سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الخامسة عشرة )

جولة في تاريخ غربي آسيا (صراع الجبال والصحراء)

 

فجر الحضارة

قارئ التاريخ والنسر شبيهان.

كلاهما بحاجة إلى التحليق عالياً.

أما النسر فكي يرصد أكبر رقعة ممكنة بحثاً عن الطرائد.

وأما قارئ التاريخ فكي يرى أكبر رقعة ممكنة بحثاً عن الحقائق.

أجل، إن قارئ التاريخ بحاجة إلى التحليق عالياً في فضاء التاريخ؛ ليس عجزاً عن الإمساك بالتفاصيل، وإنما بحثاً عن معرفة المشهد الكلي؛ إذ بقدر ما يحيط بالمشهد الكلي يتحرر من الوقوع في أسر الجزئيات، ويتغلّب على جاذبية الانشغال بالفروع دون الأصول، ويصبح أقدر على معرفة العلاقات بين المكوّنات والعناصر، ويصبح من ثَمّ أدقّ رؤية، وأَصْوب رأياً، وأَقْوم حُكماً.

وطموحاً إلى النسورية قمنا، في الحلقة (14)، بجولة في تاريخ العالم القديم، وتأكد لنا حينذاك أنه كانت ثمة على الدوام مصالح وصراعات بين سادة العالم القديم، وكانت الجغرافيا هي موضوع الصراع؛ أقصد الجغرافيا من حيث الموارد، والجغرافيا من حيث الموقع الستراتيجي (جيوپوليتيك)، وبدا واضحاً أن أكثر الصراعات شراسة دارت في المنطقة الواقعة بين جبال زاغروس شرقاً، وسواحل البحر الأبيض المتوسط غرباً، وكان الهدف الأكبر للقوى الكبرى حينذاك هو السيطرة على شبكة طريقَي التجارة العالمية: طريق البخور، وطريق الحرير.

وعلمنا في الحلقة ذاتها أيضاً أن الصراع على غربي آسيا كان حامياً جداً، لأن طريق الحرير كان يدخل هذه المنطقة عبر كردستان قادماً من الشرق، وكان طريق البخور يدخلها عبر اليمن من الجنوب الغربي، وكانت الشبكتان تتقاربان وتتلاقيان على السواحل الشمالية والغربية للبحر الأبيض المتوسط.

وفي هذه الحلقة سنواصل التحليق في فضاء التاريخ الغرب آسيوي، لكن على مسافة أقرب؛ لنركّز النظر على بلاد الرافدين بحوافّها الأربع: الحافّة الشرقية (كردستان)، والحافّة الجنوبية الغربية (شبه الجزيرة العربية)، والحافّة الشمالية الغربية (سوريا الكبرى/بلاد الشام)، والحافّة الشمالية (الأناضول)، ونوجّه التركيز بشكل أكبر إلى ثلاث مناطق جغرافية بارزة في غربي آسيا:

1. الأولى جغرافيا الجبال: وموقعها في الشرق والشمال، وهي تبدأ من مشارف الخليج في الجنوب الشرقي، وتمتد نحو الشمال الغربي إلى مشارف جبال القوقاز وسواحل البحر الأسود، وتتألف من كتلتين ضخمتين بدءاً من الجنوب إلى الشمال؛ الأولى جبال زاغروس، والثانية جبال طوروس.

2. والثانية جغرافيا الصحراء: في الغرب والجنوب الغربي، وهي تتألف من شبه الجزيرة العربية في الدرجة الأولى، مع الامتدادات الصحراوية في شمال غربي بلاد الرافدين (العراق حالياً)، وفي جنوبي سوريا الكبرى (بلاد الشام).

3. والثالثة جغرافيا السهول: وموقعها في الوسط بين كل من جغرافيا الجبال وجغرافيا الصحراء، وهي تبدأ من رأس الخليج في جنوبي بلاد الرافدين، وتمتد شمالاً وغرباً نحو وسط سوريا وسواحل شرقي المتوسط.

كانت هذه الجغرافيات الثلاث وراء صياغة القسم الأكبر والأهم في تاريخ غربي آسيا سياسياً وثقافياً، ولعل من الصحيح القول أيضاً بأنها كانت ذات تأثير بالغ في صياغة تاريخ البشرية على الصعيد الحضاري بشكل عام.

ودعونا نتناول بعض التفاصيل في هذا المجال.

فق قسّم المؤرخون شعوب العالم إلى مجموعات عرقية كبرى، أهمها: الشعوب الآرية (الهندو- أوربية)  Indo- Europeansوالشعوب السامية، والشعوب الحامية، والشعوب الأورال ألطائية، وشعوب جنوب شرقي آسيا، وشعب الإسكيمو، وذكر جيمس هنري برستد أن مصطلح (الآريين) يطلق على الفرع الشرقي من الشعوب الهندو-أوربية، ومن أبرز تلك الشعوب: الكرد، والفرس، والبُلوش، والباشْتو (موزّعون بين شمالي باكستان والنصف الجنوبي من أفغانستان)، والأرمن، أما الأوربيـون فهم من الفرع الغربي. (جيمس هنري برستد: انتصـار الحضارة، ص 245 – 246).

ورجّح معظم المتخصصين في التاريخ القديم، وفي علم السلالات، أن وسط آسيا، وتحديداً شرقي بحر قزوين، كان المهد الأصلي للشعوب الآرية، وذكر ول ديورانت أن (زند أڤستا)، وهو الكتاب الزردشتي المقدس، يأتي على ذكر هذا الموطن القديم، وذكر ديورانت أن ذلك الموطن يسمّى في الأڤستا (إيريانا – فيچو)؛ أي (موطن الآريين)، وجاء وصفه " بأنه جنّة من الجِنان ". (ول ديورانت: قصة الحضارة،  مجلد 1، جزء 2، ص 424، 399).

ويبدو أن تلك المنطقة عانت من أزمة مناخية حادّة في الفترة بين (3000 – 1000 ق.م)، فحدث تقلّص في الموارد، وكان من الطبيعي أن يشتد التنافس بين القبائل الآريانية على الجيوب الباقية من (جغرافيا الوفرة)، وكان الحل هو الانزياح من (المكان الطارد)، والانتقال إلى (المكان الواعد)، وقد ذكر هـ. ج. ولز عاملاً آخر كان وراء هجرة الآريين غرباً؛ هو نشوب الصراع بينهم وبين الشعوب المغولية (الطورانية) المجاورة للآريين شرقاً. وقد توجّه بعض الآريين جنوباً نحو شبه القارة الهندية، وتوجّه آخرون نحو غربي آسيا، وتوجّه فريق ثالث شمالاً وغرباً نحو أوربا الشرقية والغربية. (هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، ج 2، ص 208، 309).

وما يهمّنا الآن هو أمر القبائل الآريانية التي توجّهت غرباً، فقد انتهى بها المطاف إلى الاستقرار في غربي آسيا، وتحديداً في السلاسل الجبلية الممتدة من مشارف الخليج جنوباً إلى مشارف بحر قزوين وجبال القوقاز ومشارف البحر الأسود شمالاً؛ وهي تضم سلاسل جبال زاغروس وجبال طوروس، ويفيد المؤرخون أن هذه المنطقة وحوافّها الغربية كانت مهد بزوغ فجر الحضارة في غربي آسيا.

أدلة تاريخية

وإليكم بعض ما ذكره المؤرخون بشأن عراقة الحضارة في غربي آسيا:

·  " كانت آسيا الأمامية أيضاً من أهم مراكز تدجين الحيوانات، وأصبحت منطقة تاوره- زغروس المركز الأساسي لتدجين الماعز والأغنام، حيث ظهر الرعي في الألف الثامن قبل الميلاد، وانحصرت عملية تدجين الماعز بلا شك في جنوب جبال زغروس، بينما كان تدجين الأغنام يجري في شمالها... ففي جنوب الأناضول، وربما أيضاً في شرقه، كان الناس على تخوم الألفين السابع والسادس [قبل الميلاد] قد دجّنوا التيوس الجبلية، ثم انتقلوا إلى تربية الأبقار". (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 62).

·  " لم تكن آسيا الأمامية من أقدم مراكز الزراعة والرعي فحسب، بل كانت الموطن القديم لصناعة التعدين؛ إذ توفرت هنا في الألف السابع [قبل الميلاد] المقدمات الإنتاجية لنشوء التعدين ". (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 64).

·  " عثر المنقّبون أثناء حفريات مستوطنة جارمو في العراق (حوالي عام 6500 ق.م) على 1153 كرة، و 298 قرصاً، و 106 مخاريط". (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 101).

·  حضارة حلف Halaf: سُمّيت هذه الحضارة باسم موقع تل حَلَف (شمال شرقي الموصل)، ويقول جيمس ميلارت: " لقد انتشرت هذه الحضارة على شكل قوس من نهر الفرات إلى الزاب الأكبر، وبينما كانت الحدود الجنوبية لهذه الحضارة محددة بشكل دقيق فإنه من المحتمل أن تكون جبال طوروس حدودها الشمالية، مع جيوب منتشرة هنا وهناك في الهضبة الأناضولية إلى الشمال من هذه الجبال". (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 157).

·  قال جيمس ميلارت أيضاً بشأن حضارة حَلَف: " تعتبر حضارة حَلَف من الحضارات النشيطة بشكل خاص، ... ومن المحتمل أن يكون الذين أسسوا هذه الحضارة هم القادمون الجدد من المناطق الشمالية، وهناك احتمال بأن تكون منطقة الرافدين التركية [المنطقة الكردية في جنوب شرقي تركيا] هي الموطن الأصلي لهذه الحضارة ". (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 157).

·   ذكر جيمس ميلارت أيضاً أن ثمة تشابهاً كبيراً بين حضارة حَلَف في أواخر الألف السادس وأوائل الألف الخامس قبل الميلاد، وحضارة النيوليت وبدايات العصر النحاسي، وأن حضارة حلف اندثرت في الفترة ما بين (4400 - 4300 ق. م). (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 163).

·  حضارة تپه جيتان  :Tepe Gitan " إن حضارة تپه جيتان، في منطقة زاغروس، ربما تكون لعبت دوراً هاماً في نقل الحضارة بين سامراء [سومر] ومنطقة حَلَف شمال نهر دِيالي ومناطق سوسا [في عيلام]. ولم تسيطر هذه الحضارة على البوّابات الفارسية والطرق العامة في بلاد الرافدين حتى كَرْمَنْشاه وهَمَذان فقط، لكنها تحكّمت بالمنطقة الواقعة من شمال بلاد الرافدين حتى عَرَبستان [خُوزِستان= الأَهْواز، في جنوب غربي إيران حالياً] ". (جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ص 93).

إن هذه الأدلة، وكثيراً غيرها، لا تدع مجالاً للشك في أن سفوح جبال زاغروس وطوروس، والمناطق القريبة من سفوحها الغربية والجنوبية والشمالية، كانت البقعة التي ظهرت فيها أولى تباشير الحضارة في غربي آسيا، وإذا دققنا النظر في تلك الجغرافيا يتضح أنها الجغرافيا التي استقر فيها أجداد الكرد منذ خمسة آلاف عام على أقل تقدير، وما زال الكرد يقيمون فيها؛ أي أنها (كردستان).

أدلة دينية

ولعل ثمة من لا يقتنع بالحقائق ما لم يأت لها ذكر في النصوص الدينية، ولهؤلاء تحديداً نقدّم ثلاثة أدلة؛ اثنان من التوراة، والثالث من القرآن، وجميعها يؤكد أن ظهور فجر البشرية والحضارة كان في جغرافيا الجبال بغربي آسيا، وهي الجغرافيا التي يقيم فيها الكرد، وعُرفت باسم (كردستان):

1 - الدليل التوراتي الأول: " وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً. وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ، وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ [ثمر شجرة الدَّوْمَة، ونوع من الصَّمْغ] وَحَجَرُ الْجَزْعِ [خَرَز فيه سواد وبياض]. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِى جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ، وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابعُ الْفُرَاتُ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 2، الآيات 7 – 14. وانظر سامي سعيد الأحمد: السومريون، ص 20).

1. الدليل التوراتي الثاني: بشأن الطوفان، وسفينة نوح: " ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وَكُلَّ الْوُحُوشِ وَكُلَّ الْبَهَائِمِ الَّتِي مَعَهُ فِي الْفُلْكِ. وَأَجَازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ الْمِيَاهُ. وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ وَطَاقَاتُ السَّمَاءِ، فَامْتَنَعَ الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ. وَرَجَعَتِ الْمِيَاهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوَالِيًا. وَبَعْدَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ، وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِي الشَّهْرِ السَّابعِ، فِي الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 8، الآيات 1 – 4. وانظر فرنسس دافدسن وآخران: تفسير الكتاب المقدس، ص 148).

2. الدليل القرآني: بشأن قصة الطوفان واستقرار سفينة نوح: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }. (سورة هود، الآية 44).  

وإذا أخذنا في الحسبان أن الجنّة التوراتية ليست سماوية، وإنما هي جنّة أرضية، وأن نهر حِدّاقِل هو نهر (دجلة)، ودققنا النظر في الجغرافيا التي تقع فيها منابع أكبر نهرين في غربي آسيا (الفرات ودجلة)، اتضح لنا، دون أدنى شكّ، أن (جنّة عَدْن) وقسماً كبيراً من (جبال أرارات) المذكورة في التوراة، كانت في القسم الشمالي الغربي من بلاد الكرد (شرقي تركيا حالياً) وهي ذاتها الجغرافيا التي كان يقيم فيها الحوريون، منذ نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، وهم من أجداد الكرد القدماء. (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 29).

ولا يختلف الأمر كثيراً إذا تركنا الرواية التوراتية جانباً، واعتمدنا الرواية القرآنية بشأن موقع الجبل الذي وقفت عليه سفينة النبي نوح، فجبل (جُودي) معروف بهذا الاسم إلى الآن، وهو يقع قرب جزيرة بُوتان Botan المعروفة في مصادر التراث الإسلامي باسم (جزيرة ابن عُمَر)؛ أي أنه يقع في الجغرافيا الكردية بجنوب شرقي تركيا حالياً. (انظر الشيخ الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج 10، ص 223).  

وثمة احتمالان لأصل اسم (جودي):

- الأول أنه مأخوذ من كلمة (جُوتي = گوتي)، وهو اسم أحد الفروع الكبرى من أجداد الكرد، ولا تخفى كثرة التبادل بين حرفي (ت، د) في الأسماء خاصة، لقرب المخرج الصوتي؛ ونرى أن هذا الاحتمال هو الأرجح.

- والثاني أنه مركّب من الكلمتين الكرديتين (جُهْ Goh= مكان)، (دِي Di= وَجَد)، وبجمع الكلمتين نحصل بالكردية على معنى (المكان المختار، المستقَر).

جبليون أوائل: السومريون

إن الذين يخافون مواجهة الحقائق هم الأكثر هرباً من قراءة التاريخ بواقعية، وهم الأكثر حرصاً على التغييب والتحوير والتزوير، وهم الأكثر تضليلاً للأجيال، والأكثر إساءة إلى ذاكرات الشعوب، وكي نكون صادقين، ونحن نفسّر التاريخ، ينبغي أن نتحلّى بقدر كبير من الشجاعة العلمية؛ لأننا قد نكتشف- شئنا أم أبينا- حقائق لا تريحنا دينياً، وقد تُغضبنا وتثير فينا الحميّة قومياً، وقد تصدمنا فتهدّم منظومات كاملة من القناعات المخزَّنة في وعينا ولاوعينا.

ومن جملة تلك الحقائق في تاريخ غربي آسيا ذلك الصراع المستمر- جهراً أو خفاء- منذ الألف الرابع قبل الميلاد؛ إنه الصراع بين سكان (جغرافيا الجبال) وسكّان (جغرافيا الصحراء)، وكان موضوع الصراع هو (جغرافيا السهول) في بلاد الرافدين، وفي امتداداتها غرباً باتجاه شرقي المتوسط، عبر النصف الشمالي من سوريا في أغلب الأحيان.

وفي بعض كتاباتنا سمّينا ذلك الصراع (تنافساً) من باب التلطيف ليس غير، وإلا فإنه كان صراعاً طويلاً وضارياً، طحنت رحاه أرواح الملايين من أرواح شعوب بيتنا الغرب آسيوي خلال خمسة آلاف عام، وسفك كثيراً من دموع أجدادنا وجداتنا، وابتلع كمّاً هائلاً من ثرواتنا، وأحسب أن بعض فصول ذلك الصرع ما زال قائماً إلى يومنا هذا، ويؤسفنا القول بأنه مرشَّح لأن يستمر أجيالاً أخرى؛ ما لم تَحْلُل (ثقافة الإخاء) في بيتنا الكبير محلّ (ثقافة الإلغاء).

ودعونا نوضّح الأمر أكثر.

إن سكان جغرافيا الصحراء (شبه الجزيرة العربية) كانوا يفتقرون إلى موارد الحياة الكافية لهم ولأنعامهم، وبما أن البحر يطوّقهم من الغرب (البحر الأحمر)، ومن الجنوب (بحر العرب)، ومن الشرق (الخليج)، فكان ثمة منفذان وحيدان متاحان لهم: الأول في الشمال الشرقي (بلاد الرافدين)، والثاني في الشمال الغربي (بلاد الشام)، فهناك المناخ المعتدل، والقدر الكافي من الأمطار، وكثير من السهول الكبرى الخصبة، وبعض الأنهار (الفرات ودجلة)، وأطلق المؤرخون على الأقوام التي خرجت من شبه الجزيرة العربية اسم (الشعوب السامية)، متأثرين بالمصطلح التوراتي، وسمّاهم بعض المؤرخين حديثاً باسم (أقوام الجزيرة العربية). (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص  64).

أما سكان جغرافيا الجبال (زاغروس وطوروس وحوافّها المتاخمة للقوقاز) فكانوا بحاجة أيضاً إلى التمدد باتجاه الغرب، نحو (بلاد الرافدين) و(شمالي بلاد الشام)؛ إذ صحيح أن مناطقهم كانت وفيرة الأمطار، كثيرة الأنهار، لكنها كانت كثيرة الثلوج، شديدة البرد، عدا أن الرقعة الصخرية كانت هي الغالبة على بلادهم، وكانوا بحاجة ماسّة إلى السهول المتاخمة لجبالهم، يتدفق إليه الفيض السكاني، ويكون في الوقت نفسه مرتعاً للقطعان في الشتاء القارص، وقد مرّ أن سكان الجبال أولئك كانوا في الغالب من الشعوب الآرية، وهم التكوين الأساسي الذي أنتج الشعب الكردي في النهاية.

وهكذا بدأ الصراع الطويل بين الجبال والصحراء.

وإليكم بعض تفاصيل ذلك الصراع.

كان السومريون أقدم شعب جبلي منتِج للحضارة في غربي آسيا، وكان ذلك في أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد، وقد انحدر هذا الشعب من جبال زاغروس في الشمال، واستقر به المقام في جنوبي بلاد الرافدين، بدءاً من جنوبي بغداد حالياً إلى الخليج، حيث السهول الرسوبية الخصبة، وحيث يمر نهرا دجلة والفرات، وربما كان قدومهم هرباً من ضغط قبائل آرية أخرى قادمة من الشرق، وذكر الدكتور أحمد فخري (أستاذ تاريخ مصر الفرعونية والشرق القديم)، أن حضارة بلاد سومر فاقت الحضارة في مصر حينذاك، لكن فيما بعد تقدمت عليها الحضارة المصرية؛ بسبب وحدة البلاد ووجود حكم مركزي بقيادة ملك واحد. (صمويل كريمر: من ألواح سومر، ص40، المقدمة).

وسومر أقدم اسم أُطلق على جنوبي بلاد الرافدين ( ميسوبوتاميا Mesopotamia)، وجاء ذكر بلاد سومر في التوراة باسم (سهل شِنْعار)، إذ جاء بشأن الملك نِمْرُود (حسب الصيغة التوراتية):" وَكَانَ ابْتِدَاءُ مَمْلَكَتِهِ بَابِلَ وَأَرَكَ وَأَكَّدَ وَكَلْنَةَ، فِي أَرْضِ شِنْعَارَ" (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح العاشر، الآية 10). وتسمّى (سومر) بالأكادية (شومرد)، وتُكتب بالمصطلح المسماري (كي إن جي)؛ أي (البلاد السيدة). (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص  24).

وليس الآن مجال الإجابة عن السؤال الآتي: هل السومريون من أجداد الكرد القدماء؟ فتلك مهمة ينبغي أن نعدّ لها أكبر قدر ممكن من المعلومات، ونخضعها لكثير من التنقيب والتحليل والمقارنة؛ لكن مع ذلك لا تفوتنا الإشارة سريعاً إلى ثلاثة أدلة على وجود علاقةٍ ما بين السومريين و أجداد الكرد:

-  الدليل الأول: جغرافي، فقد كان موطن السومريين، قبل الاستقرار في ميسوبوتاميا، هو جبال زاغروس، وهذا أمر اتفق عليه معظم من تناول تاريخ السومريين بالبحث.

-  والدليل الثاني: لغوي يتجلّى في كلمة (شومرد)، وهي صيغة شبيهة جداً بالكلمة الكردية (جُومَرْد Gomerd)، بمعنى (الشهم، الكريم، السيد)، كما أنها صيغة شبيهة بالكلمة الكردية (جُهْ مَرْد Goh merd) بمعنى (سيد المكان).

-  والدليل الثالث: لغوي أيضاً، فبتدقيق النظر في كلمة (كي إنْ جِي) يتضح أنها صيغة تكاد تكون طبق الأصل من الكلمة الكردية (آكِينْجي Akingi/ a- kin - gi)، وتعني (صاحب الأرض)، وهي تُطلق على من يقيم في قرية وله فيها أرض يملكها، وله من ثَمّ حق التحدّث في شؤونها.

ومرة أخرى أقول: ليس الآن موضع البحث في هذه الموضوع، مع أنه جدير بالاهتمام، ولعلنا نفرغ له ولأشباهه مستقبلاً على نحو أكثر توسعاً.

ولنعد إلى مسارنا الأساسي، ألا وهو الزحف الجبلي الأول- متمثّلاً بالسومريين- إلى ميسوبوتاميا، وصحيح أن السومريين أقاموا منظومة حضارية متكاملة، دينياً، وأدبياً، وزراعياً، لكن سيكولوجيا الجبال، بما تعنيه من شدة الاعتداد بالذات، وعدم الرضوخ للآخر، والعناد في الموقف، فعلت فعلها، فحالت دون قيام دولة مركزية سومرية طوال خمسة قرون، رغم شعور السكان بأنهم من جنس واحد، وظلت ميسوبوتاميا موزَّعة بين دول- مدن سومرية، أشهرها كيش، ونِيپور، وآداب، ولَجش، وأُورُوك، ولارسا، وأُور، وأَرِيدُو، وعجزت دول المدن السومرية من إنجاز مشروع توسعي إمبراطوري في المناطق المجاورة. (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص 67. د. عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم مصر والعراق، ج 1، ص 40. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 51).

أكّاديون وگوتيون

وبينما كان الجبليون السومريون يضعون قواعد أول حضارة في غربي آسيا، كانت القبائل السامية تتنقل مع قطعانها في بوادي شبه الجزيرة العربية الشاسعة، ولا سيما في الجنوب الغربي من بلاد الرافدين، وكانت تعاني من ندرة الأمطار، وقلة مساحات الغطاء النباتي المناسب لتربية الحيوانات، وتحوّل بلادها إلى (جغرافيا الجوع)، مما أدّى إلى تفاقم الصراعات فيما بين تلك القبائل، فتوجّه بعضها نحو (جغرافيا الشِّبَع) في التخوم الشمالية الشرقية من بلادها؛ أقصد بلاد ما بين النهرين (العراق بعدئذ).

وكان الأكّاديون هم الطليعة السامية التي بدأت الزحف نحو بلاد الرافدين قبل حوالي (2500) ألفين وخمسمئة سنة قبل الميلاد، واستقرّت القبائل الأكّادية بدايةً في غربي نهر الفرات، بجوار المناطق التابعة لدول المدن السومرية في أَرِيدو ونِيپُور وأُور وغيرها، وتعلمت من السومريين كيف تنظّم نفسها، وتنتقل من ثقافة البداوة إلى ثقافة الزراعة، وتنتقل من نظام القبيلة إلى نظام الدولة.

ويبدو أن شرائح من النُّخب الأكّادية اندمجت مع الزمن في الحياة السياسية والاقتصادية لبعض دول المدن السومرية الشمالية، إذ نجد شخصاً أكّادياً- هو سرجون- يصل إلى منصب ساقي الملك السومري في دولة مدينة كيش، وقيل بل كان ضابطاً كبيراً في جيش تلك المدينة، وقد وحّد صفوف الأكّاديين، وقادهم لخوض الصراع ضد دول المدن السومرية، وحقق نصراً حاسماً على لوگال زاگّيزي Lugal zaggisi ملك أوروك حوالي عام (2350 ق.م)، ووضعه في قفص على بوّابة معبد الإله (إنليل) في مدينة نيپور. (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص 67. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 63).

وكان لوگال زاگّيزي أقوى ملوك سومر حينذاك، وكان الملك السومري الوحيد الذي فرض سلطته بالقوة على معظم مدن الدول السومرية، ولم يكتف بالسيطرة على جنوبي بلاد الرافدين، وإنما سيطر على شماليها أيضاً، وصار الحاكم الذي يمتد نفوذه من الخليج (البحر الأسفل) إلى البحر الأبيض المتوسط (البحر الأعلى) حسب زعمه، وبعد انتصار سرجون عليه كان من الطبيعي أن يصبح هذا الأخير أقوى ملك في بلاد الرافدين جميعها، وكان من الطبيعي أيضاً أن يفرض سيطرته على جميع مدن الدول السومرية. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 63).

وفي عهد سرجون (2370- 2230 ق.م) أسّست شعوب الصحراء- متمثلةً في الأكّاديين- أول دولة مركزية قوية في بلاد الرافدين جنوباً وشمالاً، باسم الدولة الأكّادية؛ نسبة إلى العاصمة أكّاد، كما ظهر أول لقب ملكي بصيغة (ملك جهات العالم الأربع) في غربي آسيا، ومن يحمل لقباً عولمياً كهذا اللقب فلا بدّ أن يكون صاحب مشروع توسّعي إمبراطوري عولمي؛ وهذا في حدّ ذاته أمر جدير بالتأمل العميق. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 63).

وقد نفّذ سرجون مشروعه الإمبراطوري بحزم وقسوة، فسيطر على بلاد الرافدين جميعها، وضمّ إليها عِيلام (في جنوب غربي إيران حالياً، ولعلها الاسم القديم لمنطقة لورستان الكردية)، وهاجم مواطن الگوتيين في زاغروس (إقليم كردستان العراق حالياً)، وتوغّل شمالاً في الأناضول وآسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، واجتاح الممالك الأمورية في سوريا، ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وثمة من يقول: إنه وصل إلى جزيرة كريت في المتوسط، كما أنه توغّل بغزواته جنوباً نحو بحر عُمان. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 92. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 68، 72).

وحافظ خلفاء سرجون (ابنه رِيمُوش  Rimush، وابنه الآخر مانِشْتُوسو Manishtusu) على ميراثه الإمبراطوري، وسحقوا ثورات الشعوب، غير أن حفيده نارام سين بن مانِشْتوسو- حكم بين (2260 – 2223 ق.م) كان الأبرز في هذا المجال، إذا أعاد الشعوب الثائرة بالحديد والنار إلى بيت الطاعة الأكّادي، وضمّ منطقة اللولوبيين (من أجداد الكرد) في جبال زغروس إلى إمبراطوريته، كما ضمّ إليها المناطق الجبلية الشمالية التي عُرفت بعدئذ باسم (أرمينيا)، واتخذ لقب شارت كبرات أربعيم (ملك الجهات الأربع)، ولقب شار گشاتي (ملك العالم)، ويبدو أن اللقب الأخير مصاغ باللغة السومرية، ومرة أخرى نجد الصيغة الكردية في هذا اللقب من خلال كلمة (شار= مدينة) وكلمة (گشاتي= كُل). (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 65. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 75).

وجاء دور الگوتيين الجبليين  في الرد على الأكّاديين الصحراويين، وشعب گُوتي (غوتي = جُوتي = جُودي) هو من مجموعة الأقوام التي كانت تعيش على أرض أجداد الكرد گُوتيوم (ميديا القديمة بعدئذ)، وحسب رأي أغلب الباحثين كان الگوتيون يعيشون شرقي منطقة لوللو، ولعلها منطقة لورستان، ويبدو أنهم كانوا الأكثر تماسكاً وقوة بين فروع أجداد الكرد حينذاك، فكانوا الأقدر على الثورة، وذكر دياكونوف أن الملك الأكّادي نارام سين قُتل على أيديهم، وأنهم ظلوا يخوضون الصراع ضد السلطات الأكّادية، رغم قلة عدد جيشهم وبدائية أسلحتهم، وذلك " يعود بالأساس إلى أن القادة الگوتيين تمكّنوا من جمع شمل القبائل في قومهم في اتحاد قوي تام ". (دياكونوف: ميديا، ص 109، 110).

وقد سيطر الگوتيون على سومر وأكّاد حوالي قرن من الزمان، بين (2230 – 2120 ق.م)، وبين (2270 -2145 ق.م) حسب لانجر أي حوالي (125) سنة، و(91) سنة حسب دياكونوف، ثم انسحبوا إلى جبالهم ثانية، تحت ضغط قوة سومرية- أكّادية جديدة، قادها أُور- نَمّو Ur- Nammu السومري (2112 – 2095 ق.م)، مؤسساً سلالة أور الثالثة (2112 – 2004 ق.م). (دياكونوف: ميديا، ص 110. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 55).

بابليّون وكاشيّون وحُوريّون

ثم سيطر شعب صحراوي الأصل جديد على بلاد الرافدين، هو الشعب البابلي، وقد بدأ العصر البابلي القديم (2000 – 1595 ق.م)، واتخذ ملوك هذا الشعب مدينة بابل على الفرات (شمالي سومر وأكّاد) عاصمة لهم، وأشهر ملوكهم هو حمورابي الذي حكم بين (2123- 2081 ق.م) حسب ول ديورانت، أو بين (1792 – 1750 ق.م) أو بين (1728 – 1686 ق.م) حسبما ذكر مؤرخون آخرون، وكما هي العادة لم يكتف البابليون بالسيطرة على بلاد الرافدين جنوباً وشمالاً، وإنما بسطوا سيطرتهم على المناطق الشرقية في عِيلام و گوتيوم (ميديا بعدئذ) أيضاً؛ أي على مناطق جبال زاغروس. (ول ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 394. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 95).

لكن فرعاً آرياً جبلياً جديداً، متمثلاً في الكاشّيين (كاشو= كاسّي= كاسّيت)، زحف من الجبال الشرقية، من منطقة لورستان في جبال زاغروس، بقيادة زعيمهم گانداش (جان داش) Gandash، ويقدّر زمن حكمه في حدود (1680 – 1665 ق.م). وفي عهد الملك الكاشي آگوم الثاني Agum II، في حدود (1580 ق.م)، أو في حدود (1532 ق.م)، هبط الكاشيون من حُلْوان (هاوْرامان)، على طريق خانِقِين، إلى وسط بلاد الرافدين وجنوبيها، واحتلّوا مدينة بابل، وكان الحثيون سبقوهم إليها، لكنهم تراجعوا بعدئذ، وأسس الكاشيون في بابل سلالة حاكمة تسمّى (سلالة بابل الثالثة)، وورثت معظم ممتلكات الدولة البابلية، واتّخذ آگوم الثاني لقب (ملك أكّاد وبابل). (دياكونوف: ميديا، ص 127).

وقد جاء في ثبت الملوك ذكر (36) ملكاً كاشياً، حكموا حوالي خمسة قرون ونصف، يقدّرها المؤرخون في حدود (1680 – 1157 ق.م)، وثمة اختلاف في مدة حكمهم؛ إذ يقدّر بعضهم أنه دام في جنوبي بلاد الرافدين حوالي (400) سنة، في الفترة (1580 – 1157 ق.م) أو (1532 – 1160 ق.م)، وفي عام (1157 ق.م) زمن (إنليل  نادن آخي) آخر ملوك الكاشيين، ضعفت المملكة الكاشية، فهاجمها العيلاميون، وقضوا عليها، وما لبثت سلالة بابلية جديدة، هي السلالة الرابعة (1156 – 1025 ق.م)، أن برزت وانتزعت البلاد من أيدي العيلاميين. (دياكونوف: ميديا، ص 127. سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 68. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 103، 104).

وفي الوقت الذي كان فيه الكاشيون يهيمنون على بلاد الرافدين برز شعب جبلي آخر في غربي آسيا، إنه الشعب الحوريHorites, Hurrian(s)، وقد جاء الحوريون، حوالي نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، من المناطق الجبلية الواقعة في شمال شرقي بلاد الرافدين، وذكر جرنوت فلهلم أن موطنهم الأول كان يقع على جانبي المجرى العلوي لنهر دجلة وروافده الشرقية؛ أي شمال شرقي بحيرة وان (في شمال شرقي تركيا حالياً)، وسمّيت أحياناً (بلاد نايري)، وقد " لعبوا درواً مهمّاً، في أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، في نقل هذه الحضارة إلى سوريا وآسيا الصغرى". (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 24، 29).

وفي أوائل القرن السابع عشر قبل الميلاد تحرك الحوريون جنوباً وغرباً، وأسسوا عدداً من الإمارات، ثم برز فرع من الحوريين هم الميتانيون، فوحّدوا الإمارات الحورية تحت لواء مملكة مِيتاني، وامتد نفوذ تلك المملكة من كركميش (على الحدود السورية التركية) على الفرات حتى أرابخا (كركوك) شرقاً، وسيطر الميتانيون على حلب عاصمة الشمال السوري حوالي سنة (1475 ق.م). (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 35. عدنان الحديدي، معاوية إبراهيم: تاريخ الشرق الأدنى القديم، ص 346).

وفي مرحلة من المراحل أصبح الميتانيون قوة كبرى في غربي آسيا، تنافس الآشوريين شرقاً، والحثيين شمالاً، والمصريين جنوباً وغرباً، وأفلحوا في بناء علاقات صداقة ومصاهرة مع فراعنة مصر، لكنهم لم يستطيعوا الصمود في وجه الحثيينHittites ، وانتهى الأمر بهم إلى التفكك والضعف، فانتهز الآشوريون الفرصة بين (1350 – 1300 ق.م)، وغزا الملك الآشوري أداد نيراري الأول بلاد ميتاني حتى الفرات، وخرّب العاصمة واشوكاني حوالي سنة (1300 ق.م)، وكانت نهاية الدولة الميتانية على يدي الملك الآشوري شالمانصّر الأول حوالي سنة (1275 ق.م)، واختفت مملكة ميتاني من التاريخ. (جرنوت فلهلم: الحوريون، ص 59. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 62 - 63).

آشوريّون وميديّون

واستمرت عمليات الكر والفر بين شعوب الجبال وشعوب البوادي، ولك أن تقول: بين الآريين والساميين حسب المصطلحات المعتمدة عند معظم المؤرخين، فمنذ التقاء القرن (19 ق.م) بالقرن (18 ق.م) ظهر الآشوريون Assur في غربي آسيا، والمشهور أنهم شعب سامي، قدم إلى بلاد الرافدين من الغرب (من سوريا)، لكن ديورانت يقدّم رأياً آخر بشأن أصل الآشوريين، فيقول:

" وكان الأهلون خليطاً من الساميين الذين وفدوا إليها من بلاد الجنوب المتحضرة (أمثال بابل وأكّد)؛ ومن قبائل غير سامية جاءت من الغرب، ولعلهم من الحيثيين، أو من قبائل تمتّ بصلة إلى قبائل مِيتاني، ومن الكرد سكان الجبال الآتين من القفقاس". (ول ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2، ص 496 – 470).

