد الآشوري.

وبعد مقتل نادر شاه على أيدي القواد الشيعة كما مر، عيّن أولئك الزنديون المهجّرون كريم خان قائداً لهم، وكان كريم خان قبل ذلك من قوّاد نادر شاه القدامى، وكان صاحب خبرة وتجربة في ميادين القتال، فأحسن استغلال الظروف، وعاد بالزنديين إلى موطنهم الأصلي ملاير في لورستان، يعاونه في ذلك أخوه صادق، هذا رغم الأخطار التي كانت تحدق بهم خلال رحلة العودة تلك، ومنذ ذلك الوقت أصبح كريم خان زعيماً لقبيلة زند عن جدارة.

وفي عام (1750م)، ونتيجة لتفاقم الصراع على السلطة في فارس، أعلن مراد خان، زعيم قبائل بختياري (فرع من الكرد فيما أعلم)، نفسه وصياً على عرش بلاد فارس، وتحالف معه كريم خان، فحاربا معاً الغزاة الأفغان، وحققا انتصار عليهم، ولكن سرعان ما دبت الخصومة بين الزعيمين، وتغلّب كريم خـان على مراد خـان في النهاية، واعترف به الجيش وصياً على عرش بلاد فارس.

وأسّس كريم خان دولة متماسكة قوية، واتخذ مدينة شيراز في جنوبي فارس عاصمة لحكمه، وهي المنطقة التي نشأت فيها السلالات الأخمينية والساسانية قديماً، وبدعم من جماعته اللُّور المخلصين، ومن عشائر بختياري، ومن الخيالة العرب، حارب كريم خـان منافسيه والحق بهم الهزيمة، وكانت النتيجة أن ساد السلام والرخاء في بلاد فارس طوال حكمه حوالي عشرين عاماً.

وبعد وفاة كريم خان زند تولّى السلطة كردي آخر هو لُطْف علي خان، زعيم اتحاد قبائل اللور، ولكنه لم ينجح في مكافحة سلالة قاجار Kajar، وهي قبيلة تركمانية كان مركزها في طهران، وكانت تشد قبضتها على شمالي فارس. وقد نُصب كمين للزعيم الكردي لطف علي خان، وسُلّم إلى آغا محمد خـان، مؤسس السلالة القاجارية، فقتله في ديسمبر/ كانون الأول (1793م)، بعد أن اقتلع عينيه.

وخشية من انبعاث نهضة كردية جديدة في جنوبي بلاد فارس، وفي لورستان وأراضي بختياري خاصة، عمد ملوك قاجار التركمان إلى مضايقة الأمراء والشخصيات المنحدرين من سلالة كريم خان زند بقسوة، فأعدموا بعضهم جهراً، وقتلوا آخرين سراً، ولذلك لم تستطع القبائل الكردية في فارس أن تكون قوة سياسية حتى العصر الحديث.

إنجازات كريم خان

أصيب كريم خان في آخر عمره بالسل، وكان قد تجاوز الخامسة والسبعبن، وفي رواية أنه تجاوز الثمانين، وتوفّي في عاصمته الجميلة شيراز سنة (1193 هـ/1779 م)، ويشهد المؤرخون أنه كان أحد ملوك إيران المحمودي الذكر والطيبي السيرة؛ إنه كان محباً لرعيته، حسن المسلك معهم، يعيش ببساطة شديدة، غير مكترث لبهارج السلطة وترف العيش، حتى إنه رفض طال حكمه قبول لقب (ملك) و(سلطان)، رغم أنه كان جديراً بهما، وسمّى نفسه طوال حكمه بلقب (وكيل الرعايا)، وكان لا يحقد ولا يقسو، ويقول عباس إقبال الآشتياني في كتابه (تاريخ إيران من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية)

"ولا يزال جارياً على ألسنة الناس حكايات وأساطير كثيرة، تحكي بساطة حياة كريم وحسن معاملته، وسعيه لتحسين أحوال الشعب ".

وذكر شاهين مكاريوس في كتابه (تاريخ إيران) مزايا حكم كريم خان قائلاً:

" فحكم مدة طويلة حكماً لم يسمع في إيران بأحسن منه، واطمأنت قلوب الأهالي، وبطلت الأهوال والمذابح من بلادهم، ومُنعت المظالم والمغارم، وراجت الصناعة والتجارة والزراعة، وتحسّنت موارد الأهالي تحسّناً بيّناً، وكثرت موارد الثروة ".

وأضاف مكاريوس واصفاً اهتمام كريم خان بالعمران والازدهار:

"وجعل شيراز عاصمة ملكه، وبنى فيها أبنية فخمة، مثل البساتين والأسواق والحمامات والجوامع التي لا تزال باقية إلى الآن،... وأحسن إلى الأمناء من أهل دولته، وشدّد على الظالمين، وأتى كل ما في وسعه لتعميم الأمن والعدل في البلاد، فتم له ذلك ".

-    -    -    -

إن سيرة القائد الكردي كريم خان في بلاد فارس تعيد إلى الذاكرة سيرة قائد كردي آخر سبقه بستة قرون، وحكم مصر والسودان وليبيا وبلاد الشام والحجاز، وجزءاً كبيراً من كردستان، إنه السلطان صلاح الدين الأيوبي، وثمة قواسم مشتركة عديدة بين هذين القائدين، من أبرزها:

-       العبقرية العسكرية.

-       العبقرية السياسية والإدارية.

-       الاهتمام بتحسين أحوال الرعية.

-       الاهتمام بالحضارة والثقافة والعمران.

-       بساطة العيش والنزعة الإنسانية النبيلة.

المصــادر

 1 – الدكتور إحسان يار شاطر: الأساطير الإيرانية القديمة، ترجمة محمد صادق نشأت، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

2 - شاهين مكاريوس: تاريخ إيران، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2003م.

3 – عبّاس إسماعيل صبّاغ: تاريخ العلاقات العثمانية- الإيرانية، دار النفائس، بيروت، 1999م.          

4 - عباس إقبال الآشتياني: تاريخ إيران من بداية الدولة الطاهرية حتى نهاية الدولة القاجارية، ترجمة الدكتور محمد علاء الدين منصور، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1989م.

5- ميرسيا إيلياد: طقوس التنسيب والولادة الصوفية، ترجمة حسيب كاسوحة، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1999.

6 - نوري إسماعيل: الديانة الزردشتية (مزديسنا)، منشورات دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، 1999م.

7 - يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة عدنان محمود سليمان، منشورات فيصل للتمويل،  إستانبول، 1988م. الجزء الأول.

Arshak Safrastyan: Kurds and Kurdistan,The harvill Press LTD, -London, 1948.

 

    وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة عشرة.  

              د. أحمد الخليل   في 18 – 3 - 2006   dralkhalil@hotmail.com

 

 =================================

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الحادية عشرة )

أمير الشعراء أحـمد شوقي

( 1869 - 1932 م )

من المسؤول؟!

ـ " عذراً يا دكتور أحمد!.. كنا نعتقد أن الأكراد مثل الغجر ".

هذا ما قاله زميلنا الأردني الدكتور محمد الشوابكة، بينما كانت السيارة تخبّ بنا الطريق الصحراوية في المنطقة الغربية من دولة الإمارات، وما زالت تلك العبارة ترنّ في أذني منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين انتصب أمامي سؤال هائل، سدّ عليّ الآفاق، وأحاط بي من كل جانب، وراح يطاردني في كل اتجاه، ويطالبني بإجابة شافية: (من المسؤول؟!).

بلى، فهذا مثقف عربي، يحمل من الشهادات درجة الدكتوراه، وبقي لا يعرف عن الكرد شيئاً؛ إلى أن التقى، وهو يدرس في أمريكا، بطالب كردي من إقليم كردستان في العراق، واكتشف حينئذ أن الكرد شعب، وليس شراذم متقطعة، وأنهم مثل سائر شعوب العالم، فيهم المثقفون من حملة الدكتوراه وغيرهم، وكان منهم الساسة والقادة، وعلماء الدين والدنيا. وإذا كانت هذه حال المثقف العربي إزاء الكرد - ولا أعتقد أن حال المثقف التركي والفارسي تختلف كثيراً- فكيف تكون إذاً حال المتعلم العادي وحال الأمي من هذه الشعوب؟!

وهاأنذا أضع السؤال أمامكم معشر القراء!

من المسؤول عن تغييب حقيقة الكرد من الذاكرة الشرق متوسطية؟! وليس هذا فحسب، بل من المسؤول عن تقديم الكرد إلى شعوب شرقي المتوسط، وربما إلى العالم أجمعه، بهذه الصورة المشوّهة التي تصل إلى حد الإهانة في تقديري؟! هل هم أولئك الذين يتحدّثون عن الكرد وكأنهم هبطوا خلسة، وفي ليلة ظلماء دامسة، على شرقي المتوسط، قادمين من كوكب مجهول؟! أم أنهم الذين يذكرون الكرد وكأنهم مجموعات مشرّدة، غير معروفة الهوية ولا التاريخ؟! أم هم أولئك الذين احترفوا صناعة الأوهام، وتعمّدوا تضليل شعوبهم، وقدّموا تاريخ البيت الشرقي متوسطي على أنه لا وجود للكرد فيه أصلاً؟!

إن كل هؤلاء مسؤولون عن هذا التضليل التاريخي، وقد درجت العادة في بيتنا الشرق متوسطي هذا أن نحمّل الساسة وحدهم مسؤولية كل تقصير، وهذا ما لا أراه صواباً، وإنما يتحمّل المثقفون المسؤولية الكبرى، لأنهم لو قاموا برسالتهم التثقيفية خير قيام، وقدّموا الحقائق للجماهير، بعيداً عن الأنانيات سواء أكانت دينية أم مذهبية أم قومية أم قبلية، لأوجدوا المُناخ الذي يساعد السياسي على انتهاج السياسات الواقعية الحكيمة، ومع ذلك فإن المثقفين العرب والترك والفرس لا يحملون سوى نصف الوزر، أما النصف الآخر فيحمله المثقفون الكرد أنفسهم.

في رحاب التاريخ

أجل، فلنعد إلى التاريخ، إنه الفيصل، وبالاحتكام إليه يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولن نذهب بعيداً، وإنما نكتفي بالوقوف عند بدايات القرن السادس عشر الميلادي، فقد كانت كردستان حينذاك ميداناً للصراع بين الصفويين الفرس والعثمانيين الترك، وكانت الإمارات الكردية تنعم بالاستقلال، وحوالي سنة (1515م)، وبجهود الشخصية الكردية ملا إدريس بدليسي، أفلح السلطان العثماني سليم الأول في استقطاب الحكمداريات والإمارات الكردية، وعقد ملاّ إدريس معاهدات مع الزعماء الكرد باسم السلطان، فبعث لهم السلطان فرمانات (مراسيم) يعترف فيها بهم على أنهم (بَگْلَرْبك)، لهم سلطاتهم المبجّلة وحقوقهم المتوارثة غير القابلة للتحويل، ولهم امتيازاتهم وملكياتهم لقلاعهم وحصونهم وأراضيهم بالكامل، ومُنحوا لقب الحكومات الكردية المسؤولة قانونياً فقط عن جزية سنوية اسمية، وتجنيد عدد محدّد من المسلحين والخيالة أثناء الحروب؛ وهذا ما يسمى في اللغة السياسة الحديثة باسم (الفيدرالية).

لكن مع بداية القرن التاسع عشر حدث التغيير؛ فقد عمد السلطان محمود الثاني، إلى إلغاء الإدارات الكردية الوراثية المتمتّعة بالحكم الذاتي، وفرض ولاة غرباء على الشعب الكردي، فراح هؤلاء يسومونه القهر والإذلال إضافة إلى الاستغلال البشع، ولاحظ الكرد في الوقت نفسه أن الإدارة العثمانية باتت تعمل لبسط سيطرة العنصر التركي في أرجاء الدولة، وزحزحة سائر المواطنين إلى المرتبة الثانية والثالثة؛ فكانت النتيجة أن الكرد نقموا على تلك السياسات، ونشبت الثورات الكردية المتلاحقة.

فمع بداية القرن التاسع عشر نشبت ثورة عبد الرحمن باشا الباباني (1804- 1813 م)، وتلتها ثورة كُور أحمد باشا راوندوز (1836 م)، ثم ثورة الأمير بدرخان بگ سنة (1842- 1847 م)، وثورة عثمان بك وحسين بك في الجزيرة سنة (1878 م)، ثم ثورة الشيخ عبيد الله نهري سنة (1880 م)، وتوالت ثورات كردية أخرى، لكنها أخفقت في الخلاص من السيطرة العثمانية، وكانت السلطات العثمانية تقوم، بعد القضاء على كل ثورة، بحملات القمع والتهجـير القسري، فنزحت عائلات كردية كثيرة إلى عواصم بلاد الشام وإلى مصر وأوربا.

وبرز من أحفاد تلك الأسر الكردية شاعر ألمعي، ومثقف عبقري، له مكانة سامية في الأدب العربي الحديث، شنّف آذان معاصريه بقصائد رائعة، وأتبعها بمسرحيات شعرية خصبة، ينشر القصـيدة فتصبح حديث الصحف والنوادي، ويرسل الحكمة فتجد لها مستقراً في القلوب قبل العقول، أقرّ له شعراء العربية في عصره بالعبقرية، ووضعوا راية الشعر في يده، ونصبوه أمـيراً عليهم، وما كان عصره بخيلاً بالشعر ولا عقيماً من الشعراء، بل كان فيه الجهابذة والفحول؛ فهذا حافظ إبراهيم في مصر، وخليل مطران في لبنان، وبدويّ الجبـل في سوريا، وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي في العراق، وغيرهم وغيرهم.

الرجل هو أحمد شوقي.

فماذا عن نشأته وشخصيته وعبقريته الشعرية؟

آخر من ينثر الذهب!

نزح الشاب أحمد شوقي، جدّ شاعرنا لأبيه، من كردستان- العراق إلى مصر، وهو يحمل رسالة توصية من حاكم عكا الشهير أحمد باشا الجزّار، وكانت مصر آنذاك تحكم من قبل محمد علي باشا، فضمّ محمد علي باشا الشاب الكردي إلى حاشيته، وكان يحسن العربية والتركية، وتتالت الأيام، فتنقّل في المناصب العالية، حتى أصبح أميناً للجمارك المصرية في عهد سعيد باشا، وتوفي عن ثروة واسعة عاش في ظلها عليّ والد شوقي، وشوقي نفسه.

أما ( جدّ شاعرنا لأمه فهو أحـمد حليم النجـده لي، نسبة إلى قرية (نجده)، ولعلها ( نگده )، وهي تقع في شمال شرقي كردستان قرب بحيرة أورميه، وإذا كان صح ذلك يكون أحمد النجده لي نفسه كردياً، لكن بما أنه قدم من جهات تركيا عده بعض الباحثين تركيا ً،  وقد دخـل مصر في عهد إبراهيم باشا الذي أعجب به، وقرّبه منه، وزوّجه معتوقته اليونانية تمراز، وكانت قـد أسرت في حرب الموره وهي بنت عشر سنوات، ونشأت في القصر بين وصيفاته، وتقلّد النجده لي العديد من المراتب السامية في الدولة، حتى أصبح وكيلاً لخاصة الخديوي إسماعيل، وتوفي وهو في تلك الوظيفة، فنقل الخديوي مرتّبه إلى أرملته.

وتزوج علي والد شوقي من ابنة النجده لي، وكانت الثمرة شاعرنا الكبير أحمد شوقي سنة (1869 م). وكانت جدته اليونانية تمراز شغوفة به حريصة على تربيته، وكانت منذ عصر إبراهيم باشا على صلة وطيدة بالقصر، ودخلت يوماً بحفيدها على الخديوي إسماعيل، وكان في الثالثة من عمره، ونظر إليه إسماعيل، فوجد بصره مشدوداً إلى السماء، فطلب بَدْرَة [كيساً صغيراً] من الدراهم الذهبية، ونثرها على البساط عند قدميه، فتحوّل شوقي إلى الدراهم، يجمعها ويلعب بها، فقال إسماعيل لجدّته: اصنعي معه ذلك حتى يتعوّد النظر إلى الأرض، فأجابته قائلة: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك! فقـال: جيئي به إليّ متى شئت، حتى أنثر الذهب تحت عينيه، فإني آخر من ينثر الذهب في مصر.

سذاجة أم تجاهل؟!

وتتجلى الطريقة التي يتعامل بها بعض الباحثين مع الحقائق التاريخية، والتي تصل أحياناً درجة الخلط والسذاجة، في حديثهم عن أصول أحمد شوقي، فقد ذكر فوزي عَطْوي في كتابه (أحمد شوقي أمير الشعراء، ص 11) أن أحمد شوقي ذكر أصله في مقدمة الطبعة الأولى للجزء الأول من ديوانه (الشوقيات) الذي أُنجز سنة (1898 م)، فقال:

" سمعت أبي رحمه الله يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب، ويقول إن والده قدم إلى هذه الديار يحمل وصاة من أحمد باشا الجزار إلى والي مصر محمد علي باشا، وكان جدي، وأنا حامل اسمه ولقبه، يحسن العربية والتركية خطاً وإنشاء، فأدخله الوالي في معيّته، .... ".

وهذا إقرار صريح من شوقي بأن نسبه كردي، أما قوله (إلى الأكراد فالعرب) فيرجع إلى الرأي الذي تناقله بعض المؤرخين القدماء، ومفاده أن الكرد ينتسبون في الأصل إلى العرب، ومنهم من نسبهم إلى القحطانيين، ومنهم من نسبهم إلى العدنانيين، وقد شاعت تلك الآراء بدءاً من ابن الكَلْبي محمد بن السائب (ت 146هـ) في كتاب له حول الأنساب، وأبي اليقظان سُحَيْم بن حَفْص (ت 190هـ) في كتابه (النسب الكبير)، ومروراً بالمؤرخ الشهير المسعودي (ت 346هـ) في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر)، ووصولاً إلى المقريزي (ت 845 هـ) في (كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك). غير أن الدراسات الحديثة تناقض تلك الآراء، وهذا موضوع شائك يحتاج إلى بحث مستقل، نأمل أن نقف عنده ذات يوم بعون الله.

وتعالوا نقرأ ما قاله بعض الباحثين عن أصل أحمد شوقي.

قارن الدكتور طه حسين في كتابه (حافظ وشوقي، ص 179) بين طبيعة حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، فلم يأت على ذكر الكرد مطلقاً، وقال:

" أما طبيعة شوقي فشيء آخر، معقدة ينبئنا شوقي نفسه بتعقيدها، فيها أثر من العرب، وأثر من الترك، وأثر من اليونان، وأثر من الشركس؛ التقت كل هذه الآثار وما فيها من طبائع، واصطلحت على تكوين نفس شوقي، فكانت هذه النفس، بحكم هذه الطبيعة أو الطبائع، أبعد الأشياء عن البساطة، وأنآها عن السذاجة ".

وتجاهل الدكتور محمد حمّود في كتابه (أحمد شوقي شاعر الأمراء، ص 5) النسب الكردي لأحمد شوقي، فقال: 

" ولد عام 1868 م في قصر الخديوي إسماعيل، لم يكن آباؤه مصريين، جده لأبيه شركسي عربي، قدم مصر أيام محمد علي ".

وتناول كتاب (أعلام الشعر العربي الحديث، ص 37) أصل أحمد شوقي، فقال:

" فجدته لأمه جارية يونانية الأصل، سماها إسماعيل تمراز، وتزوّجت هذه الجارية اليونانية من رجل تركي فأنجبت أم شوقي. وأما أبوه وجده لأبيه فشركسيان ".

والباحث الوحيد الذي دقّق في الأمر إلى حد ما هو الدكتور شوقي ضيف في كتابه (شوقي شاعر العصر الحديث، ص 9)، إذ قال متحدثاً عن ربة الشعر وشوقي:

" فقد جاءت به من عنصر تركي وآخر شركسي، وعنصر يوناني وآخر عربي كردي، فتآزرت فيه العناصر، وأخرجت منه شاعراً ممتازاً، لعل مصر لم تظفر بمثله في عصورها المختلفة".

ثقافة أحمد شوقي

تردّد شوقي منذ الرابعة من عمره إلى كتّاب الشيخ صالح، ثم انتقل منه إلى مدرسة المبتديان، فالتجهيزية، وأظهر نبوغاَ وتفوقاَ، فمُنح المجانية مكافأة له، وتخرّج فيها وعمره خمس عشرة سنة، وقد تفتّحت حينذاك موهبته الشعرية، وأخذ يصوغ بها بعض المواقع الجغرافية مثل أرجوزته:

إفريقيا قسم من الوجـودِ     في شكلها أشبه بالعنقـودِ

وكان في مصر حينذاك نوعان من التعليم: التعليم على الطريقة التقليدية، والتعليم على الطريقة الحديثة، وبهذا النوع الأخير أخذ شوقي، وبعد أن أتمّ تعليمه الثانوي ألحقه والده بمدرسة الحقوق لدراسة القانون. ولنستمع إلى ما يقوله أحمد زكي في ذلك:

 " كان في جـملة الوافدين سنة (1885 م) فتى نحيف، هزيل ضئيل، قصير القامة، وسيم الطلعة تقريباً، فتى بعيون متألقة تحقيقاً، ولكنها متنقلّة كثيراً، فإذا نظر إلى الأرض دقيقة واحدة، فللسماء منه دقائق متمادية، وإذا تلفّت صوب اليمين فما ذاك إلا لكي يرمي ببصره نحو الشمال، وهو مع هذه الحركات المتتابعة المتنافرة هادئ ساكن وادع، كأنما يتحدث بنفسه إلى نفسه، أو يتلاغى مع عالم من الأرواح، ما كان يلابسنا فيما نأخذ فيه من اللهو والمزاح، ولا يتهافت معنا على تلقّف الكرة بعد الفراغ من تناول الغداء ".

وفي مدرسة الحقوق التقى شوقي أستاذه في اللغة العربية الشيخ محمد البسيوني، وكان شاعراً فصيحاً، يدبّـج القصـائد الطـوال في مدح الخديوي توفيق كلما حلّ موسم أو أهلّ عيـد، وكان يعرض قصائده تلك على شوقي، فيعـدّل ويصلح، ويمحو ويُسقط، والأسـتاذ مغتبط بكل ذلك، وسـار شوقي في الدرب الذي سار فيـه أستاذه البسيوني، فراح ينشئ القصائد في مدح الخديوي توفيق.

وحين أنشئ في الحقوق قسم للترجمة انتسب إليه شوقي، وتخرّج منه سنة (1877 م) وهو يتصف بأنه شاعر الخديوي توفيق، فاستقبله الخديوي وهنأه بالتخرّج، وعيّن والده علياً- وكان مبذّراً متلافاً- مفتشاً في الخاصة الخديوية، ثم عيّن شوقياً من بعده في المنصب ذاته.

ورأى الخديوي توفيق أن يرسل أحمد شوقي في بعثة إلى فرنسا لدراسة القـانون، وظل شوقي في فرنسا قرابة أربع سنوات، زار خلالها أصقاع ذلك البلد، واطّلع على آدابه، وشاهد مسارحه، وقرأ صحفه، كما زار إنجلترا والجزائر لفترات محدودة.

ورجع شوقي إلى مصر سنة (1892 م)، وكان الخديوي توفيق قد توفي وخلفه الخديوي عباس الثاني، فعُيّن شوقي في القصر بقلم الترجمة، وقرّبه الخديوي منه، وعيّنه رئيساً لقلم الترجمة، كما جعله موضع ثقته وموضع مشورته، وقدّمه على جميع رجال حاشيته في القصر، وبذلك كان نافذ الكلمة مسموع الرأي، يقصده طلاب الحاجات، ويتزلّف إليه الوزراء والكبراء والطامعون في الرتب والألقاب.

بعيداً .. في المنفى

ظل شوقي شاعر الخديوي عباس لفترة طويلة، ولم يكن عباس على وفاق مع الإنكليز الذين كانوا يهيمنون على مصر، وحينما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة (1914 م) كان عباس في تركيا، وأعلنت إنكلترا حمـايتها على مصر، ومنعت الخديوي عباس من العودة إليها، وعيّنت السلطان حسين كامل بدلاً منه، ولم يخف شوقي وفاءه للخديوي عباس، وأوجس الإنكليز خيفة من تأثير شعره في نفوس المصريين، فأمروا بنفيه، فاختار إسبانيا مقاماً، وهناك في برشلونة تعمّق شوقي في قراءة الشعر الأندلسي، وأعجب بالشاعر ابن زيدون، ولما وضعت الحرب أوزارها، سمحت له السلطات المصرية بالعودة إلى مصر، فخرجت القاهرة لاستقباله، وبالغ أهلها في الحفاوة به.

شخصية شوقي

نقل الدكتور محمد حمّود عن كاتب أحمد شوقي قوله:

" كان شوقي الإنسان لا يقل رفاهة إحساس ومشاعر عن شوقي الشاعر، فقد كان براً بأبيه وأمه وأخته التي تنازل لها عن حقه فيما تركه والده...". ولم يكن يغضب أحداً من أهله " بل كان يقابل كبيرهم كما يقابل صغيرهم هاشاً باشاً، وكان في مجلسه كثير المزاح، كثير المداعبة معهم، إذا رأى أحدهم مقطّباً اهتم بأمره، وأخذ يستدرجه بغير ضغط حتى يعلم السبب، وعندما يعلم تسهل عليه المعالجة في بضع دقائق ".

ولم يكن كرم أخلاق أحمد شوقي مقتصراً على أهله، بل كان يعامل الآخرين على ذلك النحو، فلم يشعر خادم من خدمه بذل الخدمة مطلقاً، بل كان يعطف على الجميع، ويساعدهم ويجاملهم، وكان بشوشاً يقابل كل زائريه بابتسامة، ويقدم لهم السجائر بنفسه أحياناً، وكان كريماً مضيافاً، يبذل المال في سبيل الأصدقاء، ولا يمنعه عن طالب حاجة، ويتصدق كثيراً.

وذكر الدكتور زكي مبارك- وهو ممن عرف أحمد شوقي عن قرب- أول مرة يرى فيها شوقي، فقال: " رأيته رجلاً خالياً من الأبّهة والوجاهة في ملبسه وهندامه ". وأضاف أن أحمد شوقي قلما يتحدث عن شعره، وقلما ينشده، وإنما يوكل بإنشاده من يتوسّم فيه حسن الفهم، وحسن الأداء، ومنهم فكري أباظة. على أنه كان في شبابه ولوعاً باللهو والخمر، ولولعه بالخمرة وبإمامها أبي نواس (الحسن بن هانئ) أطلق على بيته في المطرية (إحدى ضواحي القاهرة) اسم (كرمة ابن هانئ).

إمارة الشعر

بعد عودة أحمد شوقي من المنفى أصبح أكثر قرباً من جماهير الشعب، وكانت شهرته قد طبّقت الآفاق، فأينما حلّ كانت الاستقبالات في انتظاره، وكان بيته منتدى الأدباء والشعراء وكبار رجال عصره، وقد زاره سنة (1926 م) طاغور شاعر الهند الكبير، وقلما وفد على مصر زعيم عربي إلا زاره، واختير عضواً في مجلس الشيوخ، وأعاد طبع ديوانه الشوقيات في سنة (1927 م)، وأقيمت له بهـذه المناسبة حفلة تكريم كبيرة اشتركت فيها الدول العربية، ووضع تاج إمارة الشعر العربي على مفرقه، وأعلن الشاعر المصري الكبير حافظ إبراهيم البيعة باسم شعراء البلاد العربية، قائلاً:

أميرَ القوافي، قد أتيتُ مبايعاً      وهذي وفود الشرق قد بايعت معي

وهكذا تحقق لشوقي ما كان يطمح إليه من مجد أدبي، وأصبح شاعر الشعب المصري، وشاعر العرب والمسلمين، بعد أن كان شاعر الخديوي وحده، وقد شارك بشعره في الثورة الوطنية السورية ضد الفرنسيين، فأنشد قصيدته الرائعة التي يقول فيها:

وللحــرية الحمراء بــابٌ      بكل يدٍ مضرّجـة يُـــدقُّ

وأشاد بالكفاح في ليبيا ضد الطليان، فقال في رثائه للشهيد عمر المختار:

ركزوا رفاتك في الرمال لواءَ      يستنهض الوادي صباحَ مساءَ

وأصبح شوقي أمل الشباب في مصر وسـوريا وغيرهـما من بلاد العرب، وأصبح شعره يردّد على ألسنة معظم المثقفين والمتعلمين، وظل متربّعـاً على إمارة الشعر بقيّة حياته.

مكانته الشعرية وآثاره

عالج شوقي أكثر فنون الشعر، سواء أكان مديحًا أم غزلاً أم وصفاً أم رثاء، ثم حلّق، فتناول الأحـداث السياسية والاجتماعية في مصر والعالم الإسلامي، وهو أول من ألّف القصص الشعري التمثيلي بالعربية وأجاد فيها، وقد حاول قبله أفراد فتقذّمهم، ويزيد شعره على ثلاثة وعشرين ألف بيت، منها سبعة عشر ألف بيت وخمسمئة في أغراض الشعر المعهودة، وما يزيد على ستة آلاف في الشعر المسرحي، وهـذا رقم يتجـاوز الرقم الذي أمكن الوصول إليه لأي شاعر أنشد الشعر بالعربية، فالمقدر لشعر ابن الرومي- وهو مثال للخصب في النتاج الشعري- من ستة عشر إلى سبعة عشر ألف بيت، وهكذا يعـدّ شوقي بحـق أكثر شعراء العربية خصباً، سواء أكانوا قدامى أم محدثين.

ومن آثاره:

       - الشوقيات في أربعة أجزاء.

       - دول العرب (نظم).

       - مسرحيات شعرية: (مصرع كليوباترا، قمبيز، علي بك الكبير، أميرة الأندلس، مجنون ليلى، عنترة، الست هدى).

وفيما يأتي قبسات من أشعاره:

قال في الغزل:

تأتي الدلالَ سجيـــةً وتصنّعا      وأراك في حـالََي دلالك مبدعا

تِهْ كيف شئتَ، فما الجمالُ بحاكمٍ     حتى يطاعَ على الدلال ويُسمعا

لك أن يروّعك الوشاة من الهوى     وعليّ أن أهوى الغزال مروَّعا

وقال في الظلم والظالمين:

زمانُ الفرد يا (فرعون) ولّى      وولّت دولـــة المتجبّرينا

وأصبحت الرعـاةُ بكل أرضٍ     على حكم الرعيــة نازلينا

وقال داعياً إلى وحدة الصف:

إلامَ الخُلُفُ بينكـمُ إلامـا؟!      وهذي الضجّةُ الكبرى علاما؟!

وفيمَ يَكِيدُ بعضكـمُ لبعضٍ       وتُبدون العـداوة والخِصاما؟!

إذا كان الرمـاةُ رماةَ سَوءٍ       أحلّوا غيرَ مرمـاها السهاما

وقال في أهمية الأخلاق:

ـ وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ      فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهمْ ذهبُوا

ـ وليس بعامرٍ بُنيـــانُ قومٍ     إذا أخلاقُهـــمْ كان خرابا

ـ صلاحُ أمركَ للأخلاق مَرجِعُه      فقوّم النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ

وقال في ضرورة الجد وامتلاك القوة:

وما نيلُ المطــالب بالتمنّي      ولكنْ تؤخــذُ الدنيا غِلابا

وما استعصى على قوم منالٌ       إذا الإقـدامُ كان لهمْ رِكابا

وقال في تعريف الشعر:

والشعرُ ما لم يكن ذكرى وعاطفةً    أو حكمةً فهو تقطيعٌ وأوزانُ

آراء النقاد

قال الدكتور طه حسين في كتابه (حافظ وشوقي، ص 90):

" ... وإنما هو شاعر يحب الشعر للشعر، وينشئ الشعر لأنه يجد في نفسه عواطف يجب أن يصفها، وإحساساً يجب أن يذيعه، وهو شاعر لأنه يشعر، وليس بالشاعر لأنه يريد أن يتكلم ".

وقال الدكتور محمد مندور في كتابه (مسرحيات شوقي، ص 17، 18)، بعد أن تحدث عن تأثر شوقي بالأدب الغربي تأثراً كبيراً:

" والواقع أن شوقي لم يأخذ أصول الأدب المسرحي عن كاتب واحد، ولا عن مذهب بعينه، بل جمع بين عدة اتجاهات غربية، وأضاف إليها اتجاهات شرقية وعربية، ... ونراه يود أن يتخذ من المسرح مدرسة لعزة النفس ونبل الأخلاق على نحو ما فعل كورني ".

وقال الدكتور شوقي ضيف في كتابه (شوقي شاعر العصر الحديث، ص 44)، متحدثاً عن دور الموسيقا الشعرية في قصائد شوقي:

- " ولا أبالغ إذا قلت: إنني لا أستمع إلى قصيدة طويلة لشوقي حتى أخال كأني أستمع حقاً إلى سمفونية ...، ولا أرتاب في أن ذلك يرجع إلى ضبطه البارع لآلات ألفاظه وذبذباتها الصوتية، وليست المسألة مسألة حذق أو مهارة فحسب، بل هي أبعد من ذلك غوراً، هي نبوغ وإلهام، وإحساس عبقري بالبناء الصوتي للشعر ".

وقال في الكتاب نفسه (ص 44)، مشيداً بعنصر الخيال في شعر شوقي:

-  " ... كان شوقي واسع الخيال، غني التصوير، وشعره من هذه الناحية متحف لصور وأشباح متحركة تفد عليك من كل جانب، ... وإن الإنسان ليخيّل إليه أنه لم تكن تفوته لفتة أو حركة لشيء أو لصورة إلا اختزنها في ذاكرته، ووعاها في حافظته، ليُلقي بها عند الحاجة رسماً أو لوحة باهرة ".

وقال في الصفحة ( 84)، موضحاً قدرة شوقي على أن يجمع في شعره بين تيارين: تيار القديم، وتيار الجديد:

" فقد تثقّف بالثقافة الأوربية، ودرس الحقوق، واطلع على الآداب الفرنسية، واختلف إلى المسارح التمثيلية والغنائية في باريس، وإلى مقهى (داركور) حيث كان يجلس الشاعر الرمزي ڤرلين ".

الرحيـل...  

وقبل وفاة شوقي بسنتين تهافتت عليه الأمراض، فعكف على قراءة القرآن الكريم وكتب الحديث النبوي، وكان يُعجب على وجه خاص بالإمام أبي حامد الغزالي، وبالمؤرخ الجبرتي، وظل سمح النفس، مستبشر الوجه، خفيف الروح، وفي الهزيع الأخير من ليلة (14تشرين الأول/أكتوبر 1932 م) لبّت روحه نداء ربه، فارتفع النواح في مصر والأقطار العربية، وخرج الشعب المصري يشيّع شاعره بقلوب حزينة وعيون دامعـة، وانبرى الكتاب والشعراء في مصر والشرق العربي يرثون الشاعر الكبير، وأقيمت له حفـلات التأبين في كل مكان، وندبته الصحف بحرارة.

المصــادر

1 - أحمد شوقي: الموسوعة الشوقية (الأعمال الكاملة)، جمع وترتيب وشرح إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت،  ط1، 1994.

2 - أحمد عبيد: ذكرى الشاعرين حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، عالم الكتب، بيروت، ط 2، 1985.

3 - الدكتور أحمد محمد الحوفي:

- الإسلام في شعر شوقي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر، 1972.

- وطنية شوقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1978.

4 - إيليا حاوي: أحمد شوقي أمير الشعراء، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1977.

5 - الدكتور زكي مبارك: أحمد شوقي، دار الجيل بيروت، 1988.

6 - الدكتور شوقي ضيف: شاعر العصر الحديث، دار المعارف، القاهرة، 1953.

7 - الدكتور طه حسين: حافظ وشوقي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1933.

8 - الدكتور طه وادي: شعر شوقي الغنائي والمسرحي، دار المعارف، القاهرة، ط 2، 1981.

9 - عِرفان شهيد: العودة إلى شوقي، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1986.

10 - فوزي عطوى: أحمد شوقي أمير الشعراء، دار صعب، بيروت، ط 3، 1978.

11 - الدكتور محمد حمّود: أحمد شوقي شاعر الأمراء، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 2003.

12 - الدكتور محمد سلامة صالح: شوقي والمسرحية الشعرية، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1986.

13 - الدكتور محمد صبري: الشوقيات المجهولة، دار المسيرة، بيروت، 1979.

14 - الدكتور محمد مندور: مسرحيات شوقي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة، 1982.

15 - محمد الهادي الطرابلسي: خصائص الأسلوب في الشوقيات، منشورات الجامعة التونسية، تونس، 1981.

