مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة الثانية والأربعون )

 دياكو الميدي

 ( توفي حوالي سنة 675 أو 655 ق.م)

جوهر التاريخ

يقوم التاريخ البشري على ركنين هما: الإنسان، والمكان.

وهذا يعني أنه لا يمكن فهم التاريخ فهماً واقعياً دقيقاً إلا بفهم العلاقة بين الإنسان والمكان، وللتأكد من هذا الأمر لسنا بحاجة إلى استعراض النظريات، ولا إلى الغوص في الفلسفات، وإنما يكفي أن نحذف الإنسان وما قام به من أحداث، ونحذف المكان (الجغرافيا) الذي تفاعلت فيه تلك الأحداث، ثم نتساءل: ماذا يبقى من التاريخ البشري؟ لا شيء على الإطلاق.

وكانت مشكلة الإنسان الكبرى- وما زالت- هي الاحتفاظ بـ (البقاء) على النحو الأفضل، ولا مجال للاحتفاظ بـ (البقاء) على النحو الأفضل إلا بالسيطرة على (المكان) الأفضل؛ المكان الذي تتوافر فيه مقوّمات الحياة بشكل أفضل، ويتيح الوصول إليها على نحو أسهل، وعلى ضوء هذه الحقيقة لك أن تفسر أحداث التاريخ البشري قديمها وحديثها، صغيرها وكبيرها، ولك أيضاً أن تفسر على ضوئها كل ما في تاريخنا – نحن البشر- من نشاطات حضارية، ومن أديان وفلسفات، وعلوم واختراعات، ومن علاقات وسياسات، ومن حروب واحتلالات وغير ذلك.

وكوكب الأرض هو بيت البشرية، إليه تنتمي وفيه تنتهي، ولم تكن الأرض في غابر الأزمان على النحو الذي هي عليه الآن، وإنما مرت بأحوال مناخية دورية سميت (العصور الجليدية)، فكان المناخ الجليدي يبدأ بالظهور، ثم يتنامى ويهيمن على المكان، ثم يبدأ الدفء بالظهور، ويشرع المناخ الجليدي بالانحسار نحو الشمال والجنوب، وفي كل عصر جليدي كانت الكائنات أمام أحد مصيرين: أما التي امتلكت القدرة على التأقلم مع التبدلات المناخية فاحتفظت بـ (البقاء)، وأما التي افتقرت إلى تلك القدرة فكان نصيبها (الفناء)، وانقراض الديناصورات خير شاهد على ذلك.

ولم تكن التبدلات المناخية الدورية وحدها هي المؤثرة في مصير الكائنات، وإنما كان للأزمات المناخية الطارئة أيضاً تأثيرها الشديد في هذا المجال، ومنها الزلازل والبراكين والأوبئة والتصحر، وكنا نحن البشر من الكائنات القليلة التي امتلكت خاصية التأقلم مع الحالين؛ أقصد التبدلات المناخية الدورية، والأزمات المناخية الطارئة، وكانت عملية الهجرة (الهروب من المكان الطارد، واللجوء إلى المكان الواعد) هي التي توصلنا معظم الأحيان إلى بر الأمان، وتتيح لنا الاحتفاظ بمشروع (البقاء).

هجرات الآريين

وقد كتب ول ديورانت ذات مرة:

" التاريخ كتابٌ يجب أن يبدأه الإنسان من الوسط ".

وهذه هي الحقيقة في التعامل مع التاريخ، إذ لا توجد على الدوام وثائق مؤكّدة حول بداية تاريخ جماعة بشرية، سواء أكانت قبيلة أم شعباً أم عرقاً، وإنما ثمة ظنون وترجيحات، وكثيراً ما يختلف المختصون في تلك الظنون والترجيحات، والأرجح أن الجنس البشري ظهر منذ حوالي مليون سنة، وقد تجعل الاكتشافات العلمية هذا الرقم يتغيّر صعوداً أو هبوطاً، ولا مشكلة في ذلك، فهو لا يفقدنا حق الوقوف عند السؤال الآتي: كم من السلالات البشرية ظلت محتفظة، على الدوام، بالمكان الذي ظهرت فيه أول مرة؟ إنها تكاد تكون محدودة جداً، هذا إذا لم تكن معدومة، فقد كانت السلالات مضطرة إلى الانزياح عبر المكان (الجغرافيا)، ومع تكاثر البشر في نطاق جغرافي معيّن أخذ الانزياح صورة (الانتشار)، ومع تنافس المجموعات البشرية على (المكان) الأفضل، أخذ الانزياح صورة (الاحتلال).

وقسّم المؤرخون شعوب العالم إلى مجموعات عرقية كبرى، أهمها: الشعوب الهندو- أوربية، والشعوب السامية، والشعوب الحامية، والشعوب الأورال ألطائية، وشعوب جنوب شرقي آسيا، وشعب الإسكيمو. وذكروا أن الشعوب الهندو-أوربية تضم الأوربيين والأمريكيين، والسلاف، والأرمن، والفرس، والكرد، وآخرين، ويطلقون على هذه المجموعة اسم (الآريين) أيضاً، وجاء في كتاب (انتصـار الحضارة، ص 245 - 246) للمؤرخ جيمس هنري برستد، أن مصطلح (الآريين) يطلق على الفرع الشرقي من الشعوب الهندو-أوربية، وهم: الأرمن، والفرس، والميد (من أجداد الكرد)، ومن استقر في أفغانستان والهنـد. أما الأوربيـون والأمريكيون فهم من الفرع الغربي؛ أي أن الآريين هم أبناء عمومة الأوربيين، وليسوا أجدادهم.  

ويتفق معظم المتخصصين في التاريخ القديم، وفي علم السلالات، أن وسط آسيا، وتحديداً شرقي بحر قزوين، كان المهد الأصلي للشعوب الآرية، وذكر ول ديورانت (قصة الحضارة، مجلد1، جزء2، ص 399)، أن (الزند أفستا)، وهو الكتاب الزردشتي المقدس، يأتي على ذكر هذا الموطن القديم، " ويصفه بأنه جنة من الجنان ". وقد اكتشف الأمير الروسي بيير كروبوتكيين Pierre Kropotkine في سهول وسط آسيا غابات واسعة يابسة، واستدل منها على أن تلك المنطقة عانت من أزمة مناخية حادة خلال الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي أن المكان أصبح معادياً وطارداً، ولم يعد يهيّئ إمكانية البقاء لسكانه على النحو الأفضل، وطبعاً كان الحل هو الانزياح إلى المكان الواعد، فتوجّه بعض الآريين جنوباً نحو شمالي شبه القارة الهندية، وتوجّه آخرون نحو غربي آسيا، وتوجّه فريق ثالث شمالاً وغرباً نحو أوربا الشرقية والغربية.

والأرجح أن هجرات تلك القبائل بدأت من أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، ودليلنا على ذلك أن السومريين، وهم شعب آري، أقاموا حضارة مزدهرة في جنوبي بلاد الرافدين (جنوبي العراق حالياً) حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأن الأكاديين الساميين القادمين من شبه الجزيرة العربية غلبوهم على أمرهم حوالي سنة (2350 ق.م)، ولا ريب أن هجرة السومريين من شرقي بحر قزوين، واستقرارهم في بلاد الرافدين، كان على مراحل، واستغرق وقتاً ليس بالقصير.

تنافس آري - سامي

وقد توالت هجرات بعض الفروع الآرية، واستقرت في غربي الهضبة الآريانية وجنوبها الغربي، وتحديداً في جبـال زاغروس والمناطق المتاخمة لها، وظهرت أخبـارها في أزمنة متواكبة تارة، وفي أزمنـة متلاحقة أحيـاناً، وكان ذلك مرهوناً بالمرحلة التاريخـية التي كان يلمع فيها اسم كل فرع سياسياً، فتشير إليه المدوَّنات السومرية أو الأكادية أو البابلية أو الآشورية أو الحثية أو المصرية، وتمازجت تلك الفروع الآرية عبر القرون في مختلف مناطق كردستان الحالية، ولا سيما في الشرق والشمال والجنوب، ثم توحّدت سياسياً وحضارياً تحت راية الفروع البارزة التي أسّست دولاً قوية؛ مثل اللولو، والگوتيين، والكاشيين، والميتانيين (الحوريين)، والسوباريين، والنايري، والأورارتو.

وفي عهود القنص والرعي كانت السهوب وسفوح الجبال هي (الجغرافيا) الأفضل لممارسة مشروع البقاء، لكن مع تزايد السكان، واكتشاف إمكانية إنبات البذور، والحصول منها على الغذاء، انتقلت البشرية إلى العهد الزراعي، وأصبحت السهول وأحواض الأنهار هي الأمكنة الصديقة الواعدة، ولذا أصبحت سهول جنوبي بلاد الرافدين- وهي متاخمة شرقاً لسفوح زاغروس، ومتاخمة غرباً وجنوباً لبلاد العرب- المكان الذي يستقطب الشعوب المجاورة، سواء أكانت شعوباً جبلية أم كانت شعوباً صحراوية، وكان السومريون أول شعب جبلي استقر هناك في الألف الثالث قبل الميلاد كما مرّ، وشيّد المدن، واخترع الكتابة، وسنّ القوانين (قانون أورنامو)، وأقام حضارة زراعية مزدهرة.

 ويتفق المؤرخون على أن السومريين آريون، وأن هذا الشعب انحدر إلى بلاد الرافدين من الشمال والشرق، أي من المنطقة التي كان الشعب الكردي يقيم فيها، وما زال مقيماً فيها، وقد تكون للسومريين صلة قرابة إثنية ما بالشعب الكردي؛ نظراً لانتمائهما إلى السلالة الآرية وإلى بقعة جغرافية مشتركة، ولما بين اللغتين السومرية والكردية من تشابه في بعض المفردات والصيغ، سواء أكان ذلك في المجال الميثولوجي، أم في مجال الحياة العادية، ومهما يكن فإن الدراسات الجادة كفيلة في المستقبل بالبتّ في هذا الموضوع. ولم يستطيع السومريون الاحتفاظ طويلاً بمكانهم الواعد (جنوبي بلاد الرافدين)، فقد نافسهم أقاربهم الآريون قادمين من الاتجاه نفسه الذي قدموا هم منه، وكان الگوتيون أول أولئك الآريين، ثم تلاهم الآخرون.

وكان شبه الجزيرة العربية قد تحوّل إلى صحراء منذ أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وأصبح مكاناً طارداً للبشر، فتوجه بعض سكانه الساميين شرقا وشمالاً نحو جنوبي بلاد الرافدين، حيث كان يقيم السومريون، وكان الأكاديون أول الساميين الذين احتلوا بلاد سومر، فحوالي عام (2300 ق.م) استولى أحد زعماء الأكاديين، وهو سرجون، على السلطة في سومر، وأسس السلالة الأكادية، ثم تلاهم أقاربهم البابليون، إذ سيطر حمورابي البابلي على بلاد ما بين النهرين حوالي سنة (1787 ق.م)، وأخضع سومر جنوباً وآشور شمالاً، وكان الآشوريون قد توافدوا من الشمال أو من الغرب، وثمة خلاف في أصلهم ما بين آري وسامي، ثم سيطر الآشوريون على الموقف في غربي آسيا من حوالي (1360 ق.م) إلى سنة (612 ق.م).

وجملة القول أن المناطق السهلية المتاخمة لجبال زاغروس شرقاً، ولبلاد العرب غرباً، كانت منطقة تنافس وصراع بين الشعوب الآرية والشعوب السامية، كما أنها كانت في الوقت نفسه ساحة تنافس داخلي بين فروع كل واحدة من السلالتين، ومع القرن الثامن قبل الميلاد انكشف الموقف في تلك المنطقة عن قوتين متنافستين: قوة آشورية إمبراطورية مهيمنة ذات ثقافة سامية، وقوة ميدية ناهضة ذات ثقافة آرية.

وكان قائد القوة الميدية هو دياكو.

وهو الذي قاد الميديين لمقاومة الإمبراطورية الآشورية.

فمن هو هذا الرجل؟ وماذا عن إنجازاته القيادية؟

الآشوريون والميديون

ميديا هي المنطقة التي استقرت فيها القبيلة الآرية الكبيرة (ماداي)، أو (مادي)  Madai، ويستفاد من الدراسات الدائرة حول الميديين أن قدومهم إلى كردستان، شرقاً وشمالاً وجنوباً، بدأ منذ حوالي سنة (1100 ق.م)، وكانوا يتألفون من اتحاد ستة بطون هي: Boussi, Paretaknoi, Strounate, Arizantoi Bodloi, Magoi، وكانت اللغة الميدية مشتركة بين بطون هذا الاتحاد القبلي، وذكر أرشاك سافراستيان في كتابه (الكرد وكردستان) أن گوتيوم نفسها سمّيت بعدئذ ميديا؛ وهذا يعني- حسب رأيه- أن ميديا هي امتداد جغرافي وتاريخي وثقافي لگوتيوم، وهذا ممكن جداً.

وفي ذلك العهد كان الآشوريون يشكّلون القوة الضاربة في غربي آسيا، ويعملون لتكوين إمبراطورية واسعة الأرجاء، فكان عليهم والحال هذه أن يسيطروا على جبال زاغروس، والمناطق المتاخمة لها، ولا ننس أن (طريق الحرير)، وهو من أهم طرق التجارة العالمية حينذاك، كان يمر بتلك المنطقة؛ وبعبارة أخرى كان على الآشوريين غزو بلاد ميديا، وفرض سيطرتهم عليها، وإلا فلن يكون في إمكانهم التواصل شرقاً مع آسيا الوسطى، ولا شمالاً مع المناطق المتاخمة للقوقاز، وهل ثمة إمبراطورية تقبل أن تكون مكتوفة اليدين؟

ثم إن أكثر ملوك آشور كانوا ذوي طموحات فتوحاتية كبيرة، وكانوا يتصفون بالعنف بل الشراسة في التعامل مع من يعارضهم ويعيق خططهم الإمبراطورية، وكانوا قد أعدّوا جيشاً قوياً، يمتاز بسرعة الحركة، وشدة الانضباط، إضافة إلى شدّة المراس، ويتصف بالرغبة العارمة في البطش والتدمير، ولا عجب في ذلك فالمثل يقول: " الناس على دين ملوكهم "، وأفلح ملوك آشور في إقامة إمبراطورية ضمت إيران وأذربيجان وأرمينيا وكردستان والعراق وسوريا وليديا (غربي تركيا)، بل امتدت في وقت من الأوقات إلى مصر جنوباً.

وحصل أول صدام بين الميـد والآشوريين سنة (837 ق.م) حسبما ذكر ديورانت، وتحديداً في عهد شلما نصر الثالث، فقد هاجم هذا الملك بلداً يسمّى بارسوَا في جبال كردستان، وفي ذلك الوقت كان سبعة وعشرون من الرؤساء- الملوك، يحكمون سبعاً وعشرين ولاية في ميديا، وكان الآشوريون في خصام دائم مع الميديين، وحقّقوا بعض الانتصارات عليهم، لكنهم عجزوا عن فرض سلطة فعلية عليهم، لقد حاربهم كل من شلما نصر الثالث (858 - 828 ق.م)، وشمشي حدد الخامس (821 - 810 ق.م)، وتيجلات بلاسر الثالث (747 - 728 ق.م)، وسرجون الثالث (722 - 705 ق.م)، كما حاربهم أسرحدون (689 - 668 ق.م).

على أن الميديين لم يرضخوا للسلطة الميدية بشكل مطلق، وكانوا يستغلّون كل فرصة ممكنة للخلاص من سيطرة الإمبراطـورية الآشورية، وقام الملوك الآشوريون من جانبهم بشنّ الحمـلات المتتـالية على مناطق الميديين ومعاقلهم، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر، ودمّروا مدنهم وقراهم، وأجبروهم أحياناً على الهجرة إلى مناطق نائية، ومثال ذلك أن تجـلات بلاسر الثالث (747 - 728  ق.م )، جلب خمسة وستين ألف أسير ميدي، وأسكنهم في منطقة ديالي (في العراق حالياً)، وقام بتهجير جماعات من شعب لولو (في جبال زاغروس)، وجماعات من شعب نايري (قرب بحيرة وان)، إلى سوريا، وأسكنهم في المنطقة الواقعة بين مدينة (حـماه)  والبحر الأبيض المتوسط.

دياكو مؤسساً

ثمة اتفاق بين المؤرخين على سير الأحداث المتعلقة بالميديين، لكن هناك خلاف واضح في تحديد تواريخ تلك الأحداث، وهذه ظاهرة غريبة لا نجدها بهذه الحدّة حينما يكون الأمر متعلقاً بأحداث الآشوريين والأخمين مثلاً، وأحسب أن السبب في ذلك هو التغييب المتعمَّد الذي قام به الفرس الأخمين إزاء كل ما يتعلق بالشأن الميدي، فبعد أن سيطروا على الدولة الميدية، وورثوا الإنجازات الميدية على الصعيد السياسي والحضاري العام، ونسبوها إلى أنفسهم، كان يهمهم جداً أن يزيلوا عن الوجود كل ذكر للميد؛ الأمر الذي أوقع المؤرخين في الاضطراب.

وما يهمنا في الدرجة الأولى هو سير الأحداث وتسلسلها.

فقد أدرك الميديون أنهم لن يستطيعوا الوقوف في وجه الإمبراطورية الآشورية ما داموا متفرقين، وأن وحدة الصف وتوحيد الجهود هما السبيل إلى الخلاص، وقد تأكد عبر التاريخ إن إرادة الشعوب في الحرية تفرز القائد الذي يجسّد تلك الإرادة، وهذا ما أسفرت عنه إرادة الشعب الميدي في التحرر، فقد برز من بينهم قائد ذكي وجسور يدعى دياكو، ويسمى ديوكو أيضاً، ويسمى في بعض المصـادر اليونانية ديوسيس، وحكم دياكو ميديا حوالي ثلاثة وخمسين عاماً، بين سنتي (727 – 675 ق.م)، أو بين سنتي (708 – 655 ق.م).

وبخصوص اسم (دياكو، ديوكو، ديوسيس) ينبغي أن نأخذ في الحسبان أن اللاحقة (س) خاصة بأسماء عند اليونان، وأن نقل الأسماء من لغة إلى أخرى يُدخل تغييراً على صوتياتها، وأن تعريب الأسماء يُحدث تغييراً في الحروف، وعلى سبيل المثال لا يوجد في العربية حروف: ژ j ، چ ç، پ p، گ g ، ولكتابة كلمة ژِين (حياة) الكردية مثلاً بالحرف العربي سنضطر أن نكتبها بصيغة (زِين)، وهكذا دواليك، لذا لا ندري ما هو معنى اسم (دياكو/ ديوكو) بدقة، لأننا لا نعرف ما هو لفظه الأصلي، على أنني أجد شبهاً لهذا الاسم في اسم مدينة (دُهُوك) الكردية في (إقليم كردستان – العراق)، وحبذا أن يتفضّل علينا اللغويون الكرد بما يزيل الغموض في هذا الميدان.

وتتمثل عبقرية الزعيم الميدي دياكو في الإنجازات الآتية:

·  انتقل دياكو بالقبائل الميدية من حالة الانتماء إلى (القبيلة) إلى حالة الانتماء إلى (الأمة)؛ إذ أفلح في إقامة تحالف اتحادي شبه فيديرالي بين القبائل الميدية، ويبدو أنه أسس ما يشبه قيادة جماعية تضم قادة القبائل، واختير لأن يكون القائد الأعلى باعتباره الأكثر نفوذاً بينهم، واستطاع بهذه الخطوة الذكية أن يتغلّب على واحدة من أكثر الخصائص الضاربة بجذورها في الشخصية الكردية، وكانت من أكثر العوامل في تمزيق الشعب الكردي داخلياً طوال التاريخ؛ أقصد خصيصة (سيكولوجيا الجبال)، وهي سيكولوجيا تتمحور حول العناد والتصلّب في الرأي، والاعتزاز الفردي والقبلي بشكل متطرف، ورفض الانصياع لقيادة عليا موحَّدة، ومعروف أن أمة لا تجتمع تحت قيادة واحدة لا يمكن أن تمتلك عوامل القوة والتقدّم والحياة الحرة المستقلة.   

·  اتخذ دياكو مدينـة إكباتانا عاصمة للتكوين السياسي الجديد، وسميت بعدئذ آمـدان، وسماها المؤرخون المسلمون (هَمَذان)، ومنها الأديب الشهير بديع الزمان الهمذاني، صاحب القصص الاجتماعية الطريفة والشهيرة باسم (مقامات الهمذاني)، وسماها الآشوريون (بيت دياكو)، ومعنى (إكباتانا) (ملتقى الطرق الكثيرة) أو (مجلس الاجتماع)، ولاحظوا الشبه الصوتي والدلالي الشديد بين لفظة (إكباتانا) والعبارة الكردية  é gi bi tené  ومن معانيها (الفريد، المتميّز، لا مثيل له، المستقل)، وكانت إكباتانا تقع في واد خصيب جميل المنظر، تسقيه المياه الذائبة من الثلوج التي تغطي قمم الجبال المجاورة. وأحسب أن اتخاذ عاصمة موحّدة لمملكة ميديا كانت خطوة هامة، تدل على نضوج الوعي السياسي عند هذا القائد، فالعاصمة ليست مجرد بيوت وأسواق ودوائر، إنها رمز إلى وحدة الأمة، ورمز إلى استقلاليتها.

·  بنى دياكو في العاصمة إكباتانا قصراً ملكياً فخماً، واتخذه مقراً ملكياً يشرف على المدينة، ويغطي ثلثي ميل مربع من الأرض، وفي هذه الخطوة دليل آخر على أن هذا الرجل كان مصراً على الانخلاع من الطابع القبلي البسيط الساذج، والارتقاء إلى ما يوحي بالتحضر ورفعة الشأن، وما كان ليستطيع بناء ذلك القصر الفخم لولا أن دولته الجديدة كانت تحظى بقدر معقول من الثراء، ولعله كان يؤكد من خلال تلك الأبهة أن الدولة الميدية لا تقل شأناً ومكانة عن الدول الكبرى في ذلك العصر، وأنه ليس زعيم قبيلة، كما يحلو لبعض من لا يطيق رؤية الكرد في هذا العالم أن يزعموا حتى في عصرنا هذا، وإنما هو زعيم لشعب، وقائد لأمة، وملك لمملكة.

·  تأكيداً لحرصه على الانتقال من نظام القبيلة إلى نظام الدولة وضع دياكو تشريعات وقوانين تنظّم العلاقة بين الرعية والسلطة، ويقول هيرودوت: إن ديوسيس هذا قد وصل إلى ما وصل إليه من القوة بما اشتهر به من العدالة، فلما أن بلغ ما بلغ طغى وتجبّر، وأصدر أوامر تقضي بألا يسمح لإنسان بالمثول بين يديه، بل عليه أن يعرض أمره على يد رسله، وكان يعدّ من سوء الأدب أن يضحك إنسان أو يبصق أمامه. وفسّر هيرودوت هذه المراسيم وأشباهها بأن دياكو كان يريد " أن يبدو لمن لا يرونه أنه من طبيعة غير طبيعتهم ". (انظر: ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، جزء 2، ص 400)، وكان من الممكن لهيرودوت أن ينظر إلى هذه المراسيم على أنها محاولة من دياكو للانتقال بشعبه من ثقافة (البداوة) والانفلات إلى ثقافة (الحضارة) والانضباط، وبناء أصول حضارية في التعامل بين الشعب والحاكم.

·  بنى دياكو جيشاً مهمته حماية الدولة الناشئة، والتصدّي لمن تحدّثه نفسه بالعدوان عليها، ولا ريب أنه أخذ بالاعتبار أنه يجاور الإمبراطورية الآشورية الشرسة، وأنه يدين بالتبعية لها، ولو كانت تبعية اسمية، تقتصر على دفع الإتاوات والهدايا المفروضة، ولا بد أنه حرص على أن يكون المقاتل الميدي في مستوى المقاتل الآشوري من حيث القوة البسالة والانضباط.

دياكو ثائراً

إذاً يمكننا القول بأن القائد الميدي كان يمتلك مشروعاً تحررياً متكاملاً، وكان يضع مشروعه ذلك موضع التطبيق خطوة خطوة، وعلى نحو متكامل، وكان يعمل، بصورة أساسية، لإحداث تغيير في الذهنية الميدية، ويكرّس ذلك التغيير عملياً بإحداث تغييرات جوهرية في هيكلية السلطة والإدارة والعلاقة بين السلطة والشعب، وبما أن هدفه الأكبر هو التحرر من الهيمنة الآشورية فلا بد من تجاوز (الذهنية القبلية) الكُوچَرية الارتجالية القابلة للوقوع في شَرَك (السذاجة) معظم الأحيان، والانتقال إلى تكوين (الذهنية القومية)؛ ذهنية (الأمة) مجسَّدة في شكل (الدولة).

ثم إن دياكو لم يكن قائداً ضيّق الأفق، إنه لم يضع العربة أمام الحصان كما يقول المثل الدارج، إنه كان يمتلك حسّاً قيادياً كافياً لأن يراعي مسألة (ترتيب الأولويات)، فيقدّم الأهم على المهم، ويقدّم ما هو أساسي وجوهري على ما هو ثانوي وكمالي، وينطلق من الداخل إلى الخارج، ويؤسس (القوة الذاتية) قبل البحث عن (القوة الخارجية)، أجل، بعد اتخاذ هذه الترتيبات الداخلية الهامة توجّه دياكو إلى النشاط على الصعيد الإقليمي، وقد مرّ أن الإمبراطورية الآشورية كانت تسيطر على رقعة جغرافيا شاسعة، تمتد من حدود أفغانستان إلى الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وإلى مصر ضمناً أحياناً، فكيف يمكن لدولة ناشئة، لم تتخلّص بعدُ بشكل نهائي من الثقافة القبلية، أن تقف لوحدها في مواجهة إمبراطورية شرسة، ذات جيش متمرس في الحروب، ولها إمكانية اقتصادية ضخمة؟

وفتّش دياكو عن حلفاء إقليميين، يقفون معه في وجه الهيمنة الآشورية، وتكون لهم مصلحة في ذلك، فوقع اختياره على دولة أورارتو، وكانت تقع على التخوم الشمالية لبلاد ميديا، وكانت تعاني من العسف والقهر والتدمير على أيدي ملوك آشور حيناً بعد آخر. وبعد أن تحالف دياكو مع دولة أورارتو قاد الثورة على الإمبراطورية الآشورية، وأعلن استقلال ميديا، لكن لم تسر الأمور كما شاء لها دياكو وقادة أورارتو، فإن الإمبراطورية الآشورية كانت ما تزال في أوج قوتها وغطرستها، وسرعان ما قاد الملك الآشوري سرجون الثالث جيشه إلى ميديا، فحطّم الحلف الميدي الأورارتي، وقضى على الثورة، وأسر دياكو سنة (715 ق.م)، ونفاه إلى مدينة حماه في سوريا مع أسرته وحاشيته الملكية، وبعد فترة من الوقت أفرج الآشوريون عن دياكو، فعاد إلى موطنه ميديا، ولا توجد أخبار عن نشاطه بعد الإفراج عنه، ولا ريب أنه اضطر إلى التبعية للسلطات الآشورية.

وكتب ديورانت (قصة الحضارة، المجلد1، جز2، ص 400) في هذا الصدد:

" واشتد ساعد الميديين في أيامه بفضل حياتهم الطبيعية والاقتصادية، وأصبحوا بتأثير عاداتهم وبيئتهم ذوي جلد وصبر على ضرورات الحروب، فكانوا بزعامته خطراً يهدد آشور، فأغارت هذه على بلاد ميديا مرة بعد مرة، وظنت أنها قد هزمتها هزيمة منكرة لا تجرؤ معها على مناوأتها، ولكنها وجدتها لا تملّ الكفاح لنيل حريتها ".

الثورة ثانية

يفهم مما ذكره جيمس هنري برستد وغيره أن الشعب الميدي لم يفقد كل مكانته بعد فشل ثورة دياكو، وإنما ظل قوياً في مواقعه الحصينة، بل إن الدولة الميدية كانت تعدّ سنة (650 ق.م) من الدول الكبرى في عالم ذلك العصر، مثل ميتانيا وأورارتو وعِيلام وهذا يعني أن الآشوريين لم يستطيعوا القضاء على الدولة الميدية الناشئة، وإنما أفلحوا في الحد من تهديدها لهم فقط.

وبعد دياكو تولّى الحكم ابنه فراورتيس Phraortes، ويقال له (خشاثريتا) khshathrita أيضاً، وقد حكم بين (674 - 653 ق.م)، أو بين (655 – 633 ق.م)، وامتاز هذا الزعيم بدرجة رفيعة من الحنكة، فاستطاع أن يوحّد القبائل الميدية من جديد، ويؤسس حكومة مستقلة في ميديا، ويُخضع لسلطانه بعض القبـائل الآريانية، وأهمها السميريون (الكيميريون) Cimmerians والسكيث Scythians،  كما أنه جعل القبائل الفارسية تابعة لميديا.

وقد بلغ هذا الزعيم الميدي مكانة مرموقة في عصره، حتى إن الملك الآشوري أسرحدون شرع يخطب ودّه، وبلغت الجرأة بهذا الزعيم أنه هاجم العاصمة الآشورية نينوى، لكن الغزاة السكيث- وكانوا قد تحالفوا مع الآشوريين-  هاجموه من الخلف، فباءت محاولته بالفشل، ولم يكتف السكيث بذلك، بل هاجموا ميديا بعد وفاة فراورتيس سنة (653 ق.م)، وبسطوا سيطرتهم عليها في الفترة بين عامي (653 - 625 ق.م)، على أن الشعب الميدي سرعان ما أنتج زعيما جديداً آخر، يقود مسيرته الكفاحية المستمرة، ويأخذ بيده إلى حيث الحرية والاستقلال.

وكان ذلك الزعيم هو كيخسرو.

وهو موضوع حلقتنا القادمة.

المراجع

1.  أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ترجمة الدكتور أحمد الخليل، دار هيرو للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.

2.    أنطون مورتكارت: تاريخ الشرق الأدنى القديم، تعريب توفيق سليمان، علي أبو عساف، قاسم طوير، 1950م.

3.    جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ترجمة أحمد فخري، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1955م.

4.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.

5.  سامي سعيد الأسعد، ورضا جواد الهاشمي: تاريخ الشرق الأدنى القديم، إيران والأناضول، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق.

6.    هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991م.

7.    هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

8.  ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973،  المجلد الأول، الجزء الثاني.

وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 15 – 9 -  2007

dralkhalil@hotmail.com

 

 

 ===========================

 

 

مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة الحادية والأربعون )

 محمد علي باشا: باني مصر الحديثة

 ( توفي سنة  1849 م )

كشّافات البحث

البحث عن أعلام الكرد ومشاهيرهم عبر التاريخ، والكتابة عنهم بما يوضّح الصورة ويشفي الغليل، ليس سهلاً، وهذا أمر يعلمه بدقة من ندب نفسه له، وإذا قلت: (مَن كابده) فلست بالمبالغ، وأسباب المكابدة عديدة، ولعل أبرزها أن الباحث لا يجد بين يديه مؤلفات ومصنّفات تأخذ بيده مباشرة إلى هذا العَلَم الكردي أو ذاك، وإنما عليه العودة إلى المكتبة الشرق أوسطية منذ أربعة آلاف عام، ويستعين أحياناً بما جاء عن تاريخ الشرق الأوسط في المكتبة العالمية، ويراجع مجلّدات كثيرة من كتب التراجم والتاريخ والجغرافيا والعلوم والأدب واللغة والدين والسياسة، ليظفر من كل مجلد ببعض مشاهير الكرد، وأحياناً كثيرة تكون الحصيلة لا شيء.

ثم لا يكفي أن تنفق الوقت في صحبة المجلدات وتقليب الصفحات، وترهق العين بالتدقيق في العناوين والعبارات، وإنما لا بد أن يكون لك منهج صارم تلتزمه في رحلة البحث المضنية، وأن تكون ثمة علامات وإشارات تسترشد بها، ولا بد أن يكون المنهج علمياً، وأن تكون العلامات والإشارات موضوعية، أو فيها نسبة كبيرة من الموضوعية على أقل تقدير، وإلا نكون من أولئك الذين يغزون تواريخ الشعوب، فيسطون عليها، وينهبون منها ما يطيب لهم، وينسبونه إلى أمتهم دون وازع ولا رادع، وهذا من أشنع أنواع اللصوصية في تقديري.

وقد دأبت على أن أسترشد إلى مشاهير الكرد بالكشّافات الأربعة الآتية:

·       أولها الجغرافيا الكردية (أسماء المناطق، والمدن، والقرى).

·       وثانيها أسماء القبائل والعشائر والبطون والأسر الكردية.

·       وثالثها أن يوجد في ترجمة العلم ما ينصّ على كردية النسبة؛ كأن تُذكر نسبة (الكردي)، أو يُنَصّ على أن العلم من أصل كردي.

·       ورابعها أن يكون اسم العَلم نفسه كردياً صرفاً، أو يكون في سلسلة نسبه اسم كردي صرف؛ مع الأخذ في الحسبان وجود كثير من التشابه بين بعض الأسماء عند الكرد والفرس والدَّيْلَم.

وماذا عند افتقاد الكشّافات الأربعة؟!

عندئذ أستعين بأن أستحضر ما تشكّل لديّ، بعد قراءات كثيرة للتاريخ الكردي، ولتراجم أعلام الكرد، ما يمكن أن أسمّيه (السَّمت العام للشخصية الكردية)، وصحيح أن ما قد استشرفه من ذلك السمت في ترجمة عَلَمٍ ما لا يمكن أن يُعدّ دليلاً علمياً مقنعاً، لكنه يثير في ذهني علامة استفهام، ويشجّعني على إبقاء ذلك العَلم في دائرة البحث والتنقيب؛ وقد وصلت بفضل هذا المنهج إلى اكتشاف الأصل الكردي لأعلام ما كنت أظن أبداً أنهم يمتّون إلى الشعب الكردي بصلة.

ومن هؤلاء محمد علي باشا وأسرته.

فلا شيء من الكشّافات الأربعة كان يتوافر في نسب محمد علي وأسرته، وهذه حقيقة مؤكدة إلى الآن على أقل تقدير، فمنذ أيام الدارسة الإعدادية والثانوية تعلمنا أنه معروف بلقب (الأرناؤوطي)، وأنه من أبناء قرية (قُوله) الألبانية، فكان لقبه (القُولي)، وأنه قدم إلى مصر مع فرقة عسكرية ألبانية تابعة للقوات العثمانية.

وصحيح أن الاسم المركّب (محمد علي)، شائع في المجتمع الكردي، رغبة من الآباء في الجمع بين اسمي أشهر شخصيتين إسلاميتين (النبي محمد، والإمام علي)، وصحيح أن كلمة (خُدَيوِي) كانت مألوفة عندي، وصحيح أيضاً أن اسم طُوسُون – وهو ابن محمد علي- كان يذكّرني باسم رجل يدعى (تُوسُون)، من قرية (بَيْنَهْ)  Bainai (أُبّين) كان يزور أقارب له في قريتنا، لكن من أين كان لي حينذاك أن أربط بين هذه المؤشرات وبين الأصل الكردي لأسرة محمد علي؛ ولا سيما أنني ما كنت حينذاك مهتماً بهذا المجال جملة وتفصيلا؟!

 ومع أني أصبحت أكبر سناً وأوسع ثقافة، وأصبحت مهتماً بالتاريخ الكردي وبتراجم أعلام الكرد، ومتسلّحاً بالكشّافات الأربعة السابق ذكرها؛ أقول: مع ذلك ما امتلكت الجرأة العلمية لأن أصنّف محمد علي باشا وأسرته الملكية ضمن الكرد؛ إذ أين (قُوله) البلقانية من جغرافية كردستان ومدنها وقراها؟! وأين (القُولي) من (الفارَقي)، أو (الآمِدي)، أو (الشَّهْرَزُوري)، أو (الإربلي) مثلاً؟! وأين (الأرناؤوطي) من (الهَذْباني)، أو (الرَّوادي)، أو (الزَّرْزاري)، أو (الزَّنْدي)؟!

أمور استوقفتني!

أجل، ما كانت ثمة إشارة ولو ضئيلة تدل على أسرة محمد علي باشا كردية الأصل، لكن بعد أن انهمكت- كما قلت سابقاً- في قراءة التاريخ الكردي، والتنقيب عن تراجم أعلام الكرد قديماً وحديثاً، استوقفتني أمور أربعة:

·       أولها: علمت أن محمد كاشف- ولقبه (تَيْمُور)، وهو جد الأسرة التيمورية الكردية في مصر- كان من كبار مساعدي محمد علي في مصر؛ إذ ساعده في حملته للقضاء على المماليك، وترقّى في سلّم المناصب الرفيعة، حتى صار والياً على بلاد الحجاز.

·       وثانيها: لاحظت لجوء بعض زعماء الكرد ومثقفيهم إلى مصر في عهد محمد علي باشا وأسرته، وأذكر على سبيل المثال: أسرة أحمد شوقي، وأسرة قاسم أمين، وأسرة والي البدرخانية، وأسرة عَوني. 

·       وثالثها: أن أول صحيفة كردية، ظهرت في العصر الحديث، إنما صدرت في القاهرة، وكانت بعنوان (كردستان)، وصدر العدد الأول منها في 22 نيسان سنة (1898 م)، وكان القائم عليها الأمير مقداد مدحت باشا بدرخان.

·       ورابعها: هذا اللقب الغريب (خُدَيْوي)! فلا علاقة لهذا اللقب باللغة العربية، ولا أحسب أن له معنى في اللغة التركية، وإنما له معنى واضح ودقيق وعريق في اللغة الكردية، إذ يعني (المالك، صاحب المملكة) أو يعني (الربّاني، التقي، رجل الله)، وكثيراً ما سمعت الكرد ينطقون هذا اللقب، في سياقات حياتية عديدة، بجميع هذه الدلالات.

وكان من الطبيعي، وقد اجتمعت هذه المثيرات والمحفّزات جميعها، أن أضع أسرة محمد علي في دائرة الاهتمام، ضمن مشروع التنقيب عن أعلام الكرد في الماضي والحاضر، ثم قرأت في هامش كتاب منشور عن الكرد، في الربع الأخير من القرن العشرين، ولا يحضرني اسمه الآن، أن أسرة محمد علي باشا كردية الأصل، لكن المؤلف لم يشر إلى المصدر الذي استقى منه هذه المعلومة؛ ومع ذلك صرت أكثر حرصاً على متابعة حقيقة هذه الأسرة.

الحقيقة!

ثم إذا بموقع سما كرد  SemakUrdالإلكتروني ينشر، في 1/12/2006، مقالاً للدكتور محمد علي الصُّوَيركي، بعنوان (محمد علي باشا الكبير)، أكد فيه بما لا يدع مجالاً للشك أن الأسرة العلوية (أسرة محمد علي باشا) كردية الأصل، وتعود بجذورها إلى مدينة ديار بكر (آمد). والدكتور محمد علي الصُّوِيركي كردي أردني، يعود بأصوله إلى منطقة (سُوَيرَك) الكردية في شمالي كردستان، وهو باحث جادّ، ومهتم بالبحث والتنقيب عن أعلام الكرد، وله أكثر من كتاب منشور بالعربية في هذا المجال، وقد نشر صورة للصفحة (56) من مجلة المصور المصرية الشهرية، العدد المنشور في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني، (1949 م)، تتضمن جزءاً من حوار أجراه الكاتب المصري الكبير محمود عباس العقّاد مع ولي عهد مصر حينذاك الأمير محمد علي، بعنوان (وليّ العهد حدّثني عن وليّ النِّعَم)، وإليكم بعض ما جاء في ذلك الحوار بقلم عبّاس محمود العقاد:

" ... وقال سموّه في أمانة العالم المحقّق: لا أعلم، ولا أبيح لنفسي الظن فيما لا أعلم، ولكني أحدّثكم بشيء قد يستغربه الكثيرون عن نشأة الأسرة العلوية (المنسوبة لمحمد علي)، فإن الشائع أنها نشأت على مقربة من قولة في بلاد الأرناؤوط (ألبانيا)، ولكن الذي اطّلعت عليه في كتاب ألفه قاضي مصر على عهد محمد علي أن أصل الأسرة من ديار بكر في بلاد الكرد، ومنه انتقل والد محمد علي وإخوانه إلى قولة، وقد عزّز هذه الرواية ما سمعناه منقولاً عن الأمير حليم (أحد أحفاد محمد علي) أنه كان يرجع بنشأة الأسرة إلى ديار بكر في بلاد الكرد ".

ثم أضاف عباس محمود العقاد قائلاً:

" حسب بلاد الكرد شرفاً أنها أخرجت للعالم الإسلامي بطلين خالدين: صلاح الدين الأيوبي، ومحمد علي الكبير، وقد تلاقيا في النشأة الأولى، وفي النهضة بمصر، وفي نسب القلعة اليوسفية إليهما (قلعة القاهرة اليوم)، ... ونحن نعرف بأن الناس أمناء على أنسابهم وأصولهم، وأن الكثير من القادة العسكريين الذين خدموا مع محمد علي باشا وأحفاده كان أغلبيتهم من الكرد، أمثال إسماعيل باشا الكاشف تيمور، جد الأسرة التيمورية بمصر ".

ثم انتقل عباس محمود العقاد إلى الحديث عن حياة محمد علي، وسائر أفراد الأسرة العلوية، وجدير بالذكر أن العقاد نشر مع المقال الحواري صورة شخصية له وللأمير ولي العهد في مكتب هذا الأخير، وقد تتبّعت الأمر فوجدت أن (موسوعة تاريخ أقباط مصر) الإلكترونية Coptic History نشرت مقالاً للسيد عزت أندراوس، بعنوان (محمد علي الكبير)، ذكر فيه الأصل الكردي للأسرة العلوية، معتمداً على ما جاء في مجلة المصوّر المصرية أيضاً، وما أدلى به كل من الأميرين محمد علي وحلمي؛ وهكذا وجدت نفسي أمام الحقيقة واضحة وضوح الشمس، وسقطت الشكوك التي كانت تخامرني بخصوص نسبة أسرة محمد علي الكردية، فها هما اثنان من أمراء الأسرة، أحدهما وليّ للعهد، يصرّحان بأن الأسرة العلوية كردية الأصل، وأنها ترجع بجذورها إلى مدينة ديار بكر (آمِد).

ولو كان الكرد أصحاب إمبراطورية كالعثمانيين والإنكليز مثلاً، أو لو كانوا على الأقل أصحاب دولة متحضرة، يشار إليها بالبنان مثل سويسرا، أو لو كانوا يحظون بما تحظى به الأسرة الهاشمية من تعظيم وتبجيل بين المسلمين عامة، لقلنا: إن الناس يرغبون في الانتساب إلى ما هو عظيم سياسياً، وإلى ما هو بارز حضارياً، وإلى ما هو مبجّل دينياً، ولعل الأميرين العلويين أفصحا عن الأصل الكردي لأسرتهما بدافع من إحدى هذه الدوافع الثلاث.

لكن كان الكرد في منتصف القرن العشرين- وما زالوا- شعباً بلا دولة تجمعهم، وبلا هوية قومية وسياسية ترفع من شأنهم بين الشعوب، كما أنهم كانوا في المخيّلة الشعبية الشرق متوسطية- وما زالوا- أبعد الناس عن التبجيل والتعظيم الديني، حتى إني قرأت في (موسوعة حلب)، للباحث الحلبي الألباني الأصل خير الدين الأَسَدي، مثلاً شعبياً حلبياً يقول: فلان " خلّى النبي كردي، والملائكة أعجام! "؛ والمراد أن فلاناً تحدّث بما هو محال، وخرج عن حدود المعقول.

أما على الصعيد الحضاري فكانت ديار الكرد غير معروفة أصلاً، وكان أغلب الشعب الكردي ريفياً ورعوياً، وكانت نسبة المتعلمين في المجتمع الكردي متدنية، شأنه في ذلك شأن معظم أرياف شرقي المتوسط، ولا ننس أيضاً التشويه الذي نال من صورة الكردي في بعض مصادر التراث العربي الإسلامي، فالكرد في تلك المصادر شعب بلا هوية، أو هم من أبناء الجن، أو هم نتاج تزاوج غير شرعي بين جنّ النبي سليمان وبعض الفتيات الأوربيات الإماء، وكان سليمان قد استقدمهن لضمّهن إلى الحريم في قصره الملكي، والكرد- حسبما روّج ياقوت الحموي في مواضع من كتابه (معجم البلدان)- أناس همج، شأنهم التمرد على الحكّام وقطع الطرق.

ولا ننس أيضاً مقولة (هل تَسْتَكْردني؟!) المنتشرة في مجتمعات بلاد الشام ومصر، وهي تعبّر عن أن الكردي يجمع بين الحماقة والسذاجة، وأنه مضرب المثل في ذلك، لا بل إن بعض الحانقين على الكرد بدوافع عنصرية ذهبوا في هذا الميدان شوطاً أبعد، فراحوا يقولون عن الكرد بأنهم غجر؛ فبالله عليكم ما الذي يحمل أميرين رفيعَي المقام ومثقفَين، من الأسرة العلوية المالكة، على الطمع في نسبة أصل الأسرة إلى الكرد؟! أهو الطمع في الانتساب إلى الجن؟! أم هو الطمع في أن يكونوا من أبناء الإماء؟! أم هي الرغبة في الانتساب إلى الهمج والمتمردين وقطّاع الطرق؟ أم هي الرغبة في الانتساب إلى الجهل والتخلف؟! أم هي الرغبة في الانتماء إلى الحماقة والسذاجة؟! أم هي الرغبة في الانتماء إلى الغجر؟!

ثم من الذي ينقل الخبر؟! إنه عبّاس محمود العقّاد، الباحث المحقق المدقق، صاحب كتب (العبقريات)، وصاحب الصولات والجولات الشهيرة في مجالات الأدب شعراً ونقداً، وفي مجالات الفكر والصحافة، في النصف الأول من القرن العشرين؛ فهل من المعقول أن ينشر خبراً مصوَّراً في مجلّة شهيرة لولا أن الخبر صحيح مئة في المئة؟! وهل من المعقول أن يختلق معلومة على لسان أميرين من الأسرة الملكية الحاكمة، وينشرها في الصحافة، إلا وهو واثق من صحة تلك المعلومة ودقتها؟!

وبعد أن شهد شاهدان، هما الأمير محمد علي، والأمير حلمي.

وبعد أن نقل هذه الشهادة مفكر شهير وباحث قدير هو العقّاد.

وبعد أن نشرت تلك الشهادة في مجلة عريقة هي المصوّر.

هل يبقى شك في نسبة الأسرة العلوية إلى الكرد؟!

وألا يحق لنا البحث في سيرة مؤسسها محمد علي باشا؟!

في مهبّ الريح!

الرُّوملي أو بلاد الروم، اسم أطلقه العثمانيون على الإقليم الذي يشمل تراقيا، ومكدونيا، وغيرهما من البلاد الواقعة بين البلقان والبحر الأسود، وبحري مرمرة وإيجه، وسلسلة جبال اليونان. وفي منطقة الروملي هذه، وعلى مسافة (320) كم غربي الآستانة (إستانبول)، كانت تقع قرية (قوله) المكدونية، وحوالي منتصف القرن الثامن عشر كان يسكن قرية (قوله) رجل يدعى إبراهيم آغا، وكان يتولّى خفارة الطرق (وظيفة الجمارك)، ويساعده في تلك المهمة أخوه تُوسون (طوسون)، وقد مر أن الأخوين كانا في الأصل من مدينة ديار بكر في شمالي كردستان.

حسناً، ها هنا بعض التساؤلات التي تمسك المرء من خناقه: متى انتقل الأخوان إبراهيم آغا وتوسون آغا من ديار بكر الكردستانية إلى قوله الروملية؟ وهل تم الانتقال من ديار بكر إلى الروملي، وإلى قوله تحديداً، بشكل مباشر، أم أن الأسرة ظلت تنتقل من بلد إلى آخر، واستقر بها المقام أخيراً في قوله؟

والحقيقة أننا لا نجد إجابات عن هذه الأسئلة وغيرها، وهي أمور ما كان يعرفها أحد غير محمد علي، ويبدو أنه كان حريصاً على ألا يعلنها؛ فالمشاهير من الحكام خاصة يؤثرون ألا يفتحوا صفحات ماضيهم إذا كان ذلك الماضي عادياً غير مبجّل، بل من الحكام من كان يصنع لأسرته ماضياً مجيداً برّاقاً، ويضعه بين أيدي آلته الإعلامية، لتسبّح بعراقته ليل نهار، وهذا ما لم يفعله محمد علي، وكل ما فعله الرجل أنه ترك ماضيه في طيّات النسيان.

ولنعد إلى قرية قوله، وإلى موظف الجمارك إبراهيم آغا، فقد رُزق الرجل سبعة عشر ولداً، لم يعش منهم إلا محمد علي، وفي سنة (1773 م) توفي إبراهيم آغا، وتوفيت زوجته أيضاً، وكان محمد علي حينذاك في الرابعة من عمره، باعتبار أنه ولد سنة (1769 م). وبقي الصبي محمد علي يتيم الأبوين، وكان من الطبيعي أن يكفله عمه توسون آغا (هكذا الصيغة الكردية)، وينتقل به إلى بيته، لكن حدث أن السلطة العثمانية غضبت على توسون آغا، فقُتل بأمر السلطان العثماني، وبقي محمد علي من غير أهل يرعونه، ومن غير بيت يضمه.

على أن صديقاً لوالد محمد علي يدعى خربجي براوسطه أشفق على الصبي، فضمّه إلى أولاده، ويبدو أن شفقة خربجي براوسطه لم تنقذ محمد علي من الشعور بمرارة اليتم والذل، ويروى أنه، بعد أن ارتقى ذروة المجد، واعتلى منصب الحكم في مصر، كان يذكر لخاصته ما قاساه في أيام اليتم. وبرعاية خربجي براوسطه تعلم محمد علي ما كان يتعلّمه أبناء تلك البلاد من فنون القتال والفروسية، ولعل الفتى محمد علي كان يدرك أنه لا سبيل له إلى حياة كريمة إلا بالاعتماد على الذات، وامتلاك أسباب القوة، شأنه في ذلك شأن جميع الطموحين في كل العصور.

ويبدو أن محمد علي كان قد برع في القتال، فضمه مربيه خربجي براوسطه إلى من كان يعمل بإمرته في جباية الضرائب، فأظهر محمد علي مهارة وبسالة عجيبتين، وحصل على رتبة بلوك باشي، وزوّجه براوسطه امرأة مطلّقة من ذوي قرابته كانت ذات مال وعقارات. ولم يستمر محمد علي في وظيفة جباية الضرائب طويلاً، ويبدو أن طموحه كان أكبر من أن تتسع له تلك الوظيفة المتواضعة، فانتقل إلى التجارة، وخاصة تجارة التبغ، وكانت أكثر التجارات رواجاً في تلك البلاد، وبرع محمد علي في مهنته الجديدة، واكتسب شهرة واسعة في الوسط التجاري، وكان موضع ثقة عند عملائه، وظل ينشط في الحقل التجاري إلى سنة (1801 م).

مصر من يد إلى يد

وقبل الخوض في أحداث سنة (1801 م) لا بد من وقفة مع مصر.

فالمعروف أن المماليك الترك قضوا على سيدتهم الدولة الأيوبية في مصر سنة (648 هـ/1250 م)، وأقاموا الدولة المملوكية، وكان المعزّ أَيْبَك التركماني أول سلاطينهم، وفي سنة (784 هـ/ 1382 م) أنهى المملوك الشركسي بَرْقُوق حكم سيدته الدولة المملوكية التركية، وورث أملاكها في مصر وشمالي السودان والحجاز وبلاد الشام.

هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى كان العثمانيون قد ظهروا في آسيا الصغرى (غربي تركيا) منذ أوائل القرن الثامن الهجري (أوائل القرن الرابع عشر الميلادي)، وراح شأنهم يزداد قوة، ودولتهم تزداد اتساعاً باتجاه الغرب، وفي سنة (1453 م) احتل السلطان العثماني محمد الثاني (الفاتح) مدينة القسطنطينية، وقضى على الدولة البيزنطية، وشرع هو وخلفاؤه بالتوسع في أوربا. وكان يهمّ كل فاتح وغاز قادم من الشرق أو من الغرب أن يسيطر على شرقي المتوسط، للوصول إلى الموانئ الشامية والمصرية المطلة على جنوبي أوربا، وما كان ذلك كافياً، بل كان من الضروري أن يسيطر الفاتح والغازي أيضاً على كردستان شرقاً؛ ليستطيع الاندفاع من بعدُ إلى بلاد فارس، ومن ثَم إلى وسط آسيا وشرقيها.

وحينما تسلّم السلطان سليم الأول عرش السلطنة العثمانية سنة (1512 م) كانت هناك ثلاث قوى إقليمية كبرى تتنافس في غربي آسيا: الدولة العثمانية وعاصمتها الأستانة (القسطنطينية سابقاً وإستانبول لاحقاً)، والدولة الصفوية وعاصمتها تبريز، والدولة المملوكية الشركسية وعاصمتها القاهرة. وكان يهمّ الدولة الصفوية أن تتقدم غرباً نحو سواحل المتوسط، عبر كردستان طبعاً، وكان يهمّ الدولة المملوكية أن تتقدم شرقاً عبر كردستان أيضاً، وكان يهمّ الدولة العثمانية أن تتقدم شرقاً عبر كردستان، وجنوباً نحو بلاد الشام ومصر، وكان من الطبيعي أن تتصادم مصالح هذه الدول ذات الطابع الفتوحاتي التوسعي، وأن تتصادم نتيجة لذلك سياسياً وعسكرياً.