والمهم أن الآشوريين جاوروا شعب سوبارتو من ناحية الغرب، وشعب سوبارتو هو من أجداد الكرد، وكانت مملكتهم تقع في النصف الشمالي الغربي من إقليم كردستان العراق حالياً، وهو المثلث الواقع بين الزاب الكبير (الأعلى) والزاب الصغير (الأسفل) ونهر دجلة. ثم أسس الآشوريون دولتهم الأولى في حدود (1894 – 1881 ق.م)، وأبرز ملوكهم هو شمشي – أداد الأول Shamshi – Adad  (1815 – 1782 ق.م)، وكان معاصراً ومنافساً للملك البابلي الشهير حمورابي، ثم قضى حمورابي على الدولة الآشورية في خضمّ مشروعه التوسعي الإمبراطوري. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 81 – 82. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 109).

وقام العهد الآشوري الوسيط في حدود (1594 – 912 ق.م)، وخاض ملوك هذا العهد صراعاً طويلاً ضد البابليين فالكاشيين فالحوريين (الميتانيين)، وبسقوط الميتانيين على أيدي الحثيين، ثم بضعف الحثيين أنفسهم، استعاد الآشوريون نفوذهم من جديد، وأقاموا إمبراطوريتهم الأولى بين (912 – 745 ق.م)، وأتبعوها بالإمبراطورية الثانية بين (745 – 612 ق.م).

وفي كلا العهدين كان ملوك آشور أصحاب مشاريع توسعية واحتلالية ضخمة، وحوّلوا مشاريعهم بالحديد والنار إلى واقع مفروض على جميع شعوب غربي آسيا، بدءاً من عِيلام وفارس وكردستان شرقاً إلى فلسطين غرباً، لا بل إن فتوحاتهم الإمبراطورية وصلت إلى إفريقيا عبر سيناء، وابتلعت مصر في عهد الملك أسرحدون Assurhadon (681 – 669 ق.م)، وفي عهد ابنه الملك آشور بانيپال Assur Panipal (669 – 629 ق.م)، وذاقت الشعوب في تلك الرقعة الجغرافية الهائلة جميع أشكال القهر والعسف والإذلال. (عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 113 – 120. وانظر عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 80 – 102).

وإذا كانت السيطرة الآشورية قد وصلت إلى مصر في إفريقيا؛ فهل يعقل أن تفلت منها المناطق الجبلية الشرقية والشمالية القريبة؛ أقصد جبال زاغروس وطوروس؟ بالطبع: لا؛ فكل دولة حملت مشروعاً إمبراطورياً في غربي آسيا كانت مضطرة إلى السيطرة على تلك السلاسل الجبلية؛ لأسباب متعددة، منها:

-  أولاً: لوضع يدها على شبكة (طريق الحرير)، واحتكار واحد من أهم طرق التجارة العالمية في العالم القديم.

-  وثانياً: للوصول إلى مناجم الحديد والفضة وحجر الديوريت الخاص لصنع التماثيل، وللحصول على الخيول والأغنام وغيرها من الموارد كالعسل.

-  وثالثاً: لقمع الشعوب الجبلية المتطلّعة بدورها إلى التقدم غرباً نحو سهول بلاد الرافدين وساحل البحر الأبيض المتوسط.

لهذه الأسباب جميعها زحف ملوك آشور الأقوياء بجيوشهم القوية الشرسة نحو جبال زاغروس وطوروس، واجتازوا الممرات الضيقة، وتسلّقوا القمم الوعرة، وزرعوا الرعب حيثما وصلوا، ونهبوا المدن والقرى، ودمّروا كثيراً منها، وفتكوا بالسكان، ورحّلوا أقواماً من أوطانهم إلى ديار بعيدة، وأسكنوا آخرين بدلاً منهم، وساقوا الأسرى في السلاسل إلى آشور ونينوى، وحوّلوهم إلى عبيد. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 95، 102. عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى، ص 110 – 121).

والحقيقة أن شعوب غربي آسيا لم تستسلم للسلطة الآشورية، وفجّرت الثورات بين حين وآخر، وكان سكّان المناطق الجبلية في زاغروس وطوروس- وقد سميت تارة (گوتيوم)، وأخرى (ميديا)، وبعدئذ (كردستان)- من أكثر الشعوب ثورة على الدولة الآشورية، وحينما يقرأ المرء المدوَّنات التي افتخر فيها ملوك آشور بأمجاد غزواتهم وفتوحاتهم، يستطيع القول بثقة: إن أجداد الكرد كانوا، معظم الأحيان، في طليعة الثائرين.

وجاء دور الأقوام الجبلية في أخذ زمام المبادرة، والتصدّي للسلطات الآشورية، وكان الاتحاد الميدي رأس الرمح في ذلك الاختراق، وقد ثار الميديون مرة تلو أخرى خلال القرنين (9، 8 ق.م)، ودفعوا ثمناً باهظاً من الممتلكات والأرواح، في عهد الزعيم الميدي دياكو (ديوكو= دايؤوك) Dioces، وفي عهد ابنه فراورت (فراورتيس)  Phraortesويسمّى (خَشْتريت) أيضاً، وفي السنوات الأولى من عهد حفيده كَيْخُسرو Kai-Khosru ، ويسمّى (كي أخسار= كيكسار = سياشاريس) Xsayarsa أيضاً، وعلم الميديون أن القوة المسلحة وحدها لا تحقق النصر على القوة الآشورية الضاربة، وقام كيخسرو بإنجازين ستراتيجيين:

-  الأول: توحيد فروع أجداد الكرد في زاغروس وطوروس، وبسط السيطرة على عِيلام وفارس جنوباً، وعلى أرمينيا شمالاً.

-     والثاني: عقد تحالف ستراتيجي مع البابليين الذين كانوا يعانون من قهر السلطات الآشورية.

واستطاع الميديون وحلفاؤهم، بعد جهود مضنية ومعارك ضارية، السيطرة على العاصمة الدينية (آشور)، ثم السيطرة على العاصمة السياسية (نينوى)، وإسقاط الإمبراطورية الآشورية، وتحرير جميع شعوب غربي آسيا من قبضتها الحديدية، وكان ذلك عام (612 ق.م). (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 70. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 68. طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 41).

إن سقوط الإمبراطورية الآشورية على أيدي الميديين وحلفائهم ترك أثراً طيباً في نفوس شعوب غربي آسيا، وظهر صدى ذلك في العهد القديم، فقد جاء في سِفر ناحوم، وكان من الأسرى العبرانيين في بلاد آشور:

"  نَعِسَتْ رُعَاتُكَ يَا مَلِكَ أَشُّورَ. اضْطَجَعَتْ عُظَمَاؤُكَ. تَشَتَّتَ شَعْبُكَ عَلَى الْجِبَالِ وَلاَ مَنْ يَجْمَعُ. لَيْسَ جَبْرٌ لانْكِسَارِكَ. جُرْحُكَ عَدِيمُ الشِّفَاءِ. كُلُّ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ خَبَرَكَ يُصَفِّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَيْكَ، لأَنَّهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَمُرَّ شَرُّكَ عَلَى الدَّوَامِ؟ ". (العهد القديم، سفر ناحوم، الأصحاح الثالث، الآيات 18 – 19).

وبسقوط الإمبراطورية الآشورية تغيّرت المعادلات السياسية في غربي آسيا، وظهرت أربع دول متنافسة:

-  الأولى: هي الدولة الميدية في جبال زاغروس وطوروس، وفي أذربيجان وعيلام وفارس، وغرباً حتى نهر هاليس (قزيل إرماق) في الأناضول.

-  والثانية: هي الدولة البابلية، وقد تقاسمت مع حليفتها الدولة الميدية ممتلكات الإمبراطورية الآشورية، فكان نصيبها بلاد الرافدين، وبلاد الشام، وشمالي شبه الجزيرة العربية.

-  والثالثة: دولة ليديا، وكانت تسيطر على آسيا الصغرى، من نهر هاليس إلى مضيق البُوسفور والدَّرْدَنيل (غربي تركيا حالياً).

-     والرابعة: الدولة المصرية، وكانت تنافس البابليين في بلاد الشام.

وظل الحلف الميدي- البابلي متماسكاً في عهد الملك الميدي كَيْخُسرو والملك البابلي (الكلداني) نابوبلاصّر، وتعزّز بزواج ولي العهد البابلي نبوخذنصّر من الأميرة الميدية آميد (أميتس) حفيدة الملك الميدي، ولأجلها بنى نبوخذ نصّر الحدائق المعلَّقة في بابل.

وبفضل ذلك التحالف الوثيق أمسك الملكان بالورقة الرابحة في ميدان التنافسات الإقليمية، وكانت دولة ليديا والدولة المصرية قد تحالفتا مع الدولة الآشورية ضد الحلف الميدي- البابلي، لكن الحلف الميدي- البابلي حقق النصر على الدولة المصرية في معركة كركميش عام (605 ق.م)، وانتزع منها بلاد الشام. (طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 41. دياكونوف: ميديا ، ص 302).

ثم خاض الميديون الصراع ضد دولة ليديا، بسبب السكيث الذين كانوا قد غزوا ميديا قادمين من شمالي البحر الأسود، وتحالفوا مع الدولة الآشورية، ولما سقطت الدولة الآشورية لجأوا إلى ليديا، وحماهم الملك الليدي إلياتِّس، وانتهت الحرب بتوقيع معاهدة سلام وتحالف بين ميديا وليديا سنة (597 ق.م) على الأرجح، وتعزّزت المعاهدة بزواج ولي العهد الميدي  أستياگ (أستياجس) بن كيخسرو من إريينس ابنة الملك الليدي إلياتِّس، ومر غربي آسيا بعهد من الاستقرار والازدهار دام حوالي نصف قرن. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 63 – 64. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 87. ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، ج 2،  ص 401).

ولا ننسى- ونحن نستعرض هذه الأحداث التي جرت في غربي آسيا طوال حوالي ثلاثة آلاف عام- أن موضوعنا الأساسي هو البحث عن جذور (مشروع أبلسة الكرد)، وأحسب أننا أصبحنا الآن أقدر على التنقيب عن تلك الجذور بوضوح وموضوعية، وهذا ما سنحاوله في الحلقة القادمة.

المراجع

1.           بونغارد – ليفين (إشراف): الجديد حول الشرق القديم، دار التقدم، موسكو، 1988.

2.           جيمس ميلارت: أقدم الحضارات في الشرق الأدنى، ترجمة محمد طلب، دار دمشق للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1990.

3.           دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.

4.           الدكتور سامي سعيد الأحمد: السومريون وتراثهم الحضاري، منشورات الجمعية التاريخية العراقية، بغداد، 1975.

5.            سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر، دار الرقي، بيروت، 1986.

6.           صمويل كريمر: من ألواح سومر، ترجمة الأستاذ طه باقر، مكتبة المثنّى، بغداد، ومؤسسة الخانجي، القاهرة، 1970.

7.           الشيخ الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، دار سَحْنون للنشر والتوزيع، تونس، 1997.

8.           الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1979.

9.           الدكتور عبد الحميد زايد: الشرق الخالد (مقدمة في تاريخ وحضارات الشرق الأدنى من أقدم العصور حتى عام 323 ق.م)، دار النهضة العربية، القاهرة، 1967.

10.      عبد الحكيم الذنون: الذاكرة الأولى (دراسة في التاريخ السياسي والحضاري القديم لبلاد الرافدين)، دار المعرفة، دمشق، الطبعة الأولى، 1988.

11.      الدكتور عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1990.

12.      الدكتور عدنان الحديدي، الدكتور معاوية إبراهيم: تاريخ الشرق الأدنى القديم، جامعة القدس المفتوحة، عمّان، الطبعة الأولى، 1994.

13.      فرنسس دافدسن، آلان م. ستبز، أرنست ف. كيفن: تفسير الكتاب المقدس، دار منشورات النفير، بيروت، الطبعة الثالثة، 1986.

14.      هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى.

15.      هـ. ج. ولز:  موجز تاريخ العالم، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958،1991.

16.      هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.

17.      ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973.

18.      وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959.

 

 

وإلى اللقاء في الحلقة السادسة عشرة

د. أحمد الخليل   في 10 – 5 -  2009

dralkhalil@hotmail.com

===========

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الرابعة عشرة )

جولة في تاريخ العالم القديم: (مصالح وصراعات)

 جوهر التاريخ

التاريخ أحداث وقعت في كنف الجغرافيا.

وأركان تاريخ البشرية ثلاثة: مصالح، ثقافات، سياسات.

والبحث في أيّ حدث تاريخي، بمعزل عن هذا الثلاثي المتحالف منذ فجر الوجود البشري، وبعيداً عن علاقة هذا الثلاثي بالجغرافيا، لا يكون بحثاً صائباً، ولا يمكن أن يؤدي، بأية حال من الأحوال، إلى نتائج منطقية وواقعية.

أما المصالح فهي اقتصادية في الدرجة الأولى، وتتفرّع جميعها عن محور واحد؛ هو (الاحتفاظ بالبقاء)، وأول متطلّبات (الاحتفاظ بالبقاء) هو امتلاك (المكان الأفضل)؛ أقصد امتلاك الجغرافيا التي تتوافر فيها مقوّمات الحياة على النحو الأفضل (مُناخ مناسب، تربة خصبة، مياه كافية)، وليس هذا فحسب، بل من الضروري أن يكون (المكان الأفضل) ذا قيمة جيوسياسية أيضاً.

وأما الثقافات فهي، من حيث الأصل، نتاج علاقة الإنسان بالبيئة، وهي تظهر في شخص النخبة على شكل أديان، وعقائد، وفلسفات، ومُثُل، ومفاهيم، ومبادئ، وقيم، ودساتير، وتشريعات، وقوانين، وضوابط، وموجِّهات، وبتعبير آخر: الثقافات تجلّيات معنوية (روحية/فكرية/شعورية) للمصالح، لكنها تمتاز بأنها تمتلك خاصية التحوّل من موقع (المنتَج) بفتح التاء إلى موقع (المنتِج) بكسر التاء، من حالة (التأثّر) إلى حالة (التأثير).

وأما السياسات– سواء أكانت سياسات سِلم أم سياسات حرب- فهي تجلّيات عملية (ميدانية) للمصالح، إنها فن التنافس والتصارع بين أصحاب المصالح، وكل موقف سياسي هو تكريس لخطوة نحو الهدف (المصلحة)، وترتكز السياسات على الثقافات لغرضين اثنين:

 – الأول: تحشيد المجتمع، وتجنيد الأفراد، وتوظيف جميع الطاقات، للسير نحو الهدف (المصلحة).

- والثاني: تبشيع صورة العدو (من يحول دون الهدف)، وإضفاء طابع الأبلسة عليه، إقناعاً للرأي العام بحتمية محاربته، وتبريراً لضرورة إزاحته جانباً، أو القضاء عليه بصورة كلية. 

ولكم أن تختاروا أيّ حدث من أحداث التاريخ، قديمها أو حديثها، صغيرها أو كبيرها، شرقيها أو غربيها، وتفكّكوا مفاصله الأساسية، وتحلّلوا ظروف نشأته، والنتائج التي تمّخضت عنه، ستتضح لكم في طيّاته العلاقة الوثيقة بين الثلاثي المتحالف (مصالح، ثقافات، سياسات). وقد يُظن أن الأديان- مثلاً- لا تخضع لهذه القاعدة، وأنها مشاريع روحانية مكرَّسة لمصلحة واحدة فقط؛ هي الإيمان بالله وعبادته، وأن الثمن الذي يقبضه المؤمنون لقاء ذلك هو الفوز بمُلكية جزء من جغرافيا العالم الآخر (الجنة/الفردوس).

والحقيقة أن النصوص الموثَّقة في الديانات السماوية الثلاث تؤكد خلاف ذلك، وتدلّل على أن الترغيب في ملكية جزء من جغرافيا الأرض كان يمشي بموازاة الترغيب في ملكية جزء من جغرافيا العالم الآخر (الجنة)؛ وإلا فبماذا نفسّر قول الرب للنبي أَبْرام (إبراهيم)، بعد أن استقر في أرض كنعان (فلسطين بعدئذ): " ارْفَعْ عَيْنَيْكَ، وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شِمَالاً وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، لأَنَّ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى لَكَ أُعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَد ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 13، الآية 14 – 15)؟ وبماذا نفسر قول النبي عيسى: " طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ ". (العهد الجديد، سفر مَتّى، الأصحاح 5، الآية 5)؟ وبماذا نفسر قول الله تعالى في القرآن:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}؟ (سورة الأنبياء، الآية 5)، وقول الله للمسلمين بمناسبة انتصارهم على يهود يَثْرِب (المدينة): {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}؟ (سورة الأحزاب، الآيات 25 – 27).

تلك هي الحقيقة فيما أرى، وعلى ضوئها ينبغي البحث في التاريخ قديمه وحديثه، وأذكر أننا أثرنا، في الحلقات السابقة، عدداً غير قليل من التساؤلات حول مشروع أبلسة الكرد (المؤسسون، الأهداف، الآليات، النتائج)، وتمهيداً للبحث عن إجابات واقعية ومنطقية، وكي يكون القارئ شريكاً في هذه المهمة- فلعله يستخلص ما قد يفوتني استخلاصه- أستعرض في هذه الحلقة أبرز الأحداث التاريخية التي دارت في العالم القديم عامة، وفي غربي آسيا على نحو خاص.

العالم القديم جيوسياسياً

حينما نتفحص جغرافيا العالم القديم نخرج بالحقائق الآتية:

ـ الحقيقة الأولى: ثلاث قارات فقط كانت معروفة قبل الربع الأخير من القرن (15 م)، هي آسيا وأوربا وإفريقيا، ويطلق المؤرخون عليها مصطلح (العالم القديم)، وما كان قارتا أستراليا وأمريكا معروفتين.

ـ الحقيقة الثانية: كانت آسيا هي مركز الثقل الحضاري الأكثر أهمية في العالم القديم، ففي أقصى الشرق ظهرت الحضارة الصينية حول هوانغ هي (النهر الأصفر) ونهر يانغ تسي، وفي الجزء الجنوبي ظهرت الحضارة الهندية حول نهر الغانج، وفي غربي آسيا ظهرت أقدم الحضارات على سفوح جبال زغروس (كردستان حالياً)، وفي جنوبي بلاد الرافدين (سومر) يحث يمر نهرا دجلة والفرات، وفي آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، وفي شرقي المتوسط، وخاصة سوريا وفلسطين.

أما المناطق الشاسعة الواقعة في وسط آسيا فكانت موطناً للقبائل البدوية الطورانية، في حين كانت مناطق  شمالي بحر قزوين موطناً لقبائل بدوية تعيش في حالة شبه بدائية، أبرزها قبائل شعب (سكيث).

ـ الحقيقة الثالثة: كان شمالي إفريقيا، ومصر تحديداً، يشكل مركز الثقل الحضاري الآخر، وصحيح أن مصر هي جزء من إفريقيا جغرافياً، لكنها كانت قد أدارت ظهرها لإفريقيا السوداء، وأقصى ما كان يهم الدول المصرية المتعاقبة من إفريقيا هو السيطرة على مناجم الذهب في بلاد النُّوبَة وإثيوبيا، والتمدد نحو منابع النيل، وعلى الساحل الغربي للبحر الأحمر، باتجاه مضيق باب المندب، في حين أنها كانت متوجّهة باهتمام إلى الدخول في علاقات اقتصادية وثقافية مهمة مع غربي آسيا (سوريا، فلسطين، الأناضول، كردستان، بلاد الرافدين) من ناحية، ومع جنوبي أوربا (اليونان، إيطاليا) من ناحية أخرى.

ـ الحقيقة الرابعة: كانت أوربا تشكل مركز الثقل الحضاري الثالث بعد كل من آسيا والجزء الشمالي الشرقي من إفريقيا (مصر)، وكان الجزء الجنوبي من أوربا، وهو المطل على الساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط، ولا سيما بلاد اليونان، هو الذي يمثّل مركز الثقل الحضاري لأوربا، أما وسط أوربا وشماليها فكانت تموج بقبائل هندو أوربية تعيش في حالة شبه بدائية.

ـ الحقيقة الخامسة: كانت العلاقات الاقتصادية بين مكوّنات العالم القديم نشيطة،  كما هي الحال الآن، وكان ثمة طريقان تجاريان عالميان رئيسان يربطان جنوبي أوربا، وآسيا الصغرى، ومصر، بجنوبي آسيا ووسطها وشرقيها:

·   الأول- طريق الحرير: كان ينطلق من الصين شرقاً، ويتجه غرباً، فيمر بشمالي أفغانستان، فالهضبة الآريانية، فجنوبي كردستان (جنوبي ميديا قديماً)، فجنوبي بلاد الرافدين (العراق حالياً)، ويتفرع بعدئذ غرباً باتجاه سوريا، وشمالاً باتجاه آسيا الصغرى. وكان فرع من هذا الطريق يمر بشمالي ميديا (على التخوم الجنوبية لبحر قزوين)، حيث تقع مدينة رغه (رگه) Ragae، أي (الطريق)، باعتبارها كانت تقع على واحد من أهم فروع طريق الحرير، وتسمى في مصادر التراث الإسلامي (رَيْ)، ونُسب إليها كثير من العلماء بلقب (الرازي)، منهم الرازي الطبيب، والرازي المفسِّر، وتقع آثارها جنوبي (طهران) حالياً.

·  الثاني- طريق البخور والتوابل: كان ينطلق من جنوب شرقي آسيا، ويتجه غرباً، فيمر بجنوبي الهند، ثم جنوبي شبه الجزيرة العربية (اليمن)، ويتوجّه شمالاً عبر الحجاز (غربي شبه الجزيرة العربية)، حيث تقع الطائف ومكّة ويَثْرِب (المدينة)، ويصل إلى موانئ سوريا وفلسطين على البحر الأبيض المتوسط، ويتوجّه فرع منه إلى مصر عبر سِيناء، وكان فرع آخر منه يتوجّه عبر الخليج نحو جنوبي بلاد الرافدين. 

ـ الحقيقة السادسة: كان غربي آسيا- وما زال- يقع في قلب العالم القديم، ونقصد بغربي آسيا (بدءاً من الشرق إلى الغرب): بلاد فارس، وكردستان، وأذربيجان، وأرمينيا، وبلاد الرافدين (العراق)، والأناضول، وآسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، وسوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين، وشبه الجزيرة العربية. وفي غربي آسيا كانت تلتقي الشبكتان الاقتصاديتان الرئيستان في العالم: شبكة طريق الحرير، وشبكة طريق البخور.

ـ الحقيقة السابعة: على ضوء الأهمية الاقتصادية لكل من طريقي الحرير والبخور يمكن تفسير التحوّلات الثقافية في العالم القديم، ولا سيما ظهور الأديان الكبرى؛ أقصد الكونفوشيوسية في الصين، والبراهمية والبوذية في الهند، ويصبح الأمر أكثر وضوحاً إذا دققنا التفكير في الأديان التي ظهرت في غربي آسيا: فالميثرائية (لعلها الأزدائية) ظهرت على حوافّ طريق الحرير المار بهضبة آريانا، وظهرت سليلتها (الزردشتية) قرب أُورميا (في شمالي ميديا)، ونجد أن حركة النبي إبراهيم (الجد الأعلى لأنبياء اليهودية والمسيحية والإسلام) انطلق من حرّان (حُوران = هاران= أوران) واتجه جنوباً نحو فلسطين، ومنها انحدر إلى مصر، ثم عاد ثانية إلى فلسطين، وباختصار: ظهرت الزردشتية في ميديا (شمال شرقي كردستان حالياً)، واليهودية والمسيحية في فلسطين، والإسلام في غربي شبه الجزيرة العربية.

ـ الحقيقة الثامنة: على ضوء الأهمية الاقتصادية لكل من طريقي الحرير والبخور يمكن تفسير الأحداث السياسية الكبرى في العالم القديم، ولا سيما الحروب الكبرى، وكان من أهم الأهداف الستراتيجية لأية قوة سياسية (دولة، إمبراطورية) تظهر في العالم القديم أمور خمسة:

1. شمالاً وغرباً: السيطرة على شرقي المتوسط، حيث تتجمع فروع شبكتي طريق الحرير وطريق البخور، وحيث تقع الموانئ التي تربط تَيْنك الشبكتين بجنوبي أوربا، ومن ثَمّ بوسط أوربا وشماليها.

2. غرباً: غرباً السيطرة على البحر الأحمر، وعلى الطريق البرية الموازية له في غربي شبه الجزيرة العربية، حيث تقع واحة تَيْماء، ويَثْرِب، ومَكّة، والطائف.

3.   جنوباً: السيطرة على موانئ اليمن وساحل عُمان.

4.   جنوباً وشرقاً: السيطرة على رأس الخليج العربي (خليج فارس).

5.   شرقاً: السيطرة على معابر جبال زغروس في كردستان.

 مصالح وصراعات

وكانت السيطرة على شبكتي طريق الحرير وطريق البخور تتخذ شكلاً سلمياً، من خلال عقد الاتفاقيات، وإلا فإن القوة العسكرية كانت هي السبيل إلى تحقيقها، وإليكم بعض الأدلة التاريخية:

·  في الألف الثالث قبل الميلاد كانت بلاد سومر (من جنوبي بغداد حالياً إلى الخليج) تتألف من دول- مدن، وبسبب الصراعات الحادة بينها لم تستطع التمدد والهيمنة على غربي آسيا. لكن سرعان ما تغيرت الحال عندما أسس لوگال – آنّ – مُندو Lugal- Anne - Mundu مملكة قوية في (أدب)، وسيطر على بلاد الرافدين جنوباً وشمالاً، ثم توجّه بفتوحاته شرقاً، ففتح عِيلام (لُورستان حالياً) في الجنوب، وبلاد سُوبار في الشمال (سُوبارتو، وكانت تقع في الجزء الشمالي من إقليم كردستان- العراق حالياً). (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 42).

·  بين سنتي (2350 – 2294 ق.م) أسس سَرْجُون Sharruken الإمبراطورية الأكادية على أنقاض دول- المدن السومرية، وكان أول ما قام به أنه مدّ نفوذ دولته جنوباً حتى وصل إلى ساحل الخليج (البحر الأسفل)، ثم قاد حملة، براً وبحراً، نحو الشرق ضد عيلام، وسيطر عليها، ثم توجّه شمالاً وشرقاً ليسيطر على شعب لوللو الجبلي (من أجداد الكرد) في جبال زغروس، ثم توجّه غرباً نحو الأموريين (العموريين) في سوريا الحالية، رغم أنهم كانوا حلفاءه ضد السومريين، وسيطر على بلادهم، إلى أن وصل إلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط (توفيق سليمان: دراسات في حضارات غرب آسيا القديمة، ص 121 – 123).

·  بين سنتي (1728 – 1686 ق.م) قاد حمورابي المملكة البابلية، وبسط سيطرته في الاتجاهات الثلاثة التي سارت فيها الحملات الأكادية؛ أقصد جنوباً نحو الخليج، وشرقاً وشمالاً نحو عِيلام وجُوتيوم (كردستان)، وغرباً نحو سوريا والساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. (توفيق سليمان: دراسات في حضارات غرب آسيا القديمة، ص 169 – 171).

·  حينما ظهرت الإمبراطورية الحثية القديمة بين سنتي (1600 – 1380 ق.)، والإمبراطورية الحثية الحديثة بين سنتي (1379 – 1190 ق.م)، في الأناضول (وسط تركيا حالياً)، حاولت بإصرار التمدد شرقاً باتجاه الخليج وممرات زغروس، والتمدد جنوباً للسيطرة على سوريا، ولا سيما الساحل الشرقي للمتوسط، وكان ذلك سبب الصدام العنيف بينها وبين مصر الفرعونية. (توفيق سليمان: دراسات في حضارات غرب آسيا القديمة، ص 268 – 278).

·  بين سنتي (1500 – 1330 ق.م)، أسّس الحوريون (من أجداد الكرد) المملكة الحُورية (المِيتّانية) في أعالي بلاد ما بين النهرين (دجلة والفرات)، وتحديداً في شرقي تركيا حالياً، وامتد نفوذهم من مقاطعة (أرابخا (أرابشا= كركوك) شرقاً، حتى إمارة موكيش (ألالاخ) غرباً، من المفيد الأخذ في الحسبان هنا أن مقاطعة كركوك تقع قرب السفوح الغربية لجبال زغروس، وأن إمارة موكيش كانت تقع غربي حلب في شمالي سوريا، وكانت حدودها تصل إلى البحر الأبيض المتوسط، واصطدم الحوريون نتيجة لذلك بمصر الفرعونية. (جرنوت فلهلم: الحوريون تاريخهم وحضارتهم، ص 59. توفيق سليمان: دراسات في حضارات غرب آسيا القديمة، ص 312 – 313).

·   بين سنتي (934 – 744 ق.م) ظهرت الإمبراطورية الآشورية القديمة، ثم ظهرت الإمبراطورية الآشورية الحديثة بين سنتي (743 – 612 ق.م)، وفي كلا العهدين حرص الآشوريون على التمدد في الاتجاهات الثلاثة المعهودة (جنوباً نحو الخليج، وشرقاً نحو زغروس، وغرباً نحو سوريا، بل إن الملك الآشوري أسرحدون (حكم بين 680 – 669 ق.م) لم يكتف بالسيطرة على سوريا، وإنما غزا مصر نفسها سنة (671 ق.م)، لأن الدولة المصرية كانت تتدخّل باستمرار في فلسطين وسوريا، وكانت تعدّ المنطقة الواقعة بين المتوسط ونهر الفرات عمقاً ستراتيجياً لها، وكانت تقف ضد كل قوة إقليمية تسيطر عليها. (عامر سليمان، أحمد مالك الفتيان: محاضرات في التاريخ القديم، ص 162. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 83 – 97).

·  منذ حوالي منتصف القرن (9 ق.م) برز الميديون (من أجداد الكرد) كقوة إقليمية في غربي آسيا، وعمل الآشوريون- وكانوا قوة عظمى حينذاك- لطمس الظهور الميدي، لكن الميديين حاربوهم بعناد، وقضوا على الإمبراطورية الآشورية سنة (612 ق.م)، بعد أن تحالفوا مع الدولة البابلية الحديثة (الدولة الكلدانية)، وتقاسم الحليفان مناطق النفوذ الآشوري السابق، فشمل النفوذ الميدي- إضافة إلى ميديا- فارس، وعيلام، وأورارتو (أرمينيا بعدئذ)، والقسم الشرقي من الأناضول حتى نهر هاليس (قيزيل إرماق). وامتد النفوذ الكلداني من الخليج شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً؛ الأمر الذي أغضب دولة ليديا (في غربي تركيا حالياً) ودولة مصر، وكانت الدولتان قد تحالفتا مع الآشوريين للوقوف في وجه الحلف الميدي- البابلي،  ودارت صراعات مريرة بين الفريقين انتهت بعقد اتفاقية صلح بين ميديا وليديا، وانكفاء المصريين جنوباً. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت،  ص 77- 80 . طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 40.  أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، ص 214).  

وهذا يعني أن الحلف الميدي – البابلي سيطر على طريق الحرير شرقاً، وعلى فرع طريق البخور الممتد من رأس الخليج، والمار في وسط بلاد الرافدين وسوريا، باتجاه موانئ البحر المتوسط، بل إن الملك البابلي نابونيد كان قد سيطر على منطقة تَيْماء (في شمالي غربي المملكة العربية السعودية حالياً، على بعد حوالي 100 ميل شرقي خليج العقبة)، لوقوعها على طريق البخور الرئيسي الممتد من اليمن جنوباً باتجاه الموانئ السورية ومصر شمالاً، حتى إنه أراد أن يتخذها عاصمة جديدة لإمبراطوريته، وذلك إبّان سيطرة كورش Cyrus الأخميني على دولة ميديا، وتأسيس الدولة الأخمينية حوالي سنة (550 ق.م) (عبد الحميد زايد،: الشرق الخالد، ص 599 – 600، 603).

صراع فارسي - إغريقي

والحقيقة أن واحداً من أكثر الصراعات شراسة وطولاً بين آسيا الغربية وأوربا الجنوبية، بسبب المصالح الاقتصادية، وتحديداً بسبب خطوط التجارة العالمية، دارت بين الفرس والإغريق، فعندما سيطر الفرس الأخمينيون على إمبراطورية ميديا، حوالي سنة (550 ق.م)، كان ذلك يعني أنهم سيطروا على طريق الحرير وفروعه في جبال زغروس وفي الهضبة الآريانية فقط، ولذلك لم يلبث كورش الأخميني أن هاجم الإمبراطورية البابلية سنة (539 ق.م)، وورث ممتلكاتها من الخليج شرقاً إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.

ولم يكتف كورش بإخراج البابليين (الكلدان) من الساحة الإقليمية، وإنما هاجم دولة ليديا في آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً) ، وهزم ملكها كرويسوس Croesus (قارون)، ودخل عاصمته سارديس Sardis، وأخذه أسيراً، وبسط النفوذ الفارسي على موانئ الساحل الشمالي للبحر المتوسط، وهذا يعني أن كورش صار سيّد المنطقة التي تلتقي فيها فروع طريقي البخور والحرير، وصارت تجارة آسيا مع أوربا في أيدي الإمبراطورية الفارسية. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت ص 70 - 72. هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، ج 2، ص 353 عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 602 – 603).

وقد استكمل خلفاء كورش تمدد النفوذ الفارسي، فغزا ابنه قَمْبَيز Cambyses مصر، وسيطر عليها، ثم تولّى داريوس Darius (دارا الأول) ابن هيستاسب Hystaspes حكم الإمبراطورية الفارسية، وكان معنى ذلك أن يتولّى إدارة مشروع التمدد الفارسي على شبكتي طريق الحرير وطريق البخور، وهذا ما قام به حقاً، ووصل المشروع في آسيا وإفريقيا إلى أوسع درجة، وبات النفوذ الفارسي يمتد من جبال هندوكوش (في أفغانستان) شرقاً إلى البُوسفور والدَّرْدَنيل غرباً، وإلى مصر غرباً وجنوباً، ومن البحر الأسود وبحر قزوين شمالاً إلى الخليج وشمالي شبه الجزيرة العربية جنوباً. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 405. عبد الحميد زايد، الشرق الخالد: ص 609 – 611، 622 - 623).

وبقيت الخطوة الأخيرة لفرض السيطرة الفارسية على الاقتصاد العالمي حينذاك؛ وتتمثل تلك الخطوة في السيطرة على دول- المدن اليونانية، وإزاحة القوة الإغريقية التي كانت تشكّل رأس الرمح الأوربي في العالم القديم. وقد تولّى داريوس بنفسه تنفيذ ذلك المشروع، فعبر بجيوشه مضيق البوسفور على جسر من القوارب سنة (512 ق.م)، وسيطر على تراقيا (القسم الجنوبي الشرقي من البلقان)، ووصل إلى نهر الدانوب شمالاً، ثم اتجه غرباً، وبسط سيطرته على مقدونيا، وأصبح القسم الشرقي من شبه جزيرة البلقان ولاية فارسية. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت ص 536. دياكونوف: ميديا، ص 51، 297. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 599 – 600، 603، 616 - 618).

وكانت قيادة الإمبراطورية الفارسية تعرف أنه ما لم يتم القضاء على دول- المدن الإغريقية في بلاد اليونان، ولا سيما دولة أثينا ودولة إسبارطا، فلن ينعم النفوذ الفارسي في البلقان وفي آسيا الصغرى بالهدوء، ولن يصبح البحر الأبيض المتوسط- وهو الجسر البحري الذي يربط شبكة طريقي الحرير والبخور بأوربا- واقعاً في قبضة السلطة الفارسية؛ لذلك قرر داريوس إزالة العقبة الأخيرة من طريق التمدد الفارسي عالمياً، أقصد السيطرة على دول- المدن الإغريقية، من خلال ضرب القوة البحرية الإغريقية.

