سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة )

ماذا جرّت وصيّة قَمْبَيز على الكرد؟

 

 قرارات وتحوّلات

مصائر الشعوب مرهونة بالتحوّلات الكبيرة.

وما من تحوّلات كبيرة إلا وتقف وراءها قرارات خطيرة.

وقد تكون تلك القرارات بنّاءة، فتنتقل بالأمة إلى أعلى علّيين،

وقد تكون هدّامة ومدمّرة، فتهوي بها إلى أسفل سافلين.

لكن من هي الجهة القادرة على اتخاذ القرارات الخطيرة؟

إنها نُخَب الشعوب، إنها المثقفون والساسة، فإذا كانت تلك النخب منتمية إلى الأمة- أرضاً وهويةً وشعباً- انتماءَ عشقٍ واتحاد وتوحّد، بحيث تكون حالها كحال الصوفي الشهير الحسين بن منصور الحَلاّج حينما قال:

أنا مَن أهوى، ومَن أهوى أنا

نحن روحـان حلَلْنــا بَدنا

فإذا أَبصـرتَني أبصرتَــهُ

وإذا أبصرتَهُ أبصرتَـــنا

(ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج 2، ص 141).

أقول: حينما تكون قلوب النخبة وعقولها عامرة بانتماء له هذا العمق، وبإيمان له هذا الصدق، حينذاك تُشرق القرارات البنّاءة، فتنتقل بالشعوب من الظلمة إلى النور، ومن الانقسام إلى الوحدة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الذلّة إلى العزّ، ومن العبودية إلى الحرية، وحينذاك تتحرر الأمة من جاذبية مدارات الاغتراب عن الذات، وتنتصر على روح الهزيمة، وتتفوق على ثقالة العجز واليأس والضياع.

أما حينما تكون قلوب النُّخَب وعقولها عامرة بالأنانية، وبما ينجم عن الأنانية من غفلة وضيق أفق إلى درجة ارتكاب الخيانة، وحينما تنظر تلك النخب إلى الوطن على أنه مجرد مزرعة للاستغلال، وإلى الهوية على أنه مجرد جلباب تخلعه متى تشاء، وإلى الشعب على أنه مجرد مجموعات من المرتزقة والحشم والخدم والقاصرين عقلياً؛ فحينذاك تُبتلى الأمم بالقرارات الهدّامة المدمّرة، وتنحدر إلى أسفل سافلين.

وثمة في تاريخ كل أمة قرارات خطيرة اتخذتها تارة نُخَب (عِشق الأمة)، واتخذتها تارة أخرى نُخب (عِشق الذات)، وقد اتّضح لي- في حدود ما أعرف إلى الآن- أن أكثر القرارات خطورة في التاريخ الكردي القديم قراران اثنان:

1 – القرار الخطير الذي اتخذته النُُخب الميدية بزعامة دياكو، لتشكيل اتحاد قبائل ميديا، وبناء العاصمة الوطنية إگبتانا، وتشييد القصر الملكي، وإصدار التشريعات والمراسيم الضابطة المنظِّمة، والانتقال بذهنية الإنسان الميدي من الهوية القَبَلية إلى الهوية الوطنية، ومن مفهوم الجغرافيا القَبَلية إلى مفهوم الجغرافية الوطنية.

2 – القرار الخطير الذي اتخذته النخب الميدية بزعامة هارپاگ وأقرانه، للإطاحة بالملك الميدي أستياگ، وفتح أبواب العاصمة الوطنية إگبتانا للجيش الأخميني المحتل، وتقديم العرش الملكي الميدي للزعيم الأخميني كورش على طبق من ذهب.

حقاً إن وصية قمبيز إنما خرجت من تحت عباءة القرار الهارپاگي، ولولا القرار الهارپاگي لما كانت وصية قمبيز أصلاً، ولما وصلت الأمور بالميديين، وبأحفادهم الكرد من بعد، إلى الحالة التراجيدية التي وصلوا إليها.

وعلى أية حال لم تقتصر القرارات الخطيرة الصادرة عن النهج (الهارپاگي) في تاريخ الكرد عند سقوط دولة ميديا سنة (550 ق.م)، وإنما كانت تظهر فجأة في حياة الكرد بين حين وآخر، فتُحدث منعطفات حادّة في مصيرهم، وتقذف بهم من برزخ إلى برزخ، وإلا ففي أيّ نهج يمكن أن نصنّف فتوى رجل الدين الكردي ملاّ خاطي، في إحدى ثورات الكرد ضد الدولة العثمانية (لا يحضرني الآن اسمها)، بأن كل من ينضم إلى الثورة هو مرتدّ عن الإسلام، وزوجته منه طالق، وكانت النتيجة طبعاً انهيار الثورة؟ وفي أيّ نهج يمكن أن نصنّف انشقاق يَزْدانْ شَير على عمّه بدرخان بگ سنة (1847 م)، وانضمامه بمن معه من القوات الكردية إلى الجيش العثماني؛ الأمر الذي أدّى إلى إحداث شرخ كبير قَصم ظهر الثورة الكردية، ولم يبق خيار أمام بدرخان بگ سوى الاستسلام. (أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ص 93).

والحقيقة أن هذا النهج الهارپاگي، نهج الأنانية والغفلة والخيانة، موجود في تواريخ معظم الشعوب، لكنه لم يعمّر في تاريخ شعب طوال خمسة وعشرين قرناً كما هو الأمر في تاريخ الكرد، تُرى ماذا وراء هذه الظاهرة الغريبة؟ هل لها علاقة بنظرية (القابلية)؛ أقصد قابلية الأنانية والغفلة والخيانة؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الدوافع والعوامل التي أنتجت هذا النمط من (القابلية) في ذهنية بعض النخب الكردية؟ وهل هو قَدَر كردي له علاقة بالشخصية الكردية، أم أنه نتاج قصور في (الوعي)، وأحد إفرازات التخبط في تشخيص (المصلحة)، وهذان عاملان يمكن التغلب عليهما؟

حبّذا أن يمنح المفكرون الكرد هذه الظاهرة بعض اهتمامهم.

ولنعد إلى وصية قمبيز، فطوال خمسة آلاف عام، لم تكن هذه الوصيّة هي المشروع الوحيد الذي اعتمدته جهات غرب آسيوية، أو جهات عولمية، للنيل من الكرد أجداداً وأحفاداً، ولسلبهم الجغرافيا والتاريخ والهوية، ولوضعهم بين خيارين أحلاهما مُرّ): إما البقاء أتباعاً ومرتزقةً وعبيداً. وإما الفناء بالصهر والقتل.

بلى، لم تكن وصية قمبيز هي المشروع الوحيد في هذا المجال، لكن- في حدود معرفتي بتاريخ الكرد القديم- يمكنني الجزم بأن هذه الوصية كانت أخطر تلك المشاريع، وأشدها إلحاقاً للأذى بمصير الكرد، وأنها الأب الروحي لكل ما اتُّخذ ضد الكرد من إجراءات إقصائية وإلغائية منذ (25) قرناً، ولذلك أعدّ سنة (522 ق.م) هي السنة التي ولد فيها تأسيس أول مشروع رسمي ومنهجي لأبلسة الكرد، تمهيداً لإلغائهم من تاريخ البشرية جملة وتفصيلاً.

وإليكم أبرز النتائج التي ترتّبت على وصية قمبيز.

نتائج وصية قمبيز

أولاً - على الصعيد السياسي:

إن أهم أمر حرص عليه القادة الفرس، بعد السيطرة على دولة ميديا، هو الحؤول دون عودة الحياة إلى  مفاصل التكوين السياسي الميدي، وتحطيم كل محاولة تسير في هذا الاتجاه؛ لأنهم كانوا يعلمون أن إحياء دولة ميديا يعني إمكانية أن يفقد الفرس مركز الزعامة إقليمياً وعالمياً، بل قد يفتح المجال لعودة الميديين إلى السيطرة عليهم من جديد، وتحويلهم إلى أتباع لهم.

وكان عهد دارا الأول هو عهد تحطيم كل محاولة ميدية للخلاص من السيطرة الفارسية، كما أنه كان عهد تدشين مشروع تفريغ ذاكرة الأجيال الميدية من أية ذكريات وطنية وقومية تربطهم بهويتهم الأصلية، وقد مرّ في حلقات سابقة أن بعض النخب الميدية تنبّهوا إلى خطورة ما كان يقوم به دارا، فقاوموه وثاروا على الحكم الفارسي، وكان دارا بالغ القسوة في التعامل معهم، وها هو ذا يخلّد في نقش بيستون كيفية فتكه سنة (521 ق.م) بزعيم ميدي ثائر يدعى فراورت، قائلاً:

" فرورتيش أََلقَوا القبض عليه، وجلبوه عندي، أنا قطعت أنفه وأذنيه ولسانه، وفقأت عينيه، وربطوه بالقيود في بلاطي، كي يراه جميع المواطنين الأحرار، عند ذلك أمرت أن يرموه بالسهام في إگباتانا، والذين كانوا يؤيّدونه من البداية أعدمتهم في إگباتانا داخل القلعة". (دياكونوف: ميديا، ص 410).

وهكذا أصبحت وصية قمبيز بالقضاء على كل محاولة لإحياء الدولة الميدية أمراً مقدّساً عند النخب الفارسية، تنزل البركات الإلهية على من يلتزم به، وتحلّ اللعنات على من يهمله، ونتيجة لذلك انهار الاتحاد الذي كان يجمع قبائل ميديا، وبمرور القرون نشط الانتماء القبلي الضيق الأفق في المجتمع الميدي من جديد، وما لبث أن تَعملق وحلّ محلّ الانتماء الوطني/ القومي، واجتاز الميد العهد الأخميني فالسلوقي فالبارثي فالساساني وهم على تلك الحال، وعبروا إلى العهود الإسلامية، ثم إلى العصر الحديث، دون أن يمتلكوا القدرة على تأسيس تكوين سياسي شبيه بدولة ميديا، ويحفظ لهم الجغرافيا والهوية.

ثانياً - على الصعيد الثقافي:

إن القضاء على دولة ميديا، وسلخ مؤسساتها، وتسخيرها لخدمة المشروع الأخميني التوسعي، أدّى بطبيعة الحال إلى ضرب المؤسسات الثقافية الميدية، وتفكيك بناها، وشلّ نشاطاتها، والحيلولة بينها وبين التواصل مع الجماهير الميدية، وكانت النتيجة وقف عملية تطوير ثقافة وطنية، تكون حاضنةً لوعي جمعي مشترك، ومنصةً معرفية تنطلق منها النخب الثقافية والسياسية الميدية؛ لتوحيد المكوّنات القَبَلية تحت راية واحدة، وإنجاز مشروع وطني/قومي مشترك.

وأحسب من الخطأ البحث في الصراعات السياسية الكبرى- سواء أكانت في إطار الأمة الواحدة أو بين أكثر من أمة- بمعزل عن دور الأيديولوجيا، وهذا ما ينبغي أن نأخذه بالحسبان في الصراع الفارسي- الميدي؛ ففي المواجهة بين النخب الفارسية بقيادة دارا الأول من جهة، والأخوين الميديين پيرتزيثيس وسميرديس من جهة أخرى، كان يشار إلى الميديين بصفة (مجوس)، ووجدنا أن الانتقام، بعد مقتل الأخويين، انصبّ حصراً على (المجوس) في العاصمة الملكية، والأرجح أنها كانت إگبَتانا، وقد ذكر ديورانت، في معرض ذكر تلك الحادثة، بشأن گوماتا (سميرديس) ما يلي:

 "كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي ". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 406).

والمؤكد أن دارا الأول كان قد اعتنق الدين الزردشتي، وعندما استلم السلطة في الدولة الأخمينية اتخذ الزردشتية ديناً رسمياً للدولة، قال ديورانت في ذلك:

"ولعل دارا الأول حينما اعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً مُلهماً لشعبه، فشرع منذ تولّى المُلك يثير حرباً شعواء على العبادات القديمة، وعلى الكهنة المجوس، وجعل الزردشتية دين الدولة". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 426).

وقال هارڤي بورتر في هذا الشأن:

" ودين الفرس هو دين زرادُشْت الذي ذكرناه في تاريخ الميديين، ولمّا غلبوا الماديين نسخوا مذهب المجوس الفاسد، لكن سمردس الكاذب (أي غوماتيس) أعاده؛ إذ كان مجوسياً، لكن داريوس الذي خلفه أهلك المجوس بعد ارتقائه، وتمسّك بالمذهب القديم ". (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 178).

والدليل على صحة ما ذهب إليه كل من ديورانت وهارڤي بورتر قول دارا، في نقش بيستون، مفتخراً بإنجازاته بعد القضاء على حركة الأخوين الميديين:

" إن المعابد التي هدّمها گوماتا أنا أصلحتها كما كانت، والتي أخذها گوماتا الموغ أرجعتها". (دياكونوف: ميديا، ص 401).

ولعل الأمر يصبح أكثر وضوحاً إذا أخذنا في الحسبان أمرين اثنين:

الأمر الأول أن المثرائية متجلية في (الأزدائية/اليزدانية) كانت الدين الآري السابق على الزردشتية، وكان الكهنة الذين يتولّون الشؤون الدينية ينتمون حصراً إلى القبيلة الميدية ماجُويي (ماغُويي Magoi)، وقد تحوّل لقب (ماغويي) إلى كلمة (ماغوس/مجوس) Magos اليونانية، ومنه جاءت كلمة (مَجُوس) العربية، وكلمة  Magic (السحر) الإنكليزية. (جفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوب، هامش ص 131).

وكانت طبقة المجوس تشبه طبقة الكهنوت العبراني التي كانت تنتمي إلى قبيلة اللاويين حصراً، وتشبه أيضاً طبقة الكهنوت الوثني العربي المكي التي كانت تنتمي إلى بني عبد مَناف من قبيلة قُريش حصراً، وهؤلاء الماجويي (المجوس) هم الذين وقفوا ضد زردشت، وهم الذين كان ينتمي إليهم الأخوان الميديان پيرتزيثيس وسميرديس.

والأمر الثاني أن زَرْدَشت ميدي من أورميا، وعندما أعلن نبوّته، ودعا إلى الزردشتية، وقاومه الكهنة المجوس- وبالتأكيد أن الدولة كانت متضامنة معهم في ذلك- هاجر إلى مقاطعة باكتريا (باختريا) في شرقي آريانا (إيران حالياً)، واعتنق فشتاسپ (هيستاسپ= هشت أسپ) حاكم باكتريا الدين الجديد، ويستفاد مما رواه المؤرخ ابن العِبْري (غريغوريوس المَلطي) أن دارا الأول هو ابن فشتاسب، فلا عجب إذاً أن يكون أكثر المتحمّسين للقضاء على حركة الأخوين الميديين، وأن يكون هو قائد الزعماء الفرس الستة الآخرين الذين شنّوا الهجوم على الأخوين. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 91. المقدسي: البدء والتاريخ، ج 3، ص 149. ابن العبري: تاريخ مختصر الدول، ص 49. نوري إسماعيل: الديانة الزردشتية، ص 15).

وجملة القول أن الصراع الفارسي- الميدي لم يكن سياسياً فقط، وإنما كان صراعاً أيديولوجياً أيضاً، وقد أبقى الأخمين على الدين المجوسي (الأزدائية/اليزدانية) في عهد كورش وقمبيز؛ لتطمين المجتمع الميدي وتسكيته، لكنهم بعدئذ أفسحوا المجال للزردشتية كي تنشط ضد الدين القديم، وتحتل مواقع متقدمة في المجتمعين الفارسي والميدي، ولذلك صبّ سميرديس الميدي اهتمامه، في حركته الانقلابية، على إيقاف المد الزردشتي، ونفخ الروح من جديد في مؤسسات الدين القديم (الأزدائي/اليزداني /المجوسي).

ومن هنا نرجّح أن الزردشتية كانت المظلة الأيديولوجية التي استظل بها  الفرس الأخمين للقضاء على التكوين السياسي الميدي (الدولة)، ونرى أن بعض الإخوة الأيزديين (الأزدائيين/اليزدانيين) يتسرّعون بإطلاق اسم (الزردشتية) على عقيدتهم، ويعدّونها الدين الكردي الأصيل، والصواب- حسبما يبدو لنا إلى الآن- أن في الأيزدية المعاصرة مؤثرات زردشتية، وذلك لا يمنع أن يكون زردشت نفسه ميدياً، فالنبي عيسى إسرائيلي الأصل، ومع ذلك صارت المسيحية أيديولوجيا إمبراطورية بيزنطا منذ عهد قسطنطين، والنبي محمد عربي، ومع ذلك صار الإسلام أيديولوجيا الترك في العهدين السلجوقي والعثماني، كما أنه صار أيديولوجيا الفرس منذ العهد الصفوي.  

ثالثاً - على الصعيد الاقتصادي:

بعد أن خسر الميديون دولتهم كان من الطبيعي أن يخسروا كثيراً من الموارد الاقتصادية، وأن تذهب تلك الموارد إلى خزانة الدولة الأخمينية، وإلى جيوب النخب الفارسية في الدرجة الأولى، وأن يبقى للميديين الفتات، بلى، خسر الميد سيطرتهم على شبكة طريق الحرير المار ببلادهم، وتحديداً بعاصمتهم إگبَتانا (هَمَذان)، وبمدينتهم الكبرى الأخرى (رَغَهْ= الرَّي)، وبغيرهما من المدن الميدية.