 وقد حقق السلطان العثماني سليم الأول النصر على الشاه إسماعيل الصفوي في معركة چَلْديران (في شمالي كردستان) سنة (1514 م)، ورأى أن خير وسيلة يوقف بها تقدم الصفويين غرباً هي كسب ولاء الكرد، وأفلح في ذلك؛ إذ استعان سنة (1515 م) بالزعيم الديني الكردي الشيخ إدريس بدليسي، وكسب ولاء ثلاثة وعشرين أميراً كردياً للسلطان العثماني، وكان أولئك الأمراء زعماء لمناطق ديار بكر وماردين والموصل وسنجار وحصن كيفا والعمادية وجزيرة ابن عمر، ووافقوا على ضمّ مناطقهم إلى الدولة العثمانية بما يشبه الاتحاد الفيدرالي في عصرنا هذا.

ثم اندفع السلطان سليم جنوباً إلى بلاد الشام، حيث ممتلكات الدولة المملوكية، وانتصر على السلطان المملوكي قانْصُوه الغُوري في معركة مرج دابق في شمالي سوريا سنة (1516)، وانتهت المعركة بمقتل الغوري، وكان من الطبيعي أن يستمر السلطان سليم في الاندفاع جنوباً نحو مصر، وفي سنة (1517 م) حقق النصر على السلطان المملوكي الجديد طُومان باي في معركة الرّيدانية، وشنقه على باب زويلة في القاهرة، وكانت تلك أول مرة يُشنق فيها سلطان بمصر، وبإعدام طومان باي انتهى حكم الدولة المملوكية في شرقي المتوسط، ليبدأ الحكم العثماني؛ على أن غيبة المماليك عن السلطة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما عادوا إليها ثانية، لكن هذه المرة عملوا ولاة تابعين للدولة العثمانية، يشاركهم في ذلك ولاة عثمانيون آخرون.

ومع نهاية القرن الثامن عشر كان الصراع الاستعماري بين فرنسا وإنكلترا قد وصل إلى الأوج، وفي سنة (1798 م) أرسلت فرنسا حملة إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت، وأفلح نابليون في احتلال مصر، وحاول التقدم شمالاً في بلاد الشام، فعجز عن ذلك، ثم غادر نابليون مصر سراً راجعاً إلى فرنسا، بعد أن ولّى على الجيش الفرنسي مكانه الجنرال كليبر، وسرعان ما لقي كليبر مصرعه على يد الشاب الكردي العفْريني سليمان محمد أمين (سليمان الحلبي)، بتدبير من ولاة العثمانيين في بلاد الشام، ثم اضطر الفرنسيون إلى الانسحاب من مصر سنة (1801م)؛ نتيجة التحالف الإنكليزي العثماني من جانب، وبسبب المشكلات الداخلية في فرنسا من جانب آخر.

مقدمات الانقلاب

وفي سنة (1801 م) حدث الانقلاب الأول في مسيرة محمد علي، وبدأ الانقلاب على أرض مصر، وإنه لحدث يذكّرنا بحدث مماثل وقع لشاب كردي عبقري آخر قبل حوالي ستة قرون، وعلى أرض مصر أيضاً، إنه الانقلاب الذي حدث في حياة الشاب يوسف؛ المعروف بعدئذ باسم السلطان صلاح الدين. بلى، في هذه السنة (1801 م) وصلت إلى مصر قوة بحرية عثمانية مؤلفة من ثلاثمئة جندي ألباني (كان العثمانيون يطلقون على الألبان اسم أرناؤوط/أرناؤود)، وكان يقود تلك القوة علي آغا بن خربجي براوسطه مربي محمد علي، وكان محمد علي قد انتظم في تلك القوة باعتباره معاوناً لعلي آغا.

وشاركت تلك القوة الألبانية في بعض المعارك البحرية ضد الجيش الفرنسي، وخلال تلك الفترة عاد علي آغا إلى قوله، تاركاً قيادة جنوده لمعاونه الشاب محمد علي، وكان محمد علي حينذاك قد ارتقى إلى رتبة بكباشي، وهذا يعني أنه كان ناجحاً في عمله، جاداً في مباشرته.

وبُعيد خروج الفرنسيين برزت في مصر أربع قوى رئيسة:

·       المماليك: وكان هؤلاء يلمسون الضعف الذي أصاب الحكم العثماني في مصر وغيرها، وتجلّى ذلك الضعف بوضوح خلال الحملة الفرنسة على مصر، فطمحوا- أقصد المماليك- إلى استرداد نفوذهم في مصر، والقبض على زمام إدارة البلاد.

·       العثمانيون: كان هؤلاء يطمحون من جانبهم إلى طرد المماليك من مصر، لا بل استئصال جذورهم، إذ ثبت لديهم أن المماليك عنصر شغب وتخريب، ولا يمكن أن تستقيم الأمور للعثمانيين في مصر ما دام المماليك موجودين على الساحة، فأوعز الباب العالي إلى القبطان حسين باشا سراً بإبادة المماليك واستئصالهم، وبدأ حسين باشا بتنفيذ الخطة، لكن الإنكليز تدخّلوا في اللحظة الأخيرة، وأنقذوا رؤوس المماليك.

·       الإنكليز: كان ما يهمّ الإنكليز هو أن يجدوا موضع قدم لهم في مصر، وأن يكون لهم نفوذ فيها وفي الدولة العثمانية بشكل عام، وهذا لا يكون إلا بدولة عثمانية ضعيفة، تتفهّم المصالح الإنكليزية، وبحكام في مصر يلبّون رغبات الإنكليز، لذلك كان الإنكليز ينسّقون مع العثمانيين من جانب، ويبنون علاقة صداقة مع المماليك من جانب.

·       القوى الوطنية: كانت الحملة الفرنسية، رغم فشلها، قد أحدثت قلقلة شديدة في المجتمع المصري، فمن ناحية أنزلت ضربات قاضية بالمماليك، وكشفت عن عجزهم، وأظهرتهم على أنهم قوة دخيلة، تعمل لاستغلال المصريين دون وجه حق. ومن ناحية أخرى أوجدت الحملة الفرنسية مناخاً مناسباً لظهور إرادة شعبية في مقاومة الاحتلال، وتجسّدت تلك الإرادة في بعض علماء الأزهر، وفي زعماء شعبيين آخرين.

وكان الشاب الفطن محمد علي يراقب التجاذبات والصراعات بين هذه القوى بدقة، ويتابع تفاصيلها، ويقرأها بعمق، وكان يعرف أن العصر عصر المغالبة، فالمماليك بالمغالبة حكموا مصر، وبالمغالبة أزاحهم العثمانيون عنها، وبالمغالبة يفرض الإنكليز شروطهم على الطرفين، وفطن القادة الشعبيون بدورهم إلى أهمية المغالبة، فعملوا لالتفاف الجماهير حولهم. فما الذي يمنع محمد علي أيضاً من أن يخوض اللعبة ذاتها؟! ولماذا لا يدلي بدلوه في بثر المغالبة كما يفعل الجميع؟! وإذا كان الغرباء، مماليك وعثمانيين وإنكليزاً، يمنحون أنفسهم حق السيطرة على شؤون البلاد المصرية فلماذا يقف هو مكتوف اليدين؟

بلى، أحسب أن محمد علي فكر بهذه الطريقة، والدليل على ذلك هو المسار الذي اختاره بعدئذ، وأوصله إلى حكم مصر. ولن نقف عند محطات ذلك المسار وتفاصيله، فهي كثيرة جداً ومعقّدة، وحسبنا الإشارة إلى أنه فطن إلى هواجس كل فريق، وأدرك ما يرغب فيه كل منهم. وبدأ محمد علي بالتعامل مع الفرقاء جميعاً على أنه الرجل التوفيقي، وليس الرجل المنافس، بل استطاع في النهاية أن يبدو لهم على أنه الرجل المنقذ، وكانت رتبته تعلو حيناً بعد حين، فارتقى من رتبة (بكباشي) إلى رتبة (قبى بلوك)، فرتبة (سَرْجشمه)، وأصبح قائداً لأربعة آلاف مقاتل، وكان حريصاً على استمالة رجاله إليه، فأجمعت القلوب على محبته، ولهجت الألسن بشكره.

خورشيد باشا

وكان أول ولاة العثمانيين على مصر، بعد خروج الفرنسيين، هو خسرو باشا، مملوك القبطان حسين باشا عدو المماليك اللدود، وكان من الطبيعي أن يدخل الوالي الجديد في صراع مع المماليك، لكبح جماحهم، لكنه أخفق في ذلك، ولم ير بداً من الاستعانة بفرقة محمد علي، رغم كرهه له، وقبل وصول فرقة محمد علي إلى ميدان القتال حاقت الهزيمة بحملة الوالي، فنسب ذلك إلى تأخر محمد علي في الالتحاق بميدان القتال، وحاول معاقبته، لكن الجند ثاروا على خسرو باشا، وقاموا بعلميات السلب والنهب في القاهرة لتأخر دفع رواتبهم، وفرّ خسرو باشا إلى دمياط ناجياً بنفسه، وكان ذلك سنة (1803 م).

وجاء طاهر باشا والياً على مصر بعد خسرو باشا، لكنه عجز عن دفع رواتب الجند المتأخرة، وبعد اثنين وعشرين يوماً اغتاله ضابطان، وبفرار خسرو باشا ومقتل طاهر باشا أصبح محمد علي قائد الجند العثمانيين؛ لأن رتبته كانت تلي رتبة طاهر باشا، على أن خسرو باشا استعمل نفوذه عند الباب الحالي، وسعى لتعيين وال عثماني جديد على مصر محل طاهر باشا، هو خورشيد باشا، أحد قواد الإنكشارية، وكان ذلك في سنة (1804 م).

وكانت قوات المماليك هي الخطر الأكبر على نفوذ خورشيد باشا، ويأتي من بعدهم خطر الأرناؤوط، فاستقدم الدلاة من بلاد الشام، (مفرد الدلاة: ديلى Daile، وسمعت الشيوخ من الكرد يسمونهم: ديلي علي)، وهم فرسان خليط اشتهروا بالبطش والتهور، وكانوا يبيعون قدراتهم القتالية لمن يدفع لهم، أي أنهم كانوا فرقة من الفرسان المرتزقة، وكان أمل خورشيد باشا أن يستعين بالدلاة للقضاء على المماليك، ويكبح بهم جماح الأرناؤوط أيضاً، لكن المماليك ألحقوا الهزيمة بالدلاة، وخاب أمل الوالي فيهم.

أما محمد علي فاستمر في توطيد علاقته بالشعب، وعبّر عن مواساته لهم من إجراءات خورشيد باشا التعسفية، وكانت إجراءات هدفها جمع المال بدعوى ضرورة دفع رواتب الجنود، واستطاع محمد علي أن يكسب قلوب الجماهير، وصارت له شعبية كبيرة بين الأهالي. وفي 11 سبتمبر/أيلول سنة (1804 م) أراد محمد علي أن يختبر مدى تعلّق جماهير القاهرة به، فقام بمناورة بارعة؛ إذ شرح لخورشيد باشا أن فوضى الجنود تعرقل قيام الحكومة بمهامّها، وهذا يعني أن الحكومة ستظل عاجزة عن جمع الأموال لدفع الرواتب، وبما أن الجميع أمام طريق مسدود فقد قرر العودة إلى بلاده، ووافق خورشيد باشا على رحيل محمد علي، ولماذا لا يوافق وهو الذي كان يتحرّق طويلاً إلى الخلاص من هذا المنافس الخطير؟

والحقيقة أن خورشيد باشا كان قد وقع في الفخ الذي نصبه له محمد علي، فما إن بدأ محمد علي في بيع أثاث منزله حتى انتشر الخبر في القاهرة، فكثر لغط الناس، وعمّ الاضطراب، وأغلقت المدينة أبوابها، وخرجت الجماهير إلى الشوارع والأسواق وهي تصخب، وعدّت رحيل محمد علي كارثة كبرى، وقلّ الربط والضبط في المدينة، وارتكب بعض الجنود كثيراً من المخالفات، وظهر جلياً عجز خورشيد باشا عن السيطرة على جنوده، ولجأت الجماهير إلى العلماء والمشايخ، ومن أبرزهم الشيخ الشرقاوي وعمر مكرم نقيب الأشراف،  تطلب بقاء محمد علي في مصر.

وفي اليوم التالي خرج محمد علي ماشياً في القاهرة على أقدامه، يحيط به عدد من الضباط والجنود الأرناؤوط، وراح يعمل لتهدئة الأهالي، وذكر لهم أنه لن يغادر القاهرة، ولن يتركهم للمحنة، وأمر بحبس جندي هنا وقتل جندي هناك، بسبب ما ارتكبوه من اعتداءات في اليوم السابق، وعاد الهدوء إلى القاهرة مرة أخرى، وظهر محمد علي أمام جماهير المصريين بأنه الشخص الذي يضحّي بمصالحه في سبيلهم وفي سبيل المصلحة العامة، فازدادت ثقة الجماهير به.

ومن ناحية أخرى ازدادت الأمور العامة سوءاً، فقد عجز الوالي خورشيد باشا عن دفع رواتب الدلاة الذين استقدمهم، وكان هؤلاء يهبّون هبّات جنونية، فينزلون إلى شوارع القاهرة وأحيائها، يهاجمون البيوت، وينهبون ويسلبون، ويخطفون الأطفال والنساء، وذكر الجبرتي أنه لم ينج من أذاهم " إلا من تسلّق ونطّ على الحيطان ".

وتكررت وعود خورشيد للعلماء والمشايخ بإخراج الدلاة، وتهدئة الأمور، لكن وعوده كانت تذهب أدراج الرياح؛ فالدلاة يطالبونه برواتب ثلاثة أشهر، والخزينة فارغة، وكان محمد علي خلال ذلك مستمراً في الالتقاء بالقيادات الشعبية، ويضم صوته إلى صوتهم، ويعرض عليهم وساطته، وكان قد نجح في الوقت نفسه في ردع قوات الأرناؤوط من القيام بما يثير الأهالي، وكان يوظّف ثروته خير توظيف، فمن جانب كان يشتري به رضا جنوده، ومن جانب آخر كان يرسل الهدايا الثمينة إلى بعض كبار رجال الدولة في الأستانة؛ حسبما أفاد بعض قناصل الدول الأجنبية.

الكُرْك . . والقاووق!

وفي الوقت الذي كان خورشيد باشا يرهق فيه كاهل الجماهير بالضرائب الثقيلة، ويعجز عن توفير الأمن لهم، كان محمد علي يتودّد إلى القادة الشعبيين، وعلى رأسهم الشيخ الشرقاوي وعمر مكرم نقيب الأشراف، وعلم خورشيد باشا أنه لن يستطيع حكم مصر ما دام محمد علي وجنوده موجودين فيها، فسعى لدى الباب العالي لاستصدار فرمان (قرار) يقضي بنقل محمد علي إلى ولاية أخرى، ونجح في ذلك؛ إذ وصل فرمان من الباب العالي يقضي بتعيين محمد علي حاكماً لمدينة جدّة في الحجاز، بغرض التصدي للحركة الوهابية.

غير أن محمد علي كان يعرف كيف يحوّل نجاحات أعدائه إلى إخفاقات؛ وهذه عبقرية بحد ذاتها، فها هو ذا قد أُلبس الكُرْك (بالكردية: عباءة مبطّنة بالفرو) والقاوُوق (غطاء للرأس)، وكانا حينذاك من شارات الولاية، وها هو ذا قد أصبح والياً شأنه شأن خورشيد باشا، وأصبح له المقام نفسه، وعند عودته إلى داره في الأزبكية بالقاهرة نثر الذهب في طريقه على الأهالي، موحياً إليهم بأنه الوحيد القادر على إنقاذهم من الضائقة المالية التي يعانونها نتيجة سياسات خورشيد باشا الظالمة.

وحينما طلب الجنود من محمد علي دفع رواتبهم المتأخرة أحالهم إلى خورشيد باشا المسؤول عنهم؛ إذ إنه- محمد علي- لم يعد مسؤولاً عما يحدث في مصر، فازداد خوف الجنود من ضياع رواتبهم، وازداد ضجيجهم، وطالبوا برأس خورشيد باشا. وراح محمد علي يلاطفهم، وكان الحل الذي لجأ إليه خورشيد باشا هو أكثر إثارة للمشكلات، فقد أعلن النية عن فرض إتاوة على الأهالي لدفع رواتب الجنود، فثارت ثائرة الشعب في القاهرة، وانتشر الهياج في كل مكان، وأعلن الأهالي أنهم لن يدفعوا أية ضرائب جديدة.

وهكذا أُسقط في يد خورشيد باشا، ووجد نفسه بين نارين: نار الجنود من ناحية، ونار الأهالي من ناحية أخرى، وظلّت حوانيت القاهرة مقفلة، وظل الهياج قائماً، وزاد الطين بِلّة انتشار الأخبار بأن خورشيد باشا عجز عن إخراج الدلاة من البلاد، وأنهم قاموا بخطف بعض النساء والأولاد. وعلى الجملة أصبح الموقف العام عصيباً جداً، ولم ير العلماء والمشايخ بداً من التدخل لحسم الأمر، فأمروا بإغلاق الحوانيت، والتجمهر في الشوارع، وارتفعت صيحات الاستنكار من كل جانب، واتصل المشايخ بخورشيد باشا، طالبين منه إخراج الدلاة من القاهرة.

وأصدر خورشيد الأوامر، لكن الجنود رفضوا التنفيذ.

وفي صبيحة يوم 12 أيار/مايو سنة (1805 م) اتجه المشايخ والعلماء إلى دار المحكمة، وساروا في مظاهرة كبيرة ضمّت العامة والأطفال، وتجمهروا في فناء المحكمة، وراحوا يهتفون: " شرع الله بيننا وبين الباشا الظالم "، وكان بعضهم يهتف: " يا ربّ يا متجلّي، أهلك العثمنلّي "، ورفع المتظاهرون إلى خورشيد عريضة بمطالبهم، ودعا خورشيد باشا رؤساء الحركة إلى الحضور لديه، وكان غرضه التخلص منهم، لكنهم لم يجيبوه إلى ذلك، وأصر الزعيم الشعبي عمر مكرم وسائر الزعماء على ضرورة خلع خورشيد باشا، وتعيين محمد علي والياً على مصر بدلاً منه، وذكروا لمحمد علي أنهم لا يريدون غيره والياً، " وتكون والياً علينا بشروطنا، لما نتوسّمه فيك من العدالة والخير ".

وتمنّع محمد علي أول الأمر، ثم رضي بما قرره قادة الشعب، وقام إليه كل من الشيخ الشرقاوي وعمر مكرم، وألبساه الكُرْك والقَفْطان (نوع من الثياب)، شارتا الولاية، ونادوا بذلك في الشوارع، وأبلغوا خورشيد باش بقرار عزله وتولية محمد علي مكانه، لكن خورشيد باشا رفض القرار ذاكراً أنه مولى السلطان، فلا يُعزل بأمر الفلاحين. وقرر المقاومة معتصماً بالقلعة.

ووجد محمد علي نفسه في موقف صعب؛ فمن ناحية راسل خورشيد باشا الجنود الدلاة، وكانوا في قليوب (قرب القاهرة)، وطلب منهم العودة إلى القاهرة، لمساعدته في الحفاظ على السلطة، والقضاء على خطر الفلاحين. ومن ناحية أخرى كان المماليك يتربّصون به، وقد ينضمّون إلى صف خورشيد باشا، وهم قوة لها ثقلها في الصراعات، وعليه من ناحية ثالثة الفوز بموافقة الباب العالي.

وتحرك محمد علي لحسم الأمور على محورين:

·       محور داخلي: تمثل بأن عهد إلى قادة الشعب أمر إقناع خورشيد باشا بترك العناد، وشجّعهم في الوقت نفسه على تطوير العصيان الشعبي،  فقام عمر مكرم بتحريض الجماهير، وطوّق عدد كبير من أبناء القاهرة المسلحين القلعة، لمحاصرة خورشيد باشا ورجاله فيها، وانضمت إليهم قوات الأرناؤوط، وسرت روح الثورة في الأهالي، شيوخاً وأطفالاً، أغنياء وفقراء، " والكل بالأسلحة والعصيّ والنبابيت، ولازموا السهر بالليل في الشوارع والحارات "؛ إنها أجواء تذكّر إلى حدّ ما بالأجواء التي سادت في باريس أيام الثورة الفرنسية.

·       محور خارجي: تمثّل في أن العلماء والمشايخ أرسلوا كتاباً إلى الباب العالي، يبررون فيه الخطوة التي اتخذوها ضد الوالي خورشيد باشا، ويرجون الموافقة على تعيين محمد علي والياً لمصر.

وأثمرت جهود محمد علي داخلياً وخارجياً.

ففي الداخل بدأت المفاوضات بين كبار الضباط في القلعة وبين قادة الحركة الشعبية، وتبلور من خلالها مبدأ جديد لاستلام السلطة في مصر، هو مبدأ اختيار الشعب للحاكم، وعزل من لا يرضونه من الحكّام، وفي هذا المبدأ أيضاً ما يوحي بمبادئ الثورة الفرنسية؛ وكانت النتيجة أن موقف خورشيد باشا في القلعة أصبح أكثر حرجاً، وذهبت مناوراته المتتالية لاستعادة السلطة هباء.

وفي الخارج وصل مندوب من الباب العالي إلى الإسكندرية، وكانت مهمّته إنهاء الانقسامات الداخلية، وأسرع محمد علي والعلماء والأعيان بإرسال وفد لاستقبال وحراسته على الطريق، ووصل المندوب إلى القاهرة يوم 9 تموز/يوليو سنة (1805 م)، وأعلن تعيين محمد علي باشا والياً على مصر؛ ابتداء من عشرين ربيع الأول (1220 هـ)، الموافق 18 أيار/مايو (1805 م)؛ وهكذا انتقل محمد علي خلال خمسة وثلاثين عاماً من صبي يتيم، لا حول له ولا قوة، إلى حاكم لدولة كبرى، تراكمت فيها أمجاد ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، تبدأ بالفراعنة وتنتهي بالعثمانيين. 

مزايا .. وبلايا

والسلطة ليست نعمة فقط، وإنما هي نقمة أيضاً، وصحيح أنها تجلب للمرء  كثيراً من المزايا وتضع بين يديه كثيراً من السلطات، لكنها تجر عليه، في الوقت نفسه، كثيراً من المتاعب، وتتفاقم بعضها فتغدو بلايا؛ وهذا ما حدث لمحمد علي، فالرجل قد استلم بلداً كبير المساحة وفير السكان، لكن بخزينة شبه فارغة، وله فيه منافسون خطيرون، كم أن مصر كانت تعج بآلاف الجنود المرتزقة الباحثين عن الرواتب قبل كل شيء، وفيها مغامرون لهم تاريخ عريق في حبك الدسائس وتدبير الاغتيالات، بغية الوصول إلى السلطة، وفي مقدمتهم المماليك، ثم إن مصر كانت بلداً زراعياً شبه بدائي، تسود فيها الأمية، وكان بينها وبين الحداثة بون شاسع.

هذا عدا أن لمصر موقعها الجيوسياسي الهام منذ عهود الفراعنة، وما من غاز قادم من الشرق أو من الغرب إلا حدّثته نفسه بالسيطرة عليها، بل سيطر عليها بعضهم فعلاً، وكان الإنكليز والفرنسيون أبرز من حرص على ذلك في العصر الحديث، ثم إن مصر كانت تنضوي تحت لواء الدولة العثمانية، ومحمد علي هو حاكم عليها بموافقة الباب العالي، ولا بد أن تكون سياساته متّسقة مع سياسات الدولة العثمانية؛ وبما يتوافق مع تعقيدات (المسألة الشرقية).

وكانت العقبة الأولى التي واجهها محمد علي هي محاولة عزله عن حكم مصر؛ ففي ربيع الآخر من سنة (1221 هـ/ 1806 م) وصلت عمارة عثمانية إلى ميناء الإسكندرية، تحمل أمير البحر التركي، ومعه موسى باشا والي سالونيك، يحمل فرماناً يقضي بتعيينه والياً على مصر بدلاً من محمد علي، وتعيين محمد علي والياً على سالونيك. وتظاهر محمد بطاعة أوامر الباب العالي، وبأنه يغادر مصر فوراً، لكنه لجأ إلى سلاحه الأقوى؛ أقصد قادة الشعب من العلماء والأعيان، فاجتمع بهم وأبلغهم الأمر، فكتبوا رسالة إلى السلطان، يلتمسون فيها بقاء محمد علي والياً على مصر، وكلّفوا إبراهيم بن محمد علي بنقل الرسالة إلى الباب العالي، وقدّم إبراهيم الرسالة إلى الجهات المختصة بمساعدة سفير فرنسا في الأستانة، وصدر فرمان جديد من الباب العالي بتثبيت محمد علي في منصب والي مصر.

ومرت هذه الزوبعة بسلام.

وجاءت العقبة الثانية من المماليك، إذ راح كل من عثمان البَرْدِيسي ومحمد الأَلْفي، وهما من كبار قادة المماليك، يناوشان محمد علي، ويناصبانه العداء، ويفسدان الأمور، فتوفي الألفي سنة (1807 م)، وقضى محمد علي على البَرْدِيسي سنة (1808 م)، فتفرق أتباعهما في البلاد بلا قيادة تجمعهم.

ومرت الزوبعة الثانية بسلام.

وجاءت العقبة الثالثة من الإنكليز، فقد رأى هؤلاء أن في بقاء محمد علي حاكماً لمصر مساساً بمصالحهم، ويبدو أن ميول محمد علي كانت مع فرنسا، ودليل ذلك أن قنصل فرنسا في الأستانة هو الذي ساعد إبراهيم بن محمد علي في إيصال رسالة العلماء والأعيان المصريين إلى الباب العالي. وجرّد الإنكليز حملة ضد محمد علي، لكن الجنود الأرناؤوط ألحقوا الهزيمة بتلك الحملة، ثم جرت مفاوضات بين محمد علي والجنرال فريزر، وعقدت إنكلترا معاهدة صلح مع مصر، تم بموجبها انسحاب الإنكليز عن مصر، وكان من نتائج فشل الحملة الإنكليزية أن الباب العالي رضي عن محمد علي، ومنحه السلطان مصطفى الرابع خلعة وسيف شرف.

ومرت الزوبعة الثالثة بسلام.

وفي سنة (1809 م) تولى السلطان محمود الثاني عرش السلطنة، فكسب محمد علي رضاه، وضمّ الإسكندرية إلى ولايته، ولم يكن الباب العالي يجود بالإنعام على محمد علي عبثاً، وإنما لأنه كان يجد فيه الوالي القوي القادر على ترسيخ سلطة العثمانيين في مصر وخارج مصر.

حروب محمد علي

وأول مهمة كُلّف بها محمد علي من قِبل السلطان العثماني هي قمع الحركة الوهّابية، وكانت نجد مركز الوهّابيين، ثم سيطروا على شبه الجزيرة العربية، ووصلت جيوشهم في الشمال إلى جنوبي سوريا، وفي الجنوب إلى بحر العرب، وفي الشرق إلى الخليج العربي (الفارسي)، وفي الغرب إلى البحر الأحمر. وصدع محمد علي بالأمر، وشكّل جيشاً من ثمانية آلاف مقاتل، يقودهم ابنه تُوسون باشا، ويبدو أن معلومات وصلته بأن المماليك ينتظرون توجّه الجيش إلى بلاد العرب، لينقضّوا عليه وعلى من تبقي من رجاله، وقرّر محمد علي اقتلاع الشوكة المملوكية من الجذور، والقضاء عليهم قضاء مبرماً، وكان (الباب العالي) يعمل في الاتجاه نفسه.

ودعا محمد علي قادة المماليك في مصر إلى حضور الاحتفال بوداع ابنه توسون باشا، فجاءت وفودهم إلى القلعة، يتقدّمهم زعيمهم شاهين بك (شركسي الأصل)، وسار موكب المماليك محاطاً بالمشاة والفرسان، ولما وصل المماليك إلى باب القلعة أمر محمد علي بالأبواب فأُغلقت، ثم أشار إلى جماعة من أخصّائه الأرناؤوط، فهجموا على المماليك، وحكّموا السيوف في رقابهم، وأمطروهم بالرصاص، فقُتلوا جميعاً، وكان عددهم أربعمئة، ولم ينج منهم إلا أحمد بك وأمين بك، ثم أمر محمد علي بتتبّع المماليك في مصر، والقضاء عليهم، وكان ذلك سنة (1226 هـ/ 1811 م).

وبالقضاء على المماليك تخلّص محمد علي من أكثر الخصوم شراسة ودهاء وعناداً، وسمّى المؤرخون هذه الحادثة باسم (مذبحة القلعة)، وكان جد الأسرة التيمورية الكردية من أكبر معاوني محمد علي في تدبير تلك المذبحة، وكأنما كان القائدان الكرديان ينتقمان من المماليك؛ لما أنزله أجدادهم بالمعظّم تَوْران شاه، آخر سلاطين الأيوبيين، من تنكيل وقتل.

وبعد الفراغ من أمر المماليك توجّه توسون باشا بجيشه إلى بلاد العرب، وبدّد شمل الوهّابيين، لكن أعاد الوهابيون الكرّة على جيشه، وألحقوا به خسائر فادحة، فتوجّه محمد علي بنفسه إلى بلاد الحجاز بجيش يتألف من عشرة آلاف مقاتل، وطرد الوهابيين من المدينة المنوّرة ومكة وجدّة، وأرسل إلى السلطان محمود الثاني مفاتيح الكعبة في صينية من الذهب الخالص مرصّعة بالحجارة الكريمة مع ابنه الأمير إسماعيل في سنة (1813 م).

وأعلن الوهابيون العصيان ثانية، فكلف محمد علي ابنه إبراهيم باشا بقيادة حملة جديدة على الوهابيين، وكان يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، فانطلق من القاهرة سنة (1816 م)، وانتصر على الوهابيين، وقبض على زعيمهم الأمير عبد الله، وأتى به إلى مصر سنة (1819 م). كما أن محمد علي قرر فتح السودان، وحاربت جيوشه في بلاد الجنوب (1820 – 1822 م)، وفي بلاد النوبة ودَنْقلة، وسيطر على البلاد الواقعة بين عطبرة والبحر الأحمر، واستتبّ له الأمر في السودان.

واستنجد السلطان العثماني محمود الثاني بمحمد علي لقمع ثورات جزر بلاد اليونان، فأقلع الأسطول المصري من الإسكندرية سنة (1821 م)، واشتبك مع السفن اليونانية، فأغرق منها ستاً وأربعين سفينة، وأسر ثلاثين سفينة، وكانت خسارة الأسطول المصري خمس سفن، واحتل الجيش المصري جزيرة رودس، وفي سنة (1822 م) أخمد ثورة قبرص، وكان السلطان قد أصدر فرماناً بتعيين محمد علي حاكماً عليها إضافة إلى مصر، كما استنجد به لقمع ثورة جزيرة كريت، وأعاد محمد علي الأمن إلى الجزر الثلاث رودس وقبرص وكريت.

وفي سنة (1824 م) أصدر السلطان محمود الثاني فرماناً بتعيين محمد علي والياً على بلاد المورة (اليونان)، بغرض القضاء على ثورات اليونانيين ضد الحكم العثماني، فجهز محمد علي حملة مؤلفة من ثمانية عشر ألف جندي، ومئة وخمسين مدفعاً، وذخائر كثيرة، تنقلهم مئة سفينة، وتحرسها ثلاث وستون سفينة حربية، وأتبعها سنة (1826 م) بنجدة مؤلفة من عشرة آلاف مقاتل، واثنتين وتسعين سفينة، منها إحدى وتسعون سفينة حربية.

وأصدر السلطان فرماناً بتعيين إبراهيم باشا قائداً عاماً للأسطولين العثماني والمصري، وحقق إبراهيم باشا عدة انتصارات على اليونان، وحاصر أثينا سنة (1827 م)، فاستسلمت له، وسرعان ما تدخلت روسيا وإنكلترا وفرنسا ضد إبراهيم باشا، ودارت معركة حربية بحرية بين الجانبين في نافارين (نوفارين) وأغرق الأسطول المصري، واضطر إبراهيم باشا إلى الجلاء.

كما توجّه محمد علي بفتوحاته شمالاً نحو بلاد الشام، وفي سنة (1832 م) سقطت عكا في يدي ابنه إبراهيم باشا، ثم خاض محمد علي الصراع ضد العثمانيين أنفسهم، وحقق ابنه إبراهيم باشا انتصاراً على الأتراك في معركة حمص سنة (1833 م)، ثم اتجه شمالاً نحو حماه فحلب لمطاردة القوات التركية، وانتصر على الجيش التركي في معركة بيلان سنة 1832 م، فتراجع الجيش التركي إلى قونية، فتقدم إبراهيم باشا بجيشه نحو قونية سنة (1832 م) وألحق الهزيمة بالجيش التركي هناك أيضاً

وبعد معركة قونية وهزيمة الجيش التركي، عُقدت اتفاقية كوتاهية بين الطرفين في سنة (1833 م)، وتم بموجبها تولية محمد علي على مصر والحجاز وكريت، وتولّى ابنه إبراهيم باشا عكا ودمشق وطرابلس وحلب، وحاولت تركيا خلال ذلك تقوية جيشها، وقررت الحكومة المصرية الاستقلال عن الدولة العثمانية، وقرر الباب العالي إعداد جيش قوي بقيادة حافظ باشا لمحاربة محمد علي.

وكان الجيش التركي مؤلفاً من ثمانين ألف مقاتل، وثلاثمئة مدفع، وكانت القوات المصرية مؤلفة من خمسين ألف مقاتل، و162 مدفعاً، وانضم إليه ثمانية آلاف مقاتل غير نظامي، و25 ألف من البدو، و16000 ماروني، وكان ذلك في أواخر سنة (1839 م)، ودارت المعركة قرب نصيبين (مقابل القامشلي في الجانب التركي من الحدود)، وبعد كر وفر ألحق الجيش المصري الهزيمة بالجيش العثماني، واستولى الجيش المصري على مقر القائد التركي حافظ باشا بكامل معداته، كما استولى على (140) مدفعاً تركياً بذخائرها، وعلى ألفي بندقية، وعلى خزينة حافظ باشا، والأوراق والخطط والأوسمة، وبلغت خسائر الجيش المصري (3000) فقط بين قتيل وجريح، وجدير بالذكر أن الزعيم الكردي الأمير بدرخان بك كان يتهيّأ للثورة ضد الحكم العثماني حينذاك، وكان ثمة تنسيق بينه وبين إبراهيم باشا في هذا الميدان.

ومن نتائج تلك المعركة أن الطريق إلى إستانبول أصبحت مفتوحة أمام إبراهيم باشا، وقام أمير البحر التركي أحمد فوزي باشا بتسليم الأسطول العثماني إلى الحكومة المصرية، لكن سرعان ما تدخلت روسيا وبريطانيا وفرنسا لحماية السلطة العثمانية، فهدّدت محمد علي بالقضاء المبرم على سلطته في مصر ما لم يكفّ عن تهديده للدولة العثمانية، وجردته من ممتلكاته في بلاد الشـام، وألزمته بنسبة محددة وقليلة من القوات العسكرية، وجعلت له حكم مصر حكماً ذاتياً، على أن تكون من بعده لأكبر أولاده سناً.

إنجازات حضارية

لا شك أن محمد علي باشا هو باني مصر الحديثة، وصانع مجدها، وهو الحاكم الذي انتقل بها من العصور الوسطى إلى عصر الحداثة، وخرج بها من الفوضى والاضطراب، ووصل بها إلى مصاف الدول العظمى في ذلك الوقت، ويقول كلوت باشا، وقد عاصر محمد علي، وأشرف على إصلاحاته في مجال التعليم الطبي والصحة العامة:

" لست أدعو أحداً إلى اعتبار والي مصر واحداً من رسل الحضارة والمدنية، بل أدعو إلى وجوب اعتباره من فحول الرجال والعبقريين، وإنه مع كونه لم يعلم شيئاً من شؤون الأمة التي ظهر بينها أمره، ولم يجد منها تشجيعاً ولا مؤازرة على العمل، قد سلك مسلكاً مبنياً على الحذق وحسن التدبير، رام به الاستيلاء على زمام الحكم أولاً، ثم الاحتفاظ به بعد ذلك ".

وأدرك محمد علي بفكره الثاقب أن نهضة مصر لن تتحقق إلا بسواعد أبنائها، وان جيش مصر يجب أن يكون مصرياً، فعمد إلى تكوين جيش جديد يقوم على تجنيد المصريين، ويتّبع أحدث الأساليب الأوربية، ويتزوّد بأحدث الأسلحة، وهو ما عرف باسم (النظام الجديد)، فلم يتحمس رجال الدين لإصلاحاته، بل رفضوها، وسخروا منها، واتهموا (النظام الجديد) بأنه بدعة، مرددين الحديث النبوي: " كل مُحدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، ونفر الأهالي من النظام العسكري الجديد، وأطلقوا على محمد علي لقب (باشا النصارى)؛ لاستخدامه معلمين أوربيين في تشكيلات الجيش المصري.

لكن محمد علي لم يعبأ بالعوائق التي اعترضت طريق مشروعه التحديثي، وسار به أشواطاً إلى الأمام، مقتنعاً أنه لا بد من الاطلاع على التقدم العلمي في أوربا، والإفادة منه، يقول د. أنور عبد الملك:

" بقي مع ذلك أن محمد علي هو أول حاكم أو رئيس دولة شرقي يواجه، بطريقة حازمة، متطلبات التحديث. إن عبد الرحمن الرافعي، وهو عدو معروف للأسرة المالكة السابقة، يرى هذا الرأي، ويتحدّث عنه واصفاً إياه بالعبقرية ".

واهتم محمد علي بإرسال البعثات التعليمية إلى دول الغرب، وقد مر أنه استلم السلطة سنة (1805 م)، وفي سنة (1809 م) أرسل البعثة الأولى إلى إيطاليا، لدراسة العلوم العسكرية، وبناء السفن، ولتعلم الطباعة وفنون الهندسة، وبدءاً من سنة (1826 م) قام محمد علي بإرسال البعثات إلى فرنسا، وأشهرها البعثة التي شارك فيها الطالب الأزهري الشيخ رفاعة الطهطاوي، وكانت تضم (44) طالباً؛ درس ستة منهم القانون والإدارة وعلم السياسة، وتخصص الآخرون في علوم الحرب والهندسة. وبين عامي (1828 – 1836 م) أوفد محمد علي (108) من الطلبة إلى كل من بريطانيا والنمسا وفرنسا، ووزعهم على تخصصات الصناعة والبحرية والعلوم والطب.

وجدير بالذكر أن محمد علي كان أمياً، ولم يتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن تجاوز الأربعين من العمر، وكان حريصاً على قراءة الأخبار والوثائق، واهتم في الوقت نفسه بتشجيع عملية الترجمة، و ذكر كلوت بك أن محمد علي كان يشدد على المترجمين بالعناية في نقل ما تكتبه الصحف إليه، وأنه كثيراً ما كان يقرأها بنفسه، وذكر كلوت بك أيضاً أن محمد علي أمر بترجمة عدد كبير من المؤلفات التي قامت (جمعية نشر الثقافة النافعة) بطباعتها.

ولم تقتصر إنجازات محمد علي على هذه الميادين العلمية فقط، مع أنها بالغة الأهمية، وإنما بُني في عهده كثير من القلاع والحصون والأبراج، والقصور والعمائر الفخمة، والمساجد، والقناطر، وبنى دار الضرب (السكّ) لصناعة النقود، وتسمى (ضربخانه)، ودار المحفوظات (دفتر خانه)، وأقام مصانع الغزل والنسيج. 

وقبل عهد محمد علي كانت الصناعة في مصر مقتصرة على نسج الكتّان والصوف والنجارة والسبك وصناعة الحصر وغيرها، فلما تولّى حكم البلاد جمع أرباب الصنائع في القلعة سنة (1221 هـ/1806 م)، وجمع لهم ما في المخازن من الخشب والحديد، فشرعوا في صنع آلات الحرب وصبّ المدافع وما يلزمها من العجلات والعربات، واستعداداً لإنشاء المصانع الحديثة أوفد عدداً من الصنّاع والفنيين المهرة إلى أوربا؛ لإتقان الصناعات، كي يحلّوا محل العمال الأجانب، واستقدم العمال المهرة من فلورنسا بإيطاليا، وأنشأ محمد علي بعد عام (1827 م) في القسم الجنوبي من قلعة القاهرة، مقر السلطة، دار صناعة كبرى، تضم مصانع متنوعة، أهمها مصانع الأسلحة والذخيرة، وطرق النحاس، وصب المدافع، والسيوف والرماح والسروج واللُّجُم، وصناديق الذخيرة، وغيرها.

أقوال.. وشهادات

للشخصيات المشهورة في تاريخ الشعوب طابع إشكالي، وتختلف الآراء والأقوال فيهم بحسب زاوية النظر إلى إنجازاتهم وممارساتهم، ونعتقد أنه من غير الصواب إضفاء القدسية على غير المقدس، ومن غير الصواب أيضاً تناول الحدث التاريخي من منظور خرافي أسطوري؛ وهذا ما ينبغي أن ننتبه له في حديثنا عن شخصية محمد علي، فهو لاعب قدير في ميدان فن المغالبة، بل هو ابن عصر المغالبة بجدارة فائقة، فقد استطاع بفضل عبقريته وكفاءته أن يتحول من صبي يتيم مشرد؛ إلى مقارع لاثنتين من أكبر إمبراطوريات القرن التاسع عشر: الإمبراطورية العثمانية في الشرق والإمبراطورية الإنكليزية في الغرب، وهذا في حد ذاته أمر يثير الإعجاب.

وما كان لمحمد علي أن يحقق ما حقق لولا تميّزه بقدر كبير من الدهاء والحنكة، ولولا مهارته في إحباط الدسائس، ونصب الفخاخ السياسية والحربية، وأيضاً لولا قدرته على اتخاذ القرارات الصارمة بالبطش والتنكيل حينما يقتضي الأمر ذلك، وهذا ما فعله مع المماليك أعدى أعدائه.

ولكن عندما يلقي المرء نظرة عامة على سيرة هذا الرجل يجد أنه كان شخصية متميّزة حقاً، وكان متصفاً بخصال قيادية وإنسانية رفيعة، وإذا كان الشيخ عبد الرحمن الجبرتي- وهو أزهري معاصر لمحمد علي- قد نقم في كتابه (تاريخ عجائب الآثار) على محمد علي، لقيامه بتحديث المجتمع المصري، ولقضائه على المماليك، ويسميهم (المصريين)؛ فإن شيخاً أزهرياً آخر لم يبخس محمد علي حقه، وتفهّم أهمية إصلاحاته، وهو الشيخ خليل بن أحمد الرجبي، وكان معاصراً لمحمد علي أيضاً.

ونستعرض فيما يأتي بعض شهادات الرجبي في خصال محمد علي.

·   " فمنها أنه مع عظيم جلالته، وكبير همته، وشدة قوته، لطيف الألفاظ، ... بحيث إنه لا يخاطب الكبير والصغير ولا الجليل ولا الحقير، إلا بألطف عبارة، وحسن انسجام، مع تنزّه خطابه عن الصعوبة على الدوام ".

·    " ومن أخلاقه العظيمة كثرة العفو عن المذنبين، وتجاوزه إساءة المسيئين، ولو أردت عدد الأشخاص ممن حصل له ذلك لأجهدت الأنفاس، وملأت القرطاس، ولا سيما من كانوا متصفين بعداوته، ومتوسمين بمخالفته، فإنهم لما التجأوا إليه سامحهم من زلاتهم، وستر عنهم عورات جناياتهم، وأعطاهم الأموال الجزيلة، وفرض لهم العلوفات [الرواتب] الجليلة، وملّكهم المنازل، ورتّب لكل شخص خرجاً يكفيه، حتى صاروا له من أعظم المحبين".

·    " ومن أخلاقه الجليلة فرضه للفقرا جميـعاً من العرب والأتراك وغيرهم من المساكين بمصر في كل جمعة وشهر دراهم ودنانير جزيلة يأخذها مشايخهم ونقبـاؤهم، ويفرقونها عليهم أجمعين، بحسب حالهم واختلاف مراتبهم في الضعف والمسكنة، فيأخذ كل شخص منهم قسمه ونصيبه، فينفقه على نفسه وأهله، وهذه حالة عظيمة وخلق شريف، ... ".

·   " ومن أخلاقه الجميلة ترتيبه في كل عام للأيتام الذي يقرؤون القرآن في المكاتب، وللأولاد الصغار من أولاد الفقراء وذراري الضعفاء الدراهم والدنانير، يفرقها عليهم جميعاً، فيحصل لهم الفرح الزايد، ويعمهم السرور المتزايد، وكذلك يفعل مع فقهائهم وعرفائهم ".

·    " ومن أخلاقه الغريبة الحسنة الجميلة العظيمة أنه- أبقاه الله- متى بلغه ووصل إلى علمه شيء فيه بعض أضرار على أحد من الرعية- كائناً من كان- لا بد له جزماً من إزالته والتأمل فيما يصلحه، ولا يرضى بإبقاء ذلك قولاً واحداً ".

·    " من أخلاقه الجليلة الجميلة التي تميّز بها عن كثير من الأمرا والملوك والوزرا عدم محبته لسفك الدماء، فإنه لا يرغب في ذلك أصلاً، بل يعفو ويصفح، ولا يقع منه ذلك إلا لمن كان مستحقاً لذلك المعنى".

·   " ومن أخلاقه الشريفة التي انفرد بها عدم تمكينه أحداً من الظلم للناس في مصر وسائر أقطارها، ولا يرضى لأحد من الحكام في مصر، ولا في أقاليمها وبلادها وقراها، أن يظلم أحداً من التجار، ولا من المزارعين، ولا من أحد من الفلاحين، بحيث إنه إذا بلغه أن أحداً وقع منه ذلك عزله حالاً، وعاقبه بما يراه لأمثاله...، وكان يرسل أشخاصاً لسؤال الناس عن رأيهم في سلوك الحكام من حيث الظلم والرشاوى، فامتنع الحكام عن ظلم الشعب، كما خصص لكل حاكم راتباً شهرياً كافياً، فكفوا عن أخذ أموال الناس ظلماً ".

·    " ومن أخلاقه اللطيفة أنه لا يولّي منصباً ولا حكماً لأحد في كل نوع من أنواع المصالح والخدم إلا بعد معرفة حاله وضبطه، وأنه يصلح لمثل هذا المنصب، ويسأل عنه وعن أحواله وكيفية صنيعه ".

·    " ومن أخلاقه الجليلة أنه في كل حين من الشهور يرسل للحكام، ويأمرهم بالحضور بين يديه، ويسألهم عن البلاد وأحوالها، وعن المزارعين، ويشير عليهم بما فيه النفع للعامة والخاصة، ويرجعون ممتثلين لأوامره ".

وتوضيحاً للحقيقة نقول: إن الرجبي ألف كتابه هذا بطلب من شيخ الأزهر الشيخ محمد العروسي، وكانت علاقات العروسي بمحمد علي طيبة، ولنفرض أن نصف ما قاله الرجبي هو إطراء فارغ، فماذا نفعل بالنصف الآخر من الخصال التي أوردها الرجبي لمحمد علي؟! بل كيف لنا أن نفسر نجاح محمد علي في بناء دولة مصرية حديثة مستقرة ومزدهرة؛ لولا تميّزه ببعض هذه الخصال على أقل تقدير، ولا سيما على الصعيد القيادي والإداري؟!

_   _   _   _

وظل محمد علي باشا يدير أمور الحكم في مصر بحكمة، ويعمل بإخلاص لتطويرها في مختلف الميادين، والانتقال بها إلى مصافّ الدول المتقدمة، ومن يقرأ تاريخ مصر في عهده يدرك أهمية ما أنجزه هذا الرجل، ليس للشعب المصري فقط، وإنما لشعوب شرقي المتوسط جميعاً، وجدير بالذكر أيضاً أن محمد علي لم يكن متعصّباً لدين، ولا متحيّزاً لمذهب، وقد وفّر للأقباط المسيحيين- سكان مصر الأصليين- فرصاً أكبر للحياة بأمن وكرامة، وأتاح لهم المساهمة في بناء مصر الحديثة، وكذلك كانت سياسات أبنائه وأحفاده من بعده، وتلك هي السمة الغالبة على سياسات القادة الكرد ورؤيتهم في السلطة بشكل عام.

وأخيراً فعلت السنون فعلها، وتقدّم العمر بمحمد علي باشا، وأصيب بضعف في قواه العقلية، فتنازل عن الحكم لابنه إبراهيم باشا سنة (1847 م)، وعاش حياة هادئة إلى أن توفي سنة (1849 م)، بعد أن ترك لأبنائه وأحفاده دولة ذات شأن، وظل أحفاده يحكمون مصر إلى سنة (1952 م).

المراجع

1.     الجبرتي: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، 1990م، الجزء 3.

2.     دكتور جلال يحيى: مصر الحديثة (1517 – 1805 م)، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1980م.

3.     حسن الضيقة: دولة محمد علي والغرب (الاستحواذ والاستقلال)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 2002م.

4.     الشيخ خليل بن أحمد الرجبي: تاريخ الوزير محمد علي باشا، تحقيق وتعليق ودراسة د. دانيال كريسيليوس، ود. حمزة عبد العزيز بدر، ود. محمد حسام الدين إسماعيل، دار الآفاق العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997م.

5.     زكي فهمي: صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995م.

6.    دكتور محمود عباس أحمد عبد الرحمن: معالم مصر الحديثة والمعاصرة، الدار العالمية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006 م.

7.     نوفل نعمة الله نوفل: كشف اللثام عن محيّا الحكومة والحكّام في إقليمي مصر وبرّ الشام أوجزه جرجي ينّي، تحقيق ميشال أبي فاضل، د. جان نخول، جروس برس، طرابلس،  لبنان، 1990م.

8.     يوسف الملواني: تحفة الأحباب بمن ملك مصر من الملوك والنوّاب، دراسة وتحقيق عماد أحمد هلال وعبد الرزاق عبد الرزاق عيسى، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2000م.

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والأربعين.

د. أحمد الخليل   في 1 – 9-  2007

dralkhalil@hotmail.com

-

 

===================

 

مشاهير الكرد في التاريخ

( الحلقة الأربعون )

السلطان المعظَّم توران شاه

 (قتل سنة 648 هـ/1250 م)

منحدرات .. وقمم!

ها قد أمضيت نصف قرن من الزمان مع القراءة والمطالعة.

وها قد شرّقت مع المراجع قديمها وحديثها وغرّبت، بل: واستمتعت.

وها أنا ذا أسأل نفسي: من هذه الرحلة الطويلة ماذا استفدت؟ وبماذا خرجت؟

الحق أني استفدت الكثير الكثير، وخرجت بالكثير الكثير.

عرفت أن المرء بالثقافة يهتدي إلى إنسانيته، ويتغلّب على نزعات التوحش.

وبالثقافة يكفّ عن أن يكون عَدَمياً، فيحدّد هويته، ويتحرر من كونه مِسخاً.

وبالثقافة يكفّ عن أن يكون جباناً، فيمتلك شجاعة الدفاع عن وجوده.

وعرفت أيضاً أن الأمم بالثقافة تنتقل من المنحدرات إلى القمم.

وبالثقافة تتغلّب الشعوب على الهزائم وتصنع الانتصارات.

وبالثقافة تتخلص من الضياع، وتصبح في مواقع الريادة.

بل عرفت أكثر...

عرفت أن قراءة التاريخ نصف الثقافة، وأنه لا ثقافة رفيعة من غير قراءة متأنّية للتاريخ؛ فكثيراً ما قرأت الأدب شعراً ونثراً، ولم أدرك حقيقة الأدب إلا بعد قراءة تاريخ الأدب والأدباء. وكثيراً ما قرأت الدين، فلم أفهمه على حقيقته إلا بعد قراءة تاريخ الأديان والدعاة. وكثيراً ما قرأت الفلسفة، فلم أفهمها حق الفهم إلا بعد أن قرأت تاريخ الفلسفة والفلاسفة، وقرأت العلوم فلم أفهمها على نحو صائب إلا بقراءة تاريخ العلم والعلماء؛ وقس على ذلك.

وتبيّن لي بعد هذه التجربة الطويلة أن لقراءة التاريخ أربعة مستويات متكاملة:

·  الأول هو معرفة الأحداث التي تتالت أو تواكبت في مراحل تاريخية معيّنة.

·  والثاني هو ملاحظة الأحداث التي تكررت أو تماثلت في أزمنة وأمكنة مختلفة، وباتت تشكّل ظاهرة معيّنة تلفت الانتباه.

·  والثالث هو القيام بتحليل موضوعي وواقعي شامل لتلك الظاهرة، ودراسة المناخات التي تشكلت فيها؛ سواء أكانت تلك المناخات بيئية، أم اقتصادية، أم اجتماعية، أم ثقافية، أم سياسية، أم إقليمية، أم عالمية.

·  والرابع هو توظيف نتائج التحليل في توجيه مسيرة الحاضر، وتصحيح مساراته، ووضع البرامج والخطط للمستقبل.

وأعلم يقيناً أن الجمع بين هذه المستويات الأربعة، على الدوام، أمر صعب المنال، لكن كم يكون رائعاً أن نحرص- نحن قرّاء التاريخ- على ذلك قدر المستطاع! بلى، قد نُوفَّق، وقد لا نُوفَّق، ليست تلك هي المشكلة، وإنما المشكلة أن نبقى على الدوام دائرين في فلك المستوى الأول؛ وأراني مضطراً إلى القول بأننا حينئذ نكون هائمين على هامش التاريخ، ليس غير.

لماذا الشمال؟!

ولعلي أشرت، في حلقة سابقة أو أكثر، إلى بعض الظواهر التاريخية في شرقي المتوسط، منها على سبيل المثال أن كل فاتح وغاز قادم من الشرق كان يهمه أن يسيطر على كردستان، ليستطيع الاندفاع بعدئذ نحو آسيا الصغرى غرباً، ونحو بلاد الشام ومصر جنوباً. كما أن كل فاتح وغاز قادم من الغرب كان يهمّه أن يسيطر على كردستان، ليندفع من ثَمّ نحو قلب بلاد فارس، فالهند ووسط آسيا.