وشرع داريوس في تنفيذ خطة السيطرة على بلاد اليونان سنة (490 ق.م)، إذ وجّه حملة عسكرية بحرية ضخمة إلى اليونان بقيادة داتيس Datis الميدي، ورست السفن الفارسية في خليج ماراثون Marathon، وتوجه الفرس براً نحو أثينا، فتصدّى لهم الإغريق قرب ماراثون، وألحقوا الهزيمة بالجيش الفارسي. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 94. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 620 – 621).

وتوفي داريوس سنة (486 ق.م)، وتولّى العرش الفارسي ابنه إكسركسس الأول Xerxes (أحشويرش = أهاسويروس حكم بين 486 – 465 ق.م)، فكان عليه استكمال مشروع التمدد الفارسي في أوربا، بإخراج القوة الإغريقية من المعادلة الدولية حينذاك، فقاد بنفسه حملة برية وبحرية ضخمة سنة (481 ق.م)، وعبر إلى البلقان براً وبحراً، ووصل إلى أثينا في (17 سبتمبر/أيلول عام 480 ق.م)، واقتحمت قواته المدينة، وفتكت بسكانها، وهدّمت دور العبادة، وأشعلت فيها النيران. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت ص 505 – 522. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 632 – 636).

ومع ذلك لم يستسلم قادة الإغريق، وواجهوا الأسطول الفارسي بحراً، وألحقوا به هزيمة كبرى في معركة سالاميس Salamis في (20 سبتمبر/ أيلول سنة 480 ق.م)، وألحق الإغريق بالفرس هزيمة أخرى في معركة بلاتيا Plataea سنة (470 ق.م)، وعجزت الإمبراطورية الفارسية عن استكمال مشروعها التوسعي في جنوبي أوربا، بل إن الإغريق أخذوا زمام المبادرة، وانتقلوا من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم في عهد الملك الأخميني الخامس أرتاكسركسس الأول Artaxerxes (أرتحششتا الأول توفي سنة 424 ق.م) (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 94. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 637 – 640).

ووصلت ستراتيجية الهجوم الإغريقية إلى أعلى مستوياتها في عهد الإسكندر المكدوني (حكم بين 336 – 323 ق.م)، إذ وحّد بلاد الإغريق تحت راية واحدة سنة (535 ق.م)، وأعدّ العدّة لقيادة حملة كبرى على آسيا، في ثلاث مراحل: المرحلة الأولى غزو آسيا الصغرى (غربي تركيا حالياً)، والمرحلة الثانية غزو سوريا وفلسطين ومصر، والمرحلة الثالثة غزو بابل وكردستان وفارس، أو ما يمكن أن نسميه مركز الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، ولا يخفى على المتأمل أن مسار الغزو الإغريقي كان يهدف إلى السيطرة على فروع شبكة طريقي التجارة العالميين (طريق الحرير وطريق البخور)، وكان القضاء على النفوذ الفارسي هو السبيل إلى ذلك (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 658 – 660).

 وكانت الإمبراطورية الفارسية بدأت تسير نحو الانحدار بعد وفاة إكسركسس (أحشويرش)، وراحت تعاني من الصراعات والاغتيالات بين كبار القادة، وقد تولّى دارا الثالث (داريوس كودومانّوسDarius Codomannus) عرش فارس سنة (335 ق.م)، وعبر الإسكندر بجيشه إلى آسيا سنة (334 ق.م)، ولم يستطع الولاة الفرس في آسيا الصغرى إيقاف الهجوم الإغريقي، وكانت الإدارة الفارسية تدرك أن سيطرة الإغريق على الساحل الشمالي والشرقي للبحر الأبيض المتوسط تعني السيطرة على النهايات الغربية لشبكة طريق الحرير وطريق البخور، وتعني وضع مصير الإمبراطورية الفارسية اقتصادياً تحت رحمة الدولة الإغريقية. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 662 – 663).

وانطلاقاً من هذه القراءة- وهي قراءة صائبة جداً- تولّى الشاه الأخميني دارا الثالث بنفسه معركة التصدي للإسكندر، لكنه كان أضعف من أن يقف في وجه القوة الإغريقية الناهضة، وفي سنة (333 ق.م)، وبعد سلسلة من المعارك، أبرزها معركة إيسوس (قرب جبال أمانوس الواقعة غربي منطقة عفرين، واسمها بالكردية: جيايى گور ya ê GewrÇ) انتزع الإسكندر آسيا الصغرى من الفرس، وأتبعها بانتزاع سوريا ومصر، وكان ذلك تمهيداً لضرب القوة العسكرية الفارسية، من خلال ضرب منابع مواردها الاقتصادية. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 665 – 675).

وكانت معركة  گوگاملا Gaugamela (في سهل أربيل Arbela خلال شهر أكتوبر/ تشرين أول 331 ق.م) حاسمة؛ فقد سدّد الإسكندر الضربة القاضية إلى القوة العسكرية الفارسية، وألحق الهزيمة بدارا الثالث، وتراجع دارا، ومعه بطانته وكبار قادته، إلى ميديا شرقاً، وأقام في أگباتانا (آمدان = هَمَذان) عاصمة الميديين العريقة، وتحصّن فيها. (دياكونوف: ميديا، ص 415. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 676 – 683).

وجدير بالذكر أن سير تراجع دارا الثالث يثير أكثر من سؤال، فلماذا لم يتوجّه إلى بابل، مع أنها كانت تُعتبر عاصمة الفرس الثانية في بلاد الرافدين؟ بل لماذا لم يتوجّه إلى العاصمة الإمبراطورية پرسيس Persis (پرسيپوليس Persepolis /إصْطَخْر في التراث الإسلامي)، حيث مركز القيادة الإمبراطورية العليا؟ السبب هو أن ميديا كانت تشكل الستراب (الولاية) الثانية بعد ولاية فارس Persia من حيث المناعة والأهمية الستراتيجية، ولوجود قوة قتالية كبيرة فيها، ولأهميتها اقتصادياً، باعتبار مرور طريق الحرير الرئيسي فيها (كان طريق الحرير يمر بأگباتانا). (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 683).

   ولم تكن القيمة الستراتيجية لمعركة گوگاملا تكمن في إلحاق الهزيمة بالملك الفارسي فقط، وإنما لأنها فتحت الطريق أمام أوربا- ممثلةً باليونان- للتمدد جنوباً نحو الخليج، وشرقاً نحو الهند وأفغانستان، وشمالاً نحو بحر قزوين، وبعبارة أخرى: إن معركة گوگاملا فتحت الطريق لأن يسيطر الإغريق على كامل الدائرة الجغرافية التي تقع فيها شبكة طريقي الحرير والبخور.

ولذلك لم يبدد الإسكندر الوقت هدراً، وإنما توجه نحو مدينة بابل- عاصمة بلاد الرافدين- فسيطر عليها، ثم توجّه إلى كل من سوسه و پرسيپوليس في ولاية فارس، وأمضى الربع الأول من سنة (330 ق.م) في القصور الملكية الفارسية، ثم توجّه إلى أگباتانا، ولما اقترب منها فر دارا شمالاً نحو بحر قزوين، على طريق أگباتانا- رَغَه (رَيْ)، فطارده الإسكندر على المسار ذاته، فتوجّه دارا شرقاً إلى ولاية باكتريا (شمال غربي أفغانستان حالياً) عبر بارثيا، وظل الإسكندر يطارده، لكن رجال دارا سرعان ما قتلوا ملكهم، ووضعوا حداً لتلك المطاردة. (ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، ج 2، ص 439. عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 683 - 684).

والذي يهمنا في هذه المجال أن الصراع بين أكبر قوتين عالميتين حينذاك (الإغريق والفرس) كان يدور في الجغرافيا التي تتوزع فيها شبكة طريقي الحرير والبخور، وكانت ساحة الصدام الأساسية بين القوتين هي آسيا الصغرى، وشرقي المتوسط (سوريا ولبنان وفلسطين)، ومصر؛ أي النهايات الغربية والشمالية لشبكة فروع طريقي الحرير والبخور، فقد كان من مصلحة الإمبراطورية الفارسية السيطرة على تلك النهايات، للقبض على أوربا – ممثَّلة في الإغريق- من خناقها حينما تشاء، وكان من مصلحة الإغريق ألا يُمكّنوا الفرس من ذلك.

وثمة أكثر من دليل على أن هدف الإسكندر لم يكن مقتصراً على إزاحة الإمبراطورية الفارسية من طريقه، والحصول على كنوزها وخزائن أموالها، وإنما كان هدفه الأكبر هو السيطرة على فروع شبكة طريق الحرير في الشرق، فبذلك تضمن الإمبراطورية الإغريقية سيادتها على العالم القديم اقتصادياً.

 ومن جملة الأدلة على ذلك أن الإسكندر زحف بجيشه شمالاً وشرقاً حتى وصل إلى سَمَرْقَنْد (تقع في أُوزبكستان) سنة (328 ق.م)،  كما أنه زحف شرقاً حتى عبر جبال هندوكوش (في أفغانستان حالياً)، ووصل إلى المنطقة التي تقع فيها كابول Kabul حالياً سنة (327 ق.م)، وهذا يعني أنه وصل إلى مشارف الصين، حيث تقع النهايات الشرقية لطريق الحرير. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 687 - 689).

وثمة دليل آخر على ستراتيجية الإسكندر، وهو أنه توجّه من منطقة كابول جنوباً نحو بنجاب (Painch Ab  = الأنهار الخمسة، وهي مقسّمة بين شمالي الهند وجنوبي باكستان حالياً)، وقرر التوغل شرقاً، لكن الضباط والجنود رفضوا التقدم رغم إلحاحه الشديد، فلم ير بداً من العودة غرباً إلى بابل، وهو يبسط سيطرته على بلوشستان وغيرها من المناطق الجنوبية في إيران حالياً، ولا يخفى أن الموانئ الواقعة على بحر الهند هناك كانت حلقات في سلسلة طريق البخور المتوجّه من جنوبي شرقي آسيا إلى اليمن عبر جنوبي الهند. (عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 691 - 697).

صراعات أخرى

ظلت السيطرة على شبكة فروع طريقي التجارة العالميين (طريق الحرير، وطريق البخور) هي الهدف الذي دارت بسببه جميع الصراعات الكبرى في القرون التي تلت الصراع الإغريقي – الفارسي، وتفادياً للإطالة أستعرض تلك الصراعات بإيجاز:

·  البارث (برث= فرث= أشگان) شعب آرياني، كان يقيم في منطقة جنوبي بحر قزوين (شمالي إيران حالياً)، وقد ذكر الدكتور جمال رشيد أنهم من أصل سكيثي (قبائل بدوية، تقع مواطنه الأصلية شمالي البحر الأسود، وقد غزوا ميديا المركزية قبل عام (674 ق.م)، وقضى البارث على الحكم السلوقي (ورثة الإسكندر)، وسيطروا على مقاليد الأمور في غربي آسيا- ولا سيما ميديا وبابل- حوالي خمسمئة عام، (بين 250 ق.م – 227 م)، وفي عهدهم كان الرومان قد حلّوا محل اليونان في قيادة أوربا، ودار الصراع بين القوتين الكبريين على شرقي البحر المتوسط، والمناطق العليا من بلاد الرافدين، ملتقى شبكة فروع طريق الحرير وطريق البخور (بونغارد – ليفين: الجديد حول الشرق القديم، ص 487. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 216 . دياكونوف: ميديا، ص 250. مجموعة من الباحثين: كركوك، ص 165).

·  سيطر الساسانيون على غربي آسيا طوال أربعة قرون وربع القرن (226 – 651 م)، وأسسوا إمبراطورية ضخمة شبيهة بالإمبراطورية الأخمينية، وكان الملوك الساسانيون مضطرين- بتأثير متطلبات الجغرافيا السياسية- إلى تنفيذ ستراتيجية الأخمين تنفيذاً دقيقاً، في حين كان منافسوهم الرومان مضطرين بدورهم، وللسبب نفسه، إلى تنفيذ ستراتيجية الإسكندر، وكان من الطبيعي أن يدور صراع طويل ومرير بين القوتين العظميين على الجغرافيا ذاتها التي تصارع عليها الأخمين والإغريق. (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج1 ، ص 341 – 350. أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، ص 122 – 126).

والجديد في ذلك الصراع أنه امتد بشكل واضح إلى البحر الأحمر واليمن، باعتبار أن طريق البخور كان يمر من تلك المناطق، ومعروف أن الأحباش (حلفاء الروم) سيطروا على اليمن بين سنتي (525 – 575 م)، وبنى القائد أَبْرَهة الحبشي كاتدرائية فخمة اسمها القَلِيس (من اكليسيا اليونانية وتعني بِيعة)، وجعل العرب يحجّون إليها بدل الحج إلى الكعبة في مكة، وعمل لتنصير البلاد، فمدّ الساسانيون يد العون للزعيم اليمني سَيف بن ذي يَزَن سنة (575 م)، ودحروا الأحباش، ثم سيطروا على اليمن، وظل الحكم الساساني قائماً في اليمن إلى أن ظهر الإسلام (فيليب حتي وآخران: تاريخ العرب ص  99 - 102).

·  بدءاً من حوالي سنة (651 م) حلّ العرب المسلمون محل الساسانيين في السيطرة على غربي آسيا، وكان عليهم- والحال هذه- مواجهة النفوذ الأوربي ممثَّلاً بالإمبراطورية الرومية (البيزنطية)، وكانت عاصمتها القسطنطينية (إستانبول حالياً)، وجدير بالملاحظة أن الجيوش الإسلامية سارت في المسارات ذاتها التي سارت فيها الجيوش الفارسية والإغريقية والرومانية سابقاً، وإليكم بعض الأدلة:

1 - أول ما بدأ به النبي محمد (ع) على الصعيد الإقليمي أنه أزال النفوذ الفارسي عن اليمن، وألحقها بالدولة الإسلامية الناشئة، وهذا هو التمدد على طريق البخور جنوباً، فموانئ اليمن كانت مراكز هامة للتجارة العالمية، ومن غير السيطرة عليها لا تبقى الحركة التجارية في الحجاز (مركز الدعوة الإسلامية) بمأمن من الاختناقات.

2 – الخطوة التالية التي قام بها النبي محمد هي التوجّه إلى جنوبي بلاد الشام، حيث النفوذ الرومي، فوجّه حملة بقيادة زيد بن حارثة إلى جنوبي بلاد الشام (الأردن حالياً) عُرفت بغزوة مُؤْتَة سنة ( 8 هـ =  629 م)، ولما أخفقت الحملة في تحقيق الهدف، قاد النبي بنفسه حملة أخرى عُرفت بغزوة تَبوك سنة (9 هـ = 630 م)، وهذا يعني التمدد على طريق البخور شمالاً باتجاه السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط؛ إذ لا تكفي السيطرة على النهايات الجنوبية لطريق البخور في اليمن، وإنما لا بد من تأمين سلامة الحركة التجارية شمالاً باتجاه شرقي المتوسط أيضاً.

3 – استكمل الخلفاء مشروع الفتوحات، على محورين رئيسين:

 أ - محور شرقي: باتجاه بلاد الرافدين، فكردستان، ففارس، فبلوشستان، فشرقي آريانا، فأفغانستان، إلى حدود الصين، وهو المسار نفسه الذي سارت فيه جيوش الفرس والإغريق، وقد يبدو غريباً أن الجيوش الإسلامية حسمت الصراع ضد الساسانيين في بلاد الرافدين، وأن الملك الساساني الأخير يَزْدَجِرْد الثالث نقل مركز قيادته إلى أگباتانا (آمدان = هَمَذان) عاصمة الميديين، وتحصّن في جبال ميديا، ثم فر شرقاً في المسار الذي فر فيه الملك الأخميني الأخير دارا الثالث سنة (330 ق.م)، هرباً من الإسكندر المكدوني، وإذا أخذنا المعطيات الجيوسياسية بالاعتبار وجدنا الأمر طبيعياً.

ب – محور غربي: باتجاه سوريا وسواحل البحر المتوسط، وانقسم هذا المحور إلى مسارين: الأول شمالي باتجاه الأناضول، وشمالي كردستان، وأرمينيا. والثاني جنوبي باتجاه مصر وشمالي إفريقيا، وقد مرّ أن الآشوريين والأخمين والساسانيين تحركوا على هذه المحاور والمسارات قبل العرب؛ وإذا أخذنا المعطيات الجيوسياسية بالاعتبار وجدنا الأمر طبيعياً أيضاً.

·  سيطر العرب المسلمون على إسبانيا (الأندلس) في الزاوية الجنوبية الغربية من أوربا، وبذلوا محاولات جادّة للسيطرة على قُسْطَنطينية في الزاوية الجنوبية الشرقية من أوربا، وكان الهدف هو السيطرة على جنوبي أوربا من محورين: محور شرقي ينطلق من البلقان، ومحور غربي ينطلق من إسبانيا، ولعل هذا يذكّرنا بمحاولات الملوك الأخمين قبل الميلاد بخمسة قرون.

·   ما من دولة قوية نشأت في آسيا الوسطى إلا وكانت تسير مع فروع طريق الحرير باتجاه الغرب، وتحاول السيطرة على ميديا وقرينتها الأبدية بلاد الرافدين، تمهيداً للوصول إلى النهايات الغربية لفروع شبكتي طريق الحرير وطريق البخور؛ أقصد آسيا الصغرى وسوريا وسواحل شرقي التوسط، وكانت السيطرة على سواحل شرقي المتوسط تفرض حتمية السيطرة على مصر، لقطع الطريق على كل تهديد قادم من هناك، ومن الأمثلة على ذلك:

1 – ظهرت الدولة السُّلْجوقية التركية في شمالي أفغانستان وما يجاورها من بلدان آسيا الوسطى حالياً، وتمددت غرباً، فسيطرت على فارس وأذربيجان وشرقي كردستان والعراق، ولم يقر لها قرار حتى سيطرت على شمالي كردستان أيضاً، وقضت على الدولة الدُّوسْتكية (المَرْوانية)، ثم اندفعت من هناك باتجاه كل من آسيا الصغرى غرباً وسوريا جنوباًً.

2 - ظهرت الدولة الخُوارَزْمية التركية في المناطق ذاتها التي ظهرت فيها الدولة السلجوقية، وتمدّدت غرباً، وليس من العبث أن آخر سلاطينها جلال الدين الخوارزمي سيطر على أذربيجان، وغزا جنوبي كردستان، واقترب من مشارف بغداد، وحاول جاهداً السيطرة على شمالي كردستان، تمهيداً للاندفاع نحو آسيا الصغرى وسوريا، لكنه لقي مصرعه على يد أحد الكرد، بسبب ما ارتكبه من مجازر فظائع تقشعر لها الأبدان.

3 – ظهر المغول في آسيا الوسطى بقيادة جنگيزخان، وسيطروا على فروع طريق الحرير في الصين ووسط آسيا، لكن حتمت عليهم الجغرافيا السياسية أن يتمددوا غرباً، للوصول إلى شرقي المتوسط، وكُلّف هولاگو (حفيد جنگيزخان) بهذه المهمّة، وليس من العبث أن زحفهم لم يتوقف إلا في (عين جالوت) بفلسطين، وأن المماليك (حكام مصر حينذاك) هم الذين تصدّوا لهم في معركة (عين جالوت)، وألحقوا بهم الهزيمة؛ لأن الزحف المغولي كان يهدف إلى السيطرة على مصر نفسها (انظر إسماعيل عبد العزيز الخالدي: العالم الإسلامي والغزو المغولي).

·      كل تفسير للصراع الطويل والمرير بين الدولتين الصفوية والعثمانية، في القرن (16 م)، يبقى ناقصاً ما لم نأخذ في الحسبان رغبة الصفويين في السيطرة على سواحل شرقي المتوسط، ورغبة العثمانيين في السيطرة على فروع طريق الحرير بجبال زغروس. (انظر عبّاس إسماعيل صبّاغ: تاريخ العلاقات العثمانية - الإيرانية، ص 35- 36).

نتائج ختامية

شملت جولتنا هذه حوالي (4000) أربعة آلاف عام من عمر العالم القديم بشكل عام، ومن عمر آسيا الغربية بشل خاص، ونخرج من هذه الجولة بما يلي:

1.         تحت جلد كل ثقافة وسياسة توجد مصلحة ما.

2.         الثقافات تجلّيات نظرية (روحية/معنوية) للمصالح.

3.         السياسات تجلّيات للعلاقات بين أصحاب المصالح.

4.         ترجع جذور المصالح إلى المحور الاقتصادي.

5.         يخضع المحور الاقتصادي لغريزة الاحتفاظ بالحياة.

6.         الجغرافيا هي الحاضن الوجودي لغريزة الاحتفاظ بالحياة.

7.         لفهم أحداث التاريخ لا بد من فهم العلاقة بين الجغرافيا والمصالح.

8.         كانت منطقة غربي آسيا في قلب أحداث العالم القديم، لأنها كانت في صميم العلاقة الوثيقة بين الجغرافيا والمصالح حينذاك.

9.         بلاد الكرد (كردستان) واقعة جغرافياً في قلب منطقة غربي آسيا؛ ولذلك كانت على الدوام داخلة في حسابات القوى الكبرى التوسعية الأهداف؛ سواء أكانت تلك القوى غرب آسيوية، أم كانت قادمة من الشرق، أم كانت قادمة من الغرب.

والسؤال المهم هو:

-       ما علاقة مشروع تبشيع صورة الكرد وأبلستهم بكل ما سبق؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الحلقة القادمة.

المراجع

1.    أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1977.

2.     أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1990.

3.    إسماعيل عبد العزيز الخالدي: العالم الإسلامي والغزو المغولي، مكتبة الفلاح، الكويت، 1984.

4.    بونغارد – ليفين (إشراف): الجديد حول الشرق القديم، دار التقدم، موسكو، 1988.

5.    الدكتور توفيق سليمان: دراسات في حضارات غرب آسية القديمة من أقدم العصور إلى عام 1190 ق.م، دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1985.

6.    جرنوت فلهلم: الحوريون تاريخهم وحضارتهم، ترجمة فاروق إسماعيل، دار جدل، حلب، الطبعة الأولى، 2000.

7.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.

8.    الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1979.

9.    دكتور عامر سليمان، أحمد مالك الفِتْيان: محاضرات في التاريخ القديم، موجز تاريخ مصر وسوريا وبلاد اليونان والرومان القديم، بغداد، 1978.

10.      عباس إبراهيم صباغ: تاريخ العلاقات العثمانية- الإيرانية، دار النفائس، بيروت، 1999.

11.      دكتور عبد الحميد زايد: الشرق الخالد (مقدمة في تاريخ وحضارات الشرق الأدنى من أقدم العصور حتى عام 323 ق.م)، دار النهضة العربية، القاهرة، 1967.

12.      دكتور فيليب حِتّي، دكتور أدوَرد جرجي، دكتور جبرائيل جبّور: تاريخ العرب، دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثامنة، 1990.

13.      مجموعة من الباحثين: كركوك (بحوث الندوة العلمية حول كركوك) 3-5 نيسان 2001، دار آراس للطباعة ولنشر، أربيل، كردستان العراق، الطبعة الأولى، 2002.

14.      هـ. ج. ولز: معالم تاريخ الإنسانية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1967- 1972.

15.      هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.

16.      وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959.

وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة عشرة

د. أحمد الخليل   في 19 – 4 -  2009

dralkhalil@hotmail.com

 ================

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الثالثة عشرة )

الكرد في لوحات مشوَّهة ومريبة (2)

 

 

 

عباقرة أم متعبقرون؟

العبقرية مستويات، والعباقرة درجات.

والمنتظر من العباقرة- في أيّ عصر كانوا، وإلى أيّ جغرافيا انتموا- أن يكونوا بناة حضارة، ودعاة خير، وصنّاع نفع لشعوبهم وأوطانهم على أقل تقدير؛ هذا مع ثقتنا التامة بأن العبقري الأصيل يرفض الوقوع في أسر النرجسية؛ سواء أكانت ذاتية، أم قبلية، أم طائفية، أم دينية، أم قومية؛ إن العبقريّ الأصيل إنسانيّ النزعة، كونيّ الانتماء، سامي المبادئ، نبيل المواقف، نقيّ الفكر، عفيف اللفظ، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وهو بعد هذا صُلب العزيمة، قوي الشَّكيمة، لا يسيل لعابه لترغيب، ولا يستسلم لترهيب.

ومن الإجحاف الزعم أن ثقافاتنا- نحن شعوب غربي آسيا- تفتقر إلى العبقرية وتخلو من العباقرة، لكن من الإجحاف الزعم، في الوقت نفسه، أن العباقرة الأصلاء هم الذين أداروا دَفّة القيادة الثقافية في منطقتنا العريقة هذه معظم العصور، بلى، إنهم لم يكونوا خلف دفّة القيادة، ليس لأنهم جهلوا أهمية القيام بتلك المهمة الجليلة، ولا لأنهم تهرّبوا من القيام بمسؤولياتهم التاريخية الكبرى، وإنما لأنهم حُوربوا بقسوة حتى في لقمة عيشهم، ورُجموا بأشنع الاتهامات (انحراف، فسق، زندقة، ضلال، كفر، إلحاد، علمانية، عمالة، إلخ)، تمهيداً لإزاحتهم من قيادة المجتمع، ورميهم في طيّ النسيان.

ومن هم الذين كانوا وراء إعلان الحرب على العباقرة الأصلاء؟

إنهم العباقرة المزيفون، إنهم المتعبقرون، أجل، ألم يكن غربي آسيا موطن الأنبياء الأصلاء والأنبياء الكذبة (المتنبئين)؟ فلا عجب إذاَ أن يظهر فيه (المتعبقرون) ليقطعوا الطريق على (العباقرة)، ولا عجب أيضاً أن يبرز فيه أدعياء الثقافة، ليسحبوا البساط من تحت أقدام المثقفين الأصلاء.

وكان موضوع الصراع بين العباقرة والمتعبقرين- وما زال- هو رسم المسارات الأساسية لحياة المجتمعات، وتأسيس مرتكزات الانطلاق نحو تلك المسارات، وترسيخ القيم والقواعد والتشريعات التي تساعد على تحقيق الأهداف المنشودة. وكان أعتى سلاح في أيدي المتعبقرين هو السيطرة على الجماهير (العامّة)، واحتكار إنتاج الرأي العام (رأي الشارع بلغة عصرنا)، والاستئثار بتسويقه وتصديره وإعادة إنتاجه، وتغييب العباقرة وأفكارهم المتنوِّرة.

وليس هذا فحسب، بل إن المتعبقرين كانوا يحوّلون (الرأي العام) الجماهيري إلى عصا، يُظهرون رأسها من تحت العباءة لكل حاكم (خليفة، سلطان، ملك، رئيس) يقف عقبة في طريق مشاريعهم، فما كان من الحاكم- والحال هذه- إلا أن ينزل عند رغباتهم، ويفعل ما ينال به رضاهم، ويوافق على اتخاذ إجراءات قاسية، بل قاسية جداً أحياناً، ضد العباقرة الأصلاء.

وأكتفي في هذا الصدد بذكر مثال واحد، هو موافقة السلطان صلاح الدين الأيوبي على الحكم بقتل الفيلسوف الكردي شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي (يحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك) سنة (586 هـ) في حلب، نزولاً عند فتوى من بعض الفقهاء، اتفقوا على صياغتها، ورفعوها إلى السلطان، وأفتوا فيها بضرورة قتل السهروردي، "وقالوا: إن بقي هذا فإنه يُفسد اعتقاد الملك [= الملك الظاهر حاكم حلب، وهو ابن صلاح الدين]، وكذلك إن أُطلق فإن يُفسد أيَّ ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك ". (ابن أبي أُصَيْبِعة: عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء، ص 167).

والحق أن العباقرة الحقيقيين كانوا أقدر الناس على كشف ألاعيب المتعبقرين، وحسبي أن أذكر رأي واصِل بن عَطاء (كبير زعماء المعتَزلة توفي سنة 131 هـ = 748 م) في المتعبقرين وأدعياء الثقافة، فقد وصفهم بقوله:

" ما اجتمعوا إلا ضَرّوا، ولا تفرّقوا إلا نَفَعوا. فقيل له: قد عرفنا مَضَرّة الاجتماع، فما مَنفعة الافتراق؟ قال: يَرجِع الطَّيّانُ إلى تَطْيِينه، والحائكُ إلى حِياكته، والمَلاّحُ إلى مِلاحته، والصائغُ إلى صياغته، وكلُّ إنسان إلى صناعته، وكلُّ ذلك مَرْفِق [= ما يُنتفَع به] للمسلمين، ومَعونة للمحتاجين ". (الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج 1، ص 283).

آليات وإبداعات

ومن أسوأ التقاليد التي أرساها المتعبقرون (أدعياء الثقافة) في ثقافات غربي آسيا هو الدوران في فلك الأنانية (النرجسية) إما ذاتياً، أو قبلياً، أو طائفياً، أو دينياً، أو قومياً، وتوظيف جميع وسائل الدعاية الممكنة؛ لإخراج تلك النرجسية في صورة الفكر الأسمى والأنقى والأتقى.

ومعروف أنه حيثما تكن النرجسية تكن (ثقافة إلغاء الآخر)، إنهما شريكان لا يفترقان، ونهجان متكاملان، وهكذا تقع المجتمعات، عبر الأجيال المتتابعة، ضحية الفكر الظلامي المنغلق، الفكر الذي لا يرى معتنقه إلا نفسه، أو قبيلته، أو طائفته، أو دينه، أو قوميته؛ ومتى كان فكر كهذا مدخلاً إلى السلم والحضارة؟

وكان المتعبقرون (أدعياء الثقافة) في غربي آسيا بارعون في اختراع الآليات الكفيلة بتكريس مشاريع الإلغاء والإقصاء، وهي آليات كثيرة يأخذ بعضها برقاب بعضها الآخر، وتتمثّل فيها أقصى درجات الدهاء والمكر، والتلبيس والتدليس، ودسّ السمّ في الدسم، واستغفال القارئ والسامع، وتجاهل حقائق الجغرافيا والتاريخ، وتعميم السذاجة في التفكير، والجلافة في التعبير، والبلادة في الشعور، والمؤسف أنها تصل أحياناً إلى الدركات السفلى من الانحطاط والنذالة.

وإليكم بعض تلك الآليات:

1. التعميم: هو إحلال الجزء محل الكل، والفرع محل الأصل، وصرف الانتباه عن القضايا الكبرى، وإشغال الناس بالتَّفاهات.

2. التعتيم الكلي: تُمارَس هذه الآلية ضد (الآخر) حينما يصبح مجردُ ظهوره عائقاً في طريق تكريس مشاريع الإلغاء.

3. التعتيم الجزئي: هنا يسمح القائمون على مشروع الإلغاء بالإفراج عن بعض المعلومات؛ وهم لا يفعلون ذلك إلا عندما يعجزون تماماً عن تغييب (الآخر) تغييباً كاملاً.

4. التضخيم: تُمارَس هذه الآلية لتكبير الجانب السلبي في حياة شخص أو جماعة، كي يُلفت الانتباه أكثر، ويُشغِل عن التنبّه إلى الجوانب الإيجابية الكثيرة.

5. التقزيم: تُمارَس هذه الآلية لتصغير الجوانب الإيجابية في حياة شخص أو جماعة، كي تبدو محدودة جداً بل تافهة، لا تستحق الوقوف عندها.

6. التمويه: تُمارَس هذه الآلية حينما يكون شخصان أو أكثر مشتركان في صفة ما غير حميدة، وَفق معايير قادة مشاريع الإلغاء، لكن يُراد ذكر أحدهما، وتغييب الآخر، فيُذكَر الأول، ويوضَع الآخر تحت بند العبارة الغامضة: (وغيره).

7. التحريف: هو إخراج الشخص أو الحدث من سياقه التاريخي الطبيعي، والحكم عليه بعد وضعه في سياق تاريخي آخر مصطنَع.

8. التدليس: هو آلية تقديم السمّ في الدَّسَم، والجِدّ في قالَب الفكاهة، والمزاعم في صور الحقائق، والأكاذيب في صور المعلومات الموثَّقة.

9. التخليط: هو خلط الأمور بعضها ببعض، وتقديمها على شكل كومة هائلة من المعلومات المتراكبة المتناقضة، فيصبح المراقب عاجزاً عن متابعة أمرٍ ما من البداية إلى النهاية، للخروج بنتائج محدّدة.

10.  التبشيع: تجلياتها متشعّبة ومتشابكة، أبرزها: التفسيق والتكفير (دينياً)، والعمالة والخيانة (وطنياً)، والطعن في النسب والسلوك (اجتماعياً).

11.  الخداع اللغوي: هذا في حد ذاته مدخل إلى كثير من فنون الدس والتضليل، تارة عبر استعمال التعبيرات الزئبقية، وأخرى عبر التجسير اللغوي المفتعَل، وثالثة عبر توظيف المجاز والرمز.

هذه بعض آليات قادة مشاريع الإلغاء، وهي في تجدد وتطوير مستمر، وكان المتعبقرون يتفنّون في اختراعها بما يتناسب مع كل مكان وزمان وموقف، ونجد في الأجيال الحديثة من المتعبقرين أناساً سبقوا بأشواط أساتذتهم القدامى في هذا الميدان، وهم على أُهْبة الاستعداد لأن ينقضّوا على كل اختراع علمي حديث، كي يوظّفوه بمهارة في مشاريعهم الألغائية.

ولنعد إلى استكمال إبداعات صنّاع (ثقافة الإلغاء) في ميدان تشويه صورة الكرد عبر مصادر التراث الإسلامي، فتلك الإبداعات عامرة بجميع أصناف الآليات المشار إليها، وقد ذكرنا بعضها في الحلقة السابقة، وإليكم بعضها الآخر. 

تهمة اللصوصية

اللصوصية من لوازم المجتمعات قديماً وحديثاً، وليس من الغرابة في شيء أن يكون في المجتمع الكردي لصوص، وتعالوا نتفحّص ما جاء في بعض مصادر التراث الإسلامي حول وصف الكرد باللصوصية.

·  قال ابن الأثير في أحداث سنة (421 هـ): " وفيها ظهر مُتلصِّصةٌ ببغداد من الأكراد، فكانوا يَسرِقون دوابَّ الأتراك، فنَقل الأتراك خيلَهم إلى دُورهم، ونقل جلال الدولة [= من ملوك بني بُوَيْه] دوابّه إلى بيت في دار المملكة ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 9، ص 410).

·  نقل ابن كَثير الخبر السابق نفسه في حوادث سنة (421 هـ)، فقال: "وفيها دخل خَلقٌ كثير من الأكراد إلى بغداد، يَسرِقون خيلَ الأتراك ليلاً، فتحصّن الناس منهم، فأخذوا الخيول كلَّها حتى خيلَ السلطان ". (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 28).

·  وأورد الحافظ الذَّهَبي أيضاً الخبر نفسه ضمن أحداث سنة (421 هـ) قائلاً: "وتجدَّد دخول الأكراد اللصوص إلى بغداد، فأخذوا خيول الأتراك من الإصْطَبْلات ". (الذهبي: العِبَر في خَبر مَن غَبَر، ج 2، ص 243).

تعليق: من الآليات العريقة في (ثقافة إلغاء الآخر) الغرب آسيوية تقديم المعلومة بعيداً عن المعطيات البيئية والاجتماعية والسياسية المواكبة لها، وقد أدرجنا هذه الآلية تحت بند (التحريف)، والحقيقة أن هذه سُنّة متّبَعة وبإصرار إلى يومنا هذا، سواء أكان في مجال التعظيم والتمجيد، أم في مجال التبشيع والتنديد.

وهذه الآلية بارزة في الخبر السابق، فالمهم بالنسبة إلى صانع الخبر وراويه هو إلباس الكرد صفة اللصوصية، وليس من الضروري أن يعرف الناس الأسباب التي جعلت بعض الكرد يسطون على خيول الأتراك والبُوَيْهيين في بغداد عاصمة الخلافة ومركز السلطة.