وهذا يعني أن النفوذ التجاري انتقل من أيدي النخب الميدية إلى أيدي النخب الفارسية، وليست الجيوش فقط تزحف على بطونها، كما قال نابليون، وإنما الشعوب تزحف على بطونها أيضاً، فشعب فقير جائع لا يمكن أن يحتفظ بسِلمه الداخلي، ولا يمكن أن يصنع حضارة، ثم لا ننسى أن التاجر ليس صانع ثروة فقط، وإنما هو صانع ثقافة وصانع سياسة أيضاً، فالبضاعة ثقافة، والثقافة سياسة، والتعامل مع البضاعات والصناعات يعني التعامل مع الثقافات والحضارات.

وحينما خرجت دفّة الحركة التجارية من أيدي الميديين فذلك يعني أن المجتمع الميدي خسر التعامل مع الثقافات والحضارات، وسيق إلى العزلة إقليمياً وعالمياً، وإذا ضممنا إلى خسارة الميد في مجال التجارة أنهم صاروا يدفعون الضرائب للدولة الأخمينية، وأن موارد بلادهم صارت ملكاً مستباحاً للدولة المسيطرة، لا نرى من العجب أن ينعزل الميد في أريافهم ومراعيهم، ويصبحوا فريسة للفقر، ويكون أقصى همّهم هو الكد للاحتفاظ بالبقاء.

وأحسب أن سيكولوجيا الجبال لم تكن غائبة عن إيصال الميديين إلى المزيد من العزلة والانجماع على الذات، وهذا واضح في سلوك الكردي، فقد رسّخت بيئةُ الجبال في الشخصية الكردية الأصيلة نزعةَ الاعتداد بالذات، والشعورَ بالأنفة وعزة النفس، لا فرق في ذلك بين غني وفقير، وعندما يجد الكردي الأصيل نفسه في موقف يجرده من هذه السمات يستبد به الغضب ويثور، وقد يُقدم على الموت.

وكي يجمع الكردي بين الاحتفاظ بكرامته والبقاء حياً، وجد الحل في العزلة الاختيارية والانجماع على الذات، متنازلاً عن رفاهية العيش، وراضياً بقسوة الحياة مهما كان بطشها، ومن خلال معرفتي الدقيقة بالثقافة العربية القديمة، وبالشخصية العربية البدوية، أجد بين الكردي والعربي البدوي الأصيل قاسماً مشتركاً في هذه الخَصلة، وأحسب أن هذا القاسم المشترك كان من الدوافع التي جعلت بعض النسّابة العرب القدماء يصنّفون الكرد ضمن شجرة الأنساب العربية.

رابعاً - على الصعيد الاجتماعي:

بعد أن خسر الميد تكوينهم السياسي (الدولة)، ومظلتهم الأيديولوجية، ومواردهم الاقتصادية، ماذا يُنتظر أن يحلّ بهم اجتماعياً؟ ولا سيما أن المجتمع الميدي كان قَبَلياً في الأصل، وكان حديث عهد بدولة تلمّ شتاته، وتنظّم أموره، وتقيم جسراً بين مفهوم (القبيلة) ومفهوم (الوطن)؛ هل يُنتظر من مجتمع كهذا أن يبقى بمعزل عن الصراعات القَبَلية؛ مع وجود الإغراءات التي كان الحكّام الفرس يقدّمونها للنخب الميدية، بتقريب هذا واستبعاد ذاك؟

وقد مر في صفحات سابقة أن النخب الميدية خذلت الأخوين الميديين پيرتزيثيس وسميرديس، حينما قاما بحركتهما لاسترداد الحكم الميدي، وأن ملوك فارس كانوا يقضون على ثورات ميديا بقسوة؛ مستعينين بالنبلاء الميد وبالقوات الميدية الموالية لهم، وهذا ما فعله دارا الأول للقضاء على ثورة فراورت، وعلى ثورة جيتران تخمه بعد فترة قصيرة. (دياكونوف: ميديا، ص 410).

وعدا مسألة انهيار مشروع الدولة الحامية للجغرافيا والهوية- وكان الزعماء الميد الأوائل (دياكو، خشتريت، كيخسرو) بذلوا جهوداً جبّارة لتأسيسه- أصبح المجتمع الميدي مفتوحاً لمشاريع التخريب والتدمير، وبات من السهل تجريده من قيمه الوطنية/القومية والخلقية، لقد شُوِّهت مُثُله العليا، وسيقت رموزه التاريخية إلى الظلمة، وصارت منظومته المعرفية عُرضة للاختراق، فحلّت المُثل والقيم والرموز القَبَلية أو الأجنبية محلّ المُثل والقيم والرموز الوطنية/ القومية، وذلك أخطر ما يمكن أن تتعرّض له أمة من الأمم.

خامساً - على الصعيد الحضاري:

الحضارة إنجاز مؤسساتي، ولا مؤسساتية خارج (الدولة)، ولا دولة خارج (الجغرافيا الوطنية)، وخارج جمهور متجانس (شعب، أمة)، يستظل بثقافة وطنية أصيلة، وعندما يخسر شعب ما تكوينه السياسي الجامع المانع (الدولة)، ولا يسيطر على جغرافياه (الوطن)، وينقسم على نفسه مجتمعياً، فيغترب بعضه عن البعض الآخر، وتُفرَض عليه ثقافة غريبة عنه مُثُُلاً، ومبادئ، وقيماً، ورموزاً دينية ووطنية وقومية، وتتقوّض منظومته الاقتصادية، هل يمكن- والحال هذه- أن يكون منتجاً للحضارة؟ وهل يمكنه أن يترك بصماته على مسيرة التاريخ البشري؟

وبعد أن سقطت دولة ميديا في أيدي النخبة الفارسية، وخسرت الأسس والأطر والضوابط والمستلزَمات المشار إليها؛ فهل من العجب أن يخسر الميديون موقعهم الريادي في مسيرة الحضارة، بعد أن خسروا موقعهم القيادي في غربي آسيا؟ وهل من العجب أن يجترّ المجتمع الميدي مرارة التخلّف، ويتحول القسم الأكبر منه إلى رعاة، يرتادون بقطعانهم شعاف الجبال، بحثاً عن الاحتفاظ بالبقاء، وبدرجة أكبر بحثاً عن الحرية، في حين تحوّل الباقون إلى  فلاحين يعيشون حياة بدائية، ولا يعرفون من المدنية إلا هوامشها؟

وثمة ظاهرة مثيرة للاستغراب؛ وهي أن الميديين احتفظوا بشهرتهم العالمية في العهد الأخميني الأول، وتحديداً من عهد كورش الثاني إلى عهد أَحْشَويرش بن دارا الأول، والدليل على ذلك أن الملوك الأخمينيين كانوا يُخاطَبون رسمياً، من قِبل الماساجيت شرقاً، ومن قِبل الإغريق غرباً، بلقب (ملك الميديين). (انظر تاريخ هيرودوت، ص 126، 477، 628).

ثم تضاءلت شهرتهم في العهد البارثي حوالي (249 ق.م- 226 م)، ومع نهاية العهد البارثي، وبداية العهد الساساني (226 – 651 م)، وعلى نحو غير عادي، غاب اسم الميديين، وحلّ محلّه اسم (كُرد) Kurd، وقد تنبّه الباحث الأرمني أرشاك سافراستيان إلى دور البارث والساسانيين في تغييب اسم (الميد)، وتعويم اسم (كرد) بدلاً منه قائلاً:

 

" ويبدو أن الملك الساساني أرتخشير [= أردشير]، مدمّر العرش البارثي، حوّل الاسم القديم گوتي (جُوتي) Guti إلى كُرد kurd، وقد اقتبس المؤرخون المسلمون الكبار، أمثال الطَّبَري والمَسْعودي، هذا الاسم من العهد الساساني، ووصل إلى العصور الحديثة على هذا النحو (كُرْد- kurd) ". (أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ص 23).

وهذا الاسم (كرد) بحاجة إلى إخضاعه للبحث العلمي الدقيق، تُرى هل هذه هي صيغته الأصلية؟ أم هي (گُرد) Gurd ؟ أم هي (كورت) Koort  التي تعني بالتركية وبالفارسية الحديثة (ذئب)، حسبما ذكر أرشاك سافراستيان؟ (الكرد وكردستان، ص 23).

وللمرء أن يتساءل أيضاً: ما هو منشأ هذا الاسم على وجه التحديد؟ وهل هو صيغة متطورة من اسم (كاردونياش) الذي كان يُطلق على مملكة بابل في عهد الكاشيين؟ (نائل حنون: حقيقة السومريين، ص 136) أم أنه مشتق من اسم (كورتاش) Kurtash الذي كان يُطلَق على مجموعات مختلفة من المواطنين الأحرار العاملين في الورشات؟ (دياكونوف: ميديا، ص 305) أم أنه هو نفسه اسم شعب (كردوخ) Kurdukh  الذي ذكره اكسنوفان، وذكر أن أبناء هذا الشعب هم "الميديون الذين سكنوا فيما مضى مدناً كبيرة ثم هجروها" ؟ (أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ص 41).

إن أرشاك سافراستيان يقول بهذا الصدد:

" وقد اقتبس المؤرخون  اشتُق اسم كُرد Kurd من أرض ومملكة گوتيوم (جُوتيوم) Gutium ، ومن شعب گوتي Guti، وذلك بحذف حرف الراء R بعد حرف العلة u (Guti = Gurt )؛ وهذه قاعدة لغوية تطبّق بشكل عام على كل اللغات الهندو- أوربية، وخاصة الشرقية منها؛ مثل الكردية والأرمنية والسنسكريتية والإغريقية". (أرشاك سافراستيان، الكرد وكردستان، ص 23).

والحقيقة أن تغييب اسم الميديين واحد من أبرز الأهداف التي أفلح أصحاب مشروع (أبلسة الكرد) في تحقيقها؛ فكي تُفقد شعباً توازنه الوجودي، وتُدخله إلى المتاهات، وترمي به في غياهب التاريخ، يكفي أن تَسلبه هويته الأصيلة، وتُحدث قطيعة بينه وبين ثقافته الوطنية والقومية، إنه عندئذ سيخطئ الطريق إلى نفسه، وسيسهل عليك أن توهمه بأنه هو، في الوقت الذي يكون قد تحوّل إلى مسخ.

وما يهمّنا الآن هو المفارقة الكبرى بين الاسم القديم (ميدي)، والاسم الجديد (كرد)، والذي تحوّل في بعض كتب التراث العربي الإسلامي إلى صيغة (أكراد) قياساً على صيغة (أعراب)؛ فالاسم (ميدي) مرتبط في الذاكرة الوطنية والإقليمية والعالمية بأمجاد الشعب الميدي الذي أبى الخضوع للدولة الآشورية، وثار في وجهها مرة تلو أخرى، إلى أن أسقطها، وأزاح كابوسها الثقيل عن جميع شعوب غربي آسيا، وهو إنجاز فريد عجز عنه الآخرون، كما أن اسم (ميدي) مرتبط بأمجاد الدولة الميدية التي ذاعت شهرتها في العالم، والتي كانت حينذاك سيدة الشرق الأوسط إلى جانب مملكة بابل ومملكة ليديا ومملكة مصر.

أما اسم (كُرد، كردان، أكراد) فارتبط في الذاكرة الوطنية والغرب آسيوية والعالمية بحال الميديين وأحفادهم وقد تحوّلوا إلى رعاة في الجبال، وفلاحين في السهول والوديان، وزُحْزحوا، بعد تقويض دولتهم، من دائرة الفعل الحضاري النشط، إلى دائرة الجمود والجهل والتخلف والاقتتال القبلي، وقطع طرق التجارة، لا بل إن اسم (كردي) تحوّل في الثقافة الفارسية، مع أواخر العهد البارثي، إلى شتيمة، وهذا واضح في رسالة أَرْدِوان آخر ملوك البرثيين (الأرشاكيين) إلى أَرْدَشِير بن بابك أوّل ملوك بني ساسان، مهدّداً، وقائلاً له:

" أيها الكرديّ المُرَبَّى في خيام الأكراد، مَن أَذِن لك في التاج الذي لَبِسْتَه, والبلاد التي احتوَيتَ عليها، وغَلَبْتَ ملوكَها وأهلَها "؟ (الطبري: تاريخ الطبري، ج 2، ص 39).   

حقائق وتساؤلات

ولعلي أُكثر الحديث في مسألة (الثقافة)، هذا مع زُهدي في التَكرار، ونفوري من الفضول، غير أن دور الثقافات في رسم السياسات، وما أنزلته ثقافات الإقصاء والإلغاء من كوارث بالبيت الغرب آسيوي، يحملني على أن أكرر القول بأن مشكلتنا الأساسية- نحن شعوب غربي آسيا، شعوب الحضارات والأديان العريقة- هي في ثقافاتنا، إنها- وهذا مخيف- ثقافات بهويتين متناقضتين، وكأنها مصابة بانفصام في الشخصية؛ فهي روحانية ومثالية في الظاهر، وتنطوي ضمناً على قدر هائل من النرجسية، سواء أكانت قومية أم دينية أم مذهبية أم قَبَلية، إن ثقافاتنا أشبه بالسور الفاصل بين أهل الجنة وأهل الجحيم حسبما جاء في القرآن (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ). (سورة الحديد، الآية 13).

 والظاهر أن البعد النرجسي في ثقافات غربي آسيا قد اعتقل البعد المثالي فيها، واتخذه رهينة، وصار الممثل الوحيد له، وشرع يرتكب باسمه مختلف أشكال التلبيس والتدليس والمكر، ويمارس باسمه شتى أنواع الفظاظة والإقصاء والإلغاء، ولست هنا في معرض رمي الكلام جُزافاً، ولا بصدد إطلاق العنان للتشويه والتجريح؛ مع أن ذلك أصل من أصول ثقافتنا الغرب آسيوية، إنني هنا بصدد توصيف ما هو واقع، وتقييم ما هو كائن، ليس أكثر.  

ومن ألوان التلبيس والتدليس والمكر في الثقافات الغرب آسيوية المعمِّرة إيصالُ طرف ما (شخص، جماعة، شعب) إلى حالة سيّئة معيّنة، وإخضاعُه لظروف غير عادية واستثنائية، ثم الشروعُ في ملاحقته ومحاسبته على أنه هو المسؤول عما ينجم عن تلك الحالة، وعما يتولّد عن هاتيك الظروف، والأمثلة على ذلك، في تاريخ غربي آسيا، كثيرة، وكان الكرد أكثر من ذهب ضحية هذا المكر.

وإليكم تفصيل ذلك.

فبعد أن أفلحت السياسات الفارسية في تجريد الميديين (الكرد بعدئذ) من التكوين السياسي (الدولة)، وفي تقويض منظومتهم الثقافية والمجتمعية والاقتصادية، وإخراجهم من دائرة التفاعل الحضاري، وتحويل بعضهم إلى أتباع ومرتزقة، وتحويل القسم الأكبر منهم إلى ريفيين ورعاة، معزولين ومنعزلين، همّهم الأساسي هو الاحتفاظ بالبقاء تحت أكثر الظروف قسوة، وبعد أن تمّ تجريدهم من اسمهم التاريخي المجيد (الميد)، وتسويق الاسم البديل (كرد)، بدلالته الرعوية طبعاً، أصبح الكرد فريسة سهلة بين براثن وأنياب كهنة ثقافات الإقصاء والإلغاء في غربي آسيا، وصارت حالهم كحال الأيتام في مآدب اللئام.

بلى صار الكرد، إثنياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، شعباً مستباحاً لأصحاب الذهنيات النرجسية، سواء أكان أصحاب تلك الذهنيات محترفين أم هواة، إنهم شرعوا يمارسون عليه جميع ألوان التلبيس والتدليس والمكر والفظاظة، ويُلصقون به ما يشاؤون من أفانين الافتراء والانتقاص والتشويه والتجريح، جهاراً نهاراً، ودونما أيّ التزام بما تفرضه الأديان من تقوى لله، وما يقتضيه المنطق من واقعية، وما تتطلبه النزاهة من موضوعية.

وإلا فما معنى أن يُنسَب الكرد تارة إلى سلالة الشيطان (الجَسَد) الذي زنى بالجواري المنافقات في قصر النبي والملك العبراني سليمان؟ وما معنى أن يُنسبوا تارة أخرى إلى أنهم من سلالة الجواري الهنديات اللواتي سباهن النبي والملك العبراني سليمان، ووضعهم في جزيرة، واللواتي زنى بهن الجن الذين خرجوا من البحر؟ وما معنى أن يُقال تارة ثالثة بأنهم حيّ من أحياء الجن كشف الله عنهم الغطاء، وأن يُصرَّح بالتحذير من التعامل معهم تزاوجاً وبيعاً وشراءً؟ وما معنى أن يقال عنهم تارة رابعة بأنهم طرداء الطاغية بِيُوراسف (بيوراسب/الأزدهاك/ الضحّاك)؟ (انظر الحلقتين الأولى والثانية من هذه السلسلة).