وقل الأمر نفسه في حركات الغزو من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، فالغزوات الآشورية قبل الميلاد بعشرة قرون وأكثر اخترقت كردستان، لتصل من بعدُ إلى أرمينيا ومناطق القوقاز الأخرى في الشمال، كما أن الفتوحات العربية الإسلامية، في القرن السابع الميلادي، سارت في الاتجاه نفسه، وعملت بكل وسيلة للهيمنة على كردستان، ولما انحدر السكيث من شمالي البحر الأسود، وغزوا الهضبة الآرياينة حوالي القرن التاسع قبل الميلاد على الأرجح، كان عليهم أن يمروا بكردستان، ويحتلوا أجزاء منها، وهذا ما فعله الملك الأرمني ديگران الثاني (حكم بين سنتي 94 - 69 ق.م)، حينما أنشأ إمبراطورية تمتد من القفقاس شمالاً إلى فينيقيا (لبنان) جنوباً.

وقد يقال: ما السبب في ذلك؟

ها هنا من الحكمة ألا نقع في فخ الغرور، ولا نزعم مثلاً أن كل خيرات العالم كانت متمركزة في كردستان ظهراً وبطناً، وأنه ما كان لجميع هؤلاء أن يستمروا في الحياة إلا بالسيطرة على كردستان، فالسبب الأبرز والأهم هو الجغرافيا السياسية (الجيوپوليتيك) ليس أكثر، وخلاصته أن مواطن الكرد كانت تمتد من نهر الرَّسّ (آراس/ أراكس) على تخوم القوقاز شمالاً، إلى لورستان وجبال بختياري جنوباً؛ أما أمر وجود مواطن الكرد على تخوم القفقاس فهو حقيقة شهد بها أكسنوفان، قائد المرتزقة الإغريق العشرة آلاف سنة (401 ق.م)، وشهدت به أحداث الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي.

ولو نظرنا في خريطة غربي آسيا؛ لاتضح أن مواطن الكرد هذه لا تتاخم البحر الأسود شمالاً، ولا الخليج العربي جنوباً، لكنها تقترب من هذا وذاك، ولتبيّن أنها تمثل ثلاثة أرباع هذه المنطقة الشاسعة، وهذا يعني أن القسم الأعظم من سلاسل جبال زاغروس وجبال طوروس يقع في بلاد الكرد، بل إن هاتين السلسلتين تلتقيان معاً في شمالي كردستان، وفيهما تقع الممرات والمعابر التي تصل غربي آسيا (آسيا الصغرى، وبلاد الشام، وشبه الجزيرة العربية، والعراق) بقلب بلاد فارس، وبما وراء بلاد فارس من شعوب آسيا الوسطى، وشعوب شبه القارة الهندية، وشعوب الشرق الأقصى، من ناحية أخرى.

ذلك هو السبب وراء تلك الظاهرة التاريخية فيما نعلم.  

والمعروف أن الدولة الزنكية التركمانية ورثت الدولة السلجوقية التركمانية، وأن الدولة الأيوبية الكردية ورثت الدولة الزنكية، ثم توسّعت في جميع الاتجاهات، ثم أطاح المماليك الأتراك بالأيوبيين، وانتشرت دولتهم تقريباً في الجغرافيا نفسها التي انتشرت فيها الدولة الأيوبية؛ حتى في اليمن، فالدولة الرسولية التي حكمت اليمن بعد الأيوبيين كان مؤسسوها أتراكاً من المماليك الأيوبيين، ثم حلّت دولة المماليك الشراكسة محل دولة المماليك الأتراك، ثم جاء دور الدولة العثمانية التركية.

والظاهرة التي أريد الوقوف عندها تتعلق بكردستان؛ فعلى امتداد ثمانية قرون، بدءاً من دخول السلاجقة إلى بغداد سنة (447 هـ/1055م)، وانتهاء بسقوط الدولة العثمانية حوالي سنة (1922 م)، كان ما يهمّ حكّام هذه الدول الثلاث المتعاقبة على الدوام أمران اثنان:

·       السيطرة غرباً وجنوباً على بلاد الشام مصر.

·       السيطرة شرقاً وشمالاً على كردستان؛ جميعها أو بعضها.

وثمة ظاهرة ثانية تتفرع من الظاهرة السابقة؛ ألا وهي حرص السلاطين الأيوبيين على أن يكون الرجل الثاني في الدولة، على الأغلب، هو الذي يتولّى حكم كردستان شمالاً وشرقاً، في حين كان السلطان نفسه يتنقّل بين القاهرة دمشق جنوباً وغرباً؛ وإليكم الأمثلة: في عهد السلطان صلاح الدين كان أخوه الملك العادل هو حاكم كردستان معظم الأحيان، وظل كذلك في عهد كل من الملك الفاضل والملك العزيز ابني صلاح الدين حينما تنافسا على السلطنة، وفي عهد السلطان العادل نفسه أسند حكم كردستان إلى ابنه ووليّ عهده الملك الكامل، وفي عهد السلطان الكامل أسند حكم كردستان إلى ابنه الملك الصالح، وفي عهد السلطان الصالح أوكل حكم كردستان إلى ابنه الملك المعظّم تَوْران شاه. ومرة أخرى نقول: كانت الجغرافيا السياسية وراء تكرّر هذه الظاهرة، ولا شيء غير ذلك.

ودعونا نتوقف الآن عند المعظّم تَوْران شاه

فماذا عنه؟

ظروف جديدة

كان للسلطان الصالح أربعة أبناء، لم يبق منهم حياً في حياته إلا تَوْران شاه، وهو معروف بلقب الملك المعظَّم غياث الدين، وقد عيّنه السلطان الصالح نائباً عنه في حصن كَيْفا وديار بكر بكردستان، ومرّ في الحلقة السابقة أن السلطان العادل الثاني كان قد تولّى مقاليد السلطة في الدولة الأيوبية بعد وفاة والده السلطان الكامل سنة (635 هـ/1238 م)، لكنه كان غِرّاً طائشاً لاهياً، فأزاحه أخوه الأكبر الصالح نجم الدين سنة (637 هـ)، وتولّى حكم الدولة الأيوبية، وتصدّى في أواخر حياته للحملة الصليبية السابعة، وقد بدأت سنة (647 هـ/1248 م)، وكانت بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع.

ومرّ أيضاً أن السلطان الصالح ظل يدير دفّة القتال ضد الفرنج وهو على فراش الموت، وتوفي ليلة الاثنين نصف شعبان سنة (647 هـ)، " بعدما عهد لولده الملك المعظّم توران شاه، وحلّف له فخر الدين ابن الشيخ، ومُحسن الطواشي، ومن يثق به، وبعدما علّم قبل موته عشرة آلاف علامة، يُستعان بها في المكاتبات على كتمان موته، حتى يَقدم ابنه توران شاه من حصن كَيْفا " (المقريزي: السلوك، ج1، ق 2، ص 339).

إذاً لقد تدبّر السلطان الصالح الأمور حتى بعد وفاته، وهيّأ الظروف ليتولّى ابنه الوحيد مقاليد الأمور، فأخذ له البيعة من كبار القادة أولاً، ووقّع عشرة آلاف مرسوم على بياض؛ لاستعمالها عند اللزوم، كي لا يعلم أحد بوفاته، إلى حين قدوم المعظّم من حصن كيفا، وحرصاً على المزيد من الكتمان قام بغسله طبيب كان يتولّى أمر علاجه، وحُمل في تابوت إلى قلعة الروضة في القاهرة، وأُخفي خبر وفاته عن الناس، ونُقل جثمانه بعدئذ إلى تربته بجوار المدارس الصالحية في القاهرة.

وكان السلطان الصالح متعلقاً بزوجته الأثيرة شجر الدُرّ، حسبما يسمّيها المقريزي، وهي تركية، وقيل: أرمنية، ولما توفّي السلطان أحضرت شجر الدرّ الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والطواشي جمال الدين محسن، وكان هذا الأخير أقرب الناس إلى السلطان، ويقوم بأمر مماليكه وحاشيته، وأعلمتهما بوفاة السلطان، وأوصتهما بالكتمان خوفاً من الفرنج، واتفق الثلاثة على القيام بتدبير أمور الحكم إلى حين قدوم الملك المعظّم. ولم تكتف شجر الدر بهذه الخطوة، وإنما أحضرت الأمراء الذين في المعسكر، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق 2، ص 343):

" وقالت لهم: إن السلطان قد رسم بأن تحلفوا له، ولابنه الملك المعظّم غياث الدين توران شاه صاحب حصن كيفا أن يكون سلطاناً بعده، وللأمير فخر الدين يوسف شيخ الشيوخ بالتقدمة على العساكر، والقيام بالأتابكية وتدبير المملكة. فقالوا كلهم: سمعاً وطاعة؛ ظناً منهم بأن السلطان حيّ، وحلَفوا بأَسرهم، وحلّفوا سائر الأجناد والمماليك السلطانية ".

وكانت الخطوة الثالثة هي أن القيادة المشتركة- وهي تركية صرف- أحضرت مرسوماً من المراسيم التي سبق للسلطان الصالح أن وقٌعها، وكتبت فيه على لسان السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي الهَذْباني، نائب السلطان على القاهرة، أن يحلّف أكابر الدولة وأجنادها في العاصمة، فأشرف كل من قاضي القضاة بدر الدين يوسف بن الحسن السِّنجاري، والقاضي بهاء الدين زهير كاتب الإنشاء، على تحليف الأعيان، وكانت القيادة المشتركة تصدر المراسيم باسم السلطان، ويكتبها لهم خادم للسلطان اسمه سُهَيل، يشبه خطه خط السلطان، يقول المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 344): " ومشى هذا على الأمير حسام الدين نائب السلطنة مدة، إلى أن أوقفه بعض أصحابه على اضطراب في العلامة، يخالف علامة السلطان، ففحص عن خبر السلطان من بعض خواصّه الذين بالمعسكر، حتى عرف موته، فاشتد خوفه من الأمير فخر الدين، وخشي أن يتغلّب على المُلك، فاحتاط لنفسه ".

وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الدولة الأيوبية تخرج فيها القيادة العليا عن أيدي الفريق الكردي تماماً، وتستقر بالكلية في أيدي مماليكهم الترك، لذا كان الأمير الكردي حسام الدين مصيباً في خوفه من تسلّط الأمير المملوكي فخر الدين على مقاليد الحكم، وصحيح أنه نائب السلطان على العاصمة، لكنه بعيد عن مركز صنع القرار، كما أن القوة الضاربة هي في أيدي فخر الدين وسائر قادة المماليك.

وراح الأمير فخر الدين يمارس السلطة، فأطلق المسجونين، وتصرّف في إطلاق الأموال، وأهدى الخلع إلى كبار القادة، وأرسلت القيادة المشتركة الفارس أقطاي- وهو قائد المماليك البحرية- لإحضار الملك المعظّم من حصن كيفا في كردستان الشمالية، ولم يقف الأمير حسام الدين مكتوف اليدين، وإنما أرسل مبعوثاً من عنده إلى الملك المعظّم، موضحاً له أن من المصلحة الإسراع إلى مصر لتولّي مقاليد الحكم، " ومتى تأخّر فات الفوت، وتغلّب الأمير فخر الدين على البلاد ".

وعمد الأمير حسام الدين إلى خطوة احتياطية أخرى؛ فمن ناحية راح يجامل الأمير فخر الدين في مراسلاته، فيكتب إليه فخر الدين بصيغة " من فخر الدين الخادم يوسف "، فيكتب إليه حسام الدين بصيغة " المملوك أبو علي ". ومن ناحية أخرى نقل الملك المُغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل من عند عمّات أبيه، من القاهرة، إلى قلعة الجبل، ووكّل به من يحتاط عليه، ولا يسلّمه لأحد، خوفاً من أن يقيمه  الأمير فخر الدين سلطاناً بدلاً من المعظّم، ويستولي على الأمر باسمه.

وهكذا بات واضحاً أن الجناحين الكردي والتركي كانا يخوضان صراعاً خفياً وخطيراً، ولم يكن الجناح الكردي يفتقر إلى العقول الراجحة والقيادات الذكية، لكن ما النفع؟! فقد سبق أن فقد الصالح ثقته في أمراء الكرد، وفي المماليك الصالحية والأسدية، ووضع ثقته في مماليكه الجدد، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 339 - 340):

" فلما استولى [الصالح] على مملكة مصر أكثر من شراء المماليك، وجعلهم معظم عسكره، وقبض على الأمراء الذين كانوا عند أبيه وأخيه، واعتقلهم، وقطع أخبازهم [رواتبهم]، وأعطى مماليكه الإمريات [المناصب العليا]، فصاروا بطانته والمحيطين بدهليزه، وسمّاهم البحرية؛ لسكناهم معه في قلعة الروضة على بحر النيل ".

توران شاه سلطاناً

وصل خبر وفاة السلطان الصالح إلى ولده الملك المعظّم في حصن كيفا، فانطلق في خمسين فارساً من حرسه الخاص، منتصف شهر رمضان سنة (647 هـ)، وكان خصومه في الموصل وحلب يتربّصون به، وكمنوا له الكمائن، فانحدر نحو الجنوب، وقطع نهر الفرات عند مدينة عانه ( في شرقي العراق الآن)، وخاطر بنفسه، فسلك طريقاً في الصحراء متوجّهاً إلى دمشق، وكاد يهلك من العطش.

وخلال تلك الفترة كانت القيادة المشتركة تدير الأمور، وتُوهم أمراء الجيش بأن السلطان مريض، وغير مسموح لأحد بالوصول إليه، غير أن الفرنج علموا خبر وفاة السلطان من جواسيسهم، فخرجوا من دمياط فرساناً ورجّالة، وبراً وعبر نهر النيل، للانقضاض على المعسكر الأيوبي في المنصورة، والتوجه من بعد إلى القاهرة.

قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 346 – 347):

" فورد في يوم الجمعة إلى القاهرة من المعسكر كتاب فيه حضّ الناس على الجهاد، أوّله: ( انفْرُوا خِفافاً وِثِقالاً وجاهِدُوا في سبيلِ اللهِ بأموالِكمْ وأنفسِكمْ ذلكمْ خيرٌ لكمْ إنْ كنتمْ تَعْلَمونَ ). وكان كتاباً بليغأً فيه مواعظ جمّة، فقرئ على الناس فوق منبر جامع القاهرة، وحصل عند قراءته من البكاء والنحيب وارتفاع الأصوات بالضجيج ما لا يوصف، وارتجّت القاهرة ومصر؛ لكثرة انزعاج الناس وحركتهم للمسير، فخرج من البلاد والنواحي لجهاد الفرنج عالم عظيم، وقد اشتد كرب الخلائق من تمكّن الفرنج وأخذهم البلاد، مع موت السلطان ".

وكان أفراد البيت الأيوبي في بلاد الشام قد هبّوا كعادتهم لصد الهجوم الفرنجي، ولا سيما أبناء الملك الناصر داود صاحب الكرك، وأخواه الملك القاهر والملك المُغيث، ودارت رحى المعارك بين الجيشين الأيوبي والفرنجي براً وبحراً في النيل وفروعه، وشاركت الجماهير المصرية في الحرب، وصارت تتخطّف الفرنج من كل حدَب وصوب، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 348):

" وكانوا يتحيّلون في خطفهم بكل حيلة، حتى إن شخصاً أخذ بطّيخة أدخل فيها رأسه، وغطس في الماء إلى أن قرب من الفرنج، فظنوه بطّيخة، فما هو إلا أن نزل أحدهم في الماء ليتناولها إذ خطفه المسلم، وعام به حتى قدم به إلى المسلمين ".

على أن فرقة من الفرنج فاجأت المعسكر الأيوبي من جهة غير متوقَّعة، وأخذت الجيش على حين غرة، وكان الأمير فخر الدين في الحمام، فخرج على عجل لينظر ما الذي يجري، وليصدر الأمر إلى الجند بالمواجهة، فحاصره بعض فرسان الفرنج، وانفضّ عنه من معه من حرسه، فدافع عن نفسه، وسقط قتيلاً.

وما إن قُتل الأمير فخر الدين حتى دبّت الفوضى بين الناس، فتفرقوا يميناً وشمالاً، واقتحم الفرنج المنصورة، وكادوا يسيطرون على القصر السلطاني، وسرعان ما شنّ المماليك هجوماً معاكساً بقيادة المملوك بيبرس البُنْدُقَداري- هكذا ضبطه المقريزي- فأزاحوهم عن القصر، وفتكوا بهم فتكاً ذريعاً، وقتلوا منهم نحو ألف وخمسمئة من قادتهم وشجعانهم، وحلّت الهزيمة بهم، ووصلت أخبار النصر إلى القاهرة، فانتشرت الزينات والأفراح فيها.

أما الملك المعظّم توران شاه فأفلح في اجتياز بادية الشام، ووصل إلى دمشق، ونزل بقلعتها، وقام نائب دمشق الأمير جمال الدين بن يغمور (تركي) بخدمته، وحلف له الأمراء، وأُعلن سلطاناً، وخلع هو بدوره على الأمراء كما هي العادة، ومنحهم أموالاً جزيلة، إلى درجة أنه أنفق جميع ما كان في قلعة دمشق من المال، وهو ثلاثمئة ألف دينار، واستدعى من قلعة الكرك في الأردنّ مالاً آخر وأنفقه، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 352):

" ولأربع مضين من شوّال سقطت البطائق [الرسائل عن طريق حمام الزاجل] إلى المعسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظّم إلى دمشق، وسلطنته بها، فضربت البشائر بالمعسكر والقاهرة ".

وأقرّ السلطان المعظّم الأمير جمال الدين على نيابة السلطنة في دمشق، واتجه إلى مصر، فخرج قاضي القضاة بدر الدين السِّنجاري إلى غزة لاستقباله، ووفد معه إلى مصر، كما خرج الأمير حسام الدين يتلقّاه في الصالحية، ونزل المعظّم في قصر أبيه، ومن يومئذ أُعلنت وفاة السلطان الصالح، ولم يكن أحد قبل ذلك اليوم يتحدّث عن وفاته. وتسلّم المعظّم مملكة مصر، وخلع على الأمير حسام الدين خلعة سنيّة، وأهداه مِنطقة (نطاق للفروسية) وسيفاً وثلاثة آلاف دينار مصرية.

ثم توجّه المعظّم من الصالحية إلى المنصورة، حيث قيادة الجيش الأيوبي، وتلقّاه الأمراء المماليك، " فنزل في قصر جده وأبيه، يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة، فأول ما بدأ به أن أخذ مماليك الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار، وكثيراً من مخَلَّفه، بدون القيمة، ولم يعط ورثته شيئاً، وكان ذلك بنحو الخمسة عشرة ألف دينار، وأخذ يسبّ فخر الدين "، ويندّد بالإجراءات التي اتخذها، ومنها إطلاق المحابيس، وإنفاق الأموال، ويقول: " أيش ترك لي "؟! (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 353).

إن موقف المعظّم من فخر الدين وورثته وتصرفاته يؤكد أنه كان غاضباً عليه، وأن بعض المخلصين له- ولعل منهم الأمير حسام الدين وقاضي القضاة السنجاري- كانوا يطلعونه على نوايا فخر الدين، وينقلون إليه الصورة الكاملة لما عليه المماليك من تحكّم في مقاليد الأمور، وتهميش للفريق الكردي، ولعلهم شجّعوه على تصحيح الأمور، وقطع الطريق على الطموحات المملوكية.

موقف صعب

إذاً وجد المعظّم نفسه في موقف صعب؛ وكان عليه أن يخوض معركتين خطيرتين معاً: الأولى حرب خارجية ضد الفرنج الطامعين في السيطرة على مصر. والثانية معركة داخلية، تتعلق بكبح جماح زوجة أبيه شجر الدر، وتخليص المناصب القيادية العليا من أيدي المماليك البحرية خاصة، وظل يدير الأمور، ويصدر الأوامر، ويستقبل العلماء والفقهاء، ومنهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وسراج الدين الأُرْمَوي (نسبة إلى مدينة أُورمية)، ويجلس معهم ويناظرهم.

وبعد الهزيمة التي حلّت بالفرنج، في هجومهم على المنصورة، جزع الملك لويس التاسع، لكنه تمالك، وراح الفرنج يعّززون مواقعهم، ويتزوّدون بمزيد من القوات والإمدادات، إلا أن القيادة الأيوبية طوّرت بدورها طرائق المواجهة؛ إذ أمر توران شاه ببناء عدد من المراكب، وحُملت مفصّـلة على الجمال إلى بحر المحلّة، ثم أُنزلت في الماء، وشُحنت بالمقاتلين، ولم تلبث تلك المراكب أن انقضّت على المراكب الفرنجية وأخذتها أخذاً وبيلاً، وذكر المؤرخون أن السفن الأيوبية استولت على اثنتين وخمسين سفينة للفرنج كانت محملّة بالميرة والمؤن، وبذلك تمّ قطع الطريق على السفن الفرنجية، وحيل بينهم وبين قاعدتهم في دمياط، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 354):

" فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم،وصاروا محصورين لا يطيقون المقام، ولا يقدرون على الذهاب، واستضرى المسلمون عليهم، وطمعوا فيهم ".

وفي سنة (648 هـ) اضطر الفرنج إلى التراجع نحو دمياط، " فركب المسلمون أقفيتهم " كما قال المقريزي، وأنزلوا بهم الخسائر الفادحة قتلاً وأسراً، فبلغ عدد القتلى عشرة آلاف في قول المقلّ، وثلاثين ألفاً في قول المكثر، وبلغ عدد الأسرى، من الفرسان والرجّالة والصنّاع والسُّوقة، مئة ألف إنسان، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى، في حين كانت خسائر المسلمين نحو مئة رجل.

لويس التاسع أسـيراً

وفي سنة (648 هـ) لم يبق أمام لويس التاسع سوى أن يرجع برجاله من حيث أتى، وشرع الفرنج يستعدّون للانسحاب، فأحرقوا ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم، ليفرّوا إلى دمياط، لكن عملية الانسحاب لم تكن سهلة، وأدرك لويس التاسع أن جيشه سيتعرّض لمطاردة قاسية من الجيش الأيوبي، لذلك لجأ قبل الانسحاب إلى فتح باب المفاوضات، على أن يترك للجانب الأيوبي دمياط مقابل أخذ بيت المقدس، لكن توران شاه رفض العرض رفضاً مطلقاً؛ وكان يعرف ما يعانيه الفرنج من ضعف وعناء ونقص في الأقوات والذخائر.

وشرع الفرنج في التراجع نحو دمياط، وحُمل المرضى منهم في السفن، ولم تكن هذه عملية انسحاب، وإنما كانت عملية هروب كما سمّاها ابن واصل، وكان الجيش الأيوبي يسير في أعقابهم، ويهاجمهم من كل ناحية، ولم تكد مقدمة الجيش الفرنسي تصل إلى فارِسْكُور حتى غلب المرض على لويس التاسع ومعظم رجال جيشه، وكان المسلمون حينذاك يحيطون بهم، ويتخطّفونهم طوال الطريق قتلاً وأسراً.

وبعد أن تأكد للمسلمين سوء حال الفرنج قرروا أن يشنّوا عليهم هجوماً عاماً عند فارس كور، وكان الإعياء قد اشتد بالملك لويس التاسع وكذلك المرض، فلم يستطع القتال، وقاده أحد رجاله ليستريح في (مِنْية أبي عبد الله)، وهي إحدى قرى شَرِمْساح، وانقضّ الجيش الأيوبي على الفرنج عند فارسكُور، فحلّت الهزيمة الساحقة بالجيش الفرنجي، ووقع بأجمعه تقريباً بين قتلى وأسرى، ووقع لويس التاسع نفسه في الأسر، فسيق مكبّلاً بالأغلال إلى المنصورة، وسجن في دار فخر الدين إبراهيم بن لقمان، وعهد بحراسته إلى الطواشي صَبِيح المعـظَّمي، وذكر الصاحب جمال الدين مطروح أسر الملك لويس في قصيدة له، جاء فيها:

قل للفرنسيس إذا جئـــــته

مقــالَ نُصحٍ من قؤول نصيحْ

دارُ ابن لقمـــانَ على حالها

والقيـدُ باق، والطواشي صَبيحْ

ولم ينصبّ اهتمام المسلمين على استرداد دمياط وحدها، بل طمحوا إلى الاستيلاء على جميع الممتلكات الفرنجية في بلاد الشام، عن طريق الضغط على لويس التاسع، وحاول توران شاه تهديده لانتزاع الاعتراف منه، لكن لويس التاسع أصرّ على أنه لا سلطة له على الفرنج وممتلكاتهم في بلاد الشام.

واغتاظ توران شاه من موقف لويس فصمّم على غزو مناطق الفرنج في بلاد الشام، وغالى في شروط الصلح مع الفرنج، وطالب بمبلغ ضخم من المال مقابل فداء الجيش الفرنسي، على أن يكون تسليم دمياط ثمناً لفداء الملك الفرنسي نفسه، ووافق الملك لويس التاسع على تلك الشروط، وأُبرمت معاهدة بينه وبين توران شاه على أن يستمرّ الصلح بين الفريقين لمدة عشر سنوات.

مقدّمات الانهيار

بعد تحقيق النصر على الفرنج رحل السلطان المعظّم من المنصورة، ونزل بفارس كور، وضرب بها الدهليز السلطاني، وعمل فيه برجاً من الخشب، وفي الوقت نفسه كانت الخلافات بينه وبين المماليك بدأت تظهر على السطح، وكان انشغال الفريقين بأحداث المعارك ضد الفرنج يغطيها، وشرع كل فريق يتربّص بالآخر، ويعمل لإزاحته جانباً؛ تطبيقاً لمقولة: " تعشّ به قبل أن يتغدّى بك ".

ويبدو أن الفريق الكردي كان قد انتعش بوصول توران شاه إلى السلطة، وبات يستجمع قواه كي يتصدّى للفريق المملوكي التركي، وأفهم هذا من خبر ساقه المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 358 - 359)، فقد ذكر:

 " أن السلطان المعظّم أعرض عن مماليك أبيه الذين كانوا عنده لمهمّاته، واطّّرح الأمراء والأكابر أهل الحلّ والعَقد، وأبعد غلمان أبيه وترابيه [لعل المراد: من اقتناهم الصالح من المماليك وربّاهم]، واختص بجماعته الذين قدموا معه، وولاّهم الوظائف السلطانية، وقدّم الأراذل، وجعل الطواشي مسروراً- وهو خادمه- أستادار السطان [مستشاره ومتولّي أموره]، وأقام صبيحاً- وكان عبداً حبشياً فحلاً- أمير جاندار [حارس خاص]، وأنعم عليه بأموال كثيرة وإقطاعات جليلة، وأمر أن يُصاغ له عصا من ذهب، وأساء السلطان إلى المماليك وتوعّدهم، وصار إذا سكر في الليل جمع ما بين يديه من الشمع، وضرب رؤوسها بالسيف حتى تتقطّع، ويقول: هكذا أفعل بالبحرية. ويسمّي كل واحد باسمه، مع الانهماك على الفساد بمماليك أبيه، ولم يكونوا يألفون هذا الفعل من أبيه، وكذلك فعل بحظايا أبيه ".

وقال المقريزي في هذا الصدد أيضاً (السلوك، ج1، ق2، ص 359):

" وصار مع هذا أهل الحلّ والعقد، والأمر والنهي، لأصحابه الذين قدموا معه؛ فنفرت قلوب البحرية، واتفقوا على قتله ".

فمن هم هؤلاء الذين سمّاهم المقريزي (جماعته) تارة، و(أصحابه الذين قدموا معه) تارة أخرى؟! ولماذا لا يصرّح هو، أو المصدر الذي نقل منه، بهوية تلك الجماعة؟! الأرجح أن جماعة توران شاه وأصحابه الذين قدموا معه من حصن كيفا كانوا من الكرد، ويستفاد من سير الأحداث أن الفريق الكردي، بقيادة توران شاه، كان عازماً على القيام بانقلاب جذري في قمة هرم السلطة، وإعادة النفوذ الكردي إلى سابق عهده في الدولة، وأنهم وصلوا في القرار إلى نقطة اللاعودة، ويستفاد أيضاً أن الفريق المملوكي كان يحصي على الفريق الكردي أنفاسه، وكان جواسيسهم من الخدم والحشم ينقلون إليهم تفاصيل ما يتفوّه به المعظّم وأنصاره في جلساتهم الخاصة.

والمهم أن الفريق الكردي كان يخوض معركة خاسرة من جميع الأوجه.

وإليكم الأسباب فيما أعتقد.

·  أولاً: لأن عدد الفريق الكردي كان قليلاً جداً، فقد مرّ أن الذين قدموا مع المعظّم من حصن كيفا كانوا خمسين فقط، ولنفترض أن كرداً آخرين انضموا إليه من أمثال الأمير حسام الدين وغيره، ومع ذلك يبقى العدد ضئيلاً إزاء آلاف المماليك؛ والعدد مهمّ جداً في هذه الأحوال، ثم إن هذا الفريق مع قلّته لم يكن متجانساً، ففيهم الطواشي من أمثال مسرور، والعبد من أمثال صبيح، كما أنه لم يكن متكاتفاً متضامناً؛ والدليل أنه لما هاجم المماليك المعظّم بقي وحيداً.

·  ثانياً: كان الكامل والصالح قد فكّكا القوة الكردية في الجهازين القيادي والإداري بمصر خاصة، وأبعدا الكرد عن مراكز صنع القرار، وأحلاّ محلهم المماليك، فتسلّم هؤلاء المناصب العليا، ورتّبوا أتباعهم في المناصب الوسطى والدنيا، وصنعوا قاعدة عريضة مناصرة لهم على الصعيدين العسكري والإداري، وهذا أمر كان يفتقر إليه الفريق الكردي منذ عقود.

·  ثالثاً:  كان الفريق الكردي يفتقر إلى قيادة واعية ناضجة، فالمعظّم شاب شجاع ومقدام، لكنه غرّ، وغير خبير بإدارة الصراعات السياسية الداخلية، كما أنه يفتقر إلى الحنكة والدهاء، ليس هذا فحسب؛ وإنما كان متهوّراً، يرتجل قرارات طائشة، ويبوح بالأمور الخطيرة أما الخدم والحشم، ويبدو أنه كان مستبداً في اتخاذ الإجراءات الانقلابية، إذ لا نجد للأمير حسام الدين الهَذْباني مثلاُ موقعاً عملياًً في هذه الخطة، وهو الرجل الحكيم وصاحب الخبرة الطويلة في التعامل مع المماليك؛ وبعبارة أخرى : لم يقم المعظم بتشكيل غرفة عمليات لإدارة الأزمة، كما يقال في اللغة السياسية المعاصرة؛ هذا في حين كان قادة المماليك قد رصّوا صفوفهم، وشكّلوا قيادة عليا (لجنة مركزية بلغة عصرنا)، وكانت تلك القيادة تتألف من: عزّ الدين اََيبَك، وفارس الدين أَقْطاي، وبيبرس البندقداري، وقُطْز.

·  رابعاً: اتخذ المعظّم تدابير طائشة، وقام بسياسات قاصرة، فازداد موقفه ضعفاً، وأوجد مناخات معادية تماماً له، منها على سبيل المثال أنه نفّر منه أبرز أركان الفريق الكردي، وفي مقدمتهم كبار البيت الأيوبي، فأخرج ابن أخيه الملك المُغيث عمر ابن العادل من قلعة الجبل في القاهرة إلى قلعة الشُّوبَك في الأردن، واعتقله بها، وأبعد عمّه الملك السعيد فخر الدين من مصر إلى دمشق، وأمر نائبه جمال الدين باعتقاله هناك، ولا ريب أنه خسر بهذه التدابير تعاطف البيت الأيوبي وأنصارهم، بل حوّلهم إلى ناقمين وأعداء؛ وهذا ما لا يفعله عاقل، دعك من حكيم، في أوقات المحن.

·  خامساً: أمر المعظّم الأمير حسام الدين، نائبه في القاهرة، بالحضور إلى المعسكر في فارس كور كور، وعزله، وأقام بدلاً منه جمال الدين أقوش، وهو مملوك تركي، والأرجح أنه كان من المماليك الصلاحية أو الأسدية الذين أزاحهم السلطان الصالح، ومؤكد أنه لم يكن من البحرية، وأحسب أن هذا الإجراء كان من أكثر تدابير المعظّم طيشاً، وأخطر ما في الأمر أنه خسر قدرات الأمير حسام الدين وخبراته بكواليس السياسة في مصر حينذاك، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 358): " ووصل الأمير أبو علي إلى المعسكر، فنزل به مُطَّرَح الجانب، بعدما كان عُدّة الملك الصالح وعمدته ".

·  سادساً: أعلن المعظّم الخصومة مع شجر الدر، زوجة أبيه، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 358): " وبعث المعظّم إلى شجر الدرّ يتهدّدها، ويطالبها بمال أبيه وما تحت يدها من الجواهر. فداخلها خوف كبير، لما بدا منه الهوج والخفّة، وكاتبت المماليك البحرية بما فعلته في حقه، من تمهيد الدولة، وضبط الأمور حتى حضر تسلّم المملكة، وما جازاها به من التهديد والمطالبة بما ليس عندها، فأنفوا [غضبوا] لها، وحنقوا من أفعال السلطان". وكانت الحكمة تقتضي عدم إثارة المواجهة ضد شجر الدر، وكسبها إلى جانبه، ولا سيما أنها أخلصت في تنفيذ وصية زوجها السلطان الصالح بتولية المعظم الحكم، وقامت بتدابير تدل على الذكاء والحزم، وكان من الممكن للمعظم الإفادة من قدراتها وخبرتها بدل تحويلها إلى خصم.

·  سابعاً: قيام المعظّم بتبذير الأموال، وهذا أمر عهدناه فيه منذ أن وصل إلى دمشق، وكان في ذلك مخالفاً تماماً للسياسات الاقتصادية التي اتبعها كل من والده الصالح، وجده الكامل، والجد الكبير السلطان العادل. ومعلوم أن المال قوة، بل هو قوة شديدة الأهمية، وينبغي أن يكون الحاكم حريصاً عليه، عارفاً بكيفية إنفاقه على الوجه الصائب.

مقتل توران شاه

إذا جمعنا هذه الأسباب بعضها إلى بعض اتضح أن المعظم ومن معه كانوا يسيرون نحو النهاية بخطا سريعة جداً، وأن الفريق المملوكي كان يمتلك الكثير من عوامل الانتصار، لذلك بادر هذا الفريق إلى التحرك بسرعة، وكانت ساعة الصفر في يوم الاثنين، السادس عشر من شهر المحرّم، سنة (648 هـ /1250م)، وكانت العادة أن يُمدّ السماط السلطاني كل يوم، ويحضر كبار الأمراء والقادة لتناول الطعام معه، ولندع المقريزي يصف المشهد (السلوك، ج1، ق2، ص 359 – 360):

" وما هو إلا أن مُدّ السماط، بعد نزوله بفارس كور، في يوم الاثنين سادس عشر المحرّم، وجلس السلطان على عادته، تقدّم إليه أحد من البحرية، وهو بيبرس البندقداري، الذي صار إليه مُلك مصر، وضربه بالسيف، فتلقّاه المعظّم بيده، فبانت أصابعه، والتجأ إلى البرج الخشب الذي نُصب له بفارس كور، وهو يصيح: من جرحني؟ قالوا: الحشيشة [الحشّاشون]. فقال: لا والله، إلا البحرية! والله لا أبقيتُ منهم بقيّة! واستدعى المزيّن [لعله الممرّض] ليداوي يده. فقال البحرية بعضهم لبعض: تمّموه، وإلا أبادكم. فدخلوا عليه بالسيوف، ففر المعظّم إلى أعلى البرج، وأغلق بابه، والدم يسيل من يده. فأضرموا النار في البرج، ورموه بالنشاب، فألقى نفسه من البرج، وتعلّق بأذيال الفارس أقطاي [كبير قادة البحرية]، واستجار به، فلم يُجِره. ومرّ المعظّم هارباً إلى البحر [النيل]، وهو يقول: ما أريد مُلكاً! دعوني أرجع إلى الحصن [حصن كيفا]! يا مسلمين! ما فيكم من يصطنعني ويجيرني؟! هذا وجميع العسكر واقفون، فلم يجبه أحد، والنشاب يأخذه من كل ناحية، وسبحوا خلفه في الماء، وقطّعوه بالسيوف قطعاً، حتى مات جريحاً حريقاً غريقاً، وفرّ أصحابه واختفوا. وتُرك المعظّم على جانب البحر ثلاثة أيام، لا يقدر أحد أن يتجاسر على دفنه، إلى أن شفع فيه رسول الخليفة [المستعصم بالله]، فحُمل إلى ذلك الجانب ودُفن، فكانت مدة ملكه أحداً وسبعين يوماً ".  

إذاً فالخطّة كانت مدبّرة، وكان المماليك قد اتخذوا القرار، ودفع توران شاه ثمن تدابيره غير الحكيمة، وثمن هوجه وسياساته المتسرّعة ، ويصحّ فيه وفي أمثاله قولُ الشاعر ابن زُرَيْق البغدادي:

أُعطيتَ مُلْكاً، فلم تُحسِنْ سياستَه

وكلُّ من لا يسوسُ المُلْك يُحرَمُهُ

إضاءة هامة

ولعل ما أورده المقريزي حول شخصية المعظم يترك لدينا انطباعاً بأن الرجل كان رديئاً بصورة فظيعة، فقد ذكر المقريزي أن السلطان الصالح لم يكن على وفاق مع ابنه المعظّم، وما كان يراه أهلاً للحكم أصلاً، وقال بهذا الصدد (السلوك، ج1، ق1، ص 342):

" وقيل: إنه لم يعهد إلى أحد بالمُلك، بل قال للأمير حسام الدين بن أبي علي [الهذباني]: إذا متّ لا تسلّم البلاد إلا للخليفة المستعصم بالله، ليرى فيها رأيه؛ فإنه [الصالح] كان يعرف ما في ولده المعظَّم توران شاه من الهوج ".

وها هنا لا بد من أن نكون على حذر من كلمة (قيل!)، فهي تعني على أقل تقدير أن الخبر نوع من الإشاعة، وليس موثوقاً منه، وذكر المقريزي تحت لواء (قيل!) أيضاً أن الأمير حسام الدين ألحّ على السلطان الصالح أن يستقدم المعظّم من حصن كيفا، ليتولّى القيام بأمور الحكم، لكن الصالح رفض، وقال: إذا جاء قتلته.

وبطبيعة الحال لا أزعم أن المعظّم كان مبرّأ من العيوب، أو أنه كان في مستوى والده الصالح وجده الكامل من حيث الكفاءة والحنكة، وما سردناه من التدابير التي اتخذها دليل على أنه كان يتصرف بحماقة أحياناً، ومع ذلك ثمة أمور أربعة تقوّي عندي أن الرجل تعرّض لحملة تشويه شنعاء ومنظّمة، وخاصة بعد مقتله.

·  الأول: أن السلطان الصالح، قبيل وفاته، عهد بالسلطنة إلى المعظّم، وطلب من كبار قادة المماليك وغيرهم أن يحلفوا على ذلك، وأنه وقّع عشرة آلاف مرسوم على بياض، لتتدبّر حاشيته أمور الدولة إلى حين قدوم المعظم من حصن كيفا، مع الانتباه إلى أن المقريزي أورد هذا الخبر من غير أن يبدأها بالكلمة التشكيكية (قيل!)؛ وهذا كله يتناقض مع ما (قيل) حول عدم رغبة الصالح في توريث ابنه أمر السلطنة، وأنه أوكل الأمر إلى المستعصم بالله.  

·  والثاني: أنه سبق أن قال المقريزي في توران شاه (السلوك، ج1، ق2، ص 353)، حينما قدم إلى مصر: " وجرت بين يديه مباحثات ومناظرات في أنواع العلوم، وكان السلطان المعظم قد مهر في العلوم، وعرف الخلاف والفقه والأصول، وكان جدّه الملك الكامل يحبه لميله إلى العلم، ويلقي عليه من صغره المسائل المشكلة، ويأمره بعرضها وامتحان الفقهاء بها في مجلسه، ولازم المعظّم الاشتغال إلى أن برع، إلا أنه فيه هوج وخفّة، مع غرامه بمجالسة أهل العلم من الفقهاء والشعراء ". ومن يكون هذا شأنه مع العلم والعلماء لا يكون امرأ رديئاً إلى الدرجة التي قد نظنها.

·  والثالث: أن المقريزي عاش بين سنتي (766 – 845 هـ / 1365 – 1442 م)؛ وهذا يعني أنه عاش شطراً من حياته في عهد الدولة المملوكية التركية (648 – 783 هـ / 1250 – 1381 م)، وعاش الشطر الآخر من عمره في عهد الدولة المملوكية الشركسية (784 – 922 هـ / 1382 – 1516 م)، التي قضى عليها السلطان العثماني سليم الأول، وكان السلاطين الشراكسة في الأصل مماليك لسلاطين المماليك الأتراك، أي أنهم كانوا امتداداً ثقافياً لهم، وإذا أخذنا في الحسبان أن مقتل توران شاه كان سنة (648 هـ / 1250 م)، فذلك يعني أن بين كتابات المقريزي وبين الأحداث التي يرويها ما يزيد على قرن من الزمان، وأنه كان يستقي معلوماته مما روّجته وأشاعته الدولة المملوكية الأولى على الأقل.

·  والرابع: إذا أخذنا في الحسبان أن توران شاه كان خصماً شرساً وعنيداً للمماليك، وأنهم قتلوه بكيفية لا تخلو من حقد شديد، ومن قسوة بالغة كما مرّ، فمن الطبيعي أن تعمد الآلة الإعلامية المملوكية إلى تسويد سيرة توران شاه، وإلى الإشادة بسيرة الحكام الجدد، وهذا واضح في الكيفية التي يورد بها المقريزي، أو من نقل عنهم، أخبار كل من توران شاه والمماليك، فهو إزاء الأول لا يخلو من تحامل، وإزاء الآخرين لا يخلو من مجاملة.

وللتأكد من أمر التحامل والمجاملة يكفي أن نستعرض الأخبار التي أوردها المقريزي نفسه حول غدر المماليك فيما بينهم، وفتك بعضهم ببعض الآخر بطرائق دنيئة وممجوجة، وخذ على سبيل المثال مقتل عز الدين أَيبك بأمر من زوجته شجر الدر في الحمّام، إذ أخذ بعض رجالها بخناقه، وآخر بخصيتيه، إلى أن قتلوه (المقريزي: السلوك، ج1،2، ص 403).

ومنها أن الملك المنصور ابن المعز- وقد تولّى الحكم بعد أبيه- نقل شجر الدر إلى أمه زوجة أيبك السابقة، " فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت، ثم ألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سوى سراويل وقميص، فبقيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكة سراويلها، ثم دفنت بعد أيام؛ وقد نتنت وحُملت في قفّة " (المقريزي: السلوك، ج1،2، ص 404).

ولاحظوا أن المقريزي سريع إلى وصف أولئك العامة بالأراذل، في حين لا ينطق ببنت شفة إزاء زوجة المعز وابنه ومماليكه الذي فعلوا بشجر الدر تلك الأفاعيل البشعة؛ وهناك كثير من الأمثلة على هذه السلوكيات السادية الغريبة، ولو نبشنا تاريخ الأيوبيين نبشاً لما وجدنا فيه ما يقاربها، وليس ما يماثلها بأي شكل من الأشكال.

محاولة يائسة

بعد مقتل توران شاه اختار المماليك شجر الدر سلطانة لحكم البلاد، وبما أنها امرأة كان عليها أن تتزوج من المملوك عز الدين أيبك التركماني، وبما أن المسلمين لم يألفوا أن تحكمهم امرأة فقد أعلن أيبك نفسه سلطاناً سنة (648 هـ/1250م).

وها قدر ربح المماليك النصر في المعركة الداخلية ضد الأيوبيين، وبقي عليهم أن يقطفوا ثمار الانتصار في المعركة الخارجية ضد الفرنج، لذا بدأوا المفاوضات من جديد مع الفرنج، وناب عنهم الأمير الكردي حسام الدين الهَذْباني لرجاحة عقله، ووافق المماليك أخيراً على إطلاق سراح الملك لويس التاسع وأمرائه مقابل جلاء الفرنج عن دمياط، وفكّ أسر من لديهم من المسلمين، بشرط ألا يقصدوا سواحل الإسلام مرة أخرى، وتعهّد المماليك من جانبهم بإطلاق سراح الأسرى الفرنج، وكان عددهم (12110) أسيراً، وحُدّد أجل الصلح بعشر سنوات، وفي صفر سنة (648 هـ/مايو- أيار 1250م) تسلّم المسلمون دمياط، وأُطلق سراح الملك لويس التاسع، بعد دفع مقدّم الفدية المتّفق عليها،

وكان من الطبيعي أن تثور ثائرة الملوك الأيوبيين في بلاد الشام، وأن يغضب مؤيدوهم من الأمراء القًيْمَرية الكرد في دمشق، وقام الجميع بمحاولة يائسة لاسترداد المُلك المسلوب، وكانت المحاولة بقيادة صاحب حلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن العزيز محمد ابن الظاهر غازي ابن السلطان صـلاح الدين بن أيوب، ومعه الملك المغيث صاحب الكرك والشوبك، والملك السعيد صاحب غزّة، بل وقف مع الأيوبيين قليل من المماليك المنافسين للبحرية، ولا ريب في أنهم كانوا من المماليك الصلاحية والأسدية الذين خسروا نفوذهم في عهد السلطان الصالح أولاً، وبعد استئثار البحرية بالسلطة ثانياً.

وإزاء هذه الأخطار لجأ المماليك إلى مناورة سياسية بارعة، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 369): " فلما كان بعد ذلك تجمّع الأمراء، وقالوا: لا بد من إقامة شخص من بيت المُلْك مع المعز أيبك، ليجتمع الكل على طاعته، ويطيعه الملوك من أهله ". واتفقوا على إقامة الملك الأشرف مظفّر الدين موسى بن الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل بن الملك العادل سلطاناً، وله من العمر ست سنين، على أن يقوم بتدبير الدولة الملك المعز أَيْبَك. قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 369) معلّقاً على هذه المناورة السياسية قائلاً: " إلا أن الأشرف ليس له سوى الاسم في الشركة، لا غير ذلك، وجميع الأمور بيد المعز أيبك ".

والحق أن تنصيب الملك الأشرف سلطاناً لم يكن- بالنسبة إلى المماليك- إلا حصان طروادة سياسي، وحققوا بتنصيبه أموراً أربعة:

·  الأول: إجهاض حملة البيت الأيوبي بقيادة الملك الناصر، وتمزيق الصف الأيوبي نفسه، والحد من التفاف المؤيّدين حولهم.

·  الثاني: الاحتماء بغطاء سياسي شرعي، باعتبار أن الملك الأشرف من البيت الأيوبي، ولا داعي إلى مناهضته، بل إن مناهضته تعني الخروج على السلطة الشرعية.

·  الثالث: استغلال صغر الملك الأشرف لتمرير سياساتهم الخاصة باسمه، ولتقوية مركزهم، وترسيخ نفوذهم.

·  الرابع: إمكانية التخلص منه بسهولة بمجرّد القضاء على الحملة الأيوبية المناهضة لهم (انظر أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، ص 305).

وعمد المماليك إلى مناورة سياسية أخرى، وعلى مستوى أوسع وأهمّ، ألا وهي الاحتماء بغطاء الخلافة، واستمداد الشرعية منها، وذكر المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 368)  أنه لما ورد الخبر بانضمام بعض المماليك، وعلى رأسهم الأمير ركن الدين خاص تُرك، إلى الصف الأيوبي، " نودي في القاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصم بالله العباسي، وأن الملك المعز أيبك نائبه بها ".

الغدر ثانية!

قرر ملوك بني أيوب القيام بالخطوة الحاسمة، واسترداد الملك المسلوب، وتوجّه الملك الناصر إلى مصر بجيش كبير، ومعه من زعماء الأسرة الأيوبية: الملك الصالح عمـاد الدين إسماعيل بن الملك العـادل، والملك الأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن شيرگوه، والملك شادي بن الناصر داود، وأخوه الملك الأمجـد حسن، والملك الأمجد تقيّ الدين عباس بن العـادل، وملوك آخرون، إلى جانب عدد آخر من كبار القادة الكرد، وفي مقدّمتهم الأمير شمس الدين الحميدي، والأمير بدر الدين الزَّرْزاري، والأمير ضياء الدين القَيْمَري.

وعلى الجانب المملوكي دبّ الاضطراب، وقُبض على جـماعة من الأمراء المتهمين بالميل إلى الملك الناصر، وتجـاوز الناصر غزّة، ووصل إلى التخوم الفاصلة بين الشام ومصر، وخرج إليه الملك المعز أيبَك بقواته، والملاحظ هنا أن الأمـير الكردي حسام الدين الهذباني كان من أبرز قوّاده، وكان قائداً على ميسرة العسكر المملوكي، والتقى الجيشان قرب (العبّاسة)، وكانت الجولة الأولى للجند الأيوبي على الجند المملوكي، لكن العصبية التركية لعبت دورها في أشد لحظات القتال حرجاً، يقول المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 374) موضحاً ذلك:

" وكان في ظن كل أحد أن النصرة إنما تكون للملك الناصر على البحرية، لكثرة عساكره، ولميل أكثر عسكر مصر إليه، فاتفق أنه كان مع الناصر جمع كبير من مماليك أبيه الملك العزيز، وهم أتراك يميلون إلى البحرية لعلّة الجنسية ... ".

وأضاف المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 375) يقول:

" ووقف الناصر في جمع من العزيزية [مماليك والده الملك العزيز، وهم ترك]، وغيرهم تحت سناجقه [راياته وقد اطمأنّ، فخرج عليهم المعزّ ومعه الفارس أَقْطاي، في ثلاثمائة من البحرية، وقرب منه، فخامر [تآمر] عدّة ممن كان مع الناصر عليه، ومالوا مع المعز والبحرية، فولّى الناصر فاراً، يريد الشام في خاصته وغلمانه، واستولى البحرية على سناجقه، وكسروا صناديقه، ونهبوا أمواله ".  

إذاً خسر الأيوبيون المعركة لأن المماليك الترك الذين كانوا في صفوفهم انحازوا إلى أبناء جنسهم، وغدروا بالأيوبيين، وكانوا قوة قتالية هامة، بدليل كونهم في القلب مع الملك الناصر، وكانت النتيجة وقوع ملوك البيت الأيوبي وقادة الكرد في الأسر، ومقتل بعضهم. ولا ننس في الوقت نفسه وقوف الأمير الكردي حسام الدين ضد بني جنسه، فقد عرف المماليك البحرية كيف يستقطبونه، عبر إطماعه في منصب رفيع، والإفادة من قدراته القيادة.

إن موقف الأمير حسام الدين يذكّرني بموقف شبيه حدث في التاريخ الكردي حوالي سنة (550 ق.م)، فحينذاك وقف القائد الميدي هارباك ضد أستياگز (أستياجس) آخر ملوك ميديا، وانحاز إلى جانب الملك الأخميني قورش الثاني، وجرّ معه كثيرين من كبار القيادات الميدية، وكانت النتيجة سقوط الدولة الميدية، وحلول الدولة الأخمينية محلها؛ وها قد زالت الدولة الأيوبية أيضاً؛ وبطريقة جدّ مشابهة لسقوط الدولة الميدية، لكن بعد أن سطرت صفحات مجيدة في تاريخ غربي آسيا.

المراجع

1.    الدكتور أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.

2.    ابن سباط: تاريخ ابن سباط، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار جروس برس، طرابلس، الطبعة الأولى، 1993م، الجزء الأول.

  1. ستيفن رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الدكتور السيد الباز العريني، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م، الجزء الثالث.
  2. الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2006 م..
  3. عبد الباسط بن خليل بن شاهين الملطي: نزهة الأساطين في من ولي مصر من السلاطين، تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987م.
  4. الدكتور عبد العظيم رمضان: الصراع بين العرب وأوربا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية، دار المعارف، القاهرة، 1983م.
  5. الدكتور عبد المنعم ماجد: الدولة الأيوبية في تاريخ مصر الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997م.
  6. المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره محمد مصطفى زيادة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1971م. الجزء الأول، القسم الثاني.

ـــــــــــــ

تنويه: [ القراء الأفاضل، سأتوقف حوالي شهرين، ونتيجة ظروف خاصة، عن متابعة كتابة حلقات هذه السلسلة، ولنا – بإذن الله – عودة إلى استكمال المسيرة مع التاريخ ].

 

د. أحمد الخليل   في 20 – 5 – 2007

 

========================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة التاسعة والثلاثون )

السلطان الصالح نجم الدين أيوب

 (603 - 647 هـ)

شرق وغرب!

" الشرق شرق، والغرب غرب.

ولن يلتقيا أبداً ".

هكذا قال الشاعر البريطاني روديارد كبلنغ في إحدى قصائده ذات مرة.

ونفهم من عبارة (لن يلتقيا) أن لكل من الشرق والغرب رؤيته ومبادئه وقيمه وثقافته وحضارته، ولن يتوصلا إلى قاسم مشترك بينهما، ولن يتفاهما على نقاط الاختلاف، وإنما ستظل روح الخصام والاحتراب قائمة بينهما إلى الأبد؛ تارة يتجه الشرق إلى الغرب غازياً، وأخرى يندفع الغرب إلى الشرق مستعمراً.

وما كان كبلنغ يثرثر وما كان يهذي،  وإنما كان قد رجع إلى تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب قبل عشرات القرون، وتفحّص مساراتها ومداراتها، فوجد أن الفينيقيين، سكان الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، كانوا في خصومة مع الإغريق، سكان جنوبي اليونان. وأن ميديا الكردية خاضت حروباً طاحنة ضد ليديا اليونانية، في القرن السابع قبل الميلاد، وصحيح أن ليديا كانت تقوم في آسيا الصغرى (تركيا حديثاً) لكنها كانت يونانية إثنولوجياً وثقافياً.