16 - المكتب التجاري (تقديم إيليا حاوي): أعلام الشعر العربي الحديث، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1970.

 

    وإلى اللقاء في الحلقة الثانية عشرة.  

              د. أحمد الخليل   في 2 – 3 - 2006   dralkhalil@hotmail.com

 

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة العاشرة )

النحوي الكبير: ابن الحاجب

 (570 هـ ـ 646 هـ )

 

ابحثوا عن الظروف

ليست ثمة شعوب متخلّفة دائماً.

وليست ثمة شعوب متحضّرة دائماً.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأفراد كائناً من كانوا.

التخلّف والتقدّم مرهونان بأمرين هما:

-       المَلَكات الفطرية

-       والظروف التاريخية.

أما الملكات الفطرية فتتمثّل في:

-       الخصائص البيولوجية.

-       القدرات العقلية (الفكرية).

-       الاستعدادات السيكولوجية.

وأما الظروف التاريخية فتتمثّل في:

-       الشروط البيئية.

-       الثقافة المجتمعية.

-       الأحوال الاقتصادية.

-       النظام السياسي.

وهكذا فكي نشخّص التخلّف أو التقدّم ينبغي أن نبحث عن الظروف.

وأحسب أن المجتمع الكردي كان، في معظم مراحل تاريخه القديم والحديث، ضحية الظروف التاريخية، ولا مجال الآن للوقوف برويّة عند تلك الظروف، فهي متشعّبة ومعقّدة، بعضها ذاتي خاص بالمجتمع الكردي نفسه، وبعضها إقليمي، وبعضها عالمي، وترجع جذورها إلى ألفين وخمسمئة سنة مضت، وقد كبّلت تلك الظروف المَلَكات الفطرية التي يتّسم بها الإنسان الكردي، وقمعت تطلّعاته الإبداعية، ورمت به بين أنياب الجهل والفقر والقهر، وألجأته إلى الرضا بالحد الأدنى من الممكنات؛ أقصد: البقاء على قيد الحياة.

فكم من راع أمضى العمر في شعاف الجبال كان من الممكن أن يكون عبقرياً!

وكم من فلاح بعثر السنين وراء المحراث كان من الممكن أن يكون عالماً!

وكم من بهلول يطارده الصبية في الأزقة كان من الممكن أن يكون مفكّراً!

وكم من مغمور في القرى الكردية كان من الممكن أن يكون فناناً قديراً!

وكان يكفي أن يعيش الكردي في مناخ حضاري مناسب حتى تنشط ملَكاته، وتتفتّح قدراته، وتثمر مواهبه، ويُسهم – مثل غيره من أبناء الشعوب الأخرى- في إغناء الثقافة الإنسانية، وتشييد صرح الحضارة، تارةً وزيراً كيحيى بن خالد البرمكي، وثانية قائدأً كصلاح الدين الأيوبي، وثالثةَ مؤرّخاً كابن خَلِّكان، ورابعة فقيهاً كالشَّهْرزُوري، وخامسةً ناقداً كالآمِدي، وسادسةً شاعراً كالرصافي، وسابعةَ موسيقياً كزرياب، وما أكثر الشواهد والأمثلة!

وموضوع حلقتنا هذه هو النحوي الكبير ابن الحاجب.

إنه أحد الكرد الذين عاشوا في ظروف حضارية مناسبة فأبدعوا.

فماذا عنه؟

ظاهرة ثقافية كردية

وقبل الحديث عن ابن الحاجب لا بد من وقفة عند النحو.

فالنحو أصل هامّ من أصول اللغة العربية، وهذا أمر أشهر من أن نقف عنده أو ندلّل عليه، ولا تخفى أهميته في الدراسات الدينية، ولا سيما تفسير القرآن الكريم وشرح الأحاديث النبوية، ولا بد من إتقان النحو لفهم الأدب شعراً ونثراً، وقد حاز هذا العلم منذ القديم حظاً وافراً من الدرس والتمحيص، والشرح والتحليل، والتفريع والتأصيل.

ونظراً لاهتمام مثقّفي الكرد بالعلوم عامة وبعلوم الدين خاصة، كان للعديد من مثقفيهم عناية بالغة بعلم النحو، نذكر منهم على سبيل المثال: إبراهيم بن عبد الكريم الحلبي ( ت 840 هـ )، وابن الخباز الإربلي الموصلي ( ت 637 هـ )، وأحمد بن عثمان السنجاري ( ولد سنة 625 هـ )، ومجد الدين أبو العباس الإربلي ( ت 657 هـ )، والحسن بن أسد بن الحسن الفارقي أبو نصر ( ت 487 هـ )، وأبو عبد الله الهَذْباني الكُوراني ( ت 656 هـ )، وأبو القاسم الثمانيني، وأشهرهم في هذا الباب ابن الحاجب.

على أن ثمة ظاهرة خاصة بالمثقّفين الكرد القدماء، ولعلها ملموسة أيضاً بين المثقّفين الكرد في العصر الحديث، والظاهرة هي نزوع المثقف الكردي في الغالب إلى المنحى العقلي والعلمي في تفسير الظواهر وتحليل الأمور، وميله إلى المجالات المعرفية التي تتطلّب الرصد والتصنيف والتأمل والمقارنة، وهذه أمور تحتاج إلى جهود مضنية من ناحية، وإلى صبر طويل على البحث والتنقيب من ناحية ثانية، وإلى قدرات فكرية متميّزة من ناحية ثالثة. ولا أزعم أن الكرد ينفردون بهذه الظاهرة المعرفية دون سائر الشعوب، فهذا ما لا يقول به عاقل، ولا يسوقه منصف، وإنما المقصود أن هذه الظاهرة ملموسة بقوة في الوسط الثقافي الكردي.

وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك في حدود قراءاتي:

-       الميل إلى البحوث التاريخية: الفارقي، عز الدين بن الأثير، أبو الفداء.

-  الميل إلى الأعمال المعجمية والتراجم: مجد الدين ابن الأثير في كتابه (جامع الأصول)، وابن خلّكان في كتابه (وَفَيات الأعيان)، وخير الدين الزركلي في معجمه الشهير (الأعلام).

-  ميل الأدباء الكرد إلى الدراسات النقدية: الآمدي في كتابه (الموازنة)، وضياء الدين ابن الأثير في كتابه (المَثَل السائر).

-  ميل علماء الكرد في مجال الدين إلى إلبحث عن الجوانب العلمية والعقلانية في تفسير النصوص الدينية، ومنهم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في معظم مؤلفاته، مثل (فقه السيرة)، و(كبرى اليقينيات الكونية) وغيرها، هذا إضافة إلى اهتمامهم بمسألة المواريث في الشرع الإسلامي، وهي من المسائل التي تتطلّب قدرات رياضية متميّزة، وأذكر منهم: الدكتور مصطفى مسلم، والأستاذ إبراهيم خليل عيسى.

-  ميل الشعراء الكرد إلى المحاور العلمية والفلسفية والحكمية في بعض قصائدهم، ومنهم: جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، وأحمد شوقي الذي كان أول من ألف في المسرح الشعري، ولا يخفى أن هذا النوع من الشعر يحتاج إلى تقنيات فنية ذات طابع موضوعي.

وأعتقد أن اهتمام علماء الكرد بالنحو العربي جزء من هذا التوجه العريق.

نشأة ابن الحاجب وعصره

ذكر ابن تَغْري بَرْدي في كتابه (النجوم الزاهرة، 6/360) اسم ابن الحاجب فقال:

" عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الشيخ الإمام العالم العلاّمة جمال الدين أبو عمرو المعروف بابن الحاجب الكردي المالكي النحوي الأصولي، صاحب التصانيف في النحو وغيره، مولده في سنة سبعين وخمسمئة بإسنا من بلاد الصعيد ".

وذكر ابن خَلِّكان النسب نفسه لابن الحاجب في كتابه (وَفَيات الأعيان، 3/248)، وأضاف إليه كلمة (الدّوَني) نسبة إلى (دَوِين). وقال ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان، 2/558):

" دَوِين بلدة من نواحي أَرّان في آخر حدود أذربيجان بقرب من تفليس، منها ملوك الشام بنو أيوب، ... ودوين أيضاً من قرى أُستُوا من أعمال نيسابور ".

وبما أن كل من كتب عن سيرة ابن الحاجب ذكر أنه كردي، فلا يبقى شك أن أسرته هاجرت إلى مصر من (دَوين) الواقعة في أرّان، وهي الآن منطقة موزّعة بين كل من جمهورية أذربيجان، وجمهورية جورجيا، وجمهورية أرمينيا، ويعود وجود الكرد في تلك المناطق إلى أيام الدولة الميدية، وأقاموا هناك، في العصور الإسلامية، بعض الحكومات، أبرزها: الحكومة الرَّواديـة في أذربيجان (230 - 618 هـ)، والحكومة السالارية في أذربيجان (300 - 420 هـ)، والحكومة الشدّادية في أرّان (340 - 465 هـ). وقد قضى الغزو السلجوقي لكردستان على جميع تلك الحكومات، وأعتقد من جانبي أن الغزو السلجوقي كان أكبر كارثة حلت بالكرد بعد كارثة قضاء الأخمينيين على الدولة الميدية حوالي سنة (550 ق.م)، وما زال الكرد يعانون من نتائج تينك الكارثتين إلى يومنا هذا، وعلى جميع الأصعدة.

ومن المحتمل أن تكون أسرة ابن الحاجب قد انتقلت مع الأيوبيين إلى العراق، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، إذ المعروف أن أسرة صلاح الدين كانت تقود فرساناً من الكرد خلال انتقالها من جهة إلى أخرى، وقد تكون أسرة ابن الحاجب من العشيرة الرَّوادية التي تنتمي إليها الأسرة الأيوبية، ولعلها التحقت بهم في مصر بعد أن استلموا السلطة هناك، وقد سكنت الأسرة في بلدة (إسنا) في الصعيد الأعلى، وفي هذه البلدة ولد ابن الحاجب، ونُسب إليها.

وكان والد ابن الحاجب جندياً حاجباً للأمير عز الدين مُوسِك الصَّلاحي، خال صلاح الدين الأيوبي، وكانت وظيفة الحاجب في ذاك العصر من الوظائف الهامة، فعاش ابن الحاجب من ثمّ في كنف عائلة غنية. وقد ولد سنة ( 570 هـ )، وهي السنة التي أرسى فيها صلاح الدين دعائم سلطته في مصر، بعد قضائه على الفتن التي أشعلتها جماعة من السودان والبدو العرب في صعيد مصر بزعامة رجل يدعى الكَنْز، وتوجّه بعدئذ إلى الشام فضمّها إلى مصر.

وكان عصر ابن الحاجب عصر ازدهار علمي وثقافي واقتصادي بصورة عامة، وكان ذلك الازدهار الحضاري الشامل إحدى نتائج سياسات صلاح الدين الحكيمة، فقد أجمع المؤرخون الذين كتبوا عن سيرته أنه لم يكن مجرد مقاتل متمرّس في فنون الحرب، وإنما كان من كبار المثقّفين بمقاييس عصره، وكان ضليعاً في علوم الدين وفي التاريخ، وكانت مجالسه تزدان بالعلماء والفقهاء والمحدّثين، بل كان يحرص على أن يشهد أبناؤه تلك المجالس أيضاً، وينتفعوا بها.

 وأجمع المؤرّخون الذين كتبوا عن صلاح الدين أنه أبدى اهتماماً كبيراً ببناء المدارس، ورعاية العلم، وتكريم العلماء، وتهيئة الظروف المناسبة لطلبة العلم، وحسبه في ذلك أن مستشاره الخاص كان أحد أشهر علماء وأدباء عصره ألا وهو القاضي الفاضل، ولا ريب أن هذا الأفق الإنساني والمعرفي والحضاري الذي تميّز به صلاح الدين هو الذي أثار إعجاب الرحّالة ابن جُبَيْر الأندلسي، وجعله يشيد به بعبارات تنضح إجلالاً وإكباراً. وكان من الطبيعي أن يستفيد النشء من تلك الإنجازات، وتصبح سوق العلم رائجة، حتى إن عسكرياً هو والد ابن الحاجب يوجّه ابنه إلى ميادين العلم، ويفضّل أن يكون ابنه عالماً، وليس عسكرياً.

رحلته العلمية

انتقل الأب بابنه الصغير من بلدة إسنا في الصعيد إلى القاهرة، وفي القاهرة حفظ ابن الحاجب القرآن الكريم، ودرس العلوم المتصلة به، من نحو وفقه وقراءات وأصول، على كبار أساتذة عصره وأئمة العلم حينذاك، ومن أبرز أساتذته: أبو القاسم الشاطبي الضرير (ت 590 هـ)، و المقرئ الفقيه النحوي أبو الفضل الغزنوي (ت 599 هـ)، وقد أخذ عنهما القراءات. وأخذ الحديث عن هبة الله البوصيري (ت 598 هـ)، والقاسم بن عساكر الدمشقي (ت 600 هـ)، وأخذ الفقه والأصول عن أبي الحسن الأبياري (ت 618 هـ)، وبرع فيما درسه، ولا سيما أصول العربية، وبرز في النحو حتى صار من كبار رجاله.

وتكرّر دخول ابن الحاجب إلى دمشق للاستـفادة حيناً وللتدريس بها أحياناً، وآخر مرة دخلها كانت سنة (617 هـ)، إذ أقام فيها مدرّساً بالجامع الأموي، في زاوية المالكية، فأقبل عليه الطلبة، وصار شيخاً لجمهور من الدارسين في علمي القراءات والعربية، وانتفع به كثير من الناس، ثم إن ابن الحاجب دافع عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، في إنكاره على الصالح إسماعيل، صاحب دمشق، سوء سيرته، وتقاعسه عن قتال الفرنجة، وصلحه معهم، فأمرهما بالخروج من دمشق، فخرجا سنة (638 هـ)، وعادا معاً إلى مصر، وهناك بالمدرسة الفاضلية جلس ابن الحاجب في موضع شيخه الشاطبي، فقصده الطلبة، وانكبّوا على الأخذ عنه، ثم غادر القاهرة إلى الإسكندرية للإقامة فيها، فتوفي هناك سنة (646 هـ)، ودفن في خارج الإسكندرية.

شخصيته وثقافته

كانت أخلاق ابن الحاجب نسيجاً فذاً بين أخلاق العلماء، فأكسبته تلك الأخلاق ثناء الناس، حتى الذين كانوا يخالفونه الرأي، قال ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية، 13/176):

" قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وكان من أذكى الأئمة قريحة، وكان ثقةَ، حُجّةً، متواضعاً، عفيفاً، كثير الحياء، منصفاً، محباً للعلم وأهله، ناشراً له، محتملاً للأذى، صبوراً على البلوى ".

وكان ابن الحاجب صدوقاً مخلصاً؛ وقصة وقوفه ضد صاحب دمشق الصالح إسماعيل تأييداً لصديقه الشيخ العز بن عبد السلام، ودخوله السجن معه، أبرز شاهد على نبل شخصيته وسموّ مواقفه.

ولم تقتصر ثقافة ابن الحاجب على النحو، وإنما تبحّر في علم الفقه أيضاً،  فكان من أبرز فقهاء مصر والشام في العصر الأيوبي، تفقّه على مذهب الإمام مالك، وتعمّق فيه، حتى نبغ فيه، وصار رأساً عند المالكية، بل كان شيخ المالكية في عصره، وصنّف في مذهبه تصانيف جليلة لا تزال تعدّ من أمهات المراجع الفقهية المعتمدة، وخاصة كتابه (جامع الأمهات)، وألّف كتابين في الأصول هما: (منتهى السُّول والأمل في علمي الأصول والجدل)، ومختصره في الفقه. وكان في الوقت نفسه معتنياً بالقراءات عناية خاصة، تلـّقاها عن شيوخ القرّاء في عصره، كالشاطبي، وأبي الجود اللَّخْمي، والغزنوي وغيرهم.

وكانت هذه الدراسات في الفقه والقراءات مقدّمة للدراسات العربية في النحو والصرف، وقد وصل في ذلك إلى مرتبة عالية، بما وضعه من مصنّفات مختلفة في علم العربية، وكان ينزع في النحو إلى المذهب البصري، وهذا واضح في أماليه. وفوق كل هذا كان ابن الحاجب نفسه يصرّح ببصريّته، فلا يشك باحث منصف في أنه كان يذهب مذهبهم، ويقف إلى جانبهم. هذا إضافة إلى أنه كان يعتمد مصطلحات البصريين في دراساته النحوية، كاستعمال (النعت) بدلاً من (الصفة)، و(فِعل ما لم يسمع فاعله) بدلاً من (المفعول المبني للمجهول).

لكن هذا لا يعني أن ابن الحاجب كان اتباعياً تقليدياً، فهو لا يتردّد في مخالفة البصريين إذا لم يقتنع برأيهم، غير متأثّر بشهرة عالم أو منزلته، سائراً بذلك على المنهج العلمي الصحيح، وإن سيبويه إمام نحاة البصرة، وصاحب المنزلة العالية في النحو، لم يسلم من مخالفه ابن الحاجب لآرائه.

وكان ابن الحاجب ينشد أحيانًا بعض الشعر، وله في النظم باع طويل، فقد نظم مقدمته النحوية (الكافية) في منظومة (الوافية)، ونظم في العروض (المقصد الجليل إلى علم الخليل)، ونظم في المؤنثات السماعية (القصيدة الموشّحة بالأسماء المؤنثة). ومن شعره قوله في الصداقة:

    إن تَغيبوا عن العيــون فأنتمْ        في قلوبٍ حضورُكمْ مستمرُّ

    مثل ما تثبتُ الحقائقُ في الذهـ      ـن، وفي خارجٍ لها مستقرُّ

وقال أيضاً:

 قد كان ظنّي بأن الشيبَ يرشدني     إذا أتى، فـإذا غيّي بـــه كَثُرا

ولست أقنط من عفو الكريم، وإنْ     أسرفتُ جهلاً، فكم عافى وكم غفرا؟! 

مكانته العلمية

 واستكمل ابن الحاجب مقوّمات الشخصية العلمية، بما اتّصف به من العزم والتواضع، وما أدركه من صنوف المعرفة، واستقام به لسانه من الفصاحة والبلاغة، وجاء في (الديباج المُذْهَب) لابن فرحون:

" وقد بالغ الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وهو أحد أئمة الشافعية، في مدح كتابه (جامع الأمهات)، ثم قال: جمال الدين كان وحيد عصره علماً وفضلاً واطّلاعاً ".

وقال ابن خلّكان في (وَفَيات الأعيان، 3/248) مشيداً بقدرات ابن الحاجب العلمية:

 " وخالف النحاة في مواضع، وأورد عليهم إشكالات وإلزامات تبعد الإجابة عنها، وكان من أحسن خلق الله ذهناً، وجاءني مراراً بسبب أداء شهادات، وسألته عن مواضع في العربية مُشكِلة، فأجاب أبلغ إجابة بسكون كثير وتثبيت تام ".

وقال أبو الفداء في كتابه (المختصر في أخبار البشر، 3/178):

" وكان الشيخ أبو عمرو المذكور متفنناً في علوم شتّى، وكان الأغلب عليه علم العربية وأصول الفقه، صنّف في العربية مقدّمته (الكافية)، واختصر كتاب الأحكام للآمِدي في أصول الفقه، فطبق ذكر هذين الكتابين، أعني الكافية ومختصره في أصول الفقه، جميع البلاد، خصوصاً بلاد العجم، وأكبّ الناس على الاشتغال بهما إلى زماننا هذا ".

وقال حاجي خليفة في (كشف الظنون، 2/1370) متحدثاً عن كتاب (الكافية):

" قال السيوطي: لم يؤلَّف عليها، بل ولا على غالب كتب النحو، مثله جمعاً وتحقيقاً، فتداوله الناس، واعتمدوا عليه، وله فيه أبحاث كثيرة، ومذاهب ينفرد بها ".

وقال شوقي ضيف في كتابه (المدارس النحوية، ص 345 - 346):

" وكان ابن الحاجب دقيق النظر، فخاض في تعديلات كثيرة، مستنبطاً منها، ما لا يكاد يقف به عند حد، من ذلك تعليله بناء الاسم بشبهه للحرف من وجه واحد، ومنعه من الصرف بشبهه للفعل من وجهين".

تلامذته وآثاره  

لابن الحاجب تلامذة مشهورون، من أبرزهم: الحافظ الكبير الإمام شيخ الإسلام زكي الدين المنذري (ت 656 هـ)، والإمام العلامة جمال الدين بن مالك (ت 672 هـ)، وناصر الدين أبو العباس بن المنيّر (ت 683 هـ)، أحد المتبحّرين في التفسير والفقه والبلاغة والأنساب، وتتلمذ له الملك الناصر داود ابن الملك المعظّم عيسى، ابن الملك العادل الأيوبي، وكان ملك دمشق، ثم اقتصر على الكرك ونابلس، وكانت له فصاحة وشعر جيد.

أما فيما يتعلق بآثار ابن الحاجب فقد ألف في النحو والصرف والفقه والأصول والعروض والقراءات والتاريخ والأدب، ومصنّفاته كثيرة، وهي في غاية الحسن، رزقت قبولاً تاماً لحسنها وجزالتها، وانتفع بها الناس ومن أبرز كتبه في النحو:

- الكافية: وهي مقدمة وجيزة في النحو، سار فيها ابن الحاجب على نهج الزمخشري في مفصـّله، واقتصر فيه على مسائل النحو، وفصلها عن مسائل الصرف وقد طّبقت شهرتها الآفاق، وتناولها العلماء بالشرح والاختصار.

- الشافية: أجمل فيها مسائل الصرف والخط، وقد اشتهرت وكثرت شروحها.

- الإيضاح في شرح المفصّل: وهو شرح لكتاب (المفصّل) للزمخشري.

- شرح المقدّمة الجزولية.

- شرح كتاب سيبويه.

- أمالي ابن الحاجب.

وله في الفقه والأصول:

-  منتهى السُّول والأمل في علمي الأصول والجدل: وهو من كتب الفقه المالكي، وقد اختصر به كتاب الأحكام في أصول الفقه للآمدي.

- جامع الأمهات أو مختصر الفروع.

وله في العروض:

- المقصد الجليل إلى علم الخليل: منظومة من البحر البسيط هذا إلى جانب مباحث أخرى في القراءات والتاريخ والأدب.

المصــادر

1 ـ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، مصر، 1963.

2 ـ ابن الحاجب (أبو عمرو عثمان بن الحاجب)، أمالي ابن الحاجب، دراسة وتحقيق الدكتور فخر صالح سليمان قدارة، دار عمّار، الأردن، عمّان، دار الجيل، بيروت، 1989.

3 ـ الاستراباذي (الشيخ رضيّ الدين محمد بن الحسن ت 686 هـ):

- شرح شافية ابن الحاجب، تحقيق محمد نور الحسن، محمد الزفزاف، محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر العربي، بيروت، 1975.

- شرح الكافية لابن الحاجب، تحقيق الدكتور حسن بن محمد بن إبراهيم الحفظي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، الطبعة الأولى، 1993.

4 ـ حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله الشهير بالملا كاتب الجلبي ت 1067 هـ): كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992.

5 ـ ابن خلّكان (أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر ت 681 هـ): وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، دار الثقافة، بيروت، 1968.

6 ـ شوقي ضيف: المدارس النحوية، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1977.

7 ـ أبو الفداء (الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل ): المختصر في أخبار البشر، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1970.

8 ـ ابن كثير ( ت 774 هـ ): البداية والنهاية، دار ابن كثير، بيروت، 1965.

9 ـ ياقوت الحموي (شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي ت 626هـ): معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1990.

 

    وإلى اللقاء في الحلقة الحادية عشرة.  

              د. أحمد الخليل   في 16 – 2 - 2006   dralkhalil@hotmail.com

 

 

 

===========================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة التاسعة )

معروف الرُّصافي: شاعر الحرية والإنسانية

(1875 ـ 1945 م )

 

الجغرافيا.. والعصا

الحياة سلسلة اكتشافات.

كما أنها سلسلة تحولات.

وثمة قناعات نكتشف أنها كانت أوهاماً، فنتخلّى عنها.

وقناعات جديدة نكوّنها، ونتحمس لها، ونهيم بها حباً.

ولا عجب في هذا، ولا عيب في ذاك.

بل من الضروري أن نفعل هذا، ونمارس ذاك.

وإلا فالحياة والجمود ضدان لا يتفقان.

وقد بدأت حياتي العلمية الأكاديمية في مجال الأدب.

ثم اكتشفت أنه كي أفهم الأدب ينبغي أن أقرأ التاريخ.

ثم اكتشفت بعدئذ أن الطريق إلى فهم التاريخ هو الجغرافيا.

بل أدركت أنه كي أفهم الدين والفلسفة والأدب والفن لا بد من الجغرافيا.

وقل الأمر نفسه في فهم علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة.

وهكذا إن ما كان عندي ممقوتاً صار محبوباً جداً.

وما كنت أهرب منه صرت أسعى إليه.

أقصد: الجغرافيا.

بلى، كانت دروس الجغرافيا بغيضة إليّ أيام الدراسة العامة.

تعرّجات كثيرة ومتداخلة ومتشابكة تسمّى تضاريس!

خطوط تستقيم وتتلوىّ تسمّى بحاراً وأنهاراً!

نقاط تتالى صاعدة هابطة تسمى حدوداً!

دوائر صغرى وكبرى منثورة على غير نظام تسمى مدناً!

مثلّثات ومربّعات سود ترمز إلى مواطن البترول والمعادن!

لا، بل كان ثمة ما هو أدهى وأمرّ.

كان مطلوباً أن أحفظ كل هذه التعقيدات وعصا الأستاذ تحدّق فيّ.

فكيف لا أفرّ من الجغرافيا- والحال هذه - فراري من المجذوم؟!

وها أنا ذا والجغرافيا صاحبان منذ عَقْدين من السنين.

وكان أول ما فعلت أني اقتنيت كرّاساً فيه خرائط معظم دول العالم.

ثم وجدتني أشتري خريطة للعالم متوسّطة الحجم، وأعلّقها في غرفتي.

وكنت كلما أسمع خبراً عن حدث في دولة أقوم إلى الخريطة فأتأمّلها.

وكذلك كنت أفعل كلما قرأت عن فيلسوف أو روائي أو فيلسوف أو عالم.

كان أولادي حينذاك صغاراً، لا يدركون حقيقة ما أفعله.

أوضحت لهم الأمر بعد أن كبروا.

حسناً.. فللناس فيما يعشقون مذاهب.

القادة والزعماء أيضاً يقتنون الخرائط.

هم كي يحكموا العالم.

وأنا كي أعرف العالم.

البيت الكبير

أجل عبر الجغرافيا والتاريخ عرفت الكثير.

عرفت أنني أنتمي إلى بيت كبير، بل كبير جداً.

يقع بيتي الكبير هذا في شرقي المتوسّط.

إنه بيت في الغاية من العراقة والأهمية.

كم من المعيب ألا يعرف المرء بيته صغيراً كان أم كبيراً!

تتجاور في بيتي الكبير، منذ فجر التاريخ، شعوب مختلفة الأسماء والأعراق.

أما موقعه فتحده شرقاً صحراء إيران، وشمالاً جبال القوقاز (قفقاسيا)، والبحر الأسود، وبحر إيجا، وسواحل بلاد الشام على المتوسط، وغرباً الصحراء المصرية، وجنوباً أواسط السودان وبحر العرب ومضيق هرمز.

وأما الشعوب التي عاشت- وما زالت- تعيش في هذا البيت الكبير فهم بدءاً من الشرق: الفرس، والكرد، والآزريون، والأرمن، واللاز، والشركس، والترك، والعرب، والسريان، والكلدان، والآشوريون، والصابئة، والقبط، والنوبة، وأفارقة آخرون، ولعلي نسيت أسماء شعوب أخرى، فعذراً.

وصحيح أنه تقوم اليوم في هذه المنطقة الهائلة دول كثيرة؛ ملكيات وجمهوريات وإمارات، ولكن قلما تجد دولة منها إلا وفيها هذه الفسيفساء الحضارية الرائعة، وتجد أن ثمة عدة ثقافات تتجاور وتتعايش في الدولة الواحدة، بل ليس تتجاور وتتعايش فقط، وإنما تتزاوج وتتثاقف وتتكامل، فتبدع ثقافة متجانسة لم أجد إلى الآن اسماً مناسباً لها، إذا قلت: إنها إيرانية أو عربية، أو كردية، أو تركية، فماذا أفعل بالمكونات الأخرى؟ وإذا قلت: إنها إسلامية فماذا أفعل بالمسيحية والزردشتية والصابئية والموسوية، بل وقبل هذا وذاك: ماذا أفعل  بالسومرية، والغوتية، والأكادية، والخالدية، والحورية (الميتانية)، والحثية، والميدية، والأخمينية، والآرامية، والفينيقية، والفرعونية؟

إن هذا البيت الكبير كان- وما زال- مدرسة حضارية كبرى.

ومن الخطأ تناول جانب منها، وإدارة الظهر إلى الجوانب الأخرى.

كما أنه من الإثم تلميع مكوّن من مكوّناتها، وطمس مكوّن آخر.

وأنجبت هذه المدرسة الحضارية رجالات أفذاذاً في مختلف الميادين.

نقف الآن عند أحدهم.

إنه معروف الرُّصافي.

فمن هو الرجل؟!

وما هي إسهاماته في تاريخ البيت الكبير.

في حيّ القراغول

  ولد معروف بن عبد الغني المشهر بلقب (الرُّصافي) سنة (1875 م) في حي من أحياء بغداد، يدعى حيّ (القراغول)، وهو ينتمي من جهة أبيه إلى عشيرة (جبارة)، وهي عشيرة كردية تدعى بالكردية (جباري)،  لكن يذكر أدهم آل جندي في كتابه (أعلام الأدب والفن، الجزء الثاني) أن الرصافي من العشيرة الكردية (بَرزنْج)، والأرجح أنه من عشيرة جباري. وجاء في كتاب (العشائر الكردية) أن عشيرة جباري تسكن لواء (محافظة) كركوك، وهي تمتهن الزراعة، وقد وقفت إلى جانب الشيخ محمود الحَفيد خلال ثورته ضد الإنكليز سنة (1919) في كردستان العراق. 

وكان عبد الغني والد معروف يعمل في سلك الجَنْدِرْما (الدَّرَك)، كما أنه كان كثير التنقل بحكم وظيفته، ويبدو أنه توفّي مبكّّراً، فتلقّى الصبي معروف الرعاية الكاملة من أمـه فاطــمة بنت جاسم، وهي من بنات حيّ (القراغول)، وكذلك من جدّه جاسم، وهو من أصل عربي بدوي، ولّما بلغ معروف الثالثة من عمره أرسلته أمه إلى الكُتّاب، ليتعلم تلاوة القرآن والكتابة، طبقًا للعادة المتبعة في تعليم الصبية حينذاك.

وبعد أن أنهى معروف دراسته في الكُتّاب، وختم القرآن الكريم، انتقل إلى كُتّاب آخر كان يعتبر من أرقى الكتاتيب ببغداد في ذلك الوقت، وكان من شروط قبول التلميذ فيه أن يكون قد ختم القرآن، وكانت الدروس التي تُدرَّس في هذا الكُتّاب أرقى من التي كانت تُدرَّس في الكتاتيب الأخرى؛ سواء أكان ذلك من حيث الكمّ أم النوعية، ولذلك كان لهذا الكتّاب امتياز خاص، وهو أن الطالب الذي يُنهي دراسته فيه يحق له التسجيل في الصف الأول من صفوف (المدرسة الرشيدية العسكرية).

وهكذا أصبح معروف من طلبة المدرسة الرشيدية العسكرية، لكنه جابه فيها مشكلتين لم يكن في مقدروه تحمّلهما:

-  الأولى هي صعوبة الدراسة؛ إذ اقتصر التدريس في المدرسة الرشيدية على اللغة التركية، تلك اللغة التي يجهلها معروف، سوى ألفاظ متناثرة وتعبيرات بسيطة، شأنه في ذلك شأن الغالبية العظمى من الكرد والعرب حينذاك.

-  والثانية هي التنافر الشديد بين الطبع الأدبي المتأصّل في شخصية معروف، وروحه الشاعرة من ناحية، وبين صرامة نظام الجندية، وقسوة الحياة العسكرية، والطاعة العمياء المطلوبة على الدوام، من ناحية أخرى.

لقب الرُّصافي

وأمضى معروف سنتين في المدرسة الرشيدية بجهد جهيد، واستطاع بصعوبة أن يجتاز الصفين الأول والثاني، وكان مضطراً إلى حفظ نصوص المواد الدراسية عن ظهر قلب، دون أن يفهم مضامينها، ولما انتقل إلى الصف الثالث لم تُسعفه طريقته هذه في التغلّب على الموادّ الدراسية الجديدة، وعجز عن النجاح، فاضطر إلى ترك المدرسة الرشيدية، وانصرف إلى الدراسة الحرة، يقرأ ما يميل إليه طبعه، ثم توجّه نحو المدارس الدينية، فدرس فيها العلوم الدينية والأدبية واللغوية، واختار من تلك المدارس مدرسة العلاّمة محمود شكري الآلوسي، صاحب الكتاب الشهير (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب)، فلازمه أكثر من اثنتي عشرة سنة، درس خلالها علوم اللغة العربية وآدابها، كما درس علوم الفكر والمنطق.

ونظراً لنبوغ معروف في دراسته أصبح موضع اهتمام أخواله، فكانوا يقدّمون له ما يحتاجه من نفقات، على أن معروفاً كان كريم الطبع، جواداً، إذا رأى زميلاً له في المدرسة من غير جبّة خلع جبّته وأعطاه إياه، بل إنه كان يخلع حذاءه من رجله ويعطيها لمن يجده بحاجة إلى حذاء، مع أنه كان لا يملك غيره، وكان كثير المواظبة على الصلاة، ويمشي في طريقه مرتدياً الجبّة، والعمامة على رأسه، وعيناه في الأرض لشدّة ورعه، فلقّبه أستاذه الآلوسي بـلقب  (الرُّصافي)؛ نسبة إلى شيخ قديم معروف بالتقوى والصلاح في محلّة الرصافة ببغداد.

ومن مدرسة شيخه محمود شكري الآلوسي التحق الرصافي بمدرسة جديدة، هي مدرسة الملاّ البغدادي، واستمر في استكمال تعليمه، مواظباً على الدروس دون كلل أو ملل، يساعده ذكاء وقّاد وفطنة نيّرة، وتشجيع من شيخه الملاّ البغدادي الذي لمح فيه النجابة والنبوغ، وكان ذلك من العوامل المساعدة على أن يسير بخطوات ثابتة في التحصيل العلمي، وأن يكون متميّزاً ومتفوّقاً على أقرانه من الطلبة.

في ميادين الحياة  

 استكمل الرصافي دراسته، وتسلّح بعلوم تجعله أهلاً لأن يتحوّل من طالب علم إلى معلم، فحصل على وظيفة معلم بمدرسة ابتدائية في إحدى قرى العراق النائية، وبعد سنة عمل معلّماً في مدرسة ابتدائية ببغداد، ومنها نقل إلى المدرسة الإعدادية ليصبح مدرّساً للغة العربية، وفي سنة (1908 م) أُعلن الدستور العثماني، فاستدعاه صاحب جريدة (إقدام) التركية في إستانبول، ليكتب في جريدته التي عزم على إصدارها باللغة العربية، فسافر إلى هناك ليتولّى عمله في الجريدة ، لكنه لم يقم في إستانبول طويلاً، وعاد ثانية إلى بغداد.

وما إن استقر به المقام في بغداد فترة من الزمن حتى استُدعي إلى إستانبول ليدرّس اللغة العربية في المدرسة الملكية الشاهانية، إضافة إلى الكتابة في مجلة (الإرشاد)، فسافر إلى إستانبول من جديد، وأثناء وجوده فيها تم انتخابه نائباً عن لواء (المنتفق) العراقي. واندلعت الحرب العالمية الأولى، فعُهد إليه تدريسُ الخطابة في مدرسة الواعظين التي أسستها وزارة الأوقاف، وبقي في عمله إلى أن أُعلُنت الهدنة، فقرر العودة إلى العراق، ولم يكن السفر إلى العراق ميسوراً، فتوقف في دمشق وبقي فيها سبعة أشهر، ومن دمشق رحل إلى القدس، فتولّى تدريس آداب اللغة العربية بدار المعلمين فيها.