والحقيقة التاريخية التي حاول صانع الخبر السابق إخفاءها هي أن العسكر الأتراك المرتزقة كانوا قد تغلغلوا في مفاصل الدولة العباسية منذ عهد ابن أختهم الخليفة المُعتصِم بالله (ت 227 هـ)، وصاروا العنصر الآمر الناهي في الدولة، وخاصة بعد أن دبّروا مؤامرة راح ضحيتها الخليفة المتوكِّل على الله سنة (247 هـ).

وفي سنة (334 هـ = 946 م) سيطر البُوَيْهيون (شعب آرياني موطنه جنوبي بحر قزوين) على بغداد عاصمة الدولة العباسية، وأزاحوا الأتراك عن سُدّة السلطة، وصار الأتراك مرتزقة في الجيش البُوَيْهي، وراح البويهيون وصنائعهم الأتراك ينهبون ثروات البلاد، ويسومون الناس ألوان الظلم والقهر.

ومعروف أن الكرد (قومٌ أولو بأس شديد)، وهم في مقدّمة الثائرين على الظلم والقهر حيثما كان؛ وهذه حقيقة تؤكدها مواقف كثيرة قديماً وحديثاً، وكان من الطبيعي- والحال هذه- أن تدور حرب شرسة بين الكرد الثائرين والسلطات الحاكمة حينذاك، وكان من جملة ما يقوم به الكرد في هذا الصراع هو السطو على خيول الجنود الترك والبويهيين في عُقْر دارهم، ومركز سلطتهم (العاصمة بغداد)، لاستخدامها في القتال ضدهم.

·  قال ياقوت الحموي يذكر إنجازات أبي الحسين علي بن أحمد الراسبي (ت 301 هـ): " وكان يتقلّد مِن حَدّ واسِط إلى حَدّ شَهْرَزُور، وكُورَتَيْن من كُوَر الأَهْواز جُنْدِيسابُور والسُّوس، وبادَرايا وباكَسايا، وكان مبلغُ ضمانه ألفَ ألف [= مليون] وأربعمائة ألف دينار في كل سنة، ولم يكن للسلطان معه عاملٌ غيرَ صاحب البريد فقط؛ لأن الحَرْث والخَراج والضِّياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلاً في ضمانه، فكان ضابطاً لأعماله، شديد الحماية لها من الأكراد والأعراب واللصوص ". (ياقوت الحَمَوي: مُعْجَم البلدان، ج 2، ص 548).

تعليق: واسط مدينة بناها والي بني أُميّة على العراق الحجّاج بن يوسف الثَّقَفي، بناها بين الكوفة والبصرة، وانتهى بناؤها سنة (86 هـ)، وكان الكرد اللُّور (الفَيْلي) يقيمون في تلك المنطقة قبل الإسلام، إلى جانب شعوب جنوبي بلاد الرافدين القديمة، وأما شهرزور فكانت منطقة واسعة، تقع في الجِبالَ بين أربِيل وهَمَذان (أگبتانا عاصمة الميديين)، ويُفهم أن منطقة سليمانية في إقليم كردستان- العراق كانت جزءاً من منطقة شهرزور، وقد دمّر تيمورلنك مدينة شهرزور، واكتُشفت في السنوات الأخيرة تحت سد دَرْبَنْدي خان، لكن يد التنقيب لم تعمل فيها (انظر القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ص 398. ومأمون بك بن بيگه بك: مذكرات مأمون بك بن بيگه بك، المقدمة، ص 17 ، هامش 19).

  والذي يهمّنا في هذا الخبر هو أن المنطقة الممتدة من واسط إلى شهرزور كانت مسكونة بالكرد بشكل كلي في الشمال، وبنسب مختلفة كلما اتجهنا جنوباً، ومرّ أن الكرد كانوا يرفضون الانصياع التام للسلطات الحاكمة، وكانوا يقومون بما يشبه حروب العصابات، فأدرجهم مثقفو السلطة مع الأعراب في خانة اللصوص، ومرة أخرى كانت الأسبقية للأكراد كما هي العادة.

·  قال أبو الفتح المُطَرِّزي (ت 616 هـ): " الكلبُ الكُرديّ مَنسوبٌ إلى الكُرد؛ وهم جيلٌ من الناس لهم خُصُوصيّةٌ في اللُّصوصيّة". (المُطَرِّزي: المُغَرِّب في ترتيب المُعَرِّب، ص 404).

تعليق: كل شيء كردي هو غير عادي، حتى لصوصيتهم لها خصوصية.

تهمة الإفساد وقطع الطرق

وردت في مصادر التراث الإسلامي روايات متعددة حول قيام الكرد بالاضطرابات ضد السلطات الحاكمة، وقطع الطرق، وإحداث الفوضى:

·  قال البَلاذُري: " وحدّثني المَدائني وغيره أن الأكراد عاثوا وأفسدوا في أيّام خروج عبد الرحمن بن محمّد بن الأَشْعَث. فبعث الحجّاجُ عمرَو بن هانئ العَبْسي في أهل دمشق إليهم، فأَوْقعَ بهم، وقتل منهم خلقاً ". (البلاذري: فتوح البلدان، ص 319).

·  قال ابن الأثير في أحداث سنة (148 هـ): " وفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن بَرْمَك، وسبب ذلك أنه بلغه انتشار الأكراد بولايتها وإفسادهم، فقال: من لها؟ فقالوا: المُسَيَّب بن زُهَير، فأشار عُمارة بن غمرة [= الصواب: عُمارة بن حَمْزة] بخالد بن بَرْمَك، فولاّه وسيّره إليها، وأحسنَ إلى الناس، وقَهر المفسِدين وكَفّهم، وهابه أهل البلد هيبةً شديدة مع إحسانه إليهم". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 585).

·  قال ابن الأثير في أحداث سنة (231 هـ): " وفيها قَدِم وَصِيف التركي من ناحية أصْبهان، والجبال، وفارس، وكان قد سار في طلب الأكراد؛ لأنهم كانوا قد أفسدوا بهذه النواحي، وقَدِم معه نحوٌ مِن خمس مائة نفس فيهم غِلمان صغار، فحُبِسوا، وأُجيز بخمسة وسبعين ألف دينار، وقُلِّد سيفاً ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 7، ص 23).

·  قال ابن كثير في أحداث سنة (433 هـ): " فيها شَعَثَت [= أثارت الاضطرابات] الأكراد ببغداد؛ لسبب تأخّر العطاء عنهم ". (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 49).

·  قال ابن الأثير في أحداث سنة (445 هـ): " وفيها، في شَوّال، وصل الخبر إلى بغداد بأن جمعاً من الأكراد وجمعاً من الأعراب قد أفسدوا في البلاد، وقطعوا الطريق، ونهبوا القرى، طمعاً في السلطنة بسبب الغُزّ، فسار إليهم البَساسِيري [= قائد تركي] جَرِيدة [= خيّالة]، وتبعهم إلى البَوازِيج [= بلدة تقع عند مصبّ نهر الزاب الأسفل في دجلة]، فأوقع بطوائف كثيرة منهم، وقتل فيهم، وغَنِم أموالهم، وانهزم بعضهم فعبروا الزاب عند البوازيج، فلم يُدركهم، وأراد العبورَ إليهم، وهم بالجانب الآخر، وكان الماء زائداً، فلم يتمكن من عبوره، فنَجَوا ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 9، ص 596).

تعليق: هذه الأخبار تؤكد فشل السلطات الحاكمة في إخضاع الكرد، وفرض السيطرة المطلقة عليهم، وهذه حقيقة معروفة منذ عهد الإمبراطورية الآشورية، فقد كانت المشكلة التي تؤرّق الملوك الآشوريين هي إخضاع الميديين (أجداد الكرد)، وعجزوا عن ذلك رغم جميع الحروب التي شنّوها عليهم، ورغم جميع أصناف البطش والتنكيل، بل إن نهاية الإمبراطورية الآشورية كانت على أيدي الميديين.

وكي نضع الأخبار السابقة في سياقها التاريخي الصحيح يكفي أن نستخدم عبارة (ثاروا، ثورة، ثائرون) بدل كلمة (أفسدوا، إفساد، مفسدون)، فالكرد كانوا يعبّرون عن رفضهم للخضوع بالتمرد والثورة وشنّ حروب العصابات، وكان من مصلحة السلطات الحاكمة أن تسمّيهم قطّاع طرق ومفسدين، وكان من مهمّة مثقفي السلطة، على اختلاف تخصصاتهم، أن يتلقّفوا تلك التوصيفات، ويروّجوها عبر الروايات.

·  روى الشاعر الشيعي المعروف دِعْبِل بن علي الخُزاعي (ت 246 هـ = 860 م) قصة طويلة خلاصتها أنه ألف قصيدة، منها قوله (مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تلاوةٍ)، وقصد بها الإمام الشيعي علي بن موسى الرضا في خُراسان، إذ كان وليّ عهد الخليفة المأمون، فأنشده القصيدة، ثم أنشدها أمام المأمون أيضاً، وقبض منهما أموالاً كثيرة، إضافة إلى ما وهبه له علي بن موسى الرضا من ثياب خاصة به، كما أن الوزير ذا الرئاستين وهبه بِرْذَوْناً أصفر ومِمْطراً (ثوب لاتقاء المطر) من حرير، وقال دِعْبِل: " وقضيت حاجتي، وكَرَرْت راجعاً إلى العراق، فلما صرت ببعض الطريق، خرج علينا أكراد يُعرَفون بالماريخان [= الصواب: مازنْجان، وهم قبيلة من الكرد في حدود أصفهان]، فسلبوني، وسلبوا القافلة، وكان ذلك في يوم مَطِير. فأعتزلت في قميص خَلَق [= عتيق بالٍ] قد بقي علي، وأنا متأسّف- من جميع ما كان عليّ- على القميص والمِنشَفة اللذين وهبهما لي علي بن موسى الرضا، إذ مرّ بي واحد من الأكراد، وتحته البِرْذَوْن الأصفر الذي حملني عليه ذو الرياستين، وعليه المِمْطَر الخَزّ، ثم وقف بالقرب مني، وابتدأ ينشد: (مدارس آيات)، ويبكي. فلما رأيت ذلك، عَجِبت من لصّ كرديّ يتشيّع، ثم طمعت في القميص والمِنشفة.

فقلت: يا سيّدي، لمن هذه القصيدة ؟ فقال: ما أنت وذاك؟ ويلك!

فقلت له: فيه سببٌ أُخبرك به.

فقال: هي أشهر من أن يُجهَل صاحبُها.

قلت: فمن هو؟ قال: دِعْبِل بن علي الخُزاعي، شاعر آل محمد، جزاه الله خيراً.

فقلت له: يا سيدي، أنا - والله - دِعْبل، وهذه قصيدتي.

فقال: ويلك! ما تقول؟ فقلت: الأمرُ أشهرُ من ذلك، فسَل أهل القافلة، تُخْبَرْ بصحة ما أخبرتك به.

فقال: لا جَرَمَ- والله- لا يذهب لأحد من أهل القافلة خِلالة [= عود تُخَلَّل به الأسنان. وبالضم خُُلالة: تمرة] فما فوقها.

ثم نادى في الناس: من أخذ شيئاً فليردّه على صاحبه، فردّ على الناس أمتعتهم، وعليَّ جميع ما كان معي، ما فَقَد أحدٌ عِقالاً.

ثم رحلنا إلى مأمننا سالمين.

قال راوي هذا الخبر عن دِعْبِل: فحدّثتُ بهذا الحديث عليَّ بن بَهْزاد الكردي، فقال لي: ذاك - والله - أبي الذي فعل هذا ". (التَّنُوخي: الفَرَج بعد الشدة، ج 4، ص 227- 230).

تعليق: واضح من سياق الخبر أن بهزاد الكردي كان من الكرد الشيعة المثقفين الناقمين على السلطات الحاكمة، الثائرين عليها، وهو ليس مثقفاً فقط، بل إنه رجل شديد الموالاة لآل البيت، حتى إنه ردّ لأصحاب القافلة جميع أموالهم، مكافأةً لدعبل على قصيدته في مدح أهل البيت، وإن مثقفاً وشيعياً مخلصاً مثله لا يكون قاطع طريق بقصد السلب والنهب، وإنما يكون قائد حرب عصابات ضد السلطات الجائرة.

·  نقل التَّنُوخي خبر قاطع طريق كردي يُفتي فقال: " وحدّثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسِطي السَّرّاج، المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: كنت مسافراً في بعض الجبال، فخرج علينا ابن سَباب الكردي، فقطع علينا، وكان بزِيّ الأمراء، لا بزيّ القُطّاع. فقربت منه لأنظر إليه وأسمع كلامه، فوجدته يدل على فهم وأدب، فداخلْته فإذا برجل فاضل، يروي الشعر، ويفهم النحو، فطمِعت فيه، وعمِلت في الحال أبياتاً مدحته بها. فقال لي: لستُ أعلم إن كان هذا من شعرك، ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعراً الساعةَ، لأعلم أنك قلته، وأنشدني بيتاً. قال: فعملت في الحال إجازة له ثلاثة أبيات.

فقال لي: أيُّ شيء أُخذ منك؟ لأردَّه إليك.

قال: فذكرت له ما أُخذ مني، وأضفت إليه قماش رفيقين كانا لي.

فردّ جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها، كيساً فيه ألف درهم، فوهبه لي.

قال: فجزيته خيراً، ورددته عليه.

فقال لي: لِم لا تأخذه؟ فوَرَّيت [= أخفيت] عن ذلك.

فقال: أحب أن تَصْدُقني.

فقلت: وأنا آمن؟

فقال: أنت آمن.

فقلت: لأنك لا تملكه، وهو من أموال الناس الذين أخذتَها منهم الساعة ظلماً، فكيف يَحِلّ لي أن آخذه؟

فقال لي: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص؛ عن بعضهم قال: إن هؤلاء التجار خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم - وإن كرهوا أَخْذَها - كان ذلك مباحاً لهم، لأن عَين المال مستهلَكة بالزكاة، وهؤلاء يستحقون أخذ الزكاة بالفقر، شاء أرباب الأموال أم كرهوا.

قلت: بلى، قد ذكر الجاحظ هذا، ولكن من أين يُعلَم أن هؤلاء ممن استَهلكت أموالَهم الزكاةُ ؟ فقال: لا عليك، أنا أُحضر هؤلاء التجار الساعة، وأُريك بالدليل الصحيح أن أموالهم لنا حلال.

ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار، فجاؤوا.

فقال لأحدهم: منذ كم أنت تَتْجُر في هذا المال الذي قطعنا عليه؟

قال: منذ كذا وكذا سنة.

قال: فكيف كنت تُخرج زكاته؟ فتَلَجْلَج [= تردّد في الجواب]، وتكلم بكلام مَن لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلاً عن أن يُخرجها.

ثم دعا آخر، فقال له: إذا كان معك ثلثمائة درهم وعَشَرة دنانير، وحالتْ [= مرت] عليك السنة، فكم تُخرج منها للزكاة ؟ فما أحسن أن يجيب.

ثم قال لآخر: إذا كان معك متاع للتجارة، ولك دَين على نفسَين، أحدهما مليء والآخر مُعْسِر، ومعك دراهم، وقد حال الحَوْل [= مرت سنة] على الجميع، كيف تُخرج زكاة ذلك؟ قال: فما فَهِم السؤال، فضلاً عن أن يتعاطى الجواب.

فصرفهم، ثم قال لي: بانَ لك صِدقُ حكاية أبي عثمان الجاحظ؟ وأن هؤلاء التجار ما زكَّوا قطُّ؟ خذ الآن الكيس.

قال: فأخذته، وساق القافلة لينصرف بها.

فقلت: إن رأيتَ أيها الأمير أن تَنفُذ [= ترسل] معنا مَن يُبلغنا المأمِن، كان لك الفضل.

ففعل ذلك ". (التنوخي: الفرج بعد الشدة، ج 1، ص 231 - 233).

تعليق: واضح من سياق الخبر أن ابن سَباب الكردي كان أيضاً من زعماء الكرد المثقفين، فالرجل بصير بتمييز الشعر، عليم بكتابات الجاحظ، خبير بفقه الزكاة، والأرجح أنه كان من الناقمين على السلطات، الثائرين عليها، وكانت عملية قطع الطرق جزءاً من حرب العصابات ضد السلطة.

·  قال ابن جُبَيْر يصف رحلته إلى مناطق آمِد (ديار بكر) في شمالي كردستان: " فتمادى سيرُنا أوّلَ الظهر، ونحن على أُهبة وحَذَر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل، نِصِيبين مدينة دُنَيْصِر [= دُُنَيْسِر، وهي قُوج حَصار]، يقطعون السبيل، ويسعون فساداً في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة، ولم يُعِن اللهُ سلاطينَها على قَمْعهم وكَفِّ عادِيَتهم، فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان باب نِصيبين، ولا دافعَ لهم ولا مانعَ إلا الله عز وجل ". (ابن جُبَيْر: رحلة ابن جُبَيْر، ص 215).

تعليق: ابن جبير رحّالة أندلسي ( ت 614 هـ = 1217 م)، وقد بدأت رحلته إلى الشرق سنة (578 هـ = 1182 م)، وانتهت سنة (581 هـ = 1185 م)، وزار خلالها مصر، وبلاد الشام، والحجاز، والعراق، وشمالي كردستان (جنوب شرقي تركيا حالياً)، ويُفهَم من سياق الخبر أن القائمين على تنسيق ملفّات الشعوب في الذاكرة العرب آسيوية سرعان ما فتحوا لابن جُبَير الملفّ الكردي، وقدّموا له الكرد بالصورة البشعة المتّفق عليها؛ لذلك ما إن وطئت قدما ابن جُبَيْر المناطق الكردية حتى عاش في خوف دائم من (الأكراد).

ولست أنفي أنه كان بين الكرد من يقطع الطرق حينذاك، وأوضحنا الأسباب التي كانت تقف وراء ذلك، لكن الغريب أن الصورة التي قُدّمت لابن جُبير كانت شديدة القتامة، والغريب أيضاً أن رحلة ابن جُبَيْر كانت خلال عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقد عبّر في عدّة مواطن من كتابه عن إعجابه الشديد بعدالة صلاح الدين، وأشاد بمنجزاته الاقتصادية والعلمية، لكن يبدو أن القائمين على الملفّ الكردي حينذاك كانوا حريصين على طَمس كل ما هو مضيء في سيرة الكرد، وتضخيم ما هو سلبي فقط. 

·  قال ياقوت الحموي في حديثه عن (شَهْرَزُور): " إلا أن الأكراد في جبال تلك النواحي على عادتهم في إخافة أبناء السبيل، وأخذ الأموال والسرقة، ولا ينهاهم عن ذلك زَجْرٌ، ولا يصدُّهم عنه قتلٌ ولا أَسْرٌ، وهي طبيعة في الأكراد معلومة، وسَجِيّةٌ جباهُهم بها مَوْسومة، وفي مُلَح الأخبار التي تُكْسَعُ [= تُمحى] بالاستغفار أن بعض المتظرّفين قرأ قوله تعالى: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونفاقاً) فقيل له: إن الآية (الأعرابُ أشدُّ كُفراً ونفاقاً) [التوبة: 97]. فقال: إن الله- عزّ وجلّ- لم يسافر إلى شَهْرَزُور، فينظرَ إلى ما هنالك من البَلايا المخبّآت في الزوايا ". (ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 3، ص 426 – 427).

تعليق: أكثر ما يثير الانتباه هو الحكم العام الذي أصدره ياقوت بحق الكرد جميعاً، إلى درجة أنه جعل صفات النهب والسلب والسرقة طبيعة فطرية في الكرد. وكعادة غيره من المتحاملين على الكرد لم يجد حَرَجاً في توظيف الآية القرآنية الخاصة بالأعراب لخدمة مشروع أبلسة الكرد، وبرّر ذلك بأن الاستغفار كفيل بمحو الآثام الناجمة عن التلاعب بالآية.

وبعد أن استغفر ياقوت سرعان ما ذكر ما يتناقض تماماً مع حكمه المطلق السابق، فقال: " وقد خرج من هذه الناحية من الأجِلَّة والكُبَراء، والأئمّة والعلماء، وأعيان القضاة والفقهاء، ما يفوت الحَصر عنُه، ويعجز عن إحصائه النَفَسُ ومدُّه، وحسبُك بالقضاة بني الشَهْرَزُوري جلالةَ قَدْرٍ، وعِظَمَ بيتٍ، وفخامةً فعلٍ، وذكرِ الذين ما علمتُ أنّ في الإسلام كلِّه وَلِيَ من القضاة أكثرَ مِن عِدّتهم مِن بيتهم، وبنو عَصْرُون أيضاً قضاةٌ بالشام، وأعيانُ مَن فرّق بين الحلال والحرام منه، وكثيرٌ غيرُهم جداًَ من الفقهاء الشافعية، والمدارس منهم مملوءة ". (معجم البلدان، ج 3، ص 427).

·  " قال أبو دلف: دخلتُ على الرشيد وهو في طارِمة [= بيت كالقبة من خشب] على طِنْفِسة، ومعه عليها شيخٌ جميلُ المنظر [هو العبّاسُ بن الحسين بن عُبَيد الله بن العبّاس بن علي بن أبي طالب]؛ فقال لي الرشيد: يا قاسم، ما خَبَرُ أرْضك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خَرَابٌ يَبَاب، أَخْرَبَها الأَكراد والأعراب. فقال قائل: هذا آفةُ الجبل، وهو أفسده ". (الحُصْري القَيْرَواني: زهر الآداب وثمر الألباب، ج 1، ص 90 - 91). وذكر ابن حَمْدون الخبر ذاته في كتابه (التذكرة الحمدونية، ج 2، ص 197)، ويُفهم منه أن إقطاعة أبي دُلَف كانت تقع في منطقة إقليم كردستان – العراق.

·  قال ابن حَمْدون:" كان رُكن الدولة أبو الحسن علي بن بُوَيْه ضعيف السياسة على خيرٍ فيه وكَرَمِ طبع، فخرجتْ له بغال للعلف، فقطع عليها اللصوص وأخذوها، فلما أُخبر بالحال قال: كم كانت البغال؟ فقيل: ستة. قال: واللصوص؟ قيل: سبعة. قال: الآن يختلفون، كان ينبغي أن تكون البغال سبعة حتى تَصِحّ قسمتُها بينهم. وذُكر له أكراد قطعوا الطريق، فقال: وهؤلاء الأكراد أيضاً يحتاجون إلى خبز ومعيشة ". (ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 1، ص 464).

تعليق: إن الملك البُوَيهي وضع النقاط على الحروف، وصرّح بما أخفاه الآخرون؛ فـ (الأكراد) الذين كانوا يمارسون قطع الطرق لم يكونوا يفعلون ذلك من باب الهواية واللهو، وإنما لأن سبل الحياة كانت قد سُدّت في وجوههم، ولم يبق أمامهم سوى فرض الغرامات على التجار الذين كانوا يضطرون إلى المرور من جبال كردستان، لنقل البضائع شرقاً وغرباً.

إن افتقار المناطق الجبلية إلى الأراضي الصالحة للزراعة، وتهميش المناطق الكردية بشكل عام، وسيطرة السلطات المركزية على حركة التجارة، ونقمتها على الكرد؛ هذه العوامل جميعها قذفت بالكرد بين براثن الفاقة والحرمان، ووضعتهم أمام خيار وحيد؛ هو الاعتماد على القوة في تحصيل أسباب الحياة، ومقارعة السلطات، وتقاسم الثروة معها. 

تهمة النفاق والكفر

·  قال الآبي:" ولما دخل الأكراد مدينة السلام مع أبي الهَيْجاء، واجتازوا بباب الطاق، قال بعض المشايخ من التجّار: هؤلاء الذين قال الله تعالى في كتابه: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً). فقال له إنسان: يا هذا، إنما قال الله  (الأعرابُ). قال الشيخ: يا سبحان الله! يقطع علينا الأكراد، ونكذب على الأعراب "؟! (الآبي: نثر الدر، ج 2، ص 114).

تعليق: بنو حَمْدان قبيلة عربية من قبيلة (تَغْلِب)، وأبو الهَيْجاء هو عبد الله بن حمدان، والد سيف الدولة الحمداني (أمير حلب وتوابعها في القرن الرابع الهجري)، وقد بدأ الحمدانيون تأسيس إمارتهم في الموصل، وكانت العلاقة وثيقة بينهم وبين بعض الكرد، وتتمثّل على نحو خاص في المصاهرة؛ إذ كانت أمهات بعض كبار أمراء بني حمدان وزوجاتهم كرديات، ومن ذلك أن أم أبي الهَيْجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة كردية، وكانت أم سيف الدولة كردية، ويبدو أن زوجته كانت كردية أيضاً، وكانت من مَيّافارقِين (فارقِين، في شمالي كردستان). (انظر أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، ص 111، ص 297).

وحينما سيطر العسكريون الأتراك على مقاليد السلطة في بغداد، ولا سيّما بعد أن دبّروا مقتل الخليفة المتوكل على الله، كان أمراء بني حمدان من جملة الثائرين عليهم، وظل الأمر كذلك حينما سيطر البويهيون على مقاليد الأمور، وكان ثمة تعاون عربي كردي ضد البويهيين والعسكر الأتراك، وواضح من الخبر أن الكرد كانوا يشكلون قوة قتالية هامة في جيش أبي الهيجاء. (انظر أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، ص 178- 179، و ص 183- 184).

وإذا أخذنا هذه المعطيات بالحسبان عرفنا النوايا الخافية وراء نقمة تجار بغداد على الكرد خاصة، وجرأتهم على اتهام الله – عزّ وجلّ- بالخطأ، فالمفروض– حسب رأيهم- أن تكون الآية بصيغة (الأكراد أشدّ كفراً ونفاقاً)، وليس بصيغة (الأعراب أشدّ كفراًَ ونفاقاً).

·  قال الزَّمَخْشَري:" سُمع رجل يقرأ: الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً. فقيل له: ويحك، الأعرابُ. فقال: كلُّه يقطع الطريق ". (الزَّمَخْشَرِي: ربيع الأبرار وفصوص الأخبار، ج 1، ص 364).

·  قال ابن حَمْدُون:" سُمع رجل يقرأ: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً). فقيل له: ويحك! (الأعرابُ). قال: كلُّهم يقطعون الطريق ". (ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 9، ص 419).

تعليق: هكذا نجد أن الخبر الذي يشتمل على تبشيع صورة الكرد يصبح مادة رائجة للطُّرفة، وهي مادة مقبولة للتداول ليس عند الأدباء من أمثال الآبي وابن حمدون فقط، وإنما عند بعض مشاهير مفسّري القرآن، من أمثال الزَّمَخْشَري (فارسي) صاحب تفسير (الكشّاف).

·  سئل ابن تَيْمِيَة بشأن جواز قتال التتار الذين أظهروا الإسلام، وقاتَلوا المسلمين، فقال: " وأمّا هؤلاءِ فدخلوا فيه وما التزموا شرائعَه. وقِتالُ هذا الضَّرْب واجبٌ بإجماع المسلمين، وما يَشُكُّ في ذلك مَن عَرَفَ دينَ الإسلام وَعَرَفَ حقيقةَ أمرِهم؛ فإنّ هذا السِّلْمَ الذي هم عليه ودِينَ الإسلامِ لا يَجتمِعان أبداً. وإذا كان الأكرَادُ والأعرابُ، وغيرُهم مِن أهل البوادي الذين لا يلتزمون شرِيعةَ الإسلام، يَجِبُ قِتالُهم، وإنْ لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهم إلى أهل الأَمْصارِ، فكيف بهؤلاء "؟! (ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 6، ص 425).

تعليق: مرة أخرى نجد ابن تيمية (شيخ الإسلام!) يستخدم التعميم عندما يتعلق الأمر بـ (الأكراد)، أما العرب فاختار منهم (الأعراب) فقط، وحكم بأن الأكراد والأعراب لا يلتزمون شريعة الإسلام، وأفتى بوجوب قتالهم، ولم يشر إلى الأتراك مع أنهم كانوا بداة مثل الأكراد والأعراب.

تساؤلات ...

تلك كانت جولة مع صورة الكرد في بعض كتب التراث الغرب آسيوي في العهود الإسلامية، ولست ممن يؤمنون بأن ثمة شعباً من الملائكة يمشي على الأرض، ولست أيضاً ممن يؤمن بأن ثمة شعباً اختاره الله منذ الأزل، وفضّله على جميع خلق في كل مجال، وأعتقد اعتقاداً جازماً بأن لكل شعب في هذا العالم صفاته التي يختلف بها عن غيره من الشعوب، ومن تلك الصفات ما هو إيجابي وما هو سلبي، وأعتقد أيضاً أن صفات كل شعب هي نتاج البيئة الطبيعية والظروف التاريخية التي تحيط به.

وذلك هو رأيي في الكرد أيضاً، فهم مثل بقية الشعوب، فيهم الصالح والطالح، والعالم والجاهل، والمحسن والمسيء، والفاضل والأفضل، والرديء والأردأ، لكن ما لم أستطع أن أجد له مبرراً منطقياً وموضوعياً هذه الحملة القاسية التي شُنّت على الكرد في مصادر التراث الإسلامي، إنها حملة شارك فيها المؤرخ، والجغرافي، وشيخ الإسلام، والإمام، والأديب، والشاعر، والرحّالة.

وما لم أجد له مبرراً منطقياً وموضوعياً أيضاً هذه الأحكام المطلقة التي تضع الكرد كل مرة في واحدة من خانات التبشيع، وهذا التعميم الذي يحلّ فيه الجزء محلّ الكل، وهذا التوظيف الغريب لبعض الآيات القرآنية في تشويه صورة الكرد، دونما أيّ حرج أو التزام بحدود التقوى.

ويبقى أخيراً أن نبحث عما وراء هذه الأقوال والروايات من حقائق، وأن نفتّش في أغوار الذاكرة الغرب الآسيوية عن هذه الظاهرة العجيبة؛ ظاهرة (أبلسة الكرد)، وقد سمّيناها أكثر من مرة (مشروع أبلسة الكرد)، ومن الضروري أن نسعى للوصول إلى إجابات عن أسئلة عديدة، منها:

-       ما هي الأهداف الستراتيجية لمشروع أبلسة الكرد؟

-       ومتى تأسس هذا المشروع؟

-       ومن هم المؤسسون الأوائل؟

-       ومن هم المنتفعون من هذا المشروع؟

-       وما هي الآليات الموظّفة في هذا المشروع؟

-       وما هي انعكاسات هذا المشروع على الكرد؟

-       وما هي آثاره على مستقبل شعوب غربي آسيا؟

المراجع

1.    الآبي: نثر الدُّر، كتاب إلكتروني، موقع الوَرّاق، http://www.alwarraq.com

2.    ابن الأَثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.

3.    أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى،1981.

4.    أحمد محمود الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو، بيروت، 2007.

5.    ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار الثقافة، بيروت، 1981.

6.    البَلاذُري: فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978.

7.    التَّنُوخي: الفرج بعد الشدة، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، 1978.

8.    ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، كتاب إلكتروني، موقع الإسلام، http://www.al-islam.com

9.    الجاحظ: رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1979.

10.      ابن جُبَيْر: رحلة ابن جبير، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1964.

11.      الحُصْري القَيْرَواني: زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1970.

12.      ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عباس، وبكر عبّاس، دار صادر، بيروت، 1996.

13.      الذَّهَبي: العِبَر في خَبر مَن غَبَر، تحقيق أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985.

14.      الزَّمَخْشِري: ربيع الأبرار وفصوص الأخبار، تحقيق الدكتور عبد المجيد دياب، والدكتور رمضان عبد التوّاب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992.

15.      القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، دار صادر، بيروت، 1960.

16.      ابن كَثِير: البداية والنهاية، دار ابن كثير، بيروت، 1965.

17.      مأمون بگ بن بيگه بك: مذكرات مأمون بگ بن بيگه بك، تعريب محمد جميل الروژبياني وشكور مصطفى، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1980.

18.      المُطَرِّزي: المُغَرِّب في ترتيب المُعَرِّب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980.

19.ياقوت الحَمَوي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990.

 

وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة عشرة

د. أحمد الخليل   في 1 4 -  2009

dralkhalil@hotmail.com

===

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الثانية عشرة )

الكرد في لوحات مشوّهة ومريبة (1)

 

 

 المقدَّس والمدنَّس

السياسات في جوهرها ثقافات.

والسياسات الخاطئة هي تجسيد لثقافات خاطئة.

وكي تتغير السياسات لا بد من تغيير الثقافات.

تلك حقائق ينبغي أن نأخذها بالحسبان - نحن مثقفي غربي آسيا- حينما نقرأ تواريخ الشعوب قديمها وحديثها، وحينما ندقّق التفكير في حاضرها ونخطط لمستقبلها، وقد درجت العادة على الإسراع إلى تحميل الساسة وحدهم أوزار ما قد حلّ بشعوب منطقتنا العريقة من خصومات تزرع الأحقاد في القلوب، وصراعات تدمّر البلاد والعباد، وتقذف بنا بعيداً عن درب الحضارة.

والحقيقة أن المثقف الغرب آسيوي هو المسؤول في الدرجة الأولى عن جميع هذه البلايا؛ لأنه هو الذي يهيّئ المناخ النفسي والفكري لنشأة الخصومات، وتوتير العلاقات، وتفجير الصراعات، ولأنه هو الذي أنتج الثقافات الخاطئة طوال قرون، ثم جمّلها وبَهْرَجها، وأحرق لها البخور، وروّج لها صباح مساء، وربّى عليها الأجيال عاماً بعد عام، وهذا يعني ضمناً أن المثقف الغرب آسيوي هو المسؤول الأول عن تصحيح المسار الثقافي لشعوب هذه المنطقة، وعن العمل بجدّ وإخلاص ونبل لإحلال ثقافة (التكامل مع الآخر) بدل ثقافة (إلغاء الآخر).

أسألك بالله – عزيزي القارئ- أن تمد يدك إلى أقرب كتاب يتحدث عن الحضارات البشرية الأولى، وأن تكتفي بقراءة الصفحات الأولى منه فقط، ستجد أن منطقة غربي آسيا كانت من جملة الحواضن الأولى للحضارة على امتداد الكرة الأرضية، ها هنا تمّ ابتكار الزراعة، وها هنا ظهرت صناعة التعدين، وها هنا اختُرعت الكتابة، وها هنا نشأت المدن، وها هنا قامت مؤسسات الدولة.

بلى، وها هنا – في غربي آسيا- ظهرت الديانات الكبرى، وها هنا أُحرقت أطنان من البخور للآلهة الكبرى والصغرى، وها هنا كان أبو البشرية الأول (آدم)، وأبو البشرية الثاني (نوح)، وأبو الأنبياء (إبراهيم)، وخاتم الأنبياء (محمد)، فما السر في أن شعوب هذه المنطقة باتت متخلفة عن ركب الحضارة؟ وما السر في الحديث عن أسمى المبادئ وأنبل القيم على المنابر وصفحات الكتب، وتجسيد بعض أكثر المبادئ توحّشاً، وبعض أكثر القيم همجية، في ميدان الممارسة؟ أما كان جديراً بهذه الشعوب أن تكون في مقدمة حَمَلة المبادئ الإنسانية؟

مرة أخرى أقول: إن جوهر المشكلة ليس في السياسات فقط، وإنما هو -بالدرجة الأولى- في الثقافات، وتحديداً في ثقافة (إلغاء الآخر)؛ ثقافة (إقصاء الآخر)، ثقافة (أنا الموجود وغيري هو المعدوم)، ثقافة (أنا السيد وغيري هو التابع)، ثقافة (أنا الأنبل وغيري هو الأنذل)، ثقافة (أنا المقدس وغيري هو المدنّس)، ثقافة (أنا الإلهي وغيري هو الشيطاني).

جبل الجليد

وإننا إذ نُبدئ القول ونعيده في مشروع (أَبلسة الكرد) فلأنه أحد نتاجات ثقافة (إلغاء الآخر)، إنه مثل قمة جبل الجليد، يظهر صغيراً فوق سطح الماء، لكنه ينتمي إلى هيكل أخطبوطي عملاق يغوص في الأعماق، ويتمدد في كل اتجاه.