ووجد كبلنغ أيضاً أن الفرس الأخمين شنوا حملاتهم الكبرى ضد بلاد اليونان بقيادة دارا الأول وابنه أحشويرش الأول Xerxes، في القرن السادس والخامس قبل الميلاد، وهاجم الفرس أثينا عاصمة اليونان، وألحقوا بها الدمار، فجاء الرد الغربي بقيادة الإسكندر المكدوني، في القرن الرابع قبل الميلاد، فهاجم عاصمة الفرس پرسوپوليس (في جنوب غربي إيران)، ودمّرها تدميراً.

واستمر الصراع بين الشرق والغرب بعد الميلاد، وكان زمام المبادرة في أيدي الرومان وأقاربهم البيزنطيين، ممثلي الثقافة الغربية، وظلوا يحكمون شعوباً شرقية قروناً عديدة، وجاء الرد على أيدي الفرس الساسانيين أكثر من مرة، ثم ظهر العرب المسلمون في القرن السابع الميلادي، فقذفوا بالغرب إلى ما وراء البحر الأبيض المتوسط، بل لاحقوهم إلى إسبانيا، وجنوبي كل من فرنسا وإيطاليا، وحاولوا مراراً إخراجهم من آسيا الصغرى، واحتلال عاصمتهم القسطنطينية، فلم يفلحوا في ذلك.

 

وهل التزم الغرب الصمت؟

لا، وإنما جاء الرد الغربي على أيدي الفرنج (الصليبيين) في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، إذا هاجموا الشرق، وتحديداً شرقي المتوسط، ومصر، وأسسوا إمارة الرُها في شمال غربي كردستان (جنوب غربي تركيا)، وإمارة أنطاكيا، وإمارة طرابلس، وسيطروا على القدس، وأسسوا مملكة بيت المقدس، وتطلّعوا من بعد إلى احتلال مصر عدة مرات.

ونهض الشرق ثانية بقيادة الزنكيين الترك أولاً، ثم بقيادة الأيوبيين الكرد، لكن كان الرد هجومياً محلياً، وتحول على أيدي العثمانيين الترك إلى رد هجومي داخل أوربا نفسها، فاجتاح العثمانيون قسماً كبيراً من أوربا الشرقية، واحتلوا أجزاء من أوربا الغربية، وحاصروا فينّا عاصمة النمسا مرتين.

واستلم الغرب زمام الرد الهجومي في العصر الحديث، فسيطرت إنكلترا وفرنسا وإيطاليا، وإلى حد ما إسبانيا على جميع البلدان الواقعة في شمالي إفريقيا، وفي شرقي المتوسط، بل اندفعت إنكلترا إلى العمق الشرقي، حتى الهند وأفغانستان ضمناً.

وما زالت المبادرة في أيدي الغرب منذ ثلاثة قرون.

حروب دينية

وجدير بالملاحظة أن حروب الشرق والغرب، قبل القرن السابع الميلادي، لم تكن دينية الطابع، ولم نجد في المصادر التاريخية أن دارا الفارسي غزا بلاد اليونان لنشر الزردشتية، وكانت العقيدة الرسمية للدولة الأخمينية، ولم نجد أن الإسكندر غزا بلاد فارس لنشر عقيدة زيوس إله اليونان الأكبر، بل على العكس من ذلك كان كل غاز من هذين يتصرف وفق قاعدة (لكم دينكم ولي ديني)، وكانت التبعية السياسية والاقتصادية هي التي تهمّهما في الدرجة الأولى.

إن بوادر دخول الدين في الصراع بين الشرق والغرب ظهرت- لكن بشكل محدود- بعد أن أعلن الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية ديانة رسمية للدولة سنة (313 م)، ولا يخفى أن المسيحية ديانة شرقية المنشأ، أو لنقل: إنها ديانة شرق متوسطية، فقد ظهرت في فلسطين أولاً، ثم انتقلت إلى جنوبي أوربا وسائر العالم.

وتكرّس الطابع الديني للصراعات، سواء أكانت شرقية – شرقية، أم كانت شرقية – غربية، وبصورة حادّة، مع انطلاقة الفتوحات الإسلامية في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، ولا يخفى أن الإسلام ديانة شرقية المنشأ، أو لنقل: إنها ديانة شرق متوسطية، ظهرت في شبه الجزيرة العربية.    

وبعبارة أكثر دقة: إن الحروب الدينية الطابع، سواء أكانت إسلامية بقيادة شرقية، أم كانت مسيحية بقيادة غربية، هي في الحقيقة إنتاج شرق متوسطي، وهذه ظاهرة جديرة بالدرس الجادّ، وبالتحليل الموضوعي، وبعيداً عن الأحكام المطلقة والمسبقة، ولعلنا نكون أكثر دقة إذا عدنا بالذاكرة إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حينما قاد العبرانيون حرباً دينية طاحنة في شرقي المتوسط، وتحديداً في فلسطين، وأباحوا لأنفسهم، وفق صك مزعوم من الإله يَهْوَه، بلاداً تمتد من وادي العريش غرباً إلى نهر الفرات شرقاً، وقرروا احتلال أَراضي عشرة شعوب كانت تسكن تلك المنطقة حسبما جاء في التوراة؛ وهم: الْقَيْنِيِونَ وَالْقَنِزِّيِّونَ وَالْقَدْمُونِيِّونَ، وَالْحِثِّيِّونَ وَالْفَرِزِّيِّونَ، وَالرَّفَائِيِّونَ، وَالأَمُورِيِّونَ، وَالْكَنْعَانِيِّونَ، وَالْجِرْجَاشِيِّونَ، وَالْيَبُوسِيِّونَ. (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 15، الآيات 18 – 21).

وما يهمنا الآن هو أمر الحروب الصليبية.

إن هذه الحروب كانت حلقة في سلسلة الصراع الطويل بين الشرق والغرب، وهو في جوهره صراع على الموارد الاقتصادية والبشرية، وصراع على الأسواق التجارية والطرق التي توصل إليها، وبعبارة أخرى: إنه صراع على (المكان) و(الإنسان)، ومن الطبيعي أن تخاض تلك الحروب تحت راية أيديولوجيا (ثقافة، دين) معينة كل مرة، فتحقيق النصر في حرب ما يتطلّب، على الدوام، تجنيد أكبر عدد ممكن من المقاتلين المتحمسين، كما يتطلّب رغبة قصوى في التنازل عن الحياة (الشهادة)؛ والأيديولوجيا هي الأكثر فاعلية في توفير هذين العاملين.

ويقع تاريخ الحروب الصليبية بين عامي (1095 – 1291 م)، أي أنها استمرت (196) مئة وستة وتسعين عاماً، وقد جرت العادة على أن يبدأ الحديث عن هذه الحروب من سنة (1095 م)، وتحديداً من تاريخ الخطاب الذي ألقاه البابا أُورْبان الثاني في مؤتمر كليرمُونت بفرنسا في تلك السنة، ودعا فيه أوربا حكاماً وشعوباً إلى غزو الشرق، وخوض الجهاد الديني، تحت راية الصليب، لإنقاذ القدس من المسلمين.

بلى، هذا ما توحي به كتابات معظم من تناول أمر الحروب الصليبية، ووجه الخطر في هذه الكتابات وأمثالها أنها تقدم المشهد منقطعاً عما قبله، وتجعلنا نعتاد قراءة الأحداث التاريخية على أنها جزر منفصلة، لا يربط بينها رابط، ولا علاقة لهذا الحدث بذاك، وهي توصلنا في النهاية إلى استخلاص نتائج غير منطقية وغير موضوعية، بل دعوني أقل: إنها تجعلنا نبحث في التاريخ خارج التاريخ.

الشرارة الأولى

وترى قلة من الباحثين أن الشرارة التي أشعلت الحروب الصليبية هي معركة منازكرد (ملازكرت، مانزكرت)، بشمالي كردستان، سنة (1071 م)، وكي ندرك الأحداث بدقة أكثر لا بد من العودة إلى الوراء زماناً ومكاناً: أما زماناً فإلى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وأما مكاناً فإلى سهوب وسط آسيا، قرب بحيرة أورال، وشرقي بحيرة قزوين (الخزر).

 فحينذاك كان الترك السلاجقة- وهم طائفة من الغُز (الأُوغُوز)- قد هاجروا من أقاصي تركمانستان لسوء الأحوال الاقتصادية، وتحت ضغط قبائل أقوى، وسكنوا أيام الدولة السامانية (261 - 389 هـ) بجوار بحيرة أُورال، وفي السواحل الشرقية لبحر قزوين (الخزر)، واعتنقوا الإسلام.

وفي البداية عمل السلاجقة مرتزقة في الجيش الغزنوي، ثم انقلبوا على سادتهم، واستطاعوا في النهاية القضاء على الدولة الغزنوية، وفي سنة (429 هـ) اتخذوا طُغْرُلْبَك محمد بن ميكائيل بن سلجوق ملكاً لهم في نيسابور، ثم ازدادت قوتهم، فتقدموا غرباً نحو إيران فالعراق وكردستان، واستعان بهم الخليفة العباسي القائم بأمر الله (ت 467 هـ) للخلاص من تسلّط البويهيين الشيعة، ودخل طغرلبك بغداد سنة (447 هـ)، وقضى على الحكم البويهي، ومنحه الخليفة لقب (سلطان)، وهو أول مرّة يُستحدَث فيها لقب (سلطان) في تاريخ الإسلام.

وعلى الدوام كان هدف الفاتحين القادمين من الشرق هو الوصول إلى السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وعلى الدوام كانت كردستان هي المعبر الذي لا بد أن يسيطر عليه الفاتحون، وينطلقوا منه لتحقيق ذلك الغرض، وهذا ما فعله السلاجقة، ففي سنتي (448، 449 هـ) استكملوا احتلال كردستان الشرقية، واحتلوا شمالي كردستان، وقضوا على الدول الكردية التي كانت قائمة آنذاك، وهي الدولة الرَّوادية في أذربيجان، والدولة الشَّدادية في جزء من أرمينيا وآخر من أذربيجان، والدولة المروانية في شمالي كردستان.  

 واستكمل السلطان السلجوقي ألب أرسلان مشروع السيطرة على كردستان شمالاً وغرباً، ومن كردستان أطل السلاجقة على آسيا الصغرى غرباً، وبلاد الشام غرباً وجنوباً، ومن ورائهما السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، ووجدت الإمبراطورية البيزنطية على حدودها الشرقية غازياً طموحاً صلب الشكيمة، شديد المراس، فحق لها أن تقلق وتبادر إلى وقف تقدم السلاجقة.

وفي سنة (463 هـ/1071 م) جرد الإمبراطور أرمانوس (رومانوس) جيشاً جراراً، وتوجه شرقاً، فالتقاه السلطان السلجوقي ألب أرسلان ومعه خمسة آلاف من التركمان وعشرة آلاف من الكرد، قرب منازكرد الواقعة شمالي بحيرة وان، وحقق ألب أرسلان نصراً حاسماً، ووقع الإمبراطور في الأسر، وأصبحت الطريق سالكة إلى آسيا الصغرى، ولم يخلد السلاجقة إلى الراحة، فراحوا يتوسّعون غرباً، ومع سنة (1081 م كانوا السادة الحقيقيين في آسيا الصغرى حتى بحر مرمرة.

وفي ذلك الوقت كانت الكنيسة الشرقية (كنيسة بيزنطا الأرثوذكسية) قد فقدت حيويتها، وكانت الكنيسة الغربية (كنيسة روما الكاثوليكية) قد أنجزت حركة إصلاحية شاملة، وأصبحت البابوية قوة محركة للأحداث في أوربا، وتطلعت من ثم إلى بسط زعامتها على العالم المسيحي بأسره.

وعلى أثر كارثة ملازكرد استنجد الإمبراطور البيزنطي ميخائيل السابع بالبابوية، طالباً فرقاً عسكرية لمقاومة السلاجقة، وسرعان ما لبّت البابوية الطلب، فقد كان العالم المسيحي الغربي يعدّ القسطنطينية خط دفاعها الأول من جهة الشرق، لذلك هبّ البابا جريجوري السابع إلى تشجيع الأوربيين على نجدة بيزنطا، ولقيت هذه الدعوة بعدئذ تصعيداً شديداً على يدي البابا أوربان الثاني.

انطلاقة الحملات الصليبية

وقد دخلت الحملة الصليبية الأولى طور التنفيذ سنة (1096 م)، وكانت النتيجة إقامة إمارة الرُّها سنة (1097 م)،  وإمارة أنطاكيا (1098 م)، وإمارة طرابلس، واحتلال القدس سنة (1099 م)، وتأسيس مملكة بيت المقدس التي كانت تحكم فلسطين وجزءاً كبيراً من الأردن، وتأسست إمارة طرابلس (في لبنان) سنة (1109 م).

ومع سنة (1095 م) كان التوسع السلجوقي غرباً قد وصل إلى مداه الأقصى، ونشبت الصراعات داخل البيت السلجوقي نفسه بعد مقتل السلطان ملكشاه سنة (485 هـ)، وكانت القوة الزنكية، في عهد عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين، هي الناهضة والناشطة في شرقي المتوسط، وهي التي أخذت راية التصدي للغزو الفرنجي، وأسقط الزنكيون إمارة الرها الفرنجية سنة(1144 م) في عهد عماد الدين، ثم للمرة الأخيرة سنة (1146 م) في عهد نور الدين، وسيطروا على شمالي سوريا وجنوبيها، وأصبحوا يهددون الإمارات الفرنجية الأخرى، ومملكة بيت المقدس.

وأحدث سقوط إمارة الرها الفرنجية ردود فعل شديدة عند الفرنج، واستغاثت مملكة بيت المقدس الفرنجية بالبابا يوجين الثالث سنة (1145 م)، فدعا البابا أوربان إلى شنّ الحملة الصليبية الثانية، وتم تنفيذ الحملة سنة (1147 م)، بمشاركة كل من الملك الفرنسي لويس السابع، والإمبراطور الألماني كونراد الثالث، وأقصى ما حققته هو أن الفرنج هاجموا دمشق وحاصروها سنة (1148 م)، وأخفقوا في احتلالها.

ومنذ سنة (1174 م) حمل الكرد الأيوبيون راية الدفاع عن الشرق ضد الفرنج، واستعاد صلاح الدين القدس سنة (1187 م)، بعد حوالي تسعين سنة من الحملة الصليبية الأولى، كما استرد قسماً كبيراً من فلسطين ومن سوريا الساحلية، فثارت ثائرة أوربا، وكانت النتيجة هي الحملة الصليبية الثالثة سنة (1089 م)، وقادها ثلاثة كانوا كبار قادة أوربا حينذاك، وهم: فردريك برباروسا إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، وفيليب أوغست ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وانتهت الحملة سنة (1092 م)، عاجزة عن تحقيق هدفها الأساسي؛ وهو استرداد القدس.

ثم كانت الحملة الصليبية الرابعة (1202 – 1204 م)، وقد أحبطها السلطان العادل بدبلوماسيته الحكيمة، وتلتها الحملة الصليبية الخامسة على مصر بين سنتي (1218 – 1221 م)، وقد تصدّى لها السلطان الكامل، وألحق بها الهزيمة. ثم كانت الحملة الصليبية السادسة (1228 – 1229 م)، بقيادة فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا والمملكة الرومانية المقدسة، وحققت مكاسب محدودة بتبعية القدس للإمبراطور.

وأخيراً كانت الحملة الصليبية السابعة (1248 – 1254 م)، وكانت بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وكان قدر البيت الأيوبي أن يتصدى لهذه الحملة بقياد السلطان الصالح نجم الدين ابن السلطان الكامل. فمن هو الرجل؟ وكيف أدار الحرب؟

السلطان والدولة

السلطان الصالح هو أبو الفتوح نجم الدين أيوب ابن السلطان الكامل ابن السلطان العادل ابن أيوب، أمه جارية سودانية اسمها ورد المنى، ولد سنة (603 هـ)، وكان السلطان الكامل ابن السلطان العادل يحب ولده الأصغر العادل، وكان يحب أمه حباً زائداً، وكانت أم العادل حريصة على تنفير السلطان من ابنه الأكبر نجم الدين، فولاّه السلطان على حصن كيفا في كردستان سنة (630 هـ)، وحقق بذلك هدفين:

-       الأول ضمان سيطرته على كردستان والحدود الشرقية الشمالية.

-       والثاني إبعاد الصالح عن مركز النفوذ في القيادة العليا.

وقام السلطان الكامل في السنة نفسها بتنصيب ابنه الأصغر العادل سلطاناً بعده، وأركبه بشعار السلطنة، وشق به القاهرة، وعمر العادل يومئذ إحدى عشرة سنة فقط. (المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 286).

وفي سنة (635 هـ/1238م) توفّي الملك الكامل، فتولّى السلطة بعده ابنه العادل سيف الدين أبو بكر، ومولده سنة (617 هـ)، واستقر الأمر له بحكم مصر ودمشق، وهما الجناحان الرئيسان للدولة الأيوبية، وسمع الملك الصالح نجم الدين بوفاة والده وهو في شرقي الدولة، وتحديداً في الرَّحْبة (على شاطئ الفرات بين الرقة وبغداد)، فترك الرحبة، وكان يحاصرها، وتوجّه غرباً نحو دمشق، وهو يرى أنه أولى من أخيه العادل بالسلطنة.

وقد لعبت مراكز القوى دورها في موضوع الخلافة بعد الكامل، فاستقطب الصالح معظم المماليك الترك وبعض الأمراء الكرد، واستقطب العادل آخرين، ويبدو أن معظم الترك كانوا قد انصرفوا عنه، وبقي مع بعض الكرد، وذكر المقريزي أن الصالح سيطر على دمشق، " فبطق [أرسل رسالة] العادل إلى من بقي معه من الأمراء الأكراد بمحاربة من خامر [تآمر] عليه ببلبيس [بمصرقبل قدوم هؤلاء عليهم، فاقتتل الأكراد مع الأتراك ببلبيس، وانكسر الأتراك المخامرون، وأُخذ منهم أمير، وانهزم الباقون " (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 282). وهذا يعني أن الأمراء الكرد لم يكونوا كلهم مع الصالح، وإنما كان فريق منهم مع العادل أيضاً.

وكان العادل شاباً مراهقاً غير قادر على الحكم، ولا خبرة له بأمور الدولة، فأدار ظهره لكبار القادة وذوي الرأي والمشورة، وأسرف في إنفاق المال على العبث، وقرّب الشباب، وأعطاهم الأموال والإقطاعات، واقتدى بآرائهم، واشتغل باللهو عن مصالح الدولة، "وأكثر من تقديم الصبيان والمساخر وأهل اللهو، حتى حُسبت نفقاته في هذا الوجه خاصة، فكانت ستة آلاف ألف وعشرين ألف درهم"؛ أي ستة ملايين وعشرين ألف درهم. (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 294).

وبعد فترة من الصراع على السلطة بين الأخوين الصالح والعادل، وبعد تدخل من الخليفة العباسي، وكثير من المناورات والمناوشات بين زعماء البيت الأيوبي، وبين الجناحين الكردي والتركي، سارت الأمور لمصلحة الصالح، فقد اتفق الفريق الأكبر من المماليك الترك وقليل من الكرد على خلع العادل، والوقوف إلى جانب الصالح، وحاول فريق من الكرد الدفاع عن العادل، لكنهم هزموا على أيدي الترك، وفي النهاية هيمن الصالح على الحكم سنة (637 هـ/1240م)، واعتقل أخاه العادل.

قال المقريزي: (السلوك، ج1، ق2، ص 298):

" أحضر الملك الصالح إليه الملكَ العادلَ، وسأله عن أشياء، ثم كشف بيت المال والخزانة السلطانية، فلم يجد سوى دينار واحد وألف درهم، وقيل له عما أتلفه أخوه. فطلب القضاة والأمراء الذين قاموا في القبض على أخيه، وقال لهم: لأي شيء قبضتم على سلطانكم؟ فقالوا: لأنه كان سفيهاً. فقال: يا قضاة، السفيه يجوز تصرّفه في بيت مال المسلمين؟ قالوا: لا. قال: أقسم بالله، متى لم تحضروا ما أخذتم من المال كانت أرواحكم عوضه. فخرجوا وأحضروا إليه سبعمئة ألف وخمسة وثمانين ألف دينار، وألفي ألف [مليونين] وثلاثمئة ألف درهم. ثم أمهلهم قليلاً، وقبض عليهم واحداً بعد واحد ".

وهكذا فقد باشر السلطان الصالح الأمور بحزم، وأول ما قام هو استرداد الأموال المنهوبة من خزينة الدولة، فلا سلطة قوية مع خزينة فارغة، وكانت الخطوة الثانية هي الحصول على اعتراف الخليفة العباسي في بغداد، وكان ذلك الاعتراف ضرورياً لكل حاكم في ذلك الوقت، وقد وصل ابن الجَوْزي موفد الخليفة إلى القاهرة، وهو يحمل الخلعة، " فلبسها الملك الصالح، ونصب منبراً صعد عليه ابن الجوزي، وقرأ تقليد الملك الصالح، والملك الصالح قائم بين يدي المنبر على قدميه، حتى فرغ من قراءته " (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 298).

وفي سنة (638 هـ) تفرّغ السلطان الصالح للنظر في شؤون دولته، وترسيخ قواعد مملكته، ووضع الخطط لعمارة أرض مصر، وكان من الحزم في الوقت نفسه أن يضمن استقرار الدولة، فأمر بالقضاء على من تحدثه نفسه بإثارة المتاعب، إما بسجنهم، وإما بعزلهم وتجريدهم من سلطاتهم ومزاياهم، وفوّض الأمور إلى من يثق بهم ويعتمد عليهم من مماليكه، " فتمكّن أمره، وقوي جأشه " حسبما قال المقريزي.

وما كانت سلطة الصالح في مصر لتكتمل إلا بفرض نفوذه على بلاد الشام أيضاً، لكن بعض كبار زعماء البيت الأيوبي رفضوا الخضوع له، وهذه ظاهرة واضحة في تاريخ الشعب الكردي؛ أقصد صعوبة انقياد الكردي للكردي، ولا سيما على صعيد القيادة والزعامة، فاضطر السلطان إلى خوض الصراعات ضدهم، وبذل في تحقيق ذلك جهوداً كبيرة ووقتاً طويلاً.

بل إن خوف الصالح من انقضاض المنافسين عليه جره إلى قتل أخيه العادل، وهذه ظاهرة جديدة في البيت الأيوبي، ما كانت معهودة عند الآباء المؤسسين، ففي سنة (644 هـ) عزم السلطان الصالح على التوجه إلى الشام، لبسط نفوذه عليها، ويبدو أنه خاف أن يقوم أنصار أخيه العادل بانقلاب في غيابه، فأمر العادلَ- وكان مسجوناً في برج بقلعة الجبل في القاهرة- بالتوجه إلى قلعة الشوبك في الأردن، ليُعتقل فيها، فامتنع العادل عن ذلك، فبعث إليه السلطان من خنقه في محبسه، وأشاع أنه مات. (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 327).

وأمر آخر خطير قام به الصالح، وهو اهتمامه بشراء المماليك الترك، وتخصيص قلعة الروضة مقراً لإقامتهم، فسّمّوا باسم (المماليك البحرية)، واعتمد عليهم في توطيد سلطته، وردع منافسيه، وهذا دليل قوي على أنه كان قد فقد الثقة بالمماليك الترك السابقين، أما الأمراء الكرد فقد سبق أن قام والده الكامل باستبعاد رؤسائهم من مركز القرار في الدولة، ولم يبق منهم إلا العدد القليل، وما كانوا يشكّلون قوة مكافئة لقوة المماليك الترك الكثيري العدد.

والآن ماذا عن الأحداث السياسية والعسكرية؟

مشكلات ثلاث

حينما تسلطن الصالح على الدولة في مصر كان تنتظره ثلاث مشكلات:

·  الأولي هي الخطر الفرنجي:  فقد كان الفرنج يسيطرون على مناطق مهمة من الساحل الشامي في سوريا ولبنان وفلسطين، ولا ننس أنهم أعادوا بسط سيطرتهم على القدس نفسها، من خلال اتفاقية بين السلطان الكامل والإمبراطور فردريك الثاني (626 هـ/1229 م)، وصحيح أن تلك السيطرة كانت محدودة، لكنها عُدّت نصراً للفرنج، وانتكاسة للمسلمين، بل إن استعادة القدس كانت حافزاً للفرنج، فراحوا يعملون، كلما أتيحت لهم الفرصة، لاستعادة سائر المناطق التي خسرها أسلافهم في عهد صلاح الدين وأخيه العادل، وكانت البابوية على استعداد لأن تحشد القوى الأوربية، وتجنّدها في خدمة الطموحات الفرنجية.

·  الثانية هي الخطر الأيوبي المنافس:  فقد كان بعض ملوك بني أيوب، من أشد معارضي الصالح، ووضعوا كثيراً من العراقيل في طريق وصوله إلى السلطة، حتى إنهم استطاعوا في مرحلة من مراحل الصراع اعتقاله في قلعة الكرك سنة (637 هـ)، الأمر الذي فرح له أخوه العادل، فأمر بالزينات في القاهرة، وأقام للعامة سماطاً عامراً بأنواع الحلوى والمشروبات والمشويات؛ كل ذلك على شرف اعتقال أخيه الصالح.

  وكان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان العادل، من أقوى المعارضين لابن أخيه الصالح نجم الدين، وقد بلغت حدّة الصراع بين الزعيمين الأيوبيين أن الصالح إسماعيل هادن الفرنج في بلاد الشام، كي يتفرغ لمقارعة الصالح، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 304) في أحداث سنة (638 هـ):

" وأذن الصالح إسماعيل للفرنج في دخول دمشق وشراء السلاح، فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، ومشى أهل الدين منهم إلى العلماء واستفتوهم، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام [من أصل مغربي] بتحريم بيع السلاح للفرنج، وقطع من الخطبة بجامع دمشق الدعاء للصالح... وكان الصالح غائباً عن دمشق، فكوتب بذلك، فورد كتابه بعزل ابن عبد السلام عن الخطابة، واعتقاله هو والشيخ أبي عمرو بن الحاجب ".

·  الثالثة هي الخطر الخوارزمي:  فبعد مقتل السلطان جلال الدين خوارزم شاه سنة (628 هـ/1231 م)، وغزو المغول لأذربيجـان وأرمينيا وشمالي كردستان، هامت جموع الخوارزمية الترك على وجهها في جنوبي كردستان وشمالي بلاد الشام، واستقر جزء كبير منهم في جنوبي كردستان حول الرُّها وحَرّان ونصيبين، وكانوا على استعداد لأن يبيعوا قدراتهم الحربية لأية جهة تدفع لهم، وكان بعض ملوك الأيوبيين من تلك الجهات، ولم يتردّد الخوارزمية في شنّ الغارات على مدن بلا الشام، وممارسة أبشع أنواع السلب والنهب وارتكاب المجازر، ففي هجوم لهم على مدينة حلب، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 303) ما يلي:

" فامتنع الناس بمدينة حلب، وانتُهبت أعمال حلب، وفُعل كل قبيح من السبي والقتل والتخريب، ووضعوا السيف في أهل منبج، وقتلوا فيها ما لا يحصى عده من الناس، وخرّبوا وارتكبوا الفواحش بالنساء في الجامع علانية، وقتلوا الأطفال، وعادوا وقد خرب ما حول حلب ".

فكيف السبيل إلى مواجهة هذه المشكلات؟!

استرداد القدس

لقد تفتقت ذهنية الصالح نجم الدين السياسية عن حل عبقري حقاً؛ ألا وهو معالجة المشكلة بالمشكلة، بلى، إنه وجد في مشكلة الخوارزمية حلاً للمشكلتين الأخريين، ووظّف قوتهم المدمرة لمواجهة منافسيه الأيوبيين من ناحية، ولتصفية الحسابات مع أعدائه الفرنج من ناحية أخرى، فوجّه الدعوة إلى قادة الخوارزمية للتوجّه غرباً، وسلّطهم على بلاد الشام من نهر الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط.

وفي سنة (642 هـ) قطع الخوارزمية نهر الفرات، وتوجّهوا غرباً إلى بلاد الشام، وهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، يقودهم أربعة من القادة، فسارت فرقة منهم إلى مناطق البقاع التابعة لمدينة بعلبك، وسارت فرقة أخرى إلى غوطة دمشق، ومارسوا عمليات النهب والسبي والقتل حيثما حلّوا وارتحلوا، " فانجفل الناس من بين أيديهم " كما قال المقريزي، ووجد الصالح إسماعيل نفسه في شغل شاغل، وفي خطر داهم، فتحصّن بدمشق، وضمّ إليه عساكره.

ثم توجّه الخوارزمية إلى المناطق التي كانت تحت سلطة الفرنج، وأولها القدس، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 316):

" وهجم الخوارزمية على القدس، وبذلوا السيف في من كان به من النصارى، حتى أفنوا الرجال، وسبوا النساء والأولاد، وهدموا المباني التي في قُمامة [كنيسة القيامة]، ونبشوا قبور النصارى، وأحرقوا رممهم، وساروا إلى غزة فنزلوها، وسيّروا إلى الملك الصالح نجم الدين، في صَفَر، يخبرونه بقدومهم، فأمرهم بالإقامة في غزة، ووعدهم ببلاد الشام، بعدما خلع على رسلهم، وسيّر إليهم الخلَع والخيل والأموال ".

إن هذا الخبر لا يدع مجالاً للشك في وجود التنسيق بين الصالح والخوارزمية، وأن الخوارزمية كانوا ينفّذون خطة رسمها لهم الصالح لقاء ثمن، وقد قيل: إن أحد كبار ضباط القائد الفينيقي هانيبال- قاهر الرومان في معركة كانا قرب روما سنة (216 ق.م)- قال له ذات مرة: " إنك تجيد تحقيق النصر، لكن لا تجيد استثماره ". غير أن الصالح كان يعرف كيف ينتصر ويستثمر النصر، فجهّز جيشاً من مصر بقيادة ركن الدين بيبرس أحد مماليكه المقربين، ووجّهه إلى حيث القوة الخوارزمية، وانضمت إليهم قوة من الكرد القَيْمرية (نسبة إلى قلعة قَيْمَر في شمالي كردستان، وإلى أحد أعيانهم تنسب المدرسة القيمرية في دمشق)، كما انضمت إلى الخوارزمية قوة مقاتلة بقيادة الأمير الكردي حسام الدين أبو علي الهَذْباني.

وفي الطرف الآخر جهّز الصالح إسماعيل جيشاً من دمشق، بقيادة الملك المنصور صاحب حمص، فسار المنصور إلى عكا، وأخذ معه قوة من الفرنج، وتوجه إلى غزة، وانضم إليه هناك الملك الناصر داود صاحب قلعة الكرك.

ونشبت المعركة بين الفريقين، " وقد رفع الفرنج الصلبان على عسكر دمشق، وفوق رأس المنصور صاحب حمص "، ودارت رحى حرب طاحنة، وفي النهاية دارت الدائرة على الجند الشامي والفرنج " وأحاط الخوارزمية بالفرنج، ووضعوا فيهم السيف، حتى أتوا عليهم قتلاً وأسراً، ولم يفلت منهم إلا من شرد، فكان عدّة من أُسر منهم ثمانمئة رجل "، وعاد الملك المنصور إلى دمشق بنفر يسير من جيشه، وهو يجرجر أذيال الهزيمة. (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 317).

وكانت نتائج تلك المعركة باهرة، ومن أبرزها أمران:

-  أولهما تحرير القدس ثانية من أيدي الفرنج في (11 يوليو/تموز 1244م)، وكان ذلك إنجازاً مهماً على الصعيد المعنوي.

-  وثانيهما السيطرة على دمشق بعد صعوبات وصراعات مع الملك الصالح إسماعيل، وتعيين الأمير حسام أبو علي الهذباني نائباً عليها، وكانت السيطرة على دمشق تعني الكثير على الصعيد الإستراتيجي في ذلك الوقت.

حسناً، ها قد وظّف السلطان الصالح مشكلة الخوارزمية لحل المشكلتين الأخريين؛ أقصد الانتصار على الفرنج، والانتصار على منافسيه الأيوبيين، وبقي أن يتدبّر أمر الخوارزمية، فإنهم كانوا يسترسلون في غطرستهم وفسادهم، وفي شن عمليات السلب والنهب، بل إن الخوارزمية كانوا قد بيّتوا في أنفسهم أمراً، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 322). يوضّح الأمر:

" وأما الخوارزمية، فإنهم ظنوا أن السلطان إذا انتصر على عمه الملك الصالح إسماعيل يقاسمهم البلاد، فلما مُنعوا من دمشق، وصاروا في الساحل وغيره من بلاد الشام، تغيّرت نيّاتهم، واتفقوا على الخروج عن طاعة السلطان ".

وحاول الخوارزمية تعزيز موقفهم، وإضعاف موقف السلطان، تهيئة للانقضاض عليه، فكاتبوا الأمير ركن الدين بيبرس، ومر أنه كان من كبار مماليك السلطان المقربين منه، واستغلوا كونه تركياً مثلهم، " وحسّنوا له أن يكون معهم يداً واحدة، ويزوّجوه منهم، فمال إليهم ". كما أنهم عقدوا تحالفاً مع بعض ملوك البيت الأيوبي المنافسين للسلطان، ومنهم الملك المنصور صاحب حمص.

لكن السلطان لم يقف مكتوف الأيدي، وإنما باشر الأمور بحنكة ودهاء، وأعمل الحيل والتدبير لإفشال مخطط الخوارزمية، فكسب الأيوبيين إلى جانبه، وجرّد جيشاً، وانطلق من مصر إلى بلاد الشام لمقاومة الحلف الخوارزمي، وفي الوقت نفسه أرسل القاضي نجم الدين محمد بن سالم النابلسي إلى مملوكه الأمير ركن الدين بيبرس، " فما زال يخدعه ويُمنّيه، حتى فارق الخوارزمية، وقدم معه إلى ديار مصر، فاعتُقل بقلعة الجبل، وكان آخر العهد به " (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 323).

وفي سنة (644 هـ) " عظمت مضرّة الخوارزمية ببلاد الشام، وكثر نهبهم للبلاد، وسفكهم للدماء، وانتهاكهم للحرمات " حسبما ذكر المقريزي. أما حلف السلطان فكان يتعزّز بالمزيد من القوات، وقد قاد الملك المنصور صاحب حمص معركة التصدي للخوارزمية، وانضم إليه عساكر حلب، وعرب وتركمان كثيرون، والتقي الفريقان الأيوبي والخوارزمي قرب حمص، " فكانت بينهم وقعة عظيمة انهزم فيها الخوارزمية هزيمة قبيحة، وتبدد شملهم، ولم تقم لهم بعدها قائمة، وقُتل مقدّمهم بركه خان وهو سكران، وأُسر كثير منهم، واتصل من فرّ منهم بالتتار ". (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 324).

الحملة الصليبية السابعة

بعد استرداد القدس من الفرنج سنة (642 هـ/1244 م) ثارت ثائرة الفرنج شرقاً وغرباً، وأرسل بطريرك القدس سفارة إلى أوربا، لإطلاع البابوية وملوك أوربا وأمرائها على خطورة موقف الفرنج بالشام، وطلب منهم العون العاجل، وأدّت جهود تلك السفارة إلى انعقاد مجمع ليون في صيف سنة (1245 م)، واتخذ المجمع قراراً بضرورة إرسـال حملة جـديدة إلى الشرق لتدارك الموقف قبل فوات الأوان.

وكان ملك فرنسا لويس التاسع الملقّب بالقديس لتقواه أصيب بمرض شديد في أواخر سنة (1244 م)، فنذر أن يقوم بحملة صليبية على الشرق إذا شفي، ولما شفي وجد في دعوة المجمع فرصة للوفاء بنذره، وظل ثلاث سنوات يعدّ للحملة، ثم أبحر من فرنسا في آب/أغسطس (1248 م) قاصداً الشرق، ومعه زوجته وأخواه روبرت دي أرتو، وشارل دي أنجو، وعدد كبير من الأمراء.

وكان لويس التاسع يعرف أن الطريق إلى استرداد القدس يمر عبر مصر، وأنه لا فائدة من احتلال القدس وحدها؛ إذ سرعان ما ستندفع الجيوش الأيوبية من مصر لاستردادها، وإعادة الأمور إلى نصابها. وأخيراً وصل لويس على رأس جيشه إلى دمياط أوائل سنة (647 هـ/ 1249 م)، وبدأت حرب الأعصاب بين الطرفين، فبعث لويس إلى السلطان الصالح رسالة تهديد ووعيد، يفخر فيها بالهوان الذي لحق بالمسلمين في الأندلس على أيدي الفرنج؛ وجاء في رسالته:

 " ... وإنه غير خافٍ عنك أن أهل جزائر الأندلس يحملون إلينا الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل الرجال، ونرمّل النساء، ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وقد أبديت لك ما فيه الكفاية، وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الأيمان، ودخلت على القسوس والرهبان، وحملت قدّامي الشمع طاعةً للصلبان، ما ردّني ذلك عن الوصول إليك، وقتلك في أعزّ البقاع عليك ... وقد عرفتك وحذّرتك من عساكر قد حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، عددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضاء ". (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 334).

والحق أن السلطان الصالح كان يعلم نوايا الملك الفرنسي قبل وصوله إلى مصر، فقد مرّ أن الإمبراطور الألماني فردريك الثاني كان صديقاً لوالده السلطان الكامل، ولم يكن الإمبراطور على وفاق مع البابوية وملك فرنسا، لذا أرسل رسولاً متخفّياً في زيّ تاجر إلى السلطان نجم الدين، يخبره بما عزم عليه الملك الفرنسي.

إن الأمر الذي كان السلطان نجم الدين يجهله هو مقصد لويس التاسع تحديداً؛ أهو الشام أم مصر؟ وعندما تأكد له أن مصر هي الهدف انتقل إليها من الشام، على الرغم من مرضه، وعسكر في مقابلة الجيش الفرنسي الذين وصلوا إلى دمياط، وأمر بتحصين دمياط، وشحنها بآلات حربية عظيمة وبالذخائر الوافية، وعهد إلى الأمير فخر الدين بالوقوف على رأس قوة في البر الغربي لفرع دمياط، كي يمنع الفرنسيين من النزول على ذلك البر.

ولما وصلت رسالة لويس التاسع إلى السلطان ردّ عليها برسالة يفخر فيها بجند الإسلام، وينذر الملك الفرنسي بالعواقب الوخيمة، ويذكّره بالانتصارات التي حقّقها المسلمون على الفرنج في ظل القيادة الأيوبية، قائلاً:

" أما بعد: فقد وصل كتابك، وأنت تهدّد بكثرة جيوشك وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قُتلَ منّا قِرن إلا جدّدناه، ولا بغى علينا باغٍ إلا دمّرناه، فلو رأت عيناك- أيها المغرور- حدّ سيوفنا، وعِظم حروبنا، وفَتْحَنا منكم الحصون والسواحل، وإخرابَنا منكم ديارَ الأواخر والأوائل، لكان لك أن تعضّ على أناملك بالندم، ولا بد أن تزلّ بك القدم، في يوم أوّله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء بك الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ". (المقريزي: السلوك، ج1، ق2، ص 334 - 335).

احتـلال دمـياط .. ووفاة السلطان

حينما وصل لويس التاسع إلى دمياط وجدها مدينة محصّنة، وأمامها الجيش الأيوبي يحول دون نزول القوات الفرنسية إلى البر، فقرّر النزول على الضفة الغربية للنيل ، كي يواجه دمياط، وبدأت عملية إنزال الجيش الفرنسي في (647 هـ/1249 م)، فتصدّى لهم الجيش الأيوبي، ودارت معركة حامية بين الفريقين على الشاطئ، لكن الفرنسيين تفوّقوا بفضل كثرة عددهم، واستشهد عدد من أمراء الجيش الأيوبي.

أما فخر الدين القائد الميداني للجيش الأيوبي فعبر برجاله النيل ليلاً إلى الضفة الشرقية، حيث مدينة دمياط، ولكنه لم يجرؤ على الوقوف عند دمياط، فاتجه إلى الجنوب نحو أشموم طنّاح. والحق أن المؤرخين القدامى، وخاصة ابن واصل (ت 697 هـ)، اتّهموا الأمير فخر الدين بالتفريط في دمياط؛ لأنه لو ثبت فيها لامتنعت على الفرنسيين، وفسّروا فرار الأمير فخر الدين  بأطماعه في السلطة، وكان قد أرسل رسالة إلى السلطان، فتأخّر عليه الجواب، فظن أن السلطان توفّي، فأسرع ليحقّق أطماعه، تاركًا دمياط لقمة سائغة للفرنج.

وبفرار الأمير فخر الدين استولى الرعب على أهل دمياط، فتركوا مدينتهم بما فيها بعد أن أشعلوا النار في سوقها، بل إن بعض عرب كنانة الذين عهد إليهم السلطان بالدفاع عن المدينة ولّوا الأدبـار، وتركوا أبواب المدينة مفتوحة، وفاتهم عند الفرار أن يقطعوا الجسر الذي يربط دميـاط بالضفة الغربية للنيل، وهكذا صارت دميـاط خالية من وسائل الدفاع، فدخلها جيش لويس التاسع بسهولة في (647 هـ/1249م)، ووجـد الفرنج فيها قدراً كبيراً من المؤن والذخائر، وعملوا بسرعة لتحويلها إلى مدينة فرنجية، وحوّلوا جامعها إلى كنيسة باسم نوتردام.

وكان احتلال دمياط نكسة كبرى للفريق الأيوبي، فعاقب السلطان أمراء بني كنانة عقاباً شديداً على فرارهم من دميـاط، وإهمال أمر الدفـاع عنها، ووبّخ المماليك الأتراك وقائدهم فخر الدين أشد توبيخ، وكاد يفتك ببعضهم، فشرع هؤلاء يفكّرون في الفتك به، لكن فخـر الدين طلب منهم الصبر، مؤكّداً لهم أن السلطـان مريض وهـو في أيديهم، يفتكون به حـين تأتي الفرصة المواتية، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق2، ص 336):

" وقامت الشناعة من كل أحد على الأمير فخر الدين، فخاف كثير من الأمراء وغيرهم من سطوة السلطان، وهمّوا بقتله، فأشار عليهم فخر الدين بالصبر، حتى يتبيّن أمر السلطان، فإنه على خُطّة [مريض]، وإن مات كانت الراحة منه، وإلا فهو بين أيديكم ".

واشتد المرض على السلطان الصالح، ولم يعد يقوى على النهوض من الفراش، فحُمل إلى قلعة المنصورة، وظل وهـو على فراش الموت ينظّم شؤون الدفاع، ويطلب الإمدادات من القاهرة، و توفّي السلطان، وبقي الجيش الأيوبي من غير قائد أعلى يدير دفة الأمور، هذا في الوقت الذي وصلت فيه تعزيزات جديدة إلى الفرنج، فأعدّوا العدّة للزحف نحو القاهرة. لكن ما لبث أن تسلّم تَوْران شاه ابن السلطان الصالح زمام القيادة، وأدار المعركة بمهارة وحنكة.

وهذا ما سنعرف تفاصيله في الحلقة القادمة إن شاء الله.

سيرة سلطان

كلما تأملت سير الحكام قديماً وحديثاً خرجت منها بالعجب العُجاب، وقلت لنفسي: من أين للحكام هذا القدر الهائل من صلابة الأعصاب وشدة المراس؟! وإن أحدنا ليعجز أحياناً عن إدارة نفسه، وإدارة أهله المقربين، فكيف يدير الحكام جماهير غفيرة، جماهير مختلفة الأهواء والآراء والنزعات والطموحات؟! وتزداد دهشتي أكثر عندما آخذ في الحسبان أن رضا الناس غاية لا تُدرك؛ هذا إذا كان الحاكم يحكم دولة محدودة المساحة والسكان، فكيف إذا كان يدير دولة شاسعة كالدولة الأيوبية، تعجّ بمختلف الأعراق والأديان والمذاهب؟! وكيف إذا كانت تلك الدولة تعاني من الصراعات الداخلية المحمومة، ومن العدوان الخارجي؟!

إن قدرة السلطان الصالح على إدارة دفة الدولة الأيوبية، رغم الزوابع الداخلية التي ثارت في وجهه، ورغم الأخطار الخارجية التي تهددت دولته، تؤكد أن الرجل كان يتحلّى بخصال قيادية رفيعة، إضافة إلى خصال خلقية متميّزة، ولندع المقريزي يعرض الخطوط الرئيسية لشخصية السلطان. قال في (السلوك، ج1، ق2، ص 340):

" وكان ملكاً شجاعاً حازماً مهيباً، لشدة سطوته، وفخامة ناموسه [نظامه]، مع عزة النفس وعلوّ الهمة، وكثرة الحياء، والعفّة وطهارة الذيل عن الخَنا [الفحش في الكلام]، وصيانة اللسان من الفحش في القول، والإعراض عن الهزل والعبث بالكلية، وشدة الوقار ولزوم الصمت، حتى إنه كان إذا خرج من عند حرمه إلى مماليكه أخذتهم الرِّعدة عندما يشاهدونه، خوفاً منه، ولا يبقى أحد منهم مع أحد، وكان إذا جلس مع ندمائه كان صامتاً، لا يستفزه الطرب، ولا يتحرك، وجلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا تكلم مع أحد من خواصّه كان ما يقوله كلمات نَزْرة وهو في غاية الوقار، وتلك الكلمات لا تكون إلا في مهمّ عظيم، من استشارة أو تقدّم بأمر من الأمور المهمة، لا يعدو حديثه قط هذا النحو، ولا يجسر أحد يتكلم بين يديه إلا جواباً، وما عُرف أبداً عن أحد من خواصه أن تكلم في مجلسه ابتداء البتّة، ولا أنه جسر على شفاعة ولا مشورة ولا ذكر نصيحة، ما لم يكن ذلك ابتداء من السلطان، فإذا انفرد بنفسه لا يدنو منه أحد، وكانت القصص [القضايا] ترِد إليه مع الخدّام، فيوقّع عليها، ويخرج بها الخدّام إلى كاتب الإنشاء، ولا يستقلّ أحد من أرباب الدولة بانفراد بأمر، بل يراجع بالقصص مع الخدّام. ومع هذه الشهامة والمهابة لا يرفع بصره إلى من يحادثه؛ حياء وخَفَراً، ولم يُسمع منه قط في حق أحد من خدمه لفظة فحش، وأكثر ما يقول إذا شتم أحداً: (متخلّف)، لا يزيد على هذه الكلمة، ولا عرف قطّ من النكاح سوى زوجته وجواريه ".

وقال المقريزي أيضاً (السلوك، ج1، ق2، ص 340 - 341):

" وكانت البلاد في أيامه آمنة مطمئنة، والطرق سابلة، إلا أنه كان عظيم الكِبر زائد الترفع، بلغ من كِبره وترفّعه أن ابنه الملك المغيث عمر، لما حبسه الملك الصالح إسماعيل عنده، لم يسأله فيه ولا طلبه منه، حتى مات في محبسه، وكان يحب جمع المال، بحيث أنه عاقب عليه أم أخيه الملك العادل، إلى أن أخذ منها مالاً عظيماً وجواهر نفيسة...، وقبض على جميع أمراء الدولة، وأخذ أموالهم وذخائرهم، ومات في حبوسه ما ينيف على خمسة آلاف نفس، سوى من قتل وغرّق من الأشرفية [صنف من المماليك] في البحر. ولم يكن له مع ذلك ميل إلى العلم، ولا مطالعة الكتب، إلا أنه كان يُجري على أهل العلم والصلاح المعاليم والجرايات [الرواتب] من غير أن يخالطهم، ولم يخالط غيرهم، لمحبّته في العزلة، ورغبته في الانفراد، وملازمته للصمت، ومداومته على الوقار والسكون، وكان يحب العمارة، ويباشر الأبنية بنفسه، وعمّر بمصر ما لم يعمّره أحد من ملوك بني أيوب ".

كلمة حق

إلى ماذا نتوصل مما قاله المقريزي؟

وبماذا نخرج من سيرة السلطان الصالح؟

إن هذا وذاك يؤكدان أن أبرز خصال الصالح هي:

-       الشجاعة والحزم والمهابة، والثقة بالنفس، وشدة السطوة.

-       الصلابة في الموقف، والصبر على الشدائد، والثبات في الملمّات.

-       الحنكة في مباشرة الأمور، والدهاء في حل المشكلات المعقدة.

-       عزة النفس وعلوّ الهمة، والهيبة والوقار، والكِبْر والترفّع.

-       الحياء، وعفّة النفس، والنفور من الفحش في القول.

-       كثرة الصمت والسكون، وحب الانفراد والعزلة.

-       نشر الأمن والأمان بين الرعية، والاهتمام بالعمارة.

-       عدم الميل إلى المطالعة، مع الحرص على تقدير أهل العلم.

وهذه الخصال لا تدع مجالاً للشك في أن الصالح كان قائداً متميّزاً حقاً.

 أما في ميادين السياسة فهو الحاكم القدير، والسياسي الخبير بتحديد الأولويات، البارع في إدارة الأزمات، الماهر في المناورات الدبلوماسية، يبني خططه بإحكام، وينفّذها بعناد، ولا يتردد في مراجعتها وتعديلها حسبما يقتضي الظرف والموقف.

وأما في ميادين الإدارة فهو الإداري الحازم، والاقتصادي البارع، يعرف أن ترك الأمور فوضى يدمر البلاد، وأنه لا قوة للدولة من غير اقتصاد قوي، يُعنى بتعمير البلاد، كما أنه الراعي الحريص على أمن العباد، يباشر الأمور بنفسه، ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب، لكنه لا يكثر الاعتماد على غيره، ولا ينصرف إلى ملذاته، ولا ينشغل بشهواته.

وأما في ميادين الحروب فهو المقاتل الشجاع، والقائد المحنّك، لا يستكين ولا يتهاون، لا يرعبه التهديد، ولا ينال منه الوعيد، يستعد للمعارك قبل وقوعها، ويجيد رسم الخطط الحربية، ويحسن توظيف القدرات القتالية، ولا يتردّد في محاسبة كل متهاون، وفي معاقبة كل متقاعس.

وأما على الصعيد الشخصي فهو الرجل غير الثرثار، وهو العفيف الحييّ المجلل بالوقار، يؤثر العزلة، ويترفّع عن الصغائر، له في النفوس هيبة، وفي القلوب إجلال.

وبهذه الخصال قاد الصالح سفينة الدولة إلى بر الأمان سلماً وحرباً.

المراجع

1.    ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979م.

2.    أحمد كمال الدين حلمي: السلاجقة في التاريخ والحضارة، ذات السلاسل، الكويت، 1986م.

3.    ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1977 م.

4.    ستيفن رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الدكتور السيد الباز العريني، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م.

5.    الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2006 م.

6.    عباس إقبال الآشتياني: الوزارة في عهد السلاجقة، ترجمة أحمد كمال الدين حلمي، جامعة الكويت، الكويت، 1984م.

7.    الدكتور عبد العظيم رمضان: الصراع بين العرب وأوربا من ظهور الإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية، دار المعارف، القاهرة، 1983م.

8.    الدكتور عبد المنعم ماجد: الدولة الأيوبية في تاريخ مصر الإسلامية (التاريخ السياسي 567 – 648 هـ/1171 – 1350 م)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997 م.

9.    المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره محمد مصطفى زيادة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1971 م، الجزء الأول، القسم الثاني.

وللمزيد من المعلومات انظر:

ـ أرنست باركر: الحروب الصليبية، ترجمة السيد الباز العريني، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 1967م.

ـ ر. سي. سميل: الحروب الصليبية، ترجمة سامي هاشم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م.

ـ رنيه گروسيه: الحروب الصليبية، ترجمة أحمد إيبش، دار قتيبة، دمشق، الطبعة الأولى، 2002م.

ـ ابن واصل: مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الدين الشيّال، المجمّع الثقافي، أبو ظبي.

ـ وليم الصوري: الحروب الصليبية (1094-1184)، ترجمة حسن حبشي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1991م.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الأربعين.

د. أحمد الخليل   في 1 – 5 – 2007

=========================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الثامنة والثلاثون )

السلطان الكامل الأيوبي

 (576 - 635 هـ)

أوراسيا

كي نفهم العالم القديم لا بد من فهم الجغرافيا السياسية حينذاك.

وكي نفهم الجغرافيا السياسية لا بد من فهم الجغرافيا البشرية والحضارية.

فالعالم القديم، من حيث الجغرافيا البشرية والحضارية، كان مؤلفاً من ثلاث قارات، هي آسيا وأوربا وإفريقيا، وكانت آسيا وأوربا هما مركز الثقل البشري والحضاري، أما قارة إفريقيا فكان الجزء الشمالي فقط (من مصر إلى دولة المغرب) هو المعروف حضارياً وسياسياً، باعتباره يتاخم آسيا شرقاً، ويطل على البحر الأبيض المتوسط، فيتاخم أوربا شمالاً. ومن الباحثين الإستراتيجيين من يسمي آسيا وأوربا باسم (أوراسيا)، باعتبارهما قارتين متصلتين جغرافياً، ومتواصلتين حضارياً وبشرياً، ولا أرى مانعاً من استخدام هذا الاسم.

أما آسيا فكانت المراكز الحضارية فيها هي: سوريا الكبرى القديمة، وآسيا الصغرى (غربي تركيا حديثاً)، وبلاد الرافدين (جنوب ووسط العراق حديثاً) ، وآريانا (كردستان وفارس وأذربيجان حديثاً)، والهند (بما فيها باكستان حديثاً)، والصين وامتداداتها الحضارية المتاخمة لها في دول شرقي آسيا حديثاً.

وأما في أوربا فكان المركز الحضاري الأبرز هو بلاد اليونان، ثم ظهر جيرانهم الرومان في إيطاليا. وأما في الزاوية الشمالية الشرقية من إفريقيا فكانت مصر هي المركز الحضاري المتميّز، ومن يتتبّع النشاط المصري السياسي والحضاري قديماً يكتشف أن مصر كانت تدخل في علاقات سياسية واقتصادية مع دول غربي آسيا وجنوبي أوربا، أكثر بكثير من علاقاتها مع المجتمعات الإفريقية.