وفي سنة (1921 م) تألّفت الحكومة الوطنية بالعراق، فعاد إلى بغداد، فعيّن نائباً لرئيس لجنة (الترجمة والتأليف)، وقضى في عمله هذا نحو عام ونصف العام، انتقل بعده إلى العمل في القطاع الخاص، فأصدر جريدة سياسية تحت اسم (الأمل). لكن الضائقة المالية لم تسمح له بأن يصدر أكثر من ثمانية وستين عدداً.

ولما حلّت سنة (1924 م) عيّن مفتشاً للغة العربية بوزارة المعارف، وانتقل من هذا المنصب إلى دار المعلمين العالمية ليتولّى تدريس اللغة العربية وآدابها. وبعد أن أمضى في مهنة التدريس أربعة أعوام استقال، واكتفى بالمقعد النيابي الذي شغله خمس مرات متتالية خلال ثماني سنوات،  ترك العلم بعدها في وظائف الدولة ومجلس الأمة، وكان ذلك سنة (1933 م).

الرصافي مفكّراً وكاتباً

 إرث الرصافي زاخر بالعطاء، فقد ترك وراءه سبعة عشر مؤلفًا طُبع بعضها، وبعضها الآخر ما زال مخطوطًا؛ إذ لم يستطع أن يدفع إلى الطباعة بكل ما كتب، لضيق ذات يده، وتولّى بعض أصدقائه دفع تكاليف طباعة بعض كتبه، وتولّت الحكومة العراقية طباعة بعضها الآخر.

ومن أقدم مؤلفاته كتابه (الرؤيا)، ويُعدّ أول مؤلفاته، وهي رواية كتبها الأديب التركي (نامق كمال)، ونقلها الرصافي إلى العربية بعد إعلان الدستور العثماني، وأهم ما جاء فيها هو النداء الذي وجّهه المؤلف إلى الشعب في السلطنة العثمانية، يستنهض هممهم، ويطلب إليهم العمل لتحقيق المجد والسؤدد.

واتجه الرصافي إلى أدب الأطفال فكان لديه اهتمام بتنشئتهم تنشئة كريمة، وإذكاء الروح القومية والوطنية فيهم، فلما كان في القدس وعمل فيها أستاذاً للغة العربية وضع كتابه الثاني باسم (الأناشيد المدرسية)، وطبع هذا الكتاب ووزّع على المدارس، فكان الطلاب يبدؤون يومهم الدراسي بإنشاد هذه الأناشيد التي ترددت في مختلف البلدان العربية.

وبعد كتابه هذا وضع كتابه الثالث (تمائم التعليم والتربية)، وضمّن هذا الكتاب عدداً من الأناشيد القومية والوطنية ومكارم الأخلاق والسعي لطلب العلم، وغيرها من التوجيهات اللازمة لتربية التلاميذ تربية صالحة، وقد ذاعت هذه الأناشيد في البلاد العربية، وحفظها طلاب المدارس، وكانوا يرددونها في كل يوم.

والكتاب الرابع للرصافي كان بعنوان (دفع الهُجْنة في ارتضاخ اللُّكْنة)، وقد جمع فيه كلمات عربية ردّها إلى أصولها في المعجم، إذ كانت هذه الكلمات تستعمل في اللغة التركية، وكان يرمي من وراء تأليف هذا الكتاب إلى حماية المتكلمين بالعربية من اللُّكْنة.

أما الكتاب الخامس فهو (نفحُ الطِّيب في الخطابة والخطيب)،وقد ألّفه الرصافي عندما عهدت إليه الدولة العثمانية بتدريس الخطابة العربية في مدرسة الواعظين بالأستانة مع بدء الحرب العالمية الأولى.

ثم وضع الرصافي كتابه السادس (دروس في تاريخ آداب اللغة العربية)، ويتألّف من الدروس التي ألقاها على طلبته في دار المعلمـين بالعراق، ونشرها سنة (1928 م) بمجلة (التربية والتعليم) التي كان يصدرها ساطع الحصري، ثم جُمعت ونشرت في كتاب بعنوان (دروس في تاريخ آداب اللغة العربية).

ولم يترك الرصافي كتاباً وقع نظره عليه فقرأه إلا علّق عليه، مما يدل على سعة اطلاعه وعمق ثقافته، ولما توفي ترك كثيراً من المخطوطات التي حالت الفاقة من إرسالها إلى المطابع، ومنها: (الأدب الرفيع في ميدان الشرف)، و (خواطر ونوادر)، و(الرسالة العراقية)، و(آراء أبي العلاء)، و(الآلة والأداة)، و(دفع المَراق في كلام أهل العراق)، و(الشخصية المحمدية أو حلّ اللغز المقدس).

الرصافي .. شاعرًا

اشتهر الرصافي شاعراً أكثر من اشتهاره كاتباً، وله ديوان في جزءين، ويعـدّ شعره سجلاً تاريخيًا صادقًا لما كان عليه العراق منذ أواخر العهد العثماني حتى نيله استقلاله في ظل النظام الملكي، إنه شارك أبناء وطنه مرارة البؤس وآلام الحرمان، فكانت قصائده تصدر عن شعور صادق وضمير يقظ وحس مرهف أصيل.

 وكان الرصافي بحق من أبرع الشعراء الذين صوروا بؤس الشعب ومآسيه، وكان أصدق من ترجم آمال الجماهير وأحزانها، فكان- رحمه الله- إذا صوّر لوحة من تلك اللوحات الحزينة لا يكتفي بمجرد التصوير، بل يستخلص منها ما يراه مفيداً لاستنهاض الشعب وإيقاظه من سباته، والتنديد بركوده وجموده، وفي معظم قصائده نراه يهيب بالجماهير كي تتطلّع إلى حياة أعز ومنزلة أسمى، وهذه الحقيقة ماثلة للعيان في معظم أشعاره.

وإذا دققنا في شعر الرصافي وجدنا أنه اتخذ من الكون كله غرضاً له، وقد أعانه على بلوغ ما أراد بيان ناصع، وأسلوب بليغ، وألفاظ مختارة منتقاة، وقريحة ثرّة، وديباجة مشرقة، ولغة واضحة لا حشو فيها ولا تعقيد، وهذا يظهر جليّاً في ثروته الشعرية التي أبدعها، تلك الثروة التي تمتاز بمعانيها الفياضة والتبويب الرائع.

كما أن الرصافي تأثّر بأفكار جمال الدين الأفغاني، وأسهم بشعره في رفد الحركة الفكرية- الاجتماعية بكثير من القوة والحيوية؛ سواء أكان ذلك في مجال تحرير العقول من الأوهام، أم في تحرير النفوس من العبوديات، أم في مقاومة الجمود وتعليم المرأة، حتى إن عبد اللطيف شرارة يقول في كتابه (الرصافي):

" إن الفضل فيما توصّلت إليه المرأة العربية، والعراقية خاصة، من حرية وثقافة، إنما يعود إلى بضعة أفراد، بذلوا غاية الجهد في هذا المضمار، وعلى رأسهم قاسم أمين في مصر، والزُّهاوي والرصافي في العراق ".

ولا يخفى أن هؤلاء الثلاثة هم من الكرد، واهتمامهم بالمرأة وتحريرها أمر يستدعي وقفة تحليلية جادة. ونرى الرصافي في هذا المجال يدعو إلى تعليم المرأة، مندّداً بحجب المعرفة عنها باسم الدين الإسلامي:

لقد كذَبوا على الإسـلام كِذْباً      تزولُ الشُّمُّ منــه مُزلزَلاتِ

أليس العلمُ في الإسلامِ فرضاً      على أبنائه وعلى البنـاتِ؟!

بل يرى الرصافي أن البناء الخلقي القويم للإنسان يبدأ من الأم، لذا من الضروري الاهتمام بتعليم المرأة وتربيتها تربية حسنة، كي تكون قادرة على تنشئة الأجيال تنشئة فاضلة:

هي الأخـلاقُ تَنبتُ كالنباتِ     إذا سُقيتْ بماء المَكْرُماتِ

ولم أرَ للخـلائق من محلٍّ      يُهذّبُها كحِضنِ الأمّهـاتِ

فحِضنُ الأمّ مدرسةٌ تَسامتْ      بتربية البنـينَ أو البناتِ

وأخلاقُ الوَليدِ تُقاسُ حُسناً      بأخلاق النسـاء الوالداتِ

والرصافي عاشق للحرية، ومدافع مخلص عن كرامة الإنسان، لذلك نجده يعبّر عن سخطه على سياسات الدولة العثمانية الاستبدادية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، فيقول:

عجبتُ لقـومٍ يَخضعون لدولـةٍ      يَسوسهمُ بالمُوبقـاتِ عميدُها

وأعجـبُ من ذا أنّهـم يَرهبونها     وأموالُها منهمْ، ومنهمْ جنودُها

وكم كان سروره كثيراً بحدوث الانقلاب على النظام الاستبدادي الذي مارسه عبد الحميد، وإعلان الدستور في العشر من شهر تموز/يوليو سنة (1908)، لقد قال:

أَكرِمْ بتمّــوزَ شهراً، إنّ عاشرَهُ     قد كان للشرق تكريـماً وتعزيزا

شهرٌ به الناسُ قد أضحتْ محرَّرةً     مِن رِقِّ مَن كان يَقْفو إثرَ جنكيزا

هي المسـاواةُ عمّتْنا، فما تركتْ      فضلاً لبعضٍ على بعضٍ وتمييزا

ودعا الرصافي الأجيال إلى عدم الانغلاق على النفس، واجترار الماضي، فلا يكفي أن يكون الماضي مشرقاً، وإنما لا بد من التشمير عن سواعد الجدّ، وبناء الحاضر على أسس راسخة:

أرى مستقبَلَ الأيــام أولى      بمَطمحِ مَن يحاولُ أن يسودا

فوجّهْ وجهَ عزمكَ نحو آتٍ       ولا تُلفتْ إلى الماضـين جِيدا

وهل إنْ كان حاضرُنا شقيّاً       نسودُ بكونِ ماضيـنا سعيدا؟َ!

والرصافي صاحب نفس أبيّة، يحب الطموح والمجد، ويشجّع الآخرين على ذلك:

سِرْ في حياتِكَ سيرَ نابِهْ       ولُمِ الزمـــانَ ولا تُحابِهْ

وإذا حَلَلْتَ بموطـــنِ       فاجعــلْ محلّك في هِضابهْ

واخترْ لنفســك مَنزلاً        تَهفو النجـومُ على قِبـابِهْ

فالمجدُ ليس يَنـــالُه        إلا المُخاطِـــرُ في طِلابِهْ

وإذا يُخاطبــك اللّئيـ        ـمُ فصُمَّ سَمعَك عن خِطابِهْ

وإذا انبرى لك شــاتمٌ        فاربَأْ بنفسكَ عن جــوابِهْ

فالروضُ ليس يَضـيرُهُ        ما قد يُطنْطِنُ من ذُبــابِهْ

وسبق القول بأن الرصافي عانى اليتمَ والفاقة وبؤس العيش، لذا كان كثير الاهتمام بالفقراء والأيتام والأرامل، شديد التعاطف معهم، ونجد في شعره لوحات كثيرة تجسّد عمق تأثّره بمشاهد البؤس والشقاء، إن تلك المشاهد كانت تهيج عاطفته وتثير شاعريته، فقال في حديث له: " كانت مشاهد البؤس أشد الدواعي عندي إلى نظم الشعر ". وله قصائد عديدة في هذا المجال، منها قصيدة بعنوان (أم اليتيم)، وأخرى بعنوان (الأرملة المرضع)، وثالثة بعنوان (اليتيم في العيد)، ورابعة حول مأساة أمّ حُكم على ولدها الوحيد بالسجن ظلماً، وغير ذلك كثير.

والرصافي هو الابن المخلص للبيت الحضاري الكبير الذي ذكرناه، وها هو ذا يدعو إلى التعايش، بعيداً عن العصبيات العرقية والدينية والمذهبية، مندّداً بتعصّب الجهلة من المسلمين والمسيحيين، ومشجّعاً على التآخي بين أبناء البيت الحضاري الواحد:

أما آنَ أنْ تُنسى من القومِ أضغانُ      وتُبنى على أُسّ المؤاخاة بُنيانُ؟!

علامَ التَّعــادي لاختلاف ديانةٍ؟       وإنّ التعـادي في الديانةِ عُدْوانُ!

وما ضَرَّ لو كان التعــاونُ دينَنا      فتَعمُرَ بُلـدانٌ، وتأمنَ قُطّــانُ؟!

إذا القـومُ عمّتْهـمْ أمـورٌ ثلاثةٌ       لسانٌ، وأوطــانٌ، وباللهِ إيمـانُ

فأيُّ اعتقـادٍ مانعٌ من أُخـــوّةٍ      بها قال إنجيـلٌ كما قال به قرآنُ؟!

أنَشقى بأمر الدين وهو سـعادةٌ؟!      إذاً فاتّباعُ الدِّين يا قـومُ خُسْرانُ؟!

تحوّلات كبرى

بقدر ما تعرف تتألّم.

وبقدر ما تتألّم تصبح أكثر وعياً.

وتصبح حياتك عرضة لتحوّلات أعمق.

وهذا ما يتجلّى في حياة الرصافي، فهو مثقف واسع الرؤية، وشاعر مرهف الحس، ثم إن الفاقة خيّمت على حياته في البدايات، وواكبته في النهايات، فكيف ينجو من الألم، وكيف تكون حياته بمنأى عن التحوّلات الكبرى؟! هذا عدا أنه عاصر أحداثاً عالمية وإقليمية جساماً، أبرزها الحربان العالميتان الأولى والثانية، وزوال السلطنة العثمانية، وتداعيات اتفاقية سايكس- بيكو في شرقي المتوسط. إن جميع هذه العوامل والظروف كانت كافية لأن تُدخل التحوّلات في فكر الرصافي وفي رؤيته وقيمه وحياته. ولنستمع إلى أمين الريحاني يتحدث عن الرصافي قائلاً:

" إذا لم يكن معروف بدوي المولد، فهو بدوي الإرث، إني أذكر اجتماعنا الأول سنة (1910)، يوم كان يلبس العباءة والعقال، ويلقي الشعر بلهجة بدوية ساحرة، ثم سافر إلى الأستانة، ولبس هناك الجبّة والعمامة، وانضم إلى الأتراك في نهضتهم المدمّرة، فحمل اللواء والمصحف ليلاً ونهاراً، ثم وثب وثبة واحدة من المسجد إلى الحانة، خلع معروف الجبّة والعمامة وكل ما ترمزان إليه، وجعل المقاهي محطّ رِحاله، فنظم من الشعر ما يفصح عن المحطة الجديدة في حياته ".

ويقول عبد اللطيف شرارة، متحدّثاً عن الانعطافات الشديدة في حياة الرصافي:

" إن هذا الرجل الذي يصفه الريحاني على تلك الحال عام (1910)، ينقلب بعد عشر سنوات إلى (راضٍ) عن الحياة والناس، ثم ينقلب بعد فترة وجيزة إلى ثائر...، ثم يخوض الحياة الرسمية ووظائفها،... ثم ينصرف عن السياسة في فترة يأخذ خلالها في نشر الآراء والأفكار المتطرفة التي تخالف المألوف حول الدين والإيمان والشريعة، فيثير حول اسمه ضجة تستكّ لها الأسماع ".

ويذكر عبد اللطيف شرارة أن الرصافي اتُّهم بالمروق من الدين لأنه قال:

أحبُّ صراحتي قولاً وفِعـلاً       وأكرهُ أن أَميـلَ إلى الرِّياءِ

ولستُ من الذين يَرَون خيراً      بإبقاء الحقيقة في الخَـفاءِ

ولا ممّن يَرى الأديان قامتْ       بوحيٍ مُنزَلٍ للأنبــــياءِ

ولكنْ هـنّ وضعٌ وابتـداعٌ      من العقــلاء أربابِ الدّهاءِ

وإن الفاقة التي خيّمت عليه وهو في ريعان الشباب حدّت من مخالطة من هم في سنه، ممن كانوا ينعمون بالمال الوفير، فلجأ إلى التدخين ينفث في سيجارته همومه، وارتاد المقاهي ليحتسي كوباً من الشاي أو فنجاناً من القهوة، لقد كان الشاعر في صراع مستمر مع نفسه، وكان قوياً في الحدّ من شهوته، وقد قال في هذا:

وأَقنعُ بالقـوت الزهـيدِ لطيبهِ      حِذارَ وقوعي في خبيث المطاعمِ

وأتركُ ما قد تشتهي النفسُ نيلًه     لِما تَشتهـيه قــلّةٌ في الدراهمِ

وكان الرصافي طيّب القلب رحيماً، شديد العطف على الفقراء، إذا سمع عزاء في بيت بكى، وكان ذا كرم وأنفة، يرفض الظلم، ويندّد بالظالمين وأتباعهم، وقد تزوّج حينما أقام في استانبول بامرأة تركية، لكنه طلّقها لعجزه عن توفير أسباب الحياة المناسبة لها، ولم يتزوّج بعدئذ، وعاش وحيداً.

 وابتلي الرصافي بالخمرة، ينفق فيها ما يملك، وعانى الفقر في أواخر عمره، حتى إنه اضطر إلى بيع السجائر في حانوت صغير، ليكسب قوت يومه، على أن السيد حكمت سليمان رئيس الوزارة العراقية حينذاك علم بذلك، فأقال عثرته، وكذلك فعل كل من شقيقيه مراد وخالد سليمان، وأحاطه الشيخ مظهر الشاوي بعطفه أيضاً، فخصّص له مبلغ أربعين ديناراً كل شهر، يكفيه للعيش بعيداً عن الفاقة.

ـ    ـ    ـ    ـ

وفي صباح يوم الجمعة الموافق السادس عشر من شهر آذار/ مارس (1945 م) انتقل الرصافي إلى منازل الخلود، وطويت صفحة مشرقة من صفحات الشعر في العراق وفي البلاد العربية وفي البيت الحضاري الكبير. إنه كان الشاعر الفذ الذي يدرس شعره في المدارس، ويتغنى بشعره الأحرار، وقد أوصى بأن يدفن في أرض بِكر لم تفلح، فدفن في مقبرة الأعظمية، بجوار صديقه ومنافسه الشاعر جميل صدقي الزُّهاوي، رحمهما الله رحمة واسعة.

المصــادر

 

ـ إيليا حاوي: معروف الرصافي الثائر والشاعر، دار الكتاب اللبناني، بيروت، دار الكتاب المصري، القاهرة، الطبعة الأولى، 1978.

ـ خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة السابعة، 1986.

ـ عبد اللطيف شرارة: الرصافي، دار صادر، بيروت، 1960.

ـ عمر رضا كحالة: معجم المؤلّفين، مكتبة المثنى، لبنان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957.

ـ فؤاد حمه رشيد: العشائر الكردية، مطبعة الحوادث، بغداد، 1979.

ـ معروف الرصافي: ديوان الرصافي، دار العودة، بيروت، 1972.

ـ مير بصري: أعلام الأدب في العراق الحديث، دار الحكمة، لندن، الطبعة الأولى، 1994.

 

    وإلى اللقاء في الحلقة العاشرة.  

              د. أحمد الخليل   في 2-2-2006   dralkhalil@hotmail.com

 

 ==========================

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة الثامنة)

الملك المؤرخ أبو الفـــداء

( 672 ـ 732 هـ / 1273 ـ 1331م )

 

تواريخ.. ونواعير

حَماه..

تلك المدينة السورية الجميلة.

مدينة نهر العاصي.. والنواعير.

من ينسى روعة سهولها الفسيحة؟!

ومن ينسى مذاق ألبانها وأجبانها؟!

يسمّيها السوريون: مدينة (أبي الفداء).

(أبو الفداء) هو لقب لأحد ملوكها القدماء.

وكان أبو الفداء من حفدة الكرد الأيوبيين.

كان ذلك قبل حوالي سبعمئة سنة خلت.

ولا ريب أن البشر مستويات.. وطبقات.

ولو شاء ربّك لجعل الناس أمةً واحدة.

وكذلك تواريخهم.. إنها مستويات، وطبقات.

وتواريخ العظماء تمضي، لكنها لا تندثر.

فأما الزَبَد فيذهب جُفاءً.

وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

وإنه لمن المفيد أن ندخل رحاب أحد العظماء.

ونقلّب بتؤدة بعض صفحات سيرته من جديد.

إنّ في ذلك لَذكرى لكل طالب علم و باحث عن الحقيقة.

دياكو الميدي

وقصة الكرد مع حماه أقدم من عهد أبي الفداء.

إنها قديمة.. لا، بل هي قديمة جداً جداً.

إنها تعود إلى حوالي منتصف القرن السابع قبل الميلاد.

أي إلى ما يقارب ألفين وخمسمئة سنة مضت.

حينذاك كان الآشوريون سادة غربي آسيا بلا منازع، وكانت جحافل جيوشهم الإمبراطورية تبسط نفوذها من قلب إيران شرقاً، إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط غرباً، وكان الفرس، والكرد، والأرمن، والبابليون، والكلدان، والآراميون، والعرب، يكتوون بعسف تلك الإمبراطورية حينذاك، وكثيراً ما كانت هذه الشعوب تتململ، فتتمرّد، فتثور، لكن السلطات الآشورية كانت تسرع إلى قمعها، وتذيقها العقاب ألوناً وأصنافاً، حتى إنها كانت تعمد أحياناً إلى نقل سكان مدن بأكملها من مناطق سكناهم، وتجبرهم على السكن في مناطق بعيدة جداً من ديارهم، وتأتي بشعب آخر غريب ليحلّ محل المهجَّرين.

وكان الميديون – وهم أجداد الكرد- من جملة الشعوب التي عانت من عسف الإمبراطورية الآشورية، كما سبق القول، وكان أول اتصال بين الميديين والآشوريين حصل سنة (835 ق.م)، في عهد الملك الآشوري شلما نصر الثالث، وكان الآشوريون في خصام دائم وشديد مع الميديين، وكان الميديون ألدّ أعدائهم، وحقّق الآشوريون عليهم بعض الانتصارات، لكنهم عجزوا عن فرض سلطة فعلية على الميديين، بسبب جبالهم المنيعة، وعنادهم الشديد، ورفضهم التبعية والانصياع.

وكان الميديون ينتفضون بين حين وآخر، وبرز خلال تلك الانتفاضات قائد ميدي حكيم، صلب العزيمة، شديد المراس، يدعى (دياكو) أو (ديوكو)، فوحّد القبائل الميدية تحت لوائه، وأعلن استقلال الدولة الميدية عن الإمبراطورية الآشورية، واتخذ أكباتانا (هَمَذان/ آمدان) عاصمة لدولته، فثارت ثائرة السلطة الآشورية، وخاض الطرفان معارك ضارية، وفي سنة (715 ق.م) حقق الآشوريون النصر على دياكو، وأسروه، ونفوه هو وأفراد أسرته وحاشيته الملكية إلى مدينة حماه السورية.

والشيء بالشيء يُذكر، كما يقال، ويحضرني في هذا المجال قول قاله الأمير والشاعر أبو فراس الحَمْداني، حينما أسره الروم، وسجنوه في مدينة (خَرْشَنة) ببلاد الروم (تركيا الحالية)، لقد قال في قصيدة له:

           إنْ زرتُ خَرْشَنةً أسـيرا       فلَكَمْ حَلَلْتُ بها أمــيرا!

وأقول: لقد حل الكردي الميدي دياكو في حماه أسيراً،

وبعد دهر طويل حلّ فيها الكردي الأيوبي أبو الفداء أميراً.

إضاءات..

وكي نعرف الأمور على حقيقتها لا بد من عودة إلى البدايات.

بلى، لنعد تحديداً إلى الفترة الواقعة بين ( 567 – 648هـ/ 1171- 1250م)، إنها فترة تاريخية شديدة الأهمية في حياة شعوب شرقي المتوسط، وهي معروفة في كتب التراث الإسلامي باسم (العهد الأيوبي)، وحينذاك كان الكرد الأيوبيون سادة غربي آسيا، وكان سلاطينهم يحكمون بلاداً شاسعة، تمتد من سفوح جبال زغروس شرقاً، إلى تونس غرباً، ومن حدود أرمينيا شمالاً إلى اليمن وشمالي السودان ضمناً جنوباً.

وتأتي النسبة (الأيوبيون) من الجد الأكبر لهذه الأسرة، وكان اسمه (أيوب بن شادي)، وهو والد صلاح الدين، أشهر سلاطين الأيوبيين، وينتمي شادي إلى عشيرة كردية كبيرة تسمّى (رَوادي)، وتلفظ بالكردية (رُو آدي)، وتنتمي هذه العشيرة إلى قبيلة (هَدْباني) الضخمة، وكانت لهذه القبيلة امتدادات في كل من أذربيجان وأرمينيا وكردستان العراق، ويبدو أنها كانت مشهورة بأفراسها الأصيلة، فكثيراً ما يأتي وصف الفَرس، في بعض الملاحم الشعبية الكردية، بأنها (هَدْبان)؛ تعبيراً عن أنها أصيلة ومتميّزة.

وكان تاريخ الأيوبيين مشرقاً بكل جوانبه:

كان تاريخاً مشرقاً سياسياً لأن الأيوبيين وحّدوا شعوب شرقي المتوسط بجميع مِللهم ونِحَلهم، كرداً وعرباً وتركاً، ومسلمين وإيزديين ومسيحيين، ليس عبر سياسات الإكراه والقهر، وإيديولوجيات الإلغاء والتذويب، وإنما عبر سياسات التكامل، وإيديولوجية التآلف والتآخي، فعملت هذه الشعوب، بإشراف القيادة الأيوبية، لتعمير بيتهم الشرق متوسّطي الكبير.

وكان تاريخاً مشرقاً عسكرياً لأن الأيوبيين جعلوا شعوب شرقي المتوسط تقف صفاً واحداً في وجه الحملات الإفرنجية القادمة من وراء البحر المتوسط، وقادوا تلك الشعوب في أكثر المعارك ضراوة وشراسة، وبقيادتهم حققت تلك الشعوب أعظم الانتصارات أهمية، وحسبنا دليلاً على ذلك معركة حطين، وتحرير القدس.

وكان تاريخاً مشرقاً حضارياً لأن الأيوبيين لم يكونوا حملة السيف فقط، بل كانوا حملة السيف بيد والقلم بيد، بل تشهد إنجازاتهم العلمية والاجتماعية والاقتصادية أنهم كانوا يقدّمون القلم على السيف، وكانوا يؤمنون أن قوة الشعوب تكمن في ثروتهم المعرفية، وقد جاء في بعض كتب التاريخ أن الملك عَضُد الدولة البُوَيْهي كان يأتي بالوحوش، من أسود ونمور وفهود، فتوضع أقفاصها في أطراف مجلسه، ليُرهب بها من يأتيه، ويثير الذعر في قلوبهم. أما الأيوبيون فكانوا يزيّنون مجالسهم بالفقهاء والعلماء والأدباء، وحسبنا دليلاً على ذلك دُور العلم والمشافي التي شيّدوها، وما شهد به الرحّالة ابن جُبَيْر الأندلسي من ازدهار اقتصادي وعمراني.

وقد قضى المماليك على الحكم الأيوبي سنة (648 هـ/1250م)، في ظروف لا مجال الآن للبحث فيها، لكن ظلت بعض الممالك والإمارات الأيوبية قائمة إلى منتصف القرن العاشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، ومن تلك الممالك مملكة حماه، وإلى هذه الدوحة الأصيلة ينتمي الملك العالم أبو الفداء، وقد قال الشاعر الأندلسي المعتمد بن عبّاد ذات يوم:

           شَيَمُ الأُلى أنا منهمُ       والأصلُ تتبعه الفروعْ

ولا عجب أن يتبع أبو الفداء أسلافه الأيوبيين الميامين.

فمن هو الرجل؟!

نشأة أبي الفداء وشخصيته

هو إسماعيل بن علي بن محمـود بن محمد بن عمر بن شاهِِنْشاه بن أيوب بن شادي، الملك أبو الفـداء صاحب حـماة، من أعيان فضلاء بني أيوب، ولد في دمشق سنة (672هـ)، وكان أميراً عليها، ثم أعطاه السلطان الناصر محمـد بن قلاوون (684 - 741 هـ) مملكـة حـماة تقـديراً له على إخلاصه، إذ كانت الدولة القلاوونية- وهي من الدول المملوكية- تجمـع بين مصر والشـام في حكمها.

وكانت لأبي الفداء منـزلة رفيعة عند السلطان الناصر، والدليل على ذلك الكيفية التي كانت السلطان يتعامل بها مع أبي الفداء، والمراسيم التي كان تُتّبع في لقاءاته مع السلطان؛ ففي أثناء زيارة له إلى القاهرة، عاصمة السلطنة، أُركب أبو الفداء بشعار المملكة والأبـّهة، ومشى الناس في خـدمته، ومنهم كبار الأمراء، مثل أرغون نائب السلطان، وهذا ما لم يكن يُسمَح به إلا للخاصة من الملوك أمثال أبي الفداء.

وقد لقّب أبو الفداء أولاً بالصالح ثم المؤيَّد، وأُذن له أن يُخطب باسمه في حماه وأعمالها، ويكون له الحكم المطلق فيها، وليس هذا فحسب، بل إن السلطان الناصر أصدر مرسوماً إلى نوّابه في بلاد الشام أن يكتبوا إلى أبي الفداء في مراسلاتهم عبارة (يقبّل الأرض) تعظيماً له، وكان السلطان نفسه يخاطبه في رسائله له بقوله:

" أخو محمد بن قلاوون، أعزّ الله أنصار المقام الشريف العالي السلطاني الملكي المؤيّدي العمادي".

وهذا دليل على إعجاب السلطان الناصر بفضائل أبي الفداء وآدابه، ويتفق كل من كتب عنه أنه تميّز بخصال حميدة نادرة، وبصفات نبيلة قلّما تجتمع في رجل واحد؛ إنه كان جواداً، شجاعاً، عالماً، محباً للفضيلة، جامعاً للفضائل، عاقلاً، متواضعاً، محباً لأهل العلم. فكيف لا يكون من المشاهير والعظماء من يمتاز بكل هذه الخلال، ولا سيما إذا كان من الملوك؟!

مكانته العلمية

إن شخصية أبي الفداء تذكّرنا بشخصية الملك الذي أراد الفيلسوف اليوناني أفلاطون تنصيبه حاكماً في جمهوريته، فقد اشترط أفلاطون أن يكون حاكم (الجمهورية) من الفلاسفة، باعتبار أن الفيلسوف الأصيل لا بد أن يكون حكيماً، واسع المعرفة، رحيب الرؤية، نافذ البصيرة، سديد الرأي، زاهداً في متع الحياة وملذاتها، نائياً بنفسه عن الأنانية والعصبية، مترفّعاً عن الأحقاد والضغائن؛ وهذا ما توافر في شخصية الملك أبي الفداء، فقد حفظ أبو الفداء القرآن الكريم، وبرع في الفقـه، والأصول، وعلوم العربية، والتاريخ، والجغرافيا، والأدب والشعر و العروض، والطب، والتفسير، والميقات، والمنطق، والفلسفة، وصنّف في كل علم تصنيفاً، هذا عِلاوة على خصاله الحميدة المشار إليها.

ويذكر المؤرخون أنه زار القاهرة مرة ومعـه ولده، فمرض الولد، فأمر السلطان الناصر رئيس الأطـباء جمال الدين بن المغربي بملازمته، فحكى جمال الدين أنه لازمه بكرة وعشية، فكان أبو الفداء يبحث معـه في تشخيص ذلك المرض، ويعدّ معـه الدواء، ويباشر طبخه بيـده، حتى إن ابن المغربي قال:

"والله لولا أمر السلطان ما لازمته، فإنه لا يحتاج إليّ".

وكان أبو الفـداء ذوّاقة للأدب، ينظـم الشعر والموشحات، ولذلك كانت سوق الشعراء عنده رائجة، وكان الشعراء يقصدونه، فيحظون عنده بالإكرام والتقدير، وهو ممدوح الشاعر جمال الدين بن نُباتة، مدحه بغرر القصائد، ومن مدائحه فيه قوله:

أقسمتُ ما الملك المؤيُّد في الورى 

              إلاّ الحقيقـةُ، والكرامُ مجـــازُ

هو كعـبةٌ للفضل، ما بين النَّدى 

              منـها وبيـن الطـالِبين حِجـازُ

وظل أبو الفداء ملكاً على حماه حتى توفي سنة (732 هـ)، ودفن بظاهر المدينة، ولما بلغ السلطان الناصر خبر وفاته، أسف عليه كثيراً، وحزن عليه، وعيّن ولده الأفضل محمداً ملكاً مكانه، ورثاه شاعره ابن نُباته بقصيدة طويلة، منها:

ما للنَّدى لا يلبّي صـوتَ داعيهِ 

               أظن أن ابن شادي قـام ناعيهِ!

ما للرجــاء قد اشتدّتْ مذاهبُه 

             ما للزمان قـد اسودّتْ نواحيهْ!

نعى المؤيَّـدَ ناعـيه، فيا أسفاً   

             للغيث، كيف غدتْ عنا غواديهِ؟!

كان المديــحُ له عرساً بدولتهِ  

             فأحسن الله للشعر العَزا فـيهِ

وقال ابن حَجَر العسقلاني يصف إعجاب الشعراء بأبي الفداء:

" ولا أعرف في أحد من الملوك من المدائح ما لابن نُباته والشهاب محمود وغيرهما فيه، إلا سيف الدولة، وقد مدح الناس غيرهما من الملوك كثيراً، ولكن لهذين من الكثرة والإجادة من الفحول ما لم يتفق لغيرهما ".

وحسب أبي الفداء أنه قورن، في جمعه بين السياسة والعلم، بالخليفة العباسي الشهير المأمون، فقال ابن الوردي يشيد بمكانته على صعيد العلم، وبحبه للمعرفة:

" ولقد رأيت جماعة من ذوي الفضل يزعمون أنه ليس في الملوك بعد المأمون أفضل منه، رحمه الله ".

مؤلفاته

 كان أبو الفداء بحق سليل الدوحة الأيوبية التي جمعت بين العبقرية في ميادين القتال، والعبقرية في مجال العلم والفكر، وخير دليل على ذلك وفرة المؤلفات التي صنّفها هذا الملك العالم، ثم إنها مصنّفات في مجالات علمية ومعرفية، أهمها التاريخ، والجغرافيا، واللغة، والنحو، والحديث، والفقه. أضف إلى هذا أن أبا الفداء لم يكن مجرّد جمّاعة للمعلومات والأخبار، وإنما كان باحثاً فطناً، وعالماً رصيناً. ويعرف كل من له خبرة بالعلم ومستوياته، ومن له تجربة مع البحث ومكابداته، أنه ليس من السهل التأليف في جميع هذه المجالات، ومن يفعل ذلك لا بد أن يكون قد قرأ كثيراُ، ونقّب وبحث، وحقّق ودقّق، وقارن ووازن، وانتقل من العلم بالفروع إلى العلم بالأصول، وغادر ظواهر العلوم وسطوحها، متوجّهاً إلى الأعماق، غائصاً في لججها.

ومن أشهر مؤلفات أبي الفداء: 

1 - المختصر في أخبار البشر: ويعرف بتاريخ أبي الفداء، وبه اشتهر، ذكر فيه تاريخ ما قبل الإسلام، ثم تاريخ الإسلام إلى سنة (729 هـ)، وقد اختصره الشاعر والمؤرخ ابن الوردي (ت 749 هـ)، وأضاف إليه وسماه (تتمّة المختصر)، واختصره أيضاً الفقيه والمؤرخ ابن الشِّحْنة (ت 815 هـ) وزوّده بإضافات إلى زمانه.

2 - تقويم البلدان: كتاب في الجغرافيا العامة، جعله على شكل جداول، وقـدّم ما يجب معرفته من ذكر الأرض والأقاليم. وقد رتّبه على حروف المعجم محمـد بن علي الشهير بلقب سباهي زاده (ت 997 هـ)، وأضاف إليه، وسماه (أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك)، وأهداه إلى السلطان العثماني مراد خان الثالث؛ وهذا دليل ناصع على القيمة العلمية للكتاب.

3 - الكُنّاش: وهو لفظ سرياني الأصل معناه المجموعة أو التذكرة، وهو يشتمل على عدة كتب، منها كتاب في النحو والتصريف، ويشهد هذا الكتاب لمؤلفه بالاطلاع الواسع، والعلم الغزير، والقدرة الفائقة على الجمع والتأليف، وجمع فيه أهم مسائل النحو والتصريف.

ولأبي الفداء من المؤلفات أيضاً:                       

- نظم الحاوي الصغير في الفروع للقزويني، في الفقه الشافعي.

- مختصر اللطائف السنية في التواريخ الإسلامية.

- تاريخ الدولة الخُوارَزْمية.

- كشف الوافية في شرح الكافية لابن الحاجب.