وما معنى أن يحتار النسّابة في أمر أصل الكرد، فينسبونهم إلى الفرس تارة، وإلى الآشوريين تارة أخرى، وإلى العرب تارة ثالثة؟ وما معنى أن يُصنَّفوهم حيناً ضمن سلالة سام بن نوح، وأخرى ضمن سلالة حام بن نوح، وثالثة ضمن سلالة يافث بن نوح؟ وما معنى أن يكون الكرد وحدهم (حَرَقة الأنبياء) باعتبار أن الرجل الذي اقترح رمي النبي إبراهيم في النار كردياً؟ وما معنى أن يقال بأن إبليس و(الأكراد) حلف أبدي، فهم لا يخالفونه، وهو معهم في راحة؟

وما معنى أن تُسنَد روايات تشويه صورة الكرد إلى أنبياء عظام (إبراهيم، سليمان، محمد)، وإلى ملوك (أزدهاك)، وإلى صحابة (عبد الله بن عبّاس، عبد الله بن عمر بن الخَطّاب، أبو هُرَيْرة)، وإلى تابعين (عَكرِمة)، وإلى أئمة (جعفر الصادق)، وإلى نسّابة كبار (ابن الكَلْبي، أبو اليَقْظان)، وما معنى أن يتناقل تلك الروايات عدد من كبار مثقفي غربي آسيا القدماء، بعضهم مفسرون للقرآن (الطبري، البَغَوي، الرازي، القُرْطُبي، ابن كَثير)، وبعضهم مؤرخون (الطبري، المسعودي، اليعقوبي)، وبعضهم جغرافيون (ياقوت الحموي)، وبعضهم لغويون (الزَّبيدي)، وبعضهم موسوعيون (ابن قُتَيْبة الدِّينَوَري، الجاحظ، الراغب الأصبهاني)؟

ثم ما معنى أن يثار كل هذا الضجيج والعجيج حول أصل الكرد وحدهم، وأن تُحاك حولهم الخُزَعبلات، وتُلصق بهم الاتهامات، ويصبحوا وحدهم عُرضة للتشويه السافر من بين شعوب غربي آسيا؟ ولماذا لا نجد بعض هذا الضجيج والعجيج، وبعض هذه الخُزَعبلات، وبعض هذا التشويه والتبشيع، بشأن سكّان البيت الغرب آسيوي القدماء (العرب، الآشوريون، العبرانيون، السريان، الفرس، الأرمن)، وبشأن جيرانهم المحدَثين (الترك)؟ ولماذا كان مباحاً أن تُخرَق جميع الشرائع السماوية، وجميع مقتضيات المنطق، وجميع معطيات الواقع، حينما كان الأمر متعلقاً بتشويه صورة الكرد؟

أليس معنى ذلك أن الحالة الغريبة التي تم إيصال الكرد إليها، بتأثير من نتائج وصية قمبيز، وبتخطيط من النخب الفارسية خلال اثني عشر قرناً، هي التي جعلتهم (الكرد) في النهاية مكبّاً لنفايات ثقافات الإقصاء والإلغاء في غربي آسيا؟ وهل تلك النفايات هي غير ألوان التلبيس والتدليس والمكر والفظاظة التي أشرنا إليها سابقاً؟ ولو لم يتم تجريد الكرد (ممثَّلين في أجدادهم الميديين) من التكوين السياسي (الدولة)، ولو لم تُدمَّر منظومتهم الثقافية والمجتمعية والاقتصادية، هل كان من الممكن أن يصبحوا عرضة لكل هذا الانتقاص والتشويه والتبشيع؟

من كان يجرؤ على انتقاص العرب وفيهم النبوة والخلافة والسيادة؟ ومن كان يجرؤ على انتقاص الفرس ومنهم الوزراء والقادة والمثقفون الكبار في العهد العباسي الأول، ثم منهم الملوك في العهد البُوَيْهي؟ ومن كان يجرؤ على انتقاص الترك وقد وصلوا إلى مواقع عسكرية رفيعة في الدولة العباسية بدءاً من خلافة المأمون، ومروراً بخلافة المعتصم، وانتهاء بخلافة المتوكل؟ ألم يكن ذلك هو الدافع الذي حمل الأديب والمفكر الكبير (الجاحظ) على أن يؤلف بحثاً طويلاً بعنوان (رسالة الترك) يشيد فيه بشجاعة الترك وبسالتهم؟ بل من كان يجرؤ على انتقاص الترك وقد بسطوا سيطرتهم على غربي آسيا منذ سنة (447 هـ = 1055 م) وإلى بداية القرن العشرين؟

شعوب ومرجعيات

وقد يقال: حسناً، إن الموقع السيادي الذي تمتع به العرب والفرس والترك، في تاريخ غربي آسيا، هو الذي حال دون انتقاصهم، والعبث بهوياتهم، لكن ماذا بشأن الآشوريين والعبرانيين والسريان والأرمن؟ إن هؤلاء لم يكونوا ذوي موقع سيادي، ومع ذلك لم يصبهم ما أصاب الكرد من انتقاص وتشويه وتبشيع.

أقول: نعم، لم يكن الآشوريون والعبرانيون والسريان والأرمن أصحاب مواقع سيادية في غربي آسيا، فالشعوب الثلاثة الأولى خسرت تكويناتها السياسية منذ حوالي خمسة قرون قبل الميلاد، أما الأرمن فإنهم كانوا تابعين للميد، ثم للأخمين، ثم للبارث، ثم صاروا أصحاب شبه إمبراطورية في القرن الأول قبل الميلاد، ثم مروا بفترات كانوا فيها تابعين للساسانيين، ثم للرومان، ثم للعرب المسلمين بين (429 – 640 م). (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 90. مروان المدور: الأرمن عبر التاريخ، ص 186).

ومع ذلك ظلت هويات هذه الشعوب بمنجاة من العبث، ويعود ذلك- في تقديري- إلى عاملين مهمين اثنين:

العامل الأول: هو أن العبرانيين كانت لهم مرجعية دينية عريقة منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، أما الشعوب الثلاثة الأخرى (الآشوريون، السريان، الأرمن) فكانت قد تنصّرت في عهد مبكّر (منذ القرن الرابع الميلادي تقريباً)، وحظيت من ثَمّ بمرجعيات دينية خاصة بها، وكانت تلك المرجعيات أشبه بالخيمة التي ينضوي الشعب تحتها.

وبتعبير آخر: إن المرجعيات الدينية التي قادت تلك الشعوب- وما زالت تقودها إلى هذا اليوم- قامت مقام التكوين السياسي (الدولة)، فصانتها من التفتت والتشرذم، وحمتها إلى درجة كبيرة من مشاريع الصهر، وكانت تعدّ الممثل الثقافي والاجتماعي لها، وكانت السلطات الحاكمة- سواء أكانت فارسية أم رومانية أم عربية أم تركية - تتعامل مع تلك المرجعيات فيما يتعلق بالرعايا التابعين لها.

والعامل الثاني: هو أن تلك المرجعيات الدينية أنتجت مثقفين من المستوى الرفيع، وخاصة في مجال الدين والطب والفلك والتنجيم والفكر والأدب، كما أنتجت طبقة من كبار الاقتصاديين، وخاصة في مجال التجارة والصناعة، ومعروف أن البلاط العباسي ما كان يخلو من كبار الأطباء والمترجمين السريان، وكان الخلفاء والسلاطين والملوك والولاة بحاجة، في معظم العهود، إلى مهارات نخب تلك الشعوب، وكانت تلك النخب تقيم في مراكز السيادة والثقافة، لا بل كانت تسهم بشكل فاعل في الحركة الثقافية والاقتصادية الغرب آسيوية، وكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يصبحوا هم وشعوبهم بمنجاة من حملات التلبيس والتدليس والتشويه والتبشيع على النحو الذي تعرض له الكرد.

أما الكرد فالمشكلة أن النخب الفارسية لم تجردهم من مظلة التكوين السياسي (الدولة) فقط، وإنما جرّدتهم مما هو أهم من ذلك فيما أرى؛ ألا وهو تدمير المرجعية الدينية ممثَّلة في (المجوسية)، ومر سابقاً أن اسم (المجوسية) كان مستمداً من اسم القبيلة الميدية (ماغويي) Magoi، باعتبار أن رجال الكهنوت الميدي- وربما الآرياني بشكل عام- كانوا ينتمون إلى هذه القبيلة الميدية حصراً.

وقد  مر فيما سبق أن المجوسية كانت هي الدين الآرياني القديم، ولا سيما في ميديا وفي عهد المملكة الميدية، وكانت الزردشتية تطويراً فيها وفرعاً عليها، ومر أيضاً أنه حينما أخفق الأخوان الموغان پيرتزيثيس وسميرديس في الإطاحة بالحكم الفارسي، واستعادة الحكم الميدي، فتك الفرس بالمجوس فتكاً ذريعاً، وأخضعوهم لما يشبه الإبادة الجماعية، وخاصة في العاصمة الملكية (الأرجح أنها كانت إگبتانا)، وصارت (المجوسية) عقيدة منبوذة في العهد الفارسي، باعتبار أنها كانت الأيديولوجيا المعادية للسلطة الحاكمة.

وثمة سؤال نحسبه مهماً، وهو: أين اسم الدين الآرياني القديم الذي عُرف بعدئذ بـ (المجوسية)؟ أين اسم المثرائية، والأزدائية، واليزدانية؟ لماذا غابت هذه الأسماء المرتبطة مباشرة بالأسماء الإلهية (مِثْرا، يَزْدان) غياباً شبه تام؟ ولماذا حل اسم (المجوسية) محلها؟

وكي أوضّح المفارقة الكبرى في هذا المجال دعونا نتصوّر أن ثمة جهة ما ألغت اسم (الإسلام)، وأشاعت بدلاً منه اسم (القُرَشية) باعتبار أن النبي محمداً والخلفاء كانوا من قبيلة قريش العربية حصراً، تُرى هل ثمة مسلم عاقل يقبل ذلك؟ ألا يُعدّ ذلك طمساً لهوية الإسلام؟ ألا يُعدّ ذلك اختصاراً لدين بكامله في قبيلة واحدة، فيها المؤمن والفاسق والبَرّ والفاجر؟ أليس ذلك تجريداً للإسلام من صبغته الإلهية تمهيداً للعبث به وتشويهه وتبشيعه؟

وأحسب أن هذا بالتحديد ما تعرّضت له الديانة الآريانية القديمة، إنها جُرّدت من هويتها الإلهية المقدسة، وتم اختصارها في اسم قبيلة (الموغ)، وتحديداً باسم طائفة الكهنة الذين كانوا ينتمون إلى هذه القبيلة، وسُمّيت من ثَم (المجوسية)، تمهيداً لتقزيمها وإخراجها من الذاكرة الآريانية والعالمية، ورميها في طيّات النسيان، وأحسب أيضاً أن تغييب اسم الديانة الآريانية القديمة، وتعويم اسم (المجوسية) بدلاً منه، جرى بالتوازي مع الحملة التي شنّتها النخب الفارسية لتغييب اسم (الميد)، وتفريغ الذاكرة الآريانية والعالمية من أمجاد مملكة ميديا.

وقد تلقّف بعض المؤرخين اليونان، وفي مقدمتهم هيرودوت (مرّ أنه كان من التبعية الفارسية)، ما روّجت له النخب الفارسية، ومن خلال روايات وكتابات المؤرخين اليونان دخلت (المجوسية) إلى التراث اليوناني، ووصلت من خلالها إلى التراث العالمي، على أنها دين (المجوس) أصحاب السحر والتخريفات والخُزعبلات، وتأبّدت تلك التهمة في الكلمة اللاتينية الأصل  Magic (السحر).

وهكذا ترون أن مسألة تغييب اسم وتلميع اسم بدلاً منه في تاريخ غربي آسيا- وربما في التاريخ العالمي- لا يكون عبثاً، ولا يكون تصرفاً بريئاً، إنه أحد آليات التمجيد أو التبشيع، وبطبيعة الحال كان بالنسبة إلى (المجوسية) آلية للتبشيع، وأعتقد أن هذا التبشيع الذي رسّخته المؤسسات الفارسية في الذاكرة الآريانية خاصة، وفي الذاكرة الغرب آسيوية عامة، كانت أهم عوامل نفور الجماهير من الديانة الآريانية القديمة، ولم يقتصر الأمر على تنفير الجماهير فقط، وإنما اضطرت النخب الميدية، وخاصة طبقة الكهنة (الموغ)، إلى التخلّي عن كل ما يتعلق بالديانة الآريانية القديمة، والإقبال على البديل الذي تمّ تمجيده والترويج له؛ أقصد الديانة (الزردشتية) لكن بنسختها التي تمّ إنتاجها وإخراجها بحسب المقاسات التي تخدم مشاريع السلطات الفارسية الحاكمة.

ويبدو أن لعنة (المجوسية) أمسكت بخناق الكرد، وظلت تلاحقهم إلى أيامنا هذه، ممثَّلة هذه المرة في الديانة (الأيزدية)، باعتبار أن الأيزدية كانت في عهودها الأول محتفظة ببعض أصول الديانة الآريانية القديمة، فالمعروف في أصول الأيزدية أنها تقرّ بإله واحد هو (يَزدان)، ومعروف أيضاً أن كبير الملائكة (عَزازيل)- بحسب الرؤية الأيزدية- ظل محتفظاً بمكانته السامية، ولم ينمسخ إلى كائن شرير ملعون اسمه (أهريمن) في الديانة الزردشتية بنسخته الفارسية، واسمه (إبليس/ شيطان) في الديانات السماوية الثلاث (اليهودية، المسيحية، الإسلام).

والأرجح أن احتفاظ عزازيل بمكانته القدسية السامية أصل من أصول اللاهوت اليزداني؛ فالله (يزدان)- بحسب تلك الفلسفة- نور وخير مطلق، ولا يمكن أن تصدر الظلمة عن النور، ولا يمكن للإله الخيّر أن يُنتج كائناً شرّيراً، ويسلّطه على مخلوقاته، فالخير والشر في المفهوم اليزداني إنتاجان بشريان، والإنسان هو صانع أفعاله وأقواله، فلا داعي إلى افتراض كائن شرير باسم (أهريمن، إبليس، شيطان)؛ لتحميله وزر تلك الأفعال والأقوال.

ورغم نقاء الأيزدية من الكائن الشرير (شيطان/إبليس) فالأيزديون معروفون عند القاصي والداني في غربي آسيا، وبين الخاصة والعامة، بأنهم (عُبّاد الشيطان)، وباسم هذه التهمة صاروا عرضة للاضطهاد والمذابح، وما زالت تلك التهمة قائمة في الذاكرة الغرب آسيوية إلى يومنا هذا، وما زال الأيزديون يدفعون ثمن ذلك من أرواحهم وأموالهم، والحقيقة أنهم أُدخلوا رغماً عنهم إلى دائرة الأبلسة، في إطار المشروع الأكبر (مشروع أبلسة الكرد)، وتعرّضوا من ثم للعقوبة أكثر من الكرد اليهود والكرد المسيحيين والكرد المسلمين؛ لأنهم- أقصد الأيزديين- احتفظوا بشيء من بقايا المرجعية الدينية الكردية القديمة.

-   -   -

والخلاصة أن تدمير المرجعية الدينية الميدية (الكردية بعدئذ) على أيدي النخب الفارسية، أفقد الكرد مظلتهم الجامعة المانعة ثقافياً ومجتمعياً، وإلى حد ما اقتصادياً، وصار شعباً مستباحاً، ودخلوا- وهم على تلك الحال المضعضَعة- إلى العهد الإسلامي حوالي منتصف القرن السابع الميلادي، دخلوه دونما أي مرجعية تلم شملهم، وتنطق باسمهم مع الحكام والنخب السياسية والثقافية، وكان من الطبيعي أن يصبحوا فريسة سهلة لورثة وصية قمبيز، ولنشاطات خريجي الثقافة الفارسية في كل من مدرسة اليمن ومدرسة العراق.

وظل مشروع الأبلسة يطارد الكرد وهم يدخلون إلى العصور الحديثة، فجرّ عليهم المزيد من الإشكالات والمتاعب والمصاعب، قياساً بجيرانهم الآخرين، وخاصة أن غربي آسيا انتقل من طور التكوينات السياسية القائمة على (الجامعة الدينية) الأكثر مرونة في التعامل مع الرعية إثنياً، إلى طور التكوينات السياسية القائمة على (الجامعة القومية) الأكثر حذراً وتشدداً في هذا المجال، والأكثر ميلاً إلى تقبّل مشاريع الإقصاء والإلغاء.

وزاد في الطين بِلّة أن غربي آسيا صار، منذ القرن الثامن عشر، ملعباً مفتوحاً للسياسات الأوربية الكثيرة التعقيد، وأحسب أن هذه السياسات لم تغب عنها صورة صلاح الدين الكردي في القرن الثاني عشر الميلادي، وهو يوحّد شعوب غربي آسيا عرباً وكرداً وتركاً، ومسلمين وأيزديين ومسيحيين ويهوداً، ويقودهم جميعاً لرد الغزو الفرنجي.

والأمل معقود على أن يستيقظ مثقفو البيت الغرب آسيوي من غفوتهم الطويلة، ويتحرروا من إرث ثقافات الإقصاء والإلغاء، ويعيدوا بناء الجسور التاريخية المتينة بين مكوّنات شعوب هذا البيت، فرساً، وعرباً، وكرداً، وتركاً، وسائر المكوّنات الأخرى، ويهيّئوا المناخات الثقافية التي تساعد ساسة غربي آسيا، لا بل تشجّعهم، على رسم سياسات أكثر واقعية، مسترشدين في ذلك بالحكمة الشرقية العريقة (أَرِدْ لغيرك ما تريده لنفسك). 

المراجع

1.    أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ترجمة أحمد محمود الخليل، دار هيرو، بيروت، 2007.

2.  جفري بارندر (مشرف على التحرير): المعتقدات الدينية لدى الشعوب ترجمة الدكتور إمام عبد الفتّاح إمام، عالم المعرفة، الكويت، 1993.

3.    ابن خلّكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1969.

4.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت محمد، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.

5.     الطبري: تاريخ الطبري: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.

6.     ابن العبري (غريغوريوس الملطي): تاريخ مختصر الدول، دار الآفاق العربية، القاهرة، الطبعة الألى، 2001 .

7.    مروان المدوّر: الأرمن عبر التاريخ، دار مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الأولى، 1982.

8.    المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1970.

9.    الدكتور نائل حنون: حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2007.

10.      نوري إسماعيل: الديانة الزردشتية (مزديسنا)، منشورات دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، 1999.

11.      هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991.

12.      هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.

13.      ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957- 1958.

14.      وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959 م.