إذا أخذنا هذه الحقائق في الحسبان كنا أقدر على فهم حروب العالم القديم، فقيام دول وإمبراطوريات قديماً كان يعني وجود كثافة بشرية معيّنة، وكان يعني من ثم وجود موارد اقتصادية، ووجود أسواق تجارية، وكانت الحرب تنشب لأن دولة ما أو إمبراطورية ما كانت تريد السيطرة على تلك الموارد، والوصول إلى تلك الأسواق، ولا سبيل إلى ذلك إلا بتوافر طرق تجارية سالكة آمنة، ولا تكون تلك الطرق سالكة وآمنة إلا إذا كانت تمر في أرض صديقة، أو تمر في أرض تقع تحت السيطرة، وأرى من جانبي أن تحليل دوافع الحروب القديمة بعيداً عن هذه الحقائق هو جهد ضائع، وسير في الاتجاه الخاطئ.

مصالح.. وحروب

وكان في العالم الأوراسي القديم (نسبة إلى أوراسيا) طريقان تجاريان عالميان:

 - الأول هو طريق الحرير: وكان يبدأ من الصين شرقاً، ويمر بوسط آسيا، ثم بآريانا، فبلاد الرافدين، ويصل إلى السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط عبر آسيا الصغرى وسوريا، وكان هذا الطريق هو الأهم، لأنه يوصل إلى جغرافيا بشرية وحضارية أكبر، وأكثر فعالية.

- والثاني هو طريق البخور: وكان يبدأ من موانئ اليمن، في جنوب غربي شبه الجزيرة العربية، ويمر بمنطقة الحجاز في غربي شبه الجزيرة العربية، وكان فرع منه يتجه شرقاً إلى بلاد الرافدين فآريانا، ويتوجه فرع آخر شمالاً، فيدخل جنوبي سوريا الكبرى، ويصل من هناك إلى السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وإلى مصر، فيربط بين المراكز الحضارية في جنوبي أوربا، والمراكز الحضارية في الهند وجنوب شرقي آسيا.

ولو تتبعنا مسارات الحروب القديمة لوجدنا أمراً مثيراً حقاً، فالطرق والاتجاهات والميادين التي كان يسلكها الجنود ويرتادونها هي نفسها التي كان التجار يسلكونها ويرتادونها، ولاكتشفنا أيضاً أن المنطقة الواقعة بين السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط وآريانا كانت المنطقة الأكثر سخونة على الصعيد الحربي في العالم القديم.

فكي تتواصل دول بلاد الرافدين (الأكاديون، البابليون، الآشوريون) مع جنوبي أوربا غرباً كان لا بد من السيطرة على سوريا وآسيا الصغرى، وكي تتواصل مع وسط آسيا شرقاً، وتجعل الطريق سالكة إلى الصين، كان لا بد من السيطرة على آريانا (كردستان وفارس وأذربيجان)، وقل الأمر نفسه في التوسع الميتاني (الحُوري) شرقاً وغرباً، وفي التوسع المصري شرقاً وشمالاً، وفي التوسع الميدي والأخميني والساساني غرباً وشرقاً، وفي التوسع اليوناني بقيادة الإسكندر شرقاً، ثم في التوسع الروماني والبيزنطي شرقاً، وكذلك في التوسع العربي الإسلامي غرباً وشرقاً.

وعلى ضوء هذه الحقائق الجغرافية، بمضامينها البشرية والحضارية، نفهم إصرار الترك السلاجقة على الامتداد من أفغانستان شرقاً، نحو آريانا وبلاد الرافدين (العراق)، ثم نحو سوريا الكبرى وآسيا الصغرى، والوصول إلى سواحل البحر المتوسط الشرقية، وعلى ضوء هذه الحقائق أيضاً نفهم امتداد الدولة الأيوبية الكردية من مصر غرباً إلى سوريا الكبرى فكردستان شمالاً وشرقاً، ونفهم حرص الدولة الخوارزمية على السير في الاتجاه نفسه الذي سار فيه السلاجقة، ونفهم أيضاً انطلاقة المغول من شرقي آسيا نحو البحر الأبيض المتوسط، وانطلاقة الحملات الفرنجية (الصليبية) من أوربا نحو آسيا الصغرى وكردستان وسوريا الكبرى ومصر، بل لك أن تفسر على ضوء هذه الحقائق أيضاً التوسع الاستعماري الأوربي، في العصر الحديث، من سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى قلب القارة الهندية.

أخطار غرباً.. وأخطار شرقاً

في النصف الثاني من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) كانت الدولة الأيوبية تمتد من حدود أذربيجان شرقا وشمالاً إلى ليبيا غرباً وجنوباً، وتضم بعض أرمينيا، وكردستان، وبلاد الشام، والحجاز، واليمن، ومصر، وشمالي السودان، وأجزاء من ليبيا، لكن الصراعات على السلطة كانت قد نشبت بين أبناء الأسرة الأيوبية، فحدّت من قوتها ونالت من هيبتها، وظهرت هذه الخلافات في وقت عصيب جداً، إذ كانت القوى الإقليمية المحيطة بالأيوبيين بين عدو ومنافس.

فمن الغرب كان الفرنج الشرقيون (فرنج بلاد الشام)، ومن ورائهم بابا الفاتيكان وملوك أوربا، ينتهزون كل فرصة ممكنة للانقضاض على الدولة الأيوبية، والإجهاز عليها، واسترداد الممتلكات التي خسروها في حروبهم ضد السلطان صلاح الدين، وكان الغرض من الحملتين الصليبيتين الرابعة والخامسة هو تحقيق ذلك الهدف.

ومن الشمال كانت الدولة البيزنطية ما تزال قوية، ويمكنها أن تتعاون مع التحركات الفرنجية، وتشكل تهديداً للدولة في أي وقت، كما كان سلاجقة الروم، في آسيا الصغرى، منافسين خطيرين للأيوبيين، وكان يهمهم أن يبسطوا نفوذهم على مناطق كردستان (شرقي تركيا حالياً)، كما كان الجورجيون يقودون حملات صليبية من نوع آخر على الممتلكات الأوربية في أرمينيا وكردستان كلما سنحت لهم الفرصة.

على أن ثمة خطرين كبيرين آخرين كانا قادمين من الشرق:

·  الأول هو الخطر الخوارزمي: فقد كانت الدولة الخوارزمية، وهي دولة تركية، تابعة للسلاجقة في البدء، وفي سنة (596 هـ) تولّى محمد علاء الدين خوارزم شاه السلطة، وحكم مستقلاً عن السلاجقة، ووسّع رقعة الدولة من تركمانستان الحالية شرقاً إلى تخوم كردستان والعراق غرباً، ويذكر المؤرخون أن خوارزم شاه أراد الهيمنة على مقاليد الأمور في بغداد عاصمة الخلافة، كما فعل السلاجقة سنة (447 هـ/1055 م)، لكن الخليفة الناصر لدين الله (ت 622 هـ) أعرض عن مطالب خوارزم شاه، فصمّم خوارزم شاه على غزو بغداد سنة (614 هـ)، وأصبحت منطقة نفوذه تتاخم الدولة الأيوبية شرقاً، مهدداً إياها على نحو مباشر. (انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 12/316، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 9 /230، 232).

والحقيقة أن خوارزم شاه كان سيتجه إلى غربي آسيا للسيطرة عليها؛ ليس بدافع الانتقام من الخليفة العباسي، وإنما كانت الجغرافيا السياسية- وهي جغرافيا بشرية واقتصادية ضمناً- ستضطره إلى ذلك. 

·  والثاني هو الخطر المغولي: ويذكر المؤرخون أن تهديد خوارزم شاه للخلافة العباسية في العراق حملت الخليفة الناصر لدين الله على الاستعانة بالمغول، فهم كانوا جيران خوارزم شاه شرقاً، يقول المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 254 – 255): " وفي خلافته [الناصر] خرب التتر بلاد المشرق، حتى وصلوا إلى هَمَذان، وكان هو السبب في ذلك، فإنه كتب إليهم بالعبور إلى البلاد، خوفاً من السلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه، لما همّ بالاستيلاء على بغداد، وأن يجعلها دار ملكه كما كانت السلجوقية ".

ويذكر المؤرخون أيضاً أن هرب جلال الدين، آخر سلطان خوارزمي، من وجه المغول، وتوجهه غرباً نحو فارس وكردستان وأذربيجان، هو الذي جعل المغول يتوجهون إلى غربي آسيا. والذي نراه أن المغول كانوا سيفعلون ذلك في كل الأحوال، سواء أهرب منهم جلال الدين أم لم يهرب، فالجغرافيا السياسية -وهي جغرافيا بشرية اقتصادية ضمناً- كانت ستضطرهم إلى ذلك.

في هذه الظروف السياسية الحرجة كانت الدولة الأيوبية تشكّل القوة الإقليمية الأكثر نفوذاً في غربي آسيا، وكان يقودها حينذاك السلطان الكامل ابن السلطان العادل الأيوبي، ماذا عن الكامل وإنجازاته؟

نشأة الكامل

هو أبو المعالي محمد بن السلطان العادل ابن أيوب، ولقبه الملك الكامل ناصر الدين، وترتيبه الخامس من سلاطين بني أيوب، وليس السادس كما ذكر المقريزي (السلوك، ج1، ق1، 230)، ومولده سنة (576 هـ) خمسمئة وست وسبعين هجرية.

وكان السلطان العادل قد قسّم البلاد في حياته بين أولاده، فجعل بمصر الكامل محمداً، وبدمشق، والقدس، وطبريّة، والأردنّ، والكرك وغيرها من الحصون المجاورة لها، ابنه المعظّم عيسى، وجعل بعض ديار الجزيرة، ومَيّافارقين، وخِلاط وأعمالها، لابنه الأشرف موسى، وأعطى الرُّها لولده شهاب الدين غازي، وأعطى قلعة جَعْبَر لولده الملك الحافظ أرسلان شاه، وكان يتردد بين أبنائه، ويتنقّل بين ممالكهم، ولا ريب أنه كان يفعل ذلك للاطمئنان إلى أنهم يسوسون الأمور سياسة صائبة، ولتوجيههم الوجهة الصحيحة، وكأنما كان يدرّبهم على أصول الإدارة وشؤون سياسة الرعية، قال ابن الأثير (الكامل في التاريخ، 12/352):

" فلمّا توفّي [العادل] ثبت كل منهم في المملكة التي أعطاه أبوه، واتفقوا اتفاقاً حسناً، لم يجر بينهم من الاختلاف ما جرت العادة أن يجري بين أولاد الملوك بعد آبائهم، بل كانوا كالنفس الواحدة، كل منهم يثق بالآخر، بحيث يحضر عنده منفرداً من عسكره، ولا يخافه، فلا جَرَم زاد مُلكهم، ورأوا من نفاذ الأمر والحكم ما لم يره أبوهم. ولعمري إنهم نعم الملوك، فيهم الحِلم، والجهاد، والذبّ عن الإسلام، وفي نوبة دمياط كفاية ". (وانظر ابن خلّكان: وفيات الأعيان، 5/77- 78).

ويستفاد مما جاء في ترجمة السلطان العادل أنه كان كثير الاعتماد على ابنه الأكبر الملك الكامل، حسن الرأي فيه، فحينما انصب اهتمامه على دمشق وجنوبي بلاد الشام أناب عنه ابنه الكامل في حكم كردستان، وهذا يعني أنه وقع على الكامل عبء مواجهة الزنكيين في الموصل شرقاً، ومواجهة الأراتقة في الأناضول الشرقية غرباً، ومواجهة الجورجيين على حدود أرمينيا شمالاً.

وفي سنة (596 هـ) ستمئة وست وتسعين هجرية كان الأفضل والظاهر ابنا صلاح الدين قد ضيّقا الخناق على عميهما العادل في دمشق، " وقد خربت البساتين والدور، وقطعت الأنهار، وأحرقت الغلال، وقلّت القوات، وعزم العادل على تسليم دمشق لكثرة من فارقه "، فاستدعى ابنه الكامل من كردستان، فهبّ الكامل إلى نجدة أبيه بعسكر قوي، ووقع الوهن في عسكر الأفضل والظاهر (المقريزي: السلوك، ج1/ ق1، ص 181).

وفي سنة (596 هـ) خمسمئة وست وتسعين هجرية نفسها عزل العادل السلطان الصبي المنصور ابن السلطان العزيز عن السلطنة، وتولاّها بنفسه، فكان أول ما قام به أنه استدعى ابنه الكامل من كردستان، " ونصبه نائباً عنه بديار مصر، وجعل الأعمال الشرقية إقطاعه، كما كانت إقطاعاً للعادل في أيام السلطان صلاح الدين، وجعله وليّ عهده، وحلف له الأمراء " (المقريزي: السلوك، ج1/ ق1، ص 184).

على أن مواهب الكامل القيادية تجلّت على نحو أفضل بعد وفاة أبيه، حينما تولّى مقاليد السلطنة، ووجد نفسه يحل محلّ أبيه في مقارعة الحملة الصليبية الخامسة.

فماذا عن جهوده في رد تلك الحملة؟

الحملة الصليبية الخامسة

مر في ترجمة السلطان العادل أن الفرنج كانوا قد غيّروا إستراتيجيتهم، فبدل أن يهاجموا بلاد الشام، لاسترداد القدس، قرروا الاستيلاء على مصر، باعتبارها القوة الإقليمية الأكثر تأثيراً، وباعتبارها مركز الدولة الأيوبية، وشرعوا في تنفيذ خطتهم هذه سنة (615 هـ/1218 م)، وكان السلطان العادل قد أناب عنه في مصر ولده الملك الكامل، وتفرّغ في بلاد الشام لمحاربة الفرنجة، وكان الفرنج قد نقضوا، في سنة (610 هـ/1212 م)، الصلح الذي كان قائماً بينهم وبين الأيوبيين، وكانوا يحشدون قواتهم في الساحل السوري، ولا سيما في عكا، بهدف استرداد القدس وسائر المناطق التي خسروها في عهد صلاح الدين.

ومر أن الحملة الصليبية الخامسة بدأت سنة (615 هـ/ 1218 م)، وكان القائد العام لها هو جان دى بريين، ملك مملكة المقدس، وانطلقت الحملة في أسطول ضخم، يحمل عشرة آلاف فارس، ومئتي ألف راجل، وكانت الوجهة مدينة دمياط، على الساحل المصري.

ومر أيضاً أن الجيش الأيوبي استبسل في الدفاع عن دمياط، وأصر الفرنج على احتلالها، وكان يتوسط الطريق إلى دمياط من جهة البحر برج ضخم مقام في وسط النيل، يدعى (برج السلسلة)، بسبب سلسلتين كانتا تمتدان منه: تتجه إحداهما إلى دمياط على الضفة الشرقية، وتتجه الأخرى إلى البر الغربي المقابل لدمياط، وكان البرج مشحوناً بالمقاتلين، وكان مفتاح الحول إلى دمياط.

لذلك ركّز الفرنج جهودهم كلها للاستيلاء على ذلك البرج، وقاموا ببناء أبراج خشبية عالية، وأقاموها على سفنهم، وتقدموا بها إلى برج السلسلة لمحاربة حاميته، ولكن المقاتلين المتحصنين في البرج ردوا الفرنج على أعقابهم أكثر من مرة، وحطّموا سفنهم الحربية وآلاتهم، ومع ذلك لم يفقد الفرنج الأمل في السيطرة على البرج، وظلوا يحاصرونها أربعة أشهر.

وخلال ذلك كان الملك الكامل قد توجه بجنوده من القاهرة إلى دمياط، ونزل بقواته في العادلية، وهي مدينة كان والده العادل أسسها سنة (614 هـ) ستمئة وأربع عشرة هجرية جنوبي دمياط، على الضفة الشرقية للنيل، وزوّدها بالمقاتلين، خوفاً من أن يقوم الفرنج بمهاجمة دمياط من جهة البحر.

وظل المدافعون عن البرج يقاومون هجمات الفرنج بشجاعة، لكن الفرنج بنوا برجاً عالياً آخر، ونصبوه على سفينة كبيرة، وأقلعوا به، إلى أن أسندوه إلى برج السلسلة، وراحوا يقاتلون الحامية الأيوبية داخل البرج، وانتهى القتال العنيف باستيلائهم على البرج عنوة.

وكان لسيطرة الفرنج على برج السلسلة نتائج عسكرية خطيرة، وكان السلطان العادل، وهو في الجبهة الشامية، أدرى الناس بتلك النتائج، ويعرف أن السيطرة على دمياط يعني أن الفرنج سينطلقون في المرحلة الثانية من حملتهم إلى القاهرة عاصمة السلطنة، وذكر المقريزي (السلوك، ج1، ق1، 225) أنه لما وصل خبر سيطرة الفرنج على البرج إلى العادل " تأوّه تأوّهاً شديداً، ودقّ بيده على صدره أسفاً وحزناً، ومرض من ساعته "،  وانتهى ذلك المرض بوفاته هماً وغماً.

تكتيكات حربية

بوفاة السلطان العادل في سوريا وقع عبء مجابهة الفرنج في مصر على السلطان الكامل، وكان عبئاً ثقيلاً، فبعد سيطرة الفرنج على برج السلسلة، وتحطيم السلسلتين المتصلتين بالبرج، أصبح الطريق مفتوحاً أمام سفنهم للعبور نحو دمياط، فأمر الكامل بإقامة جسر من السفن في النيل، لمنع سفن الفرنج من التقدم، لكن الفرنج قاتلوا قتالاً شديداً، وتمكنوا من قطع الجسر واختراقه.

وهنا لجأ الكامل إلى خطة أخرى يمنع بها الفرنج من التقدم إلى دمياط، فأمر بإغراق عدد من السفن في عرض النيل، غير أن الفرنج اهتدوا بالمقابل إلى خطة  حربية، يتغلبون به على خطة الكامل، إذ عمدوا إلى خليج قديم كانت الرمال قد طمرته، فأعادوا حفره، ومرروا إليه المياه، وصعدوا فيه بسفنهم، إلى أن أصبحوا في مواجهة معسكر الكامل في العادلية.

وبعد أن أصبح الجيشان الأيوبي والفرنجي متقابلين، دارت بينهما معارك حربية طاحنة، تمكن خلالها الجيش الأيوبي من أسر سفينة فرنجية حربية كبيرة، مصفحة بالحديد، وظلت المعارك قائمة بين الفريقين أشهراً عديدة، في حين كانت مدينة دمياط تنعم بالأمن، وكانت أبواب سورها مفتوحة لتلقي الإمدادات والأقوات من الجانب الأيوبي، فقد كان نهر النيل يفصل بينها وبين الفرنج.

وقد نهج الكامل نهج السلطان صلاح الدين في حربه ضد الفرنج، إذ كان صلاح الدين يوظف كل الإمكانات المتاحة لتحقيق النصر، ومنها استثمار براعة البدو (العربان حسبما يسميهم المقريزي) في السطو، وفعل الكامل الأمر نفسه، فسلّط البدو على معسكر الفرنج، فكانوا يتسللون إلى خيامهم ليلاً، بل صاروا يدخلونها نهاراً أحياناً، ويتخطفونهم من كل جانب؛ الأمر الذي بث فيهم الذعر، ودفعهم إلى التحارس وعدم النوم ليلاً. (المقريزي: السلوك، ج1، ق1، 231).

وكانت إستراتيجية صلاح الدين تقوم أيضاً على حشد شعوب شرقي المتوسط، كرداً وعرباً وتركاً، كلها في خندق المقاومة، وهذا ما فعله الكامل أيضاً، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، 231):

" وبعث السلطان إلى الآفاق سبعين رسولاً، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج، ويستحثهم على إنقاذ المسلمين منهم وإغاثتهم، ويخوّفهم من تغلّب الفرنج على مصر، فإنه متى ملكوها لا يمتنع عليهم شيء من الممالك بعدها، فسارت الرسل في شوّال، فقدمت النجدات من حماة وحمص ".

صراع كردي- كردي

إلى هذا الحين كانت الجبهة الأيوبية متماسكة وفاعلة، ولم يستطع الفرنج التقدم نحو دمياط، لكن سرعان ما ظهرت بوادر التفكك بعد وفاة السلطان العادل، وطمع في السلطان الكامل من طمع، فمن ناحية أثار البدو الاضطرابات في أرض مصر، وقاموا بالعصيان والتمرد " وكثر خلافهم، واشتد ضررهم "؛ كما قال المقريزي؛ الأمر الذي أضرّ بجهود الكامل الحربية في أكثر من ميدان.

ومن ناحية أخرى برزت خلافات مراكز القوى، ومعروف أن مراكز القوى في الدولة- أية دولة كانت- تتوارى حينما يكون الحاكم قوياً، وسرعان ما تطل برؤوسها وتنشط حينما يضعف الحاكم أو يتوفى، ويحل محله حاكم جديد لمّا يرسّخ سلطته بعدُ، وبطبيعة الحال تكون الجهة الخاسرة هي الراغبة في تغيير الواقع السياسي، وهي الساعية لإحلال واقع يكون لها النصيب الأوفى فيه.

والملاحظ أن معظم المؤرخين المسلمين القدماء يكتفون بسرد الحدث التاريخي، ولا يولون الاهتمام الكافي لتحليل العوامل التي أنتجت ذلك الحدث، وقد يذكرون بعض العوامل، لكنهم يغفلون العوامل الأخرى، وتجد نفسك في النهاية أنك عرفت الحدث، لكنك تجهل المناخ الذي أنتجه، وبعبارة أخرى: إن المؤرخ القديم يجيد السرد، لكنه يقصر في التحليل؛ وخير مثال بين أيدينا على ذلك هو الخبر الآتي الذي أورده المقريزي؛ فبعد أن ذكر الاضطرابات التي أثارها البدو في مصر، قال: (السلوك، ج1، ق1، 231 - 232):

" واتفق مع ذلك قيام الأمير عماد الدين أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسين علي بن أحمد الهكّاري، المعروف بابن المشطوب، وكان من أجلّ الأمراء الأكابر، وله لفيف من الأكراد الهكارية، ينقادون إليه ويطيعون، مع أنه كان وافر الحرمة عند الملوك، معدوداً بينهم كواحد منهم، معروفاً بعلو الهمة، وكثرة الجود، وسعة الكرم، والشجاعة، تهابه الملوك، وله وقائع مشهورة في القيام عليهم، ولما مات أبوه، وكانت نابلس إقطاعاً له، أرصد ثلثها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لمصالح القدس، وأقطع ابنه عماد الدين هذا بقيتها، فلم يزل قائم الجاه من الأيام الصلاحية، فاتفق عماد الدين مع جماعة من الأكراد والجند على خلع الملك الكامل، وتمليك أخيه الفائز إبراهيم، ليصير لهم التحكم في المملكة، ووافقه على ذلك الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاري، والأمير مجاهد الدين، وعدة من الأمراء. فلما بلغ الكامل ذلك دخل عليهم، فإذا هم مجتمعون، وبين أيديهم المصحف، وهم يحلفون لأخيه الفائز، فعندما رأوه تفرقوا، فخشي على نفسه منهم، وخرج ".

ويستفاد من هذا الخبر أنه كان في الدولة تياراً معارض لأن يكون الكامل هو السلطان بعد أبيه العادل، ويستفاد أيضاً أن قادة ذلك التيار هم من الأمراء الكرد، وينتمي أولئك الأمراء إلى قبيلتين كرديتين كبيرتين هما (هكّاري) و(حميدي)، ولم يكونوا حديثي النعمة في الدولة الأيوبية، وإنما كان لهم فيها تراث عريق، يرجع إلى عهد صلاح الدين وانتصاراته الكبرى على الفرنج.

والسؤال هو: لماذا وقف هؤلاء الأمراء الكرد ضد الكامل؟

كان تفسير المقريزي هو أن الأمراء أرادوا إزاحة الكامل عن سدة الحكم، و"تمليك أخيه الفائز إبراهيم، ليصير لهم التحكم في المملكة". وهذا يعني أن هذا التيار- وهو كردي كما مر- كان قد خسر نفوذه في الدولة ليس في عهد الكامل فقط، وإنما في عهد والده العادل أيضاً، والدليل أنهم باشروا حركة التغيير بعيد وفاة العادل بمدة قصيرة، ويفيد هذا الخبر أيضاً أن قادة ذلك التيار كانوا يحاولون القيام بانقلاب داخل هرم السلطة الأيوبية، لإيصال الفائز ابن العادل إلى منصب السلطنة، وليستعيدوا من ثم نفوذهم في مركز صناعة القرار.

وثمة سؤال آخر: من الذي كان قد سيطر على مركز صنع القرار؟

وبعبارة أخرى: من الذي كان يتحكّم في الدولة الأيوبية؟

هذا أمر لا يقف عنده المؤرخون القدماء بروية وباهتمام كاف، ولا ندري هل كان السبب هو طريقتهم الانتقائية في اختزال سرد بعض الأحداث، والاسترسال في سرد أحداث أخرى؟ وإذا كان هذا هو السبب فلنا أن نتساءل مرة أخرى: ما هي المعايير التي كانوا يبنون عليها طريقتهم الانتقائية؟ هل كان من تلك المعايير معيار (الدنيا مع القائمين) مثلاً؟ وهل كان استفحال النفوذ المملوكي في الدولة الأيوبية، وهيمنتهم على الأمور كلية بعدئذ، من العوامل التي جعلت المؤرخين يغيّبون بعض المعلومات، ويفرجون عن بعضها الآخر؟ كل ذلك ممكن، ومع ذلك لا يمكننا معرفة الأسباب الحقيقة بجلاء ما لم نعد إلى الوراء بضعة عقود، ونبدأ في تفحّص الأمر منذ نشأة الدول الزنكية نفسها.

تنافس كردي - تركماني

كانت الدولة الزنكية تركمانية لكن بجغرافيا كردية، وبموارد كردية، وبقدرات عسكرية نصفها كردية على أقل تقدير، ولا سيما بعد أن انضمت الأسرة الأيوبية إلى صف عماد الدين زنكي، ووظفت قدراتها وقدرات من معها من فرسان الكرد في الخطط الحربية الزنكية، وفي تحقيق الانتصارات، وتوسيع حدود الدولة شمالاً في كردستان، وغرباً في بلاد الشام، بل لولا جهود الأخوين أيوب وشيرگوه لما وصل نور الدين إلى الحكم بعد مقتل والده عماد الدين سنة (541  هـ/1146 م)، ولما تمكن بعدئذ من السيطرة على دمشق، واتخاذها قاعدة في حروبه ضد الفرنج.

ولولا سيطرة الزنكيين على دمشق وجنوبي بلاد الشام عموماً، بجهود كردية طبعاً، لما استطاعت القوة الزنكية أن تتحول إلى قوة إقليمية فاعلة، توازن القوى الإقليمية الأربع الأخرى في المنطقة حينذاك: الدولة البيزنطية وسلاجقة الروم في آسيا الصغرى، والفرنج في ساحل بلاد الشام، والفاطميون في مصر.

ويكفي للتدليل على النشاط الكردي في الدولة الزنكية أن نور الدين أوكل إلى شيرگوه مهمة قيادة الجبهة الغربية (منطقة حمص) في مواجهة الفرنج، وكانت من أخطر الجبهات حينذاك؛ يقول البُنْداري في كتابه (سنا البرق الشامي، ص 24):

" ولما كان ثغر حمص أخطر الثغـور تعيّن أسـد الدين لحمايته وحفظه ورعايته، لتفرّده بجـدّه واجتهـاده وبأسـه وشجاعته ".

والدليل أيضاً أن نور الدين كلّف القائد الكردي شيرگوه، وليس قائداً تركمانياً، بقيادة ثلاث حملات على مصر، لإيقاف الخطر الفرنجي، وأن فارساً كردياً، وليس تركمانياً، هو الذي ضحّي بنفسه سنة (558 هـ)، وأنقذ السلطان نور الدين زنكي من موت محقق على أيدي الفرنج، حينما فاجأت قوة فرنجية معسكره قرب حصن الأكراد في منطقة حمص السورية (انظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 11/294  -  295).

وبعد وفاة نور الدين، وقيام الدولة الأيوبية بجهود صلاح الدين، كان من الطبيعي أن يزداد النفوذ الكردي في الدولة، وخاصة على صعيد صناعة القرارات الكبرى، وهذا أمر لم يكن يرضي القادة التركمان، ولو تتبعنا الظروف التي تلت وفاة شيرگوه في مصر، وتنصيب صلاح الدين خليفة له في قيادة الجند الشامي، وفي تولّي منصب الوزارة للدولة الفاطمية، لوجدنا أن كبار قادة التركمان كانوا معارضين أشد المعارضة لتلك الإجراءات، بل إن بعضهم ترك مصر غاضباً، وعاد على بلاد الشام.

ولو تتبعنا ما كان يدور خلف الستار حينذاك؛ لوجدنا أن الفقيه الكردي المقاتل ضياء الدين عيسى الهكّاري هو الذي وحّد الفريق الكردي في مواجهة الفريق التركماني، وهو الذي أقنع كبار أمراء الكرد المنافسين لصلاح الدين بضرورة التخلي عن موقف المعارضة، والوقوف إلى جانب صلاح الدين باعتباره كردياً مثلهم، وإلا لخرج الأمر من أيدي الكرد، وخسر الجميع.

ما أريد قوله هو أن أكبر قوتين ضاربتين، في العهدين الزنكي والأيوبي، كانت القوة الكردية والقوة التركمانية، وكان ثمة صراع خفي يدور بين الفريقين، وكان ذلك الصراع يتجلى في مواقف كبار الأمراء والقادة، وكان يشتد تارة ويخفّ تارة أخرى، لكن شخصية نور الدين التوفيقية والمهيبة كانت كفيلة بتخفيف حدة التنافس.

على أن نور الدين نفسه لم يستطع الاحتفاظ بموقفه التوفيقي إلى النهاية، فقد نجح الفريق التركي في أن يجعله طرفاً في ذلك التنافس، ولا سيما حينما تمكّن الكرد من الهيمنة على مصر بقيادة البيت الأيوبي، وأحسب أنه لو عاش نور الدين بضع سنوات أخرى لنشب الصراع بين المعسكرين الأيوبي والزنكي، ولتغير مجرى التاريخ، ولما تم استرداد القدس من أيدي الفرنج.

وبعد وفاة نور الدين نشبت الخلافات داخل الفريق الزنكي، وسيطر صلاح الدين على مقاليد الأمور في مصر والشام، وأسس الدولة الأيوبية، واستكمل مشروع تحرير بلاد الشام من الفرنج، ولم يشأ إخراج القوة التركمانية المقاتلة والمتمرسة من دائرة الصراع، وصحيح أنه حشد أبناء القبائل الكردية، ودفهم إلى الانخراط في الصراع الإسلامي الفرنجي، وزجّ بهم في خط الدفاع الأول، لكنه كان أذكى من أن يهمل القدرات القتالية الرفيعة للمقاتلين التركمان، واستطاع بشخصيته التوفيقية أن يقيم نوعاً من التوازن بين الفريقين الكردي والتركماني، " وإلا فالأكراد لا يدينون للأتراك، والأتراك لا يدينون للأكراد " حسبما قال بعض كبار قادة المماليك سنة (588 هـ) خمسمئة وثمان وثمانين (انظر أبو شامة: عيون الروضتين: 2/268).

سيكولوجيا الجبال

إن روح التمرد الكامنة في قرارة النفس الكردية، والنزوع إلى التنافس، إضافة إلى سيكولوجيا الجبال المتأصلة في شخصية الكردي، ومن مظاهرها: العناد، والتمترس في الموقف، والاعتداد بالذات، وروح الصلف، وصعوبة انقياد الكردي للكردي، أقول: إن هذه العوامل جميعها كانت تجعل التعامل مع المقاتلين الكرد صعباً، وثمة أكثر من موقف يؤكد أن بعض الأمراء الكرد، ومنهم الجَناح أخو سيف الدين المشطوب، كانوا يعاملون صلاح الدين معاملة الند للند، وكانوا يخاطبونه بكلام خشن، ويواجهونه بما لا يجرؤ الآخرون على مواجهته به، فيأخذهم بالحلم، ويغضّ النظر عن تطاولهم عليه (انظر أبو شامة: عيون الروضتين: 2/317).

 أما الترك فهم أبناء ثقافة سهوب آسيا الوسطى، ثقافة الجغرافيا المفتوحة، الجغرافيا التي تسهّل السيطرة على الآخر بالقوة، وهي الجغرافيا التي لا بد فيها من التكتل القبلي، والانقياد للزعيم حفاظاً على الوجود، إن سيكولوجيا السهوب هذه أصّلت في الشخصية التركية روح طاعة القائد، وإن هذه المزية في المقاتلين الترك جعلت الجهات الحاكمة، ومنها الدولة الأيوبية، تجنّدهم على شكل مماليك، وقد شكّل شيركوه، فرقة المماليك الأسدية، نسبة إلى لقبه (أسد الدين)، وشكّل صلاح الدين فرقة المماليك الصلاحية، نسبة إلى لقبه (صلاح الدين).

وكان المماليك الترك يلتزمون طاعة سادتهم؛ ما دام أولئك السادة أقوياء، لكنهم كانوا يتسلطون على مقاليد الأمور، بعد أن يكثر عددهم ويزداد نفوذهم، وخاصة في عهود القادة الضعفاء، ففي العصر العباسي كان المماليك الأتراك ملتزمون جداً في عهد كل من المأمون والمعتصم والواثق، لكنهم سرعان ما تآمروا على المتوكل، وفتكوا به، وتسلّطوا على شؤون الخلافة من وراء الستار.

وحدث الأمر نفسه في الدولة الأيوبية، فبعد وفاة صلاح الدين ازداد اعتماد ملوك بني أيوب على المماليك الأتراك، واستعان به كل فريق لإزاحة الفريق الآخر عن طريقه؛ فهذا الملك الأفضل ابن صلاح الدين يخرج من مصر، وكان وصياً على ابن أخيه السلطان المنصور ابن السلطان العزيز، متوجهاً إلى بلاد الشام، لمواجهة عمه العادل، " واستخلف على القاهرة سيف الدين يازكج الأسدي "، ويازكج هذا مملوك تركي، واستخلاف مملوك تركي بدل من أمير كردي في عاصمة السلطنة دليل واضح على تنامي قوة الترك، وتراجع قوة الكرد (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 179).

وإن قادة المماليك الصلاحية والمماليك الأسدية هم الذين رجّحوا كفة الملك العادل؛ خلال صراعه ضد ابن أخيه الملك الأفضل بن صلاح الدين، وإن قادة فرقة الأسدية هم الذي أيّدوا الملك العادل في خلع السلطان الصبي المنصور ابن السلطان العزيز، والحلول محله في منصب السلطنة؛ وثمة شواهد أخرى عديدة على رجحان كفة المماليك الأتراك، وهبوط كفة التيار الكردي.

وكان من الطبيعي أن ينقم الأمراء الكرد على سياسة ملوك بني أيوب هذه، ولا سيما أن الكرد هم الذين أسهموا في تأسيس الدولة الأيوبية، وكانوا وقود المعارك الأكثر ضراوة ضد الفرنج، وكانوا يعلمون أن إبعاد الكرد عن مركز صناعة القرار، وتغليب المماليك، يعني في النهاية سيطرة الترك على كل مفاصل الدولة؛ وتؤكد الأحداث اللاحقة في عهد السلطان الصالح نجم الدين، وعهد ولده السلطان توران شاه، أن الزعماء الكرد كانوا على صواب كبير في تحليلهم هذا، فقد تآمر كبار قادة المماليك الترك على السلطان توران شاه، وقتلوه غدراً، وقضوا على الدولة الأيوبية، وأسسوا دولة المماليك الأتراك.

قراءة أخرى

أحسب أن هذه الإضاءات جعلت المشهد السياسي متكاملاً، والرؤية واضحة، فالحركة التي قام بها الفريق الكردي بقيادة ابن المشطوب، بغية إزاحة السلطان الكامل عن الحكم، وإحلال أخيه الفائز محله، لم تكن مؤامرة عابرة، وإنما كانت حركة تصحيحية داخل البيت الكردي نفسه، وكانت الغاية إعادة الكرد إلى مركز صناعة القرار في الدولة الأيوبية، والحؤول دون سيطرة المماليك الترك على أمور الدولة، وعدم تمكينهم مستقبلاً من إسقاط الدولة جملة وتفصيلاً، وهذا ما فعله المماليك سنة (648 هـ / 1250 م)؛ أي بعد ثلاثة عقود فقط.

ويثير هذا الحدث أكثر من علامة استفهام، ومهما يكن فقد أخذ الكامل الأمر مأخذ الجد، وخشي على نفسه من أن يفتك به القادة الكرد، وكان أول خطوة قام بها هي أنه انسحب ليلاً من مركز القيادة في العادلية، وانتقل إلى أشمُوم طَنّاح، فدبّت الفوضى في الجيش الأيوبي، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 232):

" وأصبح العسكر وقد فقدوا السلطان، فركب كل أحد هواه، ولم يعرج واحد منهم على آخر، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم، ولم يأخذ كل أحد إلا ما خف حمله، فبادر الفرنج عند ذلك، وعبروا دمياط وهم آمنون، من غير منازع، وأخذوا كل ما كان في عسكر المسلمين، وكان شيئاً لا يقدَّر قدره ".

وإنه لأمر غريب حقاً أن يقوم الكامل بهذه الخطوة المفاجئة، وهو السلطان الراجح العقل، والقائد الطويل التجربة، إذ كيف يهرب من ساحة المعركة، ويترك جيشه بلا قيادة، وهو يعلم أن ذلك معناه انتقال الفرنج من ضفة النيل الغربية إلى الضفة الشرقية، والنزول أمام دمياط مباشرة؟! وكيف يفعل ذلك وهو يعلم أن سيطرة الفرنج على دمياط معناه أن الطريق إلى القاهرة، عاصمة السلطنة، بات مفتوحاً؟!

إن وراء الأكمة ما وراءها كما يقول المثل، وللمؤرخين أن يعرضوا الحدث بالكيفية التي يرونها، ولنا أن نكون أكثر رويّة ونتساءل: لماذا حدث الأمر على هذا النحو؟ أيعقل أن يعمد سلطان إلى الفرار من معسكره بهذه الطريقة الفجّة؟! أما كان من المنطقي والحال هذه أن يتقوّى بجنوده والمناصرين له من كبار القادة؟!

بلى، هذه تساؤلات جديرة بأن تثار.

والذي نراه أن قادة الجناح التركي استكملوا اللعبة، أقصد لعبة السياسة والسلطة، فبعد أن أوهموا السلطان بأنه مهدد بالعزل، وربما بالقتل من قبل الفريق الكردي، اقترحوا على السلطان الابتعاد عن مسرح المؤامرة، والأرجح أن السلطان أوكل إليهم أمر قيادة الجيش، لكن قادة الجناح التركي انسحبوا أيضاً من مركز القيادة، ليبقوا على مقربة من السلطان، وليرصدوا كل حركة من حركاته.

أقول هذا ترجيحاً، وأبني هذا الترجيح على دليل من تاريخ المماليك أنفسهم في معركة المنصورة؛ فبعد حوالي خمسة وثلاثين (646 هـ/1248 م) شن الملك الفرنسي لويس التاسع الحملة الصليبية السابعة على مصر، وعلى دمياط تحديداً، وكان السلطان الصالح ابن السلطان الكامل مريضاً، فاضطر إلى أن ينسحب إلى أشموم طنّاح، فشرع قادة المماليك يتسقّطون أخباره، ولما توهّموا أنه مات انسحبوا بالجيش إلى أشموم طنّاح، سعياً إلى السلطة، وتركوا الجسر كما هو، فعبر عليه الفرنج بسهولة، ولما رأى أهل دمياط أن الجيش السلطاني قد انسحب فروا من مدينتهم حفاة، لا يلوون على شيء، وحلّت الكارثة الكبرى.

ترتيبات جديدة

ولنعد إلى متابعة أحداث حصار دمياط.

فبعد أن عبر الفرنج نهر النيل، وسيطروا على المعسكر الأيوبي، أصبح موقف السلطان الكامل ضعيفاً جداً، ووصف المقريزي موقفه قائلاً: " فتزلزل موقف الملك الكامل، وهمّ بمفارقة مصر، ثم تثبّت "، فالتحق به الجنود، ووافاه أخوه الملك المعظَّم حاكم دمشق، فقويت شوكته به، واتفق الأخوان على إبعاد كل من الملك الفائز والأمير ابن المشطوب؛ أما الفائز فأُبعد إلى كردستان، باعتباره رسولاً من الكامل إلى أخيه الملك الأشرف، يطلب منه النجدة، وأما ابن المشطوب فأفلح المعظّم في عزله من أنصاره الكرد، وإبعاده إلى بلاد الشام، (انظر المقريزي: السلوك:، ج1، ق1، ص 233).

أما الفرنج فأقاموا معسكرهم في الجانب الشرقي، وحصّنوه تحصيناً متيناً، وحفروا حوله خندقاً، وبنوا له سوراً، وحاصروا دمياط من البر والبحر، وضيّقوا على من فيها، وكانوا حوالي عشرين ألف مقاتل، إضافة إلى السكان، ومنع الفرنج وصول الإمدادات إليهم، ومع ذلك صبروا وقاتلوا أشد قتال، رغم قلة الأقوات وغلاء الأسعار، وشرع الكامل في محاربة الفرنج من جانبه، لكنه ظل عاجزاً عن التواصل مع المحاصَرين داخل دمياط، إلا بوساطة سبّاح من حَمْوي يدعى (شمايل)، كان ينقل الأخبار بين السلطان والمحاصَرين في الداخل.

ودخلت سنة (616 هـ) ستمئة وست عشرة هجرية ودمياط محاصرة، والحرب قائمة بين الكامل والفرنج، وقد هبّ بعض ملوك بني أيوب إلى نجدة الكامل، فقدم الملك المظفّر ملك حماة بعسكر كثيف، إلا أن الفرنج طوّروا الهجوم على دمياط، فقلّت المؤن، وحلّت المجاعة بين السكان، وبعد حصار دام ستة عشر شهراً، تسوّر الفرنج سور المدينة، واقتحموها، ووضعوا السيف في أهلها، وأسرفوا في القتل، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 237):

" وحصّن الفرنج أسوار دمياط، وجعلوا جامعها كنيسة، وبثّوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظم الخطب، واشتد البلاء، وندب السلطان الناس، وفرّقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون الناس، لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج ".

وراح كل فريق يعزز موقعه العسكري، ويعدّ للخطوة التالية.

أما السلطان الكامل فإنه شرع يجمع المقاتلين، ويطلب النجدات والإمدادات من بلاد الشام وكردستان، وأقام في الوقت نفسه معسكراً جديداً في الموقع الذي سُمّي بعدئذ باسم مدينة (المنصورة)، وزوّده بالمرافق اللازمة للإقامة الطويلة، مثل الدور، والفنادق، والحمّامات، والأسواق.

وأما الفرنج فإنهم كانوا يعزّزون موقفهم العسكري باستمرار، وكان المقاتلون ينضمون إليهم قادمين من بلدان أوربا، وقد خرجوا من دمياط يريدون احتلال القاهرة عاصمة السلطنة، ونزلوا مقابل معسكر السلطان الكامل، ولم يبق أمامهم إلا تحقيق النصر على جند الكامل، وإزاحتهم من الطريق، والوصول إلى القاهرة، بل إنهم كانوا واثقين من السيطرة على مصر، حتى إن ملكهم كان قد وزّعها مسبقاً على قادة جنده بصورة إقطاعات؛ قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 239):

" وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر، تريد مدد الفرنج على دمياط، فوافى دمياط منهم طوائف لا تحصى، فلما تكامل جمعهم بدمياط خرجوا منها، في حدّهم وحديدهم، وقد زيّن لهم سوء عملهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على ممالك البسيطة كلها ".

ولم يكتف الفرنج بالهجوم على مصر، وإنما فتحوا الجبهة الشرقية في بلاد الشام ضد الأيوبيين، ليشتّوا قواهم وجهودهم، وحاولوا مهاجمة القدس واحتلالها ثانية، وكانت الخطط الحربية تقضي بألا تدع العدو يستفيد من دفاعاتك وتحصيناتك ومعدّاتك الحربية حينما تجد نفسك مضطراً إلى التراجع، وهذا ما فعله الملك المعظّم حاكم دمشق، فأمر بتخريب أسوار القدس وأبراجها كلها، عدا برج واحد في غربي البلد، ونقل ما كان في القدس من الأسلحة وآلات القتال، وخرج معظم الناس من المدينة، خوفاً من الفرنج، " فشقّ على المسلمين تخريب القدس وأخذ دمياط ". (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 240).

المعركة الفاصلة

والأدهى أن الجبهة الداخلية في مصر تعرّضت مرة أخرى لانتكاسة خطيرة، فقد استغل أهل الأرياف ضعف موقف السلطان أمام الفرنج، فأثاروا الاضطرابات في وجهه، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 237): " فإنه كان قد كثر تسلّطهم، وطمعوا في أمر السلطان، واستخفّوا به، لشغله بالفرنج عنهم ". وهنا أعلن السلطان النفير العام في البلاد، وطلب من الجميع أن يهبّوا للدفاع عن مصر، فانضم إلى صفه عدد كبير من المقاتلين.

وفي الوقت نفسه هبّ إلى نجدته جميع ملوك بني أيوب في بلاد الشام وكردستان: الملك المنصور صاحب حماة، والملك المجاهد صاحب حمص، والملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك، وأخوه الملك الأشرف حاكم كردستان والمناطق المتاخمة لها من أرمينيا، وكان يدعى (شاه أرمن)، وسبق القول بأن أخاه الملك المعظّم صاحب دمشق كان قد جاء إلى نجدته بجنوده، وبلغ عدد فرسان الجيش الأيوبي نحو أربعين ألفاً.

  وحلّت سنة (618 هـ) ستمئة وثماني عشرة هجرية والحرب على قدم وساق بين الأيوبيين والفرنج، بل يمكننا القول: إنها كانت حرباً كبرى بين الشرق ممثلاُ في القيادة الأيوبية، وبين الغرب (أوربا) ممثلاً في الفرنج، وقد وصف المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 243) ضخامة عدد المقاتلين من كل فريق بقوله: " واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً، وقد اجتمع من الفرنج والمسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله ".

وكان السلطان الكامل قد استثمر التعزيزات التي وصلته، فوضع خطة حربية جديدة، كانت نتيجتها قطع المؤن والإمدادات عن الفرنج من البر والبحر، والانقضاض على سفنهم الحربية، وهي التي كانت تنقل إليهم الإمدادات، وأسروا منهم ألفين ومئتي مقاتل، " ثم ظفروا أيضاً بثلاث قطائع [ربما هي قطع حربية، أو كتائب]، فتضعضع الفرنج لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصلح ". (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 239).

وفي أوج احتدام القتال كان الفرنج يرسلون وفودهم للمباحثة في الصلح، وكان من شروطهم أن يستردوا القدس وعسقلان وطبرية في فلسطين، وجَبلة واللاذقية على الساحل السوري، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين سابقاً. وقد وافق الجانب الأيوبي على ذلك، ما عدا قلعتي الكَرَك والشُّوبك، باعتبار أن سيطرة الفرنج على هاتين القلعتين في جنوبي الأردن كان يعني قطع طرق المواصلات بين جناحي الدولة الأيوبية؛ الجناح الغربي ممثلاً بمصر، والجناح الشرقي ممثلاً ببلاد الشام وكردستان، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 243):

" فأبى الفرنج، وقالوا: لا نسلّم دمياط حتى تسلّموا ذلك كله. فرضي الكامل، فامتنع الفرنج، وقالوا: لا بد أن تعطونا خمسمئة ألف دينار، لنعمر بها ما خرّبتم من أسوار القدس، مع أخذ ما ذكر من البلاد، وأخذ الكرك والشوبك أيضاً ".

وهكذا كان الفرنج يتشدّدون في شروطهم، ويطلبون كل شيء مقابل انسحابهم من دمياط، لكن الفريق الأيوبي لم يرضخ للفرنج، واستمر في القتال والمصابرة، ولجأت القيادة الأيوبية إلى تكتيك جديد ما كان الفرنج قد أعدّوا العدّة لمواجهته؛ ألا وهو إغراق الأرض المحيطة بمعسكر الفرنج بمياه النيل، وإعاقة تحركاتهم. وقد نجح فريق من الجيش الأيوبي في فتح ثغرة كبيرة في النيل، وكان الوقت وقت الفيضان، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 243):

" والفرنج لا معرفة لهم بحال أرض مصر، ولا بأمر النيل، فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرّق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلاً بينهم وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها، سوى جهة واحدة ضيقة ".

وقد أحكم السلطان الكامل خطة محاصرة الفرنج، وعزلهم براً وبحراً، فأمر الجند بنصب الجسور، والعبور للسيطرة على الطريق الضيقة التي كانت تصل الفرنج بدمياط، وفي الوقت نفسه وصلت سفينة حربية ضخمة جداً إلى ساحل دمياط، تحمل الميرة والسلاح إلى الفرنج، وتحرسها حرّاقات (زوارق حربية) عديدة، فهاجمتها السفن الحربية الأيوبية، وسيطر الفريق الأيوبي على السفينة وعلى ما فيها وما معها من الحرّاقات، الأمر الذي فتّ في عضد الفرنج، وأوقع في نفوسهم الرعب، وأصبحوا محاصرين من جميع الجهات.

ورغم هذا الموقف العسكري الصعب جداً لم يستسلم الفرنج، واجتمع رأيهم على مناهضة الجيش الأيوبي، والوصول إلى دمياط، " فخرّبوا خيامهم ومجانيقهم، وعزموا على أن يحطموا [يهجموا] حطمة واحدة، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لكثرة الوحل والمياه التي قد ركبت الأرض من حولهم، فعجزوا عن الإقامة لقلة الأزواد عندهم، ولاذوا إلى طلب الصلح، وبعثوا يسألون الملك الكامل، وإخوته الأشرف والمعظّم، الأمان لأنفسهم، وأنهم يسلّمون دمياط بغير عوض " (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 244).

إنه لانقلاب كبير في الموقف العسكري ولا ريب، تطلّب من القيادة الأيوبية اتخاذ قرار حاسم، وكان من الطبيعي أن تختلف الآراء، وكان رأي السلطان الكامل هو الموافقة على ما طلبه الفرنج، ورأى إخوته الاستمرار في القتال، " واجتثاث أصلهم البتّة "، فلا تقوم لهم قائمة بعدئذ.

لكن العبقرية الحربية والسياسية لا تقع تحت تأثير شهوة الانتقام، وإنما تأخذ جميع الظروف والاحتمالات بعين الاعتبار، أفلم يكن الفرنج في موقف قوي؟! أولم يكن الفريق الأيوبي على وشك الهزيمة؟! إذاً ما الذي يمنع من أن يستعيد الفرنج زمام المبادرة ثانية؟! ولا سيما أن لهم أعداداً غفيرة من المقاتلين في دمياط، وأن الإمدادات تنهمر عليهم من أوربا، وأن الغضب يأكل ملوك أوربا بسبب مقتل كثير من كبرائهم؟

 ثم أليس من واجب السلطان أن يأخذ أحوال جنوده في الحسبان أيضاً؟ فقد ظل هؤلاء المقاتلون يخوضون المعارك العنيفة طوال ثلاث سنين وأشهراً، فهل من العجب أن يتسلل الضجر إلى نفوسهم؟! أليس من حقهم الفوز ببعض الراحة، والعودة إلى أهليهم؟!

لقد نظر الكامل إلى الموقف نظرة شمولية، مراعياً معطيات الداخل والخارج، وآخذاً في الحسبان الجوانب المادية والمعنوية، ووضع كل هذه الحقائق أمام القيادة الأيوبية المشتركة، فوافقه إخوته على طلب الأمان الذي سعى إليه الفرنج، شريطة أن يرسلوا رهائن من ملوكهم وليس من أمرائهم، واشترط الفرنج بالمقابل أن يرسل السلطان ابنه الملك الصالح نجم الدين رهينة عندهم إلى أن تعود رهائنهم، "فتقرر الأمر على ذلك، وحلف كل ملك من ملوك المسلمين والفرنج".

وأرسل الفرنج عشرين ملكاً من ملوكهم رهائن، منهم يوحنا صاحب عكا، ونائب البابا، وأرسل السلطان ابنه الملك الصالح إليهم، وله من العمر يومئذ خمس عشرة سنة، ومعه جماعة من خواصه، واستقبل السلطان ملوك الفرنج الرهائن في مجلس مهيب، وإخوته الملوك واقفون بين يديه، الأمر الذي دهش له الفرنجة، ثم جاء قساوسة الفرنجة ورهبانهم لتسليم دمياط، وتسلّمها الأيوبيون.

وسرعان ما ظهرت صحة وجهة نظر السلطان الكامل، وتأكّدت عبقريته الحربية والسياسة، ففي اليوم الذي تسلّم فيه الجيش الأيوبي دمياط وصلت نجدة عظيمة إلى الفرنج قادمة من أوربا، وكانت تتألف من حوالي ألف مركب، ولا ريب أنها لم تكن مراكب فارغة، وإنما كانت مشحونة بالرجال والأسلحة وسائر الإمدادات، ثم إن المسلمين، بعد دخولهم دمياط، وجدوا أن الفرنج كانوا قد قاموا بتحصينها تحصيناً شديداً جداً، إلى درجة أنه كان يستحيل استردادها بالقوة؛ فكيف كان سيصبح الموقف العسكري الفرنجي بعد وصول تلك المراكب؟! أما كان من الممكن أن يستعيدوا قوتهم، ويجعلوا الجيش الأيوبي في موقف أشد صعوبة مما سبق؟!

وبعد استرداد دمياط بعث الكامل بمن عنده من رهائن الفرنج، وقدم ابنه الملك الصالح ومن كان معه من عند الفرنج، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 245 - 246):

" وتقررت الهدنة بين الفرنج وبين المسلمين مدة ثماني سنين، على أن كلاً من الفريقين يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته، وحلف ملوك الفرنج، على ذلك، وتفرق من كان قد حضر للقتال، فكانت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم ".