- الأحكام الصغرى في الحديث.

- كتاب الموازين.

- نوادر العلم.

_    _    _    _

ألا إن أبا الفداء كان مثالاً للعالم المحقّق والباحث المدقق.

كما كان مثالاً للملك العالم، والسياسي المتنوّر.

إنه جمع فأوعى، واهتدى فهدى.

وبأمثاله تنهض الأمم.

وتزدهر الحضارات.

 

المصــادر

1- إ. م. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهيبة شوكت، دمشق.

2- ل . ديلابورت: بلاد ما بين النهرين (الحضارتان البابلية والآشورية)، ترجمة محرّم كمال، المطبعة النموذجية.

 3- ابن تَغْري بَرْدي (جمال الدين يوسف): النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والطباعة والنشر، القاهرة، 1963م.

2- حاجي خليفة (مصطفى بن عبد الله): كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992م.

3- ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق محمد سيد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1966م.

4- السبكي (تاج الدين عبد الوهاب بن علي): طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو، محمود محمد الطناحي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1964-1979م.

5- الشوكاني (محمد بن علي): البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978م.

6- الصفدي (صلاح الدين خليل بن أيبك): كتاب الوافي بالوفيات، تحقيق هلموت ريتر، طبعة فيسبادن، ألمانيا، 1962-1991م.

7- ابن العماد الحنبلي (عبد الحي بن أحمد): شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، 1979م.

8- أبو الفداء:

- الكُناش في النحو والصرف، تحقيق علي الكبيسي، صبري إبراهيم، جامعة قطر، الدوحة، 1993م.

- المختصر في أخبار البشر، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1970م.

9- ابن قاضي شهبة (أبو بكر بن أحمد): طبقات الشافعية، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية،حيدر أباد، الهند، 1978-1890م.

10- محمد بن شاكر الكتبي: فوات الوفيات والذيل عليها، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1973-1974م.

    وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة.  

              د. أحمد الخليل   في 16-1-2006   dralkhalil@hotmail.com

 

==============================

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة السابعة)

قاسم أمين: الداعي الأكبر إلى تحرير المرأة

( 1863 ـ 1908 م )

 

عودة إلى ميتّانيا

من المفيد جداً أن نقرأ بعمق أقوال الحكماء.

ولا سيما إذا كان أولئك الحكماء ضليعين في التاريخ.

وما زلت معجباً بقول رائع قاله حكيم الصين الأشهر كونفوشيوس منذ أكثر من ألفين وخمسمئة سنة، لقد نصح أحد أمراء الصين حينذاك بقراءة كتب التاريخ، قائلاً له: " إذا نظرتَ في المرآة استطعت أن تعدّل وضع التاج على رأسك، وإذا نظرتَ في التاريخ استطعت أن تتنبّأ بقيام الدول وسقوطها ".

وعلاقة الكرد بالديار المصرية أمر مثير حقاً، إنها علاقة عريقة جداً، تعود إلى ما قبل الميلاد بحوالي ألف وخمسمئة عام، فحينذاك كانت تتنافس في غربي آسيا ثلاث دول رئيسة هي: الدولة الميتّانية (الميتّانيون فرع من جدود الكرد)، والدولة الحثية، والدولة المصرية، وكانت العلاقة بين الميتّانيين والحثيين علاقة صراع على الدوام، كما اشتبك الميتّانيون مع المصريين في حرب بشأن الصراع على بلاد الشام، لكن انتهى الأمر بين الطرفين الميتّاني المصري إلى الصلح، وتحالفا معاً لمواجهة الخطر الحثّي القادم من الأناضول شمالاً.

وقامت علاقات مصاهرة بين الأسرتين الملكيتين في ميتّانيا ومصر، فكانت إحدى بنات الملك الميتّاني أَرْتَتَما الأول، أو إحدى بنات ابنه، زوجة للفرعون تحوتمس الرابع (1400-1390 ق.م)، كما أن إحـدى بنات الملك الميتّاني شُتَّرْنا الثاني- ويعتقد أنها نفرتيتي- كانت زوجة للفرعون أمنحوتب الثالث الذي يسميه الإغريق أمنوفس الثالث (1390-1352 ق.م).

 ثم يعرف كل مطّلع على التاريخ الإسلامي أن الدولة الأيوبية قامت، أول ما قامت، في مصر، وتوسّعت بعدئذ، فشملت مناطق شاسعة، تمتد من سفوح جبال زغروس شرقاً إلى حدود تونس غرباً، ومن حدود أرمينيا شمالاً إلى اليمن ضمناً جنوباً، وكانت مصر على الدوام مركز السلطة طوال العهد الأيوبي، ويوجد في مصر إلى الآن كثير من الشواهد الدالة على المراكز والمؤسسات الحضارية التي شيّدها الأيوبيون هناك، بدءاً من عهد أول سلاطينهم صلاح الدين الأيوبي، إلى عهد آخر سلاطينهم تَوْران شاه؛ الذي غدر به المماليك الترك، وقضوا عليه.

ماذا يعني (خُدَيْوي)؟!

ومنذ بداية القرن السادس عشر الميلادي أصبحت مصر تابعة للدولة العثمانية، لكن مع بدايات القرن التاسع عشر، وبعد غزو نابليون پوناپارت لمصر، تغّيرت موازين القوى الإقليمية، فتمتّعت مصر في عهد محمد علي پاشا، وفي عهد أولاده من بعده، بقسط كبير من الاستقلال عن الدولة العثمانية، وتوافرت فيها حرية الرأي إذا قيست في ذلك الوقت ببقيّة الأقطار الخاضعة للحكم العثماني. لذلك قصدها أصحاب الفكر المتنوّر من الأدباء والعلماء والمفكرين، واستقرّوا فيها، وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي خير مثال على ذلك.

والملاحظ أن العديد من الأسر الكردية، ولاسيما من كردستان - العراق، قصدت مصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، واستقرت فيها، بل إنها حظيت بمكانة مرموقة عند أسرة محمد علي پاشا الحاكمة. ومن تلك الأسر الكردية أسرة قاسم أمين، وأسرة أحمد تيمور، وأسرة أحمد شوقي، وبعض أبناء الأمير الكردي بدرخان بك قائد الثورة الكردية على الدولة العثمانية في الفترة (1842- 1847م)، وهم يُعرفون حالياً في مصر باسم أسرة والي.

ترى ما الذي كان يحمل الكرد على التوجّه إلى مصر رغم بعدها الجغرافي عن كردستان؟ ثمة من الباحثين الكرد من نسب أسرة محمد علي إلى الكرد، وذكر أنها في الأصل من مدينة آمد (ديار بكر) في كردستان – تركيا، وأن والـده وعمه كانا موظفين عنـد العثمانيين في ألبانيا، وكان العثمانيون يسمّون شعب ألبانيا بالأرناؤوط، وولد محمـد علي هناك، فنُسب إلى الأرناؤوط باعتبار المولد والمنشأ، لكن لم يذكر صاحب الرأي مصدر هذه المعلومة؛ لذا لا يمكننا أن نأخذ بها على أنها حقيقة مؤكّدة.

ومع ذلك ثمة أمران مثيران يلفتان الانتباه:

-   الأمر الأول هو أن أسرة محمد علي كانت كثيرة الاعتماد على الكرد، وخاصة خلال سعيهم الدؤوب للقضاء على المماليك، فقد كان جد الأسرة التيمورية من أبرز القادة الكرد الذين ساعدوا محمد علي في هذا المجال، وكأنهم كانوا بذلك ينتقمون من المماليك، ويكيلون لهم الصاع صاعين، لأن أجداد المماليك هم الذين قتلوا توران شاه آخر سلاطين البيت الأيوبي في مصر، واغتصبوا السلطة؛ رغم أنهم كانوا مماليك للسلاطين الأيوبيين.

-   والأمر الثاني هو لقب (خُدَيْوِي) الذي اشتهر به ملوك مصر من أسرة محمد علي باشا، وهذا لقب مستحدَث غريب، لم نألفه في القاموس السياسي العربي أو التركي أو الفارسي، فمن الألقاب الإدارية التي راجت في العهد العثماني (پاشا، بَگ، قُولْ آغاسي)، أما لقب (خُدَيْوِي) فهو غريب حقاً، ولم يظهر في تاريخ مصر إلا في عهد سلالة محمد علي، وكان محمد علي قد ورث لقب (پاشا) من ربيبته الدولة العثمانية، لكن سلالته استحدثت لقب (خُدَيوي).

      ولست أملك الآن معلومات دقيقة حول ظروف نشأة هذا اللقب، لكن قراءة أولية له تجعلنا لا نستبعد الأصل الكردي له، فكلمة (خُدَيْوِي) ليست عربية قطعاً، وصحيح أني لست خبيراً باللغة التركية، لكني لم أجده ضمن الألقاب التي راجت في العهد العثماني، ثم إنه شديد الصلة بكلمة (خُدِي) الكردية، وهي تعني (صاحب، مالك). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أسماء الله تعالى بالكردية عديدة، أشهرها (خُدا، خُدَى)، فهل لقب (خُدَيْوي) مركّب من لفظة (خُدَى) الكردية وياء النسبة العربية، لتعني في النهاية مدلول (الربّاني، المبارك، المقدّس)، ولا سيما إذا أخذنا في الحسبان عراقة الربط بين الألوهية والحاكمية في ديار مصر منذ عهد الفراعنة؟!

ومهما يكن فالأمر بحاجة إلى مزيد من البحث والاستقصاء.

ولنعد إلى قاسم أمين.

فهو أحد مشاهير الكرد في مصر.

فماذا عن نشأته وثقافته؟

نشأة قاسم أمين

أصبحت منطقة غربي آسيا، منذ أوائل القرن السادس عشر، مقسّمة بين الفرس الصفويين شرقاً، والترك العثمانيين غرباً، ومعروف أن بلاد الكرد (كردستان) تقع في قلب منطقة غربي آسيا، فأصبحت من ثَمّ مقسّمة بين الصفويين والعثمانيين، ونتيجة لذلك أصبحت كردستان أرض الانتفاضـات والثورات، وفي العصر الحديث بدأت تلك الثورات منـذ بداية القرن التاسـع عشر، وكانت تهـدف إلى الخلاص من قبضـة الدولتـين الصفوية والعثمـانية، على أن وتيرة الثورات الكردية زادت حـدّة بعد أن ألغت الدولة العثمانية نظام الحكم الذاتي الذي كانت تتمتّع به الإمارات والبگويات الكردية، وفرضت الحكم التركي المباشر.

لكن جميع الثورات الكردية انتهت إلى الفشل، لأسباب منها ما هو ذاتي خاص بالمجتمع الكردي نفسه، ومنها ما هو موضوعي خاص بالتوازنات الإقليمية والدولية، ولا مجال الآن للخوض فيها، ونتيجة لذلك كانت الأسر الكردية المساهمة في الثورات ترحل بعيداً عن مراكز نشوب الثورات، لتنجو من انتقام السلطات العثمانية؛ ومن تلك الأسر الكردية أسرة قاسم أمين.

وقد ولد قاسم أمين سنة (1863 م) في إحدى ضواحي القاهرة، وتدعى (طُرَّة)، وهو سليل أسرة كردية رفيعة الشأن من الأمراء، أصلها من مدينة (سُليمانية) في  كردستان- العراق، ولعل أسرته نزحت إلى مصر بعد انهيار الثورات الكردية التي نشبت ضد الدولة العثمانية، بقيادة الأسرة البابانية، في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وهناك التحق والده محمد أمين بگ بالمدرسة الحربية، وتخرّج منها ضابطاً، ثم تدرّج في وظائف الجيش، حتى بلغ رتبة (أمير آلاي).

أما والدته فهي من أسرة مصرية ذات جاه ومنزلة اجتماعية مرموقة، وهي ابنة أحمد بگ خطّاب شقيق إبراهيم باشا خطّاب، وهما من مشاهير الشرق، وقد ولدت عدداً من الأولاد أكبرهم قاسم.

وبعد أن أنهى قاسم دراسته الابتدائية والثانوية التحق بمدرسة الحقوق والإدارة، وحصل على شهادتها سنة (1881 م)، وكان ترتيبه الأول بين الناجحين، ونتيجة لتفوّقه أرسل في بعثة حكومية إلى فرنسا، حيث أكمل دراسة الحقوق في كلية مونبيليه، وعاد إلى مصر بعد أربع سنوات أمضاها في الدرس والتحصيل العلمي.

وكان قاسم أمين ذكيّ الفؤاد، صريح الرأي، عميق التفكير، قليل الكلام، نَهِماً إلى المطالعة، دائم التفكير في مشكلات مصر والمصريين، وكان عزيز النفس، يترفّع عن الدنايا والتفاهات، هذا إلى جانب أنه ورث من أبيه الخصال النبيلة التي اشتهر بها الكرد الأقحاح، ومن أبرزها الشجاعة والعفّة.

في منصب القضاء

أنهى قاسم أمين دراسة الحقوق في فرنسا، ورجع إلى مصر سنة (1885م)، فعمل في النيابة المختلطة، وبعد عامين كان وصديقه سعد زغلول موظّفين في قضايا الحكومة لإتقانهما الفرنسية، ثم ارتقى قاسم في سلك النيابة، وأصبح رئيساً للنيابة في كل من بني سُوَيف وطنطا، وهناك كان يتخفّى خطيب الثورة العُرابية الصحفي الأديب عبد الله النديم متوارياً عن أنظار السلطات، وقد دفعته ثقته بوطنية قاسم أمين إلى أن يكشف له عن نفسه، ولم يخيّب قاسم أمين ظنه، إذ حنا عليه، ووقف إلى جانبه، وأخذ بيده إلى رئيس الوزراء يلتمس العفو عنه، وظل يتولّى أمره إلى أن استعاد النديم حريته سنة (1891م).

ومارس قاسم أمين القضاء بروح إنسانية، وبمرونة عقلية وأدبية، فما كان ينصاع للنصوص القانونية إذا لم يكن مقتنعاً بها، كما أنه كان يميل إلى مصالحة المتخاصمين وإحلال التسامح والحسنى محل التخاصم والشر، وكان نزيهاً في إصدار الأحكام، ولم يعرف عنه، طوال عمله في القضاء والشورى، لا عنف في الحكم، ولا تزلّف إلى صاحب جاه أو سلطان.

نصير المرأة الأول

وكان قاسم أمين مكافحاً متعدّد الاهتمامات، لكن كان جميعها ينصبّ في نقطة واحدة، هي النهوض بالمجتمع المصري، وإن إخلاصه لمصر لا تشوبه أية شائبة، وذلك هو شأن الكرد في جميع البلدان التي نزحوا إليها من كردستان، إنهم لا يجعلون همهم الأول الإفادة من خيراتها، بل يخلصون لها النية، ويساهمون في الارتقاء بها، ويدافعون عنها بأموالهم وأنفسهم عند الشدائد والملمّات.

ولم تكن الوطنية عند قاسم أمين لفظاً يُردّد أو شعاراً يُرفع، أو سُلّماً لارتقاء المناصب، إن الوطنية كانت بالنسبة إليه عملاً دؤوباً، وموقفاً جادّاً، وسلوكاً قويماً، وها هو ذا يقول في هذا الصدد:

" الوطنية الصحيحة لا تتكلّم كثيراً، ولا تعلن عن نفسها ".

وفي سنة (1893م) ظهر كتاب لمفكر فرنسي اسمه الدوق داركور، كان قد زار مصر، وزيّف إثر زيارته كثيراً من الحقائق عن المجتمع المصري، وصوّر عقيدة المسلمين بما ليس فيها، وذهب إلى أن الإسلام هو سبب تخلّف المرأة المصرية. وما أشرفت تلك السنة على نهايتها حتى نشر قاسم أمين ردّه العلمي على الكتاب المذكور، ففنّد مزاعم داركور، وقارن بين العفّة والسترة والحشمة من ناحية، وبين الابتذال والتهتّك والخلاعة من ناحية أخرى.

ولا ترجع شهرة قاسم أمين إلى ردوده على الدوق داركور، وإنما ترجع بالدرجة الأولى إلى اهتمامه الكبير بموضوع حرية المرأة، بل لعل آراء الدوق داركور كانت حافزاً له كي يعيد النظر في واقع المرأة المسلمة حينذاك، وجعلته يؤلف في ذلك كتابين؛ أولهما بعنوان (تحرير المرأة)، وثانيهما بعنوان (المرأة الجديدة)، وكان لصدروهما دويّ شديد في المجتمع المصري، ودار حولهما كثير من الجدل.

وقد أصدر قاسم أمين كتابه (تحرير المرأة) سنة (1898م)، وطالب فيه بإعادة النظر في تربية المرأة، إيماناً منه بأن تربية النساء تربية سليمة وقويمة هي السبيل إلى إقامة المجتمع الصالح، وانصبّ اهتمامه على المرأة المسلمة بوجه عام، وعلى المرأة المصرية بوجه خاص. كما أنه تطرّق في كتابه هذا إلى مسائل هامة، منها الحجاب، وتعددّ الزوجات، والطلاق، وأوضح أن لتعدّد الزوجات والطلاق حدوداً يجب أن يتقيّد بها الرجل. ودعا إلى تحرير المرأة مما تعانيه من مظالم باسم الدين والعادات والأعراف، ورأى من الضروري أن تخرج إلى المجتمع، وتساهم في شؤون الحياة العامة، وفي بناء المجتمع وازدهاره.

ثمن العبقرية

ومعروف أن تاريخ الزعامات الفكرية والإصلاحية لم يكن خالياً مطلقاً من القبول والرفض، ومن نسائم الصداقات وزوابع العداوات، وليس في أحـداث الرسالات الثورية والتطورية ما يشذّ عن هذا السنّة التاريخية المعهود. وقد لقيت آراء قاسم أمين عاصفة من الاحتجاج والنقد والتهكم، ودار حوله الكثير من اللغط الجدل، لكن لم يتزعزع موقف قاسم أمين أمام تلك العاصفة، وظل لمدة سنتين يدرس الكتب والمقالات المؤلفة ضد دعوته، ويرد عليها وهو يقرع الحجة بالحجة.

وليت الأمر اقتصر على اللغط والجدل! فإن ذلك أمر معهود إزاء كل دعوة إصلاحية جديدة عبر التاريخ البشري، وإنما جرّت عليه دعوته كثيراً من الخصومات، وخاصة من قِبل سدنة الإيديولوجيات الرجعية، وممن يعشقون قمع الحريات باسم الدين، فوقفوا ضده، وندّدوا بدعوته، وكان هؤلاء وراء تحريض العامة والغوغاء على الكاتب المصلح، فكان بعضهم يتحرّش به في الشارع، ويُسمعه أقذع الشتائم، في حين كان آخرون يطرقون باب داره، حتى إذا خرج مستفسراً شتموه، وقالوا له: ألست تدعو إلى حرية المرأة؟! فلتسمح لزوجتك بالخروج معنا إذاً.   

ولا نستطيع تقدير المكانة التي تمتّع بها قاسم أمين إلا إذا عرفنا صحبه ومؤيّديه، ومن تصدّوا لدعوته، وتفيد أخباره أنه كانت لهذا المفكر المصلح مكانة رفيعة بين الناس، لما تمتّع به من استقامة وأمانة، ولما أوتي من مواهب استثمرها لمصلحة الشعب، ولتوسيع وعيه وإصلاح أموره، فظفر بالتقدير والثقة، مـع شيء من النفور مما دعا إليه في مسألة تحرير المرأة، لكن ذلك النفور لم يؤثّر في مكانته، وقد أهّلته لتلك المكانة مناقب ومآثر في حياته القضائية والفكرية، وحرصه على مشاركته روّاد الإصلاح في مساعيهم.

وإذا عرفنا صحبه وأصدقاءه الذين عاشرهم وقدّرهم، وفي طليعتهم روّاد مصر المشهورين في الدين والفكر والسياسة والأدب، من أمثال الشيخ محمد عبدُه، و السياسي سَعد زَغْلول، والشاعر حافظ إبراهيم، والأديب لطفي السيد، وغيرهم من العلماء والمفكرين والأدباء، وإذا علمنا بعض معارضيه، ومنهم محمد فريد وَجْدي، وطَلْعت حرب، وسواهما من الصحافيين والأدباء والمفكرين، أدركنا المناخ الذي أحاط بقاسم أمين في دعوته.

وكان قاسم أمـين موقناً بأهمية التطور التاريخي في تاريخ الشعوب، وكان واثقاً بأن الزمـان كفيل بتحقيق التغيير الذي كان يتوخّاه في حيـاة المصريين، وفي زوال بعض عـاداتهم البالية، لذلك لم يتردد في الدعوة إلى التربية التي تغيّر النفـوس والعقـول، ولم يكن هـذا أمراً هيّناً ولا مألوفاً حينذاك، فتسلّح بثقافته وعبقريته، وراح يعالج العلل بأناة وهدوء، ويصف الأسباب والعوامل، ويصف الدواء بدقة ولباقة، فلفت إليه الأنظار والأفكار، وأحس الناس بصدق إحساس الكاتب المصلح، وإن لم يدركوا جميع مراميه، ولم يستوعبوا الأفق الحضاري البعيد الذي كان يسعى إليه.

قبسات من أقواله

 حلّل قاسم أمـين الفارق بين الأمم الحرة والأمم المستعبَدة، قائلاً:

·       " في الأمة الضعيفة المستعبَدة حرف النفي (لا) قليل الاستعمال ".

ونبّه إلى ضرورة حرص المثقفين، في كل أمة، على الإصلاح، وأهمية تصدّيهم لمرتكزات التخلف، وعدم وقوعهم في أسر الإعجاب الكاذب من قبل الجهلة والغوغاء، ودعاهم إلى ممارسة رسالتهم التاريخية في التجديد، فقال:  

·  " الشعراء والكتاب والعلماء عندنا لا يعبّرون عن أفكارهم فيما يكتبون، وإنما عقولهم هي مخازن تحفظ ما يدخل فيها بالقراءة والسماع. كل عملهم محصور في تكرار أفكار الغير التي حفظوها كما يحفظ الأطفال القرآن، فإذا سمعهم العامة أو قرؤوا كلامهم صفّقوا ومدحوا وصاحوا: آه، فلان ما أحلاه! آه، علاّن ليس في العالم مثله ".

وحثّ على ضرورة الربط بين العلم والعمل، وبين النظرية والممارسة، قائلاً:

·  " أقل مراتب العلم ما تعلّمه الإنسان من الكتب والأساتذة، وأعظمها ما تعلمها بتجاربه الشخصية في الأشياء والناس ".

وفضح الجهات التي تقف ضد الإصلاح في المجتمعات، فتمارس الزيغ والتضليل، وتحشد الجماهير والجهلة منهم خاصة، وتجنّدهم لمحاربة أصحاب الفكر المستنير، ولإحباط حركات التجديد، فقال:

·    " إذا رأيت الرأي العام معادياً لكاتب، وأعدّ له خصوماً، يتسابقون إلى نقد أفكاره وهدم مذهبه، وعلى الخصوص إذا رأيتهم ذهبوا في مطاعنهم إلى السب والقذف، فتحقق أنه طعن الباطل طعنة مميتة ونصر عليه الحق ".

وقال منوّهاً بدور التربية في ترسيخ القيم الرفيعة، وفي بناء الشخصية القويمة:

·    " التربية هي التي أنتجت كل الرجـال الذين نسـمعُ عنهم، ونشاهـدهم متحلّين بمزايا الاستقامة، والصدق والكرم، والشـجاعة والشفقة، وحب الوطـن، واحترام الحق، والدفاع عن الحقيقة، والخضوع للواجب، وبذل النفس والمال في خدمة العلم والدين والجامعة الوطنية ".

وأوضح أهمية العلم في تحرير المرأة من الخرافات والأباطيل، قائلاً:

·    " إذا تعلمت المرأة القراءة والكتابة، واطّلعت على أصول الحقائق العلمية، وعرفت مواقع البلاد، وأجالت النظر في تاريخ الأمم، ووقفت على شيء من علم الهيئة وعلوم الطبيعة، وكانت حياة ذلك كله في نفسها عرفانها العقائد والآداب الدينية، استعدّ عقلها لقَبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك الآن بعقول النساء ".

وأوضح أهمية تربية المرأة على الفضائل منذ الصغر، فقال:

·    " وعلى من يتوّلى تربية المرأة، أن يبادرها من بداية صباها بتعويدها على حب الفضائل التي تكمل بها النفس الإنسانية في ذاتها، والفضائل التي لها أثر في معاملة الأهل وحفظ نظام القرابة، والفضائل التي يظهر أثرها في نظام الأمة، حتى تكون تلك الفضائل جميعاً مَلَكات راسخة في نفسها، ولا يتمّ له ذلك إلا بالإرشاد والقدوة الصالحة ".

ووقف وقفة تقويمية حازمة إزاء ما تمّ إنجازه في مجال حقوق المرأة:

·    " هل صنعنا شيئاً لتحسين حال المرأة؟ هل قمنا بما فرضه علينا العقل والشرع من تربية نفسها وتهذيب أخلاقها وتثقيف عقلها؟ أيجوز أن نترك نساءنا في حالة لا تمتاز عن حالة الأنعام؟ أيصحّ أن يعيش النصف من أمتنا في ظُلُمات من الجهل بعضها فوق بعض، لا يعرفن فيها شيئاً مما يمّر حولهن، كما في الكتاب صُمٌّ بُكمٌّ عُمْيٌ فهم لا يعقلون؟ أليس بينهن أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا وزوجاتنا؟ وهن زينة حياتنا الدنيا والجزء الذي لا يمكن فصله منا، دمُنا من دمهِن، ولحمنا من لحمهِن؟ أليس الرجال من النساء، والنساء من الرجال وهن نحن ونحن هن؟ أيتمّ كمال الرجل إذا كانت المرأة ناقصة؟ وهل يسعد الرجال إلا بالنساء

وميّز بدقة بين ما يوجبه الشرع في الحجاب، وما هو دخيل وغريب، فقال:

·    " لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصاً تقضي بالحجـاب، على ما هـو معروف الآن عنـد بعض المسلمين، لوجب عليّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفاً يخالف تلك النصوص، مهما كانت مضرّة في ظاهر الأمر، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعـان لها بدون بحث ولا مناقشة. لكننـا لا نجـد نصّاً في الشريعة يوجب الحجـاب على هـذه الطريـقة المعهودة، وإنما هي عـادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم، فاستحسنوها وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين، كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين، والدين بَراءٌ منها، لذلك لا نرى مانعـاً من البحث فيها، بل نرى من الواجب أن نلمّ بها، ونبين حكم الشريعة في شأنها، وحاجـة النـاس إلى تغييرها ".

ودعا إلى الصبر والثبات في ميدان تحرير المرأة، قائلاً:

·    " أول جيل تظهر فيه حرية المرأة تكثر الشكوى منه، ويظن الناس أن بلاءً عظيماً قد حلّ بهم، لأن المرأة تكون في دور التمرين على الحرية، ثم مع مرور الزمن تتعوّد المرأة على استعمال حريتها، وتشعر بواجبها شيئاً فشيئاً، وترتقي ملكاتها العقلية والأدبية، وكلما ظهر عيب في أخلاقها يداوى بالتربية حتى تصير إنساناً شاعراً بنفسه ".

_    _    _    _

وخلاصة ما يخرج به المرء من دعوة قاسم أمين أنها كانت تباشير ثورة اجتماعية حقيقية كبرى، قبل حوالي قرن من الزمان، وكانت شعاعاً جريئاً يمزّق ظلمات التخلّف في الشرق الإسلامي، ويفضح قبح الفكر الظلامي الذي كان يمارس القهر باسم الدين والأخلاق وغيرها من الشعارات البراقة.

ثم إن دعوة قاسم أمين إلى تحرير المرأة لم تكن طفرة أو نزوة أو طيشاً، وإنما كانت دعوة نادى بها مفكر جمع بين الثقافة الشرقية الأصيلة والثقافة الأوربية الجديدة، وكانت مؤسسة على ركيزتين اثنتين؛ هما الأخلاق والوعي. بلى إن قاسم أمين كان مع تحرير المرأة من أغلال الكبت والقمع والقهر، لكنه كان، في الوقت نفسه، حريصاً على تجنيبها مزالق الانفلات والانخلاع، وكأنما كان أحمد شوقي يُكمل رسالة قاسم أمين حينما قال بيته الشهير:

الأمُ مدرسةٌ، إذا أَعْددتَها      أَعْددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ

المراجع

- أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1990م.

- أدهم آل جندي: أعلام الأدب والفن، دمشق، 1958، الجزء الثاني.

- جرنوت فلهلم: الحوريون تاريخهم وحضارتهم، ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، 2000م.

-  خير الدين زركلي: معجم الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الجزء الخامس.

- سامي سعيد الأسعد، ورضا جواد الهاشمي: تاريخ الشرق الأدنى القديم، إيران والأناضول، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق.

- عمر رضا كحّالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنّى، بيروت، الجزء الثامن.

- وداد سكاكيني: قاسم أمين، بلا دار نشر، بلا تاريخ نشر.

    وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة.  

              د. أحمد الخليل   في 1-1-2006   dralkhalil@hotmail.com

 

=====================================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة السادسة)

إبراهـيم هنـانو: قائد ثورة الشمال

( 1869 ـ 1935 م )

تاريخ سوريا الحديث حافل بالمواقف الكفاحية ضد القهر، وفيه الكثير من التضحيات البطولية ضد الاستعمار، وقد شارك الكرد السوريون بإخلاص في كل تلك المواقف، وقدّموا التضحيات من دمائهم وأموالهم وأملاكهم، بل تذكر المصادر الموثوقة أن المواطن الكردي السوري (مُحُو إيبو شاشو)، من سهل (جُومَه) في منطقة عفرين، هو أول من أطلق الرصاصة الأولى ضد الاستعمار الفرنسي. 

وإبراهيم هنانو من أبرز القادة الذين ساهموا في قيادة النضال ضد الاستعمار الفرنسي، وكان قائد الثورة السورية في الشمال، وهو من المجاهدين الشجعان، وهبه الله قوة الجَنان، وطلاقة اللسان، ومحبة للحرية لا حدود لها.

فمن هو هذا القائد المقاتل؟!

أصله .. ونشأته

ولد إبراهيم بن سليمان آغا بن محمد هنـانو سنة (1869 م) في قرية (كَفْر تَخـاريم) الواقعة غربي حلب والتابعة لقضاء (حـارم)، وآل هنانو أسرة عريقة في الجاه وكرم الأصل، وثمة من نسب أسرة إبراهيم هنانو إلى عشيرة (رَشْوان) الكردية، لكن الأستاذ الشاعر عبد الله يوركي حلاّق صاحب (مجلّة الضاد) أكّد في كتابه (الثورات السورية الكبرى في ربع قرن) أن أسرة هنانو تنتمي إلى قبيلة بَرازي Berazieh الكردية؛ وهذا هو الأرجح، نظراً لكثرة انتشار الأسر المنتمية إلى هذه القبيلة في شمالي سوريا.

وقبيلة بَرازي كثيرة العدد، تتوزّع في جنوب شرقي تركيا وفي شمالي سوريا، وهي في الأصل مؤلفة من اتحاد عشائر، وكان تعدادها في بدايات القرن العشرين حوالي عشرة آلاف خيمة (عائلة)، ويضم هذا الاتحاد عشائر: كَيتْكان Keytkan، شَيْخان Shykhan، أُوكْيان Okian، شَدادان Shadadan، على دِنْلي Alidinli، مَعافان Maafan، زَرْوان Zerwan، پِيژان Pijan، قَرَه گَيچان Karagetchan، مِير Mir، دِنّان (دِينان) Dinan، دِيدان Didan. هذا ما أفاده العلاّمة محمد أمين زكي في كتابه (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان)، ووليام إيغلتون في كتابه (مدخل إلى السجّاد الكردي). ولقبيلة برازي حضور كثيف في ريف محافظة حلب، وعلى وجه خاص في مناطق السفيرة، والباب، وأعزاز، وعفرين. كما أن لها امتدادات في مدينة حماه، ومن أبرز شخصياتها حسني البرازي.

وذكر عبد الله يوركي حلاّق أن جد إبراهيم هنانو الأكبر قدم من جهات (ماردين) في جنوب شرقي تركيا منذ ثلاثمئة سنة؛ أي حوالي القرن السابع عشر، فاختار كفر تخاريم مقاماً له، وكانت تلك القرية مزرعة صغيرة فيها بعض البيوت العربية والكردية، وقد توسّع جد هنانو الأكبر في شراء الأراضي، فكثرت ذريته، وعلا اسمه.

أما فيما يتعلق بأصل تسمية (هنانو) فيذكر الأستاذ عبد الله يوركي أن الجد أضاع ابنه- وكان لا يجيـد العربية- فراح يسأل عنه كل من يراه قائلاً:  (ابني هنـا)؟ فكانوا يجيبونه: (نُو)، وهي كلمة كردية تعني بالعربية ( لا )، ويُقال: إن الاسم (هنانو) جاء من هذا التركيب العربي الكردي (هنا- نو).

ولا نرى وجهاً موضوعياً لهذا التأويل، إذ كيف لا يجيد الجد العربية وهو في الوقت نفسه يسأل بالعربية: ابني هنا؟ ولنفترض أنه كان تعلّم بعض العربية، واستطاع أن يسأل قائلاً: (ابني هنا ؟)، فهذا يعني أنه كان يسأل جيرانه من العرب، لكنا نجد الجواب يأتي بالكردية (نُو) أي (لا)، وفي هذا تناقض واضح.

والصواب فيما نرى أن اسم (هنانو) هو تكريد للاسم العربي (عبد الحنان)، وهو اسم شائع بين الكرد، وكل من خالط الكرد يعرف أنهم يختصرون الأسـماء هكذا: (أحمد = أَحْمُو)، و(محمود = مَعْمُو)، و (مصطفى = مسْتُو)، و(عبد الرحمن أو عبد الله = عبدو)، وتارة يتحول (عبد الرحمن) إلى (رحمان)، ثم يفخّـم الحرف الأخير بالواو كما هو الأمر غالباً عند الكرد، فيصبح (رحمانو)، وكذلك (عبد الحنان) يصبح (حنان/ حنانو). وبما أن صوتيات اللغة الكردية لا تشتمل على حرف الحاء، فإن كلمة (حنانو) تُلفظ (هنانو). وهـذا أمر يعرفه كل من خالط الكرد وعرف خصائص اللغة الكردية وصوتياتها ولهجاتها. 

 هذا، وتلقّى إبراهـيم هنانو دروسه الابتدائية في حارم، ثم دخل المدرسة الثانوية ونال شـهادتها، ثم توجّه إلى الأسـتانة (إستانبول) عاصمة الدولة العثمانية، ودخل المدرسة الملكية فيها، وبعد أن حصل على إجازتها عمل موظفاً في السلك الإداري.

ولما انتهت الحرب العالمية الأولى سنة (1918 م) كان إبراهيم هنانو يشغل وظيفة قائم مقام (مدير منطقة) في أحد أقضية (دياربكر) بجنوب شرقي تركيا، فعاد إلى حلب، وانتُخب عضواً في المؤتمر السوري الذي عقـد أولى جلساته في الثالث من حزيران/يونيو سنة (1919 م)، وكان أحد الممثّلين الستة عشر الذين مثّلوا محافظة حلب في المؤتمر. وانعقد المؤتمر في مقر النادي العربي بدمشق، وكانت المهمة الأساسية للمؤتمرين هي العمل لوحـدة سوريا بمناطقها الثلاثة: الشرقية والغربية والجنوبية أي فلسطين، والمناداة بالأمير فيصل بن الشريف حسين زعيماً، وإنابته للدفاع عن استقلال سورية.

انطلاق الثورة

أدرك إبراهيم هنانو، بثاقب فكره وبعد نظره، أن الفرنسيين يماطلون، ويعملون للقضاء على استقلال سوريا. فغادر المؤتمر في مطلع تشرين الأول/أكتوبر سنة (1919 م)، وقصد مدينة إدلب، حيث اجتمع بمن جـاؤوا لملاقاته من أهل بلدته كفر تخاريم ومن حارم وجسر الشغور ومعرّة النعمان وبعض مناطق الساحل السوري، وحدّثهم أنه لم يعد مطمئناً إلى نيّات فرنسا المنتدبة على سوريا، وأن هـذه الدولة تدفع جيوشها إلى داخـل البلاد لتحتلّها كلها، وأن كل سوري أبيّ يرفض ذلك ولا يرضى إلا بالاستقلال، وأن الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، وعلى السوريين أن يتصدوا للغزاة، فالموت في سبيل الوطن شرف وشهادة، والحياة في ظل الأجنبي عار ومذلة.