 

د. أحمد الخليل   في 19 – 7  -  2009

dralkhalil@hotmail.com

 ======

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة السابعة عشرة )

مشروع أبلسة الكرد (التأسيس ووصية قمبيز)

 

 الزعيم

الأمة المنضبطة هي وحدها الأمة القوية.

وهي وحدها الأمة التي تترك بصماتها على الجغرافيا والتاريخ.

وكي تكون الأمة منضبطة تحتاج إلى عوامل متعدّدة، لعل أهمها ثلاثة:

-       تحدّيات تَحْفِزها إلى التماسك والنهوض.

-       مشروع (قومي أو ديني أو فتوحاتي) تؤمن به وتضحّي من أجله.

-       زعيم ذكي وشجاع يوحّدها ويقودها بحزم وحنكة لتنفيذ المشروع.

وثمة حقيقة مثيرة للانتباه في تاريخ غربي آسيا؛ وهي أن ثلاث أمم سيطرت على غربي آسيا خلال خمسة وعشرين قرناً؛ وعلى وجه التحديد منذ سنة (550 ق.م)، وتولّت كل واحدة منها، في أوقات مختلفة، رسم مسارات شعوب هذه المنطقة سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، وتلك الأمم- بحسب تواريخ بروزها- هي: الفرس، والعرب، والترك. وفي كل مرة كانت العوامل الثلاثة (التحديات، المشروع، الزعيم) متوافرة، وتقوم بدورها في تكوين الانضباط، وتأمين القوة، والتمكين من الهيمنة على الجغرافيا والتاريخ.

ودعونا نحصر البحث الآن في أمة الفرس.

 فحينما يقرأ المرء التاريخ الفارسي تَبهره أخبار ملوك الفرس (كُورش، وقُمْبَيز، ودارا، وأَحْشَويرَش، وأرتَحْشَشْتا، وأَرْدَشِير، وكِسرى أَنُو شروان، وكِسرى أَبْرَوَيز)؛ وهم يقودون جيوشهم الجرّارة شرقاً باتجاه بلاد تَوران (طوران) في وسط آسيا، وغرباً باتجاه بلاد الرافدين وآسيا الصغرى واليونان وسوريا ومصر، وشمالاً باتجاه القوقاز (قَفْقاس) والبحر الأسود، وجنوباً باتجاه اليمن، فلا يجد حاجة للبحث عمّا وراء الأَكَمَة، وتفحّص البدايات؛ مع أن معرفة البدايات في تاريخ الأفراد والشعوب والدول أمر في الغاية من الأهمية.

وبالعودة إلى بدايات الشعب الفارسي يتّضح أن عوامل النهوض الثلاثة السابقة الذكر كانت قد تلاقت تفاعلت، ونقلت الفرس- بشكل مُذهِل- من دائرة الظل إلى دائرة الضوء، ومن طور الضعف والتبعية إلى طور القوة والهيمنة.

أما التحدّيات فكانت بيئية وإقليمية.

فمن الناحية البيئية كان نصف بلاد فارس صحراوياً، وكان الباقي قليل الموارد، حتى إن هارڤي بورتر قال: " وخلاصة ما يقال في تلك البلاد أنه ما كان يُتوقّع أن تخرج منها أمة قوية كأمة الفرس، أو ينشأ فيها رجال يتسلّطون على جانب عظيم من الأرض كما وقع". (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 153 – 153). وأكّد دياكونوف تلك الحقيقة قائلاً: " كانت فارس دولة فقيرة متخلّفة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية كثيراً ". (دياكونوف: ميديا، ص 329). وكان هذا الشعب الذي تغلب البداوة على حياته وشخصيته، يجاور في شمالي بلاده الميديين وهم ينعمون بجغرافيا غنية بالموارد، وبدولة إمبراطورية الطابع، قطعت شوطاً متقدّماً في الحضارة ورخاء العيش.

ومن الناحية الإقليمية مرّ أن الملك الميدي فَراوُرْت Phraortes (خَشْتريت) استكمل مشروع والده دِياكو الخاص بتحرير ميديا من السيطرة الآشورية، وأنه هاجم بلاد فارس، وألحقها بدولة ميديا، تمهيداً لمواجهة الآشوريين، وصحيح أن الفكر السياسي الميدي كان يقوم على اللامركزية، وأن ملوك ميديا- قبل عهد أستياگ- لم يتعاملوا مع حكّام الأقاليم التابعة لهم على نحو تسلّطي، بعكس ملوك أكّاد وبابل وآشور، لكن مع ذلك فالتبعية انتقاص من كرامة الأمة، وسلب لحريتها، ومصادرة لقراراتها، وكان من الطبيعي أن تشكّل تبعية بلاد فارس لدولة ميديا تحدّياً خطيراً للنخب الفارسية، ولا سيما أن تلك النخب كانت شديدة الاعتزاز بهويتها، قال هيرودوت بهذا الشأن:

" والفرس شديدو الاعتزاز بأمتهم، ويضعون أنفسهم فوق أمم الأرض، ولكنهم يتركون مع ذلك بعض الفضائل للأمم الأخرى". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 95).

وفي خضمّ البحث عن مواجهة هذين التحديين بلورت النخب الفارسية مشروعها الستراتيجي، وكان له بُعدان رئيسان: الأول هو الانتقال من (جغرافيا الحرمان) إلى (جغرافيا الوفرة). والثاني هو الانتقال من (دائرة التبعية) إلى (دائرة الاستقلال)، وبرز القائد الذكي والشجاع الذي يقود شعبه لتحقيق المشروع، وكان ذلك الزعيم هو كورش الثاني ابن قَمبيز الأول، وإن ثقة كورش بنفسه حملته على أن يقول للنخب الفارسي في خطبة له:

" يا أبناء فارس، أعيروني سمعكم، واصغوا لنصيحتي، وستنالون حريتكم، فأنا الرجل الذي اختارته الأقدار لتحريركم، ويقيني أنكم أنداد للميديين في الحرب كما في كل أمر آخر، الحقُّ ما أقول، فهيّا ولا تتردّدوا، وانزعوا عن رقابكم نير أستياجيس حالاً ". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 92).

وكان كورش يعرف أنه يخاطب آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً متحمّسة، ويعرف أن النخب الفارسية، ومن ورائهم شعب فارس، يتطلّعون بشوق إلى التحرر من السيطرة الميدية، وأنهم مستعدون للتضحية بالأرواح في سبيل ذلك، وقد أشار هيرودوت إلى ذلك قائلاً:

" كان لحديث قورش أبلغ الوقع عند مستمعيه، فلطالما كره الفرس استعباد الميديين لهم، وها هم الآن يجدون قائداً يسير بهم إلى طريق الحرية، فما كان منهم إلا أن هلّلوا لهذا الأمل الذي لاح لهم". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).

حالة فريدة

عندما يتصادم شعبان:

الشعب الأول مجروح في كرامته القومية، ومنضبط ذاتياً، وحديث عهد بالبداوة، وصلب العود، ومعتاد على خشونة العيش، ومتمرّس في تحمّل المشقّات، ويلتفّ حول مشروع ما (قومي، ديني، فتوحاتي)، ويمتاز نُخَبه بالتفاهم والتكاتف، وينضوي الجميع تحت قيادة زعيم ذكي ومتحمّس وشجاع ومحنّك.

والشعب الآخر مغترّ بسيطرته الإمبراطورية، مفتقر إلى الانضباط الذاتي، منشغل برخاء العيش، منهمك في ترف الحضارة، ولا يلتفّ حول مشروع (قومي، ديني، فتوحاتي)، وتقوده نُخب متصارعة على المناصب والمكاسب، ويقود الجميع زعيم ينزع إلى الاستبداد المفرط، ويرتجل القرارات المصيرية، ويمارس السياسات الخاطئة، ويحوّل نخب قومه إلى أعداء له.

أقول: عندما يتصادم شعبان كهذين- في أيّ عصر كان- فلا غرابة في أن يكون النصر للشعب الأول؛ وحسبنا دليلاً على ذلك أمثلة ثلاثة:

1. انتصار العرب البداة في القرن السابع الميلادي، وتحت لواء الإسلام، على أكبر إمبراطوريتين متحضّرتين؛ إمبراطورية فارس، وإمبراطورية الروم.

2. انتصار المغول البداة، في القرن الثالث عشر الميلادي، على الإمبراطورية الصينية المتحضّرة شرقاً، وعلى الإمبراطورية العربية المتحضّرة غرباً.

3. انتصار الترك العثمانيين البداة، في القرن الخامس عشر الميلادي، على الدولة البيزنطية المتحضّرة، واحتلالهم القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية سنة (1453 م).

وكذلك كانت حال كل من الفرس والميد عندما تصادما، وكان من الطبيعي أن ينتصر الزعيم الفارسي كورش على جدّه لأمه الملك الميدي الأخير أستياگ سنة (550 ق.م)، وأن تنقلب الأدوار رأساً على عقب، ويصبح الشعب الفارسي هو السيد والشعب الميدي هو التابع.

وثمة من الأدلة والقرائن والمؤشرات ما يجعلني أقول بثقة تامة: إن دولة ميديا كانت حالة فريدة في تاريخ الكرد طوال خمسة آلاف عام، وكما أن ظهورها كان نقطة تحوّل مصيري في مستقبل الكرد، فكذلك كان سقوطها وزوالها، وأجد في نفسي من الشجاعة العلمية ما يجعلني أعتقد أنه لولا جهود الزعماء الميد العظماء (دياكو، خَشْتريت، كَيْخسرو) لما كان في غربي آسيا اليوم شعب اسمه (الكرد)، ولا جغرافيا اسمها (كردستان).

وتعود فرادة الحالة الميدية- فيما أرى- إلى المزايا الآتية:

1. إنها التكوين السياسي الوحيد الذي شمل الجغرافيا الكردية من أقصاها إلى أدناها، ففاقت بذلك الدول التي أقامها أجداد الكرد من الگوتيين واللولوبيين والكاشيين، والسوبارتو، والحوريين (الميتانيين)، هذا قبل سنة 550 ق.م)، ومعروف أنه منذ ذلك التاريخ وإلى هذا اليوم لم يقم في الجغرافيا الكردية تكوين سياسي كردي (دولة) بالمستوى الذي كانت عليه الدولة الميدية.

2. إنها الحاضنة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي استوعبت جميع شرائح المجتمع الكردي في العهود السابقة عليها، وأنجزت مشروعاً وطنياً متميّزاً، لم يقتصر على تحرير الأرض فقط، وإنما تركّز على تحرير الوعي من النرجسية القَبَلية والشرذمة المناطقية، وتحرير الهوية من التسيّب والضياع والاستلاب.

3. إنها المنصّة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي انطلق منها أجداد الكرد للمشاركة بفعّالية في الأحداث الإقليمية والعالمية في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد.

بلى، إن سقوط دولة ميديا كان يعني سقوط التكوين السياسي الجامع المانع، وسقوط الحاضنة المازجة الدامجة، وسقوط المنصّة المساعدة على التحليق إقليمياً وعالمياً، وصحيح أن أستياگ مارس سياسات خاطئة، ولم يكن بمستوى أسلافه؛ لا في قراءة المزاج الميدي الجبلي، ولا في قراءة الواقع الإقليمي، لكنه- حتى وهو أسير بين أيدي أعدائه- لم يخسر حسّه الوطني (وربما القومي بمفاهيم ذلك العصر)، ولم يفتقر إلى القراءة الستراتيجية الصائبة لسقوط ميديا في القبضة الفارسية، وقد جسّد جميع ذلك في تأنيبه للقائد الميدي المتآمر هارباگ قائلاً:

"إذنْ، فأنت لست الأشدَّ لؤماً بين البشر وحسب، بل أكثر الرجال غباء،... وإذا كان لا بد لك من أن تسلّم العرش لآخر غيرك، كان الأجدر بك أن تقدّم هذه الجائزة لميدي، بدلاً من فارسي ". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).

إن أستياگ- وهو زعيم سياسي كبير في عصره- لم يطلق صفة (الغباء) على القائد الميدي هارباگ عبثاً، وإنما كان يعلم علم اليقين أن الشعب الذي يخسر مظلّته السياسية يصبح كريشة في مهبّ الريح، وأن مسألة سقوط العاصمة الملكية إكبَتانا بيد كورش الأخميني هي أبعد وأخطر بكثير من مسألة تغيير نظام سياسي غير مَرضيّ عنه، أو الإطاحة بحاكم مستبد، إن المسألة مسألة وضع مصير أمة بأكملها في أيد غريبة وناقمة، وإزاحتها من بؤرة التاريخ إلى الهامش، وسلبها القوة الوحيدة القادرة على حمايتها- وطناً وإنساناً- من مشاريع التعتيم والصهر والاستلاب؛ أقصد (التكوين السياسي).

وكم كان أستياگ محقاً في رؤيته المستقبلية لِما سيحلّ بالشعب الميدي! فمنذ سنة (550 ق.م) وإلى يومنا هذا يدفع الكرد (أحفاد الميديين) ثمن النهج الهارباگي، النهج الضيّق الأفق، النهج المؤسس على الغفلة السياسية، النهج المهووس بالأنانية العمياء؛ سواء أكانت فردية أم قَبَلية أم مناطقية أم مذهبية أم دينية، النهج القائم على الرغبة في الانتقام؛ إلى درجة ارتكاب الخيانة والمقامرة بمصير أمة.

والحقيقة أن عجلات مشروع (أبلسة الكرد)- المستمر منذ خمسة وعشرين قرناً بدأت- بالدوران يوم دخل كورش العاصمة الميدية إكبَتانا فاتحاً، وسيق آخر ملك ميدي إلى الأسر، وكان كورش هو العقل المدبّر الذي دشّن ذلك المشروع بدهاء وفي الخفاء، وعلى طريقة الذبح بريش النَّعام كما يقول المثل الكردي، وهيّأ الأرضية المناسبة- سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وإقليمياً- لتأسيس ذلك المشروع بعدئذ رسمياً وجهاراً، وبموجب فرمان ملكي، على يد ابنه ووريثه الملك قَمْبيز (كمبوجيا) سنة (522 ق.م).

ودعونا نتفحّص إنجازات كورش في ذلك الميدان.

دهاء كورش

لا أدري من هو صاحب مقولة " لا جديد تحت الشمس"، لكنها مقولة جديرة بالاهتمام حقاً، ففي تاريخ البشرية كثير من الأحداث والمواقف والممارسات المتشابهة، والجديد فيها هو الشخصيات والأمكنة والأزمنة؛ وإليكم أحد الأمثلة.

في سنة (40 هـ = 661 م) اغتيل الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب، في الكوفة بالعراق، بيد أحد رجال المعارضة (الخَوارج)، ورأى ابنه الحسن- وكان أنصار أبيه بايعوه بالخلافة ثم طمعوا فيه- أنه يخوض حرباً خاسرة ضد منافسه القوي مُعاوِيَة بن أبي سُفْيان في دمشق، فدارت بينهما مفاوضات سنة (41 هـ)، أسفرت عن قبول الحسن بالتنازل عن الخلافة لمعاوية، لقاء شروط معظمُها مكاسب مالية، "وقال له: إن أنت أعطيتني هذا فأنا سامعٌ مطيعٌ، وعليك أن تَفِيَ لي به". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 405).

فأرسل إليه معاوية  "صحيفةً بيضاءَ مختومٌ على أسفلها، وكتب إليه: أن اشترطْ في هذه الصحيفة التي ختمتُ أسفلها ما شئتَ، فهو لك. فلمّا أتت الصحيفةُ إلى الحسن اشترط أضعافَ الشروط التي سأل معاويةَ قبلَ ذلك، وأمسكها عنده، فلمّا سلّم الحسنُ الأمرَ إلى معاوية، طلب أن يعطيه الشروط التي في الصحيفة التي ختم عليها معاوية، فأبى ذلك معاويةُ، وقال له: قد أعطيتك ما كنت تطلب ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 3، ص 405).

إن هذا الموقف شبيه بما جرى بين الفريق الهارباگي المتآمر، والملك الفارسي كورش، قبل حوالي (12) قرناً من عهد الحسن ومعاوية، فأقصى ما كان يطمح إليه الفريق الهارباگي هو إزاحة أستياگ عن العرش الميدي، والانتقام منه وإذلاله، والفوز ببعض المكاسب التي يبدو أن أستياگ كان يحول بينهم وبينها؛ حسناً، وهل من المعقول أن يُحجم زعيم سياسي ذكي مثل كورش عن تقديم بعض المكاسب  المالية والمناصبية للفريق الهارباگي؛ ما داموا يقدّمون له العرش الملكي الميدي، وكل مملكة ميديا، على طبق من ذهب؟

وقد مرّ فيما سبق أن كورش هو ابن الأميرة الميدية مَنْدانا ابنة الملك أستياگ، وأنه أمضى فترات من عمره في القصر الملكي، وبعد أن شبّ صار من المقرّبين إلى جدّه، وكان الجدّ يُسند إليه تارة مهمّات عسكرية، منها توجيهه إلى أرمينيا؛ لإخضاع ملكها يَرْوانت الذي ثار على أستياگ، وتارة أخرى مهمّات سياسية، منها إرساله مبعوثاً إلى قائد الكادوسيين في جنوبي نهر آراس، كما أنه كان من المقرّبين إلى هارباگ عندما أسند أستياگ منصب القائد العسكري (وزير الدفاع حسب المصطلحات الحديثة) إلى هذا الأخير. (دياكونوف: ميديا، ص 330، 391، 393).

وهذا يعني أن كورش كان من العناصر القيادية الفاعلة في هرم السلطة الميدية، وكان عليماً ببواطن الأمور في الدائرة السياسية العليا، وما فيها من صراعات وانقسامات، وكان خبيراً في الوقت نفسه بانعكاس صراعات تلك النخب الميدية على المجتمع الميدي.