إن مشروع (أَبلسة الكرد) فريد من نوعه؛ مداه الزمني يتجاوز خمسة وعشرين قرناً من الزمان، ومداه الجغرافي يغطي جميع مناطق غربي آسيا، وطوال هذه المدة، وعلى امتداد جميع هذه الجغرافيا، كان المشروع يَلقى دعماً لوجستياً مستمراً من جهات غرب آسيوية في الدرجة الأولى، ومن جهات أخرى عولمية في الدرجة الثانية.

ويبدو مشروع أبلسة الكرد، من حيث بنيته وهيكليته وآلياته، وكأنه شركة مساهمة عملاقة، لها مخططوها ووكلاؤها ومروّجوها ومنفّذوها، إضافة إلى القائمين على تقديم الدعم اللوجستي المطلوب، وهؤلاء جميعهم خليط عجيب إثنياً، ودينياً، ومذهبياً، وسياسياً، خليط أفراده مختلفون فيما بينهم على أمور وقضايا كثيرة وخطيرة، لكنهم متفقون فيما بينهم ضمناً، وبالتضامن والتكامل والتكافل، على هدف واحد؛ هو الشطب على الكرد، ورميهم ليس خارج دائرة التاريخ الغرب الآسيوي، وإنما خارج دائرة التاريخ البشري كله.

وأعتقد أن الأدلة والشواهد التي استعرضناها في الحلقات السابقة كافية لأن ترسم الملامح الحقيقية لهذا المشروع العملاق، وهي كافية أيضاً لإقناعنا بأن المسألة ليست وهماً نطارده، ولا حُلماً مزعجاً نستريح منه بمجرد اليقظة، ولا هو ضربٌ من الفكاهة البريئة، ولا هو نوع من الرُّهاب الثقافي الذي يتمترس به بعض الناس؛ تارة لتوحيد الصفوف من خطر داهم، وأخرى لاستدرار الشفقة من هذه الجهة أو تلك.

وكيف يكون الموضوع مجرد وهمٍ أو حُلم أو فكاهة بريئة أو رُهاب (خُواف) ثقافي؛ والشهود على المشروع- طبعاً بحسب الروايات المتواترة- شخصيات تتفاوت مكانتها في الذاكرة الغرب آسيوية بين المرموقة جداً، والمرموقة؟

إن أولئك الشهود فريقان:

1. فريق نخبة النخبة: منهم الأنبياء (النبي إبراهيم، النبي سليمان، النبي محمد) عليهم السلام، ومنهم الملوك (أَزْدهاك، نَمْرُود)، ومنهم كبار الصحابة (عبد الله بن عبّاس، عبد الله بن عمر بن الخَطّاب، أبو هُرَيْرة)، ومنهم كبار الأئمة، والتابعون، وحُفّاظ الحديث النبوي، والفقهاء (الإمام جعفر الصادق، مُجاهدِ، عِكْرِمة، السُّدِّي، الكُلِيني…).

2. فريق النخبة: فيهم المفسّر من أمثال (الطَّبَري، والبَغَوي، والفَخْر الرازي، والقُرْطُبي، والبَيْضاوي، والنَّسَفي، وابن كَثير، والشَّوْكاني)، وفيهم المؤرخ من أمثال (الطَّبَري، والمَسْعودي، وابن الأَثِير، وابن الجَوْزي، والمَقْرِيزي)، وفيهم الجغرافي مثل (ابن الفقيه الهَمَذاني، وياقوت الحَمَوي)، وفيهم اللغوي البارز من أمثال (الزَّبيدي)، وفيهم الموسوعي من أمثال (ابن قُتَيْبة الدِّينَوَري، والراغب الأصبهاني).

ومشروع أبلسة الكرد مشروع شامل متكامل، تفاصيله متعددة، وقد يبدو بعضها بعيداً عن بعضها الآخر، لكنها تنتظم في النهاية ضمن نسق واحد، هو التشكيك في الكرد من حيث هم شعب، والسير باتجاه غرض واحد، هو تقديم الكرد إلى العالم في أبشع صورة ممكنة.

وما دمنا إزاء مشروع عملاق كهذا، يدور حول (أَبلسة) شعب بكامله، وليس أبلسة فرد أو أفراد أو شرائح فقط، فمن المفيد أن نسعى للإجابة عن تساؤلين اثنين: ما الأهداف الحقيقية لمشروع (أَبْلسة الكرد)؟ ومن هي الجهات القائمة على المشروع (تخطيطاً وتنفيذاً، ودعماً لوجستياً)؟ لكن قبل ذلك، وكي تكتمل أبعاد الصورة أمامنا، دعونا نستعرض لوحات أخرى ذات صلة بالمشروع.

بداوة وفظاظة

إن الآليات المعمول بها، في مشروع الأبلسة، لتبشيع صورة الكرد متنوعة، ومنها وصف الكرد بالبداوة والجَفاء والفَظاظة والغِلْظة، وفيما يلي بعض المشاهد:

·  ذكر الطَّبَري خبر الصراع بين أَرْدَشِير بن بابك أوّل ملوك بني ساسان، وأَرْدِوان آخر ملوك البرثيين (الأرشاكيين) فقال: " فبينا هو [= أردشير] كذلك إذْ وَرَد عليه رسولُ الأَرْدِوان بكتاب منه، فجمعَ أَرْدَشير الناس لذلك، وقرأ الكتاب بحضرتهم، فإذا فيه: إنك قد عَدَوْتَ طَوْرَك، واجتلبتَ حَتْفَك، أيها الكرديّ المُرَبَّى في خيام الأكراد، مَن أَذِن لك في التاج الذي لَبِسْتَه, والبلاد التي احتوَيتَ عليها، وغَلَبْتَ ملوكَها وأهلَها "؟ (الطبري: تاريخ الطبري، ج 2، ص 39).

تعليق: الملاحَظ هنا أن أردوان لم يكتف في تهجّمه على أردشير بتعييره أنه تربّى في خيام الأكراد، وإنما خاطبه بصفة (الكردي)، فهل كانت صفة (كردي) تعني – في الثقافة الفارسية القديمة- بدوي، جلف، متخلّف؟ وكانت تُطلق من ثَمّ على كل من يراد الحطّ من قدره، أم أن الأسرة الساسانية كانت كردية الأصل حقاً؟ الأمر بحاجة إلى دراسة علمية موثَّقة، وأتمنّى أن يتفضّل الباحثون الكرد الذين يجيدون اللغة الفارسية بمتابعة هذا الموضوع.

·  أورد الطَّبَري في تاريخه أخبار الصراع بين الملك الساساني كِسرى أَبْرَويز بن هُرْمُز والقائد بَهْرام جُوبِين، وذكر أن حواراً دار بينهما، جاء فيه ما يلي: " فبدأ كسرى فقال: إنك- يا بَهْرام- ركنٌ لمملكتنا، وسِنادٌ لرعيّتنا، وقد حَسُن بلاؤك عندنا، وقد رأينا أن نختار لك يوماً صالحاً لِنولّيَك فيه إصْبَهْبَذَة [= حاكم عسكري، سمّي في العهد العثماني: سِباهي] بلاد الفرس جميعاً. فقال له بهرام- وازداد من كسرى قرباً-: لكني اختار لك يوماً أَصلُبك فيه. فامتلأ كسرى حزناً من غير أن يبدو في وجهه من ذلك شيء، وامتدّ بينهما الكلام، فقال بَهْرام لأَبْرَويز: يا ابن الزانية المُربّى في خيام الأكراد؛ هذا ومثلَه [= قال هذا ومثله]، ولم يقبل شيئاً مما عرضه عليه ". (الطبري: تاريخ الطبري، ج 2، ص 178).

تعليق: سار بَهْرام جُوبين على خُطا أردوان، واستعمل عبارة (المربّى في خيام الأكراد) للحطّ من مكانة أبرويز، أو لتذكيره بأصله الكردي. وهذه المعلومة تدفع أيضاً إلى البحث عن الهوية الحقيقة للأسرة الساسانية.

·  وصف اليَعْقوبي فضل العراق، حيث دارُ الخلافة، على غيره من البلدان، فقال: " وإنها ليست كالشَّأْم [= الشام] الوَبيئةِ الهواء، الضيّقةِ المنازل، الحَزْنَةِ [= المرتفعة الوعرة] الأرض، المتصلةِ الطواعين، الجافيةِ الأهل. ولا كمِصرَ المتغيّرةِ الهواء، الكثيرةِ الوباء، ... ولا كأفريقيةَ البعيدةِ عن جزيرة الإسلام، وعن بيت الله الحرام، الجافيةِ الأهل، الكثيرةِ العدوّ، ولا كأرمينيةَ النائيةِ الباردة الصَّرِدَة [= الشديدة البرد] الحَزْنة، التي يحيط بها الأعداء. ولا مثلَ الجَبَل كُوَر[= جمع كُورَة: منطقة]  الحَْزنَة، الخَشنة، المُثلِجة، دار الأكراد الغليظي الأكباد ". (اليعقوبي: البلدان، ج 1، ص 2).

تعليق: الفنون التي يتقنها خرّيجو (ثقافة إلغاء الآخر) في غربي آسيا كثيرة ومتنوّعة، ولهم في هذا المجال خبرة متراكمة، تعود إلى لا أقل من أربعة آلاف عام، ويوظّفون تلك الفنون كل مرة بما يحقق أهدافهم الدفينة. وفي المعلومات التي ساقها اليعقوبي اثنان من تلك الفنون:

1 – فن التعميم: فـالخبر يفيد أن (الأكراد) كلهم من غليظي الأكباد.

2 - فن الخداع اللغوي؛ فاليعقوبي – وهو مؤرخ وجغرافي- تعامل مع وصف البلاد بطرائق شتّى: مرة اكتفى بوصف سلبيات البيئة فقط. ومرة أضاف عبارة (الجافية الأهل) إلى سلبيات البيئة. أما عندما تناول وصف منطقة الجبال (موطن الكرد في العراق وشمال غربي إيران) فقد علت نبرته التهجمية أكثر، ووصف الكرد بـ (الغليظي الأكباد)؛ أي القساة جداً.

·  قال المسعودي في معرض الإشادة بالعرب، والربط بين طباعهم ونزولهم في البوادي: " ولذلك جانبوا فَظاظةَ الأكراد وسكّان الجبال من الأجيال الجافية وغيرهم الذين مساكنهم حُزُون [= أماكن مرتفعة وعرة] الأرض". (المسعودي: مروج الذهب، ج 2، ص 121).

تعليق: مارس المسعودي أيضاً فن التعميم؛ إذ جعل (الفظاظة) صفة عامة في (الأكراد). ومارس فن الخداع اللغوي؛ إنه استعمل في وصف الكرد صفة (فظاظة)، أما مع الآخرين من سكّان البيئات الجبلية الوعرة فاستعمل صفة أخفّ وطأة؛ وهي (الجافية). 

·  قال شيخ الإسلام ابن تَيمية بشأن مهر المرأة: " وينبغي أيضاً اعتبارُ الصّفاتِ المُعتبَرةِ فِي الكَفاءة، فإذا كان أبوها مُوسِراً ثُمّ افتقَر، أو ذا صَنْعةٍ جيّدةٍ ثُمّ تَحوَّلَ إلى دُونها، أو كانت له رئاسةٌ أو مِلْكٌ ثُمّ زالت عنه تلك الرّئاسةُ وَالمِلْكُ، فيجبُ اعتِبارُ مثْلِ هذا، وكذلك لو كان أهلُهما لهم عزٌّ في أوطانهم ورئاسةٌ، فانقلَبوا إلى بلدٍ ليس لهم عزٌّ فيه ولا رئاسةٌ، فإن المَهْر يختلفُ بمثْلِ ذلك في العادة، وإن كانت عادتُهم يُسَمُّونَ مَهْراً، ولكن لا يَستَوْفُونه قطُّ مثْلُ عادةِ أهل الجَفاءِ مِثْلُ الأكرادِ وغيرِهم، فوجودُه كَعَدَمِه ". (ابن تيمية: الفتاوى الكبرى، ج 5، ص 476).

تعليق: ابن تيمية معروف بأنه (شيخ الإسلام) في عصره، بل لعله كان- طوال القرن العشرين وإلى يومنا هذا- من أكثر الأئمة تأثيراً في الفكر الإسلامي المعاصر، ولاسيما الفكر السلفي والجهادي، والمتوقّع من فقيه قدير مثله أن يقيّد لفظه، ولا يعمّم الأحكام، والمؤسف أنه لم يفعل ذلك، وها نحن نجده يعمّم صفة (الجفاء) على الكرد جميعهم، قديماً وحديثاً، صغاراً وكباراً، جهلةً ومتعلمين وعلماء، وإلى أبد الآبدين.

وإضافة إلى فن التعميم نجد في طيّات عبارة ابن تيمية فنّاً آخر من فنون خرّيجي (ثقافة إلغاء الآخر)؛ وهو فن التمويه في السرد؛ فكي يضرب مثالاً على عادة أهل الجفاء أسرع إلى التصريح باسم (الأكراد)، أما غير الأكراد فلم يصرّح بأسمائهم، وعتّم عليهم بعبارة (وغيرهم). 

·  قال الإمام أبو حامد الغزالي في طرائق (علاج الحرص والطمع): "الرابع: أن يُكثر تأمّلَه في تَنعُّم اليهود والنصارى، وأراذل الناس، والحَمْقى من الأكراد والأعراب الأجلاف، ومَن لا دِين لهم ولا عقل. ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء، وإلى سَمْت الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين، ويستمع أحاديثَهم ويُطالِع أحوالَهم. ويُخيّر عقلَه بين أن يكون على مُشابَهة أراذل الناس، أو على الاقتداء بمن هو أعزُّ أصناف الخلق عند الله ". (أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، ج 3، ص 243).

تعليق: الإمام أبو حامد الغزالي (وهو فارسي من مدينة طُوس) عَلَم آخر كبير جداً وشهير جداً من علماء الثقافة الإسلامية، وها نحن نراه يضع (الأكراد والأعراب) عامة- بعد وصفهم بالحماقة- في خانة اليهود والنصارى، وهؤلاء كفّار وضالّون بحسب معايير الغزالي وكثيرين من أعلام الثقافة الإسلامية، وما اكتفى الغزالي بذلك، بل جعل الأكراد في خانة واحدة مع الأراذل والحمقى والأجلاف، فالأكراد والأعراب بشر مستباحون، ولا حرج عند الإمام الغزالي في أن يصفهم بما يطيب له. وما يُلفت الانتباه أكثر أنه قدّم (الأكراد) على (الأعراب) في صفة الحماقة.

·  قال عبد الرؤوف المِناوي (والدته من حفيدات الحافظ الكردي الشهير زَين الدين العراقي) في شرح الحديث النبوي الخاص بمكانة الشيخ في قومه: " (الشيخ في أهله)، وفي رواية في قومه (كالنبيّ في أمته)؛ أي يجب له من التوقير مثلُ ما للنبي- صلّى الله عليه وسلّم- في أمته منه؛ أو المراد: يتعلمون من علمه، ويتأدّبون من أدبه، لزيادة تجربته التي هي ثمرةُ عقله؛ ولذلك ترى الأكرادَ والأتراك وأجلاف العرب- مع قُرب رُتبتهم من البهيمة- يُوقِّرون الشيخَ بالطبع ". (المناوي: فيض القدير، ج 7، ص 3696).

تعليق: مهمة المناوي في كتابه (فيض القدير) هي شرح الأحاديث النبوية التي جمعها السُّيُوطي في كتابه (الجامع الصغير)، ويُفترَض ممّن يتعامل مع الأحاديث النبوية شرحاً وتفسيراً أن يكون تقياً ومهذَّباً، ولا يستعمل الألفاظ الجارحة إزاء الأفراد، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بأمم وجماعات؟!

لكن يبدو أن خرّيجي (ثقافة إلغاء الآخر) لهم معايير خُلقية غير التي سنّها الله لعباده الصالحين، فها هو ذا المناوي لا يتحرّج في وضع (الأكراد والأتراك وأجلاف العرب= الأعراب) في خانة قريبة من خانة (البهائم)، والملاحظ أن قدّم (الأكراد) على (الأتراك) و(الأعراب)، تنبيهاً لنا بأن للأكراد الأسبقية في تلك الخانة.

·  قال الجاحظ: في رسالة مناقب التُّرك: " وكذلك الترك أصحابُ عَمَدٍ، وسكّان فَيافٍ [= صحارى]، وأربابُ مواشٍ، وهم أعراب العجم، كما أن هُذَيْلاً أكرادُ العرب ". (الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج 1، ص 71).

تعليق: لا يتضح البعد الحقيقي لما يريده الجاحظ بقوله هذا ما لم نعرف من هي (هُذَيْل)؛ إنها قبيلة عربية بدوية، كانت تسكن بعض جبال الحجاز، وكانت معروفة بالفقر، وشدّة البأس، وكثرة الصعاليك وممارسة الغزو، وقد جمع السُّكّري أشعار تلك القبيلة في ديوان ضخم اسمه (ديوان الهُذَلِيِّين)، وكي يُقرّب الجاحظ فهمَ حقيقة قبيلة هُذِيْل العربية إلى الأذهان شبّهها بـ (الأكراد)؛ وهذا يعني أن (الأكراد) كانوا معروفين، في الوسط الثقافي خاصة والاجتماعي عامة، بأنهم مَضرِب المثل في الفقر وشدة البأس والسطو على ممتلكات الآخرين.

·  ذكر الراغب الأصفهاني أن صبياً قرأ على معلم: " (عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ يَعصُون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون). فقال: هؤلاء أكراد لا ملائكة ". (الراغب الأصفهاني: محاضرات الأدباء، ج 1، ص 54). والمقصود هو الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [سُورة التَّحْرِيم، الآية 6].

تعليق: واضح من هذه المعلومة أن الحديث عن (الأكراد) كان مادة صالحة للفكاهة والإضحاك، ووسيلة فعّالة لتوضيح المفارقات، فالملائكة النورانيون لا نقيض لهم في غربي آسيا، بل في العام كله، إلا (الأكراد) الشيطانيون، وحينما يكون الأمر متعلقاً بتبشيع صورة الكرد يصبح كل شيء مباحاً؛ وحتى الآيات القرآنية (كلام الله) يجوز التلاعب بها، وإخراجها عن مساراتها الصحيحة، وتوظيفها بما يحقق أهداف الناشطين في مجال تعميم مشروع (أبلسة الكرد).

·  ذكر ابن عَساكِر الخبر السابق برواية أخرى، مفادها أن الصبي قرأ على المعلم: (عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعصون الله ما أمرهم ويَفعلون ما يَأمُرون). فقال له: يا ابن الخبيثة، ما هؤلاء إلا أكراد شَهْرَزُور، وليس هؤلاء ملائكةٌ ". (ابن عَساكر: تاريخ دمشق ج 68، ص 73).

تعليق: الملاحظ هنا أن الشيطانية (نقيض نورانية الملائكة) صارت صفة لأكراد شَهْرَزُور خاصة، وليست صفة للأكراد عامة. وكان اسم شَهْرَزُور يُطلَق على المنطقة التابعة لمدينة سُليمانية الحالية في إقليم كردستان- العراق، وكانت مدينتها الكبرى تسمّى شَهْرَزُور.

 

جهالة وسذاجة

جاء في عدد من مصادر التراث الإسلامي وصف الكرد بالجهالة والسذاجة والغفلة، وفيما يلي بعض تلك الأقوال:

·  قال الآبي (أبو منصور سعد بن الحسين): " وسأل كِسرى مَوْبَذه [= المَوْبَذ: كبير رجال الدين الزردشتي]: أيُّما أكثر: الشياطين أو الناس؟ فقال: إن حَسَبْتَ الأكرادَ والرعاةَ والعامّةَ وأهلَ الأسواق من الناس فإن الناس له كثيرٌ ". (الآبي: نثر الدر، ج 2، ص 51).

تعليق: إذاً فـ (الأكراد)- من بين جميع شعوب غربي آسيا على أقل تقدير- هم في الدرك الأسفل جهالة وتخلفاً، وهم معدودون من الشياطين، وليس لهم مكان في خانة البشر الصالحين؛ هكذا كان حكم الموبذ، حسبما تفيد الرواية، وظل هذا الحكم حياً في ذاكرة مثقفي غربي آسيا من أمثال الآبي، وصحيح أن الموبذ يُعّد من (الضالّين) حسب التوصيف الإسلامي، لكن ما دام الخبر يصب في طاحنة القائمين على مشروع أبلسة الكرد فأقوال (الضالين!) لا تفقد جاذبيتها، وتظل صالحة للرواية.

·  قال الإمام أبو حامد الغزالي في بيان علاج الغضب: " بل ينبغي أن يعالَج هذا الجاهلُ بأن تُتْلى عليه حكاياتُ أهل الحِلم والعفو، وما استُحسِن منهم من كَظْم الغَيْظ، فإنّ ذلك منقولٌ عن الأنبياء والأولياء، والحكماء والعلماء، وأكابر الملوك الفُضلاء. وضدُّ ذلك منقولٌ عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء؛ الذين لا عقولَ لهم ولا فضلَ فيهم". (أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين ج 3، ص 172 - 173).

تعليق: الملاحظ أن الغزالي جعل الأكراد والأتراك في خانة الجهلة والأغبياء، تلك الخانة التي تعدّ نقيضاً لخانة أهل القداسة من الأنبياء والأولياء، ونقيضاً لخانة أهل المعرفة من الحكماء والعلماء، وبدا حريصاً على أن يجعل للكرد قَصَب السَبْق في هذا المجال.

·  قال ابن تَيْمِيَة بشأن مسألة خَلْق القرآن: " وكان بعضُ أهل الحديثِ إذْ ذاك أطلقَ القولَ بأنّ لَفْظِي بِالقُرآن غيرُ مَخلوقٍ؛ مُعارَضةً لِمَن قال: لَفْظِي بالقُرآن مَخلوقٌ، فبَلغَ ذلك الإمامَ أحمد [= ابن حَنْبَل]، فأَنْكَرَ ذلك إنكاراً شديداً، وبَدَّعَ مَن قال ذلك، وأَخْبرَ أنّ أحداً مِن العلماء لم يَقُلْ ذلك، فكيف بِمَنْ يَزعم أنّ صوتَ العبدِ قديمٌ؟ وأقبحُ من ذلك مَن يَحْكي عن بعض العلماء أنّ المِدادَ الذي في المُصحَف قديمٌ، وجميعُ أئمّة أصحابِ الإمامِ أحمد وغيرُهم أَنكَروا ذلك، وما عَلِمتُ أنّ عَالِماً يقول ذلك إلا ما يَبْلُغُنا عن بعض الجُهّال مِن الأكراد ونَحوِهم ".(ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 3، ص 29).

تعليق: مرة أخرى عمد ابن تيمية إلى توظيف الحيل السردية، فصرّح باسم (الأكراد)، وأدرج الآخرين من الجهّال تحت بند (ونحوهم)، باعتبار أن الأكراد (جدارهم وَطيء)، أما جدران الآخرين فمرتفعة.

·  قال ابن منظور الإفريقي: " الرَّشْمُ أن تُرشَمَ يد الكُرْدِيِّ والعِلْجِ كما تُوشَمُ يدُ المرأة بالنِّيل [= صبغ أزرق] لكي تُعرف بها، وهي كالوَشْمِ ". ( ابن منظور: لسان العرب، مادة رشم).

تعليق: كي يوضّح ابن منظور معنى (الرَّشْم) ضرب مثالاً من الواقع، وهو رشمُ يد الكردي والعِلج، والرشم نوع من الخَتْم كانت السلطات تَختم به أيدي بعض الناس المغضوب عليهم، كي يكونوا معروفين أينما كانوا، وكي يسهل القبض عليهم عند اللزوم، وكان الحجّاج بن يوسف الثَّقَفي أشهر من مارس ذلك بحق النَّبْط (سكان جنوبي بلاد الرافدين).

والمهم في هذه المعلومة اللغوية أن الكردي والعِلْج هما في خانة واحدة من حيث الإذلال والاتهام، ويتّضح الأمر أكثر إذا أخذنا في الحسبان أن معنى (عِلْج) في العربية هو (حمار الوحش) الضخم القوي، وفي العهد الإسلامي الأول أُطلق لقب (عِلْج) على أعداء العرب المسلمين من الفرس والروم، والجمع (علوج)؛ بمعنى الناس الكفّار والمنحطّون والأراذل.

·      قال أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي، وهو شاعر عراقي بغدادي (ت 393 هـ = 1003 م):

وأنا دَعِيٌّ في البلاغة، مُلْصَقٌ  

في الشعر، مُنسلِخٌ من الآدابِ

ويُباع في الأكراد شعري إنّه       

يَغْلُو إذا ما بِيعَ في الأعرابِ  

(الثعالبي: يتيمة الدهر، ج 2، ص 414).

تعليق: إن الشاعر يُقرّ بأن شعره رديء، لكن له سوق رائجة بين (الأكراد)، باعتبار أنهم أناس جهلة وساذجون، وكل ما هو رديء مقبول عندهم، وكل حيلة تنطلي عليهم، وهذا يذكّرنا بالمقولة الدارجة- إلى يومنا هذا- في بلاد الشام ومصر (هل تَستكردني؟)؛ أي (هل تظن أنني كردي؟)، وتقال هذه العبارة عادة لمن يظن أنك ساذج غافل، ويحاول الاحتيال عليك.

هذه بعض اللوحات المشوّهة في مصادر التراث الإسلامي.

وسنستكملها في حلقة قادمة.

المراجع

1.    الآبي: نثر الدُّر، كتاب إلكتروني، موقع الوَرّاق، http://www.alwarraq.com

2.    ابن تَيْمِيَة: الفتاوى الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987.

3.    ابن تيمية: مجموع: مجموع فتاوى ابن تيمية، كتاب إلكتروني، موقع الإسلام، http://www.al-islam.com

4.    الثَّعالِبي: يتيمة الدهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1973.

5.    الجاحظ: رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1979.

6.    الإمام أبو حامد الغَزالي: إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، 1982.

7.    الراغب الأَصْبَهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، د. م، د. ن، 1970.

8.     الطبري: تاريخ الطبري: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.

9.     ابن عَساكر: تاريخ مدينة دمشق، تحقيق محبّ الدين أبو سعيد عمر بن غرامة العَمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1995.

10.المَسْعُودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت،  1982.

11.المِناوي: فيض القدير في شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، تحقيق حمدي الدمرداش محمد، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1998.

12.ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1970.

13.اليَعْقوبي: البلدان، كتاب إلكتروني، موقع الوَرّاق، http://www.alwarraq.com

 

وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة عشرة

د. أحمد الخليل   في 22 / 3 / 2009

dralkhalil@hotmail.com

 ===========

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الحادية عشرة )

الكرد: في قصة النبي إبراهيم  ( 2 – أَبْلَسَة الكرد ثانية )

 

توضيحات

عرفنا فيما سبق تفاصيل أحداث قصة النبي إبراهيم (ع) الواردة في (العهد القديم) كتاب اليهودية، وقبل استعراض الأحداث المتعلقة بتلك القصة في القرآن الكريم (كتاب الإسلام)، تُرى ماذا عنها في (العهد الجديد) كتاب المسيحية؟ وتمهيداً للإجابة دعونا نلق بعض الضوء على كل من (العهد القديم) و(العهد الجديد):

1 – العَهْد القديم: هو الكتاب الأول للديانة اليهودية، ويتألف من (39) سِفْراً، أولها (سِفر التكوين)، وآخرها (سِفر مَلاخِي)، وقد ذكر ابن مَنْظور الإفريقي في (لسان العرب، مادة سفر) أن (الأسفار) هي الكتب الكبيرة، ومفردها (السِفْرُ). والحقيقة أن أسفار (العهد القديم) ليست كبيرة، إنها أشبه بالفصول الطويلة في بعض كتب عصرنا هذا.

2 – التَّوْراة: يُطلَق اسم (التوراة) على الأسفار الخمسة الأولى من (العهد القديم)، وهي بحسب الترتيب: سِفر التَّكْوين، وسِفر الخُروج، وسِفر اللاوِيِّين، وسِفر العَدَد، وسِفر التَّثْنِية. وينقسم كل سِفر إلى عدد من الأجزاء، ويُطلَق على كل جزء اسم (أَصْحاح)، فسِفر التكوين على سبيل المثال يتألف من (50) أَصحاحاً، وينقسم كل أَصْحاح بدوره إلى عدد من الآيات.

3 – الأسباط: مفردها (سِبْط)، وتعني (قبيلة)، وكان العبرانيون يتألّفون في عهد النبي موسى (ع) من (12) سِبطاً، في مقدّمتها سِبْط (لاوي)، وإليه ينتمي النبي موسى، وكان أبناء هذا السِبط هم وحدهم المكلّفين بخدمة (خيمة الاجتماع) المقدسة، وبالقيام على أمر (تابوت العهد) المقدس، وبالإشراف على الطقوس والشعائر المقدسة؛ وهذا يذكّرنا بقبيلة (مُوغ = ماغ= ماج= مَجُوس) الميدية التي ينتمي إليه النبي الميدي زَرْدَشْت (ع)، والتي كان الكهنة الأزدائيون قبل الزردشتية، والكهنة الزردشتيون، ينتمون إليها حصراً، كما أن هذا يذكّرنا بقبيلة قُرَيش العربية، التي كانت وحدها القائمة على خدمة الكعبة والإشراف على شعائر الحج والعُمرة قبل الإسلام، وظل الأمر كذلك في الإسلام، ومنها كان النبي محمد (ع)، وفيهم حُصرت الخلافة في الإسلام دون بقية المسلمين عرباً وغير عرب.

5 – العَهْد الجديد: هو الكتاب الأول في الديانة المسيحية، ويـتألف من (27) سِفراً، أبرزها الأناجيل الأربعة: إنجيل مَتَّى، وإنجيل مَرْقُس، وإنجيل لُوقا، وإنجيل يُوحَنّا، وينقسم كل سِفر إلى عدد من الأَصحاحات، وينقسم كل أَصحاح إلى عدد من الآيات. والعهد الجديد، من وجهة النظر المسيحية، هو تتمة للعهد القديم، ولذا يُطلَق على العهد القديم صفة (عهد الناموس) أي الشريعة والقانون، ويُطَلق على العهد الجديد صفة (عهد النعمة).

أما أخبار النبي إبراهيم الواردة في (العهد الجديد) فهي موجزة جداً، إذا قيست بمثيلاتها في (العهد القديم)، وأبرز ما ورد في العهد الجديد أمران:

أ – نَسَبُ النبي عيسى (المَسيح) إلى النبي إبراهيم، عبر سِبط (لاوي) الذي ينتمي في النهاية إلى يعقوب (إسرائيل) بن إسحاق بن إبراهيم.

ب – تأكيد النبي عيسى- في خطابه للكهنة اليهود- أن النبوّة نزلت على إبراهيم حينما كان في أُور الكَلدان؛ أي قبل سفره مع والده إلى حاران (حَرّان): " فَقَالَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ وَالآبَاءُ، اسْمَعُوا! ظَهَرَ إِلهُ الْمَجْدِ لأَبِينَا إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ فِي مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ، قَبْلَمَا سَكَنَ فِي حَارَانَ . وَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ، وَهَلُمَّ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَخَرَجَ حِينَئِذٍ مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَسَكَنَ فِي حَارَانَ ". (أعمال الرسل، الأصحاح السابع، الآية 2 – 4).

أما في العهد القديم فقد جاء أن الذي اتخذ قرار الهجرة من أُور إلى حاران هو تارَح والد إبراهيم، وأن الربّ ظهر لإبراهيم في حاران، وأمره بالتوجه جنوباً نحو أرض كَنْعان (فلسطين بعدئذ). (انظر سفر التكوين، الأصحاح 11، الآية 31، والأصحاح 12، الآية 1- 4).

النبي إبراهيم في القرآن

القرآن الكريم هو الكتاب المقدس الأول للديانة الإسلامية، والإسلام- بحسب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية- هو خلاصة جميع الديانات التوحيدية؛ ابتداءً بعهد النبي الأول آدم (ع) أبي البشرية، وانتهاء بعهد خاتم الأنبياء محمد (ع)، ولذلك كان من الطبيعي أن يكون لجميع الأنبياء والرسل السابقين موقع رفيع في السور القرآنية، ويكون المقام الأرفع لأبي الأنبياء إبراهيم (ع)، وتتمحور الآيات التي ذُكر فيها اسمه حول أمور ستة:

1 – انتماؤه إلى الفريق الذي اصطفاه الله تعالى على سائر البشر:

" إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ". (سورة آل عِمْران، الآية 33).

2 – هو الممثل الأصيل والعريق للإسلام، وإن النبي محمداً (ع) والمسلمين أولى به من اليهود والنصارى:

" مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ". (سورة آل عِمْران، الآية 67 - 68).

3 – ثورتُه على عبادة الأصنام، ورفضُه عبادة الأجرام السماوية، واهتداؤه إلى عقيدة توحيد الله، واختلافه مع أبيه وقومه:

" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ. وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". (سورة الأَنْعام، الآية 74 - 79).

4- تصاعدُ الخلاف بينه وبين قومه حول مسألة التوحيد، وقصةُ رميه في النار، وخروجه منها سالماً:

" وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ. إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ. أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ. فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ. قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ. قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ. فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ".(سورة الصافّات، الآية 83 - 98).

" قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ. قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ ". (سورة الأنبياء، الآيات 66 – 70).

5 – دعاؤه إلى الله أن يرزقه ولداً، وصدورُ الأمر إليه من الله تعالى بذبح ولده، وعزمُه على تنفيذ الأمر دون تردد، وقصةُ الفداء:

" رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ. وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ".(سورة الصافّات، الآية 100 – 107).

6 – قيامُه ببناء البيت (الكعبة) في مدينة مَكّة، مستعيناً بابنه إسماعيل، ووضعُ مناسك الحج:

" وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ". (سورة البَقَرة، الآية 127 - 128).

مقارنــات

بالمقارنة بين قصة النبي إبراهيم في كل من التوراة والقرآن نجد قليلاً من أوجه الاتفاق، وكثيراً من أوجه الاختلاف، وإليكم الخلاصة:

1 – للنبي إبراهيم في القرآن اسم واحد فقط، هو (إبراهيم)، ولا شيء عن اسم (أَبْرام) الذي ورد في العهد القديم.

2 – لا شيء في القرآن عن الزمن الذي عاش فيه إبراهيم.

3 – لا شيء عن هوية إبراهيم الإثنية.

4 - اسم والد إبراهيم في القرآن (آزَر)، وليس (تارَح) كما جاء في التوراة.

5 – لا شيء في القرآن عن هجرة أسرة إبراهيم من أُور الكَلدانيين إلى حاران.

6 – لا شيء في القرآن عن هجرة إبراهيم من حاران إلى أرض كنعان.

7 – لا شيء في القرآن عن هجرة إبراهيم إلى مصر، ولا شيء حول عودته إلى أرض كنعان ثانية.

8 – لا شيء في القرآن عن قصة سارة مع كل من فرعون مصر وأَبِيمالك.

9 – لا شيء في القرآن عن المعركة التي قادها إبراهيم ضد الحلف الشرقي.

10 – لا شيء في القرآن حول الخلاف بين سارة وهاجر، وطرد هاجر وابنه إسماعيل.

11 – لا شيء في القرآن عن وفاة سارة، وعن دفنها في الأرض التي اشتراها إبراهيم من عِفْرُونَ بْنِ صُوحَرَ الحِثّي.

12 – لا شيء في القرآن عن وفاة إبراهيم.

وأكثر ما يثير الانتباه في هذه المقارنة أمور أربعة:

1 – لم يأتِ في القرآن أيّ ذكر للصكّ الذي منحه الله للنبي إبراهيم ولذريته، وبموجبه صار لهم حق امتلاك أراضي جميع الشعوب الساكنة بين نهر الفرات شرقاً ونهر النيل غرباً.