ثم أخبر هنانو المجتمعين أنه سيتعاون مع الزعيم التركي مصطفى كمال (أتاتورك) في محاربة الفرنسيين الذين وعدوا أن يجعلوا منطقة كيليكيا وطناً قومياً للأرمن، وأن القائد التركي سيزوّده بكل ما يحتاج إليه من أسلحة وأعتدة وذخائر، ولم يبق أمام السوريين إلا البدء بالكفاح ضد الاستعمار الفرنسي.

وبعد أن تداول المجتمعون الآراء، وتناولوا الأمور بالدراسة من جميع النواحي، قرّروا إعلان الثورة على الفرنسيين، الذين كانوا يحتلون وقتئذ المنطقة الغربية من الوطن السوري، أي الساحل الممتد من رأس الناقورة إلى خليج الإسكندرونة.

وشرع هنانو يجمع الرجال، ويدرّبهم على القتال، مستعيناً بضباط متخرجين من المدارس الحربية، وراح هو ورجاله يشنّون هجماتهم بإحكام على الجنود الفرنسيين، ويحولون بينهم وبين المواقع التي يريدون الوصول إليها، ويتعرضون لقوافلهم المحمّلة بالذخيرة والغـذاء ويستولون عليها، بعد أن يقتلوا العـديد من أفرادها، إنهم كانوا يكمنون خلف الصخور والأشجار والأحراج الكثيفة، حتى إذا صار الجنود الفرنسيون على مقربة منهم انقضّوا عليهم كالصواعق، وفتكوا بهم فتكاً ذريعاً، وغنموا كل ما معهم من زاد وعتاد، وتكررت هذه الحملات الموفّقة مراراً في جبل الزاوية، وجبل الأربعـين القريب من أريحا، وفي منطقة الحفّة التابعة لمحافظة اللاذقية.

وقد آزر الثورة كثيرون من أفراد أسرة هنانو بالأراوح والأموال، وفي طليعتهم ولده طارق، فقد خاض مظاهرة ضد الفرنسيين في حلب، فضُرب وأوذي، فأصيب في عينه، وبارتجاج في دماغه، فأُدخل في (العصفورية) ببيروت.  وزكية هنانو شقيقة الزعيم، وأخواه عقيل وحقّي، وعدد وافر من أهله وأنسبائه من أمثـال: عزّت هنانو، وعاطف هنانو، وعلي هنانو، وخالد نامق بك.

وهناك أبطال صناديد، تركوا بصماتهم واضحة المعالم، جلية الخطوط في ثورة هنانو منهم: إبراهيم عُوَيد، والشيخ يوسف السَّعْدون، وهو كردي أيضاً من عشيرة (دِيدان) أحـد فروع اتحاد عشائر بَرازي، وقـد أكد لي ذلك شيوخ عائلة (قُول آغاسي) في قرية (غُوز) الواقعـة شمالي حلب، والتابعة لمنطقة إعزاز، وهذه العائلة هي زعيمة عشيرة ديدان بمحافظة حلب، وذكروا لي أن الشيخ يوسف زار والدهم (حيدر آغا قول آغاسي) أكثر من مرة.

وكان يؤازر الزعيم هنانو في حلب ويمدّه بالمال والسلاح والرجال كل من: فاتح المرعشي، والشيخ طاهر الرفاعي، والشيخ رضا الرفاعي، وسعد الله الجابري، والحاج نجيب باقي، والحاج عبد الرحمن كدرو.

مقاتل شهم .. وقائد محنّك

 حارت فرنسا وهي تتلقّى الضربة إثر الضربة على أيدي رجال هنانو، فهي ليست أمام جيش نظامي وجهاً لوجه، ولكنها تقاوم جماعات من الجن ينقضون على كتائبها انقضاض الصواعق من رؤوس الجبال، ويمطرونها بوابل من نيران بنادقهم، وفي طرفة عين  يتوارون كالأشباح في أعماق الغابات وبطون الأودية.

 وذات يوم وصل إلى مقر هنانو بعض الضباط الفرنسيين وعلى رأسهم  الكولونيل فوان، فاستقبلهم الزعيم مرحباً بهم، وبعد أن قدّم لهم القهوة، سألهم عن سبب زيارتهم، فأجابه الكولونيل فوان: لقد أرسلنا الجنرال جوبو (قائد الحملة الفرنسية ضد ثورة الشمال)، ليتفق معك على عقد هدنة وتبادل الأسرى، وهو يرجو أن تقابله في مقرّ قيادته، وكي لا تظن أن هناك مكيدة، أترك هنا جميع هؤلاء الضباط ذوي الرتب العالية رهينة لدى رجالك، حتى إذا عدتَ تركتهم.

فأطرق أبو طارق ملياً، ثم نظر إلى وجه الكولونيل فوان، وقال له:

-      أتقسم لي بشرفك العسكري أن ليس في الأمر مكيـدة؟

 فأجابه الكولونيل على الفور:

-      أقسم بشرفي العسكري وبشرف فرنسا، أنه ليس في الأمر مكيدة.

 فابتسم هنانو ابتسامة الرضا، وقال:

      - أنا واثق بشرف فرنسا، فلا حاجة للرهائن، وليعد رجالك معك.

وفي الحال امتطى هنانو صهوة جواده، وتبعه الكولونيل فوان وضباطه، حتى وصلوا إلى مركز قيادة الجنرال جوبو، فرحّب به الجنرال، ودعاه إلى تناول طعام الغداء. ثم جلسا يتفاوضان في قضية الهدنة وتبادل الأسرى، وقد صرّح الجنرال جوبو بعد ذلك أن هنانو ليس بالرجل العـادي، إنه كتلة ملتهبة من ذكاء ونشاط كما أنه صاحب معرفة واسعة.

وقد أحسن هنانو تنظيم عملياته الحربية، فوزع رجاله في ثلاث مناطق:

- المنطقة الأولى: قاد العمليات الحربية فيها الشيخ يوسف السَّعدون، وكان يجسّد فكر الثورة في الشمال، وينطلق في هجماته من بلدة سَلْقِين مكان إقامته.

- المنطقة الثانية: تولّى قيادتها نجيب عويد القائد الحربي لقوات هنانو، وكان القطاع الموكل إليه يمتد من بحيرة العمق في الشمال، حتى حدود إدلب وجسر الشغور المحاذية لقوات المناضل الشيخ صالح العلي في الجنوب.

- المنطقة الثالثة: تولّى أمر القيادة فيها مصطفى الحاج حسين من بلدة إحسم في جبل الزاوية، والمنطقة المذكورة تمتد من إدلب إلى محافظة حماة. وكان التعاون وثيقاً ومنظماً بين الثوار في هذه المناطق وغيرها، كمنطقة حايا وسرجه التي كان مسؤولاً عنها محمود حسن الشحادة.

الغدر بهنانو

   عندما سقطت مدينة مرسين بأيدي الأتراك، اضطرت فرنسا إلى التخلّي عن كيليكيا التي وعد الحلفاءُ الأرمنَ بها. ومن ثَم لم يعد مصطفى كمال بحاجة إلى معونة هنانو، فقطع عنه المدد إرضاءً لفرنسا، وسحب ضباطه الترك من صفوف الثورة.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما اقتحم الجيش الفرنسي دمشق بعد معركة ميسلون واستشهاد وزير الحربية يوسف العظمة، ووجد هنانو أنه بقي وحده في الميدان، وأدرك أن المقاومة لم تعد تجدي نفعاً، فغادر سوريا عن طريق السلمية قاصداً مدينة عمّان عاصمة الأردنّ، فبلغها بعد رحلة تراجيدية شاقة، واستقر فيها بعض الوقت.

وقامت إنكلترا بدور بشع آنذاك، إذ لم تكتف بأن تنكّرت لعلاقات الصداقة والتعاون مع سوريا، وتنصلت من الوعود التي قطعتها للعرب، بل عقد المفوّض السامي الإنكليزي في فلسطين والمفوّض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان اتفاقاً يقضي بتبادل المجرمين، وبهذا قطعا الطريق على الثوّار، وسدّا عليهم المنافذ، وجعلا كل ثورة تمنى بالفشل الذريع.

اعتقـال هنـانو

  بعد أن كان هنانو في عمّان مشمولاً بحماية الأمير عبد الله بن الحسين (الملك عبد الله بعدئذ)، خطر له أن يتوجه إلى فلسطين. وما كاد يصل إليها حتى ألقي القبض عليه من قبل الإنكليز، وسُلّم إلى السلطة الفرنسية في سوريا. وفي منتصف شهر آب/أغسطس (1921 م) أُودِع هنـانو السجن العسكري بخان إستانبول في حلب.

وفي 24 أيلول/ سبتمبر (1921 م) تسلّم المحامي الحلبي فتح الله الصقّال مذكّرة وردت عليه من النائب العام العسكري الفرنسي، جاء فيها: " إنه يسمح للأستاذ الصقّال بمقابلة المتهم إبراهيم هنانو، بصفته وكيلاً عنه ". واستغرب الأستاذ الصـقّال وصول هذه المذكرة إليه، لأن أحداً لم يفاتحه بقضية هنانو، ولأنه لم يعرض نفسه على أحد، لا في هذه القضية ولا في سواها.

ولم يكن من اللياقة والواجب المسلكي إلا أن يتوجّه المحامي إلى هنانو، وأوصله مدير السجن إلى غرفة هنانو، وكانت صغيرة وقد وضع فيها وحده. وبعد أن بادره بالسلام، سأله هنـانو: أأنت الأستاذ فتح الله الصقّال؟ فأجابه: نعم. فقال هنانو: نِعم الاسم، لقد اخترتك وكيلاً عني، بعد أن اختارك النائب العام وكيلاً عنه أيضاً.

وأحسّ المحامي الشاب الذي لم يكن قد بلغ ربيعه الثامن والعشرين، أنه أمام رجل شديد الذكاء، قوي الإرادة، تشعّ عيناه بنور غريب، وتكادان تقذفان شرراً. وبقي هنانو نحو ساعتين، يقصّ على موكله قصة كفاحه في سبيل أمته وبلاده. وكان المحامي الشاب يدوّن على ورقة أمامه، ما يجده جديراً بالتدوين من أسماء وأرقام ووقائع.

ولما قابل المحامي النائب العـام قال له هذا بلهجة رزينة: سنكون خصمين شريفين، لأنني سأقوم بواجبي على الوجه الأكمل، وستقوم أنت بواجبك نحو موكّلك وأحد مواطنيك، وإذا وفّقك الله وانتصرت عليّ، فسأكون أول من يتقدم لتهنئتك.

ووضع النائب العام بين يدي المحامي ملف الدعوى، كي يطالعه ويلمّ بما يتضمنه من وقائع. وبعد أن درس الأستاذ الصقّال الملف دراسة عميقة ومتأنية، ومحّص كل كلمة وردت فيها تمحيصاً دقيقاً، خرج بالنتيجة التالية:

-       دارت حرب بين الجيش الفرنسي من جهة وبين هنانو ورجاله من جهة ثانية.

-       قابل هنانو الجنرال جوبو، قائد الحملة الفرنسية للاتفاق على شروط الهدنة.

-       عُقدت الهدنة مرتين بين هنانو والجيش الفرنسي.

-       تبادل الفريقان الأسرى.

وتبيّن للمحامي الصقال أن هذه الوقائع كلها، لا تبرر اعتبار هنانو مجرماً عادياً، أو مجرماً سياسياً، بل تجعله مقاتلاً في سبيل وطنه.

الخصم هو الحَكَم!

ولما اقتنع الأستاذ الصقّال بنظريته هـذه، زار موكله المعتقل في إحدى غرف سجن خان إستانبول، وكان ينتظر مطالعته بكثير من الشوق واللهفة، وبادره بقوله:

-  لا يجوز اعتبارك مجرماً عادياً، ولا مجرماً سياسياً. وهذه النظرية لا تقبل أدنى شك، ولكن هناك أمر خطير، وهو أن حاكمك هو خصمك، والمعروف أن المحاكم العسكرية تتأثر بالعاطفة أكثر مما تتأثر بأحكام القانون.

ولاحت في فكر الأستاذ الصقّال بارقة أمل قد تعطي هنانو ما ينشده من حق، وقد تختصر أمامه طريق دعواه المحفوفة بالأخطار.

وفي تشرين الأول/أكتوبر (1921 م )، أرسل إلى الجنرال غورو - بوساطة الجنرال دو لاموت مندوبه في حلب- كتاباً مسهباً، أوضح فيه نظريته القانونية السابقة الذكر، وقال في جملة ما قاله:

- " إن هنانو قام بثورته مطالباً بحرية بلاده، والمطالبة بالحرية لا تعـدّ جرماً، بل هي حق طبيعي، اعترفت به الدول الكبرى، منها أمريكا بلسـان رئيسها ويلسن، الذي اشتهر ببنوده الأربعة عشر".

لكن السلطة الفرنسية ردّت على كتاب الأستاذ الصقّال قائلة:

-  إن هنانو متهم بجرائم عادية، لا بجرائم سياسية، وإنه لا بد من السير في الدعوى.

وبتاريخ 4 شباط/فبراير (1922 م) أعاد محامي هنـانو المحاولة، طالباً من الجنرال غورو أن تطبّق على هنانو المادة الخامسة من اتفاقية أنقرة، تلك المادة التي أعلنت العفو العام عن جميع الجرائم السياسية التي ارتكبت أثناء العمليات الحربية، وقـد أثبت المحامي بالوثائق الرسمية أن هنانو كان تابعاً، من الناحية العسكرية، للجيش النظامي التركي، وكان يتلقّى منه العتاد والذخائر للقيام بعملياته الحربية.

غير أن فرنسا بقيت مصرّة على رأيها القاضي بمحاكمة إبراهيم هنانو.

في قاعة المحكمة

في اليوم الخامس عشر من شهر آذار/مارس (1922 م)، بدأت محاكمـة إبراهيم هنـانو في دار الحكومة (السراي القديمة) بحلب. واستعداداً لكل طارئ، اتُّخـذت أقصى الاحتياطات الأمنية، فمنذ فجر ذلك اليوم، اصطفّ الجنود السنغاليون على جانبي الطريق الممتد من بناية البريد القديمة إلى مدخـل دار الحكومة، فإلى قاعة محكمة الجنايات، وكانوا يحملون بنادقهم وعليها الحراب. وغصّت جميع الطرق المؤدية إلى المحكمة بعشرات الألوف من أبناء حلب الشهباء، كما غصّت دار العدل بالمتفرجين من حكام ومحامين وسياسيين ومستمعين.

وفي تمام الساعة الثامنة ظهر أعضاء هيئة المحكمة بألبستهم الرسمية، وسيوفهم اللامعة، وكفوف اليد البيض، وكانوا خمسة أعضاء، برئاسة عميد (كولونيل) وبعضوية مقدّم (قومندان) ونقيب (كابتن) وملازم أول وملازم ثانٍ. وكانت النيابة العامة ممثلة بالنقيب (استاك).

ولأول مرة في تاريخ القضاء في حلب ارتدى الأستاذ فتـح الله الصقّال رداء المحامـاة، وكان حمله معه من القـاهرة، فأصبح عرضة لأنظـار الجمهور المحتشد في قاعة المحاكمة. وأبلغ الأستاذ الصقّال النيابة العامة بأنه سيقدّم مرافعتين ابتدائيتين: تهدف الأولى إلى عدم صلاحية المحكمة العسكرية في محاكمة هنانو. وترمي الثانية إلى عدم قانونية تسليم هنانو للسلطة العسكرية الفرنسية. وإذا ردّت المحكمة هذين الدفاعين، فإن وكيل هنانو سيدخل في أساس الدعوى، وسيُطلع النيابة العامة على أسماء شهود الدفاع.

وفي جلسة بعد الظهر دخل القضاء في أساس الدعوى، فقال الرئيس مخاطباً إبراهيم هنانو: إن القانون الفرنسي يمنحك الحق التام في الدفاع عن نفسك، وها أنت اليوم متهم بالاشتراك مع عصابات الأشقياء، وقد كنت ترأسهم وتدير حملاتهم.

فأجاب هنانو بكل جرأة:

" أنا لست مجرماً، لأن أمرنا سياسي صرف، ولا أشكّ في أنكم ستحكمون بالعدل، أما تشكيلنا العصابات فلم يكن للفتك والنهب، ولو كان الأمر كذلك لقاومَنا الشعب وسحقنا سحقاً، فقواتنا مؤلفة من أفراد الشعب، صاحب الحق والسلطان. إنني متهم سياسي فقط، ولو كنت مجرماً، كما تقولون، لما فاوضني ممثّلكم الجنرال جوبو لعقد هدنة ومبادلة أسرى، ولما عقدت معي حكومة أنقرة التي تعترفون بها اتفاقاً، لأن الحكومتين الفرنسية والتركية أسمى من أن تتنازلا لمفاوضة مجرم، فنحن لم نلجأ إلى الوسائل الحربية إلا للدفاع عن أنفسنا، وأنا إذاً ثائر سياسي أدافع عن وطني، وقد جاهرت وأجاهر بأنني أتبرّأ من كل مجرم سفّاك.

وسأله الرئيس:

- من اضطرك إلى أن تحارب؟

فأجابه هنانو بدون تردد:

- عندما أهاجَم أكون مضطراً للدفاع عن نفسي.

وحان وقت الظهر، ووقف المؤذّن في مسجد دار الحكومة يصيح بملء صوته: الله أكبر! الله أكبر! يدعو الناس إلى الصلاة. فصاح رئيس المحكمة بالحاجب:

  - أسكت هذا الذي يصرخ في الخارج! 

وقبل أن يتزحزح الحاجب من مكانه رفع الأستاذ الصقّال يده، وقال للرئيس:

- أتدري يا حضرة الرئيس من هذا؟ إنه الشيخ يؤذّن.

قال الرئيس:

- وماذا يقول؟!

قال الأستاذ الصقّال:

- إنه يدعو الناس إلى الصلاة، ويرجو الله أن يلهمكم السداد لتحكموا على هنانو بالعدل.

المطلوب رأس هنانو!

كانت محاكمة هنانو تجرى في الصباح وبعد الظهر، وفي اليوم السابع، طلب رئيس المحكمة من النائب العـام أن يلقي مرافعته، فنهض النائب، وتكلم بمنتهى القوة والحماس، من الساعة التاسعة صباحاً إلى الساعة الثانية عشر ظهراً. وختم النائب العام مطالعته بقوله:

   - لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبع، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، لكنه لا يملك إلا رأساً واحداً، ويؤسفني إن أطلب إعدامه، ليكون عبرة لغيره، أطلب ذلك، بالرغم مما يحويه رأس هنانو من دراية واتزان.

كانت التهمة الأولى الموجّهة إلى هنانو تنحصر في تشكيل عصابة من الأشقياء، وعلى هذه التهمة ارتكزت التهم الباقية، وترمي التهمة المذكورة إلى تثبيت أن اتفاقاً جنائياً تمّ بين هنانو ورفاقه في الثورة. وأوضح محامي الدفاع أن جريمة الاتفاق الجنائي تقوم على ركنين: أولهما مادي وهو الاتفاق على ارتكاب الجناية. والثاني معنوي؛ وهو أن القصد جنائي، والركنان غير متوافرين في هذه القضية.

وكانت حجة محامي هنانو أن الأتراك عقدوا مع هنانو اتفاقاً، وأمدّوه بالرجال والعتاد، وأن السلطة الفرنسية فاوضته بشأن عقد هدنة وتبادل الأسرى، وأن الجنرال جوبو دعاه إلى تناول طعام الغداء على مائدته، ولما عرض الكولونيل فوان أن يبقى رهينة لدى رجال هنانو أبى هنانو ذلك، وقال إنه يثق بالشرف العسكري الفرنسي، فلو كان هنانو مجرماً لما تنازلت فرنسا إلى مفاوضته، ولما عاملته معاملة الند للند.

وراح المحامي الشاب يؤكد أن هنانو قام بثورته مدفوعاً بعاطفة وطنية نبيلة، تشبه العاطفة التي هزّت فرنسا يوم احتلت ألمانيا بعض البلاد الفرنسية سنة (1914 م)، ألم يتصدّ لها الفرنسيون في السهل والجبل وبطون الأودية دفاعاً عن أرضهم وكرامتهم؟ ولما انتهى الأستاذ الصقّال من دفاعه، التفت الرئيس إلى هنانو وسأله:

- هل لكم أن تقولوا شيئاً بعد دفاع وكيلكم؟

فأجابه هنانو:

- إنني واثق بعدالتكم، بالرغم من الخصومة القائمة بين بلادكم وبلادي، وإذا كانت فرنسا تتغنّى بالحرية والعدالة فإن سورية تنشد الحرية نفسها والعدالة عينها.

وقد صرّح الأستاذ الصقّال قائلاً: كان إبراهيم هنانو يمتاز بالنباهة والذكاء، والثقافة والجرأة، وهي صفات سهّلت مهمتي كثيراً. وتحسّباً لكل طارئ يمكن أن يعكّر الأمن عند صدر الحكم على غير ما يحبه الشعب السوري، فقد رأت المحكمة أن تعيد إبراهيم هنانو إلى السجن، قبل أن تلفظ حكمها القطعي.

يوم عصيب!

ومكثت الهيئة الحاكمة ساعتين في غرفة المذاكرة، ثم عادت إلى منصة القضاء، فوقف الحضور، وقد خيّم عليهم جو من الرهبة والخشوع، وكانت أنظار الجميع متجهة إلى الرئيس، الذي قام بتلاوة الأسئلة، ليجاب عنها بكلمتي: ( نعم ) أو ( لا ).

وكان السؤال الأول: هل يُعتبر هنانو مذنباً بتشكيل عصابة من الأشقياء للنهب والسلب؟ فإذا كان الجواب ( نعم ) كانت أجوبة التسعين سؤالاً ( نعم ). وإذا كان الجواب ( لا ) كانت الأجوبة كلها ( لا ). وما كاد الرئيس يجيب عن السؤال الأول بكلمة ( لا ) حتى تبيّن أن البراءة تشمل جميع التهم المنسوبة إلى هنانو. وهذا ما تمّ، فكلما طرح الرئيس سؤالاً كان الجواب ( لا ) بأكثرية ثلاثة أصوات ضد صوتين.

ولما انتهى الرئيس من تلاوة التسعين سؤالاً، وأعلن البراءة، دوّت قاعة المحكمة بالتصفيق الحاد، وسرت الهتافات كالتيار الكهربائي في أرجاء دار العدل وفي الشوارع المجاورة مردّدة: فليحيا العدل! فليحيا هنانو! فليحيا الأستاذ الصقّال! فلتحيا فرنسا!

وكانت الساعة قد قاربت التاسعة مساء.

وفي بضع دقائق سرت البشرى إلى جمـيع أحياء حلب الشهباء، ومنها انتقلت إلى مختلف المدن السورية، فإبراهيم هنانو نجا مما كان يراد له من شر، والحرية الوطنية مازالت بخير، وقامت الأفراح في كل مكان من الوطن السوري، لا سيما بين العاملين في الحقل الوطني، وراح الناس يهنّئ بعضهم بعضاً كأنهم في عيد سعيد.

وكان إبراهيم هنانو قد أعيد إلى سجنه قبيل لفظ الحكم كما ذكرنا، وعندما أعلنت براءته، وعلت هتافات الشعب بحياته وحياة العدالة، وتسللت الجماهير التي كانت محتشدة داخل دار الحكومة وخارجها، تسللت من حي الفرافرة إلى خان إستانبول، فوصلت إليه قبل وكيله وقبل النائب العام العسكري الفرنسي نفسه، وراحت تهتف هتافات فهم منها هنانو- وهو داخل السجن- أن براءته قد أُعلنت.

وما هي إلا دقائق معدودة حتى أُطلق سراح البطل.

  وكان على باب السجن عربة يجرها حصانان، وما إن ركبها هنانو ووكيله الأستاذ الصقّال، حتى تدفقت الجماهير كالسيل، فحلّت أربطة الحصانين، وراحت تجرّ العربة بدلاً منهما حتى وصلت إلى دار هنانو، وكانت في أحد أزقة (باب جِنَين)، وكانت النساء يزغردن على طول الطريق من السجن إلى الدار، وكانت مئات منهن واقفات على أسطحة البيوت يمطرن العربة بماء الزهر وعطر الورد.

وكان من الطبيعي أن يفرح الشعب السوري لبراءة هنانو، وأن يهرع الناس إليه من كل حدَب وصوب ليهنئوه وليبايعوه بالزعامة، فقد عرف ذلك الرجل الشجاع كيف يقاوم الانتداب، وكيف يجيب الحكام بالمنطق، وكيف يختار المحامي القوي الجنان الطلق اللسان، الملمّ بكنه القوانين الفرنسية التي لم توضع عبثاً، وإنما وضعت صوتاً لحرية الإنسان، ودفاعاً عن حق الضعيف، وانتصاراً لكرامة المجتمع البشري.

لقد بقي إبراهيم هنانو ثلاثة أيام يستقبل ويودّع، ويقدّم الأطعمة بما فطر عليه من سخاء، ويؤكد أقرب المقربين إليه، أنه لم يذق طعم النوم خلال هذه المدة كلها. ومنذ ذلك الحين أحرز هنانو سمعة طيبة وشهرة ذائعة، وأصبح اسمه على كل شفة ولسان، وصار في عداد الزعماء الوطنيين الذين سجّل التاريخ أسماءهم ومواقفهم بمداد الإكبار والإعجاب، فإذا ذُكر سعد زغلول في مصر، وعمر المختار في ليبيا، والأمير عبد القادر الجزائري في الجزائر، ذُكر إبراهيم هنانو في سوريا، لأنه ضحّى كثيراً في سبيلها؛ ضحّى بماله وصحته، وبابنه طارق، وبعدد من أفراد عائلته الآخرين.

الوطن بين أيديكم!

  ما إن ثبتت براءة إبراهيم هنانو من التهم الموجّهة إليه حتى التفّ الشعب السوري حوله، ورأى فيه مثلاً حيّاً للشجاعة والمروءة والإخلاص والزهد في كل ما يمتّ إلى المناصب الرفيعة بسبب؛ فقد عمل في القضية الوطنية، وشارك في المؤتمر السوري الأول الذي عُقد بدمشق في آب/أغسطس (1919 م)، وفي سنة (1920 م)، وكان لآرائه في المؤتمر تأثير كبير.

ولما تأكد لهنانو أن الفرنسيين يلعبون على حبال المراوغة ترك حياة الدعة، وناصب الفرنسيين العداء، وخرج من سجنه أقوى مما كان عليه، وأراد الفرنسيون أن يجعلوه رئيساً للدولة السورية، فقال لهم كلمته المشهورة:

- " سأبقى خادماً للشعب السوري حتى ينال استقلاله التام، وعنـدئذ أقبل ما يعرضه عليّ أبناء وطني، ولو كان منصب رئيس بلدية في أصغر قضـاء من أقضيـة بلادي ".

وفي سنة (1928م) تمّ انتخاب أعضاء جمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً للبلاد، فانتخب فيها عدد من خيرة العاملين في الحقل السياسي، واختير الزعيم هنانو رئيساً للجنة الدستور لما كان له من مقام رفيع بين مواطنيه، وكلمة نافذة بين رجالات البلاد، وقد تمّ وضع الدستور ونشر سنة (1930 م). وحاول الفرنسيون التدخل في شؤون الجمعية، وتحوير بعض مواد الدستور الذي وضعه ممثلو الشعب،  فوقف هنانو بصلابة في وجه كل حركة مغايرة للمصلحة العامـة، ومخالفة للحرية الشخصية، ومنـاوئة لتقـدم سوريا وازدهارها.

ولهذا أحب الشعب هنانو حباً شديداً، وأحلّه أرفع مكان من نفسه، واعترف به زعيماً أكبر، وعدّه مثلاً أعلى للصدق والكفاح البطولي، وعهد إليه بالحركة الوطنية، يديرها بما وهبه الله من حكمة وحنكة وبعد نظر، وكان يردّد باستمرار، هذه الكلمة الدالة على ثبات عقيدته: " لا مفاوضة ولا اتفاق مع فرنسا قبل الجلاء ".

وعجزت فرنسا بكل أساليبها وإغراءاتها ووعودها عن استمالة هنـانو أو كسب سكوته، وكان على الدوام أقوى من الفـولاذ في الدفـاع عن حق وطنه بالحيـاة الحرة الكريمة أولاً، وزوال الانتـداب الفرنسي عن الوطن السوري بأجمعه ثانياً.

هذه كانت رسالته التي عاش لها، والتي ناضل من أجلها، غير مهتم بالداء الذي كان ينهش رئتيه، ويتسلّل إلى أنحاء أخرى من جسمه الطويل النحيل، لقد كان هنانو في أيامه الأخيرة، يدير معركة الجلاء من قريته (ستي عاتكة) الواقفة كالحارس بين مسقط رأسه كفر تخاريم وبين حارم ذات الينابيع العذبة والبساتين الزاهرة.

نعم في هذه القرية المتواضعة الرابضة بين هضبتين، والمطلّة على سهول حارم وكفر تخاريم وتفتناز، كانت تُعقد بعض اجتماعات الكتلة الوطنية، وتُدار دفّة السياسة السورية بحزم ودراية.

وفي هذه القرية تحمّل الزعيم السوري الكردي آلام مرضه وأعباء واجبه الوطني بصبر عجيب، ولما شعر ببرد مفاجئ وألم شديد، وأحس أن دقات قلبه تتسارع بدون انتظام، أدرك أن الخطر يحدق به، فترك الساعة التي كان يقيس بوساطتها نبضه، والتفت إلى من كان حوله وقال لهم: " الوطن بين أيديكم "! ثم فاضت روحه الزكية، وانتقلت إلى أحضان بارئها. وكان ذلك في صباح يوم الخميس الواقع 25 شعبان 1354 الموافق 12 تشرين الثاني/ نوفمبر (1935 م).

وهكذا سكن القلب الجريء المخلص، وسكت اللسان العذب الصادق، فتقطعت قلوب السوريين لهول الخطب، وراحت تبثّ زفير الألم، وتندب البطل المغوار الذي قضى نحبه وهو لا يزال في طريقه إلى ساحة الظفر.

 

المراجع

1 – أدهم آل جندي: تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي، مطبعة الاتحاد، دمشق، 1960.

2- خير الدين الزركلي: معجم الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة التاسعة، 1990، الجزء الأول.

3- عبد الله يوركي حلاق: الثورات السورية الكبرى في ربع قرن (1918- 1945)، دار طلاس، دمشق، الطبعة الأولى، 1990.

4 – منير الريّس: الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي، مطابع ألفباء، دمشق، 1976م.

5- نجيب الريس: سورية الانتداب (1928-1936)، رياض الريس للكتب والنشر، لندن-قبرص-بيروت، 1994.

6 - يوسف الحكيم: سورية والانتداب الفرنسي، دار النهار للنشر، بيروت، 1983.

    وإلى اللقاء في الحلقة السابعة.   

              د. أحمد الخليل   في 15-12-2005   dralkhalil@hotmail.com

 

================================

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة الخامسة)

العلاّمة سعيد النَّوْرسي (بديع الزمان)

 ( 1873 ـ 1960م )

 المفارقة الكبرى!

الحقائق التاريخية شيء، والأوهام المقحَمة في التاريخ شيء آخر.

ومن الحقائق أن العرب والكرد كانوا أبرز شعوب البيت الشرق متوسطي.  

ومنذ حوالي ألف عام انضم الترك (السلاجقة والعثمانيون) إلى هذا البيت.

وعاشت هذه الشعوب أزمنة هانئة وأخرى صعبة في بيتها الواحد الكبير.

وكان الربع الأخير من القرن التاسع عشر من جملة تلك الأزمنة الصعبة.

فالدولة العثمانية كانت تتزعّم ذلك البيت منذ أكثر من أربعة قرون، لكنها كانت قد أصبحت خائرة القوى، وبما أنها كانت قد شنت الغزوات على بعض دول أوربا الشرقية والغربية واحتلتها، ووصلت جيوشها إلى أبواب فينا عاصمة النمسا، أقول: لهذا كانت القوى الأوربية تتعاون لكبح جماحها، وللقضاء عليها، أو السماح لها بأن تظل حية، لكن ضعيفة بلا مخالب ولا أنياب ولا أضراس.

وكي تستعيد الدولة العثمانية نفوذها على الصعيد الدولي، رفع السلطان عبد الحميد الثاني شعار (يا مسلمي العالم اتحدوا)، محاولاً تحشيد العالم الإسلامي كله في وجه أوربا، وكانت خطته هذه مهمة، فقد سبق أن حشد صلاح الدين الأيوبي شعوب شرقي المتوسط (العرب والكرد والترك) ضد الحملات الفرنجية، وحقق انتصارات باهرة بفضل ذلك التحشيد.

لكن الفارق أن صلاح الدين كان ابناً باراً بالبيت الشرق متوسطي، إنه لم يتقوقع في كرديته، ولم يحتكر البيت الكبير لبني قومه، ولم يطالب الترك والعرب  بالتجرد من خصوصيتهم القومية، فمن ينسى فتكات الفرسان الأتراك في جميع معارك صلاح الدين؟! ومن ينسى صولات قلم القاضي الفاضل ومشوراته- وهو العربي الفلسطيني- في الإنجازات التي حققها صلاح الدين؟! بلى، كان صلاح الدين تجسيداً صادقاً لمكوّنات البيت الشرق متوسطي، فأحبه الجميع، ووثق به الجميع، فكان قائداً للجميع، وكانت الإنجازات للجميع.

أما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر فكان شعار (يا مسلمي العالم اتحدوا) في واد، وكانت السياسة العثمانية الداخلية في واد آخر، لقد كانت التوجّهات القومية الطورانية تزداد انتشاراً، وكانت جمعية (الاتحاد والترقّي) تقود تلك التوجّهات، وكان مشروع تتريك الدولة يسير بخطوات سريعة نحو الأمام، وكان على الرعايا من غير الترك، وخاصة العرب والكرد، أن يتنازلوا عن خصوصياتهم القومية، وينصهروا في بوتقة الطورانية شاؤوا أم أبوا.

وهنا كانت المفارقة الكبرى!

وهنا كان الخلل الأكبر في البيت الشرق متوسطي.

وفي هذه الفترة العصيبة من تاريخ شرقي المتوسط نشأ سعيد النورسي.

فمن هو هذا الرجل؟!

نشأة فريدة وعبقرية نادرة

مع فجر أحد أيام سنة (1293هـ/1873م)، وفي أحضان جبال كردستان، وتحديداً في قرية نورس إحدى قرى قضاء خيزان التابعة لولاية بدليس، ولد الطفل سعيد.. كان والده مِيرْزا يعرف بالصوفي، وكان يُضرب به المثل في التقى والورع، إنه كان حريصاً على ألا يذوق طعاماً حراماً قطّ، وألا يطعم أولاده من غير الحلال، وكان إذا عاد بمواشيه من المرعى شدّ أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين، وكذلك كانت نُوريّة والدة سعيد، إنها ما كانت ترضع أطفالها إلا وهي على طهر ووضوء.

عاش سعيد في أحضان تلك الأسرة التقية، وكانت تضم خمسة أبناء وابنتين، وظهرت عليه تباشير الذكاء منذ صغره، إذ كان دائم السؤال والاستطلاع، ولم تكن كردستان حينذاك خالية من العلماء، إنها كانت، منذ أيام الدولة الدُّوستكية (المراونية)، تحظى بالعديد من العلماء المشاهير، وتلقّى سعيد تعليمه الأول في كتّاب قرية (طاغ) على يد الشيخ محمد أفندي سنة (1882 م)، إلى جانب الدروس التي كان يتلقاها على أخيه الكبير الملاّ عبد الله.

وفي سنة (1888 م) توّجه سعيد إلى بدليس، والتحق بمدرسة الشيخ أمين أفندي، ثم تنقّل بين عدة مدارس أخرى، حتى انتهى به المطاف إلى مدرسة في قضاء بايزيد التابع لولاية آگري.

وفي هذه المدرسة بدأ سعيد دراساته الدينية الأساسية، فقد كانت جهوده منصبّة قبل ذلك على علوم اللغة من نحو وصرف. وفي هذه المدرسة، وتحت رعاية الشيخ محمد جلالي، أمضى ثلاثة أشهر، وهو منكبّ على الدراسة الجادة للمناهج التي كانت تدرَّس آنذاك، إنه كان يقرأ من متون أصعب الكتب مئتي صفحة في اليوم الواحد، ويفهمها دون الرجوع إلى الهوامش، كما أنه كان ينقطع عن العالم معظم أوقاته، وبخاصة في الليالي، ويلازم ضريح أمير شعراء الكرد أحـمد خاني، صاحب الملحمة التراجيدية (مَمْ وزين)، ويستمر في القراءة على أضواء الشموع.