وليس من المستبعد أن النخب الميدية كانت تَعدّ كورش واحداً منهم، ولم تنظر إليه على أنه فارسي؛ وخاصة إذا أخذنا العلاقة الحميمة التي تقوم بين ابن الأخت وأخواله في المجتمع الكردي، ومن الأمثلة على ذلك الدعمُ الذي تلقّاه الأمير الأُموي مروان بن محمد من أخواله الكرد (جنود الجزيرة)، للفوز بالخلافة في دمشق سنة (127 هـ)، والدعم الذي تلقّاه الأمير العربي أبو الهيجاء عبد الله بن حَمْدان من أخواله الكرد، حينما أعلن الثورة على العباسيين في الموصل سنة (301 هـ)، وتعاطفهم بعدئذ مع ابنه الأمير سيف الدولة الحَمْداني، حاكم حلب وشمالي سوريا، باعتبار أن أمّه كانت كردية أيضاً. (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص321. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، ج 7، ص 520. أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، ص 111).

وقد استغلّ كورش معرفته وخبرته وعلاقاته تلك، وتحرّك على ثلاثة محاور:

المحور الأول تضليلي: استغل كورش مكانته الرفيعة وعلاقاته بالنخب الميدية المعادية للملك أستياگ، وعلى رأسهم هارباگ، فأوهمهم أنه واحد منهم، وأنه يعمل في إطار مشروعهم الانقلابي، وأنه لا يريد المساس بكيان الدولة الميدية؛ إلى درجة أن الفريق الهارباگي أفلح في إقناع شرائح من المجتمع الميدي بأن كورش مخلّص، وليس مغتصباً للعرش. وقد قال ديورانت في هذا الصدد:

 "وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية، وارتضوه ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد بالاحتجاج عليه". (ديورانت: قصة الحضارة، ج 2، ص 402).

وقال دياكونوف أيضاً:

" إن كورش لم يغيّر المملكة الميدية، ولم يقض عليها، بل إنه نصب نفسه ملكاً على ميديا، بينما بقي اسمه كالسابق ملك الفرس". (دياكونوف: ميديا، ص 396).

وأضاف دياكونوف موضّحاً سياسة كورش مع الميديين:

" إن السياسة الدائمة لكورش الثاني، والتي لم تتغيّر أبداً، هي الاتفاق مع الرجال الكبار (النبلاء) الميديين، كي يَجذِب انتباههم، ويَكسِب ودّهم؛ لهذا السبب فإن الملوك الذي كانوا يقعون في الأسر من الملوك الميديين لم يقتلهم. نجا استياگ من القتل لهذا السبب، وأُبعد إلى هيركانيا، يقول كتسياس بهذا الصدد: فإنه قوبل باحترام كبير من قبل حاكم الهيركانيين حين أُبعد إلى أراضيهم". (دياكونوف: ميديا، ص 397).

والأرجح أن معاملة أستياگ باحترام من قِبل حاكم هيركانيا (تقع جنوب شرقي بحر قزوين) كانت بإيعاز من كورش نفسه، لأن الحاكم الهيركاني كان أحد زعماء الأقاليم التابعة للدولة الميدية، وقد تمرد على سلطة أستياگ، وتحالف مع كورش ضد دولة ميديا.

وأكّد دياكونوف سياسة المداهنة التي اتّبعها كورش مع النخب الميدية قائلاً:

" يذكر داريوش الأول بعض القادة العسكريين في الجيش الفارسي من الميديين، حتى إلى عهد خشيارشاه [أَحْشويرش بن دارا] صدفة يُورَد ذكرُ أسماء بعض النبلاء الميديين. أما من الناحية الإدارية الأخمينية فإن الميديين كانت لهم مراكز ودرجات عالية". (دياكونوف: ميديا، ص 397).

وأضاف دياكونوف يقول:

" بالرغم من أن إگباتانا كانت قد تمّ احتلالها وسلبها، وأُسر بعض المواطنين الميديين منها، وكذلك تمّ فرضُ الجزية والضرائب على ميديا كبلاد محتلة؛ في هذا الوقت فإن النبلاء وكبار رجالات الميديين عُرضت عليهم حلقة من السلطات الملائمة، وخاصة الذين قاموا بدور الخيانة ضد بلادهم". (دياكونوف: ميديا، ص 395).

والمحور الثاني استغلالي: فبعد أن اعتلى كورش عرش ميديا انكبّ على توظيف شهرة ميديا إقليمياً وعالمياً لترسيخ نفوذه، ولتسليط الضوء على نفسه، كما أنه وظّف ثروات ميديا والمؤسسات الميدية، ولا سيما المؤسسة العسكرية، لتحقيق مشاريعه التوسّعية، وحسبنا دليلاً على ذلك أن المقاتلين الميد كانوا يشكّلون قوة ضاربة في الجيوش الأخمينية، حتى بعد عهد كورش، وكانوا يأتون في الدرجة الثانية من حيث الترتيب بعد قوات (الخالدين) الفارسية.

وحسبنا دليلاً على ذلك أيضاً أن القائدَين الميديين مازاريس وهارباگ هما اللذان قادا الجيوش للقضاء على ثورات الإغريق في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، لا بل إن المؤسسة الأخمينية بعد كورش بعهد طويل كانت تستمر في استغلال القدرات القتالية للإنسان الميدي، وتزجّ به في سلسلة حروبها المتواصلة، ونذكر على سبيل المثال القائد الميدي داتيس، فقد عيّنه الملك الأخميني الثالث دارا الأول قائداً للجيش الفارسي الذي غزا بلاد اليونان في عقر دارها، وهاجم العاصمة أثينا، وخاض معركة (ماراثون) الشهيرة سنة (490 ق.م). (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 466).

ولعل الصورة تصبح أكثر وضوحاً إذا أخذنا في الحسبان أن الملك الميدي كَيْخُسْرو كان قد أسس قوة قتالية ميدية متميّزة بالمقاييس العسكرية في ذلك العصر، إنها كانت على مستوى رفيع من الانضباط والصلابة والروح الفدائية، إلى درجة أنها تفوّقت على القوة القتالية الآشورية التي كانت مشهورة بالانقضاض السريع، والانضباط الشديد، والشراسة البالغة، والإقدام الباسل. (دياكونوف: ميديا، ص 279).

والمحور الثالث تآمري: فبعد أن أفلح كورش في تثبيت سيطرته على عرش ميديا، ورتّب الأوضاع في الداخل بحيث تصبح مقاليد الأمور محصورة في يديه وفي أيدي النخب الفارسية، انتقل إلى المرحلة الثانية من مشروعه المبيَّت؛ ألا وهي البدء بتقليم أظافر القوى الميدية التي يُحتمَل أن تطيح بسلطته، وتعيد الأمور إلى نصابها، ولتحقيق هذا الغرض قام كورش بالإجراءات الآتية:

1. لم يكن للملك الميدي أستياگ ابن يرثه، وكانت له ابنتان، الأولى هي مَنْدانا والدة كورش، والثانية هي آميتيدا، وكان قد تزوّجها نبيل ميدي يدعى أَسْبيتام، وكانت التقاليد الميدية تقتضي أن زوج ابنة الملك يرث العرش إذا لم يكن للملك ابن يرثه. وهذا يعني ضمناً أن أسبيتام كان الملك المحتمَل بعد أستياگ، وأن بقاءه حياً يمكن أن يحول دون تنفيذ المشروع الأخميني المتمثّل في دفن الدولة الميدية إلى الأبد، ولذلك بادر إلى كورش إلى قتل أسبيتام. (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 87).

2. عرف كورش أن الشرعية الانقلابية وحدها غير كافية لترسيخ أقدامه في العرش الميدي، ولا بد من الحصول على الشرعية الدستورية في هذا المجال، ولذلك بادر إلى الزواج من خالته آميتيدا بعد أن قتل زوجها الميدي أسبيتام، ليفوز بالعرش الملكي، وقد أكّد كتسياس هذه الحقيقة قائلاً: " إن كورش تزوّج من ابنة أستياگ آميتيدا،... وكان هدفه من هذا الزواج هو الادّعاء القانوني لحكم الإمبراطورية الميدية ". (دياكونوف: ميديا، ص 396).

3. عمدت الآلة الدعائية الأخمينية، مدعومة بحليفتها الآلة الدعائية للفريق الهارباگي، إلى تشويه صورة أستياگ في الذاكرة الآريانية وفي الذاكرة الغرب آسيوية عامة، فسُمّي أژدهاك (التنّين)، واختلقوا رواية الحيّتين اللتين نمتا على كتفيه، ونصيحة إبليس له بإطعام الحيتين دماغي شابين كل يوم، وثورة الجماهير عليه بقيادة كاوا الحدّاد، وتسلّلت هذه الروايات المدسوسة إلى التراث الإسلامي بعدئذ، فصار أژدهاك يسمّى (الضحّاك)، وسبق أن ذكرنا ذلك تفصيلاً في حلقات سابقة من هذه السلسلة. (المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 122- 123. المقدسي: البدء والتاريخ، ج 3، ص 143. الزبيدي: تاج العروس، مادة كرد).

4. ما دام أستياگ حيّاً يبقى رمز الدولة الميدية ماثلاً للعيان، ويبقى الاحتمال مفتوحاً لأن يقوم أنصاره بانقلاب مضاد، وإعادته إلى العرش الميدي. ولقطع دابر هذا الاحتمال كان لا بد من تغييب هذا الرمز، ولذا تمّ التخلص من أستياگ بطريقة مُلبسة، وذكر دياكونوف أن أستياگ دُعي من منفاه في هيركانيا إلى رؤية ابنته، فأخذه قائد يدعى (بتسياك) إلى الصحراء، وتركه هناك كي يموت جوعاً وعطشاً. (دياكونوف: ميديا، ص397). وهل كان بتسياك يجرؤ على فعل ذلك بالملك الميدي لولا موافقة كورش؟

وصية قمبيز

بهذه الإجراءات التضليلية والمداهنة والتآمرية خطا كورش الخطوات الأولى نحو تغييب التكوين السياسي الميدي في ظلمات التاريخ، وترسيخ النفوذ الفارسي في غربي آسيا. وبعد مقتل كورش في حربه ضد شعب ماسّاجيتاي التوراني بوسط آسيا، سنة (530 ق.م)، تولّى العرش ابنه قمبيز الثاني، فزادت في عهده هيمنة الفرس على مقاليد الأمور، ودفعوا بالميديين رويداً رويداً إلى الهامش.

وقاد قمبيز حملة لغزو مصر، واحتلها سنة (525 ق.م)، وكانت تنتابه نوبات صرع وغضب جنوني، فارتكب كثيراً من الفظائع، ومنها أنه أمر القائد الفارسي بركساسبيس بالذهاب إلى بلاد فارس، وقتل أخيه سميرديس ودفنه سراً؛ لأنه رأى في الحلم أن شخصاً قد حلّ محله في الحكم يدعى سميرديس. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 233، 234).

وفي ذلك الحين كان زمن الجيل الميدي الهارباگي، جيل الغفلة والأنانية إلى درجة ارتكاب الخيانة، قد مضى، واستيقظ جيل النخبة الميدية التالي على الحقيقة المُرّة؛ حقيقة سيطرة النخب الفارسية على الدولة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، وطمس معالم الحضور الميدي إلا في المجالات الخدماتية، وكانت أمجاد دولة ميديا ما زالت حية في ذاكرة تلك النخب الميدية، فراحت تتحيّن الفرص المناسبة لاسترداد المُلك المسلوب.

وحينما توجّه قمبيز إلى غزو مصر انتهز أخوان من النخب الميدية الفرصة، الأول يدعى پيرتزيثيس، وكان موغاً (كاهناً)، ويتولّى شؤون القصر الملكي، والآخر يدعى سميرديس، ويسمّى گوماتا (گؤماتا) أيضاً، وكان گوماتا شبيهاً بسميرديس بن كورش (أخي قمبيز)، وكان پيرتزيثيس هو العقل المدبر للانقلاب المضاد، وبما أن المؤسسة العسكرية كانت في القبضة الفارسية، فلم يبق أمام پيرتزيثيس وسيلة سوى الدهاء لتنفيذ الانقلاب، فاستغل حادثة مقتل سميرديس الأخميني بأمر من قمبيز سراً، وأقنع أخاه گوماتا بالجلوس على عرش فارس، والإعلان عن أنه سميرديس بن كورش، يقول هيرودوت:

 "وأرسل بياناً لجميع القوات في أنحاء فارس ومصر كافّة، مفاده أن عليهم في المستقبل تنفيذ الأوامر الصادرة عن سميرديس، وليس عن قمبيز". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 246).

وفي سنة (522 ق.م)، وبينما كان قمبيز في سوريا، عائداً إلى فارس، وصلته نسخة من البيان الانقلابي، وبعد التحقيق مع القائد الفارسي بركساسبيس، والتأكد من أن أخاه سميرديس قد قُتل حقاً، عرف أن الكاهن الميدي وأخاه قد قادا انقلاباً ضده، وحكما البلاد باسم أخيه المقتول سميرديس، فاستبدّ به الغضب، وامتطى جواده للتوجّه إلى بلاد فارس، والقضاء على مدبّري الانقلاب، وحينما وثب على الجواد سقط غمد سيفه، وانكشف النصل، فأصيب بطعنة في فخذه، فمرض على أثر ذلك، وبعد عشرين يوماً شعر بدنوّ أجله، فأرسل في طلب قادة الجيش الفارسي، وخاطبهم قائلاً:

" يا رجال فارس، إن الظروف لَتفرِض عليّ أن أبوح لكم بما كنت قد بذلت قُصارى جهدي لإخفائه. ثم روى لهم خبر الحلم، وإصداره الأمر بقتل أخيه سميرديس نتيجة لذلك، وأنهم أصبحوا الآن محكومين من قِبل المجوسيَّين". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 249).

وأضاف قمبيز يقول لقادة الفرس:

" فلزامٌ عليّ أن أبيّن لكم وأنا أَلفِظ أنفاسي الأخيرة، ما أرغب إليكم القيام به، فباسم الآلهة التي تحرس أسرتنا الملكية آمركم، وخاصةً الأخمينيين منكم الحاضرين هنا، ألاّ تَدَعوا الميديين يستردّون السلطة، فإذا حصلوا عليها عن طريق الغدر والخيانة فاستردّوها بالسلاح نفسه، أما إذا استردّوها بالقوة فكونوا رجالاً، واستردّوها بالقوة. إذا قمتم بما آمركم به، فإني أدعو لكم بأن تغمركم الأرض بخيراتها، وأن تُرزَقوا بالأطفال، وتتكاثر قطعانكم، وأن تكونوا أحراراً مدى الدهر. أما إذا فشلتم في استرداد السيادة، أو لم تقوموا بأيّة محاولة لاستردادها، فلتنزلْ عليكم لعنتي، وليكن مصيركم عكس ما أدعو لكم به الآن، وعِلاوة على ذلك فلتكن نهاية كل فارسي بائسة مثل نهايتي". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 249).

فتأثر القادة الفرس بمنظر ملكهم وهو يبكي والدموع تنهمر من عينيه، وأخذوا في تمزيق ثيابهم، وبالبكاء والعويل، ثم استفحل المرض بقمبيز، وتوفّي دون أن يكون له عقب من الصبيان أو البنات.

تلك هي وصية قمبيز التي ظلت تجلجل أصداؤها في آذان النخب الفارسية طوال قرون، وكانت بمثابة البيان التأسيسي لمشروع اجتثاث الحضور الميدي في تاريخ غربي آسيا، وطمس معالمه، لا بل تشويهه وأبلسته، وكان من الطبيعي أن يرث الكرد (أحفاد الميديين) النتائج المترتّبة على تلك الوصية، وتتبلور المعالم الحقيقية لمشروع (أبلسة الكرد) المستمر منذ (25) قرناً.

وقد استمر سميرديس الميدي في الحكم سبعة أشهر، وأوّل ما اهتم به أنه حرر الشعوب المقهورة من جور الحكم الفارسي، وأسقط الضرائب الباهظة عن كاهلهم، وأعفاهم من إرسال أبنائهم إلى ميادين الحروب، قال هيرودوت:

" وخلال عهد المجوسي حصل رعاياه على منافع عظيمة، ولذلك أسف لموته جميع الآسيويين التابعين، باستثناء الفرس؛ إذ إنه بُعيد اعتلائه العرش أعفى جميع الأمم الخاضعة له من الضرائب والخدمة العسكرية مدة ثلاث سنوات". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 249).

وسرعان ما تحرّكت النخب الفارسية لتنفيذ وصية ملكهم قمبيز، وشكّل سبعة منهم خلية قيادة سرية، وكان دارا الأول أبرز أولئك السبعة، وأكثرهم شجاعة ودهاء، وهو الذي رسم خطّة الهجوم على الأخوين الميديين في القصر الملكي، وتحمّس زعيم فارسي آخر يدعى جوبرياس لخطة دارا، وقال مخاطباً رفاقه:

"يا أصحابي، هل تتاح لنا فرصة أفضل مما لدينا الآن لإنقاذ العرش؟ أمّا إذا فشلنا فلنمتْ في المحاولة، أفحتمٌ على فارس أن يحكمها ميدي؛ ذلك المجوسي الذي قُطعت أذناه؟ ولن ينسى من كان منكم واقفاً بجانب قمبيز، وهو على فراش الموت، اللعنةَ التي أنزلها بالفرس إذا لم يقوموا بأي جهد لإنقاذ العرش، ... وأعتقد أن علينا الأخذ بنصيحة داريوس، وان ننهي الاجتماع، لنذهب فوراً إلى القصر، ونهاجم المجوسيَّين". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 253).