2 – لم يأت في التوراة أيّ ذكر لقصة اختلافه مع أبيه وقومه حول العقيدة, ولا شيء أبداً حول قصة رميه في النار، وخروجه منها سالماً.

3 – لا شيء في التوراة أبداً حول علاقة إبراهيم بالحجاز في شبه الجزيرة العربية، ولا شيء عن قيامه مع ابنه إسماعيل ببناء الكعبة، ووضع مناسك الحج.

4 – نصّت التوراة على أن الذبيح هو إسحاق. أما القرآن فلم ينصّ صراحةً على هوية الذبيح، وكان ذلك من دواعي اختلاف المفسرين؛ فمنهم فريق أكّد أن الذبيح هو إسحاق، في حين أكّد فريق آخر أنه إسماعيل. وقد توسّع الطَّبَري في ذكر روايات الفريقين، ورجّح رأي الفريق الأول، فقال: " غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التي رُويت عنه- صلّى الله عليه وسلم- أنه قال: هو إسحاق، أوضحُ وأَبْيَنُ منه على صحة الأخرى ". (تاريخ الطبري، ج 1، ص 363).

والذي يهمّنا في هذا السياق أن القرآن لم يأت على أيّ ذكر للكرد في قصة النبي إبراهيم، لا من قريب ولا من بعيد، ولا تصريحاً ولا تلميحاً، ولا شيء عن ذلك في الأحاديث النبوية أيضاً. أما المفسرون فلهم آراء أخرى، وفيما يلي بعض ما ذكروه.

إلقاء النبي إبراهيم في النار

المعروف أن القرآن ليس كتاباً في التاريخ والجغرافيا، إنه كتاب في العقيدة والإيمان، لذلك لا يتناول التفاصيل الدقيقة في حياة الأنبياء والرسل، كما هو الأمر في (العهد القديم)، وإنما يقوم منهجه على سرد الحدث بأسلوب موجز، لتنبيه الناس إلى عبرة أو عظة، ولترغيبهم في توحيد الله وسلوك الطريق القويم، وتحذيرهم من الضلال وعبادة الأوثان والأصنام.

والعجيب أن كتب تفسير القرآن القديمة لا تأخذ بهذا المنهج، إن أصحابها مغرمون بمطاردة التفاصيل، فيسمّون من لم يذكر القرآن له اسماً، ويحددون الأزمنة والأمكنة ذات الصلة بالأحداث، ويحشدون الروايات المختلفة تارة والمتعارضة تارة أخرى، ويضيفون أحداثاً لم يذكرها القرآن مطلقاً، إلى درجة أن معظم كتب التفسير صارت خزّاناً هائلاً للغرائب والمفاجآت والاختلاقات.

ومن تلك الغرائب والمفاجآت والاختلاقات ما جاء حول قصة رمي النبي إبراهيم في النار، فقد أجمع فريق من المفسرين على أن هذا الحدث جرى في مدينة كان يحكمها ملك اسمه (نَمْرُود)، وجاء اسمه بصيغة (نَمْرُوذ) أيضاً، ولا يكتفون بذلك، وإنما يضعون سلسلة نسب لنمرود توصله إلى نوح، وقد أجمعوا أيضاً على أن الشخص الذي اقترح رميَ إبراهيم في النار كان كردياً، لكنهم اختلفوا أحياناً في تحديد اسمه، وفيما يأتي خلاصة ما أوردوه:

·  قال الطبري (ت 310 هـ): " ... عن مُجاهد، في قوله ( حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ) قال: قالها رجل من أعراب فارس، يعني الأكراد ". (جامع البيان، ج 10، ص 43).

·  وقال الطبري أيضاً: " عن مُجاهد، قال: تلوتُ هذه الآية على عبد الله بن عمر [= بن الخطّاب]، فقال: أتدري- يا مجاهد- من الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار؟ قال: قلت: لا. قال: رجل من أعراب فارس. قلت: يا أبا عبد الرحمن، أَوَ هل للفرس أعراب؟ قال: نعم، الكرد هم أعراب فارس، فرجلٌ منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار ". (جامع البيان، ج 10، ص 43).

·  قال البَغَوِي (ت 516 هـ): " قال ابن عمر [= عبد الله بن عمر بن الخطّاب] رضي الله عنهما: إن الذي قال هذا رجل من الأكراد. وقيل: اسمه هيزن، فخسف الله به الأرض، فهو يَتَجَلْجَل [= ينحدر مع صوت شديد] فيها إلى يوم القيامة. وقيل: قاله نمرود. فلما أجمع نمرود وقومُه على إحراق إبراهيم عليه السلام، حبسوه في بيت، وبنوا له بنيانا كالحظيرة. وقيل: بنو أَتُّوناً [= نار شديدة] بقرية يقال لها كُوثى، ثم جمعوا له صِلاب [= القاسي] الحطب من أصناف الخشب مدّة " (معالم التنزيل، ج3، ص 250 ).

·  قال الرَّازي (ت 606 هـ): " ليس في القرآن من القائل لذلك، والمشهور أنه نَمْروذ بن كَنْعان بن سَنْحاريب بن نَمروذ بن كُوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر [= عبد الله بن عمر بن الخطّاب] يقول: إنما أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام رجل من الكرد من أعراب فارس. وروى ابن جُرَيْج عن وَهْب عن شُعَيْب الجُبّائي، قال: إن الذي قال (حرّقوه) رجل اسمه هيرين، فخسف الله تعالى به الأرض، فهو يَتَجَلْجَل فيها إلى يوم القيامة ". (مفاتيح الغيب،  ج 11، ص 151).

·  قال القُرْطُبي (ت 671 هـ): " رُوي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس؛ أي من باديتها، قاله ابن عمر ومجاهد وابن جُرَيْج. ويقال: اسمه هيزر، فخسف الله به الأرض، فهو يَتَجَلْجَل فيها إلى يوم القيامة. وقيل: بل قاله ملكهم نَمْرُود ". (الجامع لأحكام القرآن، مجلد 11، ص 200).

·  قال ابن حَيّان الأندلسي (ت 754 هـ): " وقيل: أشار بإحراقه نمروذ. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: رجل من أعراب العجم. قال الزَّمَخْشَري: يريد الأكراد. وقال ابن عَطِيّة: رُوي أنه رجل من الأكراد من أعراب فارس؛ أي باديتها، فخسف الله به الأرض فهو يَتَجَلْجَل فيها إلى يوم القيامة، وذكروا لهذا القائل اسماً مختلفاً فيه لا يُوقَف منه على حقيقة؛ لكونه ليس مضبوطاً بالشكل والنقط،... ورُوي أنهم حين همّوا بإحراقه حبسوه، ثم بنوا بيتاً كالحظيرة بكُوثى ". (تفسير البحر المحيط، ج 6، ص 328).

·  قال ابن كثير (ت 774 هـ): " فقالوا: { حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }، فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًا قال السُّدِّي: ... ثم جعلوه في جَوْبة [= حفرة مستديرة واسعة] من الأرض، وأضرموها نارًا، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقد قط نار مثلها، وجعلوا إبراهيم، عليه السلام، في كِفّة المَنْجَنِيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد. قال شُعَيب الجبائي: اسمه هيزن، فخسف الله به الأرض، فهو يَتَجَلْجَل فيها إلى يوم القيامة ". (تفسير القرآن العظيم، ج 3، ص 183 – 184).

·  قال البَيْضَاوي (ت 791 هـ): " والقائل فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون، خسف به الأرض، وقيل: نَمْرُوذ " (أنوار التنزيل، ج2، ص 36).

·  قال أبو السُّعود (ت 951 هـ) بشأن تفسير (وحرِّقوه): " قيل: القائلُ نمرودُ بنُ كنعان بن السنجاريب بن نمرود بن كوسِ بن حام بن نوح، وقيل: رجلٌ من أكراد فارسَ اسمُه هيون. وقيل: هدير، خُسِفت به الأرض، رُوي أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنَوا له حظيرةً بكُوثَى، قرية من قرى الأنباط، وذلك قوله تعالى: { قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنياناً فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم }، فجمعوا له صِلاب الحطب من أصناف الخشبِ مدةَ أربعين يوماً، فأوقدوا ناراً عظيمة لا يكاد يَحُوم حولها أحدٌ، حتى إنْ كانت الطير لَتمرّ بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شَلْوة [= كذا. وفي لسان العرب: شِلْوة. وتعني قطعة وشدّة] وهَجِها، ولم يكد أحد يحوم حولها. فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها، فأتى إبليسُ وعلّمهم عمل المِنْجنيق فعمِلوه، وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد، فخسف الله تعالى به الأرضَ، فهو يَتجلجل فيها إلى يوم القيامة ". (تفسير أبي السعود، ج 6، ص 76).

·  قال الشَّوْكاني (ت 1250 هـ): " وقيل: هذا القائل هو نَمروذ؛ وقيل: رجل من الأكراد ". (فتح القدير، ج 3، ص 567).

·  قال الآلوسي (ت 1270 هـ): " وأخرج ابن جَرير عن مُجاهد، قال: تلوتُ هذه الآية على عبد الله بن عمر، فقال: أتدري- يا مجاهد- من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قلت: لا. قال: رجل من أعراب فارس، يعني الأكراد. ونصّ على أنه من الأكراد ابنُ عَطِيَّة ". (روح المعاني، ج 17، ص 67).

·  قال القِنوجي (ت 1307 هـ): " القائل هو النَّمْرُوذ بن كنعان بن السَّنْحاريب بن نَمْرُوذ بن كُوش بن حام بن نُوح، وقيل: القائل رجل من أكراد فارس اسمه هينون، خَسَف الله به الأرض ". (فتح البيان في مقاصد القرآن، ج 8، ص 347).

·  قال الشَّنْقِيطي (ت 1393 هـ): " وفي القصة أنهم ألقوه من ذلك البُنْيان العالي بالمَنْجَنيق، بإشارة رجل من أعراب فارس، يَعْنُون الأكراد، وأنّ الله خَسَف به الأرض، فهو يَتَجَلْجَل فيها إلى يوم القيامة ". (أضواء البيان، ج 4، ص 588).

ولم يقتصر ذكر الكردي في قصة حرق النبي إبراهيم على كتب التفسير، بل ذكره الطبري في تاريخه، فقال: " حدّثنى يعقوب قال: حدثنا ابن عُلَيّة، عن لَيْث عن مُجاهد في قوله (حَرَّقوه وانصروا آلهتكم)، قال: قالها رجل من أعراب فارس؛ يعنى الأكراد ". (تاريخ الطبري، ج 1، ص 239 – 240).

وقال ابن الأثير في تاريخه: " قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس، قيل له: وللفرس أعراب؟ قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل: كان اسمه هيزن، فخُسف به، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ". (الكامل في التاريخ، ج 1، ص 98).

ومن الطبيعي أيضاً أن تحتل قصة النبي إبراهيم موقعاً مهماً في كتاب (قصص الأنبياء)، وهنا يظهر الكردي على أنه صانع المنجنيق الذي رُمي به النبي إبراهيم في النار: " ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كِفّة مَنْجَنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له: هيزن، وكان أوّل من صنع المجانيق، فخسف الله به الأرض، فهو يَتجلجل فيها إلى يوم القيامة ". (ابن كثير: قصص الأنبياء، ص 127).

وظهرت الرواية في كتب الأدب أيضاً، فقد جاء في كتاب يسمّى (نزهة المجالس ومنتخب النفائس، ج 1، ص 380)، مؤلفه عبد الرحمن الصّفُّوري (ت 894 هـ = 1489 م) ما يلي: " فقال رجل من الأكراد: حَرِّقوه. فخسف الله به الأرض، فهو يَتجلجل فيها إلى يوم القيامة. قال القَزْوِيني: قال إبليس لعنه الله: أنا مع الأكراد في راحة. فإنهم لا يخالفونه ".

تسـاؤلات ...

الحقيقة أنني لم أنقل إلا القليل مما رواه المفسرون حول قصة رمي النبي إبراهيم في النار، وهي قصة ملأى بالغرائب، ومحشوّة بالتهويل، وزاخرة بما لا يقبله لا العقل ولا المنطق ولا حقائق الواقع، ومنها على سبيل المثال:

·  أقام المكلَّفون بحرق إبراهيم حظيرة طولها ثمانون ذراعاً وعرضها أربعون ذراعاً. والسؤال هو: هل كان حرق شخص واحد يتطلب حظيرة بكل هذا الطول والعرض؟

·  جمع القوم قدراً هائلاً من الحطب، وأوقدوا النار سبعة أيام، والسؤال هو: لحرق شخص واحد هل الأمر يحتاج إلى كل هذه الكومة الكبيرة من الحطب، وكل هذه المدة الطويلة لإيقاد النيران؟

·  بعد إيقاد النار سبعة أيام متتالية حاول القوم إلقاء إبراهيم فيها فعجزوا، فعلّمهم ذلك الكردي، أو علّمهم إبليس (حليف الأكراد) صناعة المَنجنيق، فكان إبراهيم أول من رُمي به. والسؤال هو: هل كان إبراهيم شخصاً آدمياً، أم كان صخرة كبيرة، لا يمكن رميها في النار إلا بمنجنيق؟

·  حينما رُمي إبراهيم بالمنجنيق في النار اعترضه في الجو اثنان من الملائكة؛ الأول خازن الماء، والثاني خازن الهواء، ثم اعترضه كبير الملائكة جبريل، وعرضوا عليه خدماتهم، لكنه ذكر أنه لا حاجة به إليهم، لأنه واثق من وقوف الله إلى جانبه. والسؤال: هل كان إبراهيم شخصاً يُرمى في النار، أم كان جالساً على بساط الريح، وينتقل من مدينة إلى أخرى؟

بلى لا نرى فائدة في سرد جميع ما رواه المفسرون من الغرائب والتفاصيل، وهي في جملتها تفاصيل مقتبسة من كتب القصص والأساطير التي انتشرت بين أتباع الثقافات الفارسية واليهودية والمسيحية، ودعونا ننتقل مباشرة إلى ما يتعلق بدور الكردي في قصة الحرق.

أَبْلَسَة الكرد ثانية!

سبق أن مررنا- في حلقات سابقات- بثلاث محطات ثقافية في التراث الإسلامي، استُغِلّت بمزيج من الدهاء والجرأة على المنطق والواقع، بغرض تبشيع صورة الكرد، وتسويد صفحتهم، وتقديمهم بشكل منفّر إلى شعوب غربي آسيا، وإلى تاريخ البشرية جمعاء، وتلك المحطات الثقافية الثلاث هي:

1 – الزعم بأن الكرد من سلالة طُرَداء أزدهاك (الضحّاك)، وأنهم خليط غير معروف الهوية.

2 – الزعم بأن الكرد من سلالة الشيطان (الجَسَد)، وأمهاتهم من الجواري المنافقات، بما أنهم من هذه السلالة الشريرة، فقد أمر النبي العبراني سليمان بطردهم إلى الجبال النائية.

3 – الزعم بأنهم قوم أولي بأس؛ ليس بالمعنى الإيجابي طبعاً، ولكن بمعنى أنهم من أعداء الإيمان الذين أمر الله المسلمين- ومن جملتهم الأعراب- بمحاربتهم، وإجبارهم على اعتناق الإسلام. 

واستنتجنا من بعض الأدلة والمؤشرات أن ثمة جهات كانت تقف خلف تبشيع صورة الكرد، وتعمل ضمن مشروع هدفه (أَبْلَسَة الكرد)، وسقنا من الأدلة والمبررات ما يرجّح أن قيادات ذلك المشروع لم يكونوا عرباً، وإنما كانوا ينتمون- بشكل مباشر وغير مباشر- إلى مدرستين ثقافيتين كانتا تهيمنان على إنتاج الثقافة وتصديرها في غربي آسيا قبل الإسلام: كانت الأولى في بلاد الرافدين، ولا سيما في إمارة (الحِيرَة) بجنوب شرقي العراق، قرب الكوفة. وكانت الثانية في بلاد اليمن.

وتأكد لنا أيضاً أن قادة تلك المدرستين كانوا حلفاً مؤلفاً من أتباع الثقافات الفارسية واليهودية والنصرانية وخاصة المذهب النسطوري، وصحيح أنهم خسروا مواقعهم بسقوط حاميتهم الدولة الساسانية تحت ضربات الفتوحات العربية الإسلامية، لكن سرعان ما استعادوا توازنهم، وعادوا ثانية إلى احتكار إنتاج الثقافة وتصديرها، من خلال ثلاث قنوات هي أبرز القنوات الثقافية في العهود الإسلامي: التفسير، والتاريخ، والأدب، ووجدنا من الأدلة ما يرجّح أنهم استطاعوا التغرير ببعض الصحابة العرب من أمثال ابن عبّاس، وعبد الله بن عمر بن الخَطّاب، وأبي هُرَيْرة، ولم نستبعد حينذاك أنهم استغلوا مكانة هؤلاء الصحابة في قلوب المسلمين، فنسبوا إليهم كثيراً من الأخبار بقصد الترويج لها.

وها نحن نجد مشروع (أَبْلَسَة الكرد) يظهر ثانية في قصة النبي إبراهيم، ومهما أحسن المرء النيّة فلن يستطيع غضّ النظر عن خطورة الدلالات الكامنة وراء ظهور رجل كردي في قصة حرق النبي إبراهيم، وتحميله مسؤولية ذلك الفعل الشنيع دينياً وإنسانياً، وإليكم بعض الدلالات التي أراد أصحاب مشروع (أبلسة الكرد) الإيحاء بها:

·  الدلالة الأولى: الكردي الذي أشار بحرق النبي إبراهيم حتى الموت شخص غير متحضّر؛ إنه جلف فظّ قاسي القلب من البدو الرحّل (الأكراد)، وهؤلاء البدو الرُّحّل (الأكراد) هم (أعراب فارس/العجم)، ولا يوجد بدوٌ في بلاد فارس إلا من الكرد، أما من (الفُرس/العجم) فلا.

تعليق: لاحظوا أن وصف الأكراد بأنهم (أعراب فارس!) يوازيه وصفُ (أتراك الجبال!) الذي أطلقه الطورانيون على الكرد في العصر الحديث.

·  الدلالة الثانية: هذا الكردي الذي أشار على القوم بحرق النبي إبراهيم تارة، وصَنع المنجنيق تارة أخرى، حكم على نفسه بأنه عدو لله ولملائكته ولأنبيائه إلى أبد الآبدين، وكلما قرأ المسلمون، في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل العصور، قصة النبي إبراهيم في القرآن، ورجعوا إلى كتب التفسير سيُحمّلون هذا الكردي مسؤولية ذلك الفعل الهمجي الشنيع.

·  الدلالة الثالثة: هذا الكردي وإبليس متفقان في الرؤية والرأي، فهما لم يدّخرا جهداً في محاربة أبي الأنبياء، ومن يبادر إلى محاربة أبي الأنبياء كيف يحظى بالاحترام في قلوب المؤمنين؟ وكيف لا يكون مكروهاً وملعوناً إلى أبد الآبدين؟

·  الدلالة الرابعة: حكم الله على هذا الكردي (الكافر، صديق إبليس، عدو الله) بأن خسف به الأرض، فهو (يَتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، وهذا التجلجل الأبدي يوازيه في المخيّلة الإسلامية حكم أبدي بالكراهية واللعن، والدليل على ذلك أن الأخذ بهذه الروايات استمر أكثر من ألف سنة على الأقل، من غير تحقيق ولا تدقيق، وتعامل معها المفسرون طوال هذه القرون على أنها حقائق مسلَّم بها، ولا حاجة إلى تفحّصها؛ والدليل على ذلك أمران:

1 – ثمة كثيرون من أعلام الكرد البارزين، قديماً وحديثاً، في الثقافة الإسلامية، وخاصة في مجال الدين، ولم أجد- إلى الآن على أقل تقدير- واحداً منهم وقف عند هذه الروايات وقفة نقدية، ليس بقصد الدفاع عن الكرد، ولكن بحثاً عن الحقيقة. وأضرب مثالاً على ذلك المفسر الشهير (أبو السعود) صاحب تفسير (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، فهو ينتمي إلى أسرة كردية من مدينة (عمادية) في شمالي إقليم كردستان – العراق، وقد ساق ما جاء تحت بند (قيل) بشأن الكردي الذي أشار بحرق النبي إبراهيم، ولم يكلّف نفسه التدقيق في الموضوع، وكأن الأمر حقيقة مؤكدة، ولا داعي إلى الشك فيه.

2 – وجدتُ في المكتبات طبعتين من كتاب (قصص الأنبياء) لابن كَثير، الأولى طبعة سنة (1978) وتحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد. والثانية طبعة سنة (1992) تحقيق الأساتذة علي عبد الحميد بَلْطَه جِي، ومحمد وَهبي سليمان، ومعروف زُرَيْق. وينتمي هؤلاء السادة المحققون إلى ثقافة الربع الأخير من القرن العشرين، ويحمل الأول شهادة أكاديمية، وكان منطق العقل والعلم يقتضي أن يكتبوا في الهامش تعليقاً قصيراً، يوضّحون فيه آراءهم بموضوعية. لكنهم لم يفعلوا ذلك؛ والسبب أن الأمر بالنسبة إليهم حقيقة لا شك فيها.

·  الدلالة الخامسة: قد يقال: ما هو وجه الغرابة في أن يكون أحد الكرد من (الكفّار)، ومن أعداء الله وأنبيائه؟ فهل تخلو أمة من أمثال هذا الرجل؟ فها هو ذا  (أبو لَهَب)، إنه عمّ النبي محمد (ع)، ومع ذلك كان من أشدّ أعدائه، إلى درجة أن الله قال في القرآن: " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ. وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ " (سورة المَسَد، الآيات 1 – 5).

والجواب: لا غرابة مطلقاً في أن يكون  أحد الكرد معادياً لبعض المصلحين أو لأحد الأنبياء، لكن تكمن الخطورة في الطريقة التي تتعامل بها المخيّلة الغرب آسيوية مع حدث كهذا الحدث؛ فقد اعتادت تلك المخيّلة طوال قرون- بتأثير ثقافة إنكار الآخر- على الانسياق خلف نزعة (روح القَطيع)، والحكم على (أسرة، جماعة، قبيلة، شعب، طائفة، دين) من خلال فرد، وكان الذين دسّوا اسم الكردي في قصة النبي إبراهيم يعرفون ذلك، ويعرفون أن (روح القطيع) أفضل قناة يمرّرون من خلالها أحد أجزاء مشروع (أبلسة الكرد).

وقد صرّح القَزْويني بذلك في قوله " قال إبليس لعنه الله: أنا مع الأكراد في راحة. فإنهم لا يخالفونه "؛ فالمسألة لا تقتصر إذاً على كردي واحد كان متحالفاً مع الشيطان ضد أبي الأنبياء إبراهيم، وإنما ثمة حلف أبدي بين الشيطان و(الأكراد) حيثما كانوا، وفي أي عصر كانوا، وإزاء أيّ موقف كانوا، إلى درجة أن الشيطان يلمس تفهّماً كاملاً من قِبل حلفائه (الأكراد) في كل ما يريد القيام به ضد المؤمنين، بل إنهم جنده المخلصون، وكلما كلّفهم بمهمّة قالوا له: سمعاً وطاعة، وبادروا إلى تنفيذها دون تردد ، وإذا كان (الأكراد) جميعاً حلفاء طبيعيين لإبليس، فكيف ظهر منهم الصحابي الجليل جابان (أبو ميمون) ؟ وكيف ظهر منهم شيوخ الإسلام مثل ابن الصَّلاح الشَّهْرَزُوري، وكبار حُفأظ الحديث مثل الحافظ العراقي؟ وكيف ظهر منهم مئات الفقهاء والقُرّاء؟ 
.

والسؤال هو: هل في التراث الإسلامي الغرب آسيوي من قال في حق العرب أو الفرس أو الأرمن أو الترك، أو في حق غيرهم من شعوب غربي آسيا، ما قاله القزويني في حق (الأكراد)؟ وعلى أيّ محمَل حسن يمكن أن نحمل هذه الظاهرة الغريبة؟ ألا توحي مقولة القزويني بوجود صلة وثيقة بين تهمة (الحلف الشيطاني الكردي)، وبين مزاعم نسبة أصل الكرد إلى (الشيطان الجَسَد) الوارد ذكره في قصة النبي سليمان؟ أليست هذه دعوة صريحة إلى (أبلسة الكرد) دون أيّ مراعاة لمنطق الإيمان ولمنطق العقل؟

ملاحظات ختامية

وفي الختام نخرج من جميع ما سبق بالملاحظات الآتية:

·  الملاحظة الأولى: مرة أخرى برزت الروايات المؤسسة على العبارات الغامضة (قيل، قالوا، رُوي، ...).

·  الملاحظة الثانية: معظم الرواة الذين وردت أسماؤهم في تفسير قصة النبي إبراهيم ليسوا عرباً، وإنما هم من أتباع المدرستين الثقافيتين اللتين أشرنا إليهما قبل قليل، وهم:

1 – مُجاهد: هو مُجاهد بن جَبْر (ت 104 هـ = 722 م)، مولى بني مخزوم، وسبق في (الحلقة التاسعة) أن ذكرنا اعتماده على كتب اليهود والنصارى، وكان ذلك مدعاة إلى التشكيك في مصداقيته. (انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 4، ص 450 – 455).

2 – السُّدّي: هو إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدّي (ت 128 هـ = 745 م)، تابعي، عرف بالسُّدي لأنه كان يجلس بالمدينة في موضع يقال له: السُّدّة. وقيل: لأنه كان يقعد فى سُدة باب الجامع بالكوفة، وهو من موالي بني هاشم. وقد قيل للشَّعْبي: " إن إسماعيل السُّدّي قد أُعطيَ حظاً من عِلم. فقال: إن إسماعيل قد أُعطيَ حظاً من الجهل بالقرآن "، " وقال الجَوْزَجانى: حُدِّثت عن مُعتمِر، عن لَيْث، قال: كان بالكوفة كذابان، فمات أحدهما: السُّدّي والكَلْبى ". (الذهبي: أعلام النبلاء، ج 5، ص 264. الزركلي: الأعلام، ج 1، ص 317).

2 – شُعَيب الجُبّائي: قال الذهبي: " شعيب الجبائى، أخباري متروك ". (ميزان الاعتدال، ج 2، ص 278).

3 – وَهْب: الأرجح أنه أبو القاسم وَهْب بن سليمان الفقيه، من تلامذة شُعَيْب الجُبّائي (ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج 41، ص  346).

4 – ابن جُرَيْج: (ت 150 هـ = 767 م) عبد رومي، من موالي بني أمُيّة، وهو أول من دوّن العلم وألّف الكتب في مكة، تتلمذ على مجاهد وعلى ابن عَطاء، وكما هي العادة وصفه بعضهم بأنه " كان من بحور العلم "، ووصف آخرون كتبه بأن كتبه "كتب الأمانة "، في حين حذّر منه آخرون، ووصفوا رواياته بالتدليس والحشو، وقالوا: " ابن جُريج صاحب غُثاء ". (انظر ابن خلّكان: وفيات الأعيان، ج 3، ص 163 – 164. الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 6، ص 325 – 331. الزركلي: الأعلام، ج 4، ص 160).

5 – القَزْويني: العلماء الذين نُسِبوا إلى (قَزْوين) في شمالي بلاد إيران الحالية كثيرون، والأرجح أن القزويني الذي أكّد وجود حلف أبدي بين إبليس و(الأكراد) ليس القَزْويني المؤرخ والجغرافي زكريا بن محمد بن محمود (ت 682 هـ = 1283 م)، صاحب كتاب (آثار البلاد وأخبار العباد)، إذ لم نجد ذكراً لهذا الحلف في هذا الكتاب، ومهما يكن فالأرجح أن القزويني صاحب الخبر غير عربي.

·  الملاحظة الثالثة: درجت العادة على أن يسند هؤلاء الرواة ما يروونه إلى أحد الصحابة المشهورين، وهذا ما فعلوه بشأن الكردي الذي أشار على القوم بحرق النبي إبراهيم؛ إذ أسندوا الخبر إلى صحابي شهير، له مكانة مرموقة جداً في التراث الديني الإسلامي، وهو عبد الله بن عمر بن الخطّاب. وثمة احتمالان:

1 – إما أن الرجل وقع في شَرَك أتباع المدرستين الثقافيتين المذكورتين، ونقل ما كانوا يذيعونه شفهياً وكتابياً، بعد أن أوهموا الناس أنهم يحيطون بالتاريخ من جميع أطرافه، وهذا ما نستبعده، لأن عبد الله كان معروفاً بالتقوى، ولا أعتقد أن صحابياً جليلاً مثله يترك ما جاء في القرآن وفي الأحاديث النبوية الصحيحة، ويأخذ بالأخبار التي روّج لها مؤلّفو القصص والأساطير.

2 – وإما أنه لم يقل شيئاً في هذا الموضوع، لكن الرواة نسبوا إليه الخبر، كي يوهموا الناس أن ما يقولونه حقيقة مؤكدة، باعتبار أن مصدر الخبر هو صحابي له تلك المكانة الرفيعة بين الصف الأول من الصحابة، وإذا كانت الأحاديث النبوية لم تَسلم من الدس وحشر الأقوال الكاذبة فيها، فهل تَسلم أقوال الصحابي عبد الله بن عمر؟

·  الملاحظة الرابعة: ثمة اختلاف في الروايات حول المكان الذي جرت فيه حادثة تحريق إبراهيم، فقد ذكر فريق من المفسرين أن البلد كان مدينة (كُوثى)، وهي مدينة قديمة كانت تقع في جنوبي بلاد الرافدين، وتحديداً في بلاد سُومَر، وقد أطلق العرب على السومريين اسم (النَّبْط)، وأفاد الإمام علي بن أبي طالب أن قبيلة قريش هي في الأصل من نبط كوثى، قال القَزْوِيني: " كُوثى قريةٌ بسَواد العراق قديمة، يُنسب إليها إبراهيمُ الخليل عليه السلام، وبها كان مولده، وطُرح في النار بها، ولذلك قال أمير المؤمنين عليّ، رضي الله عنه، من كان سائلاً عن نسبنا فإنّا نَبْط كُوثى ". (القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ص 449). ومر في (العهد القديم) أن أسرة النبي إبراهيم كانت في أور، فأين هي الحقيقة؟

·  الملاحظة الخامسة: ذكر بعض الرواة أن الحدث جرى في عهد الملك نمرود، والمعروف أن نمرود كان يحكم في الجزء الشمالي بمن بلاد الرافدين، وكانت عاصمته تسمى (كالح) بحسب الصيغة التوراتية (انظر جين بوترو وآخرون: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ص 20). وأفاد الرواة أن من أجداد نمرود شخص اسمه (كوش) وسمّي (كوس) أيضاً، فهل كان نمرود من سلالة الكاشيين المعروفيين باسم (كاشّو)؟

وإذا أخذنا في الحسبان أن من أسماء الكاشيين (كاشي، كوشو، كاسي، كاساي، كاسيت)، وأن اسم (كاشو) يعني بالكردية (الجبليون) نسبة إلى الجبال، وأن اسمهم في العهد القديم (كوش)، وأنهم كانوا يقطنون المنطقة الممتدة من كرمانشاه وبِشْتكُوَه الحالية وحتى الضفاف الشرقية لنهر دجلة، وأنهم حكموا بلاد الرافدين حوالي ستة قرون بين ( 1741 - 1160 ق.م تقريباً)، وأنهم من الفروع الكبرى التي تكوّن منها الشعب الكردي، فهل هذه جميعها مؤشرات على أن ثمة علاقة إثنية ما بين نمرود والنبي إبراهيم وأجداد الكرد؟

·  الملاحظة السادسة: جاء في القرآن الكريم أن النبي إبراهيم ثار على أبيه وعلى قومه الوثنيين، وأن الخصومة كانت بينه وبين قومه (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)، (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ)، وأن قومه هم الذين قرروا رميه في النار (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ. فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ)، (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ)، فكيف تجاوز المفسرون هذه الحقائق القرآنية الواضحة، وأسندوا فكرة التحريق إلى شخص واحد، وجعلوه كردياً حصراً؟

·  الملاحظة السابعة: يُفهم من سياق الروايات أن ذلك الكردي لم يكن من قوم إبراهيم، فهل كانت جاليات كردية تسكن جنوبي بلاد الرافدين حينذاك؟ أم أن ذلك الكردي كان الوحيد الذي جاء من بلاد الكرد (كردستان) ليشير على القوم بحرق النبي إبراهيم؟

·  الملاحظة الثامنة: العجيب أن ذلك الكردي كان مسموع الكلمة بين قوم إبراهيم، إلى درجة أنه بمجرد أن أشار عليهم بأن تكون عقوبة إبراهيم الحرق بالنار بادروا إلى الأخذ بما أشار به، ورجل كهذا مسموعُ الكلمة ومُطاعُ الرأي، بين قوم هو غريب عنهم، أمرٌ يثير الاستغراب، فما هي الحقيقة؟

·  الملاحظة التاسعة: إذا أخذنا في الحسبان أن الرواية اليهودية، وسليلتها الرواية المسيحية، وروايات مفسري القرآن المستمدة من الروايات اليهودية، تجعل الزمن الذي عاش فيه النبي إبراهيم واقعاً بين سنتي (2000 – 1500 ق.م)، فهل يعني ذلك أن الكرد كانوا موجودين بهذا الاسم (كرد/ أكراد) في غربي آسيا منذ ذلك الحين؟

·  الملاحظة العاشرة: جاء في بعض هذه الروايات أن ذلك الكردي أشار على القوم باستخدام المنجنيق لرمي النبي إبراهيم في النار، وأنه أول من اخترع آلة المنجنيق في العالم، وبطبيعة الحال لا بد أن يمتلك من يبتكر هذه التقنية الهندسية الحربية- وهي متقدمة بحسب مقاييس ذلك العصر- قدرات علمية متطورة جداً، وليس من المعقول أن يكون خرّيج بيئة رعوية بدوية، إنه بالتأكيد خرّيج بيئة حضارية متقدمة علمياً، فكيف يمكن التوفيق بين هذا الكردي الذي يؤكد الجميع أنه من (أعراب فارس) أي من البداة المتخلفين حضارياً، وبين أنه مهندس قدير، إلى درجة أنه أول من اخترع آلة المنجنيق العالم؟

هذه بعض الملاحظات والتساؤلات.

وهي بحاجة إلى الفحص والتدقيق.

وهذا ما سنحاوله في الحلقة القادمة بعون الله.

المراجع

1.    ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.

2.     الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978.

3.     البغوي: معالم التنزيل، إعداد وتحقيق خالد عبد الرحمن العك، مروان سوار، دار المعرفة، بيروت، 1987.

4.     البيضاوي: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، 1955.

5.     جين بوترو، أوتو إدزاد، آدام فاكنشتاين، جين فيركوتر: الشرق الأدنى الحضارات المبكرة، ترجمة عامر سليمان، جامعة الموصل، 1986.

6.     ابن حَيّان الأندلسي: التفسير الكبير المسمى البحر المحيط، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1990.

7.     ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، 1968.

8.     الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شُعَيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1982.

9.     الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1963.

10.الرازي (فخر الدين): مفاتيح الغيب، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطباعة الأولى، 1981.

11.الزِّركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1986.

12.أبو السعود: تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1994.

13.الشنقيطي: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، عالم الكتب، بيروت، 1963.

14.الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فنّي الرواية والدراية وعلم التفسير، حققه وخرّج أحاديثه الدكتور عبد الرحمن عميرَة، دار الوفاء للطباعة النشر والتوزيع، مصر، المنصورة، الطبعة الثانية، 1997.

15.الصفوري: نزهة المجالس ومنتخب النفائس، نسخة إلكترونية.

16.الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، القاهرة، 1968.

17.الطبري: تاريخ الطبري: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.

18.ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، تحقيق محب الدين أبو سعيد عمر بن غرامة العَمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1995.

19.القُرْطُبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967.