وهنّا الشعراء السلطان بقصائد بديعة، فقال شرف الدين ابن عنين في قصيدة له:

سلوا صَهَوات الخيل يومَ الوغى عنا

إذا جهلت آياتنـا والقنـــا اللُّدْنا

غداةَ التقينا دون دميـــاط جَحْفَلاً

من الروم لا يُحصى يقيناً و لا ظنّا

قد اجتمعوا رأياً ودينـاً وهمّـــةً

وعزمـاً، وإن كانوا اختلفـوا سنّا

فما برحتْ سُمْرُ الرماح تُنوشهمْ

بأطرافها، حتى استجاروا بنـا منّا

بدا الموت من زُرق الأسنّة أحمراً

فألقوا بأيديهـم إلينــا، فأحسنّا

الحملة الصليبية السادسة

ذات مرة قال القاضي الفاضل في الأيوبيين: 

" الآباء اتفقوا فملكوا، والأبناء اختلفوا فهلكوا ".

والحقيقة أن هذا القول يصح على قادة الكرد وزعمائهم عبر كل العصور، فقد اتفق أبناء السلطان العادل على التصدي للحملة الصليبية الخامسة، فألحقوا بها الفشل، لكن سرعان ما " عادت حليمة إلى عادتها القديمة "؛ كما يقول المثل العربي القديم، ونشبت الخلافات من جديد بين الإخوة الثلاثة: السلطان الكامل صاحب مصر، والملك المعظّم صاحب دمشق، والملك الأشرف صاحب كردستان وما يجاورها من بلاد أرمينيا، وكان الخلاف الرئيس بين كل من المعظم والأشرف يدور حول حماة وحلب الواقعة بين منطقتي نفوذيهما، وكان لا بد للسلطان الكامل من التدخل كل مرة، للوقوف إلى جانب الطرف المظلوم.

ومع سنة (623 هـ) كان الشقاق بين الإخوة الثلاثة قد بلغ الذروة، ووقف المعظم والأشرف معاَ ضد الكامل، وشرع المعظم صاحب دمشق يراسل السلطان جلال الدين خوارزم شاه، طالباً منه النجدة على أخيه السلطان الكامل، "ووعده أن يخطب له، ويضرب السكّة باسمه، فسيّر إليه جلال الدين خلعة لبسها، وشقّ بها دمشق، وقطع الخطبة للملك الكامل" (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1،ص 259)، وكان جلال الدين حينذاك قد تراجع أمام الزحف المغولي، ووصل إلى أذربيجان وكردستان، وبالمقابل بحث الكامل عن نصير يستعيد به توازن القوى ضد أخويه، فوجد بغيته في صديقه فردريك الثاني إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، فشجّعه على مهاجمة سواحل بلاد الشام، حيث ممتلكات أخيه الملك المعظم.

أما في الجانب الأوربي فكان الألماني فردريك الثاني قد تعهّد للبابوية، إبّـان وصوله إلى السلطة سنة (1214م)، أن يقوم بحملة صليبية لاسترداد القدس، وفي سنة (1220م) تُوّج إمبراطوراً للدولة الرومانية المقدسة في كنيسة القديس بطرس بروما، بعد أن جدّد العهد للبابوية بشنّ الحملة المتفق عليها.

ويبدو أن فردريك لم يكن جاداً في مشروعه الصليبي، فهو رجل واسع الاطلاع على الفلسفة، والعلوم، والطب، والتاريخ الطبيعي، ويجيد من اللغات الفرنسية، والألمانية، والإيطالية، واللاتينية، واليونانية، والعربية، وكانت له تعليقات مثيرة حول الأديان، ولم يكن متحمساً للحروب الدينية؛ في حين كانت البابوية تتوق إلى إرسال حملة صليبية سادسة على وجه السرعة لإصلاح الموقف الناجم عن فشل الحملة الصليبية الخامسة، وأدّت مماطلة الإمبراطور، وخلافاته مع البابا، إلى إصـدار قرار الحرمان ضده سنة (1227م).

ونتيجة لتأزّم الموقف أدرك الإمبراطور فردريك أن مصلحته السياسية تقتضي القيام بحملة صليبية، يفوّت بها على البابا إظهاره بمظهر المسيحي العاق، وبدأ حملته سنة (625 هـ/1228 م) متوجّهاً إلى عكا، وكان قد وضع ثقته في حليفه السلطان الكامل، وكان الملك المعظم قد توفي سنة (624 هـ)، وبوفاته زالت عقبة كبرى من طريق السلطان الكامل، فخرج بجيشه إلى بلاد الشام، وهدفه أن يسيطر على دمشق والقدس وغيرها من البلاد التي كانت تابعة للمعظم.

ونتيجة للواقع الجديد لم يعد الكامل بحاجة إلى قدوم الإمبراطور فردريك، لكن كانت الفرصة قد فاتته، ولم ير فردريك بداً من القيام بالحملة الصليبية السادسة، تحت ضغوط البابا، وتمكّن بعد مفاوضات طويلة ومضنية مع الملك الكامل من استرداد القدس سنة (626 هـ/1229م) سلماً وعلى نحو شكلي، ووصلت المفاوضات إلى حد أن الإمبراطور كان يبكي متوسّلاً إلى صديقه الملك الكامل أن يحقق له رغبته هذه، فقط ليردّ مكر البابوية إلى نحرها، وفي اللحظات الأخيرة اصطلح الكامل وأخوه الأشرف ثانية، قال ابن الأثير (الكامل في التاريخ، 12/483):

" فلما اجتمعا تردّدت الرسل بينهما وبين الأنبرور، ملك الفرنج، دفعات كثيرة، فاستقرت القاعدة على أن يسلّموا إليه البيت المقدس، ومعه مواضع يسيرة من بلاده، ويكون باقي البلاد، مثل الخليل، نابلس، والغَور، ومَلَطْية [كذا، ولعلها: سَبَسْطية]، وغير ذلك بيد المسلمين، ولا يسلّم إلى الفرنج إلا البيت المقدس والمواضع التي استقرت معه، ... وتسلّم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه ".

وأورد المقريزي أخبار المحادثات بين وفد السلطان الكامل والإمبراطور فردريك على نحو أكثر تفصيلاً مما أورده ابن الأثير، وخلاصة ما أورده أن رئيس الوفد المفاوض من الجانب الأيوبي كان فخر الدين بن شيخ الشيوخ، ومعه الشريف شمس الدين الأرموي قاضي العسكر، وقضت الاتفاقية أن الإمبراطور يأخذ القدس، لكن يبقيها على حالها، ولا يجدد سورها، وأن تكون سائر قرى القدس في أيدي المسلمين، لا حكم للفرنج فيها، وأن الحرم، بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى، يكون في أيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولّى المسلمون شؤونه، ويقيمون فيه الأذان والصلاة، وكانت مدة الاتفاقية عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوماً، " واعتذر ملك الفرنج للأمير فخر الدين بأنه لولا انكسار جاهه ما كلّف السلطان  شيئاً من ذلك، وأنه ما له غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصده حفظ ناموسه عند الفرنج " (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1، 269).

وبعد توقيع الاتفاقية استأذن الإمبراطور في دخول القدس، فأجابه الكامل إلى ما طلب، وكلّف قاضي نابلس بمرافقته، وطاف الإمبراطور في أرجاء المسجد الأقصى، وأعجب به، ورأى قسيساً بيده الإنجيل، وقد قصد دخول المسجد الأقصى، فزجره وأنكر مجيئه، وأقسم لئن دخل أحد من الفرنج المسجد بغير إذن ليقتلنه، وقال: " فإنما نحن مماليك هذا السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد تصدّق علينا وعليكم بهذه الكنائس على سبيل الإنعام، فلا يتعدّى أحد منكم طوره "، فانصرف القس وهو يرتعد خوفاً منه (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1، 269).

زمنان مختلفان

وصحيح أن اعتراف الكامل بدخول القدس في حكم الإمبراطور كانت  صفقة سياسية شكلية الطابع، وأنه كان مكرهاً على ذلك بسبب ضعف موقفه، وقوة الإمبراطور ومن وروائه قوة أوربا، وصحيح أيضاً أن الإمبراطور نفسه لم ينظر إلى الأمر على أنه انتصار للمسيحية على الإسلام، ويبدو من سيرته الذاتية أنه كان علماني الرؤية، لا يتعصّب لدين ضد آخر، ومع ذلك فقد وقع خبر دخول القدس في حكم الفرنج على المسلمين كالصاعقة، " فاشتد البكاء، وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيّم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان، فعزّ عليه ذلك، ... واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار " (انظر المقريزي: السلوك، ج1، ق1، 269).

ولسنا الآن بصدد تبرير تنازل السلطان الكامل عن القدس للإمبراطور فردريك، فثمة عوامل عديدة ساهمت في إيصال الكامل إلى اتخاذ ذلك القرار؛ أهمها تشرذم الأيوبيين وتخاصمهم، وتفرق قيادات شعوب شرقي المتوسط، وانشغال كل فئة بما يواجهها من تحديات، وبما يراودها من مصالح ومطامع، ولا يمكن بأي حال من الأحوال قياس الواقع العام في عهد الكامل بما كان عليه في زمن نور الدين وصلاح الدين؛ فقد أفلح هذان الزعيمان في تعبئة شعوب شرقي المتوسط، وتوظيف مواردها ضد الغزو الفرنجي، فكانا غير مضطرين إلى الخضوع لنهج الواقعية السياسية، وإنما كانا في موقف هجومي يصنعان من خلاله الواقع السياسي.

أما الكامل فإنه كان ينتمي إلى زمن الموقف الدفاعي، وليس إلى زمن الموقف الهجومي، وكان مضطراً من ثم إلى أن يأخذ بنهج الواقعية السياسية، ويرتّب الأولويات من جديد، ويضحّي بالقليل للاحتفاظ بالكثير، وينتظر الفرصة المناسبة لاسترداد ما فرّط فيه. وكانت الصداقة قد توثقت بينه وبين فردريك، وقطف ابنه الملك الصالح ثمرة تلك الصداقة بعدئذ، إذ كانت الأخبار التي يوصلها فردريك إلى السلطان الصالح سراً، حول تحركات الحملة الصليبية السابعة، من أكبر العوامل في فشل تلك الحملة، ونجاة مصر وشرقي المتوسط عامة من خطر كبير.

وقد أمضى السلطان الكامل الأعوام التالية في القضاء على المشكلات الداخلية، وأفلح في لملمة شمل أطراف الدولة ألأيوبية قدر المستطاع، فشرّق وغرّب، وعاد أخيراً إلى دمشق، فمرض وتوفي فيها سنة (635 هـ) وعمره نحو ستين سنة.

وتعبيراً عن وفاء الإمبراطور فردريك لصديقه الكامل أمر بالإفراج عن من عنده من الأسرى المسلمين، " فأحضرهم الأمبرور بين يديه، وقال لهم: يا حجّاج، قد أعتقتكم عن الملك الكامل، وسيّرهم مع قصّاد تقودهم إلى عكا، وأمرهم بحل قيودهم عند قبره، وإطلاق سبيلهم " (انظر ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/91).

شخصية الكامل ومناقبه

تجمع كتابات المؤرخين على أن السلطان الكامل كان شخصية لا تخلو من التميّز في كثير من الميادين، وأول ما تميّز به هو ثقافته الواسعة، وحبه للعلم وأهله، ومشاركته في المناقشات العلمية، ورعايته للعلماء، وتوفير حياة كريمة لهم، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 300):

" وكان يحب أهل العلم، ويؤثر مجالستهم، وشغف بسماع الحديث النبوي، وحدّث بالإجازة من أبي محمد بن بري، وأبي القاسم البوصيري، وعدة من المصريين، وتقدم عنده أبو الخطاب بن دحية، وبنى له دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وجعل عليها أوقافاً، وكان يناظر العلماء، وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو يمتحن بها، فمن أجاب عنده قدّمه وحظي عنده، وكانت تبيت عنده بالقلعة جماعة من أهل العلم، كالجمال اليمني النحوي، والفقيه عبد الظاهر، وابن دحية، والأمير صلاح الدين الإربلي- وكان أحد الفضلاء- فينصب لهم أسرة ينامون عليها بجانب سريره، ليسامروه، فنفقت الآداب والعلوم عنده، وقصده أرباب الفضائل، فكان يطلق لمن يأتيه منهم الأرزاق الدارّة ".

رجل دولة قدير

أما على صعيد الإدارة والقيادة فقال ابن خلّكان(وفيات الأعيان، 5/89):

" خطب له إخوته وأهل بيته في بلادهم، وضربوا السكّة باسمه، وكان محبوباً إلى الناس، مسعوداً مؤيَّداً في الحروب ".

وقال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، 300 - 301):

" وكان مهيباً، حازماً، سديد الآراء، حسن التدبير لمماليكه، عفيفاً عن الدماء، وبلغ من مهابته أن الرمل – فيما بين العريش ومصر- كان يمر فيه الواحد بالذهب الكثير، والأحمال من الثياب، من غير خوف، وسُرق مرة فيه بساط، فأحضر الكامل العربان الذين يخفرون الطريق، وألزمهم بإحضاره وإحضار سارقه، فبذلوا عوضه شيئاً كثيراً  وهو يأبى إلا إحضار السارق، أو إتلاف أنفسهم وأموالهم بدله، فلم يجدوا بداً من إحضار السارق والبساط ".

وأضاف المقريزي أيضاً (السلوك، ج1، ق1، 301):

" وكان يباشر أمور الملك بنفسه، من غير اعتماد على وزير ولا غيره، واستوزر أولاً الصاحب صفي الدين بن شكر ست سنين، ... فلما مات الصاحب لم يستوزر بعد أحداً، بل كان يستنهض من يختار في تدبير الأشغال، ... وصار يباشر أمور الدولة بنفسه، ويُحضر عنده الدواوين، فيحاققهم ويحاسب، وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج بنفسه، وكشف الجسور، ورتّب في كل جسر من الأمراء من يتولاه، ويجمع الرجال لعمله، فمتى اختل جسر عاقب متوليه أشد العقوبة، فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة زائدة ".

المراجع

1.    ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979م.

2.    البُنداري: سنا البرق الشامي، تحقيق فتحية النبراوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1979م.

3.    ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999م.

4.    ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.

  1. الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2006 م.
  2. أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق أحمد البيسومي، وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.
  3. ستيفن رنسيمان: تاريخ الحروب الصليبية، ترجمة الدكتور السيد الباز العريني، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م.
  4. الدكتور السيد عبد العزيز سالم، الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2003 م.
  5. الدكتور عبد العظيم رمضان: الصراع بين العرب وأوربا من ظهور الإسلام على انتهاء الحروب الصليبية، دار المعارف، القاهرة، 1983م.
  6. المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره محمد مصطفى زيادة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1971 م.

وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 21 – 4 – 2007

 

 ============

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة السابعة والثلاثون )

السلطان العـادل أبو بكرالأيوبي

 (540 - 615 هـ / 1145 – 1218 م)

خارج التاريخ!

كثير من القداسة.

قليل من الواقعية.

تلك هي المشكلة في قراءة التاريخ.

وذلك هو الخطأ الفادح في تفسيره.

أما وجه المشكلة فهو أن نتعامل مع الحدث بعيداً عن المناخ الذي تشكّل فيه؛ أقصد خارج جدلية الذاتي والموضوعي، وجدلية الداخل والخارج، وجدلية التحدي والاستجابة، وجدلية الحاجة والاختراع، وجدلية (التاجر) و(الكاهن) و(الجندي)، وبعبارة أخرى: المشكلة هي ألا نقرأ التاريخ كما هو، وإنما أن نقرأه كما نريد نحن دينياً، أو طائفياً، أو قومياً، أو قبلياً.

وأما وجه الخطأ فهو أن نفسّر التاريخ خارج (التاريخ)، ونتعامل مع ما هو واقعي بطرائق لاواقعية، ومع ما هو عقلاني بمنطق الخرافة، فيتحول الحدث التاريخي بين أيدينا إما إلى قصيدة فخر، أو قصيدة مدح، أو قصيدة هجاء، أو قصيدة رثاء، وإما أنه يتحول إلى نص مقدس، فنقرأه والعقل قد انقمع، وآليات التفكير قد تعطلت، وسيف التابو مشهور فوق رؤوسنا، وليس لنا إلا التسليم والإذعان، وهذه الحال تذكّرني بقول أبي العلاء المعرّي:

تَلَوا باطلاً، وجَلَوا صارماً   

وقالوا: صدقنا؟! فقلنا: نعم

وهذا النهج في قراءة التاريخ وتفسيره نهج فيه الضرر كله.

ولك أن تقول: لماذا؟!

ولي أن أقول: لأننا بهذه الطريقة اللاواقعية في قراءة التاريخ ننشئ فكراً لاواقعياً، فكراً يتعامل خرافياً مع ما هو غير خرافي، فكراً يتعامل قداسياً مع ما هو غير مقدس، ولأننا بهذه الكيفية نروّض أنفسنا على التعامل مع الواقع (الحاضر) والممكن (المستقبل) برؤية لاواقعية، ونتخذ من ثَمّ قرارات لاواقعية، فنجرّ على أنفسنا المنغّصات، ونترك لأجيالنا إرثاً من المشكلات، لا، بل من المعضلات.

ميكيافيلية

إذاً علينا نحن – معشر الشرقيين- أن نعقل.

وجدير بنا أن نحرر قراءة التاريخ من هالات الخرافة والتقديس.

وليقل من ارتزق- وما زال يرتزق- بتلك الهالات ما يشاء.

فلهم مستقبلنا ولهم مستقبلهم، ولنا دينهم ولنا ديننا.

وإذا فعلنا ذلك؛ أقصد عندما نحرر قراءة التاريخ من سطوة المقدس وسوط المدنّس، فعندئذ سنجد أن الحدث التاريخي، من حيث النشأة، هو نتاج جدلية التحدي والاستجابة، وقد ساق المؤرخ البريطاني أرنولد تُوينبي كثيراً من الأدلة على صحة تلك الجدلية، وعندئذ أيضاً سنكتشف أن الحدث التاريخي ليس محصّناً ضد النهج الميكيافيلي؛ وهو نهج يجسّد الواقعية السياسية، ويقوم في جوهره على مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة).

 وقد يُفهم أن المفكر الإيطالي الفلورنسي نيكولو مكيافيلي Niccolò Machiavelli  )1469 - 1527م(، صاحب كتاب (الأمير)، هو الذي ابتدع هذا المبدأ، والحقيقة أن الرجل لم يبتدعه، وإنما اكتشفه، وأكد أن الساسة الكبار إنما كانوا يطبقون هذا المبدأ من حيث يدرون ولا يدرون، وفسّر على أساسها سقوط تفاحة التاريخ من الشجرة نحو الأسفل، وليس نحو الأعلى.   

وجوهر الميكيافيلية هو (المغالبة) كما سمّاها القدماء، وترجع (المغالبة) ذاتها إلى حقيقة (البقاء للأصلح/للأقوى)، وقد أشار المتنبي قديماً إلى نظرية (المغالبة) في قوله:

فالموتُ أعذرُ لي، والصبرُ أجملُ بي  

والبَرُّ أوسعُ، والدنيــــا لمن غَلَبا

وصاغ أحمد شوقي هذه النظرية نفسها في قوله:

وما نَيْلُ المَطــالب بالتمنّي

ولكن تُؤخذ الدنيـــا غِلابا

و(المغالبة) أشكال ومستويات؛ فقد تكون بالسيف، وقد تكون بالكلمة، وقد تكون بالدهاء، وقد تكون بالمكر، وقد تلبس لبوس المقدس، سواء أكان المقدس ديناً أم مذهباً، وقد تلبس لبوس القبلية أو القومية، وقد تجمع بين السيف والكلمة والدهاء والمكر، كما أنها قد تجمع بين اللبوس الديني والقبلي والقومي، وبعبارة أخرى إنها خلطة سحرية، لا يجيد صنعها إلا عباقرة السياسة، وإنها تذكّرني بقول كيميائي قديم لأحد تلامذته: " خذ كما ينبغي، وامزج كما ينبغي، تحصلْ على ما تريد ".

مغالبات.. ومغالبات!

وما أكثر الشواهد على فن (المغالبة) عبر التاريخ!

فلك أن تُدرج تحت بند (المغالبة) استئثار الفريق القرشي بالسلطة في سَقيفة بني ساعِدة، بالمدينة المنوَّرة، بُعيد وفاة النبي محمد عليه السلام مباشرة، وزحزحة فريق الأنصار، وغيرهم من العرب، بعيداً عن سدّة الحكم ومركز صنع القرار.

ولك أن تدرج تحت البند نفسه معاوية بن أبي سفيان، وهو يرفع قميص عثمان بن عفّان على المنابر في دمشق تارة، ويرفع المصاحف على أسنة الرماح في معركة (صِفّين) تارة أخرى، لإزاحة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب عن طريقه، والاستئثار بالخلافة الإسلامية، وتحويلها إلى مُلك عَضوض.

ولك أن تدرج تحت بند (المغالبة) استيلاء الفرع العباسي على مقدّرات (دعوة آل البيت)، بعد انتصار تلك الدعوة على الأمويين، وقيام العباسيين بإزاحة الفرع العلوي/الفاطمي جانباً، ثم تدبير اغتيال أبي سَلَمة الخلاّل (وزير آل محمد) وصانع الخلافة العباسية ومهندسها، بتدبير من الخليفة العباسي الأول أبي العباس السفّاح.

وأدرج تحتها، وأنت مطمئن، تدبير مقتل قاهر الأمويين، وأحد أكبر قائدين للجيوش العباسية، عبد الله بن علي، بتدبير من ابن الأخ أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني.

وأدرج تحت بند (المغالبة) أيضاً فتك هارون الرشيد بوزرائه البرامكة، وصراع ولديه الأمين والمأمون على الخلافة، ومقتل الأمين في النهاية، ومقتل الخليفة المتوكل على أيدي الضباط الترك، وسيطرة البويهيين الدَّيْلَم على مقاليد السلطة في غربي آسيا، ثم قدوم السلاجقة التركمان من وسط آسيا، وإزاحة البويهيين عن السلطة، والحلول محلهم، ثم بزوغ نجم التركماني عماد الدين زَنكي مؤسس الدولة الزنكية، ثم بزوغ نجم الكردي صلاح الدين الأيوبي، وتأسيس الدولة الأيوبية.

ولك أن تدرج تحت بند (المغالبة) بزوغ نجم المملوكين التركمانيين قُطْز وبيبرس، وتأسيس دولة المماليك التركمان، ثم بزوغ نجم المملوك الشركسي بَرْقُوق، وتأسيس دولة المماليك الشراكسة، ثم بزوغ نجم التركماني أُورْخان بن عثمان بن أَرْطُغرل شاه، وتأسيس الدولة العثمانية.

ونقف في هذه الحلقة عند أحد عباقرة فن (المغالبة).

إنه السلطان العادل أبو بكر الأيوبي.

فماذا عنه؟

العصر أولاً

كان عصر العادل عصر مغالبة بكل المقاييس الحربية والسياسية، وكان البقاء سياسياً هو للأصلح (الأقوى طبعاً)، وكانت عهود سلاطين السلاجقة الأقوياء (طُغْرُلْبَك، أَلْب أَرْسلان، مَلِكشاه) قد ولّت، ونشبت الخصومات العنيفة بين أبناء ملكشاه، ثم بين أحفاده، وكانت الخصومات تتحوّل إلى صراعات حربية، واستأثر بعضهم ببلاد فارس والأجزاء الشرقية من كردستان، وكان الصراع على العراق حامياً بين السلطان مسعود وأخيه السلطان سلجوق شاه، وهما حفيدا ملكشاه، كما أن أولاد دُقاق بن تُتُش بن أَلْب أرسلان كانوا قد بسطوا نفوذهم على سوريا، واتخذوا دمشق عاصمة لهم، ثم تولّى الأمر هناك أولاد أتابكهم تاج الملوك بُوري بن طُغتِكين، وصحيح أن ورثة بُوري كانوا يتاخمون الفرنج، لكنهم كانوا أضعف من مواجهتهم. 

وفي الوقت نفسه كان بعض مماليك السلاجقة قد بسطوا نفوذهم على مناطق من غربي آسيا، فهيمن الأراتقة (بنو أُرْتُق أحد مماليك ملكشاه) على المناطق الكردية في الرُّها، وحصن كَيْفا (حَسَنْكيف)، ومارِدين، ونَصِيبين، وكان ذلك بدءاً من سنة (495 هـ)، واصطلح بنو أرتق، في أوائل سنة (502 هـ)، على أن يتقاسموا بلاد الجزيرة والمناطق الكردية السالفة الذكر فيما بينهم.

وكانت الدولة الفاطمية تهيمن حينذاك على مصر، وكان نفوذها يمتد إلى أجزاء من جنوبي بلاد الشام، لكنها كانت تمر بدور الضعف، وكان الفرنج يبسطون نفوذهم على مناطق مهمة من غربي آسيا، تمتد على شكل قوس من الرُها في كردستان شرقاً، ومروراً بأنطاكيا غرباًَ، وبالساحل الشامي (سوريا، ولبنان، وفلسطين)، وانتهاء إلى العريش على الحدود المصرية جنوباً، وكانوا قد أسسوا إمارة الرُّها، وإمارة أنطاكيا، وإمارة طرابلس، ومملكة القدس، ويشكّلون تهديداً دائماً لبلاد الشام ومصر.

دولة تركمانية بجغرافيا كردية

وفي الوقت نفسه كانت ثمة قوة سياسية وعسكرية تركمانية بدأت بالظهور في الموصل، والمناطق المتاخمة لها، هي القوة الزنكية، وكان المؤسس الأول لهذه الدولة هو عماد الدين زَنكي بن آقْ سُنْقُر، وكان آق سنقر قائداً تركمانياً مقرّباً من السلطان السلجوقي مَلِكشاه بن أَلُب أرسلان، ولكنه راح ضحية الصراعات بين أبناء العائلة السلجوقية الحاكمة سنة (487 هـ) أربعمئة وسبع وثمانين هجرية، وقد وُلّي زنكي الموصل، وبدأ بتأسيس دولته من هناك، وكانت الدولة الزنكية تركمانية القيادة، لكن بجغرافيا كردية، وأيضاً بموارد كردية، وبقدرات حربية تركمانية وكردية.

وقد يقال: كيف تكون الدولة تركمانية والجغرافيا والموارد كردية؟!

أما كون الدولة الزنكية تركمانية، لكن بجغرافيا كردية، فحسبنا دليلاً على ذلك  قول أبي شامة في (عيون الروضتين في أخبار الدولتين، ق1، ص 183 – 185):

" ثم أُقطع زنكي مدينة واسط، وشِحْنكية البصرة، ثم وُلّي الموصل، فأخذ جزيرة ابن عمر [جزيرة بوتان]، وإربل، وسِنجار، والخابور، ونصيبين [متاخمة للقامشلي شمالاً]، ودارا [بين نصيبين وماردين]، وبلاد الهكَّارية، وبنى قلعة العمادية، وملك من ديار بكر طَنْزَة، وإسْعَرْد [سِيرت]، ومدينة المعدن، وحيزان [لعلها خيزان]، وحائي [لعلها: هاني بين موش وملطية]، وعانة، وغيرها، واستولى على قلاع الحميدية، وولاياتهم، من العَقْر، وقلعة شُوش ".

بلى، إن هذه الجغرافيا الشاسعة كردية، ما عدا عانة، فهي واقعة في غربي العراق، وفي هذه الجغرافيا أسس زنكي دولته التركمانية، ولولا سيطرته على الجغرافيا الكردية هناك لما استطاع الانطلاق غرباً نحو بلاد الشام، قال أبو شامة في (عيون الروضتين في أخبار الدولتين، ق 1، ص 185 – 186): " وعبر الفرات، فملك مَنْبِج، وحلب، وحماة، وحمص، وغيرها، وحاصر دمشق، ...".

وأما كون الدولة الزنكية نهضت بموارد كردية فتلك حقيقة تؤكدها الجغرافيا نفسها، فموارد الدول- سواء أكانت موارد زراعية أم صناعية أم تجارية- مستمدة في الأصل من الأرض التي تحكمها، ومن السكان القاطنين فيها.

وأما أن الدولة الزنكية كانت تركمانية، لكن بقدرات حربية تركمانية وكردية، فهذه حقيقة يعرفها كل من يتتبّع تفاصيل المعارك التي كان الزنكيون يخوضونها، فبعد أن سيطر زنكي على الأرض الكردية كان من الطبيعي أن يوظف قدرات القبائل الكردية في مشروعه التوسعي، وفي حروبه ضد الفرنج وغيرهم.

وبانضمام الأسرة الأيوبية إلى زنكي كسب الزنكيون قدرات قتالية كردية فعّالة جداً، فالأخوان نجم الدين أيوب وأسد الدين شيرگوه لم يكونا شخصين عاديين، وإنما كانا ينتميان إلى أسرة عريقة في الميادين الإدارية، وتمتاز بقدرات وخبرات حربية متقدمة وفق معايير ذلك العصر، وكانا يمتازان بالبراعة في إدارة المعارك، وبالبسالة في ميادين القتال، هذا عدا أنهما لم يكونا شخصين اثنين، وإنما كانا قادرين على حشد المقاتلين المتمرسين من أبناء قبيلتهم الرَّوادية الكبيرة والواسعة الانتشار، إضافة إلى قدرتهم على تجنيد المقاتلين من القبائل الكردية الأخرى.

في هذه الأجواء الإقليمية ولد العادل.

وكان العنصر الفاعل فيها، بل صار من يرسم سياساتها.

فماذا عن نشأته؟

نشأة العادل

أما اسمه فهو محمد بن أيوب بن شاذي (شادي) بن مروان.

وأما كنيته فهي أبو بكر.

وأما لقبه الأشهر فهو العادل سيف الدين.

وهو أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي.

وثمة اختلاف في الأخبار الدائرة حول تاريخ ولادته ومكان الولادة، فذكر ابن خلّكان (وفيات الأعيان، 5/78) أنه ولد في دمشق سنة (540 هـ) خمسمئة وأربعين هجرية، أو في سنة (538 هـ) خمسمئة وثمان وثلاثين هجرية، في حين ذكر ابن تَغْري بَرْدي (النجوم الزاهرة، 6/161) أنه ولد في بعلبك سنة (534 هـ) خمسمئة وأربع وثلاثين هجرية، وأنه أصغر من صلاح الدين بسنتين، وأورد ابن تغري بردي أيضاً التاريخين اللذين ذكرهما ابن خلّكان، أقصد سنة (538 هـ)، وسنة (540 هـ)، وذكر أن العادل عاش (76 ) سنة، وقد اعتمد خير الدين الزِّركلي في (الأعلام، 6/47) تاريخ (540 هـ)، وهذا ما اعتمدناه أيضاً؛ إذ يبدو أنه الأرجح.

وأمضى محمد طفولته وصباه في وقت كانت فيه الدولة الزنكية تصبح أشد قوة، وأكثر اتساعاً؛ إذ هيمنت على سوريا من الشمال بالسيطرة على حلب، وامتدت إلى الجنوب بالسيطرة على دمشق، وانتقلت القيادة الزنكية إلى دمشق في عهد نور الدين زنكي، لتتاخم المواقع الفرنجية على امتداد الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، من أنطاكيا شمالاً إلى العريش جنوباً، إضافة إلى المناطق السورية المتاخمة لمنطقة حمص من الغرب، وإضافة إلى لبنان وفلسطين والأردنّ، وهذا يعني أن الدولة الزنكية أصبحت، على الصعيد الجيوسياسي، مرشحة، إلى جانب الدولة الفاطمية في مصر، لمواجهة القوات الفرنجية، ومن ورائها أهم دول أوربا.

 وأمضى محمد شبابه في وقت كان فيه شأن أسرته الأيوبية يرتفع شيئاً فشيئاً، فقد أفلح الأخوان أيوب وشيرگوه في ضم دمشق وجنوبي سوريا إلى الدولة الزنكية، وكان ذلك العمل كسباً إستراتيجياًً في الغاية من الأهمية بالنسبة إلى نور الدين زنكي، حتى إنه نقل مركز قيادته من حلب إلى دمشق، واتخذها قاعدة لمواجهة الفرنج ومقارعتهم، ونتيجة لذلك الإنجاز منح نور الدين كلاً من الأخوين إقطاعات واسعة، وصلاحيات قيادية متميّزة، قال أبو شامة في (عيون الروضتين، 1/264):

" وصارا عنده في أعلى المنازل، لاسيما نجم الدين، فإنّ جميع الأمراء كانوا لا يقعدون عند نور الدين إلا أن يأمرهم، أو أحدهم بذلك، إلا نجم الدين، فإنه كان إذا دخل قعد من غير أن يؤمر بذلك ".

ولا ريب في أن الفتى محمداً تلقّى، بصحبة أخيه صلاح الدين، وبرعاية والده أيوب وعمه شيرگوه، دروس القتال، وتعلّم مهارات الفروسية، ولا ريب في أنه تلقى أيضاً قسطاً وافياً من العلم، كما كان شأن معظم أبناء الفئات القيادية حينذاك، إذ تفصح سيرته عن أنه كان رجلاً مثقّفاً، يميل إلى مجالسة العلماء كما سنرى.

الرجل الثاني

كان نجم الدين أيوب إدارياً قديراً، كما كان عسكرياً متمرساً، ولا أحسب أن أباً مثله يترك أبناءه للهو والدعة، ولا سيما في عصر كانت المغالبة فيه هي التي تصنع مستقبل الأفراد والجماعات، والأرجح أن الوالد كان يصطحب ولده سيف الدين محمد معه للمشاركة في الحروب، وما كان أكثرها بين نور الدين زنكي والفرنج! والأرجح أن سيف الدين كان يرافق أخاه صلاح الدين في مثل هذه الأحوال، لكنه كان في مقتبل العمر، ولم يكن حينذاك من القادة البارزين، مثل والده، ومثل عمه شيرگوه.

أقول هذا لأن أول ظهور لسيف لدين محمد، حسبما ذكر ابن خلّكان، كان في حملة شيرگوه على مصر، ويبدو أنها كانت الحملة الثالثة سنة (564 هـ/1168 م)، وكان عمره على الأرجح حوالي الرابعة والعشرين، ففي تلك السنة وصل الفتى سيف الدين محمد إلى مصر بصحبة أخيه صلاح الدين وعمه أسد الدين شيرگوه، وبطبيعة الحال لم يذهب إلى مصر للتنزه على شاطئ النيل، أو لرؤية الأهرامات، وإنما ذهب للمشاركة في مقارعة الفرنج، وحماية مصر من التهديد بالاحتلال.

ومرة أخرى لا نرى للفتى محمد ذكراً في مصر كذكر أخيه صلاح الدين، لكن لا ريب في أنه كان مشاركاً في الحروب التي خاضها شيرگوه هناك ضد الفرنج، وليس من المستبعد أن يكون شأنه قد ارتفع بعد أن أصبح عمه شيرگوه وزيراً للدولة الفاطمية في مصر، وأيضاً بعد أن حلّ صلاح الدين في منصب الوزارة بعد وفاة شيرگوه، ثم قيام صلاح الدين بإلغاء الخلافة الفاطمية، بطلب من الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، وبأمر من نور الدين زنكي، وضم مصر إلى الدولة الزنكية.

أما علوّ شأن الفتى سيف الدين محمد في عهد أخيه السلطان صلاح الدين فذلك أمر أكّده كل من تناول سيرته، وتفيد الأخبار الواردة حول إنجازات صلاح الدين أن العادل كان الرجل الثاني في الدولة، وإليكم بعض الشواهد.

وجملة القول أن صلاح الدين كان كثير الاعتماد على أخيه العادل، ولا سيما في المواقف الصعبة، وقال ابن تغري بردي (النجوم الزاهرة، 6/162) في ذلك: " وكان صلاح الدين يعوّل عليه كثيراً، واستنابه بمصر مدة ". وصحيح أن جملة (استنابه بمصر مدة) هي كلمات ثلاث، لكنها تعني الكثير؛ إذ المعروف أن صلاح الدين ظل يحارب الفرنج على الجبهة الشمالية (بلاد الشام)، وهناك كانت أشد حروبه ضراوة، لكن مصر كانت الاحتياطي الإستراتيجي له، أو ما يسمّى في عصرنا بمصطلح (الدعم اللوجستي)، فالحروب بحاجة إلى الأسلحة والعتاد والأموال، وكانت مصر هي التي ترفد جيش صلاح الدين بهذه الحاجات المهمة، وقيام صلاح الدين بتعيين أخيه العادل نائباً عنه في مصر دليل على ثقته المطلقة به.

وقد ولّى صلاح الدين أخاه العادل على مواقع أخرى مهمة على الصعيد الإستراتيجي حينذاك، منها مدينة حلب، وقلعة الكَرَك في الأردن، وقبيل وفاة صلاح الدين كان العادل والياً على الجزيرة، والرُّها، وسُمَيْساط، والرقّة، وقلعة جَعْبَر، وديار بكر، ومَيّافارقين، وكان له في بلاد الشام الكَرَك والشُّوبَك. انظر (ابن خلكان: وفيات الأعيان، 5/75)، و(ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 6/121).

وكان العادل على الدوام مخلصاً لأخيه صلاح الدين، يقف إلى جانبه بعقله الراجح، وبسيفه وحنكته الحربية، ويقول ابن تغري بردي (النجوم الزاهرة، 6/167) في ذلك: " وكان العادل يواظب على خدمة أخيه صلاح الدين، يكون أول داخل وآخر خارج، وبهذا جلبه، وكان يشاوره في أمور الدولة لِما جرّب من نفوذ رأيه ".

ألقاب.. وتساؤلات !

ولئلا تختلط علينا الأمور دعونا نقف عند بعض الألقاب القديمة.

فلقب (الخليفة) معروف، وكان خاصاً بالعرب من قريش، ومنهم كان الخلفاء الراشدون الأربعة، والخلفاء الأمويون في دمشق والأندلس، والخليفة عبد الله بن الزبير، ولا أدري لماذا لا يذكره المؤرخون في عصرنا ضمن عهود الخلفاء؟! علماً بأن خلافته دامت سبع سنين على أقل تقدير، وشملت شبه الجزيرة العربية، والعراق، وبلاد فارس، ومن قريش أيضاً كان خلفاء بني العباس، والخلفاء الفاطميون.

أما لقب (ملك) فقد استُحدِث في العهد البُوَيهي، وهم أول من حمل هذا اللقب، ومنهم الملك معزّ الدولة والملك عَضُد الدولة، ومع سيطرة السلاجقة على بغداد منحهم خلفاء بني العباس لقب (سلطان)، وهو فوق لقب (ملك)، ودون لقب (خليفة)، أما لقب (أمير) فكان يُطلق على القادة والضباط الكبار، وبناء على هذه التراتبية اللقبية كان صلاح الدين يحمل لقب (سلطان) في حين كان أولاده وإخوته يحملون لقب (ملك).

ومعروف أن دولة صلاح الدين كانت واسعة الأرجاء، وكان نفوذها يشمل معظم مناطق كردستان جنوباً وشمالاً وغرباً، إضافة إلى بلاد الشام (سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين) ومصر وما يتاخمها من السودان جنوباً، ومن ليبيا غرباً، كما كان نفوذها يشمل الحجاز (مكة والمدينة) واليمن.

وكان صلاح الدين قد ولّى أولاده الكبار، وبعض إخوته وأبناء إخوته، على أرجاء الدولة، فكان ولده الملك الأفضل علي، وهو أكبر أبنائه، والياً على دمشق وما يتبعها من جنوبي بلاد الشام، وكان ولده الملك العزيز عثمان والياً على مصر وما يجاورها من السودان وليبيا، وكان ولده الملك الظاهر غازي والياً على حلب وشمالي سوريا عامة، وكان أخوه الملك العادل والياً على الجزيرة وكردستان كما مر، وكان أخوه الملك ظهير الدين طُغْتِكين والياً على اليمن، إضافة إلى أنه كان قد ولّى عدداً من أبناء إخوته وأبناء عمه شيرگوه على المدن والقلاع الهامة في بلاد الشام، مثل حمص وحماه وبعلبك.

ويلاحظ أن صلاح الدين كان قد أوكل أمر أهم أقسام دولته (مصر والشام) إلى أولاده، وعندما مرض ودنت وفاته كان في دمشق، وكان ولده الملك الأفضل هو الموجود إلى جانبه، لكن صلاح الدين لم يقم بتعيين وليّ عهده، ولم يعيّن ولده الأفضل- مثلاً- سلطاناً بعده باعتباره أكبر أولاده.

ترى لماذا فعل صلاح الدين ذلك؟!

أما كان جديراً به أن يعيّن وليّ عهده، ويضمن استقرار دولته؟

أما كان جديراً به أن يلزم سائر أفراد الأسرة الحاكمة بطاعة ولي العهد بعده؟

أما كان عليه أن يأخذ عليهم العهود والمواثيق، لئلا تتفرق الكلمة؟

ترى هل حملته تقواه على أن يترك الأمر شورى بين ورثته على الأقل، فيحسمونه، ولا يتحمّل المسؤولية عن أعمالهم وهو في العالم الآخر؟

أم أن صلاح الدين كان يحسن الظن بأولاده، ويثق بالقاعدة الاجتماعية الكردية والشرق متوسطية عامة؛ أقصد حلول الابن الأكبر محل الوالد في حال غيابه أو في حال وفاته، وكان لا يشك في أن أبناءه سيأخذون بتلك القاعدة، وسينضوون جميعاً تحت لواء أخيهم الكبير الملك الأفضل؟ ولا سيما أن الفرنج كانوا يستجمعون قواهم في فلسطين ثانية، وكانوا قد استردّوا عكّا، وكانوا يستعدون بقوة لاسترداد القدس وسواها من البلاد التي حررها صلاح الدين.

أم أن صلاح الدين هو نفسه من تربّوا على ثقافة (المغالبة)، وكان قد تخرّج في عصر كان يعدّ مدرسة نموذجية للتدرّب على فن (المغالبة)، فترك الأمر مباحاً بين ورثته، يقيناً منه بأن الأصلح (الأقوى) هو الذي سيكون جديراً بالسلطنة، وهو الذي سيفرض نفسه على الآخرين أقارب كانوا أم أباعد؟!

إننا لا نملك إجابات شافية عن هذه التساؤلات.

ولم نجد عند المهتمين بسيرة صلاح الدين اهتماماً بهذا الأمر.

على أننا نميل إلى الأخذ بأن صلاح الدين كان قد وضع ثقته بفعّالية القاعدة الاجتماعية الشرق متوسطية؛ أقصد حلول الابن الأكبر محل الأب في زعامة الأسرة وقيادتها، ولا سيما أن هذه القاعدة كانت وما زالت راسخة في المجتمع الكردي الريفي والقبلي، وهي قاعدة صارمة عند كل من يحتفظ بأصالة القيم الكردية، وعند كل من تشرّب الثقافة الشعبية الكردية، ولا يخرج عليها إلا كل من خسر تلك الأصالة، ووقع في أسر الثقافات الغريبة عن المجتمع الكردي.

صراعات خطيرة!

والمهم أن صلاح الدين غادر الحياة الدنيا بهدوء، لكنه أورث أبناءه كثيراً من المنافسات والمشكلات، وكانت تلك المنافسات والمشكلات تتحوّل إلى خصومات وصراعات، وكانت بطانة كل ولد من أولاده تصب الزيت على النار، كما يقول المثل، وتعمل جاهدة لإلحاق الهزيمة ببطانة الابن الآخر، والفوز من ثم بالمناصب والسلطة والثروات.

بلى، توفي صلاح الدين سنة (589 هـ) خمسمئة وتسع وثمانين هجرية، وكان له من الأبناء سبعة عشر ذكراً، وابنة واحدة صغيرة، وكانت دولته الواسعة الأرجاء مقسّمة ضمناً إلى شبه فديراليات، لكل حاكم أن يتخذ من القرارات والإجراءات الداخلية وفق ما يتناسب مع منطقة نفوذه، لكن الجميع ينضوون تحت لواء (الدولة الأيوبية)، ومع ذلك فقد عدّ الملك الأفضل نفسه السلطان بعد أبيه، باعتباره الأكبر بين إخوته، وباعتباره أيضاً حاكم دمشق، قلعة المواجهة مع الجبهة الفرنجية الحامية، وربما باعتباره أيضاً كان الأكثر قرباً من أبيه خلال الحروب ضد الفرنج، وكان الأكثر مشاركة في إدارة تلك الحروب.

وأقرّ معظم أبناء صلاح الدين ضمناً بسلطة الملك الأفضل، وحاول الأفضل الحصول على موافقة الخليفة العباسي الناصر لدين الله في بغداد كما كانت العادة حينذاك، فأرسل إلى دار الخلافة وفداً برئاسة القاضي ضياء الدين القاسم بن يحيى الشهرزوري، " ومعه عُدد والده وملابسه وخيله، وهدية نفيسة "؛ حسبما ذكر المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 142)، وكأنما كان الأفضل يقول للخليفة ضمناً: لقد ائتمنني والدي على ما هو خاص به، فأنا الأجدر بأن أرث السلطنة أيضاً.

إلا أن الأمور لم تسر كما أرادها الملك الأفضل، فقد نافسه أخوه الملك العزيز في مصر، قال المقريزي (السلوك، ج1، ق1، ص 142):

" ومات أبوه بدمشق وهو على سلطنة ديار مصر، مقيم بالقاهرة، وعنده جلّ العساكر والأمراء من الأسدية والصلاحية والأكراد، فلما بلغه موت أبيه جلس للعزاء، وأخذ بالحزم، وقرر أمور دولته، وخلع على الأمراء وأرباب الدولة بعد انقضاء العزاء ".

إن هذه التدابير توحي بأن الملك العزيز عدّ نفسه سلطاناً في مصر، ولم يقرّ للأفضل بالتبعية، بل للباحث المتأمل - وهو يقارن بين شخصية كل من الأفضل والعزيز- أن يخرج بالنتيجة الآتية:

 كان الملك العزيز متصفاً بالحزم والعزم، متفوقاً على الأفضل في مباشرة الأمور ، وحسن التدبير، وفي كيفية التعامل مع الرعية من الخاصة والعامة، وكان أكثر فطنة من الأفضل في استقطاب مراكز القوى من كبار الأمراء والضباط، وعلى الجملة كان يحظى بخصال قيادية لم تكن متوافرة في الأفضل، ثم لا ننس أنه كان الحاكم في المقر الأساسي للدولة الأيوبية؛ أقصد مصر بمواردها وكثافة سكانها، وبموقعها الإستراتيجي.

وها هنا لا بد من وقفة أخرى عند مسألة ولاية العهد.

فصلاح الدين لم يكن بالسلطان الذي يرضى بترك الأمور بعده فوضى، كيف وهو الحاكم الذكي، والقائد الخبير بقراءة الآخرين، واكتشاف معادن الرجال؟! ولا ريب في أنه كان خبيراً بشخصية كل من ولديه الأفضل والعزيز، ولعل ثقته بمزايا العزيز القيادية هي التي جعلته يعهد إليه بحكم مصر؛ الجناح الأكثر أهمية في دولته، وكان يوكل تلك المهمة، قبل أن يكبر أولاده، إلى أخيه الملك العادل.

ويتراءى لي أن صلاح الدين لم يحسم مسألة تعيين ولي العهد قبيل وفاته، ليس غفلة ولا إهمالاً، وإنما لأنه كان حائراً بين معيارين من معايير تعيين ولي العهد:

-  الأول هو المعيار الخاص بالثقافة الشرق متوسطية، وقيم المجتمع الكردي، أقصد حلول الابن الأكبر، بشكل عفوي، محل الوالد في حال الغياب أو الوفاة، وبناء على هذا المعيار يكون الأفضل هو الجدير بالحكم بعده.

-  والثاني هو معيار الواقعية السياسية، فصحيح أن الأفضل هو الأكبر سناً، لكن العزيز يتفوق عليه في القدرات القيادية، وهو الأقدر على إدارة شؤون تلك الدولة الشاسعة، والممتدة ضمن قارتين (آسيا وإفريقيا)، والتي تضم شعوباً من قوميات وأديان ومذاهب شتى، إضافة إلى أنها تواجه في الغرب أعداء شرسين وأقوياء هم الفرنج، وتواجه في الشمال والشرق منافسين خطرين؛ هم سلاجقة الروم، والأراتقة، وبقايا الزنكيين، ولو أخذ صلاح الدين بالواقعية السياسية، والحرص على مستقبل الدولة الأيوبية، لقرر أن يكون ابنه الملك العزيز هو السلطان بعده.

 وأحسب أن هذه المعضلة أرّقت صلاح الدين طويلاً.

وأحسب أيضاً أنه فارق الحياة دون أن يجد لها حلاً يطمئن إليه قلبه.

فلسفة المغالبة

وقد توجّس الملك الأفضل خيفة من التدابير التي اتخذها أخوه الملك العزيز في مصر، فحشد من حوله دعم ملوك بني أيوب له، ومن بينهم عمه العادل، وأراد في الوقت نفسه أن يقطع الطريق على العزيز، من خلال الفوز باعتراف الخليفة العباسي، ولم نجد ذكراً لنتيجة مساعي الوفد الذاهب إلى بغداد، والأرجح أن الأفضل لم يفز باعتراف صريح، وكان الخليفة الناصر- وهو من دهاة خلفاء بني العباس- أذكى من أن يمنح الاعتراف الصريح للأفضل؛ وهو يعرف أن العزيز ينافسه على السلطنة.

على أن سياسات الأفضل جرّت عليه المصائب، فقد اتخذ الأديب الناقد ضياء الدين ابن الأثير، صاحب كتاب (المثل السائر)، وزيراً له، " وفوّض إليه أموره كلها، فحسّن له إبعاد أمراء أبيه، وأكابر أصحابه، وأن يستجدّ أمراء غيرهم "، ففارقه كبار الأمراء، " وكانوا عظماء الدولة، فصاروا إلى الملك العزيز بالقاهرة، فأكرمهم "، وتبعهم القاضي الفاضل، المهندس الإداري الأول في عهد صلاح الدين، " ولحق بالقاهرة، فخرج العزيز إلى لقائه، وأجلّ قدومه، وأكرمه ". انظر (المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 143).

وكان الملك العادل يصلح بين الأخوين العزيز والأفضل، ويحاول لمّ شمل الأسرة الأيوبية، وحينما توجّه الملك العزيز إلى بلاد الشام، لإزاحة أخيه الأفضل، هبّ معظم أمراء بني أيوب لمساعدة الأفضل، واستعان الأفضل بالعادل، فنصح العادل الملك العزيز بالعودة قائلاً له: " لا تخرب البيت، وتدخل عليها الآفة، والعدو وراءنا من كل جانب ". فرجع العزيز إلى مصر. انظر (ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 6/121 - 122).

وقرر الملك الأفضل أكثر من مرة أن يتنازل عن السلطنة لأخيه الملك العزيز، لكن وزيره ابن الأثير كان يشير عليه بغير ذلك، ويدفعه إلى المواجهة والمخاصمة، وظلت أزمة الانفراد بالسلطنة قائمة بين الأخوين، وفي البداية حاول العادل إزالة أسباب الخلاف، لكن يبدو أن نزعة (المغالبة) غلبته، ورأى أنه الأجدر بأن يكون السلطان، فهو الذي شارك أخاه صلاح الدين في تأسيس هذه الدولة، وفي تحقيق الانتصارات المدوية، وهو صاحب باع طويل في الإدارة والقيادة، فلماذا يدع الأمر بين أيدي أولاد إخوته المتخاصمين؟

وبعد مناورات عديدة، والوقوف تارة إلى جانب الأفضل، وأخرى إلى جانب العزيز، أصبح الملك العادل هو السلطان غير المتوّج، إليه يحتكم الإخوة المتخاصمون، وبه يلوذ من يصبح في الموقف الأضعف.

وفي سنة (592 هـ) خمسمئة واثنتين وتسعين هجرية كان العادل قد عقد سراً صفقة سياسية مع الملك العزيز، مفادها أن يساعد العزيز على إزاحة الأفضل، والسيطرة على دمشق، ويكون الثمن تعيينه نائباً للعزيز في مصر، وكان العادل أكثر الناس معرفة بأهمية مصر على الصعيد الإقليمي، فمن يسيطر عليها هو المنتصر في لعبة (المغالبة)، لكن " لما ملك العزيز دمشق، وأخرج أخاه الأفضل منها، انكشفت له مستورات مكائد عمه، فندم على ما قرّره معه، وبعث إلى أخيه الأفضل سراً يعتذر إليه " (المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 164 – 165)، إلا أن الأفضل كان قد فقد الثقة بأخيه العزيز، وذهبت محاولات العزيز أدراج الرياح، فعاد إلى مصر، وأصبحت دمشق تابعة له اسماً، لكنها كانت تحت سلطة العادل في الحقيقة.

جيوبوليتيك

ومعروف أن الموقع الجيوبوليتيكي لمنطقة ما يفرض على الحاكم، في أحيان كثيرة، القيام بمهامّ وأدوار معيّنة، وباجتماع الجيوبوليتيك مع تطلعات قائد طموح تصبح المهمات أكثر إلحاحاً وحدّة،  وهذا الذي حدث للعادل، فبعد أن صار سيّد جنوبي سوريا، بات لزاماً عليه أن يدخل في مواجهات مع الفرنجة المتاخمين لبلاده غرباً في لبنان، وجنوباً في فلسطين.