وشنّ الزعماء الفرس السبعة هجوماً مفاجئاً على القصر الملكي، ولم يعترضهم الحرس باعتبارهم من كبار الزعماء، لكن خصيان القصر استوقفوهم، وعنّفوا الحرس على السماح لهم بالدخول، وهنا استلّ المهاجمون خناجرهم، وفتكوا بالخصيان الذين اعترضوهم. وعرف الأخوان الميديان حقيقة الأمر، فاستعدّا للمواجهة، وخاضا القتال ضد المهاجمين السبعة، لكنهما خسرا الجولة، وكانت نهايتهما القتل، قال هيرودوت:

" بعد أن تمّ قتل المجوسيَّيْن، قطع المتآمرون رأسيهما، وخرجوا إلى الشارع وهم يصرخون، مُحدِثين ضجّة عظيمة، حاملين الرأسين المقطوعين، ... ثم بدأوا بقتل كل مجوسي صادفوه في طريقهم، وسرعان ما أصبح الفرس الآخرون على أهبة الاستعداد لأن يحذوا حذوهم، بعد أن علموا بالعمل البطولي الذي اضطلع به الحلفاء السبعة، والخدعة التي قام بها المجوسيان، فاستلّوا خناجرهم، وقتلوا كل مجوسي وقعت أنظارهم عليه، وكادوا يبيدون المجوس لولا حلول الظلام، فتوقفت المجزرة، وقد أصبح هذا اليوم يوماً مشهوداً في التقويم الفارسي؛ حيث يقام احتفال سنوي باسم قتل المجوس، ولا يُسمح في أثنائه لأيّ مجوسي بالظهور، فيقبعون جميعاً في بيوتهم طوال اليوم، لا يبرحونها". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 255- 256).

وكان من الطبيعي أن يخسر الأخوان الميديان محاولتهما الانقلابية، ويفشلا في الإطاحة بالسلطة الفارسية، لأن الإجراءات الوقائية التي سبق أن اتخذها كورش ومن بعده قمبيز، أثمرت، وأدّت إلى تهميش النخب الميدية غير المذعنة للفرس، وحصر السلطات الأساسية في العناصر الفارسية، ولذلك كانت محاولة الأخوين الميديين محاولة فردية، ولم يكن لها سند لا من النخب الميدية ولا من جماهيري الميديين، مع أنه كان لهم حضور لا بأس به في العاصمة الملكية.

كما أن منطق الأحداث يقتضي أن يكون دارا ورفاقه قد قاموا بعمليات تطهير واسعة في أرجاء ميديا، وقضوا على كل زعيم ميدي تحدّثه نفسه بالخروج عن طاعة السلطة الأخمينية، وأرسوا سياسات إدارية وعسكرية واقتصادية وثقافية، أتاحت للفرس أن يُحكموا قبضتهم على جميع المراكز والمؤسسات والمواقع الهامة في الدولة والمجتمع، ويهمّشوا الميديين.

وثمة تساؤلان مهمان سنحاول الإجابة عنهما في الحلقة القادمة:

-       الأول: ما مدى تأثير وصية قمبيز في مصير الميديين؟

-       والثاني: وما علاقة ذلك التأثير بمشروع أبلسة الكرد؟

 

المراجع

1.    ابن الأَثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.

2.    أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى،1981.

3.  ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999.

4.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.

5.    الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق عبد العليم الطحاوي، وزارة الإعلام، الكويت، 1974.

6.    المقدسي: البدء والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، 1970. (الكتاب منسوب إلى أبي زيد أحمد بن سهل البلخي).

7.  المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973.

8.    هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991.

9.    هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.

10.  ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957- 1958.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة عشرة

د. أحمد الخليل   في 18 – 6  -  2009

dralkhalil@hotmail.com

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة السادسة عشرة )

مشروع أبلسة الكرد (الجذور والمقدمات)

 إشارات وعبارات

" من لم يطّلع على إشاراتنا لا تَهديه عباراتُنا ".

هذا ما قاله المفكر الصوفي أبو منصور الحَلاّج قبل حوالي ألف ومئة عام، وبما أننا مستمرون في التنقيب عن تجليات مشروع (أبلسة الكرد)، لا نجد مفراً من الدخول إلى المنطقة الحرام في تاريخ غربي آسيا، وهي المنطقة الأكثر إبهاماً وتعقيداً، ونضطر من ثَمّ إلى تسمية الأشياء بأسمائها، وتفكيك بعض الإشكاليات في العلاقة بين الكرد وجيرانهم، بغرض تفحّصها وتتبّع انعكاساتها في الذاكرة الغرب آسيوية جيلاً بعد جيل.

وبما أن بعض تلك الإشكاليات ما زال قائماً في بيتنا الغرب آسيوي، وهي مرشَّحة- على الأقل في حدود المعطيات المعاصرة- إلى التموضع في صميم مستقبلنا نحن شعوب غربي آسيا، وبما أننا جميعاً (فرساً وعرباً وكرداً وآشوريين وكلداناً وأرمناً وتركاً) حفدة الأجداد الذين عاصروا تلك الإشكاليات، وعاشوها بمستويات مختلفة، وكي تكون عباراتنا في هذا المجال مفهومة، نوضّح ما يلي:

1. ظاهرة تبشيع صورة الكرد ليست فرضية، وإنما هي حقيقة، وقد سقنا عليها عشرات الأدلة الصريحة والموثَّقة، فلا سبيل إلى تجاهلها، أو الالتفاف عليها، أو التعامل معها على نحو خجول ومُجامِل.

2. بعد إخضاع تلك الظاهرة للتحليل العلمي، اتضح أنها ليست ظاهرة عابرة، وإنما هي مشروع صمّمته جهات غرب آسيوية، وأشرفت عليه تأسيساً وتكريساً وتطويراً.

3. من الموضوعية عدم الخلط بين الشعوب والنُّخب بخصوص هذا المشروع، فالنُخَب هي التي أنتجته، وحرصت على تطويره وتسويقه واستثماره، أما الشعوب فكانت مطيّة لتحقيق أهداف النخب.

4. إن قسماً غير قليل من نُخبنا الغرب آسيوية لمّا يخرجوا بعدُ من عباءة ثقافة (إلغاء الآخر)؛ ولذلك هم حريصون على البحث في التاريخ عن مبررات يسوّقون بها مشاريعهم الإلغائية، فلا يرى الضحايا بداً من الاحتماء بالتاريخ ليصونوا وجودهم.

5. الفرق شاسع بين إعادة قراءة التاريخ لتوسيع شُقّة الخلاف بين الشعوب، وبين إعادة قراءته لتشخيص الأخطاء، وتوضيح الحقائق، تمهيداً لتصحيح المسارات، وسعياً إلى تأسيس (ثقافة الإخاء) بدل (ثقافة الإلغاء) في البيت الغرب آسيوي الكبير.

تلك هي منطلقاتنا في التعامل مع مشروع تبشيع صورة الكرد.

ودعونا نستكمل التنقيب فيه.

الجــذور

إن ظاهرة تبشيع صورة الكرد لم تنشأ دفعة واحدة، ولم تتأسس بين عشيّة وضحاها، وإنما هي نتاج تراكمات وإرهاصات تتابعت خلال عشرات القرون قبل الميلاد، وتعود تلك التراكمات والإرهاصات إلى أزمنة الصراع الطويل بين (أقوام الجبال) و(أقوام الصحراء)، أو لنقل بحسب المصطلحات الدارجة: بين (الأقوام الآرية) و(الأقوام السامية)، وكانت المنطقة الممتدة من الخليج إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط هي موضوع الصراع، لكن المنطقة التي دار فيها القدر الأكبر والأطول من ذلك الصراع هي (بلاد الرافدين).

وبلاد الرافدين هي المنطقة الواقعة بين نهري الفرات ودجلة، وأطلق عليها اليونان اسم (ميسوپوتاميا/ميزوپوتاميا) Mesopotamia، واستُخدم بداية للدلالة على المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات من الخليج حتى موقع مدينة بغداد الحالية، ثم اتسع مدلوله، وصار يدل على جميع الأراضي الواقعة بين دجلة والفرات من الشمال إلى الجنوب، واستُخدم في الكتب الأوربية الحديثة ليدل على العراق القديم. (جين بوترو وآخران: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ص 20. سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، ص 5. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 212).

إن بلاد الرافدين هذه، وامتداداتها الغربية في شمالي سوريا، كانت (المجال الحيوي) للأقوام الآرية القادمة من الشمال والشرق، وللأقوام السامية القادمة من الجنوب، ولذلك كان الصراع عليها ضارياً بين الفريقين، وفي خضم الصراع كان كل فريق حريصاً على تبشيع صورة الآخر، تبريراً للقضاء عليه وإلغاء وجوده، كما هي العادة، ويبدو أن الأقوام السامية (الأكاديون، البابليون، الآشوريون) كانت أكثر براعة في هذا المجال من خصومها الآريين (السومريون، الگوتيون، العيلاميون، اللولوبيون، السوبارتيون، الكاشيون، الحوريون، الميديون).

ونحسب أن جذور مشروع (أبلسة الكرد) تعود إلى تلك الأزمنة القديمة جداً، شريطة أن نأخذ في الحسبان أن التكوين الكردي في صورته النهائية هو نتاج تلك الأقوام الآرية المشار إليها، ومن المؤشرات الدالة على وجود تلك الجذور أن بعض المدوّنات الرسمية الأكّادية والبابلية والآشورية تُطلق على الأقوام الآرية المنافسة صفات الهمجية والبطش والتدمير، وبأنهم قساة، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً، وتشبّههم أحياناً بأفاعي الجبال.

وفي الوقت نفسه يمجّد بعض ملوك الأكّاديين والبابليين والآشوريين الفظائع التي ارتكبوها في مواطن جدود الكرد، بدءاً من عِيلام في الجنوب، وانتهاء بالشمال في منطقة أرارات، وامتداداً إلى مشارف الأناضول (وسط تركيا حالياً) في الغرب، وكانوا يعدّون البطش بأجداد الكرد وسفك دمائهم، وتدمير بلادهم، أمراً مشروعاً، تباركه الآلهة، وفيما يلي بعض الشواهد على ذلك.

إن الملك الأكّادي نارام سين سجّل بعض أمجاده في مسلّة، تظهر فيها سفوح جبال مشجّرة، والجبال مخروطية الشكل، مرتفعة جداً، يصعد إليها جواد الملك، وتنتثر في وديانها جثث القتلى، والملك يصعد مختالاً وهو مدجَّج بالسلاح (بلطة، قوس، سهام)، وعلى رأسه خوذة مُروَّسة لها قرنان؛ دلالةً على الربوبية والجبروت، وتحت أقدامه أعداؤه صرعى، أو يلتمسون منه العفو. (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 75).

وذكر ديورانت جانباً من قسوة ملوك أكّاد بأقوام الجبال، فقال:

 " منشتوسو ملك أكّد أعلن في صراحة أنه يغزو بلاد عِيلام، ليستولي على ما فيها من مناجم الفضة، وليحصل منها على حجر الديوريت، لتُصنع منه التماثيل التي تخلِّد ذكرَه في الأعقاب... وكان المغلوبون يباعون ليكونوا عبيداً، فإذا لم يكن في بيعهم ربح ذُبحوا ذبحاً في ميدان القتال. وكان يحدث أحياناً أن يُقدَّم عُشر الأسرى قرباناً إلى الآلهة المتعطّشة للدماء، فيُقتلوا بعد أن يوضعوا في شباك لا يستطيعون الإفلات منها ". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 27).

ووصف الملك الآشوري آشور ناصربال غزوة له إلى منطقة نهر الخابور في كردستان قائلاً:

" وبتأييد من آشور والإله أَدَد [حَدَد]، الإلهين العظيمين اللذين جعلا سيادتي مطلقة، حشدتُ عجلاتي وجندي، وانطلقت إلى نهر الخابور، ... وجعلت آزي- إيلي حاكماً يمثّلني عليهم، وجعلت كومة من الرؤوس أمام بوّابته، وسلختُ جلود النبلاء الذين تمرّدوا عليّ، ثم نشرتُ جلودهم على الكومة، فبعضُها في داخل الكومة، وبعضُها علّقتها على أعواد مغروسة في الكومة، وبعضُها وضعته على أعمدة حول الكومة، وأتيتُ بالعديد منهم إلى بلادي، فسلختُ جلودهم هناك، ونشرتُها على الأسوار". (ألبرت كيرك كريسون:الكتابات الملكية لآشور ناصربال الثاني، ص 22).

وسجّل الملك الآشوري آشور بانيپال هجومه على عيلام قائلاً:

" لقد خرّبت من بلاد عِيلام ما طولُه مسيرُ شهر وخمسة وعشرين يوماً، ونشرتُ هناك الملح والحَسَك لأُجدب الأرض، وسُقت من المغانم إلى أشور أبناءَ الملوك، وأخوات الملوك، وأعضاءَ الأسرة المالكة في عيلام صغيرَهم وكبيرهم، كما سُقت منها كل من كان فيها من الولاة والحكام، والأشراف والصنّاع، وجميع أهلها الذكور والإناث كباراً كانوا أو صغاراً، وما كان فيها من خيل وبغال وحمير وضَأْن وماشية تفوق في كثرتها أسراب الجراد، ونقلتُ إلى أشور تراب سوسا، ومدكتو، وهلتماش، وغيرها من مدائنهم، وأخضعت في مدة شهر من الأيام بلاد عيلام بأجمعها؛ وأخمدت في حقولها صوتَ الآدميين، ووقْعَ أقدام الضأن والماشية، وصراخ الفرح المنبعث من الأهلين، وتركت هذه الحقول مرتعاً للحمير والغزلان والحيوانات البرية على اختلاف أنواعها". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 270).

وقال ديورانت واصفاً الأهوال التي صبّها أشور بانيپال على عيلام:

" وجيء برأس ملك عيلام القتيل إلى أشور بانيپال وهو في وليمة مع زوجته في حديقة القصر، فأمر بأن يُرفع الرأس على عمود بين الضيوف، وظَلّ المرح يجري في مجراه؛ وعُلِّّق الرأس فيما بعد على باب نينوى، وظل معلَّقاً عليه حتى تعفّن وتفتّت. أما دنانو القائد العيلامي فقد سُلخ جلده حيّاً، ثم ذُبح كما يُذبَح الجمل، وضُرب عنق أخيه، وقُطّع جسمُه إرْباً، ووُزَّع هدايا على أهل البلاد تَذكاراً لهذا النصر المجيد". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 270).

وعلّق ديورانت على أعمال الملك الآشوري بقوله:

" ولم يخطر قطُّ ببال أشور بانيپال أنه ورجالَه وحوشٌ كاسرة أو أشدّ قسوة من الوحوش؛ بل كانت جرائم التقتيل والتعذيب هذه في نظرهم عمليات جراحية لا بد منها، لمنع الثورات، وتثبيت دعائم الأمن والنظام بين الشعوب المختلفة المشاكسة المنتشرة من حدود الحبشة إلى أرمينيا، ومن سوريا إلى ميديا، والتي أخضعها أسلافه لحكم أشور، لقد كانت هذه الوحشية في رأيه واجباً يفرضه عليه حرصه على أن يبقى التراث سليماً ". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 270).

هذه شواهد قليلة على حدّة الصراع بين الساميين والآريين في بلاد الرافدين وجبال زاغروس، وإن هذه الشراسة على الصعيد العسكري كانت أحد تجلّيات مشاريع الإلغاء التي نفّذتها نُخب الأقوام السامية في بلاد الرافدين ضد أقوام الجبال (أجداد الكرد)، وفي تلك العهود القديمة جداً نبتت جذور مشروع تبشيع صورة أجداد الكرد، لكن تأسيس ذلك المشروع على نحو منهجي، وتكريسه بوعي، كان على أيدي نُخب آرية حلّت محلّ الدول المركزية الكبرى في غربي آسيا؛ وهي النُّخب الأخمينية الفارسية، وثمة مقدّمات سبقت ذلك التأسيس، فماذا عنها؟  

تحوّلات إقليمية

تأسّس مشروع تبشيع صورة أجداد الكرد رسمياً سنة (522 ق.م)، وهو لم يتشكل من فراغ، إنه كان نتاج جملة من المعطيات الديموغرافية، والتقاطعات الثقافية والاقتصادية، والتحولات الجيوسياسية المتتالية في غربي آسيا، ونستعرضها فيما يلي بإيجاز.

أولاً- في الشمال: خلال الربع الثاني من القرن (14 ق.م)، قضت الدولة الحثية الحديثة على الدولة المِيتّانية (الحورية)، وكان نفوذها قد وصل- في أقصى امتداد له- من جبال أرارات شمالاً إلى كركوك جنوباً، وامتد غرباً ليشمل النصف الشمالي من سوريا، ولا سيما مملكة حلب. بل إن بعض الباحثين عدّ الهكسوس الذين حكموا مصر بين ( 1720 - 1570 ق.م ) من أصل حوري، وذكر آخرون أنهم من أصل كاشي، أما كونهم شعباً آرياً (هندو أوربياً) فمسألة مؤكدة، ولعلنا نستقصي هذا الموضوع مستقبلاً بتوسع. وانتهت الدولة الحثية نفسها بعدئذ إلى الزوال حوالي سنة (1200 ق.م)؛ بتأثير هجمات الشعوب الإيجية (شعوب البحر)، (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص51. فلايكوفسكي: عصور في فوضى، ص 83. إسرائيل فنكلشتاين: التوراة اليهودية، ص 90. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج1، ص 84. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 121. سيد القمني: إسرائيل، ص 291، 386).