وبعد انتهاء الأشهر الثلاثة حصل على الإجازة العلمية من الشيخ جلالي.

وفي سنة (1889 م) انتقل سعيد إلى بدليس، ثم إلى مدينة شيروان، ومنها إلى سِعَرْد (سِيرتْ )، يلتقي بالعلماء ويأخذ عنهم، وفي سعرد ذهب إلى مدرسة العالم الشهير فتح الله أفندي، وقد اختبره هذا العالم في أمهات الكتب، وقال له:

" حسناً، إن ذكاءك خارق، ولكن دعنا نرَ قوة حفظك، فهل تستطيع أن تقرأ بضعة أسطر من هذا الكتاب مرتين وتحفظها

وقدّم العالم لسعيد كتاب (مقامات الحريري)، وهي مقامات عربية قائمة على السجع، وزاخرة بالألفاظ الغريبة، فأخذ سعيد الكتاب، وقرأ صفحة واحدة منه مرة واحدة، وإذا بها كانت كافية لأن يحفظها، فذَهِل العالم فتح الله أفندي وقال:

"إن اجتماع الذكاء الخارق مع القوة الخارقة للحفظ شيء نادر جداً".

وما لبث أن انتشرت شهرة سعيد في المجتمع الكردي، فأقبل عليه علماء سعرد يجادلونه، ويحاولون إحراجه بأسئلتهم، لكنه أفحمهم جميعاً، فأطلقوا عليه لقب سعيدى مشهور (سعيد المشهور)، وظل سعيد ينتقل من مدينة إلى أخـرى، ينهل من منابع العلم، ويطّلع على أمّهات الكتب فهماً وحفظاً، ويعمّق مطالعاته في مجالات المنطق وعلم الكلام، والنحو والتفسير، والحديث والفقه.

والحقيقة أن مطالعات سعيد لم تقتصر على هذه العلوم النظرية، بل انكبّ على العلوم الأخرى مثل الرياضيات، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجغرافيا، والجيولوجيا، والفلسفة، والتاريخ، فأتقنها جميعها، إلى درجة أنه كان قادراً على التأليف في موضوعاتها، ومناقشة المختصين فيها، ونظراً لتعدّد مواهبه، ولذكائه الخارق، أطلق عليه الناس لقباً جديداً هو (بديع الزمان)، وكان حينذاك في وان سنة (1894 م).

نحو إستانبول!

وبعد فترة توجّه النورسي إلى العاصمة العثمانية إستانبول، محاولاً إقناع المسؤولين بإنشاء جامعة إسلامية باسم (مدرسة الزهراء) في شرقي الأناضول، شبيهة بالجامع الأزهر، لخدمة علوم الدين، لكن جهوده ذهبت عبثاً، فرجع ثانية إلى مدينة وان.

وفي سنة (1907 م) رجع إلى إستانبول مرة أخرى، وعلّق على باب غرفته لوحة كتب فيها: " هنا يجاب عن كل سؤال، وتحل كل مشكلة ". وكان الإعلان غريباً، ويذكر حسن فهمي باش أوغلو، وكان أحد طلبة العلم آنذاك، أن الطلبة والأساتذة فوجئوا بهذا الإعلان، ويقول موضّحاً:

" وقد قررت أن أختار أعقد الأسئلة وأدقّها لأسأله، وكنت آنذاك أُعتبر مــن المتفوقين، فاخترت من الكتب التي تبحث في الإلهيات بعض الموضوعات المعـقّدة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا بمجلّدات من الكتب، وذهبت في اليوم التالي لزيارته، ووجّهت الأسئلة إليه، فكانت أجوبته عجيبة وخارقة، إذ أجابني وكأنه كان معي بالأمس ينظر في تلك الكتب، فتأكد لي أن علمه ليس كسبياً كعلمنا، بل هو علم لدنّى ".

وفي إستانبول تقدّم النورسي بعريضة إلى السلطان عبد الحميد الثاني يطلب فيها فتح المدارس التي تعلّم العلوم الرياضية والفيزياء والكيمياء وغيرها، إلى جانب المدارس الدينية في شرقي الأناضول حيث موطن الكرد، وحيث يخيّم الجهل والفقر. ثم قابل السلطان وانتقد الاستبداد ونظام الأمن لقصر يِلُدز (النجمة)، فنقمت عليه حاشية السلطان، وأحالوه إلى محكمة عسكرية، واتُّهم بضعف قواه العقلية، ولما سقطت الاتهامات حاول وزير الداخلية إرضاءه بالمال لينصرف عن أهدافه، لكن النورسي رفض ذلك بقوة.

وانتقل النورس إلى سالونيك، وتعرّف هناك كبارَ شخصيات حزب الاتحاد والترقّي، وحاول هؤلاء أن يجعلوه تابعاً لهم، لكنهم لم يفلحوا. وفي سالونيك قابله اليهودي الشهير عمانوئيل قَرَه صُو رئيس المحفل الماسوني، وعضو مجلس المبعوثان (النواب) العثماني، وذلك طمعاً في التأثير على النورسي وجرّه إلى صفه، ولكن ما لبث أن خرج عمانوئيل من عنده قائلاً: " لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجنّي بحديثه في الإسلام ".

فليعش الجنون! 

وكان نفوذ جمعية الاتحاد والترقي يتزايد يوماً بعد يوم، فسيطرت على مقاليد السلطة في الدولة العثمانية، وأشاعت جوّاً من الإرهاب في المجتمع، وسرّحت الضباط القدامى، واكتفت بالضباط الذين ينهجون نهجها، ونتيجة لذلك نشب عصيان قام به عناصر الطابور العسكري الذي أرسله الاتحاديون من سالونيك لحماية السلطة، وانضم إليهم الجنود من معسكرات أخرى، وسادت الاضطرابات وإطلاق الرصاص، وكان الجنود يهتفون: " نريد الشريعة ! نريد الشريعة " !

واستطاع الاتحاديون السيطرة على الموقف، وعزلوا السلطان عبد الحميد في (27 نيسان 1909م)، وأعلنوا الأحكام العرفية، وشكّلوا محاكم عسكرية لمحاكمة المسؤولين عن العصيان، وكان النورسي من جملة المتهمين، وكان يكتب في جريدة وُولْقان (البركان) التي نشرت له مقالات عنيفة ضد الاتحاديين، وفي قاعة المحكمة - ومنظر جثث خمسة عشر من المشنوقين تظهر عبر النافذة- بدأ الحاكم العسكري خورشيد باشا بمحاكمة النورسي، قائلاً له:

 " وأنت أيضاً تدعو إلى تطبيق الشريعة؟! من يطالب بها يُشنق هكذا (مشيراً بيده إلى المشنوقين).

فقام النورسي، وألقى على سمع الحاكم خطبة شجاعة، جاء فيها:

" إنني متهيّئ بشوق لقدومي على الآخرة ... وأنا مستعدّ للذهاب مع هؤلاء الذين علّقوا على المشانق ... لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد، والآن هي تعادي الحياة، وإذا كانت هذه الحكومة هكذا، فليعش الجنون! وليعش الموت! وللظالمين جهنّم ".

ولم تجد المحكمة بداً من إصدار الحكم ببراءة النورسي.

لقد أهنت القيصر!

بعد براءة النورسي غادر إستانبول إلى منطقة وان سنة (1910م)، وشرع يتجوّل بين القبائل الكردية، يعلّمهم أمور الدين، وينشر المعرفة، وهناك ألّف كتاب (المناظرات)، ثم زار دمشق، وألقى خطبة بالعربية في الجامع الأموي، ثم انتقل إلى بيروت فإستانبول، وسعى عند السلطان محمد رشاد لإحياء مشروعه الكبير (إنشاء جامعة الزهراء) في شرقي الأناضول، ووعده السلطان بذلك، لكن أحداث الحرب العالمية الأولى قضت على المشروع.

وفي سنة (1912 م)، وقبيل نشوب حرب البلقان، عُيّن النورسي قائداً للقوات الفدائية التي تشكّلت من المتطوعين الكرد في شرقي الأناضول، وتم تعيينه أيضاً في مؤسسة (تشكيلات خاصة)، وهي مؤسـسة سياسية وعسكرية وأمنية سرية، شُكلّت بأمر السلطان، وكانت وظيفتها المحافظة على وحدة أراضي الدولة ومحاربة أعدائها، وقامت هيئة علماء الدين في هذه المؤسسة، ومنهم النورسي، بإصدار (فتوى للجهاد).

وبعد المشاركة في إصدار (فتوى الجهاد) رجع النورسي إلى مدينة وان، وأنشأ من طلابه ومن المتطوعين المدنيين، وغالبيتهم من الكرد، فرقًاً للجهاد، وبدؤوا بالتدريب على القتال. وقد خاطب طلابه قائلاً:

" تهيؤوا واستعدوا ... إن زلزالاً شديداً أوشك على الأبواب ".

وكانت معارك ضارية تجري حينذاك في جبهة القفقاس بين الجيش العثماني والجيش الروسي، وحاولت القوات الروسية الاندفاع نحو الأناضول، واستطاعت دخول أرضروم في 16 شباط/ فبراير سنة (1916 م)، وكان النورسي وطـلابه يقاتلون الجيش الروسي ببسالة، وفي خنادق القتال ألّف كتاب (إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز) باللغة العربية.

وعندما دخل الجيش الروسي مدينة بدليس كان النورسي وطلابه يدافعون عن المدينة ببسالة نادرة، وجرى قتال شديد في الشوارع، لكن كان عدد القوات الروسية أضعاف عدد المدافعين، وأصيب النورسي بجرح بليغ في ميادين القتال، وسقط في بركة ماء تحت جسر مع أحد طلابه، وهو ينزف، فأسره الروس، وأرسلوه إلى أحد معسكرات الأسرى في كوسترما بشمال شرقي روسيا.

وهناك قُدّم النورسي ذات يوم إلى المحكمة الحربية، بتهمة إهانة القيصر والجيش الروسي، والسبب في ذلك أن خال القيصر نيكولا نيكولافيج كان القائد العام للجبهة الروسية، وفي زيارته للأسرى، قام الجميع لأداء التحية عدا النورسي، ولاحظ القائد العام ذلك، فرجع ومرّ ثانية أمامه، فلم يقم له النورسي، وفي المرة الثالثة وقف القائد أمامه، وجرى الحوار التالي بينهما بوساطة مترجم:

- يبدو أنك لم تعرفني!

- لا، لقد عرفتك. إنك نيكولا نيكولافيج خال القيصر، والقائد العام في جبهة القفقاس.

- إذاً لماذا تستهين بي؟!

- كلا. إنني لم أستهن بك، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.

- وبماذا تأمرك عقيدتك؟!

- إنني عالم مسلم، أحمل في قلبي إيماناً، ومن يحمل في قلبه إيماناً أفضل ممن لا إيمان له، ولو أنني قمت لك لكنت إذاً قليل الاحترام لعقيدتي ومقدساتي، لذلك فإنني لم أقم لك.

- إذاً فإنك بإطلاقك عليّ صفة عدم الإيمان تكون قد أهنتني، وأهنت جيشي وأمتي والقيصر كذلك، فيجب تشكيل محكمة عسكرية للنظر في هذا الأمر.

وتشكلت المحكمة العسكرية، وقُدّم إليها النورسي بتهمة إهانة القيصر والأمة الروسية والجيش الروسي، وساد الحزن في معسكر الأسرى، وحاول الضباط الأتراك والألمان والنمساويون حمله على الاعتذار للقائد الروسي، وطلب العفو. لكن النورسي ردّ بحزم:

    " أنا لا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني".

وأصدرت المحكمة قرارها بالإعدام.

وفي يوم التنفيذ حضرت مجموعة من الجنود، على رأسها ضابط روسي، لأخذه إلى ساحة الإعدام، وقام النورسي من مكانه بابتهاج قائلاً للضابط الروسي:

         " أرجو أن تسمح لي قليلاً لأؤدّي واجبي الأخير".

ثم قام فتوضأ وصلّى ركعتين.

وهنا دخل القائد العام، وقال للنورسي بعد فراغه من الصلاة:

" أرجو المعذرة. كنت أظن أنك قصدت إهانتي، لكنني واثق الآن أنك كنت تنفّذ ما تأمرك به عقيدتك، لذا فقد أبطلت قرار المحكمة، وإني أهنئك على صلابتك في عقيدتك، وأرجو المعذرة مرة أخرى ".

وظل النورسي في الأسر سنتين وأربعة أشهر، ثم استطاع الهرب خلال الفوضى التي حدثت في روسيا نتيجة الثورة البلشفية (الشيوعية)، وتمكن من الوصول إلى ألمانيا، ثم إلى إستانبول بفضل العناية الإلهية.

وزّع كتبي مجاناً!

بعد وصول النورسي إلى إستانبول، وفي 13 آب/أغسطس  (1918م)، عُيّن عضواً في (دار الحكمة) تقديراً له، وكانت عضوية الدار لا تُمنح إلا للعلماء البارزين والشخصيات المرموقة، وكانت الدولة قد خصصت له راتباً، لكنه لم يأخذ من الراتب سوى ما يكفيه للعيش البسيط. ولنقرأ الرسالة التي بعث بها ابن أخيه (عبد الرحمن) إلى عمه عبد المجيد:

 " إني محتار في أحوال عمي سعيد، ... فالحكومة تعطيه راتباً جيداً، وأنا أقوم بادّخار ما يفضل عن مصاريفنا، وقد ألّف كتباً عدة، واستدعاني مرة قائلاً: اذهب واستدع مدير المطبعة الفلانية. فذهبت، وعندما قدّم مؤلفاته إلى المدير قال لي: يا عبد الرحمن! هات ما ادّخرته من نقود، وادفعها للسيد المدير، فنفّذت له ما أراد، وعندما ذهب المدير امتلأت عيناي بالدموع. لكني عزّيتُ نفسي قائلاً: هذه الكتب ستُطبع وستباع، وإن النقود سترجع وسأدّخرها. لكن بعد عدة أيام أرسلني مرة أخرى لاستدعاء المدير. وفي هذه المرة قال له: أرجو أن تكتب على كتبي بأنها توزَّع مجّاناً.

وعندما خرج المدير لم أتمالك نفسي عن البكاء، فقلت له:

ـ يا عمي! كنت أدّخر بعض النقود لكي أقوم بتعمير بيتنا الذي خرّبته الحرب، والآن فقد قتلت ذلك الأمل، أيجوز ذلك؟!

وابتسم عمي قائلاً لي:

ـ يا بنيّ .. يا عبد الرحمن! إن الحكومة تعطينا راتباً كبيراً، وليس لي أن أخذ منه إلا كفاف العيش، أما ما زاد على ذاك فيجب إعادته إلى بيت المال، لذلك فإنني قمت بإعادته...، ولا أعتقد أنك ستفهم هذا، ولكن اعلم بأن الله- إن شاء- سيعطيك بيتاً في أي مكان من هذا الوطن الحبيب".

إلى الجبل ثانية!

وخلال الحرب العالمية الأولى وقفت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا، وتوالت هزائمها على معظم الجبهات، ودخلت جيوش الحلفاء تركيا، وشعر النورسي بالحزن العميق، وكانت القوات الإنكليزية قد احتلت العاصمة العثمانية إستانبول في 16 آذار/مارس (1920م)، وألّف النورسي كتابه (الخطوات الست) يهاجم فيه الإنكليز بعنف.

ونظراً لاشتهار النورسي بعدائه للمحتـلين، دُعي أكثر من مرة إلى أنقرة، حيث مركز حركة المقاومة بقيادة مصطفى كمال (آتاتورك)، ووصل إلى أنقرة سنة (1922م )، وما لبث أن اختلف مع مصطفى كمال ونهجه، وقرر مصطفى كمال إبعاده عن أنقرة، وتعيينه واعظاً عاماً للولايات الشرقية (كردستان) براتب مغرٍ، لكن النورسي رفض ذلك.

ويعرف كل قارئ لتاريخ تركيا الحديثة أن الكرد خاضوا معركة المقاومة والتحرير إلى جانب إخوتهم الترك، ولولا كفاحهم البطولي لما تحقق النصر على الدول المحتلة، لكن سرعان ما تنكّرت القيادة الطورانية لتلك الجهود، وعادت إلى تكريس سياساتها الظالمة بحق الكرد والعرب وغيرهم، وتبيّن للنورسي أن موجة كبيرة من الفساد تتفشّى، وأن القيادة التركية الجديدة هي وراء تلك الموجة، لذلك غادر أنقرة إلى وان. وهناك قضى الكثير من أوقاته قرب إحدى الخرائب المهجورة على جبل (أرك)، معتكفاً ومنزوياً.

وبسبب تمسك القيادة التركية الجديدة بالمبادئ الطورانية، ومحاولتها تتريك الكرد والعرب وغيرهم، إضافة إلى اعتبار التركي مواطناً من الدرجة الأولى، واعتبار غيرهم مواطنين من الدرجة الثانية، نشبت ثورة كردية سنة (1925م)، تطالب بالحقوق القومية للكرد، وتنبذ القوانين التي فرضتها السلطات التركية على المجتمع بالقوة والإكراه، وتطالب بعودة دولة الخلافة.

وكان قائد الثورة أحد شيوخ الكرد المعروفين بمكانتهم الدينية والاجتماعية، وهو الشيخ سعيد پِيران، وقبيل اندلاع الثورة أرسل قائد الثورة رسائل إلى النورسي، يطلب منه الاشتراك في الثورة ضد القيادة التركية الطورانية، فلم ينضم النورسي إلى الثورة، ولم يشجّع أتباعه على المشاركة فيها، كراهية منه لاقتتال المسلمين فيما بينهم.

وانتهت الثورة إلى الفشل، وأُعدم الشيخ سعيد پِيران وثمانون من كبار زعماء الكرد، ورغم عدم مشاركة النورسي في الثورة فإنه لم ينج من غضب السلطات التركية، وبينما كان النورسي منقطعاً إلى عبادة الله على قمة الجبل في وان، أرسلت الحكومة مفرزة لاعتقاله، هذا علماً بأن عشائر وان لم تساهم أيضاً في الثورة بتأثير منه.

لما ذا لا تلبس قبّعتنا؟!

نُقل النورسي بعد اعتقاله إلى إستانبول، ثم إلى مدينة بوردور، ثم إلى إسبارطا، وأخيراً إلى ناحية بارلا النائية، وهي تابعة لإسبارطا، في غربي الأناضول، وقد وصلها شتاء سنة (1926م). وفي بلدة بارلا الصغيرة عاش النورسي ثماني سنوات ونصف السنة، ألف فيها معظم (رسائل النور)، هذا رغم أنه كان معتلّ الصحة، قليل الإقبال على الطعام، وقد صنع له أحد النجارين غرفة خشبية غير مسقوفة على شجرة الدُّلْب [بالكردية: چِنار] الضخمة المنصبة أمام بيته، فكان يقضي فيها أغلب أوقاته متعبّداً ومتأملاً ومؤلفاً لرسائل النور.

وفي سنة (1932 م) صدرت الأوامر أن يكون الأذان للصلاة بالتركية بدل العربية، لكن أصرّ النورسي ومريدوه على الأذان وإقامة الصلاة بالعربية، وما كادت السلطات تعلم ذلك من جواسيسها حتى ألقت القبض على القرويين، ونُقل النورسي إثر ذلك إلى إسبارطا، وكان ذلك سنة (1934 م)، ولم ينقطع النورسي عن تأليف (رسائل النور) ونشرها. وفي صباح باكر من أحد أيام نيسان/أبريل سنة (1935 م) هاجمت قوة من الجندرما (الدرك) بيته، واعتقلوه، كما اعتقلوا مئة وعشرين من طلبته ومريديه، وسيقوا جميعاً إلى سجن (إسْكي شَهِر) ووُجّهت إليهم تهم كثيرة.

ووُضع النورسي في سجن انفرادي، وسُلّطت عليه مضايقات كثيرة، ولم تُسفر التحقيقات عن شيء، فنُفي إلى مدينة قسطموني في ربيع سنة (1936 م)، وبقي فيها سبع سنين، متابعاً تأليف (رسائل النور) ونشرها، ليس عن طريق  الطبع، وإنما عن طريق النسخ باليد، وتوزيع النسخ بوساطة (سعاة بريد النور)، وظل ينتقل من سجن إلى سجن آخر، ومن محكمة إلى محكمة، وكان يصف السجن بأنه (مدرسة يوسفية)؛ نسبة إلى النبي يوسف عليه السلام، وما حاد عن مبادئه قِيد شعرة، وما قدرت السلطات أن تحول بينه وبين الاستمرار في تأليف رسائل النور، وإرشاد الناس في تركيا إلى العقيدة الإسلامية النقية.

  وفي الوقت نفسه كان النورسي يندّد في مرافعاته أمام المحاكم بالطغيان الذي تمارسه السلطة، وقد قال في دفاعه، حينما كان موقوفاً في سجن دنيزلي سنة (1944 م):

" وتقولون: لماذا لا تلبس قبّعتنا منذ عشرين عاماً مرة واحدة، ولم تكشف عن رأسك لمحكمتنا مرة واحدة، مع أن سبعة عشر مليوناً انسجموا مع هذا اللباس؟ إنني أقول: ليسوا سبعة عشر مليوناً ولا سبعة ملايين ، بل لا يوجد أقل من القليل لبسوها بمحض إرادتهم واختيارهم، اللهم إلا حفنة من الحمقى الذين يلهثون وراء الرذيلة وانحطاط أوربا.

    إن مثلي ممن ترك الحياة الاجتماعية منذ خمس وعشرين سنة لا يقال عنه مخالف أو معاند، وافرضوا أنه عناد، فما دام مصطفى كمال بنفسه لم يقدر أن يكسر عنادي، وأن محكمتين وحكومات ثلاث ولايات لم تستطع التأثير فيّ، فما أنتم وخَطبكم حتى تضيعوا الوقت في هذا العبث"؟!.

ملاحقة.. حتى بعد الموت!

استبشر الناس في تركيا خيراً بمجيء الحزب الديمقراطي إلى الحكم سنة (1950م)، لا لشيء، وإنما لأنـه أزاح (الحزب الجمهوري ) عن الحكــم، وسمح ببعض الحرية، وأرجع الأذان بالعربية، وصحيح أن النورسي تمتع بحرية الحركة، فشرع ينتقل من مكان إلى آخر، ويلتقي بطلبته ومريديه، لكن نشاطه ظل محصوراً في غربي تركيا، ولا سيما في إستانبول، وزار المواقع التي أمضى فيها أعوام النفي والسجن، وخاصة شجرته المحببة في بارلا. على أنه لم ينج في الوقت نفسه من المحاكمات والمضايقـات، وأُلزم أخيراً بالإقامة في أميرداغ شـهراً وفي إسبارطا شهراً، وكان ذلك سنة (1960م).

وفي إسبارطا مرض النورسي وهو في السابعة والثمانين من عمره، وفي أحد الأيام فتح عينيه، وقال لطلابه الذين كانوا يتناوبون السهر عليه:

- سنذهب !

- يا أستاذنا، أين سنذهب؟!

- إلى أورفا .. فتهيؤوا.

وظن طلبته أن أستاذهم فقد وعيه بتأثير المرض، إذ ليس من المعقول أن يسافر وهو في هذه الحالة، إضافة إلى أن سيارتهم كانت معطّلة، وعرضوا عليه الأمر ليغيّر رأيه فقال:

-" هيّئوا سيارة أخرى، ألا نستطيع دفع مئتي ليرة؟! إنني مستعد أن أبيع جبّتي إذا لزم الأمر ".

واستأجر الطلبة سيارة أخرى، وانطلقت السيارة متوجهة إلى أورفا في جنوب شرقي تركيا، موطن الكرد، وهي تحمل النورسي وثلاثة من طلبته، وسرعان ما تطايرت البرقيات والهواتف والاتصالات بين مختلف مراكز الأمن في مدن تركيا، لكنهم لم يفلحوا في توقيف السيارة، ووصل النورسي إلى أورفا في 21 آذار/مارس مع طلابه، وهو يوم عيد نوروز، ونزلوا في أحد الفنادق، وسرعان ما طوّقت الشرطة الفندق، ودخل أحد المسؤولين يبلغ النورسي- وهو طريح الفراش- أن الأوامر صادرة من وزير الداخلية بضرورة مغادرة المدينة، والعودة إلى إسبارطا فوراً.

وانتشر الخبر في المدينة، وسرى الغضب بين الجماهير، وتدخلت الشخصيات ذات النفوذ، لكن أصرّ مديـر الأمن على موقفه، ولم ينفع التقرير الطبي الذي أكّد أن من المستحيل لهذا الشيخ المريض الطاعن في السن أن يسافر. ودخل مدير الأمن يبلّغ الشيخ بالأوامر القطعية، فردّ عليه النورسي قائلاً:

 " أنا الآن في الدقائق الأخيرة من عمري، ولا أستطيع الرجوع، وقد أموت هنا! إن وظيفتك الآن هي تهيئة الماء لغسلي بعد الوفاة".

وخرج مدير الأمن ورجال الشرطة متأثرين منكّسين رؤوسهم، وتقاطر الناس أفواجاً ليحظوا باللقاء الأخير مع النورسي، وانهمر سيل من البرقيات على أنقرة، تستنكر بشدة موقفها غير الإنساني، وخلال ذلك قابل النورسي المئات والمئات، ودعا لهم واحداً وحداً، ومع فجر يوم 23 آذار/مارس (1960م) أسلم الروح، وانتقل إلى بارئه ليرتاح في كنف الرحمن من قسوة البشر.

على أن محنة هذا العالم لم تنته بوفاته، ففي 27 أيار/مايو (1960م) أطاح انقلاب عسكري بالحزب الديمقراطي، وأُعدم رئيس الوزراء عدنان مندريس، وفي 11 تموز/يوليو (1960م) توجّه والي أورفا مع القائد العسكري بطائرة عسكرية إلى مدينة قونيه، حيث كان يقيم عبد المجيد شقيق النورسي، وقالوا له:

- سنقوم بنقل رفات أخيك الشيخ سعيد من أورفا، وسيتم هذا النقل على افتراض طلبك أنت. لذا وقّع على هذه الورقة.

- ولكني لم أطلب هذا!

- لا داعي للإطالة، وقّع على هذه الورقة.

ولم تنفع ممانعات عبد المجيد، بل أُخذ بطائرة عسكرية، وتم إخراج تابوت الشيخ سعيد من القبر سراً، ونُقل رفاته إلى تابوت آخر، واتجهت الطائرة بالتابوت إلى (أفيون)، ومن هناك نقل التابوت بسيارة إسعاف إلى مدينة إسبارطا، ودفن هناك في مكان مجهول.

-   -   -   -

ونخلص مما سبق إلى أن النورسي جمع في شخصيته خصالاً فذة، أبرزها: الذكاء الخارق، وحب المعرفة، والثقافة الموسوعية، والجمع بين العلوم الدينية والدنيوية، وغزارة التأليف، فبالإضافة إلى كتاب (المناظرات)، و كتاب (إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز)، و كتاب (الخطوات الست)، ومجموعة (رسائل النور)، ألف (رسالة الحشر)، و(المثنوي العربي)، و(الشيوخ)، كما أنه تميّز بالزهد في المناصب، والثبات على المبادئ التي آمن بها، وكرّس حياته لنشر رؤيته القائمة على تربية الإنسان من الداخل. وبعبارة أخرى: كان النورسي- حسبما تؤكد سيرته- رجل المبادئ الإنسانية والقيم الرفيعة، لا رجل المنافع الذاتية والمصالح الشخصية؛ وها هنا بالتحديد تكمن أهمية سيرته.

وقد يظل قبر العلامة النورسي مجهولاً.

لكن كيف يبقى مجهولاً من دخل اسمه في سجل التاريخ ؟!

المراجع

1 – إحسان قاسم الصالحي: بديع الزمان سعيد النورسي (نظرة عامة عن حياته وآثاره)، مطابع الوفاء، المنصورة، الطبعة الثالثة، 1988.

2- أديب إبراهيم الدباغ: سعيد النورسي، دار الوثائق، الكويت، الطبعة الأولى، 1986.

3- أسيد إحسان قاسم: ذكريات عن سعيد النورسي، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، 1977.

4- بديع الزمان سعيد النورسي: الشيوخ، ترجمة إحسان قاسم الصالحي:مطبعة الزهراء الحديثة، الموصل، 1984.

5- الدكتور محسن عبد المجيد: النورسي الرائد الإسلامي الكبير، مطبعة الزهراء الحديثة المحدودة، 1987.

ملاحظة: [تقتضي الأمانة العلمية أن أعرض الحقائق التاريخية كما هي، ولا يعني ذلك أنني متفق بالضرورة مع كل موقف أو رأي أعرضه].

 

    وإلى اللقاء في الحلقة السادسة.  

              د. أحمد الخليل   في 1-12-2005   dralkhalil@hotmail.com

 

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة الرابعة)

المؤرخ القاضي: ابن خَلِّكان.

كيف اكتشفت ابن خلِّكان؟

لا أستبعد أن يكون اسم (ابن خَلِّكان) قد طرق سمعي منذ أيام الدراسة في الجامعة، حينما كنت أسعى للحصول على درجة الإجازة (البكالوريوس) في اللغة العربية وآدابها، ولا أذكر أن الأمر استوقفني حينذاك، كما لا أذكر أني- رغم حبي لمعرفة سير المشاهير- اهتممت بقراءة سيرة هذا الرجل. وقد جاء في الحكم القديمة: " من جهل شيئاً عاداه"، وأقول من جانبي: "من جهل شيئاً أهمله"؛ هذا على أقل تقدير.

 وحصلت بدايات معرفتي الواعية بابن خلّكان في أيام الدراسات العليا، وتحديداً في مرحلة الماجستير، فقد علمت أن كتابه (وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان) هو من المصادر التاريخية الهامة في مجال التراجم، ثم ازدادت صلتي بابن خلّكان وكتابه في مرحلة الدكتوراه. وحينما قويت اهتماماتي بالتاريخ، إلى جانب الأدب والنقد، في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وجدتُني أشتري الكتاب بمجلداته الضخمة العديدة، وأنكبّ عليه في أوقات الفراغ ليلاً ونهاراً، وأقرأه من ألفه إلى يائه، وخرجت من تلك القراءة – والحق يقال- بمعلومات خصبة ومفيدة وعميقة.

وفي الوهلة الأولى أثارت الرنّة الكردية في اسم (خلّكان) انتباهي، وكانت تلك الرنّة  تذكّرني بالاسم الكردي (خَلِّك) تصغير (خليل)، وكنت أعرف أن اللاحقة (ان) تدل في الكردية على صيغة الجمع، ولا سيما عند الحديث عن القبائل الكردية. ومع ذلك استبعدت أن يكون الرجل كردياً، وقلت: لعلّه فارسي، أو من أية ملّة أخرى؛ ففي الرقعة الجغرافية الهائلة، والتي تمتد من البحر المتوسط غرباً إلى جبال هندوكوش شرقاً، حكمت إمبراطوريات عديدة طوال سبعة آلاف عام، وتمازجت الشعوب، فتماثلت بعض الأسماء والألقاب.

لكن عندما وصلت في قراءتي للكتاب إلى ترجمة العالم النحوي (سيبويه) بدأ الشك، وتطوّر الشك فأصبح ظناً، فقد وقف ابن خلّكان عند اسم سيبويه، وذكر أن من الخطأ أن نقول (سِيبَوَيْه) كما هو مشهور، وأن الصواب هو (سَيْبُويَه)؛ وتعني هذه الكلمة (رائحة التفاح)، فتذكّرت حينذاك كلمة  Sêvالكردية، والتي تعني (تفاح)، والنسبة إليها Sêvo، وقلت لنفسي: الأرجح أن من يعلم الفروق في صوتيات هذا الاسم أن يكون كردياً، أو تكون له خبرة ومعرفة باللغة الكردية. ومع ذلك بقي الأمر في دائرة الظن، فقد اعتدت ألا أجزم بشيء في القضايا التاريخية ما لم أجد دليلاً واضحاً وبرهاناً ساطعاً.

لكن ما إن وصلت، في قراءتي لكتاب الوفيات، إلى الجزء الأخير حتى رحل الشك، وحل اليقين محله؛ إذ أنهى المحقق الدكتور عباس حسن الكتاب بسيرة مطوّلة لابن خلّكان، وذكر بالأدلة الموثّقة نسبه الكردي.

فمن هو ابن خلّكان؟

وماذا عن سيرته الشخصية؟

وماذا عن جهوده العلمية وعن مكانته في عصره؟!

نسب ابن خلّكان.

هو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلّكان بن باوَك بن عبد الله بن ساكل بن الحسين بن مالك بن جعفر بن يحيى بن خالد بن بَرْمَك، ينتسب إلى أسرة البرامكة المشهورة، وهذه قضية لا إشكال فيها، ويقال إنه سأل مرة بعض أصحابه عما يقوله فيه أهل دمشق، فأخبره أنهم يتهمونه بالكذب في نسبه إلى البرامكة، فكان جوابه على ذلك قوله:

" أما النسب والكذب فيـه فإذا كان ولا بد منـه فكنت أنتسب إلى العباس، أو إلى علي بن أبي طالب، أو أحد الصحـابة، وأما النسب إلى قوم لم يبق لهم بقـيّة وأصلهم فرس مجوس فما فيه فائدة ".

وقد ترجم شرف الدين ابن المستوفي صاحب (تاريخ إربل) لابن عم ابن خلّكان، فنسبه إلى البرامكة أيضاً، وهذا يعني أن هذا النسب كان معروفاً لهم في إربل وقراها. وصرّح ابن خلّكان لابنه موسى أن قبيلته التي ينتسب إليها هي من الكرد، واسمها (زرْزاري= ولد الذئب).

وفي معرض بحثي عن تاريخ الكرد تبيّن لي أن الباحث ويليام إيغلِتون Wiliam Eagleton  ذكر قبيلة كردية باسم (زَرْزا) في موضعين من كتابه (مدخل إلى السجاد الكردي ومنسوجات أخرى) An introduction To Kurdish Rugs And Other Weavings ، وقد صدر هذا الكتاب بالإنكليزية في إنكلترا سنة (1988م)، وذلك حينما كان يستعرض أسماء القبائل الكردية التي تقيم في غربي أذربيجان الإيرانية،  ولا يخفى على كل من له اطّلاع على المجتمع الكردي أن فروع القبيلة الواحدة كانت تتوزّع في مناطق متعددة من كردستان، كما هو شأن بعض القبائل العربية مثل (قيس وطيّئ، وشمّر)، فلكل قبيلة من هذه وجود في بلدان شبه الجزيرة العربية، وفي العراق، وأقطار بلاد الشام.

وهكذا لم يترك ابن خلّكان مجالاً للشك في نسبه إلى الفرع البرمكي من جانب، وإلى القبيلة الكردية (زرزاري) من جانب آخر، ومعروف أن باحثاً جاداً مثل ابن خلّكان، يجمع بين موضوعية القاضي وموسوعية المؤرخ، لا يمكن أن يذكر معلومة تتعلّق بنسبه، ما لم يكن واثقاً ثقة مطلقة بصحة تلك المعلومة، أما ما ذكره عن أن البرامكة (فرس مجوس) فقد أورد ما هو شائع بين عامة الناس، فالناس قد اعتادوا أن يسمعوا أن البرامكة هم من الفرس، وأن الفرس كانوا مجوساً قبل الإسلام.

على أننا تناولنا إشكالية التداخل بين (الكرد) و(الفرس) و(العجم) في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، والخاصة بـ(أسرة البرامكة)، وأوضحنا هناك أن تبعية الكرد للدولة الساسانية (الفارسية) قبل الإسلام هي التي جعلت المؤرخين المسلمين يعدّون الكرد من الفرس تارة، ومن العجم تارة أخرى، وهذه التسمية هي في الحقيقة تسمية ثقافية سياسية، وليست تسمية إثنولوجية (قومية).

ولا غرابة في نسبة الكرد إلى الفرس، فهذا أمر معهود في التاريخ القديم والحديث، ففي القرن السادس قبل الميلاد، وفي أوج الإمبراطورية الأخمينية (الفارسية)، كان يُطلق لقب (الملك الميدي) ولقب (ملك الميديين) على ملوك فارس، ومنهم كورش الثاني،وابنه قمبيز الثاني، وخليفته دارا الأول، بل كانوا يطلقون أحياناً اسم (الميديين) على الفرس أنفسهم، رغم أن الميديين (فرع من أجداد الكرد) وهم غير الفرس، لكن بما أن الدولة قبل الأخمين كانت ميدية، وأن الفرس كانوا تابعين للدولة الميدية، فقد عُرفوا عالمياً باسم الميديين، وللتأكد من ذلك يكفي أن نقرأ كتاب (تاريخ هيرودوت) للمؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت. وما دام الأمر كذلك فهل من العجب في شيء أن يُعدّ (الكرد) عالمياً باسم (الفرس) وقد ظلوا تابعين للفرس حوالي (1200) ألف ومئتي سنة؟!

