رحيل الشاعر: نوري خورشيد ألهب مشاعري ..!!
بقلم : جعدان جعدان
لم يصدف قلمي ..ولو مرّة واحدة صال وجال في بهارج المسرّات...قدرُ هذا اليراع أن يعزف على أوتار الحزن الباكي، ويخوض انهمار العبرات ..يستمدُّ مداده من بحار الحزن الأسود ...ويلطّخ صحارى القراطيس البيض بغبار الآثام ...في الموت صحوةٌ روحيّةٌ ...وتأمّلٌُ في سر الخلود ..وهو أعلى من عقول البشر...ولغز لم يحسم أمره بعد ...الشاعر المرحوم نوري خورشيد شخصية دراماتيكية قضتْ نحبها بالتراجيديا الحزينة ...فالصديق المخلص يسحبك إلى دائرة الحزن الدّفين ...فيا خليلي ...يا دمعة الحزن المهراق، وحرقة الفؤاد ..ذلك الهيام الذي لا يعرف حدّاً ...وأشهد أن شغفي به إلى أبعد حدود الصدق والوفاء ...يحضنني الحزن الهادئ الساكن في الأعماق ...ونغنّي لهذا الزمان السائس فينا أغنية القحط المجبول بجليد النحس ونهايات الجفاف ...تلك هي تماثيل الأرض الحبلى بالأشباح ..ووسط دغلٍ من سعير الكلمات، ورماد الأمنيات ....وبقايا من ظلال الحلم والذكريات لتدفن هذه الكلمات في بساتين الدواوين الناعسة ...والورد الذي كان سراجاً في قناديل الليالي المعتمة ابتلعته ظلمات القبر العميق...رأيتك –يا صديقي- في منامي وأنت الفارس الجوّاد هائماً في صحاري القفار تبحث عن وطن يأويك، وقبر تدفن فيه رفاتك....والآن : دعوني أتوسّد الأحرف والكلمات في رحلة جنونيّةٍ مجهولة...فنهضتْ حروفي من صدري المكلوم بسهام الفُرقة والإنفصال فوصلتْ إلى قمم الوحي والإلهام ...وأمسكَ الحنينُ بتلابيب روحي ....منطلقاً من حروفي قذائف الشوق والحنين ....سأجعل –يا عزيزي- من حروفي في محرابك تتألق لتسمع همس أحاسيسي رعداً وبرقاً ..إن الزمان يرقِّم أسماء المبدعين وإن المفتاح المستعمل لا يصدأ ..فلا رفعة بلا جهاد النفس والجسد...وبالفعل لا بالقول يُجنى الثمر ...وتجربة المهارات بماء الذهب ....ومن لم يعانِ الأكدار لا يدرك قدر المسار..!!.
والأيّامُ أيّها الراحل صحائف الأعمار فخلّدتَ نفسك في مرابعها بشظايا من مواهبك الشعرية ونحن الأدباء نبني قصور الأدب لبنة لبنة...وليس قصور الجلمود والصخر الأبكم...قصورنا شامخة بنبراس الكلمة الطيبة ...ها قد نزل الفارس عن صهوة جواده الشعريّ..وركن إلى الرّقدة الأبدية يا أيّها المسافر إلى عوالم تقبع ما وراء المجرات والأفلاك ..!! ليستِ الأخوة بالأنساب المتعارف عليها ولكنَّ النّسب الروحيَّ تسمو على النسب والنسيب..فكلما التقيتُ به لاحتْ على وجهه ابتسامة متوددةٌ مغلّفةً بغلافٍ شفاف من الحزن الهادئ..ويتحدث معي بمودّة طافحة بالشوق والهيام...وينسى همومه من جراء نكتةٍ بارعةٍ، وسخريةٍ لاذعةٍ، وتهكمٍ طريف...فهو خفيف الظلّ، مرح الفؤاد وقورٌ حكيم.
مرّ المرحوم بثلاث محطّات حزينة في أطوار عمره...مرحلة الطفولة هي اليتم....مرحلة الشباب هي الجدّ والعمل مرحلة الكهولة هي المرض الذي استبدّ به-ذلك العدو الغاشم الأرعن الذي جثم على صدره وأنهاه..!!
الشاعر نوري خورشيد كان غريباً بين أهله وأقربائه ومحبوباً بين خلّانه ...ديوانه : هزار الجنة هو ترجمة حياته الذاتية ...لقد هيمن ديوانه على جوارحي، وعشتُ معه وأفيء بوارف ظلّه ..فقد استهوتني مغازلُه الشجية، وخلبني خياله الطليق...كلماته الشعرية تفيض بالعطف والحنان، وتلوح كالنبراس الوهّاج في ظلمات القهر والحرمان ...كما تمور بالتعنيف الهادئ على أقربائه ...رفعه ديوانه إلى مرتبة شاعر الألم بامتياز كما كتب عنه الشاعر الشهير: مصطفى نجار...ديوانه صدىً وامتدادٌ للشعراء السّابقين...فيه براعة إبداعية أتتْ من خزان عظيم من الحياة الروحيّة، والاستسلام لمشيئة الأقدار..ديوانه سِفْرٌ بحث عنه المحرومون من حنان الوالدين، وضمّه إلى صدورهم المنحوسون المكتوون برمضاء الهجر والفراق ....وكفى بالموت واعظاً ....