وقام العادل في سنة (593 هـ) خمسمئة وثلاث وتسعين هجرية بمهاجمة يافا، وفتحها عَنوة، ثم توجّه إلى صيدا وبيروت فأخربهما، لكن الفرنج استجمعوا قواهم، وجاءهم المدد من أوربا، فهاجموا قلعة بيروت سنة (594 هـ) خمسمئة وأربع وتسعين هجرية، وسيطروا عليها، وهاجموا أطراف القدس، وأسروا وغنموا كثيراً، فاستنجد العادل بالعزيز في مصر، فأنجده العزيز بجيش، ثم سار إليه بنفسه ومعه العساكر لقتال الفرنج، ودارت معارك حامية بين الجانبين الأيوبي والفرنجي، كان النصر فيها للجانب الأيوبي، مما اضطر الفرنج إلى عقد هدنة مدتها ثلاث سنوات، وعاد العزيز إلى مصر، والعادل إلى دمشق. انظر (المقريزي: السلوك، ج1، ق1،171 ص- 172).

ومر أن العادل كان الحاكم في الجزيرة وكردستان، وبعد تحقيق الانتصارات على الفرنج، وتعزيز موقفه جنوباً، التفت إلى منطقة نفوذه شرقاً، فحاصر ماردين، وسيطر على أطرافها، وكانت في أيدي الأسرة الأُرتقية التركمانية، كما أنه قاتل جند المواصلة، والأرجح أنهم كانوا بقيادة بقايا الزنكيين.

السلطان!

وفي سنة (595 هـ) خمسمئة وخمس وتسعين هجرية توفي السلطان العزيز في مصر، وكان عمره سبعاً وعشرين سنة، وحلّ محلّه في السلطنة ابنه محمد، ولقبه المنصور، وهو صبي عمره تسع سنوات، واتفق كبار القادة على أن يكون عمه الملك الأفضل وصياً عليه، وسيطر الأفضل على مقاليد الأمور في مصر، واتفق مع أخيه الملك الظاهر صاحب حلب على انتزاع دمشق وجنوبي سوريا من يدي عمهما العادل، وحاصرا دمشق.

لكن العادل، وهو الرجل الخبير بإدارة المعارك، سياسية كانت أم حربية، أفلح في زرع الشقاق بين الأخوين، وعاد الأفضل إلى مصر، لكن العادل لحقه إلى هناك، واستمال إليه كبار القادة بالأموال، وكان سوء تدبير الأفضل خير معين للعادل في تحقيق النصر، ودخل العادل القاهرة سنة (596 هـ) خمسمئة وست وتسعين هجرية، ونصب نفسه وصياً على السلطان المنصور ابن العزيز.

وسرعان ما قام العادل بالانقلاب، إذ أحضر الأمراء وكبار القادة، وقال لهم:

" إنه قبيح بي أن أكون أتابك صبي، مع الشيخوخة والتقدم، والمُلك ليس بالإرث، إنما هو لمن غلب، وإنه كان يجب أن أكون بعد أخي الملك الناصر صلاح لدين، غير أني تركت ذلك إكراماً لأخي، ورعاية لحقه، فلما كان من الاختلاف ما قد علمتم، خفت أن يخرج المُلك عن يدي ويد أولاد أخي، فسستُ الأمر إلى آخره، فما رأيت الحال ينصلح إلا بقيامي فيه، ونهوضي بأعبائه، فلما ملكتُ هذه البلاد، وطّنت نفسي على أتابكية [وصاية] هذا الصبي، حتى يبلغ أشدّه، فرأيت العصبيات باقية، والفتن غير زائلة، فلم آمن أن يطرأ عليّ ما طرأ على الملك الفضل، ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبون إقامة إنسان آخر، وما يُعلم ما يكون عاقبة ذلك؛ والرأي أن يمضي هذا الصبي إلى الكّتّاب، وأقيم له من يؤدّبه ويعلّمه، فإذا تأهّل وبلغ أشده نظرت في أمره، وقمت مصالحه ".

ووقفت فرقة الأسدية (مماليك أسد الدين شيرگوه) إلى جانب العادل في انقلابه ذاك، ويبدو أنها كانت الأقوى والأكثر نفوذاً، فلم ير الآخرون بداً من موافقته، فحلفوا له، وخلعوا المنصور.

وهكذا انفرد العادل بالسلطنة في نهاية الأمر، وأقيمت الخطبة له في مصر والشام وحرّان والرُّها وميّافارقين، وضُربت السكّة (النقود) باسمه، وكان ذكر الاسم في الخطبة وفي السكة من علامات السلطة قديماً، واستدعى ابنه الملك الكامل من كردستان، ونصبه نائباً عنه في مصر، وجعله وليّ عهده، وحلف له الأمراء، ولا ريب في أن نزاعات أولاد صلاح الدين هي التي حملته على اتخاذ هذه الخطوة.

والسلطان العادل خرّيج ثقافة (المغالبة)، كما أنه رجل فن (المغالبة)، ويعلم أن ثمة من لم يقر له بالحاكمية إلا اضطراراً، وأن هؤلاء قد يكيدون له، ويشكّلون مركز خطر عليه، متذرّعين بحقوق المنصور في السلطنة، لذا لم يكتف بتنحية المنصور جانباً، وإنما أخرجه، ومعه والدته وإخوته، من مصر، ووجّههم بعيداً إلى الرُّها، وفرض عليهم الإقامة الجبرية هناك.

وحدة الكلمة

ونشبت النزاعات ثانية بين السلطان العادل من ناحية، والأخوين الملك الأفضل والملك الظاهر من ناحية أخر، وبعد مناوشات ومواجهات حامية داخل البيت الأيوبي، اصطلح الجميع، سنة (598 هـ) خمسمئة وثمان وتسعين هجرية، على أن يكون للعادل مصر ودمشق، والسواحل وبيت المقدس، وجميع ما كان تحت سلطته في الجزيرة وكردستان، وأن يكون للملك الظاهر حلب وما معها، وللملك الأفضل سُمَيْساط وتوابعها، وتكون كل من حماة وتوابعها، وحمص وتوابعها، وبعلبك وتوابعها، لملوك آخرين من الأسرة الأيوبية، على أن يكون الملك العادل سلطان البلاد جميعها، وأقسم الجميع على ذلك. انظر (المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 186- 191).

وفي السنة نفسها نصب العادل ابنه الملك الأشرف مظفّر الدين موسى على بلاد الجزيرة، فتسلّم حرّان والرُّها وما معهما، ونصب ابنه الملك الأوحد أيوب على ميّافارقين، ونصب ابنه الملك الحافظ نور الدين على قلعة جَعْبَر، ونصب ابنه الملك المعظّم عيسى على دمشق، ضامناً بذلك أن البلاد كلها تقع تحت سلطته المباشرة. انظر (المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 192).

ولم تقتصر سلطة العادل على هذه البلاد، وإنما استولى ولده الملك الأوحد أيوب، حاكم ميّافارقين، على خِلاط وبلاد أرمينية سنة ( 604 هـ) ستمئة وأربع هجرية، فاتّسعت مملكته، كما أنه بسط سلطته على اليمن في سنة (612 هـ) ستمئة واثنتي عشرة هجرية، وسيّر إليها حفيده الملك المسعود صلاح الدين أبا المظفّر يوسف، المعروف بأطسيس (أتْسِيز) ابن الملك الكامل. وهكذا امتدت الدولة الأيوبية في عهد العادل من بلاد الكرج (جورجيا) إلى هَمَذان في جنوبي كردستان، وضمت الجزيرة، والشام، ومصر، والحجاز، ومكة والمدينة، واليمن إلى حضرموت. انظر (وفيات الأعيان، 5/76 و(ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 6/169).

ولما ضم العادل إقليم أرمينيا إلى دولته أرسل وفداً إلى بغداد يطلب التقليد من الخليفة العباسي الناصر لدين الله، فسيّر إليه الخليفة الخُلعة وكانت مؤلفة من " جبّة سوداء بطراز ذهب، وعمامة سوداء بطراز ذهب، وطوق ذهب فيه جوهر، وقُلّد سيفاً محلّى جميع قِرابه بالذهب، وحصانٌ أشهب بمركب ذهب، وعلم أسود مكتوب فيه بالبياض ألقاب الناصر لدين الله ". وكان رسول الخليفة إلى العادل هو الشيخ شهاب الدين أبا حفص عمر بن محمد السّهْرَوَرْدي، ومُنح العادل لقب شاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين. انظر (ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 6/165 - 166).

مقارعة الفرنج

في ذلك الوقت ما كان الفرنج قد أخلدوا إلى الهدوء، وإنما كانوا يحاولون استعادة البلاد التي خسروها في حروبهم السابقة، وكان العادل يتصدّى لهم بالقوة العسكرية تارة، ويعمد إلى التفاوض معهم مرات أخرى، وكان أميل إلى حل الخلافات معهم بالطرق الدبلوماسية الهادئة، وعقد الهدنة تلو الهدنة معهم، على أنه اهتم في الوقت نفسه ببناء القلاع، وإقامة التحصينات الدفاعية.

وشهد شرقي المتوسط في عهد السلطان العادل أخطارا خارجية عديدة.

ففي سنة (605 هـ) ستمئة وخمس هجرية هاجم ملك الكُرْج (جورجيا) مدينة خِلاط، فنهبها وأسر كثيراً من أهلها، فتوجّه إليه السلطان العادل سنة (606 هـ) ستمئة وست هجرية، ومعه معظم ملوك بني أيوب بقواتهم، وأسر ملك الكرج، ففدى نفسه بمئة ألف دينار، وبخمسة آلاف أسير.

هذا في الشرق.

وفي الغرب كانت الجبهة حامية مع الفرنج.

فقد توفي صلاح الدين والهدنة قائمة بينه وبين الفرنج، وكانت مدتها تنتهي في سنة (592 هـ/1195 م)، وجدّد الملك العزيز ابن صلاح الدن تلك الهدنة سنة أخرى، لتنتهي سنة (593 هـ)، وكان البابا أنوسنت الثالث يدعو حينذاك إلى حملة صليبية جديدة، فلم يلبّ الدعوة سوى هنري السادس ملك ألمانيا، لأن إنكلترا وفرنسا كانتا منشغلتين بالحرب المندلعة بينهما، وانطلقت حملة هنري السادس من شواطئ إيطاليا، ووصلت إلى عكّا في أواخر سنة (594 هـ/1197 م)، لكن كان النزاع قد نشب بين الفرنج المستوطنين في الساحل السوري والفرنج القادمين، مما ساعد الأيوبيين على تحقيق الانتصار، ثم توفي الملك هنري السادس، وباءت الحملة بالفشل.

وشن الفرنج حملتين صليبيتين على الدولة الأيوبية في عهد السلطان العادل.

الأولى هي الحملة الصليبية الرابعة (598 – 601 هـ/ 1202 – 1204 م)، وشارك فيها عدد كبير من فرسان إنكلترا وفرنسا وألمانيا، واجتمعوا في جنوبي إيطاليا، على أن يساعدهم دوق البندقية (ڤينيسيا) على الإبحار إلى شرقي المتوسط، لكن العادل وظّف دبلوماسيته الحكيمة، فأرسل وفداً إلى كبار زعماء البندقية وتجارها، ومع الوفد هدايا ووعود بأن يكون لتجار البندقية امتيازات تجارية استثنائية في مدن الدولة الأيوبية الكبرى، على أن يستخدم دوق البندقية نفوذه لإبعاد الحملة عن مصر والشام، ونجحت خطة العادل، وعمل الدوق من وراء الستار إلى توجيه الفرنجة نحو القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية. انظر (سحر السيد سالم: دراسات في تاريخ مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، ص 158 – 160).

·  والثانية هي الحملة الصليبية الخامسة، وكان الفرنج قد غيّروا إستراتيجيتهم بشكل جذري، وبدل أن يشنّوا الحملات على بلاد الشام، بقصد استرداد القدس، قرروا الاستيلاء على مصر، لاعتقادهم بأنه ما دامت مصر منضوية تحت لواء الأيوبيين فلن يستطيعوا تحقيق هدفهم الأول والأعظم (استرداد القدس)، وأن القيادة الأيوبية في مصر يمكن أن تلحق الفشل بكل انتصار يحققونه.

ووضع الفرنج خطتهم الجديدة هذه موضع التنفيذ سنة (615 هـ/1218 م)، وحينذاك كان السلطان العادل قد أناب عنه في مصر ولده الملك الكامل، وتوجّه إلى بلاد الشام لمحاربة الفرنجة، وكان هؤلاء قد نقضوا الصلح الذي كان قد تجدد سنة (610 هـ/1212 م)، وكانوا يعملون لاسترداد بيت المقدس وسائر مدن الساحل السوري التي خسروها سابقاً، وكانوا يزدادون قوة، وكانت أوربا تزوّدهم بالإمدادات الوفيرة في الرجال والعتاد والأموال، في حين كانت الدولة الأيوبية لا تزال تعاني من آثار الصراعات الداخلية، ومن نتائج تعدّد مراكز القوى.

وكان السلطان العادل قد خرج سنة (614 هـ) ستمئة وأربع عشرة هجرية من مصر، متوجهاً إلى اللدّ في فلسطين، لكنه عجز عن مواجهة الفرنج، لقلة من كان معه من الجند، فعاث الفرنج فساداً في المناطق التابعة للأيوبيين من فلسطين، وهاجموا بيسان، وأعملوا السيف في أهلها، وحاصروا بانياس أياماً.

وخلال ذلك كان الفرنج يستكملون العدد والعدّة للبدء بالحملة الصليبية الخامسة، وكانت القيادة الفرنجية متمركزة في عكا، وكان القائد العام للحملة هو جان دى بريين، ملك مملكة المقدس، وانطلقت الحملة في أسطول ضخم، يحمل عشرة آلاف فارس، ومئتي ألف راجل، وكانت الوجهة مدينة دمياط، على الساحل المصري.

وكانت دمياط مدينة حصينة للغاية، تدور بها الأسوار، وتدعمها القلاع والأبراج الضخمة، ويدور بسورها خندق حُفر في أواخر عهد صلاح الدين، ونزل الفرنج بالقرب من دمياط، واستماتوا في سبيل احتلالها، كما استبسل الجيش الأيوبي، بقيادة الملك الكامل، في الدفاع عنها، وكان السلطان العادل يرسل الإمدادات تباعاً من بلاد الشام، لتعزيز موقف الجيش الأيوبي في دمياط، وبعد معارك عنيفة بين الجانبين الأيوبي والفرنجي، ورغم لجوء الكامل إلى خطط حربية بارعة، أفلح الفرنج في الاستيلاء على برج ضخم في مدخل دمياط يُعرف باسم (برج السلسلة)، مما جعلهم قاب قوسين أو أدنى من احتلال دمياط.

وكان السلطان العادل حينذاك في مرج الصُّفَّر ببلاد الشام، ولما وصله خبر سيطرة الفرنج على برج السلسلة تأثّر، وتأوّه تأوّهاً شديداً، ودقّ بيده على صدره أسفاً وحزناً، ومرض من ساعته، ورحل من مرج الصّفّر إلى قرية عالِقين قرب دمشق، واشتد به المرض، وتوفّي هناك، وكتم أصحابه الخبر، وحُمل في محفّة لإيهام الناس بأنه ما زال حياً، إلى أن أدخل إلى قلعة دمشق، ودفنه ولده الملك المعظم في القلعة وكان ذلك سنة (615 هـ) ستمئة وخمس عشرة هجرية، وكانت السنة التاسعة عشرة من حكم العادل، ثم نقل إلى مدرسته المعروفة باسمه، ودفن في التربة التي بها.  انظر (وفيات الأعيان، 5/74 – 78)، و (ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 6/222).

وقام ابنه الملك المعظّم مقامه في مقابلة الفرنج، ليشغلهم عن دمياط.  

واستكمل ولده الملك الكامل أمر مقارعة الفرنج في دمياط,

وسنستكمل الحديث عن ذلك في حلقة قادمة.

شخصية متميّزة

يخرج المرء من تتبع سيرة السلطان العادل بأنه كان ابن عصر المغالبة، وممثّل ثقافتها، وأنه كان يجمع في شخصه صفات قيادية رائدة، وحسبه أنه الرجل الذي أنقذ الدولة الأيوبية من التفكك والتشرذم، ولمّ شتاتها، ووحّد كلمتها بعد طول تنافس وخصام، وأنقذ بذلك بلاد الشام ومصر، ومن ورائهما الشرق الإسلامي، من الوقوع في قبضة الاحتلال الفرنجي.

وإليكم بعض ما قاله المؤرخون في هذا الرجل.

قال ابن خلّكان (وفيات الأعيان، 5/76):

" وكان ملكاً ذا رأي ومعرفة تامة، قد حنّكته التجارب، حسن السيرة، جميل الطوية، حازماً في الأمور، صالحاً، محافظاً على الصلوات في أوقاتها، متّبعاً لأرباب السنّة، مائلاً إلى العلماء، حتى صنّف له فخر الدين الرازي كتاب (تأسيس التقديس)، وذكر اسمه في خطبته، وسيّره إليه من بلاد خراسان، وبالجملة فإنه كان رجلاً مسعوداً، ومن سعادته أنه خلّف أولاداً لم يخلّف أحد من الملوك أمثالهم في نجابتهم وبسالتهم ومعرفتهم وعلوّ همّتهم، ودانت له العباد، وملكوا خيار البلاد ".

وأورد ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة، 6/166 - 167) ما يلي:

" كان أصغر الإخـوة وأطولهم عمراً، وأعمقهم فكراً، وأبصرهم في العواقب، وأشدّهم إمساكاً، وأحبّهم للدرهم، وكان فيه حِلم وأناة وصبر على الشدائد، وكان سعيد الجَدّ [الحظ]، عالي الكَعْب، مظفَّراً بالأعداء من قبل السماء، وكان نَهِماً أكولا، يحب الطعـام واختـلاف ألوانه، وكان أكثر أكله بالليل كالخيـل، ... وكان كثير الصلاة، ويصوم الخميس، وله صدقات في كثير من الأوقات، وخاصة عندما تنزل به الآفات، وكان كريماً على الطعام يحب من يؤاكله، وكان قليل الأمراض، قـال لي طبيبه بمصر: إني آكل خير هذا السلطان سنين كثيرة، ولم يحتج إليّ سوى يوم واحد، ... وكان نكّاحاً يُكثر من اقتناء السَّراري [الجواري]، وكان غيوراً، لا يدخل في داره خَصِيّ إلا دون البلوغ، وكان يحب أن يطبخ لنفسه؛ مـع أن في كل دار من دور حظاياه مطبخاً دائراً، وكان عفيف الفرج، لا يُعرف له نظر إلى غير حلائله ".

وقال ابن خلّكان (وفيات الأعيان، 5/77- 78):

" ولمّا قسم البلاد بين أولاده كان يتردّد بينهم، وينتقل إليهم من مملكة إلى  أخرى، وكان في الغالب يصيف بالشام لأجل الفواكه والثلج والمياه الباردة، ويشتي في الديار المصرية، لاعتدال الوقت فيها وقلة البرد، وعاش في أرغد عيش، وكان يأكل كثيراً خارج المعتاد، حتى يقال: إنه يأكل خروفاً لطيفاً مشوياً، وكان له في النكاح نصيب وافر، وحاصل الأمر أنه كان ممتَّعاً في دنياه ".

وقال ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة، 6/168- 169):

 " وكان مع حرصه يُهين المال عند الشدائد غاية الإهانة ببذله... وكان ثَبَتاً خليقاً بالمُلك، حسن التدبير، حليماً صَفوحاً، مدبِّراً للمُلك على وجه الرضا، عادلاً، مجاهداً، ديّناً، عفيفاً، متصدّقاً، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، طهّر جميع ولاياته من الخمور والخواطئ والقمار والمُكوس والمظالم، وكان الحاصل من هذه الجهات بدمشق على الخصوص مائة ألف دينار، فأبطل الجميع لله تعالى ".

وكان السلطان العادل مهتماً بشؤون رعيته، قال ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة، 6/168- 170):" ولقد فعل العادل في غلاء مصر عَقيب موت العزيز ما لم يفعله غيره؛ كان يخرج في الليل بنفسه، ويفرّق الأموال في ذوي البيوتات والمساكين ".

ومع ذلك لم تكن الرعية تحب العادل كما كانت تحب أخاه صلاح الدين، وقد فسّر ابن تغري بردي موقف الرعية منه تفسيراً واقعياً ومنطقياً، وكان جنده غير مخلصين له، وحاولوا قتله بأصناف من الحيل مرات كثيرة، لكن مؤامراتهم كانت تنكشف وتبوء بالفشل، وهذا يعني أن العادل كان سلطاناً يقظاً، لا يقع في قبضة الغفلة، وكان يدرك أنه في عصر المغالبة، وينبغي أن يكون في مستوى العصر، قال ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة، 6/167):

" لولا أولاده يتولّون بلاده لما ثبت ملكه، بخلاف صلاح الدين، فإنما حفِظ ملكه بالمحبة له، وحسن الطاعة، ... ولم يكن – رحمه الله- بالمنزلة المكروهة، وإنما كان الناس قد ألِفوا دولة صلاح الدين وأولاده، فتغيّرت عليهم العادة دفعة واحدة، ثم إن وزيره ابن شُكْر بالغ في الظلم ".

وقد مدح عدد من الشعراء السلطان العادل بقصائد بليغة، نذكر منهم الشاعر ابن عنين، يمدحه في قصيدة له قائلاً (وفيات الأعيان، 5/76 - 77):

وله البنونَ بكل أرضٍ منهــمُ   

ملكٌ يقود إلى الأعـادي عسكرا

مِن كل وضّــاح الجبين تخاله    

بدراً، وإن شهد الوغى فغَضَنْفَرا

قومٌ زَكوا أصلاً، وطابوا مَحْتِـداً   

وتدفّقوا جـوداً، وراقوا مَنظرا

وقال ابن عنين يمدحه أيضاً (وفيات الأعيان، 5/76 - 77):

العـــــادلُ الملك الذي أسـماؤه   

في كل ناحيــــــة تشرّف مِنبرا

نسختْ خلائقُه الحمــــيدة ما أتى    

في الكتْب عن كسرى الملوك وقيصرا

ملكٌ إذا خفّت حُلــــومُ ذوي النُّهى   

في الرَّوْع زاد رصــــانةً وتوقّرا

ثَبْتُ الجَنــــان، تُراع من وثبـاته   

وثبــــاته يومَ الوغى أسدُ الشَّرى

يعفو عن الذنب العظــــيم تكرّماً    

ويصدّ عن قول الخَنــــا متكبّرا

ويقول محمد ماهر حمادة في كتابه (الوثائق السياسية والإدارية، ص 88):

" تطالعنا في الملك العادل شخصية قوية هي مزيج من القوة والدهاء، والواقعية والنظرة الرحيبة، فقد تعلم في مدرسة صلاح الدين، وكانت له  باع طولى [الصواب: وكان له باع طويل] في الأعمال التي أنجزها صلاح الدين، وهو نفسه كان طموحاً وتوّاقاً إلى مُلك، ولم يكن بإمكانه تحقيق ذلك ما دام أخوه حياً، فتعلّم لجم مطامعه، ولكنه بدأ في تحقيقها بعد وفاة أخيه، وقد استغل ضعف أولاد أخيه وتفرقهم، فزادهم بدهائه وحنكته ضعفاً وتفرقاً، حتى تمكّن أن يحقق مطامحه، وقد يبدو لنا ذلك عقوقاً من جانبه تجاه أخيه، ولكن السياسة تقضي بذلك، والوحدة خير من التمزق، ومصلحة العباد والبلاد مقدمة على مصلحة الأفراد، وقد دلّت الأحداث على أن الملك العادل كحاكم أفضل من أولاد صلاح الدين، ولا سيما أن البلاد الإسلامية كانت مقبلة في أواخر عهده وعهد ابنه الملك الكامل على تطورات رهيبة؛ كانت بحاجة إلى شخص من طراز خاص، حتى يستطيع التعامل معها ودفعها ".

في الميزان

بلى، لنضع شخصية العادل في الميزان.

لكن في أي ميزان؟!

في ميزان الزعامة والقيادة.

في ميزان السلاطين والملوك.

في ميزان السياسة والمغالبة والميكيافيلية.

في ميزان المبادئ العليا والقيم السامية.

فكيف نراها؟!

أما أنه تشرّب قيم الفروسية في كنف أسرته العريقة فذلك أمر لا ريب فيه.

وأما أنه القيادي القدير والإداري الخبير فذلك أيضاً أمر لا ريب فيه.

وأما أنه صاحب الخلق الرفيع فذلك أمر شهد له به القدماء والمحدثون.

وأما أنه صاحب الرؤية السياسية الرحيبة فتلك حقيقة تدل عليها مواقفه.

وأما أنه صاحب الفكر السياسي الثاقب فتلك أيضاً حقيقة تشهد بها قراراته.

وأما أنه ابن ثقافة المغالبة ورجل الدهاء فذانك أيضاً أمران لا ننفيهما عنه.

لكن أي دهاء؟! وأية مغالبة؟!

إنه دهاء الإداري الحذر، والسياسي اليقظ، والقائد الحازم، وليس دهاء الانتهازي الجبان الماكر، فبدهائه وحّد العادل الصفوف بعد أن كانت متفرّقة، وقطع دابر الخصومات بعد أن كانت مستشرية، وانتقل بمراكز القوى من حال التنافس إلى حال التكامل، وانتقل بالدولة الأيوبية، قائدة غربي آسيا حينذاك، من التفكك والضعف إلى التماسك والقوة، ولولا ذلك الدهاء ماذا كان سيحلّ بشرقي المتوسط، وبغربي آسيا عامة، في وقت كانت فيه قوة الفرنج تتنامى، وخططهم تتعدّد؟!

وإنها مغالبة السياسي العامل للبناء، وليست مغالبة المغامر العامل للنهب، ولا مغالبة الحاكم الذي يسفك الدماء، ويقيم المذابح لخصومه في كل مكان، أو ينصب لهم فخاخ الغدر، ويجعلهم وأولادهم وأموالهم غنيمة لأطماعه.

إن الخليفة الأموي الشهير عبد الملك بن مروان اتخذ المغالبة نهجاً، فدعا منافسه الأموي، واحد أبناء عمومته، عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بلقب (الأشدق)، إلى قصره، ثم جرّده من سيفه بلطف، وأمر بالفتك به، وهذا ما لم يفعله العادل مع أحد من خصومه الأيوبيين وغير الأيوبيين.

وإن الخليفة العباسي الشهير أبا جعفر المنصور اتخذ المغالبة نهجاً، فاستقدم القائد أبا مسلم الخراساني من خراسان، واستضافه في قصره، ثم جرّده من سيفه، ثم راح يشتمه قائلاً له: " يا ابن اللَّخْناء !"؛ أي (يا ابن العاهرة!)، ثم أمر بالفتك به، وهذا ما لم يفعله العادل بأحد من قوّاده وأمراء جيشه.

وإن الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد، صاحب مئة ركعة صلاة كل يوم، كان يمازح وزيره جعفر بن يحيى البرمكي في النهار، ويرسل له الهدايا، ويقدّم له الهبات، وفي الليل أصدر الأمر إلى مسرور السيّاف بقطع رأس جعفر، وإحضاره إليه، وما فعل العادل هذا بأحد من وزرائه.

وإن الملك البويهي عضد الدولة كان إذا جلس على سريره، أُحضرت الأسود والفيلة والنمور في السلاسل، وجُعلت في حواشي مجلسه، تهويلاً بذلك على الناس، وترويعاً لهم، وهذا ما لم يفعله العادل. انظر (ابن الطقطقا: الفخري، ص 24).

ودعونا ننتقل إلى العهد العثماني، عهد المغالبة الشرسة، ولنستشهد بما أورده الصدّيقي في كتابه (المِنح الربّانية في الدولة العثمانية، ص 72، 49، 106، 247، 248).

إن السلطان سليم الأول خلع والده بايزيد الثاني، وطارد أخويه أحمد وقُورقد وخنقهما، وإن ابنه السلطان سليمان المشهور بلقب (القانوني) توهّم خروج ابنه الأكبر مصطفى عليه، فاستدعاه من مكان ولايته، ولما حضر الابن ممتثلاً أمر والده، أمر الوالد طائفة من التركمان بخنقه، فخُنق بين يديه، ولم يكتف بذلك بل أمر بخنق حفيده مراد ابن ولده مصطفى، فخُنق الحفيد أيضاً.

وإن السلطان محمد الثالث أمر في يوم تولّيه عرش السلطنة بقتل جميع إخوته، وكانوا تسعة عشر ولداً ذكراً، أكبرهم عمره (24) أربع وعشرون سنة، وأصغرهم عمره دون خمس سنوات.

وكل هذا لم يفعله العادل.

إن أقسى ما فعله العادل أنه أمر بترحيل السلطان المنصور بن العزيز من مصر بعيداً إلى الرُّها، وأنه أمر بالقبض على اثنين من أبناء صلاح الدين، وهما الملك المؤيَّد، والملك المعزّ، وبسجنهما في دار بهاء الدين قراقوش في القاهرة. انظر (المقريزي: السلوك، ج1، ق1، ص 186).

فشتّان بين المغالبتين!

المغالبة الباطشة عند الآخرين، والمغالبة الحليمة عند العادل.

المراجع

1.    ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1963م.

2.    ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.

  1. خير الدين الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة التاسعة، 1990م.
  2. الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ مصر في العصرين الأيوبي والمملوكي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2006 م.
  3. أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق أحمد البيسومي، وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.
  4. الدكتور السيد عبد العزيز سالم، الدكتورة سحر السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ الأيوبيين والمماليك، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، 2003 م.
  5. ابن الطقطقا: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1980م.
  6. الدكتور عبد المنعم ماجد: الدولة الأيوبية في تاريخ مصر الإسلامية (التاريخ السياسي)، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997 م.
  7. محمد بن أبي السرور البكري الصدّيقي: المنح الربانية في الدولة العثمانية، تحقيق الدكتورة ليلى الصبّاغ، دار البشائر، دمشق، الطبعة الأولى، 1915 م.
  8. محمد ماهر حمادة: الوثائق السياسية والإدارية للعهود الفاطمية والأتابكية والأيوبية، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1985م.
  9. المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره محمد مصطفى زيادة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1971 م.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 5 – 4 – 2007

 

=========================

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة السادسة والثلاثون )

الجغرافي الرحّالة: ابن حَوْقَل النَّصِيبي

 (القرن الرابع الهجري/ القرن العاشر الميلادي)

هل نمتلك وعياً جغرافياً؟

نعم، بكل تأكيد.

إن كل فرد منا يمتلك وعياً جغرافياً ما.

فهل من فلاح لا يعرف موقع أرضه؟!

وهل من راع لا يعرف مواقع المراعي الخصبة؟

وهل من تاجر لا يعرف مواقع البلدان التي يتاجر إليها؟

وهل من فقيه لا يعرف مواقع الأماكن والمدن والمعابد المقدسة؟

وهل من ناقد لا يعرف البيئات والبلدان التي نشأ فيها الأدباء؟

وهل من مؤرخ لا يعرف المناطق التي دارت فيها الأحداث التاريخية؟

وهل من سياسي قدير لا يعرف جغرافيا بلاده وجغرافيا البلاد الأخرى؟

-   -   -   -

وليس الوعي الجغرافي حكراً علينا نحن البشر.

وإنما تشاطرنا الحيوانات هذا الوعي أيضاً.

بلى، إن الحيوانات أيضاً تمتلك قدراً ما من الوعي الجغرافي.

لاحظوا الطيور وهي تهاجر من البلاد الباردة إلى البلاد الدافئة.

ولاحظوا النملة وهي تحمل حبة قمح إلى مسكنها.

ولاحظوا النحلة وهي تحمل الرحيق إلى خليتها.

ولاحظوا السباع وهي ترتاد البقاع التي تكثر فيها الطرائد.

-   -   -   -

أجل، إننا جميعاً نمتلك وعياً جغرافياً بالفطرة.

ولولا ذلك الوعي الجغرافي لما تكيّفنا مع بيئاتنا.

ولولا تكيّفنا مع بيئاتنا لما قدرنا على الاستمرار في الحياة.

وإن وعياً جغرافياً أفضل يعني فرصة للحياة أفضل.

وبقدر تنازلنا عن الوعي الجغرافي نتنازل عن الحياة نفسها.

الحاجة والاختراع

وصحيح أننا جميعاً نمتلك وعياً جغرافياً.

لكن وعينا الجغرافي متفاوت من حيث المستوى.

فالوعي الجغرافي عند الحيوان هو غيره عند الإنسان.

والوعي الجغرافي عند الراعي هو غيره عند التاجر.

والوعي الجغرافي عند المؤرخ العادي هو غيره عند من يهتم بفلسفة التاريخ.

والوعي الجغرافي عند السياسي العادي هو غيره عند السياسي الإستراتيجي.

وهكذا دواليك.

 -   -   -   -

وقد قيل: الحاجة أم الاختراع.

ومع انتقال البشرية من ثقافة القنص إلى ثقافة الرعي.

ثم انتقالها من ثقافة الرعي إلى ثقافة عصور الزراعة.

ثم انتقالها من عصور الزراعة إلى العصر الصناعي.

ثم انتقالها من العصر الصناعي إلى عصر الفضاء.

كانت الحاجات تتطوّر وتتغيّر.

واختفت حاجات، وظهرت حاجات.

وكان من الطبيعي ألا يراوح الوعي الجغرافي مكانه.

وأن يتحوّل الوعي الجغرافي العفوي إلى (علم الجغرافيا).

وقبل حوالي ستمئة عام ما كان أبناء العالم القديم (آسيا، إفريقيا، أوربا) يعرفون شيئاً عن قارة كبرى في أقصى الجنوب الشرقي، هي أوستراليا، ولا يعرفون شيئاً عن قارتين كبيرتين أخريين في أقصى الغرب، وهما أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. وها نحن أولاء اليوم نضع خريطة العالم أمامنا، ونضع أصابعنا على أصغر جزيرة في العالم، ونحدّد عليها موقع أعلى جبل، وأطول نهر، بل تجاوزت اهتماماتنا جغرافيا الأرض، فرحنا نبحث في جغرافيا القمر وإخوانه من الكواكب.

وهل كان ذلك إلا بفضل علم الجغرافيا؟

وهل كان علم الجغرافيا نفسه إلا سليل الوعي الجغرافي؟

-   -   -   -

ونقف الآن عند أحد الجغرافيين القدماء.

إنه الجغرافي الرحّالة ابن حَوْقَل النَّصِيبي.

صاحب كتاب (صورة الأرض)؟

فماذا عن سيرته الشخصية؟

وماذا عن جهوده الجغرافية؟

نَصيبين

نَصيبين (وتُلفظ نِصيبين أيضاً) اسم لأكثر من موضع.

فقد ذكر ياقوت الحموي في (معجم البلدان) أن (نصيبين) اسم قرية من قرى حلب، وأن (تل نصيبين) أيضاً من نواحي حلب، وقال:" ونصيبين أيضاً مدينة على شاطئ الفرات كبيرة تعرف بنصيبين الروم، بينها وبين آمد [ديار بكر] أربعة أيام أو ثلاثة، ومثلها بينها وبين حَرّان، ومن قصد بلاد الروم من حرّان مرّ بها ".

على أن نصيبين المشهورة في كتب البلدان وفي كتابات المؤرخين ليست واحدة مما مر ذكرها، وإنما هي مدينة كردية تقع الآن في جنوب شرقي تركيا، بمحاذاة مدينة قامشلي السورية تماماً، وإلى هذه المدينة ينتمي ابن حَوْقل.

فماذا إذاً عن نصيبين هذه؟

قال ياقوت الحموي في وصفها (معجم البلدان، 5/334- 335):

" مدينة عامرة من بلاد الجزيرة، على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام، وفيها وفي قراها، على ما يذكر أهلها، أربعون ألف بستان، بينها وبين سِنْجار تسعة فراسخ، وبينها وبين الموصل ستة أيام، وبين دُنَيْسر يومان، عشرة فراسخ، وعليها سور كانت الروم بنته، وأتمّه أنوشروان الملك عند فتحه إياها، ... وسار عِياض بن غَنْم إلى نصيبين، فامتنعت عليه، فنازلها حتى فتحها على مثل صلح أهل الرُّها،... ويُنسب إلى نصيبين جماعة من العلماء والأعيان، منهم... أبو القاسم النَّصيبي الحافظ، قدم دمشق وحدّث بها في سنة 344 هـ ".

والحقيقة أن مدينة نصيبين كانت مهمة على الصعيد الإستراتيجي منذ عهود الحروب الفارسية- الرومانية، ففي القرن الأول قبل الميلاد كان الرومان قد اتخذوا منها قاعدة عسكرية لهم في حروبهم ضد الأشگان (البرث) من جانب، وضد الأرمن من جهة ثانية، وظلت المناطق المتاخمة لنصيبين تشكل الحدود الفاصلة بين الفرس الساسانيين والروم البيزنطيين، وقد اجتاح الساسانيون الممتلكات البيزنطية، مخترقين الحد الفاصل بين الإمبراطوريتين، ومسيطرين على البلاد الكردية وسوريا الكبرى، وكان ذلك في عهد كسرى أبرويز بين سنتي (603 – 628 م)، لكن ما لبث الإمبراطور البيزنطي هرقل أن حقق نصراً حاسماً على أبرويز سنة (7 هـ/628 م)، ثم دخل في مفاوضات ناجحة مع القائد الفارسي شهرباراز، وفرض شروط الصلح، معيداً الحدود البيزنطية إلى عهدها السابق (ولتر كيغي: بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة، ص 69 ،70، 112).

حرب بالعقارب

وفي جغرافيا العالم القديم كانت المدن تستمد أهميتها من أمرين اثنين:

- الأول عسكري.

- والثاني اقتصادي، تجاري.

ويبدو أن نصيبين كانت تتصف بهاتين الميزتين، وإلا لما اتخذ منها الرومان قاعدة كبرى لهم في أقصى حدود شرقي الإمبراطورية، ولما ظل الأمر كذلك طوال العهد البيزنطي، وفي سنة (18 أو 19 هـ/ 639 م أو 640 م)، وبعد أن فتح العرب المسلمون سوريا الكبرى، توجّه عِياض بن غَنْم إلى فتح بلاد الجزيرة، فكانت نصيبين من جملة المدن التي فُتحت صلحاً، وقيل: بل فُتحت عَنوة (البلاذري: فتوح البلدان، ص 179).

وصحيح أن نصيبين اشتهرت بعقاربها القاتلة، لكنها كانت عقارب مستوردة حسبما ذكر ياقوت الحموي، فقد حاصرها الملك الفارسي أنو شروان، فاستعصت عليه، فأمر بجمع العقارب من أماكن أخرى، ثم أمر بوضع العقارب في قوارير، ورمي تلك القوارير على المدينة بالمنجنيق، فكانت القوارير تتكسر، وتخرج منها العقارب، وتنتشر في البيوت، وتؤذي الناس، الأمر الذي أجبر السكان على الاستسلام للفرس، وإذا صح هذا الخبر تكون هذه من أقدم الحروب التي كانت الحشرات فيها هي السلاح الفتّاك.

على أن ابن حوقل يعطينا صورة أخرى لنصيبين موطن أجداده، فقد قال في معرض حديثه عن إقليم الجزيرة (صورة الأرض، ص 191):

" وكان من أجلّ بقاع الجزيرة، وأحسنِ مدنها، وأكثرِها فواكه ومياهاً ومتنزَّهاتٍ وخضرةً ونضرة، إلى سَعة غلاّت من الحبوب والقمح والشعير والكروم الرائعة الزائدة على حدّ الرخص، نصيبين، وهي مدينة كبيرة، في مستواة من الأرض، ومخرج مائها عن شِعب جبل يُعرف ببالوسا، وهو أنزه مكان بها، حتى ينبسط في بساتينها ومزارعها، ويدخل إلى كثير من دورها، ويُغدق البرك التي في قصورها، وكان لهم مع ذلك فيما بعُد من المدينة ضياع مَباخس [لعل المعنى: رخيصة] كبار جليلة عظيمة غزيرة السائمة والكُراع [الغنم والبقر]، دارّة الغلاّت والنتاج، معروفة الفرسان، مشهورة الشجعان، إلى ديّارات للنصارى وبِيَع وقلاّيات، تُقصد للنزهة، وتُنتجع للفرجة والفَرَج. ولم تزل على ما ذكرته مُذ أوّل الإسلام معروفة بكثرة الثمار ورخص الأسعار، تتضمّن بمائة ألف دينار، إلى سنة ثلاثين وثلاثمائة، فأكبّ عليها بنو حمدان بضروب الظلم والعدوان،... ".

من هو ابن حوقل؟

إذاً لم تقدر العقارب على تشويه صورة نصيبين الجميلة.

ولن تفلح في أن تمنعنا من تعرّف ابن حوقل.

أما اسمه فهو أبو القاسم محمد بن علي البغدادي الموصلي المشهور بابن حوقل، ويبدو أن عليّاً والد ابن حوقل، أو أحد أجداده، نزح من نصيبين إلى بغداد عاصمة الخلافة، وكانت من أهم عواصم التجارة العالمية في ذلك الزمن، وقد ولد الطفل محمد في بغداد، ونشأ بها، والأرجح أنه ينتمي إلى أسرة كانت تحترف التجارة؛ إذ نجد في المصادر أن محمداً (ابن حوقل) قد مارس التجارة في الموصل فترة من الزمن، ومن المفيد ها هنا أن نأخذ في الحسبان أن نصيبين تقع شمال شرقي الموصل، على الطريق التجاري الرئيس الذي كان يربط الموصل والعراق عامة بالأناضول وبشمالي سوريا، ومن هناك بالموانئ الواقعة على البحر الأبيض المتوسط.

ولم نجد في المصادر من دقّق النظر في هذا الاسم الغريب (حَوْقَل)، ترى هل كان اسماً أم كان لقباً؟ وهل كان في الأصل بالصيغة العربية (حَوْقَل)؟ فالحوقلة اسم منحوت من الجملة العربية (لا حول ولا قوة إلا بالله)، ولم نجد في الأسماء العربية، رغم كثرة اطلاعنا على أسماء الأعلام، شخصاً سمي بهذا الاسم، ولا نعتقد أن ثمة أباً يسمّي ابنه باسم (حَوْقَل)، تعبيراً عن تشاؤمه بولادة طفله، ومكرراً عبارة: (لا حول ولا قوة إلا بالله )!

وما دمنا استبعدنا أن يكون (حَوْقَل) اسماً فلعله كان لقباً، ولعل والده عليّاً، أو أحد أجداده، كان يكثر من قول (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فحاز على هذا اللقب، ومع ذلك يبقى الأمر في دائرة الاحتمال والشك، ولا نجد قرينة تجعلنا ننتقل به من دائرة الشك إلى دائرة الترجيح. وأرى أن يأخذ البحث في اسم (حوقل) مساراً له صلة بالأسماء الكردية القديمة، على أن نعيد حرف (ح) إلى صيغته الكردي (هـ)، وحرف (ق) إلى صيغته المحتملة (ك، أو گ)، وأترك الأمر لمن له خبرة في هذا الباب.

 اتجاه آخر

ومع ذاك دعونا نفكّر في اتجاه آخر.

ولنبتعد قليلاً عن ظلال وإيحاءات الصيغة العربية (حَوْقَل).

فأسرة ابن حوقل نصيبينة الموطن، وصحيح أن المنطقة الممتدة من بلدة (هِيت) قرب الأنبار على الفرات جنوباً، إلى إسْعَرْد (سِرْت) شمالاً، بما فيها الموصل ونصيبين، كانت تسمّى ديار ربيعة، نسبة إلى أنها كانت خاصة لقبائل ربيعة، يرتادونها بمواشيهم، حسب التقسيمات التي رافقت الفتوحات الإسلامية، (أبو الفداء: تقويم البلدان، ص 277  -  289. وابن حوقل: صورة الأرض، ص 188 -  189) وصحيح أن من أبناء قبائل ربيعة من سكن تلك المناطق، لكن لا شيء في نسبة ابن حوقل يدل على أن الرجل كان من أصل عربي، ولو كان من أصل عربي لوجدنا ذلك في نسبه، أو في بعض أقواله، أو في أقوال من ترجم له.

ومعروف أن العرب الأقحاح كانوا، وما زالوا، حريصين على الانتساب إلى عشائرهم وقبائلهم، وليس إلى القرى والمهن، وأذكر على سبيل المثال الفقيه الأصولي السيف الآمدي علي بن محمد التَّغْلبي (ت 551 هـ)، كان من مدينة فارقين الكردية، لكنه عربي من قبيلة تَغْلِب (ابن خلكان: وفيات الأعيان، 3/293 – 294)، والقاضي الأديب ناصح الدين التَّميمي الآمدي (ت نحو 550 هـ)، فهو من مدينة آمد ( ديار بكر) الكردية، لكنه عربي من بني تميم، (ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/177)، وأذكر الشاعر ابن نُباتة محمد بن محمد الجُذامي الفارقي المصري (ت 768 هـ)، فهو من مدينة فارقين، وأقام بمصر، لكنه عربي من قبيلة جُذام، (الزركلي: الأعلام، 7/38).

وليس ابن حوقل تركمانياً، إذ المعروف أن التركمان كانوا حينذاك يقيمون في مواطنهم الأصلية شرقي بحر قزوين، وما توجّهوا غرباً نحو العراق وكردستان والأناضول إلا في القرن الخامس الهجري؛ ففي سنة (429 هـ/1037 م) أغارت طائفة من التركمان الغُز (الأُوغوز) على كردستان، ثم تبعهم التركمان السلاجقة حوالي سنة (450 هـ) (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/609).

وقد يتبادر إلى الذهن أن يكون ابن حوقل من أصل سرياني، فهم أيضاً من سكان تلك المنطقة، لكنهم في الحقيقة كانوا وما زالوا قلّة، هذا عدا أن السريان ظلوا على المسيحية، ولم يعتنقوا الإسلام إلا بصورة محدودة جداً، في حين أن معظم الكرد اعتنقوا الإسلام، ربما لأسباب سياسية تتلخص في حماية أنفسهم من تهديد الروم البيزنطيين، وكان هؤلاء مسيحيين، في حين كان الكرد قبل الإسلام زردشتيين، وكانوا يقاومون النفوذ البيزنطي. وربما أنهم وجدوا في الإسلام ديناً قريباً جداً من عقيدتهم الزردشتية، وهذه حقيقة يعرفها كل من يجري مقارنة بين العقيدتين.

وهكذا لم يبق أمامنا إلا ترجيح أن يكون ابن حوقل من أصل كردي، أما كردستانيته، أقصد كونه من منطقة كردية، فتلك حقيقة لا ريب فيها، أما قول مينورسكي في مقالة له بعنوان (الجغرافيون والرحّالة المسلمون): " كان ابن حوقل عربياً من نصيبين " فهو قول بلا دليل ولا سند، ولا أستبعد أن يكون مترجم المقالة الدكتور عبد الرحمن حميدة هو الذي أحلّ كلمة (عربي) بدل كلمة (مسلم)، فللمترجم كتاب سمّاه (أعلام الجغرافيين العرب)، ومعظم الجغرافيين الذين تحدث عن أعمالهم غير عرب، كالإصْطَخْري، والجِيهاني، وابن خُرْداذْبه، وناصر خسرو، وآخرين.

تاجر.. ورحّالة وجغرافي

كان ابن حوقل تاجراً محترفاً، ولم تقتصر نشاطاته التجارية على العراق، أي أنه لم يكن من التجار المحليين حسب المصطلحات المعاصرة، وإنما كان تاجراً عابراً للقارات، وكان في الوقت نفسه مثقفاً، مهتماً بالعلم وجمع المعلومات، ولا سيما المعلومات الجغرافية ذات الصلة بمهنته، وقد جاء في ترجمته أنه كان مولعاً بقراءة كتب البلدان، مثل كتب الجِيهاني وابن خُرداذْبه، وكان يتشوّق إلى التجول في البلدان، متخذاً التجارة مهنة له، وراغباً في دراسة البلاد والشعوب.

 وقد بدأ ابن حوقل الرحلة من بغداد سنة (331 هـ/943 م)، متجهاً شرقاً نحو بلاد فارس، والتقى سنة (340 هـ/952 م) بالجغرافي الشهير الإصْطَخْري أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي المعروف بالكَرْخي (ت نحو 346 هـ)، صاحب كتاب (المسالك والممالك)، فطلب منه الإصطخري أن يعيد النظر في كتابه ويتممه، فقبل ابن حوقل القيام بتلك المهمة، لكنه قرر في النهاية أن يقوم بنفسه بعمل كتاب جديد في المسالك والممالك، يصهر فيه ما جاء في كتاب الإصطخري، ويضيف إليه معلوماته الشخصية، ويُعتقد أنه أنجز هذا الكتاب سنة (367 هـ/977 م).

وأمضى ابن حوقل في رحلاته زهاء ثلاثين سنة، تجوّل خلالها في أرجاء العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، من نهر السند حتى ضفاف الأطلسي، وشملت رحلاته مناطق شاسعة من قارات العالم القديم الثلاثة (آسيا، وأوربا، وإفريقيا).

أما في آسيا فكانت له معرفة بالعراق عن كثب، وكان يعرف إيران وشطراً من الهند، كما أنه جاب ربوع مصر والشام، وزار منطقة البحرين (كان اسم البحرين يطلق قديماً على الساحل الغربي من الخليج العربي) وزار الأحساء (شرقي المملكة العربية السعودية)، ووصف النظام الاجتماعي للدولة القُرْمُطية التي كانت قائمة حينذاك هناك، ونمط الحكم فيها.

وأما في أوربا فدخل بلاد البلغار، ووصل إلى أواسط نهر الفولغا في روسيا، طلباً للتجارة، ورغبة في دراسة البلاد وسكانها، وذكر انتصار الروس على البلغار والخزر سنة (358 هـ/969 م)، كما زار الأندلس (إسبانيا)، وزار إيطاليا، ولا سيما ناپولي وپالرمو التي تجول فيها سنة (363 هـ).

وأما في إفريقيا فهو يُعدّ الخبير الأول، من بين الجغرافيين المسلمين، بشؤون بلدان شمالي إفريقيا (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب)، إضافة إلى أنه كتب وصفاً مفصلاً لمنطقة البجة وتاريخهم ومنطقة أرتيريا في شرقي إفريقيا.

على أن اتصال ابن حوقل بالفاطميين حمل بعض المستشرقين، مثل دوزي الهولندي، إلى اتهامه بالتجسس لحسابهم في الأندلس، إذ كانوا يتطلعون إلى الاستيلاء عليها في فترة من الفترات، ونهج الزركلي نهج دوزيه فقال " ويقال: كان عَيْناً للفاطميين " (الزركلي: الأعلام، 6/111). ولم يقدّم أحد دليلاً على صحة هذه التهمة، وأحسب أن تعصّب بعض القدماء للخلافة العباسية السُّنّية، وحنقه على الخلافة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية، قاده إلى اختراع هذه التهمة، ولا سيما أن الفاطميين كانوا قد بسطوا نفوذهم على غربي العالم الإسلامي، من مصر إلى المغرب، وهي المنطقة التي اتخذها ابن حوقل ميداناً لرحلاته وكتاباته الجغرافية.

كتاب صورة الأرض

اشتهر ابن حوقل بمؤلف وحيد هو كتاب (المسالك والممالك)، وشاع أخيراً بصيغة (صورة الأرض)، وقد أودع ابن حوقل في كتابه هذا كل معارفه الجغرافية، وما جمعه من معلومات قرأها في كتب الجغرافيين السابقين، أو اطّلع عليها هو شخصياً خلال رحلاته الكثيرة، ومن هنا تأتي أهمية كتابه.

وقدّم ابن حوقل كتابه قائلاً (صورة الأرض، ص 7):

" هذا كتاب المسالك والممالك والمفاوز والمهالك، وذكر الأقاليم والبلدان على مر الدهور والأزمان، وطبائع أهلها، وخواصّ البلاد في نفسها، وذكر جباياتها وخراجها ومستغلاّتها، وذكر الأنهار الكبار، واتصالها بشطوط البحار، وما على سواحل البحار من المدن والأمصار، مسافة بين البلدان من للسفارة والتجار، مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار، والنوادر والآثار، ... ".

والحقيقة أن حاجة الدولة الإسلامية إلى معرفة الأقاليم التابعة لها بيئة وسكاناً وموارد، كانت السبب في تأليف كتب (المسالك والممالك)، فلقد دعت الحاجة الإدارية والمالية والتنظيمية إلى وصف أقاليم الدولة، ومعرفة الطرق ومراحلها، والمسافات بين الأقاليم، والطرق التجارية والبحرية، والاهتمام بغلات الأرض ومعادنها، هذا فضلاً عن الرغبة في معرفة البلدان التي فُتحت وكيفية فتحها، وهي القضية التي فرضت نفسها على المسلمين مبكراً، لمعرفة التعامل مع أهل الذمة، وتوضيح مقادير خراجاتهم وجزيتهم.

وبتأثير من هذه الحاجة ظهر فريق من الجغرافيين عُرفوا باسم (الجغرافيين الرحّالة)، من أشهرهم: ابن خُرداذْبه صاحب أول مؤلف يحمل اسم (المسالك والممالك)، وقُدامة بن جعفر صاحب كتاب (الخَراج)، وابن رُسْتَه صاحب كتاب (الأعلاق النفيسة).

ومر أن ابن حوقل التقى بالإصطخري، وبمقارنة كتاب ابن حوقل بكتاب الإصطخري يظهر أن الأول يدين للثاني بأكثر مما يعترف به، فقد أخذ عنه مخططاته، فضلاً عن فصول برمتها، كالتي تتعلق بجزيرة العرب، والخليج العربي، وخوزستان، وفارس، وكرمان، وحوض نهر السند (جنوبي باكستان حالياً)، والدَّيْلم، وبحر الخزر، وهي فصول اكتفى ابن حوقل بأن أضاف إليها زيادات هامة، ولكنها مقتضبة جداً، كما استعار منه معظم الأبحاث المتعلقة بمصر وبلاد الشام والعراق وبلاد ما بين النهرين.