نشأة ابن خلّكان العلمية.

ينتمي ابن خلكان إلى أسرة مشهورة بالفقه خاصة وبالعلم عامة، وكان والده شهاب الدين محمد قد رحل في طلب الحديث إلى الشام ومصر والحجاز والعراق، وتفقّه بالموصل وبغداد، وكان من أصدقائه المؤرخ عز الدين المشهور بكنية (ابن الأثير) صاحب كتاب (الكامل في التاريخ)، والقاضي المؤرخ ابن شدّاد صاحب كتاب (النوادر السلطانية). وبعد الإقامة الطويلة في الموصل انتقل إلى إربل (أربيل)، وأحرز مكانة مرموقة عند حاكمها آنذاك مظفّر الدين كُوكْبُوري، زوج أخت صلاح الدين الأيوبي، وصار مدرّساً في المدرسة المظفّرية، ومشاراً إليه في ميدان الفتوى.

وكان أحمد أصغر إخوته، وقد ولد بإربل سنة (608 هـ)، ولم يكن قد أكمل الثانية من عمره حينما فقد أباه، لكن الوالد كان حريصاً على أن يتّجه ابنه في طريق العلم، لذلك حصل له على الإجازات (الشهادات العلمية) من العلماء المشهورين في عصره، كما أن صديقه كُوكبوري تولّى رعاية أبناء صديقه بعد وفاته، وهكذا انصرف أحمد إلى طلب العلم في إربل بالمدرسة المظفّرية، وواظب حضور مجلس أبي البركات شرف الدين ابن المستوفي الإربلي، وسمع سنة (621 هـ) صحيح البخاري على أبي جعفر محمد بن هبة الله المكرم الصوفي البغدادي، ولم يكتف بذلك، وإنما كان يتحيّن الفرص، فيلتقي بالأدباء والعلماء الذين كانوا يفدون على إربل بين حين وآخر.

وكان أحمد قد تجـاوز الثامنة عشرة بقليل حينما عقـد النية على أن يغـادر إربل طلباً للعلم، وما كان يعرف وهو يرتحل عنها أنه لن يعود إليها ثانية، فاصطحب أحـد أخويه، إلى جانب بعض كتب التوصية من صديق الأسرة مظفّر الدين كوكبـوري حاكم إربل، وكانت الموصل أول مديـنة يرحل إليها، وفيها أخذ عن صديق والده كمال الدين موسى بن يونس، ذاك العالم الذي جـمع بين الثقـافة الموسوعية والذكاء الخـارق، وكان لقاؤه به سنة (626 هـ)، ومن شدة إعجاب أحمد بأستاذه ابن يونس أضمر في نفسه أنه إذا تزوّج، ورُزق ولداً، فسيدعوه (يونس)؛ تيمّناً باسم ذلك الأستاذ الجليل، وهذا ما فعله حقّاً.

ومن الموصل تابع أحمد رحلته العلمية إلى حلب، ماراً في طريقه بحرّان، وكانت فترة وجوده في حلب أخصب فترات حياته، ففيها تلقّى العلم على الشيوخ المشهورين، من أمثال القاضي بهاء الدين بن شدّاد، الذي كان صديق السلطان صلاح الدين، ومستشار ولده الملك الظاهر، وكان ابن شدّاد، كما مر، صديقاً لوالده، وكان يحمل إليه كتاب توصية من كُوكبوري، فاستقبل ابن شدّاد الأخوين بالترحاب، وأنزلهما في مدرسته، وقرّر لكل منهما مرتّباً عالياً يساوي مرتّب الطلبة الكبار رغم حداثة سنّيهما.

وفي حلب درس أحمد الفقه واللغة والنحو على كبار الشيوخ؛ من أمثال جمال الدين أبي بكر الماهاني، وابن الخبّاز الموصلي، وموفّق الدين ابن يَعِيش، كما التقى المؤرخ عز الدين بن الأثير الصديق الحميم لوالده.

وفي سنة (632 هـ) توجّه أحمد إلى دمشق، فدرس التفسير والحديث والفقه على الشيخ ابن الصـلاح الكردي الشَّهْرَزُوري (ت 643 هـ) أحد فضلاء عصره وعلمائه المرموقين، وعاد بعدئذ إلى حلب ثانية، ويبدو أنه يئس من العودة إلى مدينته إربل، إذ كان التتار قد اجتاحوها وخرّبوها سنة (634 هـ)، وأنه كان يرى نفسه ما يزال في دور طلب العلم، فتوجّه إلى مصر، ووصل إلى الإسكندرية سنة (636 هـ)، ثم إلى القاهرة سنة (637 هـ)، واتصل هناك بالشاعر بهاء الدين زهير، وقويت الصداقة بينهما، إلى درجة أن البهاء أجاز له رواية ديوانه.

في منصب القضاء.

كان قاضي القضاة في مصر آنذاك بدر الدين السِّنْجاري، وهو كردي من قبيلة (زرزاري) مثل ابن خلّكان، فولاّه نيابة القضاة بمصر، ثم تتالت الأعوام، ووصل المماليك إلى الحكم، وحلّوا محل الأيوبيين، وجاء الانتصار على المغول في معركة عين جالوت، ثم قُتل السلطان المملوكي قُطْز قائد تلك المعركة على يد صديقه بيبرس، وتسلّم هذا الأخير السلطة حاملاً لقب الملك الظاهر، فعيّن ابن خلّكان قاضياً في ديار الشام سنة (659هـ)، وفوّض إليه الحكم في جميع البلاد الشامية من العريش إلى سَلَمْيَة.

وبدأ ابن خلكان ممارسة وظائفه الكثيرة، من تعيين نوّاب له في البلاد، وضبط لما تحت يده من أوقاف، وتنصيب معيدين في المدارس، ومراجعة للأحكام وفصل في القضايا، وظل في منصبه ذاك إلى عام (669 هـ)؛ إذ عُزل عنه عندما دخل الظاهر بيبرس دمشق، ليس عن تهمة وُجّهت إليه، وإنما لأن الوزير بهـاء الدين بن حنّا سعى في أن يولّي عز الدين بن الصائغ القضاء، ولأن بهاء الدين هذا لم يكن يرتاح لابن خلّكان، وإلى علاقته بأمير كردي آخر من قبيلة (زرزاري) نفسها هو الأمير أحمد بن حجّي، وكان ذلك الأمير مرموق المكانة عند الملك الظاهر، وكان يعدّ منافساً للوزير.

 وفي مصر وجد ابن خلّكان منصباً تدريسياً في المدرسة الفخرية، وعانى بعدئذ من فقر شديد بسبب مضايقات الوزير له. على أن الأمور اختلفت بدءاً من سنة (676 هـ)؛ إذ تمّ تعيينه في منصب القضاء بدمشق ثانية، ولم تستطع السنوات السبع أن تنسي أهلها قاضيهم المحبوب، فاحتفلوا بمقدمه، وتزاحموا على استقباله، وما إن دخل ابن خلّكان دمشق حتى توجّه إلى المدرسة العادلية، فجلس فيها، وتوافد عليه الشعراء يهنئونه، وتبارى القرّاء في القراءة؛ وكان هذا كله في عهد الملك السعيد ابن الملك الظاهر.

وقضى ابن خلكان في منصبه الجديد ثلاث سنوات، ثم حدثت الاضطرابات في مصر والشام بين أبناء الملك الظاهر بيبرس، وكانت النتيجة أن السلطة آلت إلى أحد المماليك الجراكسة هو الملك المنصور قَلاوون، ويبدو أن ابن خلكان لم يكن من أنصار قلاوون، فاعتقل بعض الوقت، ثم جاء العفو عنه من الملك نفسه، وأعيد إلى منصبه وأضيف منصب قضاء حلب إلى أعماله.

غير أن الملك المنصور كان يرغب بعفوه العام هذا تهدئة الخواطر، ريثما يرسّخ قواعد سلطته، وما إن تمكن من ذلك حتى عـاد بعد شهر ونصف إلى عزل ابن خلّكان مرة أخرى، وكان ذلك سنة (680 هـ)، فمارس ابن خلّكان التدريس في المدرسـة النجيبية والمدرسـة الأمينية، وأمضي بقـية عمره في الدرس ومذاكرة العلماء والأدباء، إلى أن توفي يوم السبت (26 رجب سنة 681 هـ)، ودفن بسفح جبل قاسيون.

شخصيته وثقافته.

شهد المعاصرون لابن خلّكان بالبراعة في الفقه، والأصول، والعربية، وبالمعرفة بالمذهب الشافعي، وبحسن ما صدر عنه من الفتاوى، وكان الرجل دائم الاطّلاع، محباً للكتب، ينفق الأموال على اقتنائها، وكان يطمح في أوائل عهده إلى أن يكون شاعراً، ونظم كثيراً من الشعر، وربما انتسب إلى الشعراء من أصدقائه أمثال البهاء زهير، وابن مطروح، وابن الخيمي، والجزّار، وبعد العمل في القضاء لم تضعف صلته بالشعر والاهتمام به، وإنما كان ينمّي ذوقه الأدبي باستمرار، وقد قيل فيه بأنه كان أعرف الناس بديوان المتنبي في وقته. وجملة القول أن الموجّه الأول في ثقافته هو نزعته الأدبية التاريخية، ومن مكمّلات تلك الصورة الثقافية اهتماماته بالفقه والنحو واللغة.

وقد وصفت المصادر ابن خلّكان بأنه كان حسن الصورة، فصيح المنطق، جواداً كريماً، لا يدّخر شيئاً، مدحه كثيرون من الشعراء، فـقدّم لهم الجوائز السنية على مديحهم، ووُصف أيضاً بالنـزاهة، وكمال العقل، ورباطة الجأش، إلى جانب سمات أخرى تليق بالقضاة مثل الجدّ والوقار.

ونتيجة لصفات ابن خلّكان الرفيعة كانت مجالسه مجالس بحث ومدارسة وتحقيق، يخرج منها المرء بكثير من الفوائد العلمية والأدبية، على أنه كان يميل أحياناً إلى الدعابة المهذّبة، وكان شديد المسارعة إلى مدّ يد العون للآخرين، شريطة ألا يكون في ذلك مساس بروح العدالة. وذكرت المصادر عفّـة يده عن قبول المساعدات المادية حينما كان في أشد حـالات الضيق، وعُرف أيضاً بالرفق ولين الجانب، وهـذا ما جعله محبّباً إلى قلوب من عرفوه.

ابن خلّكان المؤرخ.

لابن خلّكان كتابات كثيرة شعراً ونثراً، غير أنه لم يترك إلا مؤلّفاً واحداً ولم يعرف إلا به؛ نقصد كتابه الشهير (وَفَيات الأعيـان وأنباء أبناء الزمـان)، وقد انتهى من تأليفه سنة (672 هـ) بالقاهرة، ولعله ظل يضيـف إليه حتى سنة (680 هـ)، وكانت النواة الأولى لكتابه موجودة في مسوّادته، مما نقله من المصادر التي اطلع عليها سنة (654 هـ)، فقد كان يخطط لكتابة تاريخ عام، على مثال كتاب شيخه ابن الأثير (الكامل في التاريخ)، لكن منصب القضاء لم يتح له المجال لتنفيذ ذاك المشروع، فاقتصر على تأليف كتاب في التراجم، ورسم لنفسه خطة من تسعة بنود هي:

1 - الترجمة لمن عرف تاريخ وفاته.

2 - عدم ذكر الصحابة والتابعين، إلا جماعة يسيرة، لشهرتهم، ووجود العديد من المؤلفات فيهم.

3 - عدم ذكر الخلفاء لشهرتهم.

4 - ذكر جماعة ممن شاهدهم ونقل عنهم، أو عاصرهم ولم يلقهم.

5 - يتناول كتابه كل ذي شهرة بين الناس.

6 - يحاول إثبات المولد إن وجده، ويذكر النسب إذا قدر.

7 - يضبط بعض الألفاظ مما يمكن أن يقع فيه التصحيف.

8 - يسجل محاسن الناس من مكرمة أو نادرة أو شعر أو فكاهة دفعاً للملل.

9 - يتوخّى الإيجاز.

وأراد ابن خلّكان أن يكون دقيقاً فيما رسم لنفسه من خطة، ولكن عوامل عديدة تدخّلت لتفسد عليه ما كان يريده، ومنها تراخي الزمان بين كتابة القسم الأول وكتابة القسم الثاني، وندرة المصادر.

ويتميّز كتاب ابن خلّكان بأنه جعله عامّاً جامعاً، إلى جانب شدة تحرّيه في انتقاء المعلومات وتمحيصها، ووفرة المصادر التي اعتمد عليها، والأمانة في نقل المعلومات، والنزاهة في الحكم على الأشخاص مهما كانوا يختلفون عنه في العقيدة أو المذهب أو منحى الحياة، هذا إضافة إلى صفات هامة أخرى؛ مثل الدقة في الاختيار، وضبط الأعلام، وسريان الروح الأدبية في العرض، من غير إساءة إلى روح المؤرخ الناقد، علاوة على تحرّجه عن ذكر السيئات.

-    -    -     -

ورغم مرور أكثر من سبعة قرون ما زال اسم (ابن خلّكان) حياً في الوسط الثقافي، وما من مكتبة عربية وإسلامية مرموقة، ولا مؤسسة علمية أكاديمية، إلا وتضم بين مصادرها القيّمة كتابه (وفيات الأعيان)، وما من باحث في التاريخ الإسلامي إلا ويجد نفسه في حاجة ماسة إلى جهود ابن خلّكان التاريخية.

وهذا خير شرف يكسبه العالِم من علمه.

ملاحظة: [ في وقت ليس بالبعيد سأزوّد كل حلقة بذكر عناوين المصادر والمراجع التي اقتبست منها المعلومات ].

 

    وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة.  

15/11/2005

                              د. أحمد الخليل  dralkhalil@hotmail.com

 

 =========================================

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة الثالثة)

زِرْياب: الموسيقي العبقري والمغنّي البارع.

 

للكرد منذ القديم تعلّق شديد بالغناء والموسيقا، وحسبنا دليلاً على ذلك أن من أشهر المقامات الموسيقية التراثية مقام يسمّى ( كُرد )، وآخر يسمّى (نهاوند)، وما نهاوند إلا من مدن الكرد العريقة.

ثم لا يخفى أن مدينة ( حلب ) هي موطن الموسيقا الأصيلة في بلاد الشام، ومن أشهر الذين حافظوا على ذلك التراث الموسيقي الأصيل مطرب وملحّن يدعى ( بكري الكردي )؛ هذا ما جاء في كتاب ( حلب: لؤلؤة التاريخ ودرّة بلاد الشام ). بل إن الخبير بالموسيقا إذا تتبّع الأغاني والموسيقا العربية والتركية والفارسية لوجد العديد من أقطابها هم من أصول كردية، ولوجد أيضاً أن روح الموسيقا الكردية تسري في عدد غير قليل من تلك الأغاني.

والآن دعونا ننتقل إلى أعماق التاريخ الإسلامي، إلى العصر العباسي الذهبي، لنتعرّف سيرة الموسيقي والمغنّي الكردي العبقري ( زرياب ).

بحث عن الهوية

عاش زرياب بين عامي (160 – 230 هـ)، والمؤسف أن الأخبار عن بدايات زرياب قليلة، وذاك القليل نفسه لا يخلو من غموض، ومعظم الذين كتبوا عنه اعتمدوا ما ذكره المقّري في كتابه ( نفح الطيب )، ولا يتطرّق المقّري إلى أصل زرياب، وإنما يكتفي بذكر أنه مولى أمير المؤمنين المهدي (والد هارون الرشيد)، وأن اسمه أبو الحسن علي بن نافـع، ثم ينقل تلك الرواية التي تربط بين لونه ولقبه، فيقول:

" زرياب لقبٌ غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه، مع فصاحة لسانه، وحلاوة شمائله، شُبِهّ بطائر أسود غَرِد عندهم ".

لكن المقّري لا يذكر اسم بلاد زرياب. وبناء على هذا الخبر جاء أحد الفنانين ورسم لزرياب صورة جعله فيها إفريقي السحنة.

وينقل الدكتور حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام: العصر العباسي الأول)  ما رواه المقّري، ويضيف أن زرياب فارسيّ الأصل؛ والمعروف أن كثيرين من المؤرخين القدامى عدّوا الكرد فرساً تارة وعجماً تارة أخرى. وعلى سبيل المثال يتحدّث الجغرافي ابن رُسْته في كتابه (الأعلاق النفيسة) عن مدينة ( حُلوان ) فيقول:

" وأهلها أخلاط من العرب والعجم من الفرس والأكراد ".

ويقول ابن رُسته عن مدينة ( قرماسين = كرمنشاه):

" أكثر أهلها العجم من الفرس والأكراد ".

وهذا أمر أشرنا إليه سابقاً، وحلّلنا أسبابه خلال حديثنا عن أسرة البرامكة.

وينقل الزركلي في كتابه ( الأعلام ) عن المستشرق بروفنسال أن زرياب ولد في الجزيرة. ويستبعد الزركلي الرواية التي تربط بين لون زرياب واسمه، ويذكر أن (زرآب) في الفارسي معناه ماء الذهب، وعرّبوه بكسر الزاي وإبدال الألف ياء، ويرى أن هذا التفسير هو الصحيح. والفارسي المذكور هنا هو الكردي بالطبع؛ لأن اللفظة كردية جملة وتفصيلاً. على أن الباحثة الألمانية زيغريد هونكه حسمت الأمر في كتابها الشهير ( شمس العرب تسطع على الغرب )، فنصّت بوضوح أن زرياب فتى كردي.

زرياب في قصر هارون الرشيد

وتبدأ كتب التاريخ بتسليط الضوء على زرياب وهو في حضرة الخليفة هارون الرشيد ببغداد، ونحن بدورنا سنعتمد ما ذكره المقّري بهذا الصدد.

وخلاصة الخبر أن زرياب كان تلميذاً لمغنّي الخليفة إسحاق الموصلي، فتعلّم منه أصول صناعة الموسيقا والغناء، وكان ذكياً طيب الصوت، ففاق أستاذه، وإسحاق لا يشعر بذلك، إلى أن جرى للرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغنّ غريب مجيد للصنعة، لم يشتهر مكانه إليه، فذكر له تلميذه زرياب، وقال:

" إنه مولى لكم، وسمعت له نزعات حسنة، ونغمات رائقة لصيقة بالنفس، وأحدس أن يكون له شأن ".

 فقال له الرشيد:

" هذا طَلَبَي، فأحضرنيه لعل حاجتي عنده ".

 وأحضر إسحاق زرياب، فلما كلّمه الرشيد أعرب عن نفسه بأحسن منطق وأوجز خطاب، وسأله عن معرفته بالغناء، فقال: نعم أُحسن منه ما يحسنه الناس، وأكثرُ ما أُحسنه لا يحسنونه، مما لا يحسن إلا عندك ولا يُدّخَر إلا لك، فإن أذنت غنّيتك ما لم تسمعه أذن قبلك. فأمر الخليفة بإحضار عود أستاذه إسحاق، فلما أُدني إليه العود لم يتناوله، وقال: لي عود نحتَه بيدي، وأرهفته بإحكامي، ولا أرتضي غيره، وهو الباب، فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه.

فأمر الرشيد بإدخال العود إليه، ولما تأمّل الخليفة العود وجده شبيهاً بعود إسحاق، فقال له:

" ما منعك أن تستعمل عود أستاذك

فقال زرياب:

" إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنّيته بعوده، وإن كان يرغب في غنائي فلا بد لي من عودي ".

فقال له: " ما أراهما إلا واحداً ".

فقال زرياب:

" صدقت يا مولاي، ولا يؤدي النظر غير ذلك، ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده، ومن جنس خشبه، فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه، وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يُكسبها أناثة ورخاوة، وبَمُّها ومَثْلثَها اتخذتهما من مُصْران شبلِ أسد، فلها في الترنّم والصفاء والجَهارة والحدّة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان، ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها ".

فاستبرع الرشيد وصفه، وأمره بالغناء، فجسّ الأوتار، ثم اندفع فغنّاه:

  يا أيّها الملكُ الميمـونُ طائرُهُ      هارونُ، راحَ إليك الناسُ وابتكروا

فأتمّ النوبة، وطار الرشيد طرباً، وقال لإسحاق:

" والله لولا أنّي أعلم من صدقك لي، على كتمانه إياك لما عنده، وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل، لأنزلتُ بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتن بشأنه، حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظراً ".

الأستاذ الغاضب .. والتلميذ الهارب

بعد أن اكتشف الخليفة عبقرية زرياب الموسيقية، وأبدى إعجابه الشديد به، سُقِط في يد إسحاق، وهاج به من داء الحسد وغلّب صبرَه ، فخلا بزرياب وقال له:

" يا علي، إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها، والدنيا فَتّانة، والشركة في الصناعة عداوة، لا حيلة في حسمها، وقد مكرتَ بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلوّ طبقتك، وقصدتَ منفعتك، فإذا أنا قد أتيتُ نفسي من مأمنها، وعن قليل تسقط منزلتي، وترتقي أنت فوقي، وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي، ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدّمت شيئاً على أن أُذهِب نفسك، يكون في ذلك ما كان، فتخيّر في اثنتين لا بد لك منهما: إما أن تذهب عني في الأرض العريضة، لا أسمع لك خبراً بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة، وأساعدك لذلك بما تريده من مال وغيره. وإما أن تقيم على كرهي ورغمي، وتكون السبب في سقوط شأني عند الخليفة، فخذ الآن حذرك مني، فلست والله أُبقي عليك، ولا أدع اغتيالك، باذلاً في ذلك بدني ومالي، فاقضِ قضاءك ".

فكر زرياب في التهديد الذي وجّهه إليه أستاذه، إنه تهديد صريح بالقتل غيلة، وماذا يمكن أن يفعله شاب فقير مغمور في مواجهة رجل كثير المال، عريض الجاه، واسع النفوذ، يماثل في أيامنا هذه ما يمكن أن يسمّى وزير الثقافة والفن؟!

واختار زرياب الفرار، وفضّل النجاة بنفسه من الاغتيال، فخرج من بغداد لوقته، وأعانه إسحاق على ذلك سريعاً بمال وفير، فرحل ومضى متوجهاً نحو بلاد المغرب، واستراح قلب إسحاق.

وتذكّر الخليفة الرشيد زرياب بعد فراغه من أمور كانت تشغله، فأمر إسحاق بإحضاره، فقال له إسحاق:

" ومَنْ لي به يا أمير المؤمنين؟! ذاك غلام مجنون، يزعم أن الجن تكلّمه وتطارحه ما يُزهى به من غنائه، فما يرى في الدنيا من يَعْدِله، ما هو إلاّ أن أبطأتْ عليه جائزة أمير المؤمنين وترْك استعادته، فقدّر التقصير به والتهوين بصناعته، فرحل مُغاضباً ذاهباً على وجهه مستخفياً عني، وقد صنع الله تعالى خيراً في ذلك لأمير المؤمنين، فإنه كان به لَمَم [جنون] يغشاه ويفرط خبطه، فيفزع من رآه ".

فسكن الرشيد إلى قول إسحاق، وقال:

"على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير ".

زرياب في البلاط الأموي بالأندلس

اختار زرياب الرحيل إلى المغرب، وقضى وقتاً قصيراُ في بلاط زيادة الله الأول الأغلبي أمير القيروان (في تونس)، حتى دعاه الحكم الأول حاكم الأندلس بعد أن اتصل به خبر مهارته. فسار زرياب وأولاده إلى الأندلس، ونزلوا من البحر في ميناء الجزيرة، لكنه علم بوفاة الحكم، وتولية ابنه عبد الرحمن الأوسط (سنة 206 هـ)، فضاقت به الدنيا، ولم يدر إلى أين يتوجه.

 لكن سرعان ما أرسل عبد الرحمن إلى زرياب ينبئه بأنه منفّذ وعد أبيه، وكتب إلى عمّاله أن يُحسنوا استقباله، ويُسهّلوا له طريق الوصول إلى قرطبة. وعندما وصل زرياب بعياله إلى قرطبة أنزله عبد الرحمن في دار فخمة، ثم استقبله بعد أن استراح من عناء السفر، وبالغ في إكرامه، وقرّر له راتباً شهرياً قدره مئة دينار، وقرّر لكل من أولاده الأربعة عشرين ديناراً. وأغدق عليه وعلى أولاده الأرزاق، فأجرى عليه ثلاثة ألاف دينار في كل سنة: ألف لكل من عيدي الفطر والأضحى، وخمسمئة لكل من عيدي النَّوْروز والمِهْرجان؛ عدا ما خصّص له من الشعير والقمح، وما وهب له من الضياع والدور والبساتين التي قدّرت بأربعين ألف دينار.

ولما سمع عبد الرحمن غناء زرياب أُعجب بمواهبه، وقدّمه على جميع المغنّين، وازداد إعجاب الأمير به، حتى إنه كان يُجلسه إلى جانبه، ويستمع إلى غنائه، وإلى ما يقصّ عليه من أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء. ولم يلبث أن ملك زرياب قلب عبد الرحمن، حتى إنه أمر بأن يفتح له باب خاص يستدعيه منه متى أراد.

زرياب يزيد في العود وتراً

زاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه، إذ لم يزل العودُ بأربعة أوتار على الصنعة القديمة، فزاد عليها وتراً أخر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطَفَ معنى وأكمل فائدة. وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، بدلاً من مرهف الخشب، فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفّته على الأصابع، وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إيّاه. وأبدع زرياب في تنسيق الألحان، حتى توهّم أن الجن هي التي تعلّمه؛ ولا عجب فقد ورث هذا الشعور من أستاذه إسحاق الموصلي الذي ورثه عن أبيه إبراهيم الموصلي.

وكان زرياب واسع الثقافة، عالماً بالنجوم، وبقسمة الأقاليم السبعة، واختلاف طبائعها وأهويتها، وتشعّب بحارها، وتصنيف بلادها وسكّانها، مع ما سنح له من فكّ كتاب الموسيقا، مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها، وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلفها.

أثر زرياب في المجتمع الأندلسي

وجمع زرياب إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب، ولطف المعاشرة، وحوى من آداب المجالسة، وطيب المحادثة، ومهارة الخدمة الملوكية، ما لم يُجِده أحد من أهل صناعته، حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنّه لهم من آدابه، واستحسنه من أطعمته، فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوباً إليه معلوماً به.

فمن ذلك أنه دخل الأندلس وجميع من فيها من رجل وامرأة يُرسل جُمّته [شعر مقدّم الرأس] مفروقاً وسط الجبين، عامّاً للصدغين والحاجبين، فلما رأوا تسريحته هو وولده ونسائه لشعورهم، وتقصيرها دون جباههم، وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها إلى آذانهم، وإسدالها إلى أصداغهم، هوت إليه أفئدتهم، واستحسنوه.

ومما تعلّمه الناس بالأندلس من زرياب تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة، وإيثاره فرش جلود الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان، واختياره سُفر الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية، إذ يزول الدهن وغيره عن الأديم بأقل مسحة. وأخذ عنه أهل الأندلس أيضاً لبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به.

 وهكذا سرعان ما فرض زرياب نفسه على المجتمع القرطبي، وحقّق ذلك بفضل فنه وثرائه الذي أثار دوياً في العالم الإسلامي الشرقي، حتى إن أحد المغنّين في بغداد أعرب عن خيبة أمله قائلاً:

" إنه بينما يسير زرياب في قرطبة في كوكبة من الفرسان، ويملك ثلاثين ألف دينار من الذهب، أكاد أنا أموت من الجوع ".

طريقة زرياب في تخريج المغنّين

كانت لزرياب طريقة فريدة مع المبتدئين من تلاميذه؛ فيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان، ويأتي إثره بالبسيط، ويختم بالمحركات والإهزاج تبعاً لما يرسمه زرياب له.

وكان زرياب إذا أراد أن يعلّم تلميذاً أمره بالقعود على وسادة مدوّرة، فإن كان ليّن الصوت أمره أن يشد على بطنه عمامة؛ لأن ذلك يقوي الصوت، فلا يجد متسعاً في الجوف عند الخروج من الفم. فإن كان لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته أن يضمّ أسنانه عند النطق، راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع، يُبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه.

 وإذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته : يا حجّام، أو يصيح: آه، ويمد صوته، فإن سمع صوته صافياً ندياً قوياً، لا يعتريه غُنة ولا حُبسة [ثقل في اللسان] ولا ضيق نفس، أشار بتعليمه، وإن وجده غير ذلك أبعده.

وإلى زرياب يرجع الفضل في تعليم الجواري الغناء في عصره، وكانت له جوار أحسن تأديبهن، وعلّمهن الغناء والعزف على العود، ومن هؤلاء غِزلان وهُنَيدة، ومنهن منفعة التي اشتهرت بفرط جمالها، وقد أعجب بها عبد الرحمن، فأهداها زرياب إليه، فحظيت عنده.

-   -   -

وصفوة القول أن زرياب لم ينقل إلى المجتمع الأندلسي فنون الموسيقا وضروب الغناء فقط، وإنما نقل إليه أوجه الحياة الحضارية التي كان المشارقة ينعمون به، فكان بذلك من أهم عوامل التواصل بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه في ذلك العصر.

 

    وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة.  

                              د. أحمد الخليل        dralkhalil@hotmail.com

 

======================

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة الثانية)

أسرة البرامكة.

 

البرامكة أسرة شهيرة، واكبت ظهور الدعوة العباسية منذ أواخر العهد الأموي، وساهمت في تأسيس الخلافة العباسية سنة ( 132 هـ )، وتولىّ رجالها المناصب الرفيعة في الإدارة والوزارة، ولها مساهمات كبيرة في التقدم الحضاري الإسلامي، وكانت من المشاركين بقوة في تأسيس العصر العباسي الذهبي.

فمن هم البرامكة ؟

وما هي مساهماتهم في الحضارة الإسلامية ؟

ولماذا كانت نهايتهم المأسوية على يد الخليفة هارون الرشيد ؟

أصل البرامكة

ذهبت كتب التاريخ القديمة إلى أن البرامكة " أسرة فارسية "، تنتسب إلى جدها المعروف باسم ( بَرْمَك )، وليست كلمة ( برمك ) هذه اسماً لعلم، وإنما هي لقب ديني وراثي لمن يكون سادن المعبد عند الكرد والفرس القدماء.

وكان ( برمك ) – ولا يُعرف اسمه الحقيقي - سادن معبد ( النُّوبهار ) في بَلْخ بخراسان (شمالي أفغانستان اليوم)، وكان كل من يلي سدانة ذاك البيت تعظّمه الملوك، وتنقاد لأمره، وترجع إلى حكمه، وتحمل إليه الأموال والهدايا. 

وكلمة ( بَرْمَك ) معرّبة، وهي في أصلها الكردي مرّكبة من كلمتين ( بَرْ ) Ber، وهي تعني (حارس، قيّم، سادن) و (ماك) Mak، وهي تعني (البيت المقدّس، البيت الأول، البيت الأصل)، وكلمة ( ماك ) تفيد في الكردية أنها الأصل الذي تتشعب منه الفروع. وفي اللغة الكردية- شأن سائر اللغات الهندو أوربية- عدد كبير من الأسماء التي تتكوّن من اجتماع كلمتين، مثل ( سَرْ بِلِنْد) Serbilind، وتعني ( الرأس الشامخ) و( بَرْ دَف) Berdev  وتعني (اللثام )، وهكذا دواليك.       

أما الأصل الكردي للبرامكة فقد أكّده، بما لا يدع مجالاً للشك، مؤرخ قديم وشهير هو ابن خَلِّكان، صاحب كتاب ( وَفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان )، فقد ذكر أنه ينتسب إليهم، وأنهم من قبيلة ( زَرْزاري ) الكردية، وما كان لابن خلّكان- وهو قاضٍ قدير ومؤرخ ومحقق شهير- أن يقرّر هذه المسألة التاريخية لولا أنه كان متأكداً من ذلك؛ ثم إن الموضوع يتعلق بنسبه هو، والمثل يقول: أهل مكة أدرى بشعابها.

وأما ما يقال عن البرامكة في كتب التاريخ القديمة بأنهم " أسرة فارسية " فهو أمر ليس بالعجيب، وهو ليس دليلاً على عدم انتمائهم إلى الكرد، فابن خَلِّكان نفسه يقول عن البرامكة قبل إسلامهم بأنهم " فرس مجوس ". ويتبيّن لكل باحث محقّق في تاريخ الشرق القديم أن كلمة ( فارسي ) لم تكن تعني الانتماء القومي حصراً، وإنما هي تعني انتماء سياسياً ودينياً وثقافياً فضفاضاً جداً.

ومعروف أن الكرد كانوا أصحاب السلطة والنفوذ في جنوب غربي آسيا قبل القرن السادس الميلادي، وأن نفوذهم بلغ الأوج في عهد الميديين، وكان الفرس تبعاً لهم،  ثم دالت دولة الميديين، واستلم جيرانهم الفرس الأخمينيون السلطة حوالي سنة (550 ق.م)، وبات الكرد تبعاً لهم، واستمرت الحال على ذلك أيام الأرشاكيين والساسانيين، وحتى ظهور الإسلام.

وطوال تلك العهود كان الفرس والكرد يشكلون عماد الإمبراطورية الفارسية، وكان الشعبان متماثلين في العقيدة ( الزردشتيه )، وكان للكرد حضور كبير في مجالات الدفاع، وكثيراً ما يذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت ذلك خلال الحملات الأخمينية، ويكفي أن نذكر المواقف البطولية لفرسان الكرد في معركة گُوگَميلا Gugamela- قرب أربيل سنة (331 ق.م)- بين الملك الفارسي دارا الثالث والإسكندر المكدوني، وكاد الفرسان الكرد يلحقون الهزيمة باليونان، ويقتلون الإسكندر نفسه، لولا تضعضع صفوف المقاتلين الفرس الآخرين، وجدير بالذكر أيضاً أن الكرد حاربوا إلى جانب الفرس في الفتوحات الإسلامية نفسها.

وجملة القول في هذا المجال أن النسبة ( فارسي ) هي نسبة سياسية وثقافية قبل أن تكون نسبة قومية، وهذا ليس بالأمر الجديد ولا بالفريد، فنحن إلى اليوم نعرف الكثير من المشاهير عبر النسب السياسية، فكان يقال ( العالم السوفياتي ) أو (الروسي) ويكون الرجل أوكرانياً أو قوقازياً أو أرمنياً أو طاجيكياً، وكذلك الأمر اليوم بالنسبة إلى (الصيني) و(الأمريكي ) وغيرهما.

وقد يقال:

كيف تكون الأسرة البرمكية كردية، وتكون في الوقت نفسه من مدينة بَلْخ الواقعة في شمالي دولة أفغانستان الحالية؟

وهذا أمر شرحه يطول، وخلاصته أن سدانة بيوت العبادة في الديانة الميثرائية (قبل الديانة الزردشتية) كانت موكلة إلى بعض الأسر الميدية العريقة، وبعد ظهور العقيدة الزردشتية، وتحوّل الميديين إليها، أصبحت تلك الأسر الميدية تتولّى أمور سدانة بيوت العبادة الزردشتية، تماماً كما كانت بعض الأسر القرشية تتولّى سدانة الكعبة في مكة قبل الإسلام، وظلت تتولى أمورها في الإسلام بعد أن اعتنقت الدين الجديد.

وكانت بَلْخ قبل الإسلام تابعة للدولة الميدية، وبما أن بيت (النوبهار) كان من أقدس بيوت العبادة الزردشتية قبل الإسلام، فمن الطبيعي أن يكون القيمون عليها من الميديين (أجداد الكرد)، ولم تتغيّر الحال عندما انتقلت الدولة من أيدي الميديين إلى أيدي الفرس سواء أكانوا أخمينيين أم أرشاكيين، أم ساسانيين.

ومن أشهر شخصيات آل برمك، في العصر العباسي: خالد بن برمك، ويحيى بن خالد، والفضل بن يحيى، وجعفر بن يحيى. فماذا عنهم جميعاً؟

خالد بن برمك

يعدّ خالد بن برمك المؤسس الأول لأسرة البرامكة، ولد عام ( 90 هـ )، وكان أول من اعتنق الإسلام من البرامكة، وقد انضم إلى صفوف الموالي الذين ناهضوا الأمويين، وناصروا الدعوة العباسية، بل أصبح بعد فترة من أكبر الدعاة وأنشط النقباء الذين اعتمد عليهم القائد أبو مسلم الخراساني في دعوته للعباسيين، وفي جمع الأنصار والمؤيدين.