20.القزويني: (زكريا بن محمد بن محمود): آثار البلاد وأخبار العباد، دار صادر، بيروت، 1960.

21.القِنوجي البخاري: فتح البيان في مقاصد، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، 1989.

22.ابن كَثِير: تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1982.

23.ابن كثير: قصص الأنبياء، تحقيق الدكتور مصطفى عبد الواحد، دار الكتب الحديثة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1978. 

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية عشرة

د. أحمد الخليل   5 / 3  / 2009

dralkhalil@hotmail.com

=======

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة العاشرة )

الكرد والنبي إبراهيم: (1 – النبي إبراهيم في التوراة)

 

شخصية إشكالية

النبي إبراهيم أكثر الشخصيات شهرة، وأعظمها مكانة، في تراث الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، وترتبط باسمه أحداث كبرى، كان لها تأثير مهم في تاريخ غربي آسيا خاصة، وفي تاريخ العالم عامة، وهو معروف بأنه (أبو الأنبياء)؛ إذ ينتمي إليه أشهر الأنبياء والرسل الذين ظهروا في غربي آسيا، ولا سيما أنبياء الأديان السماوية الثلاثة (النبي موسى، والنبي عيسى، والنبي محمد)، ويحمل اسمه كثير من أتباع هذه الديانات مع اختلاف في الصيغ (أَبْرام/ إبْرام/ إبراهيم، أَبْراهام/ بَراهام، إلخ ).

والنبي إبراهيم شخصية إشكالية بقدر ما هو شخصية شهيرة، فهو- بحسب روايات الأديان السماوية الثلاثة- شخصية واقعية، له تاريخ حقيقي، بل إنه يُعَدّ الجد الأعلى لأشهر شعبين من الشعوب السامية، وهما العرب والعبرانيون. أما من وجهة النظر العلمية فإن إبراهيم من أكثر الشخصيات غموضاً؛ إذ لم يأت له ذكر- إلى الآن- في أية وثيقة تاريخية مكتوبة لها صلة بتاريخ شعوب غربي آسيا ومصر؛ سواء في المصادر التاريخية الموثقة أم في علم الآثار.

وإن غياب ذكر إبراهيم وأخباره عن جميع المصادر التاريخية الغرب آسيوية، وصمت جميع المؤرخين والمدوّنات الرافدية (بلاد الرافدين) والسورية والمصرية عن رحلته وسيرته، هو من أكثر الأمور غرابة وإثارة للدهشة.

وما يهمّنا الآن هو الإجابة عن السؤال الآتي:

هل توجد علاقة ما بين الكرد والنبي إبراهيم؟

وإذا كانت ثمة علاقةٌ ما فما هي حقيقتها؟

وللإجابة عن هذين السؤالين بصورة علمية وموضوعية نحتاج إلى معرفة سيرة النبي إبراهيم وشخصيته، ليس على نحو متقطّع ومشَرْذَم، وإنما على نحو متكامل، يجمع بين الدقة والشمولية قدر المستطاع، وفي حدود ما نحصل عليه من معلومات وقرائن ومؤشرات. ودعونا نتناول في البداية خلاصة سيرة النبي إبراهيم حسبما وردت في العهد القديم (التوراة)، باعتباره المصدر الأقدم الذي وردت فيه أخبار مفصلة حول هذا النبي.

من أُور إلى  حاران

ـ اسمه: أَبْرام، بْنِ تَارَحَ، بْنِ نَاحُورَ، بْنِ سَرُوجَ، بْنِ رَعُو، بْنِ فَالَجَ، بْنِ عَابِرَ، بْنِ شَالَحَ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ، بْنِ سَامِ، بْنِ نُوحِ. (العهد القديم، سفر أََََخْبَارِِِ الأَيَّامِ الأَوَّلُ، الآية 24 – 27).

_ كان للأب تارَح بن ناحور ثلاثة أبناء، هم أَبْرام وناحُور وهاران.

ـ كانت الأسرة تسكن مدينة (أُور الكَلْدانيين) في بلاد الرافدين (ما بين النهرين)، وفي أُور تزوّج أَبْرام ساراي، وكانت ساراي عاقراً.

ـ توفّي هاران أخو أَبْرام في أُور الكَلدانيين، وبقي ابنه لُوط يتيماً في رعاية جده تارَح.

ـ رحل تارَح، ومعه ابنه أبرام وكنّته ساراي وحفيده لوط، من أُور الكَلدانيين، وتوجّه إلى حاران (حَرّان الحالية في شمال غربي بلاد الكرد/جنوب غربي تركيا)، ومات تارح في حاران.

ـ لا شيء عن ناحور أخي أبرام في هذه الرحلة، لكن يُفهم من سياق الأحداث التالية أنه كن مع أهله في الهجرة إلى حاران.

ـ حينما صار عمر أَبْرام (75) سنة، أصدر الربّ الأمر إليه بالهجرة من حاران إلى أرض كنعان جنوباً (فلسطين بعدئذ): " وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 12، الآية 1 – 3).

من حاران إلى أرض كنعان

ـ نفّذ أَبْرام أمر الربّ، ورحل ومعه زوجته ساراي وابن أخيه لُوط، وأخذوا معهم عبيدهم ومقتنياتهم، وتوجّهوا جميعاً نحو الجنوب إلى أرض كنعان، وسكنوا مكاناً اسمه (شَكِيم) في شمالي فلسطين الحالية، "  وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ. وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 12، الآية 6 – 7).

ـ ظل أَبْرام يرتحل مع أسرته جنوباً على مراحل، حتى وصل إلى (بَيْت إيل) في شمالي أُورْشَلِيم (القُدس بعدئذ)، وحيثما كان يحلّ كان يبني مذبحاً للرب (مكاناً للعبادة وتقديم الأضاحي للرب).

ـ حدثت مجاعة في أرض كنعان، فتوجّه أَبْرام بأسرته جنوباً نحو مصر، ومعه ابن أخيه لُوط.

ـ قُبيل دخول مصر طلب أَبْرام من زوجته ساراي أن تزعم أمام الموظفين المصريين على الحدود أنها أخت أبرام، والسبب أن أبرام خاف أن يطمع المصريون فيها لجمالها الفتّان، ويقتلوه كي ينفردوا بها.

ـ نفّذت ساراي طلب أبرام، ولما شاهدها كبار الموظفين المصريين دهشوا لجمالها، وأخبروا فرعون مصر بذلك، فأمر بنقلها إلى قصره، ويُفهم من السياق أنه اتخذها زوجة له، وأنعم على أَبرام بكثير من المال " وَصَارَ لَهُ غَنَمٌ وَبَقَرٌ وَحَمِيرٌ وَعَبِيدٌ وَإِمَاءٌ وَأُتُنٌ وَجِمَالٌ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 12، الآية 15).

ـ لكن الربّ سرعان ما أنزل النكبات بفرعون وبيته، واكتشف فرعون حقيقة ساراي، فدعا أبرام، وعاتبه على إخفاء الحقيقة عنه، وتوريطه في اتخاذ ساراي زوجة، وردّ فرعون ساراي إلى أبرام، وطلب منه الرحيل عن مصر بكل ما له من أموال، وأمر رجاله بتأمين الحماية للأسرة في رحلة الخروج من مصر.

عودة إلى أرض كنعان

ـ عاد أبرام بأسرته ومعه ابن أخيه لوط إلى جنوبي أرض كَنْعان (فلسطين)، وكان قد صار من كبار الأغنياء بالمواشي والعبيد والفضة والذهب، وظل يصعد شمالاً، حتى وصل إلى بيت إيل، حيث كان قد نصب خيمته وأقام المذبح، في بداية دخوله أرض كنعان من الشمال، قادماً من حاران.

ـ كثرت مواشي أَبْرام ولُوط، وتقاتل رعاتهما على المراعي وموارد المياه، فرأى أبرام من المصلحة أن يفترقا، ورحل لوط بقطعانه، واستقر في أرض (سَدُوم)، شرقي نهر الأُرْدُنّ، وكانت في الأزمنة السابقة خصبة وعامرة كمصر، لكنها كانت قد صارت خراباً بعدئذ، وكان أهلها أشراراً.

ـ بعد أن تخلّص أبرام من لوط ورعاته، وبقي في أرض كنعان الخصبة، ظهر له الربّ، وقال له: " ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شِمَالاً وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، لأَنَّ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى لَكَ أُعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ. وَأَجْعَلُ نَسْلَكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 13، الآية 14 - 16).

ـ نقل أبرام خيامه، وأقام عند (بَلُّوطات مَمْرا) القريبة من مدينة (حَبْرون)، وتقع حبرون جنوبي أورشليم (القدس بعدئذ)، وغربي (بحر الملح) الذي سُمّي بعدئذ (البحر الميّت)، وبنى هناك مذبحاً للرب، وهناك عقد حلفاً مع ثلاثة زعماء، هم مَمْرا الأَمُوري وأخواه أَشْكُول وعانِر.

حرب إقليمية

ـ حدث أن نشبت حرب إقليمية في غربي آسيا بين حلفين: تألّف الحلف الأول من أربعة ملوك، هم ملك شِنْعار (أرض الكلدانيين/ما بين النهرين)، وملك عِيلام (إيلام)، وملك أَلاَّسار (لم نعرف الموقع)، وملك جُويِيم (في أرض كنعان شرقي مدينة يافا الحالية)، وكان ملك عِيلام هو الأقوى. وتألّف الحلف الثاني من خمسة ملوك، هم ملك سَدُوم، وملك عَمُورَة، وملك أَدْمَة، وملك صَبُويِيم، وملك صُوغَر.

ـ يبدو أن الصراعات بين المكوّنات السياسية في أرض كنعان (فلسطين) كانت سبب المعركة، ونجد أن ملك جوييم الكنعاني، متحالفاً مع الملوك الثلاثة القادمين من بلاد الرافدين وعيلام. ولا ننسى رغبة ملوك بلاد الرافدين وآريانا (من كردستان ضمناً إلى غربي أفغانستان ضمناً) في الوصول إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، حيث تلتقي عند موانئها فروع الطريقين التجاريين العالميين: طريق البخور والتوابل القادم من بلاد اليمن جنوباً، وطريق الحرير القادم من آريانا وبلاد الرافدين شرقاً.

ـ جرت المعركة قرب عَمْق السِّدِيم (بحر الملح= البحر الميّت)، وخسر الحلف الغربي الحرب، وسيطر الحلف الشرقي على المنطقة الممتدة من جنوبي سوريا حالياً إلى جبل سَعِير (موطن الحُوريين) وبرية فاران (أرض العمالقة في شمالي صحراء سَيناء).  وهذا يعني ضمناً أن الحلف الشرقي عبر ممالك الآراميين في سوريا، إما بالقوة وإما بالتحالف.

ـ بما أن لوطًا كان في أرض سَدُوم فقد وقع هو وجميع أفراد أسرته في أسر ملوك الحلف الشرقي، وسلبوه كل أمواله وممتلكاته.

ـ سمع أبرام بما حدث لابن أخيه لوط، فقام مع حلفائه (مَمْرا وأَشْكُول وعانِر) بهجوم مضاد، وطارد المنتصرين حتى شمالي دِمَشْق، وحرّر لوطاً والنساء، واسترجع الممتلكات، وكانت تحت قيادته (318) مقاتلاً من (غِلمانه المتمرِّنين)، وهذا يعني أن أبرام تحوّل من مهاجر في أرض غريبة إلى زعيم كبير يعقد التحالفات، ويقود المعارك ضد ملوك أقوياء، والأرجح أن الأموال الكثيرة التي رجع بها من مصر ساعدته على تشكيل قوة مقاتلة من المرتزقة الأرقّاء، وعقد التحالفات؛ وبتعبير آخر: إن قوته الاقتصادية تحوّلت إلى قوة سياسية وقوة عسكرية.

ـ بعد تحقيق النصر على الحلف الشرقي ارتفعت مكانة أبرام في أرض كنعان، ولما عاد من معركته الظافرة خرج ملك سَدُوم لاستقباله، واحتفى به مَلْكِي صادِق  مَلِك شالِيم، ونسب نصر أبرام إلى تأييد الله مالك السماوات والأرض، ودفع أبرام العُشر مما غنمه إلى ملْكي صادق، وباركه مَلْكي صادق قائلا:" مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمُبَارَكٌ اللهُ الْعَلِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ أَعْدَاءَكَ فِي يَدِكَ ".(العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 14، الآية 19 - 20).

وثيقة تمليك إلهية

ـ بعد النصر ظهر الربّ لأبرام، وقدّم له التشجيع، ووعده بأن يكون له ولنسله جميع الأرض الواقعة بين نهر النِّيل غرباً ونهر الفُرات شرقاً: " فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ. الْقِينِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ وَالْقَدْمُونِيِّينَ  وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 15، الآية 18 - 21).

ـ وكلما كانت قوة أبرام الاقتصادية والسياسية والعسكرية تنمو كان الرَّبّ يمنحه أرضاً أوسع. لكن ظلّت مشكلة أخرى تقلق بال أبرام؛ إنها افتقاره إلى ذُرّية له ترث أملاكه. وسرعان ما بدّد الربّ قلقه، ووعده بأنه سيرزقه ابناً يرثه.

ـ وجاء الفرج على يدي ساراي، فبعد عشر سنوات من عودة أبرام بأسرته من مصر، أهدت ساراي إليه جاريتها المصرية هاجَر، وسمح له بالزواج منها، ولمّا حَبِلت هاجر صارت تفتخر وتستعلي على سيّدتها ساراي، فغضبت ساراي، وعاتبت أبرام، فردّ أبرام لها جاريتها هاجر لتفعل بها ما تشاء، فأذلّتها ساراي، ولم تر هاجَر بدّاً من الهرب جنوباً نحو شمالي صحراء سِيناء.

ـ لكن الربّ لم يترك هاجَر وحيدة، فأرسل أحد ملائكته للبحث عنها، وعلى عين ماء، في طريق شُور (غربي ووسط سيناء)، وجدها مَلاك الرب هاجر، وطلب منها أن تعود إلى سيّدتها ساراي، وتقبل بالخضوع لها، وتنبّأ لها بأنها ستلد ذكراً يكون اسمه (إسماعيل)، باعتبار أن الله سمع مَذَلَّتها، وسيكون إسماعيل بدوياً، " وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَانًا وَحْشِيًّا، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ "، ويكون كثير النسل. (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 16، الآية 12).

ـ عادت هاجر، وولدت إسماعيل، وكان عمر أبرام حينذاك (86) سنة.

أسماء .. وخِتان

ـ وحينما بلغ أبرام من العمر (99) سنة ظهر له الربّ أيضاً، وقال له: "أَمَّا أَنَا فَهُوَ ذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ، فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا، وَأَجْعَلُكَ أُمَمًا، وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 17، الآية 4 - 8).

ـ إذاً بأمر من الربّ تغيّر اسم (أَبْرام)، وصار اسمه (إبْراهِيم)، باعتبار أنه سيكون أباً لكثير من الأمم، وإذا أخذنا في الحسبان أن اللاحقة (هِيم) في العبرية تحوّل الاسم من المفرد إلى الجمع، يتضح أن صيغة (إبراهيم) أكثر فخامة من صيغة (أَبرام)، ولعل اسم أبرام كان مرتبطاً بذكريات الفقر والتشرد في الأرض، وكان من الضروري التخلّي عنه وعما يتعلق به من ذكريات مريرة، والتحول إلى اسم (إبراهيم) المرتبط بعهد الثروة والقوة.

ـ وكي يتأكد الله من إخلاص إبراهيم ونسله له، أمره بممارسة طقس خِتان الذكور، فكل من لا يَخْتَتِن من نسل إبراهيم يكون قد نكث بعهد الله، وخُتِن إبراهيم وكان عمره (99) سنة وخُتِن ابنه إسماعيل وجميع غلمانه.

ـ ولم يكن كافياً أن يطرأ التحول على اسم (أبرام)، بل أمر الله إبراهيم أن يسمّي زوجته ساراي باسم جديد هو (سارَة)، ووعد بأن يكون لها ولد اسمه إسحاق، ويكون منه ملوك وأمم، رغم أن سارة كانت قد بلغت من العمر (90) سنة، وكانت عادتها قد انقطعت، وكان إبراهيم قد بلغ من العمر (100) سنة.

تجارة رابحة

ـ واتجه إبراهيم بأسرته نحو الغرب، واستقر في المنطقة التابعة لمملكة  (جَرار) قرب البحر الأبيض المتوسط (كانت مدينة جَرار تقع جنوبي مدينة غزّة الحالية)، وبسبب جمال سارة (رغم بلوغها التسعين!)، وخوفاً على نفسه، زعم إبراهيم مرة أخرى أن سارة هي أخته، فأخذ (أَبِيمالِك) مَلِك جَرار سارَة، وفي الليل، وقبل أن يتزوّج أبيمالك منها، جاءه الله في الحُلم، وأخبره بأن سارة هي زوجة إبراهيم، وأمره بأن يردّها إلى زوجها، وإلا فإن مصيره الموت.

ـ ومع الصباح استقدم أَبِيمالك إبراهيم، واعتذر له، وعاتبه على إخفاء حقيقة سارة عنه، وهنا اعترف بالحقيقة، " فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي قُلْتُ: لَيْسَ فِي هذَا الْمَوْضِعِ خَوْفُ اللهِ الْبَتَّةَ، فَيَقْتُلُونَنِي لأَجْلِ امْرَأَتِي. وَبِالْحَقِيقَةِ أَيْضًا هِيَ أُخْتِي ابْنَةُ أَبِي، غَيْرَ أَنَّهَا لَيْسَتِ ابْنَةَ أُمِّي، فَصَارَتْ لِي زَوْجَةً. وَحَدَثَ لَمَّا أَتَاهَنِي اللهُ مِنْ بَيْتِ أَبِي أَنِّي قُلْتُ لَهَا: هذَا مَعْرُوفُكِ الَّذِي تَصْنَعِينَ إِلَيَّ: فِي كُلِّ مَكَانٍ نَأْتِي إِلَيْهِ قُولِي عَنِّي: هُوَ أَخِي ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 20، الآية 11 - 13).

ـ إذاً علمنا الآن أن ساراي (سارة) كانت أخت أبرام (إبراهيم) من أبيه لا من أمه، وهذا يعني أن الشريعة التي كان تارَح عليها، وشبّ عليها إبراهيم، كانت تبيح زواج الأخ من أخته غير الشقيقة؛ ويعني أيضاً أن إبراهيم بقي متمسكاً بتلك الشريعة، ولم يطلّق زوجته (أخته) ساراي، وهذه واحدة من المؤشرات المهمة التي قد تفتح لنا بعض الأبواب المغلقة، وتسمح لنا باستكشاف مساحات جديدة في تاريخ عقائد غربي آسيا.

ـ  ويبدو أن جمال سارة كان بضاعة رائجة، وكان إبراهيم يجيد استغلال ذلك للحصول على مزيد من الثروة والجاه، فبفضل جمال سارة عاد من عند فرعون مصر بقطعان من الماشية وبكثير من العبيد والفضة والذهب، وها هو ذا أبيمالِك يرضيه أيضاً، ويمنحه كثيراً من الأموال، والفرق أن فرعون منحه الأموال وطلب منه الخروج من مصر، أما أبيمالك فمنحه الأموال، وسمح له بالإقامة في أية منطقة يختارها من مملكة جَرار: "فَأَخَذَ أَبِيمَالِكُ غَنَمًا وَبَقَرًا وَعَبِيدًا وَإِمَاءً وَأَعْطَاهَا لإِبْرَاهِيمَ، وَرَدَّ إِلَيْهِ سَارَةَ امْرَأَتَهُ. وَقَالَ أَبِيمَالِكُ: هُوَ ذَا أَرْضِي قُدَّامَكَ. اسْكُنْ فِي مَا حَسُنَ فِي عَيْنَيْكَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 20، الآية 14 - 15). وكافأ الربّ أبيمالك، بأن شفاه، وشفى امرأته وجواريه من العُقم، فولدن.

طرد هاجر

ـ واهتم الربّ بأمر سارة، وحقق لها الوعد، فحَبِلت، وولدت لإبراهيم ابناً اسمه إسحاق، وكان إبراهيم ابن مئة سنة حينذاك.

ـ وكبر الأخوان إسماعيل وإسحاق، وكانت سارة قد اتخذت قراراً بأن يكون ابنها هو الوريث الوحيد لإبراهيم، ويبدو أن إبراهيم كان كثير الحيوية والنشاط، وذات يوم شاهدته سارة يمزح، فطلبت من إبراهيم طرد الجارية هاجر وابنها، كي لا يرث مع إسحاق، وصعب الأمر على إبراهيم، لكن سرعان ما تدخّل (الله) في القضية، وكان إلى جانب سارة؛ إذ أمر إبراهيمَ بتنفيذ طلب سارة، " لأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضًا سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لأَنَّهُ نَسْلُكَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 21، الآية 12 - 13).

ونلاحظ هنا حرص الراوي التوراتي على أن يكون إسحاق (ابن الحرّة) هو الوريث للنبي إبراهيم، أما إسماعيل (ابن الجارية) فلا نصيب له في إرث إبراهيم، وكان ذلك بقرار إلهي، وسنجد أن هذا القرار قد تمّ توظيفه خلال القرون اللاحقة على جميع المستويات الدينية والدنيوية، وبما يخدم نسل إسحاق طبعاً، وضد نسل إسماعيل.

ـ وفي الصباح بكّر إبراهيم، وزوّد هاجر بخبز وقِربة ماء، وأمرها بالانصراف مع الولد، ولم يعطها دابة للركوب. فسارت هاجر مع ابنها إسماعيل وتاهت في برية (بئر سَبْع) الواقعة جنوبي فلسطين الحالية، على التخوم الشمالية من صحراء سِيناء، وفرغت القربة من الماء، فوضعت إسماعيل تحت شجرة، وجلست على مسافة منه، كي لا تشاهده وهو يعاني آلام الموت عطشاً، وهناك بكت رافعة صوتها.

ـ  وسمع الله صوت الغلام، فأرسل أحد ملائكته لإنقاذ هاجر والغلام، وطلب الملاك منها أن تتشجّع ولا تخاف، وأن تحمل الغلام وتمضي في البرية، وطمأنها بأن ابنها لن يموت، بل سيكون جداً لأمة عظيمة. ونفّذت هاجر نصيحة الملاك، وأبصرت بئر ماء، فملأت القِربة، وسقت الغلام، ومع الأيام كبر إسماعيل، وبرع في الرماية بالقوس، وسكن في بريّة فاران (شمالي صحراء سيناء)، وزوّجته أمه فتاةً من أرض مصر.

الاختبار الإلهي

ـ وأراد الله امتحان إبراهيم، فأمره بأن يذبح ابنه إسحاق، ويقدّمه ضحية على مُحْرَقة في قمة جبل عيّنه له، فأخذ إبراهيم ابنه، واصطحب معه اثنين من خدمه، وحماراً لحمل الحطب، ولما اقتربوا من الجبل، أمر الخادمين بالبقاء مع الحمار، وأمر ابنَه بحمل الحطب، وصعدا الجبل، وفي الطريق سأل إسحاق والده، " فَقَالَ: هُوَ ذَا النَّارُ وَالْحَطَبُ، وَلكِنْ أَيْنَ الْخَرُوفُ لِلْمُحْرَقَةِ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللهُ يَرَى لَهُ الْخَرُوفَ لِلْمُحْرَقَةِ يَا ابْنِي ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 22، الآية 8).

ـ  ووصل إبراهيم مع إسحاق إلى قمّة الجبل، وذهب إلى المكان الذي حدّده له الله، وبنى مَذْبَحاً، ورتّب عليه الحطب، وربط إسحاق، ووضعه على المذبح فوق الحطب، وأخرج السكّين ليذبح إسحاق، وفجأة ناداه (مَلاك الربّ)، وطلب منه ألاّ يذبح إسحاق، وقدّم له كبشاً، فذبح إبراهيم الكبش بدلاً من ابنه. وهنا بارك الربّ إبراهيم، لأنه برهن على إخلاصه، ووعده بأن يكون نسله كثير العدد، وأن يكون منتصراً على جميع أعدائه.

ـ  عاد إبراهيم بابنه إسحاق، وسكن عند (بئر سَبْع)، وقد سُمّيت هكذا لأن إبراهيم كان قد اشترى البئر من أَبِيمالك بسبع نِعاج.

المستوطنة الأولى

ـ لم يكن إبراهيم دائم الإقامة في مقرّه الصحراوي (بئر سبع)، حيث ترتع قطعانه، وإنما كان يتردّد بين حين وآخر على موطنه القديم في بلّوطات مَمْرا، قرب حَبْرُون في أرض كنعان شمالاً، وهناك توفّيت زوجته سارة، وكانت قد بلغت من العمر (127) سنة.

ـ  وبكى إبراهيم على الفقيدة سارة ونَدَبها، ثم قام " وَكَلَّمَ بَنِي حِثَّ قَائِلاً: أَنَا غَرِيبٌ وَنَزِيلٌ عِنْدَكُمْ. أَعْطُونِي مُلْكَ قَبْرٍ مَعَكُمْ لأَدْفِنَ مَيْتِي مِنْ أَمَامِي ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 23، الآية 3- 4). وهكذا نجد فجأة أن قوماً من الحِثّيين كانوا يقيمون في حَبْرون، في وسط أرض كنعان (فلسطين الحالية). وهذا مؤشّر ثانٍ مهمّ، يلقي الضوء على توزّع شعوب غربي آسيا القدماء، وينبغي أن نأخذه في الحسبان مستقبلاً.

ـ والمفاجأة هنا أن إبراهيم ما كان يملك قطعة أرض في منطقة حَبْرُون، والأرجح أنه كان يُعامَل معاملة المهاجِر فقط، وهنا ظهرت شهامة بني حِثٍّ ومروءتهم، فقد أباحوا لإبراهيم أن يدفن جثمان زوجته في أيّ قبر شاء من قبورهم.

ـ لكن إبراهيم رفض ذلك، " فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ الأَرْضِ، لِبَنِي حِثَّ، وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: إِنْ كَانَ فِي نُفُوسِكُمْ أَنْ أَدْفِنَ مَيْتِي مِنْ أَمَامِي، فَاسْمَعُونِي وَالْتَمِسُوا لِي مِنْ عِفْرُونَ بْنِ صُوحَرَ أَنْ يُعْطِيَنِي مَغَارَةَ الْمَكْفِيلَةِ الَّتِي لَهُ، الَّتِي فِي طَرَفِ حَقْلِهِ. بِثَمَنٍ كَامِل يُعْطِينِي إِيَّاهَا فِي وَسَطِكُمْ مُلْكَ قَبْرٍ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 23، الآية 7- 9).

ـ وكان عِفْرُون جالساً في المجلس، ولم يكن أقلّ شهامة بني قومه، وقال لإبراهيم على مَشهد من الجميع: " لاَ يَا سَيِّدِي، اسْمَعْنِي. اَلْحَقْلُ وَهَبْتُكَ إِيَّاهُ، وَالْمَغَارَةُ الَّتِي فِيهِ لَكَ وَهَبْتُهَا. لَدَى عُيُونِ بَنِي شَعْبِي وَهَبْتُكَ إِيَّاهَا. ادْفِنْ مَيْتَكَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 23، الآية 7- 9).

ـ  لكن إبراهيم أراد أن يمتلك الأرض، فألحّ على عِفْرون أن يبيعه الحقل والمغارة، فلم يرّ عِفْرُون بُدّاً من تلبية طلبه، فباعه الحقل والمغارة بأربعمئة شاقِل فضة، ودفن إبراهيم سارة في المغارة، " فَوَجَبَ الْحَقْلُ وَالْمَغَارَةُ الَّتِي فِيهِ لإِبْرَاهِيمَ مُلْكَ قَبْرٍ مِنْ عِنْدِ بَنِي حِثَّ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 23، الآية 20).

ـ وقبل وفاة سارة كان إبراهيم قد علِم أن أخاه ناحُور الذي بقي في أُور الكَلدانيين، قد رُزق بعدد من الأبناء والبنات من زوجته مِلْكَةَ ومن جاريته رَؤُومَةَ، ولمّا شاخ إبراهيم قال لكبير عبيده، والذي كان يتولّى جميع شؤون بيته: " ضَعْ يَدَكَ تَحْتَ فَخْذِي، فَأَسْتَحْلِفَكَ بِالرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ وَإِلهِ الأَرْضِ أَنْ لاَ تَأْخُذَ زَوْجَةً لابْنِي مِنْ بَنَاتِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ، بَلْ إِلَى أَرْضِي وَإِلَى عَشِيرَتِي تَذْهَبُ وَتَأْخُذُ زَوْجَةً لابْنِي إِسْحَاقَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 24، الآية 2 - 4).

ـ وبعد أن نفّذ العبد أمر مولاه، " فَقَامَ وَذَهَبَ إِلَى أَرَامِ النَّهْرَيْنِ إِلَى مَدِينَةِ نَاحُورَ "، وقد يُظن للوهلة الأولى أن مدينة ناحور هذه هي أُور الكَلدانيين، ولكن يتضح من السياق بعدئذ أنها حاران (حرّان)، وأتى من هناك بفتاة اسمها رِفْقَة بنت بَتُوئيل بن ناحور، لتكون زوجة لإسحاق بن إبراهيم.

ـ وبعد وفاة سارة تزوّج إبراهيم من امرأة اسمها قَطُورَة (قطورا)، إنها كانت جارية، فولدت له عدداً من الأبناء، وأعطى ابنَه إسحاق كلَّ ما يملِك، أما أبناؤه من السَّراري (الجواري) فأعطاهم بعض المال، وصرفهم عن إسحاق، وأرسلهم باتجاه الشرق.

 " وَعَادَ إِبْرَاهِيمُ فَأَخَذَ زَوْجَةً اسْمُهَا قَطُورَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ: زِمْرَانَ وَيَقْشَانَ وَمَدَانَ وَمِدْيَانَ وَيِشْبَاقَ وَشُوحًا. وَوَلَدَ يَقْشَانُ: شَبَا وَدَدَانَ. وَكَانَ بَنُو دَدَانَ: أَشُّورِيمَ وَلَطُوشِيمَ وَلأُمِّيمَ. وَبَنُو مِدْيَانَ: عَيْفَةُ وَعِفْرُ وَحَنُوكُ وَأَبِيدَاعُ وَأَلْدَعَةُ. جَمِيعُ هؤُلاَءِ بَنُو قَطُورَةَ. وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ. وَأَمَّا بَنُو السَّرَارِيِّ اللَّوَاتِي كَانَتْ لإِبْرَاهِيمَ فَأَعْطَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَطَايَا، وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِهِ شَرْقًا إِلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ، وَهُوَ بَعْدُ حَيٌّ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحَاحُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ، الآية 1- 6).

ـ ولما بلغ إبراهيم من العمر (175) سنة توفّي، ودفنه ابنه إسحاق في مغارة (المَكْفِيلَة) حيث دُفنت زوجته سارة في السابق.

تلك هي خلاصة أهم ما جاء حول سيرة النبي إبراهيم في التوراة.

ملاحظات وتساؤلات

ملاحظة 1: المعروف أن (أُور) مدينة سومرية قديمة جداً، كانت تقع في القسم الجنوبي من بلاد الرافدين (جنوبي العراق حالياً)، وقد سيطر عليها الأكاديون، ثم الدولة البابلية القديمة، ثم الدولة الآشورية، وها نحن نجد أنها سُمّيت في التوراة باسم (أُور الكَلْدانيين)، ومعروف أن الكلدانيين هو الاسم الذي يطلق على البابليين الذين تحرروا من السلطة الآشورية، وأسسوا الدولة البابلية الحديثة بين سنتي (625 - 538 ق.م)، بعد أن تعاونوا مع الدولة الميدية في إسقاط الدولة الآشورية، وتقاسم الشريكان غربي آسيا، فكان القسم الجنوبي الغربي من بين النهرين من نصيب الكلدان. (انظر سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص 71).

وقدّر المؤرخون زمن رحلة أسرة النبي إبراهيم في القرن (19 ق.م) أو القرن (18) ق.م) (سيد القمني: النبي إبراهيم، ص 38)، وهذا يعني أن أور السومرية لم يكن اسمها حينئذ (أور الكلدانيين)، لكن الراوي التوراتي، وربما المترجم التوراتي، هو الذي أطلق عليها هذا الاسم.

والسؤال هنا: لماذا ميّز الراوي التوراتي (أور) بإضافة (الكلدانيين) إليها؟ ألا يعني ذلك أنه كان في غربي آسيا قديماً أكثر من مدينة اسمها (أُور)، ومنها (أورشليم= القدس) مثلاً؟ وهل كانت رحلة أسرة إبراهيم هي من (أور) السومرية هذه، أم أنها رحلت من مدينة أخرى كانت تسمّى باسم (أور)، لكن بما أن أور الكلدانيين كانت هي المشهورة في زمن تدوين نصوص التوراة، فوقع اختيار الراوي التوراتي عليها؟

ملاحظة 2: ذكر الراوي التوراتي أن أسرة تارح (والد إبراهيم) فقط هي التي هاجرت من أور الكلدانيين إلى حاران (حَرّان)، وليس عشيرته، ثم نجد الراوي يقول بصدد أمر الرب لإبراهيم بالهجرة من حاران إلى أرض كنعان: " وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 12، الآية 1 – 2). ويقول إبراهيم لكبير عبيده: " لاَ تَأْخُذَ زَوْجَةً لابْنِي مِنْ بَنَاتِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ، بَلْ إِلَى أَرْضِي وَإِلَى عَشِيرَتِي تَذْهَبُ وَتَأْخُذُ زَوْجَةً لابْنِي إِسْحَاقَ ". (العهد القديم، سفر التكوين، الأصحاح 24، الآية 2 - 4).

أليس هذا تناقضاً؟ وهل ورد هذا التناقض نتيجة وجود أكثر من راوٍ للنصوص التوراتية، وأكثر من مدوِّن لها؟ أم أن أسرة إبراهيم كانت في الأصل من حاران (حرّان)، وهاجر أحد أجداده لظروف معيّنة إلى أور في جنوبي بلاد الرافدين، ولظروف معيّنة أخرى عادت الأسرة إلى مسقط رأسها الأصلي حاران؟ بل إن الطبري ينقل الخبر الآتي بصدد ولادة إبراهيم: " وقال بعضهم: كان مولده بحرّان، ولكن أباه تارخ نقله إلى أرض بابل ". (تاريخ الطبري، ج 1، ص 233)؛ أفلا تعزّز هذه المعلومة احتمال أن أسرة إبراهيم كانت حرّانية الأصل؟

ملاحظة 3: ورد اسم (الحوريين) مراراً عديدة في النصوص التوراتية، وحدّدت تلك النصوص موطنهم في (جبل سَعِير)، وإليكم بعض تلك النصوص:

ـ " وَفِي سِعِيرَ سَكَنَ قَبْلاً الْحُورِيُّونَ، فَطَرَدَهُمْ بَنُو عِيسُو وَأَبَادُوهُمْ مِنْ قُدَّامِهِمْ وَسَكَنُوا مَكَانَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِسْرَائِيلُ بِأَرْضِ مِيرَاثِهِمِ الَّتِي أَعْطَاهُمُ الرَّبُّ ". (العهد القديم ، سفر التثنية، الأصحاح 2، الآية 12). وللتوضيح: عيسو هو الابن البكر للنبي إسحاق بن النبي إبراهيم، وهو أخو يعقوب بن إسحاق، ولقب يعقوب هو (إسرائيل).