ومع ذلك كان لابن حوقل نهج رسمه لنفسه في تأليف كتابه؛ وهو أن يذكر بلاد الإسلام " إقليماً إقليماً، وصُقعاً صُقعاً "، دون أن يغفل التأكيد على أن هذا التقسيم إنما هو تبويب تنظيمي فحسب، لأن الأقاليم الاثنين والعشرين التي انقسمت إليها الديار الإسلامية، وفق مخططه، إنما تندرج ضمن الأقطار أو الأمصار الرئيسة التالية: ديار العرب، والمغرب، ومصر، والشام، والجزيرة الفراتية أو جزيرة أقور (في كردستان الوسطى)، والعراق، وفارس، والسند، وأرمينيا، وأذربيجان، والجبال، وخراسان، وبلاد ما وراء النهر.

ويلاحظ أن ابن حوقل تقيّد بالمسارين اللذين فرضتهما أو أفرزتهما الرحلة الجغرافية...، وهما: الجغرافية المقنّنة، ثم الانطباعات والمواقف التي توافرت عن طريق الملاحظة المباشرة، والمشاهدة، أو المعاينة والمعايشة، والوقوف على تلك الأمور شخصياً، وهذان اتجاهان أخذ بهما ممثلو الرحلات الجغرافية.

والتزم ابن حوقل المنهج التوثيقي، فقال يوضح ذلك (عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب، ص 212 – 213):

" وكنت إذا لقيت الرجل الذي أظنه صادقاً، وأخاله بما أسأله عنه خبيراً، فأجده عالماً عند إعادة الخبر الذي أعتقد فيه صدقه، وقد حفظت نسقه، وتأملت طرقه ووصفه، وأكثر ذلك باطلاً، وأرى الحاكي بأكثر ما حكاه جاهلاً، ثم أعاوده الخبرَ الذي ألتمسه والذكرَ، ليسمع الذي استوصفته، وأطالع معه ما صدر مع غيره في ذلك بعد رؤية، وأجمع بينها وبين حكاية ثالث بالعدل والسوية، فتتنافر الأقوال، وتتنافى الحكايات، وكان ذلك داعية إلى ما كنت أحسّه في نفسي بالقوة على الأسفار، وركوب الأخطار، ومحبة تصوير المدن، وكيفية مواقع الأمصار، وتجاور الأقاليم والأصقاع ".

اتجاهات جغرافية

لم يكن ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض) أحادي النظرة، ولم يهتم بجانب من جوانب الجغرافيا على حساب الجوانب الأخرى، إنه عُني بتناول الجوانب الآتية:

أولاً: الجغرافيا الاقتصادية بكل ميادينها؛ أي الجغرافيا الزراعية، والجغرافيا

      الصناعية، وجغرافيا التجارة، وجغرافيا الطرق والنقل التي تربط بلاد

      العالم الإسلامي .

ثانياً: الجغرافيا البشرية، وهي تُعنى بدراسة الشعوب.

ثالثاً: الجغرافية الحيوية، وهي تعنى بدراسة النبات والحيوان بصفة عامة.

رابعاً: الجغرافيا الطبيعية، وهي وصف الظاهرات التضاريسية والمناخية.

خامساً: جغرافية الأجناس البشرية أو جغرافيا السلالات البشرية.

كما أن ابن حوقل كان يركّز على الجغرافيا الإدارية، وهذا أمر أفرزته حاجة الدولة الإسلامية إلى معرفة العامر والغامر (غير العامر) من أرض الإسلام وخراجاتها.

وكانت طريقة ابن حوقل في معالجة القضايا السابقة تلامس العموميات فقط، دون أن يهتدي إلى التأثير المتبادل بين الإنسان وبيئته؛ وهذا أمر طبيعي في معظم كتب الجغرافيا الإقليمية عند المسلمين، كما أن اهتمامه بالمجالات السابقة تفاوت بين إقليم وآخر، إضافة إلى التناول السطحي لبعض الظاهرات الطبيعية (يوسف بن أحد حوالة: ابن حوقل ورحلاته الجغرافية،ص 22 – 26).

وثمة خلاف بين القدماء في السنة التي توفي فيها ابن حوقل، و ذكر الزِّرِكلي في كتابه (الأعلام، 6/111) أن ابن حوقل توفي سنة (367 هـ)، والحقيقة أن الرجل ترك بعده ما ينفع الناس، فإن لكتابه (صورة الأرض) قيمة علمية وتاريخية لا يستهان بها، ولا أحسب أن ثمة مكتبة هامة في بلاد العرب إلا وفيها نسخة أو أكثر من هذا الكتاب، ولا أحسب أن ثمة باحثاً تهمّه معرفة جغرافيا العالم قديماً، إلا ويجد نفسه بحاجة إلى ما كتبه ابن حوقل، وقد أفدت منه شخصياً في كتابة بعض حلقات هذه السلسلة، كما أنني اعتمدت عليه كثيراً في كتابي (تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية). فجزاه الله عن العلم والباحثين خير الجزاء.

المراجع

 

  1. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1975م، 1982م.
  2. البلاذري: فتوح البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م.
  3. ابن حوقل: صورة الأرض، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1979 م.

4.    ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.

  1. الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط 9، 1990
  2. الدكتور عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ومقتطفات من آثارهم، دار الفكر، دمشق، 1984م.
  3. أبو الفداء: تقويم البلدان، دار الطباعة السلطانية، باريس، 1840م.
  4. م. ف. مينورسكي: الجغرافيون والرحّالة المسلمون، ترجمة أ. د. عبد الرحمن حميدة، رسائل جغرافية، الجمعية الجغرافية الكويتية، الكويت،  العدد 73، 1985م.
  5. ولتر كيغي: بيزنطة والفتوحات الإسلامية المبكرة، ترجمة نقولا زيادة، قدموس للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2002 م.
  6. ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1990م.
  7. الدكتور يوسف بن أحمد حوالة: ابن حوقل ورحلاته الجغرافية للجناح الغربي من الدولة الإسلامية،  رسائل جغرافية، الجمعية الجغرافية الكويتية، الكويت،  العدد 142، 1992م.

 

وإلى اللقاء في الحلقة السابعة والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 19 – 3 – 2007

 

 

 ==================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الخامسة والثلاثون )

الوزير الفاطمي: العادل ابن السلاّر

 (ت 548 هـ/1153 م)

أديان.. وسياسات

ترى هل الأديان تبدأ سماوية، ربانية، نورانية.

ثم يحوّلها البشر إلى مظلات للسياسات ومطايا للمصالح؟

فالمتوقَّع أن تكون اليهودية، في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ديناً سماوياً ربانياً، لكننا نجدها تبدو على أنها مظلة للمصالح والمطامع، ونجد أن الإله (يَهْوَه) يعقد مِيثَاقاً مَعْ النبي أَبْرَامَ (إبراهيم) قَائِلاً له:

" سَأُعْطِي نَسْلَكَ هَذِهِ الأَرْضَ مِنْ وَادِي الْعَرِيشِ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ. نَهْرِ الْفُرَاتِ. أَرْضَ الْقَيْنِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ وَالْقَدْمُونِيِّينَ. وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ. وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ ". [العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 15، الآيات 18 – 21].

على أي أساس أبرم الإله (يَهْوَه) ذلك الميثاق الأبدي؟

وما مبرر تجريد شعوب كاملة من أوطانها وثرواتها؟

ولماذا قدّم تلك الأوطان منحة لقبيلة بدوية متشرّدة؟

لن نجد إجابات شافية لا عن هذه التساؤلات ولا عن مثيلاتها؛ فالإله السماوي، بعد أن يصبح سياسياً أرضياً، لا يحب أن يستمع إلا من طرف واحد، وذلك الطرف دائماً هو (الشعب المختار)، الشعب الذي يتفنّن في تقديم القرابين له، أما الشعوب الأخرى وعذاباتها، والمآسي التي تحلّ بها، فذلك ليس من شأن الإله الأرضي، وهو غير مستعد لأن يعرف تلك العذابات والمآسي.

وقل الأمر نفسه في الزردشتية.   

إنها بدأت ديناً ربانياً أيضاً، نادى به النبي زردشت بين قومه الميد (أجداد الكرد)، في القرن السادس قبل الميلاد، لكن الميد رفضوا دعوته، فاقتنصها الفرس الأخمين، واتخذوها إيديولوجيا لإسقاط الدولة الميدية، وتأسيس الدولة الأخمينية.

وكذلك كانت المسيحية.

إنها بدأت، في القرن الأول الميلادي، ديناً ربانياً مسالماً، يقوم على:

" أحِبّوا أعداءَكمْ. أَحسِنوا إلى مُبغضيكمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. وصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ. مَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ فَاعْرِضْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. وَمَنِ أخذ رِدَاءَكَ فَلاَ تَمْنَعْهُ ثَوْبَكَ أَيْضاً ". [العهد الجديد، إنجيل لوقا، الأصحاح 6، الآيات 27 ، 28، 29].

ثم إذا بالملك الروماني قسطنطين يجعل من المسيحية إيديولوجيا لحشد الأنصار وتجييش الجيوش، ويتخذها مظلة لمقارعة منافسيه في هرم السلطة الرومانية، وإذا بها تصبح أيضاً ذريعة ليس لسلب الآخرين أرديتهم وثيابهم فقط، وإنما لغزو أوطانهم ونهب ثرواتهم، وتأسيس إمبراطورية عُرفت في التاريخ بالإمبراطورية البيزنطية.

نزاعات .. وثورات

وفي الإسلام، ما إن توفي النبي محمد عليه السلام، سنة (10 هـ)، حتى أطلّت النزاعات، وحُسم الأمر لصالح الفريق القرشي، وبويع أبو بكر الصديق خليفة، وأوكل أبو بكر الخلافة من بعده إلى عمر بن الخطاب، ثم آلت إلى عثمان بن عفّان، ثم أصبح عثمان عرضة للانتقادات، وقُتل في داره سنة (35 هـ) وهو يتلو القرآن.

ثم بايع بعض القوم علي بن أبي طالب بالخلافة، وأحجم آخرون، ثم صار الإحجام نقمة، ثم صارت النقمة عصياناً فإعلان حرب، ثم قُتل علي في عاصمته الكوفة، وحل ابنه الحسن محلّه، ثم تنازل الحسن عن الخلافة سنة (40 هـ) لحاكم بلاد الشام القوي معاوية، وأطلق المؤرخون على ذلك العام اسم (عام الجماعة).

ورغم ذلك لم تتحقّق (الجماعة).

فقد أشعل الخوارج ثورات عنيفة، ونظّم الشيعة جبهة قوية للمعارضة، وحمل الحسين بن علي لواء المعارضة، وجرت معركة كربلاء، وسقط الحسين ومعظم أهل بيته صرعى، وأعطت تلك المذبحة قوة دفع للحركة الشيعية، فثاروا ثورات ملتهبة، وجابههم خلفاء بني أمية – ما عدا عمر بن عبد العزيز- بالقسوة والبطش.

ونتيجة للسياسات الأموية القمعية لجأ الشيعة إلى العمل السري، واستقطبوا المَوالي (المسلمون غير العرب)، ولا سيما في خراسان (شرقي إيران)، وكسبوا بانضمامهم دعماً هائلاً، وكان الفرعان الهاشميان؛ الفرع العلوي (نسبة إلى علي)، والفرع العباسي (نسبة إلى العباس بن عبد المطلب)، قد وحّدا جهودهما، وعملا معاً تحت مظلة (آل البيت).

وبعد أن استكمل الشيعة قوتهم باشروا العمل العسكري، وزحفوا غرباً باتجاه العراق، وجرت المعركة الفاصلة بين الفريقين في إقليم كردستان (شمالي العراق)، قرب نهر الزاب الأسفل سنة (132 هـ)، وخسر الخليفة الأموي مروان بن محمد المعركة، وفر إلى مصر فقتل فيها، وسيطر (آل البيت) على مقاليد الأمور.

وأبعد الفرع العباسي شريكه الفرع العلوي من السلطة، واستأثر بالخلافة، فكان الخليفة الأول أبا العباس السفّاح، ثم ورثها أخوه أبو جعفر المنصور، وفتك العباسيون بقادة الدعوة الذين كانوا يميلون إلى الفرع العلوي، ومنهم أبو سَلَمة الخلاّل.

لكن هل استسلم الفرع العلوي؟

لا، وإنما خاض بعض قادتهم ثورات عنيفة ضد العباسيين، فبطش العباسيون بهم وبأنصارهم، وإزاء هذا البطش تشتّت قادة الحركة ودعاتها في أرجاء البلاد، بعيداً عن العراق مركز الخلافة، تارة في الشرق، وأخرى في الغرب، وكافحوا ضد العباسيين، وانقسم الفرع العلوي إلى فروع ثلاث رئيسة:

-       الفرع الزيدي، نسبة إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين.

-       الفرع الجعفري (الاثنا عشري)، نسبة إلى الإمام جعفر الصادق.

-       الفرع الإسماعيلي، نسبة إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق.

الخلافة الفاطمية

ومن الفرع الإسماعيلي ظهرت الأسرة الفاطمية، نسبة إلى فاطمة ابنة النبي محمد عليه السلام، ونشأت الدولة الفاطمية في شمالي إفريقيا، بمساعي الداعية أبي عبد الله الشيعي، فقد انتقل من اليمن إلى مكة، والتقى هناك بحجّاج من كتامة- فرع من قبيلة صنهاجة الأمازيغية (البربر)- من المغرب، واصطحبه الكتاميون إلى بلادهم، وكان ذلك سنة (280 هـ/843 م)، وهناك نشر أبو عبد الله الدعوة، ثم تحوّل إلى العمل العسكري، وأرسى أركان الدولة الفاطمية في المغرب سنة (287 هـ).

وقام أبو عبد الله باستدعاء الإمام الإسماعيلي عبيد الله المهدي من (سَلمية) قرب حمص السورية، ووصل عبيد الله إلى المغرب سنة (292 هـ)، وقضى الفاطميون على دولة الأغالبة وعلى الدولة الرستمية، وبويع عبيد الله بالخلافة، وتلقّب بـ (المهدي أمير المؤمنين)، وامتد نفوذ دولته إلى طرابلس في ليبيا شرقاً، وبنى مدينة المهدية في تونس، واتخذها عاصمة له.

وتعارضت تطلّعات الدولة الفاطمية الشيعية مع سياسات الخلافة العباسية السنّية شرقاً، وأفلح الخليفة الفاطمي الرابع المعز لدين الله في السيطرة على مصر، ودخل القاهرة سنة (362 هـ/873 م)، واتخذها عاصمة لدولته، ثم توسّع النفوذ الفاطمي إلى بلاد الشام، ثم ما لبث الضعف أن دبّ في الخلافة الفاطمية، وتحكّم فيها الوزراء والقوّاد، وأصبحت القوة هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى منصب الوزارة.

ونتناول في هذه الحلقة سيرة أحد الوزراء الفاطميين.

إنه العادل ابن السلاّر.

فمن هو الرجل؟ وماذا عن سيرته؟

الأصل .. والنشأة

اسمه علي بن السلاّر، المنعوت بالملك العادل سيف الدين، عُرف بابن السلاّر، وذكر ابن خَلِّكان أنه وجد في أحد المصادر أن اسمه أبو منصور علي بن إسحاق، ولا مشكلة في ذلك، فألقاب الأشخاص وكناهم كانت تتغيّر أحياناً بتغيّر أحوالهم، ولعل اسم والده كان إسحاق، لكن طغى اسم العائلة (سلاّر) على اسم الأب، وحلّ محلّه.

وقال ابن خَلِّكان في (وفيات الأعيان، 3/416):

" رأيت في بعض تواريخ المصريين أنه كان كردياً زرزارياً، وكان تربية القصر بالقاهرة، وتقلّبت به الأحوال في الولايات بالصعيد وغيره، إلى أن تولّى الوزارة للظافر ".

وقبيلة زرزاري قبيلة كردية عريقة، يعني اسمها بالكردية (ولد الذئب)، وتنتمي إليها الأسرة البرمكية الشهيرة، كما ينتمي إليها القاضي المؤرخ ابن خلّكان، باعتباره من أحفاد البرامكة، وقد أنجبت هذه القبيلة عدداً لا بأس به من المشاهير، وبرز منهم في القرن السابع الهجري بدر الدين السِّنْجاري قاضي القضاة في مصر، والأمير أحمد بن حَجّي، وكان من الأمراء المرموقي المكانة عند السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، بل كان يُعَدّ منافساً للوزير بهاء الدين بن حَنّا.

ويبدو أن بعض أبناء قبيلة زرزاري وظّفوا قدراتهم العسكرية في عهد التركمان السلاجقة، وقد تصارع الفاطميون والسلاجقة على بلاد الشام، وكان الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي (أمير الجيوش) استرد القدس من الزعيم السلجوقي سقمان بن أرتق سنة (491 هـ/1098 م)، فوجد فيها طائفة من عسكر سقمان، فضمهم الأفضل إلى جنده؛ وكان في جملتهم السلار والد العادل.

ويبدو أن السلار كان يمتاز بقدرات عسكرية رفيعة، وأنه قدّم إنجازات عسكرية ذات شأن، فقد ارتفع مقامه عند الوزير الفاطمي، فمنحه لقب (ضيف الدولة) تقديراً لجهوده، وأكرم ولده علياً، وضمّه إلى مؤسسة (صبيان الحِجْر)، وكانوا يسمّون (صبيان الخاص) أيضاً.

وكان الفاطميون قد استحدثوا مؤسسة (صبيان الحجر) لأغراض عسكرية، إذ كانوا يضمّون إليها من أبناء الأمراء والأجناد والموظفين كل من تُوفّي والده، فيدرّبونه على فنون القتال والفروسية، ثم يزوّدونه بفرس وبعدّة الحرب، فيكون على أهبة الاستعداد للقيام بأية مهمّة قتالية طارئة، وهو يشبه نظام المماليك عند الأيوبيين.

وإذا تميز صبي ما من هؤلاء بالفطنة ورجاحة العقل، وبالبسالة والشجاعة، رُقّي إلى مرتبة الإمرة (القادة)، وكان الفتى علي بن السلار ممن يمتاز بتلك الخصال الرفيعة، إضافة إلى اتصافه بالحزم، والجد في مباشرة الأمور، وترك المخالطة والهزل، وهذا هو شأن معظم مشاهير الكرد على الصعيدين العلمي والعسكري،  فرقّاه الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله إلى مرتبة الأمراء، وعيّنه والياً على الإسكندرية، ثم راحت منزلته تتقدّم أكثر فأكثر.

وكان قد وصل من شمالي إفريقيا إلى مصر أبو الفضل عباس بن أبي الفتوح ابن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي، وهو صبي ومعه أمه واسمها بلارة، فتزوجها علي بن السلار، وأقامت عنده زماناً، وقبيلة كتامة الأمازيغية (البربرية) هي فرع من قبيلة صنهاجة الأكبر والأوسع انتشاراً في المغرب والجزائر وربما في تونس أيضاً.

وكان لكتامة خاصة ولصنهاجة عامة دور أساسي في نشأة الدولة الفاطمية، بل إن هذه الدولة نشأت وترعرعت في أكناف صنهاجة، ولذا لم يكن عباس الصنهاجي شخصية عادية، ولا أستبعد أن يكون العادل قد أخذ هذا الأمر في الحسبان حينما عقد قرانه على والدة عباس، وكأنه أقام بذلك تحالفاً مع القوة الأمازيغية داخل مؤسسة الحكم الفاطمية، ولا سيما أن عباساً الصنهاجي أصبح والي الغربية (المنطقة المتاخمة لليبيا) في مصر، وجار العادل والي الإسكندرية والبحيرة.

في منصب الوزارة

كان الخلفاء الفاطميون المتأخّرون أضعف من أن يأخذوا كل السلطات في أيديهم، وأصبح القادة والولاة الأقوى هم الذين يفرضون أنفسهم على الخليفة وعلى الحاشية، ويستولون على الوزارة، ويديرون أمور الدولة بالكيفية التي يشاؤون، وقد حدث مثل ذلك في عهد الخلفاء العباسيين المتأخرين، حينما استبد الضباط الأتراك بشؤون الدولة.

وقد شهدت الدوائر السياسية في مصر، بعد موت الخليفة الحافظ لدين الله، واعتلاء ابنه الظافر بالله سدّة الخلافة، صراعاً بين الجند السودان والجند الأتراك، وتنافس الأمراء على منصب الوزارة، وفي خضم ذلك الصراع فاز بالوزارة شخص ليبي الأصل، هو الأمير نجم الدين سليم بن محمد بن مصال،ومنحه الظافر لقب (الفضل أمير الجيوش سعد المُلك ليث الدولة).

غير أن مدة بقاء ابن مصال وزيراً لم تتجاوز خمسين يوماً، فقد واجه معارضة قوية من جانب علي بن السلار، والي الإسكندرية والبحيرة، ورفض أن يلي الوزارة شيخ مثل ابن مصال، ووقف والي الغربية عباس الصنهاجي مع العادل زوج أمه ضد ابن مصال، ولم يعبأ ابن السلار بتأييد الخليفة الظافر لابن مصال، وأقبل من الإسكندرية زاحفاً بجنده على القاهرة، وانتزع الوزارة من ابن مصال بالقوة، ودخل القاهرة، وفرض سلطته، وأجبر الظافر على تعيينه وزيراً، " وتولّى تدبير الأمور، ونُعت بالعادل أمير الجيوش " حسبما قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 3/416)، ولقّبه الظافر بـ (العادل سيف الدين ناصر الحق).

لكن الوزير ابن مصال لم يستسلم للعادل، وإنما فرّ من القاهرة، ثم حشد مقاتلين من المغاربة وغيرهم، ورجع – بتأييد ضمني من الخليفة الظافر- لمهاجمة العادل واسترداد منصب الوزارة، فجهّز العادل جيشاً لمحاربته بقيادة ربيبه عباس، والتقى الفريقان المتصارعان في صعيد مصر، وخسر ابن مصال المعركة، وقتل، وحُمل رأسه على رمح، وطيف به، وكان ذلك سنة (544 هـ).

على أن الخليفة الظافر لم يطب نفساً بسيطرة العادل على مقاليد الوزارة، قال ابن تَغْري بَرْدي في (النجوم الزاهرة، 5/299):

" ولم يصفُ بين الخليفة والوزير عيش قطّ، وجرت بينهما أمور؛ وثبت عند ابن سلاّر كراهة الخليفة فيه، فاحترز على نفسه منه، وأقام كذلك أربع سنين وبعض الخامسة ".

وكان من الطبيعي أن يحصل التنافر بين الخليفة ووزيره، لأنهما كانا على طرفي نقيض فكراً وانتماء وسلوكاً، فالخليفة الظافر شيعي فاطمي، يهمّه ترسيخ النفوذ الشيعي الفاطمي، والوزير العادل سنّي شافعي، راح يعمل جهاراً لنشر الفكر السني الشافعي، والخليفة- حسبما قال الذهبي في (تاريخ الإسلام، أحداث سنة 548 هـ)-  " كان شاباً، صبياً، لعّاباً، له نهمة في الجواري والأغاني "، وكان العادل عسكرياً جادّاً، حازماً، لا يحب الهزل، كما كان متعصباً للمذهب الشافعي، فأثار عليه نقمة الخليفة الظافر ورجال دولته.

وهكذا صار كل من الخليفة ووزيره يرتاب في الآخر، ويتوهّم أنه يدبّر أمر قتله، فأحاط العادل نفسه بحوالي ستمئة من الحرس الخاص المدجّجين بالسلاح، وجعلهم نوبتين، يمشون معه حيثما تنقّل، وكان للخليفة خمسمئة حارس من غلمان (صبيان الخاص)، وفيهم من هو أمير؛ قال المقريزي في (اتعاظ الحنفا، 1/276):

" فبلغ ابن السلاّّر أنهم قد تحالفوا وتعاقدوا على أن يهجموا عليه وهو في داره ليلاً ويقتلوه. فلما كان في سادس عشر رمضان أغلق القاهرة والقصور، وأحاط بصبيان الخاص وقتلهم؛ وفرّ منهم عدّة، فكتب إلى الولاة بقتل من ظفر به منهم. وأخذ يتبعهم حتى أتى على أكثرهم ".

شخصيته

ما كان العادل ليستطيع أن يثبت وجوده في مصر لولا اتصافه بخصال متميّزة، فقد كان العصر عصر (البقاء للأقوى)، وكان الأكثر جدارة هو الذي يفرض على الآخرين مكانته، ولم تكن تلك الخصال طارئة على شخصية العادل، وإنما كانت إرثاً انتقل إليه من والده السلار كما سبق القول، قال ابن خلَّكان في (وفيات الأعيان، 3/417):

" وكان [ابن السلار] شهماً مقداماً، مائلاً إلى أرباب الفضل والصلاح، عمّر بالقاهرة مساجد، ورأيت بظاهر مدينة بَلْبِيس مسجداً منسوباً إليه، وكان ظاهر التسنّن، شافعي المذهب، ولما وصل الحافظ أبو طاهر السَّلَفي، رحمه الله تعالى، إلى ثغر الإسكندرية المحروس وأقام به،... احتفل به، وزاد في إكرامه، وعمّر له هناك مدرسة فوّض تدريسها إليه، وهي معروفة به إلى الآن، ولم أر بالإسكندرية مدرسة للشافعية سواها ".

وإلى جانب هذه الخصال كان العادل يتصف بالقسوة والبطش، وصحيح أن بطش الحكّام كان أمراً عادياً في ذلك العصر، وفي ذلك المُناخ السلطوي، لكن بطش العادل كان يأخذ أحياناً أشكالاً رهيبة، قال ابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب، 4/149):

" وكان ابن السلاّر سنياً شافعياً شجاعاً مقداماً، بنى للسلف مدرسة معروفة، لكنه جبّار عنيد، ظالم شديد البأس، صعب المراس ".

وجاء في (سير أعلام النبلاء) للذهبي:

" وكان علي بن السلار من أمراء الأكراد، ومن الأبطال المشهورين، سنياً مسلماً، حسن المعتقد شافعياً، خمد بولايته نائرة [عداوة] الرفض [التشيّع]،... واحترم السَّلَفي، وأنشأ له المدرسة العادلية، إلا أنه كان ذا سطوة، وعسف، وأخذٍ على التهمة ".

وقال ابن خلّكان يذكر قسوة العادل (وفيات الأعيان، 3/417):

" وكان مع هـذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاطعة، يؤاخذ الناس بالصغائر والمحقَّرات [توافه الأمور].

وأورد ابن خلكان وغيره أن العادل قبل تولّيه الوزارة كان قد شكا إلى رئيس الديوان القاضي الموفّق أبي الكرم غرامة لزمته، فلم يعبأ به الموفق، فأعاد العادل عليه الطلب، فقال له الموفّق:" والله إن كلامك ما يدخل في أذني أصلاً ". فخرج العادل من عنده غاضباً، حتى إذا تولّى الوزارة، طلب إحضار الموفّق الذي كان قد تخفّى، وعاقبه بإدخال مسمار ضخم في أذنه، وكان كلما دخل المسمار في أذن الموفّق استغاث، فيقول له العادل:" دخل كلامي في أذنك بعدُ أم لا"؟!

مصرع الوزير

مر أن العادل ابن السلار تزوّج من والدة عباس الصنهاجي، ورزق عباس ولداً سماه نصراً، وكان نصر عند جدته في دار العادل، والعادل يحنو عليه ويعزه، وكانت بين الخليفة الظافر ونصر علاقة حميمة، إلى درجة غير عادية، وكان كلا منهما وسيماً مليح الشكل، ولم يرتح العادل إلى هذه العلاقة بين الخليفة ونصر، ونصح عباساً بأن يكبح جماح ابنه، لكن استمر الظافر ونصر على حاليهما، وقيل إن الظافر حرّض نصراً على قتل العادل زوج جدته، لكن ابن خلّكان وغيره ممن كتب سيرة العادل أوردوا خبراً مفاده أن الأمير العربي أسامة بن منقذ هو الذي حرّض عباساً وولده نصر على اغتيال العادل، قال ابن خلّكان في (وفيات الأعيان، 3/417):

" ثم إن العادل جهز عباساً إلى جهة الشام بسبب الجهاد، وكان معه [عباس] أسامة بن منقذ، فلما وصل إلى بلبيس وهو مقدم الجيش الذي صار في صحبته تذاكرا طيب الديار المصرية وحسنها وما هي عليها، وكونه يفارقها ويتوجّه للقاء العدو،... فأشار عليه أسامة على ما قيل بقتل العادل، ويستقل هو بالوزارة،... وتقرر بينهما أن ولده نصراً يباشر ذلك إذا رقد العادل، فإنه معه في الدار، ولا يُنكَر عليه ذلك؛ وحاصل الأمر أن نصراً قتله على فراشه يوم الخميس سادس المحرم سنة ثمان وأربعين وخمسمئة، بدار الوزارة بالقاهرة المحروسة، رحمه الله تعالى ".

ويستفاد مما أورده المقريزي في كتابه (اتعاظ الحنفا)، ومما أورده الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه (تاريخ الفاطميين) أن أكثر من حرّض على قتل العادل شخصان: الخليفة الظافر، وكان بينه وبين العادل نفور كما سبق القول، وأسامة بن مُنقذ، وكان أسامة صديقاً لعباس، وقد لاحظ نقمة عباس على الوزير، لتكليفه بقيادة الجيش إلى لقاء العدو، وحرمانه من ملذات العيش في القاهرة، فحثّ عباساً على أن يستغل التنافر بين الخليفة والعادل، ويقتل العادل، ويستقل بالوزارة، ولقيت نصيحة أسامة قبولاً عند عباس، فكلّف ولده نصراً بالمهمة، ونفّذ نصر المهمة بنجاح، وكان العادل قد أمضى في الوزارة ثلاث سنين وستة أشهر.

الانتقام

وفور مقتل العادل رجع عباس بالجيش إلى القاهرة، وعيّنه الخليفة في منصب الوزارة، لكن أثارت عملية القتل حنق أنصار العادل، فشغبوا عليه، وخرجوا من مصر قاصدين الشام، كما أن أهل السنّة لم يرضوا بقتل العادل، وأسرّوا ذلك في نفوسهم، واستوحش بعض الأمراء من أسامة بن منقذ، حتى إنهم همّوا بقتله.

وسرعان ما دبّ الخلاف بين حلفاء الأمس، فتخاصم عباس وابنه نصر، بعد أن نقل أسامة إلى عباس شائعة مفادها أن الظافر يفعل مع نصر ما يفعل مع النساء، كما أن الظافر راح يحبك المؤامرات ضد وزيره الجديد، لأنه لم يكن مخلصاً في تشيّعه، حتى إنه حرّض صديقه نصراً على قتل والده، فقرر عباس أن يتغدّى بالخليفة قبل أن يتعشّى هو به، فنقل خبر الشائعة إلى نصر، فغضب نصر، وقرر الأب والابن، بتأييد من صديقيهما أسامة، الفتك بالخليفة، فاغتالاه في النوم بينما كان نائماً في قصر نصر، إثر زيارة ليلية سرية، ثم فتكا بكل من جبريل ويوسف أخوي الخليفة، بعد اتهامهما بقتل أخيهما، وأجلسا مكانه ابنه عيسى وهو طفل، ولقّباه (الفائز بنصر الله).

على أن أمر قتل العادل وقتل الظافر لم يمر بسهولة، وذكر الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه (تاريخ الفاطميين، ص 415- 416) أن جماهير القاهرة عرفت الحقيقة، ونشبت الاضطرابات في الشوارع، وألقى الناس الحجارة على عباس وابنه، واعتزلهما الأعوان، فهربا مع أسامة قاصدين بلاد الشام، حاملَين معهما الأموال والتحف، ونهب العامة دُورهما، وفي الطريق انقضت عليهم القوات الفرنجية، فأفلت أسامة، وفرّ إلى بلاد الشام، ولقي عباس مصرعه، ووقع نصر في الأسر، وعرض نساء قصر الخلافة على الفرنجة ثلاثين ألف دينار مقابل إعادة نصر إلى مصر، فقبل الفرنجة العرض، وسيق نصر مكبّلاً إلى القاهرة، فشُنق على باب زويلة. 

-   -   - 

وثمة سؤالان يتبادران إلى الذهن:

-  الأول: هل استشف الخليفة الظافر أن وزيره العادل يعمل لنشر الفكر الشافعي، ولاستعادة المذهب السني في مصر، ليُلحقها من ثَم بالخلافة العباسية، ويقضي على الدولة الفاطمية؟

-       والثاني: هل كان العادل يسعى فعلاً في ذلك الاتجاه؟

إن كل من كتب عن العادل يؤكد أنه كان يُظهر تسنّنه، وأنه كان مهتماً بنشر الفقه الشافعي السني في مصر، ولذا احتفى بالحافظ أبي طاهر السلفي، وبنى له المدرسة العادلية، وفوّض إليه أمر التدريس فيها، وكان القادة الفاطميون خير من يدرك دور الفكر في التهيئة للانقلابات الإيديولوجية، ودور هذه الأخيرة في التحضير للتحوّلات السياسية، وما كانوا ليقبلوا بأن يجلس العادل في حضنهم، ويبدأ في نتف لحاهم كما يقول المثل الكردي، وأحسب أن صداقة الظافر الحميمة مع نصر ربيب العادل كانت مبرمجة للقضاء على الوزير المتمرد.

وحققت الصداقة أهدافها.

 

المراجع

1.    ابن تغري بَردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1935 م.

2.    ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت.

3.  الذهبي: تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام، تحقيق محمد محمود حمدان، القاهرة، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1985 م.

  1. ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار المسيرة، بيروت، 1970 م.
  2. الدكتور محمد سهيل طقوش: تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م.
  3. المقريزي: اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا، تحقيق جمال الدين الشيال، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1996 م.

 

وانظر:

-   الدكتور إبراهيم رزق الله أيوب: التاريخ الفاطمي السياسي، الشركة العالمية للكتاب، لبنان، الطبعة الأولى، 1997 م.

-       الباخرزي: دمية القصر وعصرة أهل العصر، تحقيق سامي مكي العاني، دار الفكر العربي، القاهرة، 1971 م.

-       الذهبي: سير أعلام النبلاء،  تحقيق شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981 م.

-      الدكتور محمد جمال الدين سرور: تاريخ الدولة الفاطمية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1994 م.

 

وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 2 – 3 – 2007

 ==================

 

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( الحلقة الرابعة والثلاثون )

الفيلسوف الطبيب المنجّم

محمد بن الجَهْم البرمكي

 (كان حياً قبل سنة 218 هـ)

ثمن العبقرية

يبدو أن للعبقرية ثمناً.

وأحياناً يكون الثمن باهظاً.

والعبقري يدفع ثمن عبقريته مرتين.

مرة حينما ينفق العمر، بكل ما يعنيه العمر من معنى، لتجسيد عبقريته.

ومرة عندما يصبح هدفاً يرميه الخصوم بسهامهم القاتلة من هنا وهناك.

وكم هو مؤلم أن يكون الخصم ممن وظّف له العبقري عمره وعبقريته!

وهذا ما جرى للبرامكة، تلك الأسرة الكردية العبقرية المنكوبة.

إذ يجمع كل من قرأ تاريخهم، وتفحّص إنجازاتهم، على أن الجماعة كانوا عباقرة بحق، عباقرة في إدارة دفة السياسة الداخلية والخارجية، وعباقرة في تحقيق الازدهار الاقتصادي، وعباقرة في تنشيط الحركة الأدبية، وعباقرة في تشجيع حركة الترجمة، ونقل العلوم الرومية واليونانية والفارسية والهندية، إلى اللغة العربية، وكان يحيى بن خالد البرمكي أول من عني بتفسير كتاب المَجِسْطي (معناه: الجليل) لإقليدس، وترجمته إلى العربية. (انظر: هولو جودت: البرامكة سلبياتهم وإيجابياتهم، ص 175).

وكان البرامكة عباقرة في استقطاب مشاهير الأطباء الهنود والسريان، وكانوا يبالغون في إكرامهم وإغداق الأموال عليهم، وهذا الطبيب السرياني جبريل بن بَخْتيشوع، كبير أطباء دار الخلافة العباسية، يقول للخليفة المأمون: : " هذه النعمة لم أفدها منك ولا من أبيك، هذه أفدتها من يحيى بن خالد ووِلْدِه ". (انظر: هولو جودت: البرامكة سلبياتهم وإيجابياتهم، ص 181).

ماذا ينفع الندم؟!

 

ولأن البرامكة كانوا عباقرة كان عليهم أن يدفعوا الثمن.

وكان الثمن مخيفاً بل رهيباً بكل المعايير، وفي كل الميادين.

وكان الذي جعلهم يدفعون الثمن صديقهم – ومن بعدُ خصمهم- هارون الرشيد.

فمنهم من قطع مسرور السيّاف رأسه؛ وهو جعفر بن يحيى، ومنهم من وافته المنية وهو في السجن؛ وهما يحيى بن خالد وابنه الفضل، ومنهم من جُرّد من جميع أملاكه المنقولة وغير المنقولة، وأصبح شريداً طريداً بلا مأوى، بعد أن كانت القصور مأواه، وكان يقود الجيوش، ويدير شؤون إمبراطورية بكاملها؛ وهو محمد بن يحيى.

وقد اكتشف الرشيد بعد حين فداحة الخطأ الذي أقدم عليه، ومغبّة الظلم الذي ارتكبه، وذكر ابن خلكان وهو يورد ترجمة يحيى البرمكي في كتابه (وفيات الأعيان، 6/219 – 29) أن الجَهْشَياري قال: " ندم الرشيد على ما كان منه في أمر البرامكة، وتحسّر على ما فرط منه في أمرهم "، وكان يقارن بين إنجازات البرامكة في الإدارة والسياسة وإخفاقات الذين نافسوهم، وألّبوه عليهم، فيتألم وينشد قول الحُطَيْئة:

أقِلّوا علينـــــا، لا أبا لأبيكـمُ  

مِن اللوم، أو سُدُّوا المكان الذي سَدّوا

ولا شك أنه كان يعلم البيت التالي، وهو:

أولئـك قومٌ إن بَنَوا أحسـنوا البنا  

وإن عاهـدوا أَوْفَوا، أو عَقَدوا شَدّوا

ولكن ماذا ينفع الندم؟!

على أن الرشيد سرعان ما تُوفّي، وتولّى الخلافة ولده محمد الأمين، ثم ولده عبد الله المأمون، فرفعا الحيف عن البرامكة، وأبطلا القرارات المجحفة التي كانت قد صدرت بحقهم، وقد أنجبت الأسرة البرمكية بعد النكبة شخصيات بارزة في ميادين الثقافة، منهم الشاعر الأديب جحظة البرمكي، وقد مرّ ذكره في حلقة سابقة، ونقف في هذه الحلقة عند الفيلسوف المتكلم، الطبيب، المنجّم، محمد بن الجهم البرمكي.

 فماذا عن سيرة الرجل؟

حياته ومكانته العلمية

لم نجد في المصادر التي توافرت لنا ترجمة وافية لمحمد بن الجهم، تُرى أهو حفيد الفضل بن يحيى أم حفيد جعفر بن يحيى، أم حفيد محمد بن يحيى، أم حفيد موسى بن يحيى؟ أم أنه ينتسب إلى فرع آخر من الأسرة البرمكية؟! واكتفى من ترجم له من القدماء بأن قالو (محمد بن الجَهْم البرمكي)، ليس غير.

ولم نجد أحداً أرّخ لولادته ووفاته كما هي العادة مع غيره من الأعلام، سوى أن عمر رضا كحّالة ذكر في كتابه (معجم المؤلفين، 9/162) أن ابن الجهم كان حياً قبل سنة (218 هـ)، وإذا أخذنا بالحسبان أن النكبة حلّت بالبرامكة سنة (187 هـ)، فهذا يعني أن ابن الجهم عاصر أحداث النكبة، وكان شاهداً عليها، ولعله كان شاباً حينذاك.  

ويتفق من ترجم لمحمد بن الجهم على أنه موسوعي الثقافة، فكان يُعدّ من فلاسفة المتكلمين، كما كان عالماً بالمنطق، منقطعاً إلى دراسة كتب أرسطو في الكون والفساد والكيان وحدود المنطق، إلى جانب مهارته في علم الطب، وبراعته في علم التنجيم، وأنه كان يتميّز بالسعة في العلم، والدقة في الملاحظة، وكان يؤسس علمه على التجربة، وقد اتصل بالخليفة المأمون فأجلّه، قال القِفْطي في كتابه (أخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص 186): " قال أبو معشر [يقصد: الفلكي]: كان محمد بن الجهم أميناً جليل القدر، عالماً بالمنطق والتنجيم، ألف كتاباًً للمأمون في الاختيارات قريب المأخذ صحيح المعاني جداً ".

وقال ابن قتيبة في (عيون الأخبار، 2/61): " أخبرني رجل حضر مجلس محمد بن الجهم البرمكي أنه دخل عليه رجل بكتب في حوائج له، فقرأها ووعد قضاءها، فنهض وهو يدعو له، وقال: أبقاك الله وحفظك وأتمّ نعمته عليك ". وهذا دليل على أن مكانة محمد بن الجهم كانت تؤهّله لأن يتوجّه إليه الناس لقضاء حوائجهم عند أصحب السلطان، وهذا أمر طبيعي ما دام الرجل كان من جلساء الخليفة المأمون، وألّف له كتاباً كما مر.

ونستدل على مكانة محمد بن الجهم العلمية المرموقة بأمور ثلاثة:

-  الأمر الأول أن جلساءه كانوا من كبار أدباء العصر العباسي الذهبي ومفكريه، ومن أبرزهم: الجاحظ وهو أشهر من نار على عَلَم في مبادين الأدب والعلم، وأبو الهُذَيْل العَلاّف، هو من قمم الفكر حينذاك، وقطب من أقطاب المعتزلة. المعروفين في كتب التراث بأهل الكلام. 

-  والأمر الثاني أن ثلاثة من أشهر الكتّاب في التراث العربي الإسلامي أكثروا من ذكر محمد بن الجهم في كتبهم، وأوردوا كثيراً من مواقفه،واستشهدوا بعدد من أقواله، وأولهم الجاحظ ( ت 255 هـ)، وكان معاصره وجليسه، فقد ذكره في كتاب (البيان والتبيين) وفي كتاب (الحيوان). وثانيهم ابن قُتَيْبة الدِّينَوَري (ت 276 هـ) في كتاب (عيون الأخبار). وثالثهم ابن عبد ربّه الأندلسي (ت 328 هـ) في كتاب (العِقْد الفريد)، وهذا دليل على أن شهرة ابن الجهم العلمية لم تقتصر على البيئة الثقافية المشرقية، وإنما كانت قد عبرت البحر إلى البيئة الثقافية الأندلسية أيضاً.

-  والأمر الثالث هو كثرة ما تناقله المؤلفون من آراء محمد بن الجهم السديدة، ونظراته العلمية القيّمة، ولا سيما في مجالات العلوم والمجتمع، فهي – والحق يقال- تنمّ عن نظر ثاقب، وملاحظة دقيقة، وعقل راجح، وفكر متميّز، وصبر على رصد الأمور، وبراعة في مقارنتها واستخلاص النتائج منها، وتلك من سمات العالِم النابه والباحث القدير.

آراء حكيمة

لمحمد بن الجهم آراء حكيمة في المجتمع، وهي تدل على أن الرجل كان يجيد الغوص في النفس البشرية، ويُحسن تحليل طبيعة العلاقات الاجتماعية، وتكمن قيمة آرائه في أنها شديدة الواقعية، غنية بإيقاعات الحياة الحقيقية، بعيدة عن التنظير الخلاّب والتجميل الخادع، وقد أورد ابن قتيبة في (عيون الأخبار، 2/4، 34) قوله:

-       " مَنْعُ الجميع أرضى للجميع ".

-       "مِن شأن مَن استغنى عنك ألاّ يُقيم عليك، ومن احتاج إليك ألاّ يذهب عنك".

وأورد له ابن قتيبة في (عيون الأخبار، 3/171) أبياتاً يقول فيها:

لَعَمْرُكَ ما النـاسُ أَثْنَوْا عليكَ      

ولا عظّمـــوك ولا عظّموا 

ولا شـايعوك على مـا بلغـ     

ـتَ من الصالحات ولا قَدَموا

ولو وجدوا لهــــمُ مَطْعَناً    

إلى أن يَعِيبـوك ما جَمْجَموا   

ولكن صَبَرتَ لِمــا ألزموك  

وجُدتَ بمـــا لم يكن يَلزمُ

وكان قِراكَ إذا مـــا لَقُوكَ   

لسـاناً بمـا سرّهمْ يُنْعِــمُ

وخَفْضَ الجناح ووَشْكَ النجاح  

وتصغيرَ مـا عظّم المُنعِـمُ

فأنت بفضلك ألجــــأتهمْ   

إلى أن يُجِلّوا وأن يُنْعِمــوا

[جمجموا: أخفوا وتردّدوا]

 

إخلاص للعلم

ويستفاد مما رواه الجاحظ وغيره أن محمد بن الجهم كان شغفاً بالمطالعة، منصرفاً إلى طلب المعرفة، يجد السعادة في معلومة يمتلكها، ويلقى المتعة في حكمة يفوز بها، ويصف ابن الجهم من حالات المطالعين ومشاعرهم ما لا يحيط بها إلا امرؤ عاش تلك الحالات حقاً، وخَبَرها ظهراً وبطناً، قال الجاحظ في (الحيوان، 1/53):

" قال محمد بن الجهم: إذا استحسنتُ الكتاب، واستجَدْتُه، ورجوتُ منه الفائدة، ورأيت ذلك فيه، فلو تراني وأنا ساعةً بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقه؛ مخافةَ استنفاده وانقطاعِ المادة من قلبه، وإن كان المُصحَف [الكتاب] عظيمَ الحجم كثيرَ الورق، كثيرَ العدد، فقد تمّ عيشي وكَمُل سروري ".

وإن امرأ يمتاز بكل هذا العشق للكتاب، وبكل هذه الرغبة العارمة في الاطلاع على المعارف، من الطبيعي أن يتعجّب ممن يتعامل مع الكتاب على نحو تجاري صِرف، بل إنه لا يستطيع أن يخفي ازدراءه له، قال الجاحظ في (الحيوان، 1/54):

" وقال العُتْبي ذات يوم لابن الجهم: ألا تتعجّب من فلان؟! نظر في كتب الإقليدس مع جارية سِلْمَوَيه في يوم واحد، وساعة واحدة، فقد فرغت الجارية من الكتاب وهو بعدُ لم يُحكِم مقالة واحدة، على أنه حرٌّ مخيَّر، وتلك أَمَة مقصورة. ... قال محمد بن الجهم: قد كنت أظن أنه لم يفهم منه شكلاً واحداً، وأُراك تزعم أنه قد فرغ من مقالة! قال العُتْبي: وكيف ظننتَ به هذا الظن، وهو رجل ذو لسان وأدب؟! قال: لأني سمعته يقول لابنه: كم أنفقت على كتاب كذا؟ قال: أنفقت عليه كذا. قال: إنما رغّبني في العلم أني ظننت أني أنفق عليه قليلاً وأكتسب كثيراً، فأما إذ صرتُ أنفق الكثيرَ، وليس في يديّ إلا المواعيد، فإني لا أريد العلم بشيء ".

نظرات علمية

على أن مكانة محمد ابن الجهم العلمية تظهر بشكل أبهى في طريقة تحليله للأمور، وفي نظراته إليها نظرة العالم المراقب، والملاحظ الدقيق، وقد نقل عنه ابن قتيبة في (عيون الأخبار، 2/104) قوله:

" لا تتهاونوا بكثير مما تَرَون من علاج العجائز، فإن كثيراً منه وقع إليهن من قدماء الأطباء، كالذِّبّان يلقى في الإثمد [الكحل] فيُسحق معه، فيزيد ذلك في نور البصر ونفاذ النظر وتشديد مراكز الشعر في حافات الجفون. قال: وفي أمة من الأمم قوم يأكلون الذبّان فلا يرمَدون ".

وقال الجاحظ في (الحيوان، 3/320 – 322):

" وذكر محمد بن الجهم- فيما خبّرني بعض الثِّقات- أنه قال ذات يوم: هل تعرفون الحكمة التي استفدناها في الذباب؟ قالوا: لا. قال: بلى، إنها تأكل البعوض، وتَصيده وتَلقطه وتُفنيه ".

ثم يورد ابن الجهم كيف أنه اكتشف هذه الحقيقة بعد طول ملاحظة ومراقبة، وذلك حينما كان يأوي إلى غرفته لينام وقت القيلولة، فقد كان أمر الخدم بطرد الذباب من الغرفة قبل وقت قيلولته، وإغلاق بابها، وعنّفهم ذات مرة لأنهم نسوا طرد الذباب وإغلاق الباب، لكنه لاحظ أن وطأة البعوض أصبحت تلك المرة أخفّ كثيراً، ولاحظ أن البعوض ينشط كثيراً حينما تكون الغرفة خالية من الذباب.  

ويفهم من خبر آخر رواه الجاحظ أن ابن الجهم كان رجل علم بحق، فهو إضافة إلى كونه رجل فلسفة ومنطق رجل خبير بالطب وصناعة العقاقير، يستقبل في بيته المهتمين بهذه الشؤون من مختلف البلدان، والعاملين في ميادينها، ويستفيد من ملاحظاتهم وتجاربهم وخبراتهم؛ قال الجاحظ (الحيوان، 4/116):

" وزعم محمد بن الجهم أن العيون التي تضيء بالليل كأنها مصابيح، هي عيون الأُسْد والنمور والسنانير والأفاعي، فبينا نحن عنده إذ دخل عليه بعض من يجلب الأفاعي من سِجِسْتان [شرقي بلاد فارس]، ويعمل التِّرياقات [الأدوية]، ويبيعها أحياء ومقتولة، فقال له: حدّثهم بالذي حدّثتني به من عين الأفعى ".

فأورد الرجل السجستاني أنه كان يصطاد الأفاعي لصناعة العقاقير، كان يقطع رؤوسها ونسي ذا يوم رأس أفعى تحت سريره، فاستيقظ ليلاً فإذا به يرى ضوءاً صادراً من أسفل السرير، فتعجّب من ذلك، وظن أن ذلك من شأن عفريت، فأشعل شمعة، ونظر فإذا به لا شيء سوى رأس الأفعى، وأطفأ الشمعة، وعاد إلى النوم، فلاحظ أن الضوء عاد إلى الظهور، فرمى رأس الأفعى بعيداً، فلم يعد الضوء يظهر في الظلام، فاستيقن أن الضوء صادر من عين الأفعى رغم أنها قد ماتت.

معايب ومطاعن!

ولم يعدَم محمد بن الجهم َن يرميه ببعض المعايب والمطاعن، فقد روى ابن قتيبة في (عيون الأخبار، 3/138) أنه كان حذراً في التعامل مع الآخرين، غير عابئ بإسداء المعروف إليهم، بل كان يذيق من يستعين به مرارة الحرمان، ونقل ابن قتيبة هذه المعايب والمطاعن على لسان ثُمامة بن أشرس، فقال:

" ذكر ثُمامة محمد بن الجهم فقال: لم يُطمِع أحداً قطّ في ماله إلا لِيَشغَله بالطمع فيه عن غيره، ولا شفعَ لصديق، ولا تكلّم في حاجة متحرِّم به، إلا ليُلقِّن المسؤول حجّة مَنْع، وليفتح على السائل بابَ حِرْمان ".

ويبدو أن ثُمامة بن أشرس – وأحسب أنه من المعتزلة- كان من الناقمين على ابن الجهم، فرماه بهذه المطاعن، وقد مر قبل قليل أن أصحاب الحاجات كانوا يقصدون ابن الجهم ليقضيها لهم عند أصحاب الجاه والسلطان، وهل كان الناس يفعلون ذلك لولا اشتهاره بأنه ممن يهتمّ بمشكلات الآخرين، ويسعى لقضاء حاجاتهم؟!

وأورد ابن عبد ربّه في كتابه (العقد الفريد، 6/177) أن محمد بن الجهم كان من مشاهير البخلاء، فقال:

" ومن رؤساء أهل البخل: محمد بن الجهم، وهو الذي قال: وَدِدتُ أن عشَرة من الفقهاء، وعشَرة من الشعراء، وعشَرة من الخطباء، وعشَرة من الأدباء، تواطؤوا [اتفقوا] على ذمّي، واستهلّوا بشتمي، حتى يُنشَر ذلك عنهم في الآفاق، حتى لا يمتد إليّ أملُ آملٍ، ولا ينبسط نحوي رجاءُ راجٍ ".

وأحسب أن محمد بن الجهم كان صاحب رؤية اقتصادية علمية، شأنه في ذلك شأن كثير من العلماء، ففسّر الناقمون عليه وجهة نظره بالبخل، وأحسب أيضاً أنه كان لا يترك للطامعين فرصة الانقضاض على أمواله، ونهشها وأخذها بغير حق، ولا أستبعد أنه ابتُلي ببعض هؤلاء الذي يركنون إلى الكسل، ويجدون أن خير وسيلة للغنى هي التحايل على الآخرين، والمكر بهم، وسرقة جهودهم، فقال ما قال من باب المفاكهة والترويح عن النفس.

المراجع

1.  الجاحظ: الحيوان، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية،  1965 م.

  1. الجهشياري: كتاب الوزراء والكتّاب، تحقيق مصطفى السقّا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1980 م.

3.    ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إبراهيم عباس، دار صادر، بيروت.  

  1. ابن عبد ربه الأندلسي: كتاب العقد الفريد، شرح وضبط وتصحيح أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الإبياري، منشورات دار الكتاب العربي، بيروت، 1982 م.
  2. عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنى، بيروت، ودار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957 م.
  3. ابن قتيبة الدينوري: عيون الأخبار، المؤسسة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973 م.
  4. القفطي: أخبار العلماء بأخبار الحكماء، دار الآثار، بيروت،  1980 م.
  5. هولو جودت فرج: البرامكة سلبياتهم وإيجابياتهم، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1990 م.

وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 18 – 2- 2007

dralkhalil@hotmail.com  

 

الحلقات السابقة لمشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 )

 

الحلقات السابقة لمشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي

( 1-2-3-4-5-6-7-8-9-10-11-12-13-14-15-16-17-18-19-20-21-22-23

العودة إلى الصفحة الرئيسية