ولما زالت الدولة الأموية، وتسّلم العباسيون السلطة تألّق نجم خالد البرمكي، فاستوزره الخليفة العباسي الأول أبو العباس السفّاح بعد اغتيال الوزير أبي سَلَمَة الخلاّل، ثم أقرّه الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور على وزارته، وظل في منصبه ذاك سنة وبعض السنة.

وتمتع خالد بصفات عالية، جعلته أهلاً للسيادة والريادة، إنه كان كريماً ذا همّة ، حكيماً فاضلاً، نبيلاً، جليلاً، سخياً، لا يبخل على أحد من قصّاده، وهو أول من أطلق على المستميحين (طالبي العون) اسم (الزوّار)، وكانوا من قبـل يسمّون (سؤّالاً). وكان أبو عبيد الله الوزير يقول: " ما رأيت أجمع من خالد، له جمال (وفي رواية: فصاحة) أهل الشام، وشجاعة أهل خراسان، وأدب أهل العراق، وكتابة أهل السَّواد [جنوبي العراق] " .

وحين نشبت القلاقل في بلاد فارس وإقليم الجبال ندب الخليفة أبو جعفر المنصور خالداً لإخمادها، فأفلح في ذلك، ثم ولاّه الموصل فأذربيجان، يقول أحمد بن سوار الموصلي: " ما هبنا قط أميراً هيبتَنا خالدَ بن برمك، من غير أن تشتد عقوبته، ولا نرى منه جبروته، ولكن هيبة كانت له في صدورنا ".

وكانت وفاة خالد سنة ( 163 هـ ) أو سنة ( 165 هـ ).

يحيى بن خالد البرمكي

 ولد يحيى بن خالد سنة ( 120 هـ )، فعايش أهـم أحداث الثورة العباسية، وشارك والده في العمل لخلفائها بإخلاص، وكان مثل أبيه عزماً وحزماً وتدبيراً، فولاّه أبو جعفر المنصور ولاية أذربيجان سنة ( 158 هـ )، وكان العباسيون لا يولّون ثغورهم (جبهات المواجهة مع الأعداء) إلا من يحوز ثقتهم، وكان يحيى عند ثقة الخليفة، فنهض بالأمر على الوجه الأكمل، واستمر في أذربيجان حتى توفي المنصور.

ونظراً لإخلاصه اختاره المهدي الخليفة العباسي الثالث ليكون مؤدّب ولده هارون الرشيد وكاتبه ووزيره، وكان الرشيد يُجلّه، فلا يناديه إلا بقوله: " يا أبتِ "! وكانت العلاقات حميمة بين الأسرتين العباسية والبرمكية، فأرضعت كل من زوجتي السفاح وخالد ابنة الأخرى، وأرضعت الخيزران (أم الرشيد) الفضل بن يحيى، وأرضعت زوجة يحيى (أم الفضل) هارون الرشيد.

 وبعد وفاة المهدي تولّى ابنه موسى الهادي الخلافة، فأبقى يحيى على حاله مع الرشيد، ثم بدا للهادي أن يخلع أخاه هارون من ولاية العهد، ويجعلها لابنه الصغير جعفر، ووافقه على ذلك القوّاد، وبدأ الهادي ينتقص الرشيد، ويحطّ من شأنه، فتجنبّه الناس، ولم يكن أحد يجترئ أن يسلّم عليه ولا يقربه، إلا يحيى بن خالد وولده، فإنهم ظلوا أوفياء لهارون، معرّضين أنفسهم لغضب الخليفة الهادي، ولدسائس الحسّاد ومكائدهم.

وذكر الطبري في تاريخه أنه " سُعي إلى الهادي بيحيى بن خالد، وقيل له: إنه ليس عليك من هارون خلاف، وإنما يُفسده يحيى بن خالد، فابعث إلى يحيى، وتهدّدْه بالقتل، وارمه بالكفر. فأغضب ذلك موسى الهادي على يحيى بن خالد ".

وذكر الطبري أن هارون طاب نفساً بالخلع، فقال له يحيى: لا تفعل. فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء؟! فهما يسعانني، وأعيش مع ابنة عمي (يقصد زوجته زُبيدة وكان متعلّقاً بها)، فقال يحيى: وأين هذا من الخلافة ؟!.. ومنعه الإجابة.

وشرع الهادي يضايق يحيى، ثم سجنه، وحاول التخلص منه، لكن يحيى التزم الحق، ونصح الخليفة بما هو أصلح، وقد قال له يوماً: " يا أمير المؤمنين، إنك إن حملت الناس على نَكْث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك، ثم بايعت لجعفر من بعده، كان ذلك أَوْكد لبيعته، فقال: صدقت ونصحت، ولي في هذا تدبير ".

ولم تطل خلافة الهادي، وتوفي سنة ( 170 هـ )، وتولّى هارون الرشيد الخلافة بفضل حسن تدبير يحيى وجرأته وشدة إخلاصه، وكافأه الرشيد على ذلك فقلّده الوزارة، وأطلق يده في شؤون الخلافة، ودفع إليه الخاتَم، وقال: " يا أبتِ، أنت أجلستني ببركة رأيك، وحسن تدبيرك، قد قلّدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فأحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت ".

فكان يحيى يسمّى ذا الوزارتين، وهو أول من لُقّب بذلك في الإسلام.

وباشر يحيى الأمور بحزم وعزم نادرين، " فكان يجلس هو وابناه الفضل وجعفر للناس جلوساً عاماً في كل يوم، إلى انتصاف النهار، ينظرون في أمور الناس وحوائجهم، لا يُحجَب أحد، ولا يُلقى لهم ستر ".

وكان يحيى نعم الوزير ونعم المدير؛ فقد اهتمّ بشؤون الرعية خير اهتمام، وأمر بحفر الأنهار، وبحمل القمح من مصر إلى أهل الحرمين (مكة والمدينة)، " وأجرى على المهاجرين والأنصار، وعلى وجوه أهل الأمصار، وعلى أهل الدين والآداب والمروءات، واتخذ كتاتيب لليتامى".

أما عن شخصية يحيى فقد ذكرت الأخبار أنه كان أريباً لبيباً، صائب الرأي، حسن التدبير، جواداً يسابق الريح كرماً وجوداً، حليماً عفيفاً، وقوراً مهيباً، تغنّى الشعراء بفضائله ومكارمه، واتسم بالوفاء والإخلاص، وبالذكاء والكياسة، وبالتصرف في الشدائد بحكمة واقتدار، حاضر البديهة، سريع الإجابة، متواضع النفس، نقيّ السريرة، غير متغطرس، يقابل المسيئين إليه بالصفح والعفو، قال عبد الصمد بن علي: " ما رأيت أكرم من يحيى نفساً، ولا أحلم منه، جعل على نفسه ألا يكافئ أحداً بسوء فوفىّ ".

وتمتّع يحيى بقدر كبير من الثقافة والأدب، قال عنه ياقوت في ( معجم الأدباء ): " كان من أكمل أهل زمانه أدباً وفصاحة وبلاغة ". ويتجلى هذا بوضوح في أقواله ووصاياه ومواقفه. فقد قال لولده: " لا بد لكم من كتّاب وعمّال وأعوان، فاستعينوا بالأشراف، وإياكم وسِفْلة الناس، فإن النعمة على الأشراف أبقى، وهي بهم أحسن، والمعروف عندهم أشهر، والشكر منهم أكثر ".

وكان يقول: " البلاغة أن تُكلّم كلّ قوم بما يفهمون ".

ويقول لكتّابه: " إن استطعتم أن تكون كتبكم كالتوقيعات اختصاراً فافعلوا ".

وكان يحيى إذا رأى من الرشيد شيئاً ينكره لم يستقبله بالإنكار، وضرب له أمثالاً، وحكى له عن الملوك والخلفاء ما يوجب مفارقه ما أنكره، ومثال ذلك أنه كانت بين الرشيد و( نِقْفُور ) ملك الروم هدنة- بإشارة من يحيى-  ونكث نقفور وغدر، وكره يحيى أن يُعرّف الرشيدَ ذلك فينتقم له، ويرجع باللوم عليه، لما كان من مشورته عليه بمصالحته، فأمر عبد الله بن محمد الشاعر المعروف بالمكّي، أن يقول في ذلك شعراً، وينشده الرشيد. فقال:

         نقضَ الذي أعطـاكَه نِقْفورُ         فعليه دائرةُ البَـــوارِ تدورُ

         أَبشِر أمــيرَ المؤمنين! فإنه         فَتحٌ أتاكَ به الإلــهُ كبــيرُ

فقال الرشيد ليحيى: قد علمت أنك احتلت في إسماعي هذا الخبر على لسان المكّي، ونهض نحو الروم، فافتتح هِرَقْلة، وأمر هذا الحدث مشهور في كتب التاريخ.

الفضل بن يحيى

ولد الفضل قبيل مولد الرشيد بسبعة أيام سنة ( 148هـ )، وهو والرشيد أخوان من الرضاع كما سيق الذكر. وكان أقرب الأبناء إلى أبيه، سماحةَ خلق، ورجاحةَ عقل، وعُزوفاً عن الصغائر، واهتماماً بعظائم الأمور، وكان أكثر البرامكة كرماً إلى درجة فاقت الحد، وكان في كل الأعمال التي أسندت إليه كفؤاً نزيهاً، وينوب عن والده في جلائل الأعمال، فأطلق الناس عليه لقب ( الوزير الصغير ).

وتميّز الفضل بالشجاعة والقوة، وقد ولاّه الرشيد إقليم الجبال، وطَبَرِستان، وجُرْجان، والرَّيّ (قرب طهران اليوم) سنة ( 176هـ )، وحين ثار يحيى بن عبد الله العلوي في بلاد الدَّيلم سنة ( 186هـ ) ندب له الفضل، فكاتبه، وتلطّف به، واستماله إلى الصلح، فأجابه يحيى العلوي إلى ما أراد، على أن يكتب له الرشيد أماناً بخط يده، وقدم يحيى بن عبد الله في صحبة الفضل إلى بغداد، ولقيه الرشيد بكل ما أحب.

وولاّه الرشيد خراسان سنة ( 178 هـ )، فأحسن السيرة بها، وأزال الظلم، وبنى بها المساجد والحياض والرباط، وأسقط الضرائب السابقة عن الناس، وزاد في عطايا الجند، وأكرم الزوّار والقواد والكتّاب، ووطّد الأمر بها للعباسيين، ثم عاد إلى العراق، فتلقّاه الرشيد بحفاوة بالغة، وأمر الشعراء والخطباء بمدحه وذكر فضله، وأسند إليه الوزارة حيناً، ثم نقلها إلى أخيه جعفر، وولاّه بلاد المغرب من الأنبار حتى إفريقية، فشخص إلى عمله بها، فأزال الجور، وبسط العدل، وأشاع الرخاء والأمن في الرعية.

  وكان الفضل على درجة كبيرة من العلم والأدب، حافظاً للكثير من أشعار العرب رواية ودراية، وله محاولات إبداعية في هذا الميدان، وقد أوردت المصادر كثيراً من نوادر الفضل وطرائفه ومواقفه مع الشعراء والأدباء.

جعفر بن يحيى

هو ثاني أولاد يحيى بن خالد، ولد في خلافة أبي جعفر المنصور سنة ( 151 هـ )، واهتم به والده، وأحسن تربيته، وعهد به إلى القاضي أبي يوسف يعقوب، فتولّى تعليمه وتثقيفه، حتى بلغ مكانة عالية في العلم والأدب.

وكان عالي الهمة، نافذ البصيرة، جليل المنزلة، وكانت له منزلة خاصة عند الرشيد، وكان من جلسائه وندمائه المقربين، وكان يأنس به أكثر من أخيه الفضل، وكان والده يحيى يخشى عليه من تلك العلاقة، ويخاف سوء عاقبتها عليه وعلى آل برمك معه، فحاول أن يثني ابنه عن ذلك، فلم يفلح، وأفصح للرشيد عما يخامره من خوف، فلم يعبأ به الرشيد، بل ازداد تعلّقاً بجعفر، ونقل إليه الوزارة من أخيه الفضل كما أسلفنا، وولاّه شؤون مصر سنة ( 176 هـ )، حتى أصبح الوزير الأول للخلافة، والمتصرّف في كل شؤونها.

وكان الرشيد يعتمد عليه في الخطوب، ثقةً بحصافة رأيه، ورجاحة عقله، وحين هاجت الثورة على العباسيين ببلاد الشام سنة ( 180 هـ )، واستعرت نيرانها بين القبائل، ندب لها الرشيد لها جعفر على رأس حملة عسكرية، فأخمد الثورة، ونشر الأمن والاستقرار، فازداد تعلّق الرشيد به، وأسند إليه مهمّة الإشراف على ولده الأمين ليدبّر أمره، كما أسند الإشراف على ولده المأمون إلى الفضل بن يحيى.

وكان جعفر سياسياً أريباً، وأديباً بليغاً، حاضر البديهة، صاحب كرم وأريحية، وصفه ثُمامة بن أشرس أحد مفكري المعتزلة، فقال: " كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدوء والتمهّل، والجزالة والحلاوة، وإفهاماً يغنيه عن الإعادة، لا يتحبّس، ولا يتوقّف، ولا يتلجلج، ولا يتنحنح ... وكان من أعلم الناس بالخبر الباهر، والشعر النادر، والمثل السائر، والفصاحة التامة ".

وحسبه في هذا المجال أنه صاحب التوقيعات الشهيرة، كان يكتبها تعليقاً على ما يعرض عليه من شكاوى وتظلّمات، يضمّنها حلّ تلك المشكلات، حتى قيل: إنه وقّع ليلة واحدة بحضرة الرشيد أكثر من ألف توقيع، لم يخرج فيها على موجب الفقه والحق والإنصاف. وقد فتن الأدباء بتوقيعاته، وتتلمذوا على ما بها من بلاغة وبيان. ويضاف إلى هذا ما قدّمه جعفر للحياة الأدبية، وما بذله من تشجيع للأدباء والشعراء، وما أسهم به من المجالس والندوات التي كان يحضرها العلماء والأدباء، وتدار فيها المحاورات والمناظرات، ويُنشد فيها الشعر. 

نكبة البرامكة

 قال يحيى بن خالد ذات مرة: " لا أرحام بين الملوك وبين أحد ".

وكأنه كان يتنـبّأ بما يمكن أن يحدث لأسرته التي ظلت في السلطة سبع عشرة سنة، ومرّ بنا أنه كان شديد القلق على ما بين الرشيد وابنه جعفر من العلاقة الحميمة، وأنه حاول جاهداً أن يجعل تلك العلاقة طبيعية فلم يفلح.

وأخيراً وقعت الواقعة في ليلة ظلماء، وأصبح الناس وإذا جعفر مقتول، رُفع رأسه على الجسر الأوسط ببغداد، وشُطر جسده نصفين؛ رُفع نصفٌ على الجسر الأعلى، ونصفٌ على الجسر الأسفل، وإذا يحيى بن خالد وولده الفضل في أعماق السجن، وباتت كل دورهم وقصورهم وأموالهم وعقاراتهم  مصادرة من قبل الدولة.

وحدث كل ذلك بأمر صديقهم الحميم الخليفة الرشيد.

 فلم كان ذلك ؟!

ها هنا تختلف الروايات ...

أما أبعدها عن التصديق فهي تلك الرواية التي تذكر أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عبّاسة بنت المهدي، وكان يُحضرهما إذا جلس للشراب، وقال لجعفر: أزوّجكها ليحلّ لك النظر إليها إذا أحضرتُها مجلسي، وطلب إليه ألا يمسها، ولا يكون ما بينهما ما بين الرجل وزوجه، لكن جعفر وعبّاسة تزوّجا سراً، وولدت عبّاسة غلاماً، فخافت على نفسها من الرشيد، فأرسلت بالغلام إلى مكة مع حواضن له. لكن إحدى جواري عبّاسة نقلت الخبر إلى الرشيد، فغضب لذلك، وكانت النكبة.

ولا يصدق المرء أن يقوم الخليفة الرشيد، الذي يغزو عاماً ويحج عاماً، بهذا التصرّف الخارج على العقيدة والعرف، فيجمع على الشراب بين أخته ورجل غريب.

وأما أقرب الروايات إلى التصديق فهي تلك التي ذكرها أبو محمد اليزيدي- وكان من أعلم الناس بأخبار البرامكة- ونقلها الطبري في تاريخه، فقد أرجع اليزيدي سبب قتل جعفر ونكبة البرامكة إلى مسألة يحيى بن عبد الله العلوي، فقد مرّ بنا أنه ثار على الرشيد في بلاد الديلم، فندب له الرشيد الفضل بن يحيى، فكاتبه، واستأمنه بكتاب من الرشيد نفسه، وقدم به إلى بغداد، فدفعه الرشيد إلى جعفر فحبسه.

ثم دعا جعفر بيحيى العلوي في ليلة من الليالي، فسأله عن شيء من أمره، فقال يحيى العلوي: " اتق الله في أمري، ولا تتعرّض أن يكون خصمك غداً محـمد صلى الله عليه وسلم، فوالله ما أحدثت حدثاً، ولا أوتيت محدثاً ". فرقّ عليه جعفر، وسمح له بالذهاب حيث يشاء من بلاد الله، وأرسل معه من يبلغه مأمنه، وكان جواسيس الفضل بن الربيع- منافس البرامكة- لجعفر بالمرصاد، فنقلوا الخبر إلى الرشيد، وعندما تأكد الخليفة من ذلك، فتك بجعفر، ونكب البرامكة.

أجل ذلكم هو الخبر الذي يقبله المنطق، ومع ذلك لا نعتقد أن موقف جعفر من الثائر العلوي كان السبب الوحيد لنكبة البرامكة، وإنما كانت- فيما يبدو لنا- القـشّة التي قصمت ظهر البعير، وثمة عوامل اجتمعت وتضافرت لإيصال كل من الرشيد والبرامكة إلى تلك النهاية غير السعيدة.

 هناك عامل شخصي يتمثل في الرشيد نفسه، فالمؤرخون يذكرون أنه صار خليفة بفضل البرامكة، وهذا ما أقرّ به الرشيد نفسه كما مر، وكافأهم على ذلك بأن ترك أمور الدولة بين أيديهم، ومنحهم سلطات واسعة جداً للتصرف في شؤون الحكم، ونتيجة لذلك، وبمرور الأعوام، وجد نفسه على هامش الحياة السياسية والاجتماعية، فالبرامكة هم الوجوه وهم أهل العقد والحل، وما كان لخليفة مثله أن يقبل باستمرار ذاك الوضع، ولعل الرشيد بات يخاف على نفسه من نفوذ البرامكة، أو هكذا أوحي إليه، ورأى أن يتغدّى بهم قبل أن يتعشّوا هم به، وهذا ما سبق للسفاح أن فعله بأبي سلمة الخلال، وما فعله أبو جعفر المنصور بكل من عمه عبد الله بن علي، وبقائده أبي مسلم الخراساني.

وفي الوقت نفسه كان ثمة تياران مناهضان للبرامكة، أولهما عربي، ومن رجاله الأصمعي ( صنيع البرامكة أنفسهم )، وقد رأى هؤلاء أن البرامكة- ممثلي الثقافة الفارسية-  استأثروا بالسلطة، وزحزحوا العنصر العربي إلى المرتبة الثانية. والتيار الثاني فارسي يمثله الفضل بن الربيع أحد وزراء العباسيين، والمنافس الأول للبرامكة من الفرس.

وقد سعى التياران بكل ما أوتيا من دهاء للنيل من نفوذ البرامكة، وتغيير رأي الرشيد فيهم، وساعدهم في ذاك خروج جعفر على آراء والده يحيى السديدة، فانتهى الأمر به إلى القتل، ومات كل من والده يحيى وأخيه الفضل في السجن.

وهكذا كانت نهاية البرامكة التراجيدية.

وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة.  

                   د. أحمد الخليل 15/10/2005                    dralkhalil@hotmail.com

 

=======================================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(الحلقة الأولى)

الصحابي جابان الكردي

(رضي الله عنه).

 

1- شيء من التاريخ.

كي نفهم التاريخ على حقيقته لا بد أن نعرف الجغرافيا أولاً.

ولعل من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على الخريطة السياسية لغربي آسيا، سواء أكان ذلك قبل الميلاد، أم قبل الإسلام، فقد كان العصر بشكل عام عصر الإمبراطوريات، واستطاع بنو ساسان الفرس تأسيس إمبراطورية واسعة الأرجاء في بداية القرن الثالث الميلادي، وامتدت تلك الإمبراطورية من أفغانستان الحالية شرقاً إلى تخوم شبه الجزيرة العربية غرباً، بل كانت مناطق نفوذها تتوسّع في مواجهة الإمبراطورية البيزنطية (الرومية)، فتسيطر أحياناً على بعض مناطق آسيا الصغرى (تركيا حالياً) وعلى بلاد الشام، ومصر، واليمن، وبعض الأطراف الشرقية من شبه الجزيرة العربية.

وهكذا كان الكرد قبيل ظهور الدعوة الإسلامية تابعين للإمبراطورية الفارسية، وكذلك كان العرب الذين استقروا حينذاك في جنوبي العراق، وأسسوا إمارة (الحِيرة) بقيادة المناذرة، أو الذين كانوا يقيمون في السواحل الشرقية من الخليج، ويقتضي منطق الواقع أن تنشأ علاقات، من نوع ما وبدرجة ما، بين هذين الشعبين (العرب والكرد) على صعيد الأفراد، كما هو شأن أبناء الشعوب التي عاشت مدداً طويلة في إمبراطورية واحدة.

والحقيقة أننا لم نجد إلى الآن وثائق تاريخية عن تفاصيل العلاقة بين الكرد والعرب قبيل الإسلام، أو مع بدء ظهور الدعوة الإسلامية، لكن وجود صحابي كردي هو (جابان) بين صحابة الرسول محمد عليه السلام دليل قوي على وجود نوع ما من العلاقات بين الشعبين قبيل الإسلام بوقت قريب، أو مع عهد بدء انتشار الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية.

فمن هو الصحابي جابان؟

2- التابعي ميمون الكردي.

الحق أن المعلومات المتعلقة بحياة الصحابي جابان قليلة، بل قليلة جداً، ولا تتحدث عنه المصادر التراثية- ولا سيما كتب التراجم- إلا بأسطر قليلة، لكن ما وصلنا من معلومات حول ابنه التابعي (ميمون) هي التي تنير لنا الطريق إلى حقيقة ذلك الرجل، فالكتب الخاصة برجال الحديث النبوي تذكر تابعيًا اسمه ميمون الكردي، وجاء في كتاب (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) للحافظ الذهبي أن كنيته أبو بَصِير، وقد ذكر كل من الحافظ المِزّي والحافظ الذهبي  تابعيًا آخر اسمه ميمون بن جابان، وكنيته أبو الحَكَم، روى عن أبي رافع الصائغ، عن أبي هريرة مرفوعًا: "الجراد من صيد البحر".

وقد روى ميمون الكردي عن أبي عثمان النَّهْدي، وعن أبيه، عن النبي محمد عليه السلام، وروى عنه جماعة منهم الزاهد الشهير مالك بن دِينار، وعدّه أبو داود من الثقات، وقال أحمد بن حنبل في مسنده: حدّثنا يزيد، حدّثنا دَيْلم، حدّثنا ميمون الكردي، عن أبي عثمان؛ سمع عمرَ يخطب، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: " إن أخوفَ ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان ".

وقال اليماني صاحب (الأنوار الكاشفة) عن ميمون الكردي:

" لم يُعزَ ولم أعثر عليه، ووالد ميمـون الكردي لا يكاد يُعرف. وقد ذُكر في أسد الغابة والإصابة باسم (جابان)، ولم يذكروا له شيئاً. وسأل مالكُ بن دينار ميمونَ الكردي أن حدّثْ عن أبيه الذي أدرك النبي وسمع منه، فقال: كان أبي لا يحدّثنا عن النبي مخافة أن يزيد أم ينقص".

ولم تُذكر السنة التي توفّي فيها التابعي ميمون الكردي، لكن المصادر تشير إلى أن مالك بن دينار الذي روى عنه عاش في البصرة، وتوفّي سنة (123، أو 127، أو 130 هـ)، وإذا أخذنا بالحسبان أن متوسط عمر كل جيل يتراوح بين (35 – 40) سنة ، فذلك يعني أن ميمون الكردي كان على الغالب حيًا في العقد الأخير من القرن الأول الهجري.

3- معلومات حول جابان.

ومهما يكن فإن ما يهمّنا في الدرجة الأولى هو جابان والد ميمون، وقد جاء في (أسد الغابة) لابن الأثير، وفي (تجريد أسماء الصحابة) للحافظ الذهبي، اسم صحابي يدعى جابان أبو ميمون، سمع من النبي محمد عليه السلام حديثًا يفيد أن أيّ رجل تزوّج امرأة وهو ينوي ألا يعطيها الصداق لقي الله عز وجل وهو زان. أما في (الإصابة في تمييز الصحابة) لابن حَجَر العَسْقلاني فجاء الخبر عنه كما يأتي:

" جابان والد ميمون: روى ابن مَنْـده، من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، عن أبي خالد: سمعت ميمون بن جابان الصردي، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، حتى بلغ عشرًا، يقول: من تزوّج امرأة وهو ينوي ألا يعطيها الصداق، لقي الله وهو زانٍ ".

ولم يذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان) مكانًا أو بلداً أو مدينة باسم (صرد)، ولم ترد النسبة إلى هذا الاسم في كتاب (الأنساب) للسَّمْعاني (ت 562 هـ)، ولا في كتاب (اللُّباب في تهذيب الأنساب) لابن الأثير عز الدين (ت 630 هـ)، لكن ورد في كتاب (معجم البلدان) اسم (سَرْدَرُوذ)، وهي من قرى همذان، وقد يكون النسبة (صردي) محوّرة من (سردي) نسبة إلى (سردروذ)، ومثل هذا كثير في العربية. وإذا صحّ ذلك فالأرجح أن جابان الصردي هو والد ميمون الكردي، لأن همذان تقع في إقليم الجبال، وهي من بلاد الكرد، بل هي نفسها (أَكْبَتانا) العاصمة القديمة للميديين (أجداد الكرد) قبل سنة (550 ق.م).

وجاء في كتاب (خلاصة تاريخ الكرد وكردستان) للمؤرخ محمد أمين زكي، نقلاً عن العلامة الآلوسي في تفسيره الشهير (روح المعاني) أن جابان كردي، وروى حديثاً نبوياً أو أكثر يدور حول النكاح.

4- نتائج وحقائق.

وتقودنا هذه الأخبار جميعها إلى الحقائق الآتية:

-  أولها أن جابان كردي، باعتبار أن المصادر نصّت على كردية ابنه ميمون، ومن المحال أن يكون الابن كردياً ويكون الأب من قومية أخرى.

-   وثانيها أن جابان كان من الصحابة، فقد لقي النبي محمداً عليه السلام، وسمع منه، وروى عنه، وكان الرجل شديد الورع، إلى درجة أنه كان غير متحمّس لرواية الأحاديث عن النبي محمد عليه السلام، مخافة الزيادة أو النقص، ومعروف أن بعض  الصحابة كانوا يحجمون عن رواية الأحاديث عن النبي محمد عليه السلام خشية السقوط في خلل عند الرواية، وأن بعض سهام النقد وُجّهت، في عصر صدر الإسلام، إلى الصحابي أبي هريرة، لأنه كان يكثر من رواية الأحاديث.

-  وثالثها أن سماع جابان من النبي محمد عليه السلام لم يكن مرات قليلة، بل كان متكررًا؛ أي أن لقاءه بالنبي لم يكن لقاء عابراً، وإنما كان يلتقيه مرارًا عديدة، وإلا فلماذا يطالب الناس ابنه ميمونًا بأن يروي لهم ما سمعه عن أبيه، عن النبي محمد عليه السلام؟!

-  ورابعها أن العرب في أواخر العصر الجاهلي، ومع ظهور الإسلام، لم يكونوا يجهلون الكرد، إنهم كانوا يعرفون أن الكرد شعب قائم برأسه، وكانوا يعرفونهم بهذا الاسم تحديداً، ويميّزون بينهم وبين الفرس والروم والترك والأرمن، رغم تبعية الكرد للدولة الفارسية حينذاك، ولذلك لم يُقولوا: (ميمون الفارسي) مثلاً، كما قالوا عن الصحابي الشهير (سلمان الفارسي)، والصحابي (بلال الحبشي)، بل قالوا: ميمون الكردي.

5- تساؤلات واحتمالات.

وبعد هذا يبقى ثمة تساؤلات مهمة:

-   أولها: متى قدم جابان إلى منطقة الحجاز؟ هل وفد إليها بنفسه؟ أم أن أسرته كانت قد وفدت قبل الإسلام بفترة طويلة؟!

-   وثانيها: أين كان جابان يقيم تحديداً؟ هل كان من سكان مكة، أم من سكان يثرب، أم من سكان الطائف؟! فهذه هي أشهر المدن في الحجاز حينذاك.

-       وثالثها: ما الذي جعل جابان ينتقل من بلاد الكرد في الشمال الشرقي إلى الحجاز في أعماق بلاد العرب؟!

ها هنا لا تسعفنا المصادر بشيء.

وليس لنا إلا نحدس ونظن ونرجّح.

لكن ليس بعيداً عن منطق التاريخ، وليس خارج التحليل الموضوعي.

ولعل جابان كان من المقيمين في مكة، فهاجر إلى المدينة بعد إسلامه  مع من هاجر من المستضعفين؛ إذ المعروف أن جاليات من الفرس والروم والصابئة والأحباش كانت تقيم في مكة، لأغراض تجارية أو تبشيرية أو سياسية، هذا إضافة إلى عدد كبير من الأرقّاء والموالي المختلفي الجنسيات، وقد يكون جابان أحد أفراد تلك الجاليات، أو أحد أولئك الأرقاء؛ على أن نأخذ بالاعتبار أن الكرد كانوا حينذاك معدودين في التبعية الفارسية سياسيًا وثقافيًا.

ولعل جابان كان مقيمًا أصلاً في مدينة يثرب (المدينة المنوّرة)، وهناك التقى الرسول محمدًا عليه السلام بعد الهجرة.

ولعله كان من الجاليات الأعجمية (غير العربية) المقيمة في الطائف، وسمع بظهور الدعوة الإسلامية، فالتحق بها في مكة أو في المدينة المنوّرة.

هذا عن المكان الذي كان يقيم فيه جابان.

ولكن كيف وصل جابان إلى الحجاز؟!

6- احتمالات أخرى.

حقاً.. أمامنا ها هنا أيضاً عدد من الاحتمالات.

فقد يكون جابان ممن وقعوا في الأسر خلال الحروب الفارسية – البيزنطية الكثيرة، ثم بيع في أسواق النخاسة، وانتقل خلال ذلك من بلد إلى آخر، وانتهى به الأمر إلى مكة أو الطائف أو يثرب أو غيرها من المراكز التجارية، ولا ننس أن مكة ويثرب كانتا مركزين تجاريين هامين بين العراق والشام وبين اليمن (بوّابة العرب على إفريقيا وجنوب آسيا).

وقد يكون جابان من العاملين في التجارة حينذاك، وكان يتولّى بعض الشؤون التجارية في مكة أو المدينة أو الطائف، أو غيرها، شأنه في ذلك شأن كثير من الفرس والروم والأحباش وغيرهم، وسمع بالدعوة الإسلامية، فانضم إلى صفوفها.

وقد يكون جابان من الكرد الناقمين على الحكم الساساني الفارسي، ومن الثائرين في وجهها، واللاجئين إلى أعماق شبه الجزيرة العربية، هرباً بنفسه من البطش الساساني . وقد يكون من المثقفين والمتنوّرين الذين كانت الدولة الساسانية توفدهم إلى المراكز الحضرية العربية، بغرض التبشير للثقافة الفارسية وللدين الزردشتي؛ العقيدة التي كانت تتخذها الدولة الساسانية ديناًرسمياً.

- - - - -

ومهما يكن فإن جابان لم يكن حديث عهد بالإقامة في الحجاز، وإلا فكيف أجاد اللغة العربية، إلى درجة أنه كان يفهم بدقة ما يسمعه من الرسول محمد عليه السلام، وكان قادرًا على توصيله إلى الآخرين بدقة وبلسان عربي فصيح.

وإن الجزء الأعظم من صحبة جابان للنبي محمد عليه السلام كان بعد الهجرة، فالأحاديث التي رواها تتعلق بقضايا التشريع التي تنظّم شؤون المجتمع، والمشهور أن النبي كان منشغلاً في مكة (قبل الهجرة) بأمور الدعوة، ومقارعة المناوئين له على الصعيد الإيديولوجي (العَقَدي)، وانصرف بعد الهجرة إلى تبيان القضايا التشريعية التنظيمية وترسيخها.

هذا ما استطعنا أن نعرفه حول الصحابي الكردي جابان رضي الله عنه.

وحبذا أن يوافينا القراء الكرام بمعلومات إضافية يعرفونها في هذا المجال.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية.  

                       د. أحمد الخليل        dralkhalil@hotmail.com

 

=============

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

(مدخل)

التواريخ مقدّسات.

- 1 -

في شرقنا هذا كثيراً ما نهتم بالتاريخ.

وقليلاً ما نقرأه قراءة رصينة وحكيمة.

وقلّما نعرضه لأجيالنا عرضاً موضوعياً أميناً.

إن النوايا المبيَّتة تسطو على تواريخ شعوبنا بدهاء.

فتزيح ما هو حقيقي ومشترك وجامع وإستراتيجي.

وتُحلّ محلّه ما هو مزيَّف وأناني ومشتِّت ومرحلي.

ولا تكون النتيجة إلا مرارات وخلافات وخصومات.

- 2 -

التواريخ ليست خياماً نقتلعها ساعة نشاء، ونرحل بها بعيداً.

التواريخ ليست نزوات، ولا هي عنعنات تذروها الرياح.

التواريخ جغرافيا تركت بصماتها على جباهنا وفي مآقينا.

التواريخ وهج خلايانا، وعبق أنفاسنا، وخفقات قلوبنا.

التواريخ ذاكرات وذكريات، إضاءات وإشراقات.

التواريخ جينات وهويّات، وتجسّدات وتمثّلات.

ولنا أن نلعب بما نشاء، ونلغو كما نشاء، ونهفو كما نشاء.

إلا تواريخ الشعوب.. فإنها من المقدسات.

- 3 -

العرب والفرس والترك والكرد والأرمن والسريان والكلدان والآشوريون.

شعوب هذا الشرق العريق منذ آلاف السنين.. وما زالت.

هنا في هذا الشرق تجاوروا، وتخاصموا، في فترات من الدهر.

لكنهم، على المدى الأرحب، كانوا قد تآلفوا، وتفاعلوا، وتكاملوا.

إنهم تبادلوا الأدوار في شرقنا هذا شعباً إثر شعب.

تارة كانت القيادة والريادة لهذا، وتارة كانت لذاك.

ومن العدل أن يُحفظ لكل تاريخ مواقعه.

وأن تُنسب إلى كل شعب مآثره.

- 4 -

شعوب هذا الشرق ينبغي أن تظل متآلفة متفاعلة متكاملة.

وتلك هي مسؤوليتنا نحن مثقّفي هذه الشعوب.

بلى.. إن مسؤوليتنا نحن- المثقّفين- كبيرة وخطيرة.

ومن النبل أن نتحمّل مسؤولياتنا بوعي وبحكمة.

علينا أن نعيد قراءة تواريخنا بعمق.

ونعيد سردها على الأجيال بوضوح وصدق.

فنعطي كل ذي حق حقه، بلا ضرر ولا ضِرار.

ونرسم لكلٍ ملامحه بلا تقزيم ولا تفخيم ولا تضخيم.

لتكن المعلومة الصائبة هي الهدف.

فبقدر ما تكون المعلومة صائبة تكون المعرفة دقيقة.

وبقدر ما تكون المعرفة دقيقة تكون الرؤية رحيبة وعميقة.

وبقدر ما تكون الرؤية رحيبة وعميقة تكون العلاقات نبيلة وسليمة.

وبقدر ما تكون العلاقات نبيلة وسليمة يكون المستقبل مشرقاً.

_  _  _

وما حلقات هذه السلسلة إلا خطوة في ذلك الدرب الطويل.

 د. أحمد الخليل                   dralkhalil@hotmail.com

 

==================================

 

العودة إلى الصفحة الرئيسية