  ثانياً - في الجنوب: كانت الدولة المصرية تخوض صراعاً طويلاً ضد الحثيين للسيطرة على سوريا، ووصل ذلك الصراع إلى القمة في معركة قادش على نهر العاصي سنة (1285 ق.م) بقيادة رعمسيس الثاني. وبعد وفاة رعمسيس الثاني سنة (1225 ق.م) دخلت مصر حالة من الفوضى قرابة عام (1200 ق.م)، عندما أمسك بزمام الحكم شخص آسيوي يكتنفه الغموض، يدعى أرسو (يرسو)، ولقبه (حارو) أي (حوري). (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 82. ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 182. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل ص 72،  94، 99).

ثالثاً - في الشرق: حوالي سنة (1168 أو 1162 ق.م) قضى العيلاميون على الدولة الكاشية التي حكمت بابل، وعُرفت باسم (سلالة بابل الثالثة)، وصحيح أن النفوذ الآشوري كان يزداد قوة في شمال شرقي بلاد الرافدين (شمال غربي إقليم كردستان- العراق حالياً)، ولا سيما بعد سقوط الدولة الكاشية، لكنهم لم ينتقلوا إلى الدور الإمبراطوري إلا ابتداء من عهد الملك تجلات بلاصر الثالث (745 – 727 ق.م). (عامر سليمان، أحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، ص 134. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 116).

رابعاً- في الغرب: في سوريا وشرقي البحر الأبيض المتوسط عامة، تنفّس الآراميون والفينيقيون والكنعانيون الصُّعَداء، وازدهرت الدول الآرامية في سوريا الداخلية، ومن أبرزها في الشمال دولة سَمْأَل (شَمْأل) في كيليكيا، ودولة بيت آجُوشي وكانت تضم حلب وأرفد (أرفات/ تل رفات/ تل رِفْعت حالياً)، وفي الوسط دولة حماة، وفي الجنوب دولة دمشق. أما في الساحل فحكم الفينيقيون في الشمال (ساحل سوريا ولبنان حالياً)، والكنعانيون في الجنوب (فلسطين حالياً)، (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 178. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 74).

وفي هذه المرحلة ظهر العبرانيون في جنوبي سوريا (فلسطين)، وقد تعدّدت أسماؤهم، فهم (عَبِيرو) بالمصرية القديمة، و(خابِيرو) بالكلدانية. وتفيد المصادر اليهودية والمسيحية والإسلامية أن العبرانيين قبائل بدوية من أصل سامي، جدُّهم الأكبر هو النبي إبراهيم، وسمّوا (بني إسرائيل) بعدئذ نسبة إلى لقب جدهم الثالث يعقوب (إسرائيل) ابن إسحاق بن إبراهيم، وعُرفوا باسمهم الديني (اليهود) نسبة إلى سبط (يهوذا)، أو نسبة إلى مملكة يهوذا، وربما نسبة إلى إلههم القومي (يَهْوَه)، وحديثاً ثمة جدل كثير حول أصل العبرانيين، فمن الباحثين من يرى أنهم خليط من الآريين والساميين، ومنهم من يرى أنه لا علاقة لهم بالساميين، في حين يرى الباحث المصري سيّد القمني أن جد العبرانيين (إبراهيم) آري من الفرع الحوري، وليس الآن موضع البحث في ذلك. (أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 94. سيد القمني: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، ص 71. محمد قدوح: الكتابة، ص 56 - 57).  

وتفيد الروايات الدينية أيضاً أن النبي إبراهيم هاجر من أُور الكلدان إلى حَرّان، ثم هاجر من حَرّان إلى أرض كنعان (فلسطين)، ثم رحل من هناك إلى مصر، ثم عاد ليستقر ثانية في أرض كنعان، وفي عهد النبي يوسف بن يعقوب هاجر العبرانيون مرة أخرى إلى مصر، وربط بعض المؤرخين هجرتهم تلك بالغزو الهكسوسي لمصر، وبعد خروج الهكسوس من مصر اضطر العبرانيون إلى الهروب شمالاًٍ نحو فلسطين، بقيادة النبي موسى حوالي سنة (1225 ق.م)، واستقروا في شرقي أرض كنعان، وحوالي سنة (1200 ق.م) عبروا نهر الأُردن بقيادة يوشع (يَشوع)، وغزوا أرض كنعان، ثم وسّعوا دائرة الغزو باتجاه الغرب، وشكّلوا قوة يُحسَب لها حساب في شرقي المتوسط (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 67. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 121).

وقد استغل قادة العبرانيين الفراغ الإقليمي الذي مر ذكره، فأسس زعيمهم شاوُل (شاؤول) أول مملكة عبرانية بين (1028 – 1013 ق.م)، ثم تولّى النبي داود قيادة المملكة بين (1013 – 973 ق.م)، أو بين  (1004 – 965 ق.م)، واحتل العبرانيون جميع أرض كنعان، وباتوا يهدّدون الدويلات الآرامية في جنوبي سوريا؛ وهذا يعني أنهم سيطروا على الرأس الشمالي لطريق البخور والتوابل القادم من اليمن براً عبر جنوبي الحجاز، وبحراً عبر البحر الأحمر. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج1، ص 83- 84. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 72، 109 – 210).

ثم صار النبي سليمان بن داود ملكاً على العبرانيين بين (965 – 928 ق.م)، فأقام علاقات سلام وتحالف مع حِيرام ملك صور الفينيقي شمالاً، ومع فرعون غرباً، وأدار سليمان حركة تجارية كبرى بين مصر وجزر البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى وجنوبي شبه الجزيرة العربية، واتصف عهده بالثراء والترف والانفتاح الثقافي؛ الأمر الذي جعله شهيراً في عصره، ويبدو أن النُّخب العبرانية صوّرته بعدئذ على نحو أسطوري، وتلقّف بعض المؤرخين المسلمين تلك الروايات الأسطورية، وقدّموها إلى الأجيال على أنها حقائق لا شك فيها. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 68. إسرائيل فنكلشتاين: التوراة اليهودية، ص 167. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 204، 216، 218).

لكن العهد الذهبي العبراني لم يدم طويلاً، وتغيّرت الأوضاع الإقليمية تغيراً كبيراً في النصف الثاني من عصر سليمان؛ ففي عام (945 ق.م) آلت السلطة في مصر إلى شِيشْنَق (مؤسس الأسرة المصرية الثانية والعشرين)، وكان شيشنق يعادي سليمان؛ لأن سليمان كان قد ارتبط بعلاقة مصاهرة مع الأسرة الحاكمة السابقة. ( أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 222).

وفي بلاد الرافدين دخلت الدولة الآشورية دور التوسع الإمبراطوري حوالي سنة (912 ق.م)، وفرض الآشوريون سيطرتهم على جميع بلاد الرافدين، وعلى مداخل جبال زاغروس وطوروس؛ أي أنهم أحكموا سيطرتهم على شبكة طريق الحرير في الشرق والشمال، لا بل إنهم اتجهوا غرباً وجنوباً نحو واحة (تَيْماء) في شمال غربي شبه الجزيرة العربية، للسيطرة على طريق البخور القادم من اليمن جنوباً، وكان من الطبيعي أن يتطلّعوا إلى السيطرة على سوريا، وعلى جميع السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، بما فيها فلسطين حيث تحكم المملكة العبرانية، وإلا فإن بقاء تلك المناطق خارج نفوذهم يعني عدم سيطرتهم الكاملة على الحركة التجارية في العالم القديم. (أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 222).

وحينذاك كانت المملكة العبرانية قد انقسمت إلى مملكتين: مملكة إسرائيل في السامرة شمالاً، ومملكة يَهُوذا في أُورشليم جنوباً، وشنّ الملوك الآشوريون الهجمات عليها، وخاصة في عهد شَلْمانصّر الخامس وسَرْجُون الثاني وسَنْحاريب في الفترة (727 – 680 ق.م)، وقضوا على ثورات العبرانيين، وأخضعوا المملكتين للتبعية الآشورية، وسَبوا عشرات الآلاف من العبرانيين، وأسكنوهم في منطقة بابل وبعض مناطق جنوبي كردستان (إقليم كردستان- العراق حالياً)؛ وهذا هو سر استبشار الزعيم العبراني نَاحُومَ الأَلْقُوشِيّ بسقوط الإمبراطورية الآشورية على أيدي الميديين وحلفائهم البابليين (الكلدان) سنة (612 ق.م). (إسرائيل فنكلشتاين: التوراة اليهودية، ص 249. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 116. العهد القديم، سفر ناحوم، الأصحاح الثالث، الآيات 18 – 19).

غير أن استبشار العبرانيين بسقوط الإمبراطورية الآشورية، وأملهم بالخلاص من الأسر، والعودة إلى فلسطين، وإحياء مجدهم السابق، لم يدم طويلاً، فقد مر أن الميديين وحلفاءهم البابليين (الكلدان) تقاسموا ممتلكات الإمبراطورية الآشورية، وكانت سوريا وأرض كنعان (فلسطين) من نصيب الدولة البابلية، وفي سنة (604 ق.م) وصل جيش بابل إلى سوريا وإلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، وسيطر عليها جميعاً، وفي سنة (586 ق.م) استولى نَبُوخَذ نصّر (بُخْتُنَصّر) بن نَبُوبولاصّر على أورشليم، عاصمة مملكة يهوذا ودمرها تدميراً، وأجلى السكان إلى بابل، ولم تفلح جهود الدولة المصرية في إنقاذ حلفائهم العبرانيين. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 70. أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 295. سيد القمني: إسرائيل، ص 106).

وماذا عن التحوّلات في جبال زاغروس وأطرافها؟

ميديون وأخمينيون

حوالي سنة (1100 ق.م) وصل شعبان آريان جديدان إلى غربي آسيا، قادمين من الخزّان الرئيسي للشعوب الآرية شرقي بحر قزوين، عُرف الشعب الأول باسم (ميد)، والآخر باسم (فُرس)، وكان كل واحد منهما يتألف من عدد من القبائل الكبيرة، ورجّح بعض المؤرخين أن فارس (فرسوا/برسوا) Parsua، وميديا (مادي) Madai اسمان جغرافيان، وليسا اسمين قوميين. (طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 37).

وبالنسبة إلى موطن الميديين كتب دياكونوف يقول:

" ماد (ميديا) كأرض تاريخية، وبمعنى أشمل لهذه الكلمة، هي تلك الأراضي التي كانت في العهد القديم تمتد حدودها من الشمال بنهر أراس وقمم جبال البُرْز جنوب بحر قزوين، ومن الشرق السهول المالحة لسهول كوير، ومن الجنوب والغرب متصلة بسلسلة جبال زاغروس". (دياكونوف: ميديا، ص 85).

وقال هارڤي بورتر بشأن موطن الميديين:

" هذه البلاد شرقي آشور والشمال الشرقي منها، وهي القسم الشمالي والغربي من مملكة إيران المعهودة، ويحدّها شمالاً أرمينيا وبحر الخَزر، وغرباً جبال زاغرُس، وجنوباً بلاد فارس، ولم يتعيّن حدُّها شرقاً؛ لأن الأراضي هناك كانت سَبْخة لم تُسكَن ". (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 82).

وأضاف هارڤي بورتر يقول:

" وكان أكثر أراضي مادي وأحسنها جبلياً، لامتداد فروع زاغرُس شرقاً إلى الصحراء، وسلسلة جبال على شطوط بحر الخَزَر تسمّى البُرز (أو البُرج) تحيط بالبحر على القرب منه جنوباً وغرباً، وتتشعّب جنوباً، ... وفروع جبل زاغرُس تمتد شرقاً، ... وبينها أودية مخصبة معتدلة الهواء، وهنالك أكثر السكان...  وانقسمت مادي قديماً إلى: مادي أَتْرُوبَتِينة، وهي القسم الشمالي. ومادي الكبرى وهي القسم الجنوبي، وتسمّى اليوم العراقَ العجمي". (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 82).

وذكر دياكونوف أن المنطقة التي حلّ فيها الميديون (ميديا) وأطرافها (أورارتو وميتّانيا)، كانت تحمل، في الألف الأول قبل الميلاد، اسم غوتيوم (گوتيوم)، نسبة إلى شعب غوتي (گوتي/جوتي/جودي)، وبالنسبة إلى أغلبية الباحثين فالقصد من معنى (غوتيوم) هو (ميديا). (دياكونوف: ميديا، ص 268).

هذا بالنسبة إلى الميديين.

أما بالنسبة إلى الفرس فقال هارڤي بورتر:

" أمة الفرس جيل من الإيوانيين، قريب النسب من أمة الماديين، وأخبارها في أول أمرها قليلة جداً، فلا نعلم إلا قليلاً من أمرها من ذلك الوقت إلى أن ظهر كورش الكبير… فإن شلمناصر الثاني التقى بهم مع الماديين يوم غزا تلك النواحي في القرن التاسع قبل الميلاد، ولم يكونوا حينئذ إلا قبائل ...  يُقيمون ويَظعنون، يرأس كلاً منها شيخ ". (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 154).

وذكر هارڤي بورتر أن بلاد فارس كانت ضيّقة:

" وكان يحدّها شمالاً مادي، وشرقاً الصحراء السَّبْخة، وجنوباً خليج العجم، وغرباً ذلك الخليج وسوسيانا، وكان نحو نصف البلاد صحارى لا تصلح لشيء، والباقي تُرَب بين الجبال، عدا ريف [ساحل] البحر، فإنه كان ضيقاً شديد الحر، غير أن بعضه يصلح للحراثة. أما الأراضي الجبلية فمثل ما يقابلها من أراضي مادي كما ذكرنا، ففيها أودية تجري منها أنهر صغيرة، والأراضي المجاورة لها مخصبة، وفيها عدة بحيرات صغيرة مالحة، ... وخلاصة ما يقال في تلك البلاد أنه ما كان يُتوقّع أن تخرج منها أمة قوية كأمة الفرس، أو ينشأ فيها رجال يتسلّطون على جانب عظيم من الأرض كما وقع". (هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 153 – 153).

وقال ديورانت يصف بلاد فارس:

" إقليم فارس (پارش لدى الأقدمين) يكاد يكون كله صحراوات وجبالاً، أنهاره قليلة، معرَّض للبرد القارس والحر الجاف اللافح؛ ولذلك لم يكن فيه من الخيرات ما يكفي سكانه البالغ عددهم مليونيين من الأنفس، إلا إذا استعانوا بما يأتيهم من خارج بلادهم عن طريق التجارة والفتح، وأهل البلاد الجبليون الأشداء ينتمون كما ينتمي الميديون إلى الجنس الهندو- أوربي". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد1، ج 2، ص 409 – 410).

وخلاصة ما جاء في المصادر التاريخية بشأن ميديا وفارس أن الميديين استقروا في المناطق الكردية التي تقع الآن في شمال غربي إيران وشمالي العراق، وهي المناطق التي سمّيت بعدئذ (كردستان)، في حين استقر الفرس في جنوب غربي إيران الحالية، وظلت معروفة طوال القرون باسم (فارس).

وقد استعرضنا في الحلقة السابقة (عدد 15) أن الإمبراطورية الآشورية كانت قوة عظمى مهيمنة على جميع غربي آسيا ومصر، وكانت تتصف بالقسوة البالغة في التعامل مع الشعوب الخاضعة لها، وأن الزعيم الميدي دياكو وحّد القبائل الميدية، وقادها ضد الدولة الآشورية في إطار مشروع تحرري، وتابع ابنه فراورت (خشتريت) تنفيذ مشروع التحرير، وأوصلها حفيده كَيْخُسْرو (كَيْ أخسار) إلى الذروة، وأهم ما أضافه كيخسرو إلى ذلك المشروع أنه لم يجعله مقتصراً على الميديين، وإنما جعله مشروعاً تحررياً لجميع شعوب غربي آسيا، فبسط نفوذه على فارس جنوباً، وعلى أرمينيا وميتّانيا شمالاً، وأقام تحالفاً مع البابليين (الكلدان) غرباً، وكانت النتيجة إسقاط الإمبراطورية الآشورية، وخلاص جميع شعوب المنطقة من عذابات وويلات استمرت ثلاثة قرون (912 – 612 ق.م).

ومر في الحلقة السابقة أيضاً أن كيخسرو خاض الحرب ضد دولة ليديا (حليفة دولة آشور سابقاً)، وانتهت الحرب بعقد معاهدة سلام وصداقة بين ميديا وليديا، تكلّلت بزواج ولي العهد الميدي أستياگ (أستياجس) من ابنة الملك الليدي إلياتِّس، وأن السلام رفرف على غربي آسيا، ونشطت الحركة التجارية على امتداد شبكتي طريق الحرير وطريق البخور في المنطقة، وما كان يعكّر صفوها سوى المناوشات التي كانت تندلع بين حين وآخر بين دولة بابل ودولة مصر، للسيطرة جنوبي بلاد الشام، وفلسطين (أرض كنعان) على وجه التحديد.

العلاقات الميدية- الفارسية

توفي الملك الميدي كيخسرو حوالي سنة (584 أو 585 ق.م)، وخلفه على الحكم ابنه أستياگ (أستياجس)، وورث أستياگ دولة قوية، واسعة الأرجاء، وافرة الخيرات، تسيطر على طريق الحرير الرئيسي المار بالعاصمة إگبتانا (هَمَذان) وبالمدينة الشمالية الكبرى رِغَه (الطريق، وسمّيت الرَّي، وهي تقع قرب طهران)، وتصبّ في خزائنها واردات الإمبراطورية، وكان من المفترض أن يزيد هذا الملك دولته قوة على قوة، لكن جرت الأمور بخلاف ذلك، ونهج أستياگ نهجاً مختلفاً عن نهج أسلافه، وأبرز سمات نهجه هي:

1 - الاستبداد بالسلطة، والخروج على التقاليد التي أرساها أسلافه؛ ألا وهي الحكم اللامركزي الشبيه بالفيدرالية في عصرنا هذا، فدولة ميديا كانت تتألف في الأصل من اتحاد أقوام ميديا؛ وقد ذكر دياكونوف أن استياگ كان يتعامل بدون رحمة مع " كبار الرجال من النبلاء والمتنفّذين والمستشارين الميديين؛ أي الرجال الميديين من الصنف الأول، والذين كانوا من بقايا الملوك ". (دياكونوف: ميديا، ص 389).

2 – الخروج على الستراتيجية التي اتبعها أسلافه أقليمياً؛ ألا وهي إقامة التحالفات الكفيلة بتحقيق التوازن بين القوى الإقليمية الرئيسة، فأثار ضده أتباعه الأرمن شمالاً، وحلفاءه البابليين (الكلدان) جنوباً.

3 – النزوع إلى الارتخاء وحياة الدعة، قال دياكونوف: "في عهد أستياگ لم تحدث أية معارك، ولا حملات عسكرية، ولا احتلال مناطق جديدة". (دياكونوف: ميديا، ص 391).

4 – الميل إلى الترف والملذات ورخاء العيش، حتى إن ديورانت وصف استياگ بأنه "طاغية إگبتانا المخنّث ". ( ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 402). وقال دياكونوف: " وفي الواقع إن سيول الثراء الفاحش شمل الإمبراطورية الميدية الكبرى فجأة، وهذا بحد ذاته أصبح سبباً للتناقضات الداخلية للمجتمع الميدي في ما بين أصحاب الثروة والأسياد من أصحاب العبيد، وهذه التناقضات أدّت إلى القضاء على الإمبراطورية الميدية". (دياكونوف: ميديا، ص 368).

إن هذا النهج الذي سلكه استياگ أدّى إلى ما يلي:

1. تخلّي المجتمع الميدي عن حياة الجد والتقشف، وانشغاله بالترف والبذخ، وقد وصف ديورانت جانباً من ذلك الترف قائلاً: " وحَذَت الأمة حَذْوَ مليكها، وفَنِيت أخلاقها الصلبة الشديدة، وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، ... فلبس الرجالُ السراويلَ المطرَّزة المُوَشّاة، وتجمّلت النساء بالأصباغ والحُلِيّ، بل إن الخيل نفسها كثيراً ما كانت تُزيَّن بالذهب".(ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص401 – 402).

2. ظهور التناقضات الداخلية في قمة هرم السلطة الميدية، وحصول شرخ عميق بين زعماء اتحاد أقوام ميديا، وبروز الوصولية، وإسناد المناصب العليا إلى رجال غير أَكْفاء؛ الأمر الذي سهّل اختراق القيادة الميدية من قبل الناقمين عليها والمتربصين بها.

3.   ظهور التناقضات الداخلية في المجتمع الميدي بين الأغنياء والفقراء وانقسام المجتمع على نفسه.

وإذا أخذنا في الحسبان أن النبي زَرْدَشت ميدي الأصل والموطن حسب أرجح الأقوال، وأنه عاش بين سنتي (630 - 553، أو 628 – 551، أو 618 – 541 ق.م)، حسبما ذكر صمويل نوح كريمر، فلا نستبعد أن تكون دعوته الدينية القائمة على ثنائية النور والظلمة (أهورامزدا وأهرمن) شكلاً من أشكال معالجة التناقضات الاجتماعية التي تفاقمت في عهد أستياگ. (صمويل نوح كريمر: أساطير العالم القديم، ص 294).

ومر سابقاً أن إقليم فارس النصف صحراوي، القليل الخيرات، كان يقع جنوبي ميديا مباشرة، وفي خضمّ استعدادات الزعيم الميدي فراورت (خشتريت) للخلاص من سيطرة الدولة الآشورية هاجم إقليم فارس، وألحقها بدولة ميديا، قال هيرودوت: " ولم يكن فراورتيس هذا ليرضى بمملكة من الميديين وحدهم، فأخذ بمهاجمة الفرس، ثم دخل بلادهم على رأس جيش عرمرم، وما زال يجدّ في قتالهم، حتى استولى على كل أرضهم، وأخضعهم للميديين". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 80).

ويُستفاد مما ورد بهذا الشأن في المصادر التاريخية أن نوعاً من الاتحاد الفيدرالي كان قائماً بين ميديا وفارس؛ إذ كان لإقليم فارس ملكها؛ وهو من الأسرة الملكية الهاخمينشية (نسبة إلى مؤسسها هاخمينش، ومنه جاء لقب: أخميني)، وكانت له سلطاته الخاصة في إقليمه، ويبدو أنه كان ذا مكانة رفيعة؛ حتى إن الملك الأخميني قَمْبيز الأول كان قد تزوّج ماندانا ابنة الملك الميدي أستياگ.

ويبدو أن الأمور سارت في البداية سيراً حسناً بين النُّخب الأخمينية والنُّخب الميدية؛ إذ لم يذكر هيرودوت (من مدينة هاليكارناسوس Halicarnassus في جنوب غربي آسيا الصغرى توفي سنة 425 ق.م) أيّ خبر يدلل على أن الفرس قاموا بثورات ضد ميديا في عهد الملكين الميديين خشتريت وكيخسرو، وقد صرّح ذلك المؤرخ أنه كان يستقي أخباره من بعض الفرس البارزين، ولو كانت ثمة ثورات فارسية ضد دولة ميديا، لما تردد أولئك الفرس في ذكر أخبارها، ولا سيما أن هيرودوت كان قد قام بجولته في بابل وفارس بعد مرور قرن على زوال الدولة الميدية.

ولعل سبب سكوت النخب الفارسية على الهيمنة الميدية هو القرابة الإثنية والثقافية بين الشعبين من ناحية، والرغبة في الخلاص من قهر الدولة الآشورية من ناحية ثانية، والرغبة في الاستفادة من الموارد الاقتصادية في ميديا وفي المناطق التي خضعت للدولة الميدية من ناحية ثالثة، إضافة إلى حسنات النهج اللامركزي الذي كانت تقوم عليه الرؤية السياسة الميدية.

سقوط دولة ميديا

يُفهم من روايات هيرودوت- وما كان يخلو من تحيّز للفرس باعتباره كان من الرعية الفارسية- أن الأمور تغيرت بعد مرور ثلاثة عقود من عهد أستياگ، وألقى نهج أستياگ الاستبدادي، والانقسام بين النخب القيادية الميدية، بظلالهما على العلاقة بين أستياگ والنخب الأخمينية، فزادت الأمورَ سوءاً، وكان الزعيم الأخميني الذي قاد الثورة ضد أستياگ هو كورش Kursh الثاني ابن قمبيز الأول، أي حفيد أستياگ من ابنته ماندانا، ولن أستعرض هنا تفاصيل أحداث تلك الثورة، إذ سبق أن تناولتها بالبحث في الحلقة (44) من سلسلة (مشاهير الكرد في التاريخ)، وهي منشورة على عدة مواقع إلكترونية، كما تناولتها في كتاب معدّ للنشر حول دولة ميديا، وأكتفي هنا بسرد الخطوط الرئيسة.

لقد وظّف كورش العوامل الآتية لكسب الحرب ضد جده أستياگ:

1. خبرته العسكرية والسياسية، فهو قد نشأ وترعرع في ظل الثقافة الميدية، وكان من القادة البارزين، وكان جده أستياگ يكلّفه ببعض المهمات العسكرية، ولا سيما في أرمينيا.

2. استثماره رغبة النخب الفارسية في الخلاص من التبعية لميديا، وتطلّعهم إلى السيطرة على (طريق الحرير)، ووضع اليد على ثروات ميديا.

3.   صداقته مع بعض كبار رجال البلاط الميدي.

4. بناء علاقة خاصة وسرية مع هارپاگ Harpage (هارپاجوس) كبير القادة العسكريين الميد، وكان هارپاگ من أشد الناقمين على أستياگ، ومن أكثر المتظاهرين بالإخلاص للملك في الجهر، ومن أشد الناشطين للتآمر عليه والخلاص منه في الخفاء، وقد كتب إلى كورش في إحدى رسائله السرية: " هيّئ الفرس للثورة، وامضِ لملاقاة الميديين، ولا يضيرنّك إن كنتُ أنا أو أحدُ المقدَّمين منهم على رأس الجيش الذي سيرسله الملك لملاقاتك، فالفوز لك في كل الأحوال؛ لأن أشرف الميديين سيكونون أوّلَ من يهجرونه للانضمام إليك في جهدك للإطاحة به، ونحن جميعاً جاهزون للعمل، فافعل ما أنصحك به، وبادر العمل سريعاً". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 90 – 91).

5. بناء علاقة سرية مع بعض كبار الموغ (رجال الدين)، وثمة احتمالان: إما أن هؤلاء كانوا من رجال الدين الأزدائي (اليزداني) الذي كان سائداً في المجتمع الميدي حينذاك. وإما أنهم كانوا من المتعاطفين مع زردشت، مع الأخذ في الحسبان أن زردشت كان قد أحدث انشقاقاً في الديانة الأزدائية، ولذلك وقفت النخب الميدية الدينية والسياسية ضده. وقال دياكونوف موضّحاً: " إن قسماً من الكهنة الموغ عقدوا علاقات مع الفرس المتمردين. في الواقع إن الذي يدل على هذا أن الموغ كانوا يُستقبَلون باحترام كبير في بلاط كورش وابنه كمبوجيا الثاني [قمبيز الثاني] بعد الأحداث هذه مباشرة ". (دياكونوف: ميديا، ص 395).

6. صداقته مع ديگران ابن الملك الأرمني يروانت، وكان هذا الأخير ناقماً على سياسات أستياگ، ويرغب في الخلاص من التبعية لميديا.

7. استغلاله نشوب الخلافات بين الحليفتين (ميديا وبابل)، فقد كانت سلالة الملك البابلي نبوبولاصر (حليف كيخسرو) قد أزيحت عن الحكم في بابل، وتولّى السلطة  نابونيد (نابونئيد) ابن الكاهنة العليا للإله (سين) في حَرّان، وكان الميديون قد ضمّوا حرّان إلى منطقة نفوذهم، لوقوعها على الطريق التجاري الرابط بين بلاد الرافدين وآسيا الصغرى وسواحل شرقي المتوسط، وكان نبونيد راغباً في السيطرة عليها، وقد هاجمها فعلاً حينما انشغل أستياگ بثورة كورش سنة (553 ق.م). (دياكونوف: ميديا، ص 394).

وهكذا فإن المعطيات الداخلية والإقليمية هيّأت المناخ لأن ينفّذ كورش خطته، وفي وقت متأخر عرف أستياگ خفايا ما كان يدور بين كورش والمتآمرين عليه بقيادة هارپاگ، فأراد وأد الثورة في مهدها، واستدعى كورش إلى إگبتانا، لكن كورش بادر إلى إعلان الثورة، والزحف نحو ميديا، فحشد أستياگ جيشه لملاقاة الجيش الفارسي، ونصب هارپاگ قائداً لذلك الجيش، وكان من الطبيعي والحال هذه أن تكون الهزيمة نصيب الجيش الميدي، وقال هيرودوت في هذا الشأن:

" وكان من أثر ذلك العمل أن قلة من جنوده لم تشترك في المؤامرة، هي التي صمدت في ساحة المعركة، حين اشتبك الجيشان ودار القتال، وأما البقية فكانوا بين فارّ إلى معسكر الفرس، ومتكلّف يصطنع القتال اصطناعاً؛ ليهرب بعدئذ من المعركة". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).

وقال دياكونوف:

" هارباگ الذي كان قائداً عاماً للجيش الميدي، فإنه مع النبلاء، وقادة قوات الجيش، انضموا إلى كورش، ودخلوا في صفوف جيشه". (دياكونوف: ميديا، ص 392).

ولما وصلت أنباء الهزيمة إلى أستياگ أصر على الدفاع عن عرشه، فبادر إلى إعدام بعض الخونة من الموغ، وسلّح سكان العاصمة إگبتانا، وعبّأهم للدفاع عن مدينتهم، واقتحم كورش العاصمة، وسقط المقاتلون الميديون المخلصون لملكهم صرعى، ووقع أستياگ في الأسر سنة (550 ق.م)، قال دياكونوف:

" إن الكتابات والمصادر المذكورة... تبيّن أن الميديين قاوموا بقوة شديدة في المعارك مع الفرس، ولولا خيانة كبار رجال ميديا، داخل الدولة الميدية، لما استطاع الفرس السيطرة على الحكم في الإمبراطورية الميدية ". (دياكونوف: ميديا، ص 394).

ولم يكتف هارپاگ بخيانة أستياگ، ومساعدة كورش على احتلال عاصمة الإمبراطورية، وإنما زار أستياگ في معتقله ساخراً ومتشفّياً، وأكد له أن هو الذي دبّر أمر الثورة عليه، فما كان من أستياگ إلا أن رماه بنظرة احتقار قائلاً له:

" إذنْ، فأنت لست الأشدّ لؤماً بين البشر وحسب، بل أكثر الرجال غباء؛ فإذا كان هذا من تدبيرك حقاً كان الأجدر أن تكون أنت الملك،... وإذا كان لا بد لك من أن تسلّم العرش لآخر غيرك، كان الأجدر بك أن تقدّم هذه الجائزة لميدي، بدلاً من فارسي، لكن الحال الآن هي أن الميديين الأبرياء من كل جُنحة غدوا عبيداً بعدما كانوا أسياداً، وأصبح الفرس سادة عليهم، بعد ما كانوا عبيداً عندهم". (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 93).

وعلى أية حال لم تكن سياسات أستياگ القاصرة هي السبب الوحيد لانقضاض النخب الأخمينية على دولة ميديا، كما أن الدافع إلى ذلك لم يقتصر على الرغبة في التحرر من السيطرة الميدية، ولو كان الأمر كذلك لاكتفى الزعيم الأخميني كورش بدحر الجيش الميدي، والعودة إلى فارس للاستقلال بحكمها، إن ما جرى بين فارس وميديا كان فصلاً آخر من فصول الصراع بين (جغرافيا الحرمان) و(جغرافيا الوفرة)، بين (البداوة) و(المدنية)، وقد لخّص ديورانت ذلك بقوله:

" من السُّنن التاريخية التي تكاد تنطبق على جميع العصور أن الثراء الذي يخلق المدنية هو نفسه الذي يُنذر بانحلالها وسقوطها، فالثراء يبعث الفن كما يبعث الخمول؛ وهو يرقّق أجسام الناس وطباعهم، ويمهّد لهم طريق الدَّعَة والنعيم والترف، ويُغري أصحاب السواعد القوية والبطون الجائعة بغزو البلاد ذات الثراء". (ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 194).

ومهما يكن فإن سقوط دولة ميديا، وسيطرة الأخمين الفرس على مقاليد الأمور في غربي آسيا، كان نقطة تحوّل كبرى في مصير البيت الغرب آسيوي عامة، وفي مصير الشعب الكردي بوجه خاص؛ إذ ثمة من الأدلة ما يؤكد أنه في كنف هذه الدولة وُضع حجر الأساس لمشروع أبلسة أجداد الكرد، وصار محتوماً على الكرد طوال خمسة وعشرين قرناً أن يرثوا تبعات ذلك المشروع.

أما تفاصيل التأسيس فستكون موضوعنا في الحلقة القادمة.

المراجع

1.    أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل في العصور القديمة بين الرواية التوراتية والاكتشافات الأثرية، ترجمة وتعليق دكتور رشاد عبد الله الشامي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، الطبعة الأولى، 2001.

2.    إسرائيل فنكلشتاين، نيل أشر سيلبرمان: التوراة اليهودية منكشفة على حقيقتها ، ترجمة سعيد رستم، الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2005.

3.     البرت كيرك كريسون: الكتابات الملكية لآشور ناصربال الثاني، ترجمة صلاح سليم علي، دار ادي شير للنشر والإعلام، أربيل، 2004.

4.     إيمانويل فلايكوفسكي: عصور في فوضى (من الخروج إلى الملك أخناتون)، ترجمة الدكتور رفعت السيد، سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995.

5.    جرنوت فلهلم: الحوريون تاريخهم وحضارتهم، ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، 2000.

6.    جين بوترو، أوتو إدزاد، آدام فاكنشتاين، جين فيركوتر: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ترجمة عامر سليمان، جامعة الموصل.

7.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.

8.    الدكتور سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، منشورات الجمعية التاريخية العراقية، بغداد، 1975.

9.    سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر، دار الرقي، بيروت، 1986.

10.    الدكتور سيد محمود القمني: إسرائيل التوراة التاريخ التضليل، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998.

11.    الدكتور سيد محمود القمني: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990.

12.    صمويل نوح كريمر (نشر وقدم له): أساطير العالم القديم، ترجمة دكتور أحمد عبد الحميد يوسف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974.

13.    الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد.

14.    دكتور عامر سليمان، أحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، موجز تاريخ مصر وسوريا وبلاد اليونان والرومان القديم، بغداد، 1978.

15.    عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى (دراسة في التاريخ السياسي والحضاري القديم لبلاد الرافدين)، دار المعرفة، دمشق، الطبعة الأولى، 1988.

16.    الدكتور محمد قدوح: الكتابة (نشأتها وتطورها عبر التاريخ)، دار الملتقى للطباعة والنشر، قبرص – لبنان، الطبعة الأولى، 2000.

17.    هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991.

18.    هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.

19.  ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957-1958 .

20.    وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959.

وإلى اللقاء في الحلقة السابعة عشرة

د. أحمد الخليل   في 1 – 6  -  2009

dralkhalil@hotmail.com

 انقر هنا لعرض الحلقات السابقة