ـ " هؤُلاَءِ بَنُو سَعِيرَ الْحُورِيِّ سُكَّانُ الأَرْضِ: لُوطَانُ وَشُوبَالُ وَصِبْعُونُ وَعَنَى وَدِيشُونُ وَإِيصَرُ وَدِيشَانُ. هؤُلاَءِ أُمَرَاءُ الْحُورِيِّينَ بَنُو سَعِيرَ فِي أَرْضِ أَدُومَ. وَكَانَ ابْنَا لُوطَانَ: حُورِيَ وَهَيْمَامَ. وَكَانَتْ تِمْنَاعُ أُخْتَ لُوطَانَ. وَهؤُلاَءِ بَنُو شُوبَالَ: عَلْوَانُ وَمَنَاحَةُ وَعَيْبَالُ وَشَفْوٌ وَأُونَامُ. وَهذَانِ ابْنَا صِبْعُونَ: أَيَّةُ وَعَنَى. هذَا هُوَ عَنَى الَّذِي وَجَدَ الْحَمَائِمَ فِي الْبَرِّيَّةِ إِذْ كَانَ يَرْعَى حَمِيرَ صِبْعُونَ أَبِيهِ. وَهذَا ابْنُ عَنَى: دِيشُونُ. وَأُهُولِيبَامَةُ هِيَ بِنْتُ عَنَى. وَهؤُلاَءِ بَنُو دِيشَانَ: حَمْدَانُ وَأَشْبَانُ وَيِثْرَانُ وَكَرَانُ. هؤُلاَءِ بَنُو إِيصَرَ: بِلْهَانُ وَزَعْوَانُ وَعَقَانُ. هذَانِ ابْنَا دِيشَانَ: عُوصٌ وَأَرَانُ ". (العهد القديم ، سفر التكوين، الأصحاح 36، الآية 20 - 28).

ـ " شَعْبٌ كَبِيرٌ وَكَثِيرٌ وَطَوِيلٌ كَالْعَنَاقِيِّينَ، أَبَادَهُمُ الرَّبُّ مِنْ قُدَّامِهِمْ، فَطَرَدُوهُمْ وَسَكَنُوا مَكَانَهُمْ. كَمَا فَعَلَ لِبَنِي عِيسُو السَّاكِنِينَ فِي سِعِيرَ الَّذِينَ أَتْلَفَ الْحُورِيِّينَ مِنْ قُدَّامِهِمْ، فَطَرَدُوهُمْ وَسَكَنُوا مَكَانَهُمْ إِلَى هذَا الْيَوْمِ ". (العهد القديم ، سفر التثنية، الأصحاح 2، الآية 21 - 22).

بل إننا نجد اسم (حُور) في أسماء بعض أسباط بني إسرائيل: " وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلاً: اُنْظُرْ. قَدْ دَعَوْتُ بَصَلْئِيلَ بْنَ أُورِي بْنَ حُورَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بِاسْمِه". (العهد القديم ، سفر الخروج، الأصحاح 31، الآية 1- 2).

ويقع جبل سَعير في وادي عَرَبَة، شمالي خليج العَقَبة المتفرع من البحر الأحمر (يقع وادي عربة الآن في جنوبي المملكة الأردنية الهاشمية)، فمن هم هؤلاء الحوريون؟ هل هم الحُوريون الذين عُرفوا بعدئذ بالميتانيين، وأقاموا دولة كبرى بين القرنين (16 – 13 ق.م)، وامتد نفوذهم من جبال زغروس شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً؟ وما الذي أوصل الحوريين إلى وادي عَرَبة؟ ولماذا استقروا في المنطقة الجبلية (سَعير)؟ هل لأنهم كانوا في الأصل سكان جبال شمالي كردستان (شرقي تركيا حالياً)، فلم يجدوا راحتهم إلا بالإقامة في الجبال؟ وهل من علاقة بين الحوريين والكرد؟ وهل وجود اللاحقة (ان) An الدالة على صيغة الجمع في نهاية أسمائهم (أشرنا إليها بوضع خط تحتها) دليل على الأصل الآري (الهندو أوربي) لأولئك الحوريين؟

ملاحظة 4: ذكر الراوي التوراتي أن إبراهيم كان قد تزوّج- وهو في أور- ساراي رغم أنها كانت أخته من أبيه فقط (الأخت غير الشقيقة)، وهذا أمر غريب، نجد له مثيلاً عند الطبقات الملوكية الحاكمة القديمة، ومنهم فراعنة مصر، وملوك الميتانيين، وملوك الفرس الأخمين، وبما أن لأسرة إبراهيم صلة جغرافية بمنطقة الانتشار الحوري (الميتاني)، ولا علاقة لها ببلاد فارس، ولا بمصر الفرعونية، فهل يمكن اتخاذ زواج الأخ من الأخت غير الشقيقة دليلاً على انتماء أسرة إبراهيم إلى الثقافة الحورية، أي إلى المجتمع الحوري؟

ملاحظة 5: ذكر أبراهام مالمات، وحاييم تدمور بشأن مدينة (نُوزي) أنها كانت : " خلال القرن 15، 14 ق.م مقراً هاماً للحكم في مملكة ميتاني التي ينتمي سكانها إلى الشعب الحوري. ولكن الحوريين كانوا قد انتشروا قبل ذلك في منطقة حاران، واتجهوا نحو منطقة سوريا وفلسطين، وفرضوا طابعهم على التركيب العرقي القديم للأنساب العبرية، وعلى أسباط بني إسرائيل في فترة متأخرة أكثر ". (أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 118). أليس في هذه المعلومات ما يقوّي وجود علاقة ما بين الحوريين (الميتانيين)، وحاران (حَرّان)، وأسرة النبي إبراهيم؟

وإذا أخذنا في الحسبان أن المناطق الشمالية من بلاد الكرد، وكذلك المناطق الغربية (وفيها تقع مدينة حاران/حرّان)، كانت المناطق المركزية للانتشار الحوري (الميتاني)، أفلا يمكن أن يكون ذلك من المؤشرات القوية على وجود صلة ما بين هذا الثلاثي: (الحوريون، إبراهيم، الكرد)؟

المراجع

1.    أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل في العصور القديمة بين الرواية التوراتية والاكتشافات الأثرية، ترجمة وتعليق دكتور رشاد عبد الله الشامي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، الطبعة الأولى، 2001.

2.     سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر، دار الرقي، بيروت، 1986.

3.    الدكتور سيد محمود القمني: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، سينا للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1990.

4.    الطبري: تاريخ الطبري: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.

5.    الكتاب المقدس (العهد القديم)، دار الكتاب المقدس في العالم العربي.

وإلى اللقاء في الحلقة الحادية عشرة

د. أحمد الخليل   في 19 – 2 -  2009

dralkhalil@hotmail.com

 ============ 

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة التاسعة )

الكرد: قوم أُولو بأس شديد!

 

 

 بانوراما الغرائب

نهجان اثنان لا ينفعان في التعامل مع الحدث التاريخي:

-      النهج القائم على نزعة شكية اتهامية مطلقة.

-      والنهج القائم على السطحية والسذاجة والغفلة.

أما الشك والاتهام فينبغي أن يتأسسا- في جميع الأحوال- على الأدلة الصريحة القوية، أو على القرائن والمؤشرات ذات الصلة بالحدث من قريب أو من بعيد. وأما السطحية والسذاجة والغفلة فينبغي استبعادها بشكل كلي من مجال التعامل مع الأحداث التاريخية، ولا سيّما حينما يكون الموضوع متعلقاً بالتوجّهات الإمبراطورية نحو التمدد والهيمنة وسلب (الإنسان) واحتلال (المكان).

وانطلاقاً من هذه الرؤية توصلنا، في الحلقات السابقة، إلى أن المصادر التاريخية، في بعض العهود الإسلامية، كانت الساحة الثقافية الأوسع لتبشيع صورة الكرد، ووصل الأمر إلى درجة (الأَبْلسة)؛ ففي هذه المصادر اختلط الواقع بالأساطير، والمعقول باللامعقول، واتضح لنا أن قدراً مهمّاً من المعلومات التاريخية في تلك المصادر استمدت وثوقيتها من عبارات زئبقية مثل (زعموا، وقيل، وقالوا، وذُكر، إلخ ).

ولم يستطع أصحاب مشروع (أبلسة الكرد) التسلل إلى القرآن، وتحريفه بما يخدم أغراضهم، وعجزوا أيضاً عن التسلل إلى الأحاديث النبوية الصحيحة، وتوظيفها للأغراض نفسه. وكان من المفترض ألا يتسلّلوا إلى كتب (تفسير القرآن)، فتبقى محتفظة بأقصى درجات المنطقية والموضوعية، وملتزمة بالحيطة في القول والحذر في الحُكم، ومحصَّنة ضد مشاريع التحريف والتشويه، سواء أكان الأمر متعلقاً بالكرد أم بغيرهم؛ باعتبار أن التفسير شرح لنص صاحبه هو (ربُّ العالَمين)، فلا يجوز تحميله ما لا يحتمل، ولا تأويله بما يخرج عن حدود المعقول، ويتناقض مع منطق التاريخ.

والمؤسف أن ما كان مفترَضاً دينياً وأخلاقياً ومنطقياً لم يتحقق، ووقع (تفسير القرآن) في قبضة بعض المرتزقة ومحتطبي الخرافات، وصار المرء وهو يقرأ كتب تفسير القرآن- وما أكثرها وأضخمها!- يشعر أحياناً وكأنه يستمع إلى شطحات القصّاصين تارة، ويشاهد ألاعيب الحُواة تارة أخرى، ويشعر تارة ثالثة أنه يشهد بانوراما فيها كل ما هبّ ودبّ من أصناف الغرائب والعجائب.

وسبق أن أشرنا إلى أن (الأَسْطَرة)، وما يتفرع عليها من آليات التلفيق والتخريف، كانت المدخل الأنسب إلى (الأَبْلَسة)، وبما أن عمليات (الأسطرة) تسللت إلى ساحة (علم التفسير)، كان من البديهي أن تصبح تلك الساحة مفتوحة أمام أصحاب مشروع (أبلسة الكرد)، وأن يستمروا في رسم صورة الكرد بالكيفية التي تتناسب مع تصوراتهم وأغراضهم، وهذا هو موضوعنا في الصفحات التالية.

أعراب .. وأكراد

في أثناء صراع النبي محمد، ومن معه من المهاجرين والأنصار، ضد قريش وحلفائها، كان بعض البدو الذين اعتنقوا الإسلام يُدعَون إلى المساهمة في القتال، فمنهم من كان يشارك، ومنهم من كان يتخلّف عن المشاركة، فنزلت آية قرآنية تؤنّب المتقاعسين عن القتال، وهي:

( قل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (سورة الفتح، الآية 16).

فماذا قال المفسرون بشأن (قومٍ أولي بأس شديد)؟

الحقيقة أن المفسرين إزاء تفسير هذه الآية فريقان:

1-  الفريق الأول: يضم أغلبية المفسرين، وهم لم يأتوا على ذكر (الأكراد) حينما تناولوا تفسير هذه الآية، وفي مقدّمتهم الطَّبَري (ت 310 هـ = 923 م)، فقد ساق روايات تقول: إن أولئك القوم هم (الفرس). وروايات تقول: إنهم الفرس والروم. وروايات تقول: إنهم بعض قبائل العرب المعروفة بشدة البأس، وهي هَوازِن، وغَطَفان، وبنو حَنِيفة قوم المتنبّئ مُسَيْلمة بن ثُمامة المشهور باسم (مُسَيْلمة الكذّاب). (تفسير الطبري، ج 13، ص 82 - 83).

وقال الطبري في هذا الصدد:

" وأَوْلى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله- تعالى ذِكره- أخبر عن هؤلاء المخلَّفين من الأعراب أنهم سيُدْعَون إلى قتال قومٍ أولي بأسٍ في القتال، ونَجدةٍ في الحروب، ولم يوضَع لنا الدليلُ من خبر ولا عقل على أن المعنيَّ بذلك هًوازٍن، ولا بنو حَنيفة ولا فارس ولا الروم، ولا أعيانٌ بأعيانهم، وجائز أن يكون عُني بذلك بعضُ هذه الأجناس، وجائز أن يكون عُنِي بهم غيرُهم ". (تفسير الطبري، ج 13، ص 83).

وسار معظم كبار المفسرين الباقين على نهج الطبري، فلم يأتوا على ذكر (الأكراد)، وأذكر منهم على سبيل المثال: البَغَوي (ت 516 هـ = 1122 م) في كتابه (معالم النزيل في التفسير والتأويل)، والنَّسَفي (ت 537 هـ = 1142 م) في كتابه ( مدارك التنزيل وحقائق التأويل)، والزَّمَخْشَري (ت 538 هـ = 1144 م)، في كتابه (الكَشّاف)، وابن الجَوْزي (ت 597 هـ = 1201 م) في كتابه (زاد المسير في علم التفسير)، والفَخْر الرازي (ت 606 هـ = 1210 م)، في كتابه (مفاتيح الغيب)، والقُرْطُبي (ت 671 هـ = 1273 م) في كتابه (الجامع لأحكام القرآن)، وابن حَيّان (ت 745 هـ = 1344 م) في كتابه (البحر المحيط)، والبَيْضاوي (ت 685 هـ = 1286 م) في كتابه (أنوار التنزيل وأسرار التأويل).

2ً - الفريق الثاني: يضم قلة من المفسرين، وقد ذكروا اسم (الأكراد) صراحة تارة، وأشاروا إليهم تارة أخرى باسم ذي دلالة جغرافية هو (البآرز/البارزون)، ولعل المقصود بهذه التسمية هو (سكان الجبال)، وفيما يلي رواياتهم:

·  ابن أبي حاتم (ت 327 هـ = 938 م): قال في تفسيره: " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ:"  (أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، قَالَ: هُمُ البَآزِرُ [كذا، والأرجح أن الصواب: البآرز]، يَعنِي الأكرادَ ". (تفسير ابن أبي حاتم، ج 12، ص 230).

·  ابن كَثِير (ت 774 هـ): نقل في تفسيره رواية تقول: إن أولئك القوم هم بنو حَنيفة. ورواية تقول: إنهم التُّرك. وقال: " عن ابن أبي خالد، عن أبيه، عن أبي هريرة في قوله: { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال: هم البارزون ". ونقل أيضاً عن " ابن أبي خالد عن أبيه قال: نزل علينا أبو هريرة، ففسّر قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال: تقاتلون قومًا نعالهم الشَّعْر. قال: هم البارزون، يعني الأكراد ". (تفسير ابن كثير، ج 4، ص 190).

·  جلال الدين السُّيوطي (ت 911 هـ = 1505 م): قال: " وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هُريرة رضي الله عنه في قوله { أُولي بأسٍ شديدٍ } قال: هم البآرز، يعني الأكراد ". (الدر المنثور، ج 26، ص 519).

·  الشَّوْكاني ( ت 1250 هـ = 1834 م): قال: " وأخرج ابن أبي حاتِم عن أبي هُريرة أنهم الأكراد ". (فتح القدير، ج 5، ص 69)

·  الآلُوسي (ت 1270 هـ = 1854 م): نقل جميع الروايات التي سبقته؛ أي أن أولئك القوم هم بنو حَنيفة، والفُرس، وهَوازِن، والروم، والأكراد. (روح المعاني ج25، ص 102 – 103).

·  القِنُوجي البُخاري ( ت 1307 هـ = 1890 م): ذكر تارة أن أولئك القوم هم الفرس، وتارة أنهم الروم، وثالثة أنهم الفرس والروم، ورابعة أنهم هَوازِن وثَقِيف وغَطَفان وبنو حَنيفة، وقال: " وعن أبي هُرَيْرَة أنهم الأكراد " (القنوجي: فتح البيان في مقاصد القرآن، ج 13، ص 103).

·  لم يقتصر أمر ذكر (الأكراد) في تفسير هذه الآية على المفسرين، وإنما نهج المؤرخ أبو نَعيم الإصبهاني (ت 430 هـ = 1038 م) نهجهم، فقال: " عن مجاهد : (ستُدعَون إلى قومٍ أُولي بأسٍ شديدٍ ) قال: هم أعراب فارس، وهم الأكراد ". (ذكر أخبار إصبهان،ج 1، ص 7).

تلك هي الروايات التي ذكرت الكرد في جملة الأقوام الذين وُصفوا في القرآن بأنهم أصحاب بأس شديد، فهل يتفق سياق الأحداث مع هذا التفسير؟ وهل يقبله واقع الظروف التاريخية في بداية القرن الأول الهجر (السابع الميلادي) ؟ أم أنّ وراء الأكَمَة (التلة) ما وراءها كما يقول المَثَل القديم؟

بحث في الدلالة

إن لهذه الروايات دلالتين: الأولى إيجابية، والثانية سلبية.

أولاً – الدلالة الإيجابية: هي وصف (الأكراد) بشدة البأس وقوة الشكيمة، ويمكن للمرء أن يتّخذ هذه الآية شهادةً إلهية صريحة، نزلت من فوق سبع سماوات؛ لتشهد للكرد بأنهم يمتازون- من حيث التكوين- بصفات مرموقة، تتفرّع عن الصفة المحورية (البأس الشديد)، وأبرز تلك الصفات: الثبات على الموقف، والجَلَد في الشدائد، والشجاعة في الخطوب، والبسالة في القتال، والإقدام على المخاطر، وصعوبة تدجينهم والسيطرة عليهم.

ويمكن لوجهة النظر هذه أن تتعزّز بأقوال وشهادات أخرى، وصفت الكرد بشدة البأس بشكل مباشرة تارة، وبشكل غير مباشر تارة أخرى؛ ومن ذلك قول الآلوسي في تفسيره (روح المعاني، ج 26، ص 103): " وبالجملة الأكراد مشهور بالبأس ". وقال شاعر يدعى (ابن طاهر) في وصف فَهْد:

وليس للطُّرّاد إلاّ فَهْـــدُ     

كأنّما أَلقتْ علــيه الكُردُ

مِن خُلْقِـها، أو وَلَدتْه الأُسْدُ    

وهْوَ كفيلُ النُّجْحِ حين يَعْدو

                           ( ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 5، ص 74).

أجل، من الممكن أن تؤخذ هذه الأقوال- وثمة أقوال أخرى وصفت الكرد بالشجاعة لا مجال لذكرها الآن- أدلةً على أرجحية الدلالة الإيجابية، وعلى أن الذين أدرجوا الكرد ضمن أولي البأس- في إطار هذه الآية- إنما أرادوا الرفع من شأنهم، والإشادة بشجاعتهم وبسالتهم، والتنويه بقوة شكيمتهم، ووضعوهم في مستوى واحد مع الفرس والروم وبعض القبائل العربية المشهورة بالقوة الشجاعة.

ثانياً – الدلالة السلبية: هي وضع (الأكراد) في صفّ (الكفّار)، وفي خانة المعادين لله ورسوله، وليس هذا فحسب، بل إنهم من الأعداء الذين فرض الله من فوق سبع سماوات على المسلمين، ومن جملتهم الأعراب المتقاعسين، أن يقاتلوهم ويفرضوا عليهم اعتناق الإسلام، وهذا المعنى واضح في الآية (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، ولا يحتاج فهمه إلى عناء، وإمكانيات المناورة معه معدومة، كما أنه لا يحتمل أيّ تأويل؛ لأن العبارات دقيقة ومحدّدة، وليست مجازية ولا فضفاضة ولا زئبقية.

وقد يقال: أين هي المشكلة؟ فالإسلام هو الدين الوحيد الذي يعترف به الله تعالى، بدليل الآية (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) [سورة آل عمران، الآية 19]، وكل من يعتنق الإسلام يصبح من (أولياء الله)، وكل من لا يعتنقه يصبح من (أولياء الشيطان)، ومطلوب من المسلمين أن يقاتلوا (أولياء الشيطان)، بدليل الآية (فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ) [سورة النساء، الآية 76]. وبما أن الكرد لم يكونوا مسلمين حينما ظهرت الدعوة الإسلامية، كان من الطبيعي أن يكونوا في دائرة (أولياء الشيطان) أعداء الله، وكان من الطبيعي أيضاً أن يُطالَب المسلمون- بما فيهم الأعراب- بمقاتلة الكرد، تماماً كما كان مطلوباً منهم مقاتلة (أولياء الشيطان) الآخرين عرباً وفرساً وروماً وغيرهم.

شكوك وحقائق

والحق أن هذا التوجيه وجيه، ولا غبار عليه. لكن تبدأ الشكوك بالتفاقم حينما يتفحّص المرء الموضوع من جميع جوانبه؛ بدءاً بالواقع السياسي لشعوب غربي آسيا مع ظهور الدعوة الإسلامية، ومروراً بالظروف التي واكبت نزول هذه الآية، وانتهاء بالجهات التي أنتجت هذه الروايات؛ ودعونا نتناول بالتأمل والتحليل هذه الأمور الثلاثة كلاً على حِدة:

أولاً – الواقع السياسي في غربي آسيا: ظهرت الدعوة الإسلامية سنة (610 م)، ثم كانت الهجرة إلى يَثْرِب (المدينة) سنة (622 م)، والشروع في وضع أسس الدولة العربية الإسلامية، وحينذاك كانت شعوب غربي آسيا واقعة تحت سيطرة إمبراطورية الفرس شرقاً وإمبراطورية الروم غرباً، وكانت كردستان (بلاد الكرد) مقسَّمة بين هاتين الإمبراطوريتين، فمن مدينة (نِصِيبِين) ضمناً باتجاه الغرب كان تابعاً للروم، وما عداها شرقاً كان تابعاً للفرس؛ هذا بغض النظر عن تقلّص مناطق النفوذ في كردستان بين الفرس والروم بين حين وآخر، بتأثير الصراع الذي كان محتدماً بين الإمبراطوريتين. والمهم في الأمر أن الكرد لم يكونوا أصحاب كيان سياسي مستقل، وعلى الصعيد الثقافي كانوا- في غالبيتهم- من أتباع الديانة الزَّرْدَشتية، شأنهم في ذلك شأن الفرس.

2 – مناسبة نزول الآية: جاء في بعض المصادر أن هذه الآية نزلت بشأن الأعراب الذين تخلّفوا عن الالتحاق بجيش المسلمين في غزوة الحُدَيْبِيَة سنة (6 هـ = 628 م) ضد قريش حينما قررت منع المسلمين من العُمرة إلى مكة، (انظر: مغازي الواقدي، ج1، ص 619. وتفسير البغوي، ج 4). وجاء في مصادر أخرى أنّ المخلَّفين هم الأعراب الذين تقاعسوا عن المشاركة في غزوة حُنَيْن سنة (8 هـ = 630 م) ضد قبيلة هَوازِن والقبائل البدوية المتحالفة معها  (انظر تفسير الطبري، ج 26، ص 83).

وفي الحالين رجّح بعض كبار المفسّرين أن المقصود بعبارة (قوم أولي بأس شديد) هم القبائل العربية القوية من أمثال بني حَنيفة قبيلة المتنبّئ (مُسَيْلَمة الكذّاب)، ومن الممكن أيضاً أن يكون المقصود دولة فارس ودولة الروم. أما الكرد فما علاقتهم بالموضوع؟ إنهم كانوا حينذاك شعباً مقموعاً ومغلوباً على أمره، ولم يكن لهم أدنى تأثير في الدعوة الإسلامية، لا إيجاباً ولا سلباً، فهم من الناحية الجغرافية كانوا في جبالهم بعيدين عن الحجاز أرض الدعوة الإسلامية، ومن الناحية السياسية لم يكونوا أصحاب دولة ذات نفوذ، ولم يكونا سادة إمبراطورية تشكل قوتها خطراً في المستقبل على انتشار الدعوة، وتدفعها مصالحها إلى الدخول في حروب ضد العرب المسلمين.

3 – الجهات المنتجة للروايات: تعود الروايات التي ذكرت (الأكراد/البآرز/البارزون) إلى ثلاثة رواة، هم ابن أبي حاتم في الدرجة الأولى، وابن أبي خالد ومُجاهد في الدرجة الثانية، فماذا عن كل واحد منهم؟

أما مُجاهد فهو مُجاهد بن جَبْر (ت 104 هـ = 722 م)، مولى بني مخزوم، وهناك من مدحه بأنه ثقة في علم التفسير؛ قال الذَّهبي: " قال سُفْيان الثَّوْري: خذوا التفسير من أربعة: مُجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وعِكْرِمة، والضَّحّاك ". (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 4، ص 450 – 451). وهناك من شكّك في مصداقيته، وبنى ذلك على انصراف أهل العلم عن الأخذ بما جاء في تفسيره؛ "قال أبو بكر بن عَيّاش: قلت للأَعْمَش: ما بالُهم يَتّقون تفسيرَ مجاهد؟ قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب [= اليهود والنصارى]". (المصدر السابق نفسه). وعلّق الذهبي على الموضوع قائلاً: " قلت: ولمجاهد أقوالٌ وغرائب في العلم والتفسير تُستنكَر ". (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 4، ص 455).

وأما ابن أبي حاتم (ت 327 هـ = 938 م) فهو عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التَّمِيمي الحَنْظَلي الرازي، وقد يبدو للوهلة الأولى أنه عربي الأصل من بني تَميم، لكن سرعان ما نكتشف من ترجمة والده (حاتم) أنه حاتم بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، وأنه فارسي الأصل من مدينة الرَّي، وأنه كان مولى بني تميم، وكان يسكن حيّ بني حَنْظلة في الرَّي، فقيل له: الحنظلي. (انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 13، ص 247. وابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، ج 53، ص 3. والزركلي: الأعلام، ج 6، ص 27).

وأما ابن أبي خالد فهو إسماعيل ابن أبي خالد (ت 146 هـ)، وكنيته أبو عبد الله البَجَلي، وتُوهمنا هذه النسبة أنه من قبيلة بَجِيلة العربية، لكن الحقيقة أنه مولى بني بَجِيلة، واسم أبيه هرمز، وقيل سعد، وقيل: كَثير  (انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 6، ص 176 - 178)، وإذا أخذنا بالرواية التي ذكرت أن اسم والده (هُرْمُز) فالأرجح أنه فارسي الأصل، أو أنه من خرّيجي الثقافة الفارسية.

وهكذا يبدو واضحاً أن الرواة الذين صنّفوا (الأكراد) في عداد (قومٍ أولي بأس شديد) لم يكونوا عرباً، وإنما كانوا فرساً، أو من خرّيجي الثقافة الفارسية، وقد نسب كل من ابن أبي حاتم وابن أبي خالد الرواية إلى الصحابي المشهور (أبو هُريرة ت 57 هـ)، وهنا يبدأ الإشكال الأكبر، فأبو هريرة عربي من قبيلة دَوْس اليمانية، كان اسمه في الجاهلية (عَبد شَمس بن صَخْر)، وحينما أسلم سنة (7 هـ) سمّاه النبي (عبد الرحمن)، ويُنسب إليه ذكر قرابة حوالي (5000) خمسة آلاف حديث نبوي، متقدّماً في هذا المجال على كثيرين من كبار الصحابة، وبينهم أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب وغيرهما.

ولسنا الآن بصدد الشكوك التي أثيرت حول غزارة الأحاديث النبوية التي رواها أبو هريرة، رغم أن فترة صحبته للنبي لم تتجاوز ثلاث سنوات، ولسنا أيضاً بصدد اضطراره إلى الدفاع عن نفسه إزاء تلك الشكوك. وما يهمنا الآن أن لأبي هريرة مقاماً رفيعاً في التراث الإسلامي السُّنّي حصراً، وحينما يكون هو صاحب خبر ما فلا ريب في أن ذلك الخبر يكون مسموعاً عند المسلمين السُّنّة، وهم القسم الأكبر من المسلمين، ومن هنا تأتي أهمية أن يكون أبو هريرة صاحب تفسير أن (الأكراد) من الذين يندرجون تحت وصف (قوم أولي بأس شديد).

لكن يبقى السؤال: من أين كان أبو هريرة- وهو البدوي الأمي- يستمد المعلومات ذات الصبغة التاريخية والاجتماعية والإثنية المتعلقة بشعوب غربي آسيا من غير العرب؟ وأقصد على وجه التحديد المعلومات التي لم يأت لها ذكر لا في التراث العربي قبل الإسلام، ولا في القرآن، ولا في الأحاديث النبوية الصحيحة. ومعروف أن المجتمع العربي قبل الإسلام، وفي عهد الدعوة الإسلامية، كان يفتقر إلى المؤسسات التي تُعنى بتدوين المعلومات؛ سواء أكانت تاريخية أم غير تاريخية، وكانت الجهات التي تمتلك القدرات والإمكانيات في هذا المجال تابعة سياسياً وثقافياً للفرس والروم؛ إنها الجاليات والبعثات التبشيرية المسيحية واليهودية في اليمن والعراق، وهؤلاء هم الذين أصبحوا- في عهد صدر الإسلام- المصدر الأول والأهم للمعلومات.

ونحن هنا إزاء أحد احتمالين:

1 - إما أن أبا هريرة فسّر آية (قوم أولي بأس شديد) على ضوء المعلومات التي كان يروّج لها بعض خرّيجي ثقافة أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، وبعض خريجي الثقافة الفارسية، وكان هؤلاء جميعاً قد وجدوا في (تفسير القرآن) ميداناً رحيباً لتفتيق التأويلات، وتفريع الاحتمالات، ومزج الواقع بالأسطورة؛ وهذه حقيقة يعرفها كل من اطّلع على تفاسير القرآن القديمة.

2 – وإما أن كلاً من ابن أبي حاتم وابن أبي خالد الفارسيين، أو المتفرّسَين ثقافياً، نسبا المعلومة إلى أبي هريرة، ثقة منهما بأنها تكون أكثر رواجاً، ولم يكن مثل هذا النهج بالأمر الصعب في عهد الرواية الشفهية، وإذا كانت الأحاديث النبوية نفسها لم تسلم من الدس والتحريف؛ فهل من العجب في شيء أن يصل الدس والتحريف إلى أقوال أبي هريرة؟

السمّ في الدَّسَم

وخلاصة ما نرجّحه أن اسم (الأكراد) أُقحم في تفسير آية (قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) إقحاماً، ولا أستبعد أن يكون هذا الأمر نتاج تقليد سياسي قديم في التراث الشرقي؛ أقصد سياسة (السمّ في الدَّسم)، وأذكر في هذا الصدد حدثين، الأول من شرقي العالم الإسلامي، والثاني من غربيّه:

1 - في سنة (38 هـ) احتدم الصراع على السلطة بين الخليفة الراشدي الرابع عليّ بن أبي طالِب في الكوفة بالعراق، ومنافسه مُعاوية بن أبي سُفْيان في دمشق ببلاد الشام، ولما عيّن عليٌّ أحد كبار أنصاره، وهو الأَشْتَر النَّخَعي، والياً على مصر، أوكل معاوية إلى أحد عملائه في مصر (مسؤول الخَراج) مهمة التخلص من الأشتر، فاستقبله العميل في الطريق، واستضافه، وقدّم إليه طعاماً وسقاه شراباً من عسل، فمات منه، فلما بلغ ذلك معاوية ذلك قال: " إنّ لله جنوداً من عسل". (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 7، ص 376).

2 – كان المنصور أبو عامر يتولّى منصب الحجابة (يعادل رئاسة الوزارة في عصرنا) في الأندلس (إسبانيا)، ولما تُوفّي سنة (392 هـ) تولّى المنصب ابنه عبد الملك، وفي سنة (399 هـ) عزم عبد الرحمن بن المنصور التخلص من أخيه عبد الملك، ليتولّى هو المنصب،  فاستضافه وقدّم له تفاحة قطعها بسكين كان قد سَمّ أحد جانبيها، وناول أخاه ما يلي الجانب المسموم، وأخذ هو ما يلي الجانب الصحيح، وأكله بحضرته، فاطمأن عبد الملك، وأكل ما بيده منها، فمات. (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 8، ص 678).

ويبدو أن ثقافة (السمّ في الدسم) لم تكن حَكْراً على الساسة المتنافسين، وإنما وجدت طريقها إلى التراث الديني أيضاً، بل إلى واحد من أكثر المجالات الثقافية الدينية أهمية؛ ألا وهو مجال (التفسير)، وكان في كل مرة يقع شعبٌ ما أو شخصٌ ما ضحية تلك الثقافة. وأحسب أن الذين أدرجوا اسم (الأكراد) في فئة (قوم أولي بأس شديد) أسسوا توجّههم هذا على الظروف المتعلقة بحياة الكرد قبل الإسلام، وعلى الظروف التي واكبت حياة الكرد حينما ظهر الإسلام وبدأت الفتوحات العربية الإسلامية بالتوسع، وألخّص تلك الظروف في ثلاثة أمور هي:

أولاً – هامش التاريخ: في عهد الدولة الميدية كان الشعب الكردي في بؤرة تاريخ غربي آسيا، وكان إلى جانب الشعوب الأخرى من أكبر صانعي ذلك التاريخ، لكن قبل ظهور الإسلام بحوالي (12) قرناً كان الكرد قد زُحزحوا من بؤرة تاريخ غربي آسيا إلى هامشه بل إلى هامش الهامش؛ حدث ذلك منذ سقوط دولة ميديا على يد كورش الثاني الأخميني سنة (550 ق.م)، وفي حدود قراءاتي لتاريخ غربي آسيا قبل الإسلام، ونتيجة معلومات كثيرة ومتشابكة لا مجال الآن لسردها، أمتلك الجرأة العلمية لأن أقول: عملت السياسات الفارسية خاصة لإخراج الجماهير الكردية من دائرة الفعل الحضاري، وأبقت أمامهم خياراً وحيداً، هو الاحتفاظ بالبقاء فقط، لكن في أكثر الظروف الحياتية قسوة.

ومن الثمار المُرة لتلك السياسات أنه لم يبق أمام الكرد طريق إلى الحياة سوى أن يتحوّلوا إلى رعاة، يهيمون مع أنعامهم في البراري أو في شعاف الجبال، ولا أضع في اعتباري الحياة المرفَّهة التي عاشتها قلة قليلة من الأسر والزعامات الكردية، فهي كانت مرتبطة بالدول الفارسية سياسياً وثقافياً، وكانت كردية بالاسم فقط، ولا تصلح لأن تشكّل تمثيلاً واقعياً للجماهير الكردية.

وكانت النتيجة الطبيعية أن الكرد تحوّلوا خلال اثني عشر قرناً تقريباً (550 ق.م – 600 م) إلى مجتمع رعوي، بعيد عن مراكز الحضارة، ومحروم من أسباب الثقافة والمدنية. وفي بيئة رعوية يغلب عليها الطابع الجبلي، وتهيمن عليها البدائية والبداوة، كان من الطبيعي أن تكون خصلة (البأس الشديد) هي البارزة في الشخصية الكردية، وإلا فلن يكون ثمة مجال للاستمرار في البقاء؛ وعلى ضوء هذه المعطيات نفهم وصف الكرد بأنهم (أعراب فارس/البارزون)، على أن نأخذ في الحسبان أن المقصود بكلمة (أعراب) هنا هو (البدو).

ثانياًً – فتح كردستان: خلال الفتوحات الإسلامية لاقى العرب الفاتحون كثيراً من المشقات في إخضاع الكرد، وإن الرغبة في تصوير الأمر وكأن الكرد كانوا مرحّبين بالفاتحين العرب ينافي الحقيقة الموثَّقة في المصادر، وإذا كان الكرد قد شعروا بالارتياح في الخلاص من الهيمنة الفارسية فذلك لا يعني بالضرورة أنهم رحّبوا بالمهيمنين الجدد. ثم إن سقوط المدن في أيدي الفاتحين العرب لم يكن وحده كفيلاً بفرض الهيمنة العربية على كردستان؛ فالمدن كانت مراكز للسلطة الفارسية، أما الغالبية العظمى من الجماهير الكردية فكانت مقيمة في البراري والجبال والأرياف، وإن المقاومة الشرسة التي أبداها الكرد ضد الفاتحين العرب تركت انطباعاً لدى الرأي العام العربي وغير العربي بأن الكرد يندرجون تحت تصنيف (قوم أولي بأس شديد).

ثالثاً – جغرافيا الثورات: كانت الجغرافيا الكردية، معظم القرون الأولى من العهود الإسلامية، ساحة للانتفاضات، ومعقلاً للثورات، ضد سلطة الخلافة في العهد الراشدي، ثم ضد سلطة الخلافتين الأُمَوية والعبّاسية، هذا في القرون الثلاثة الأولى، أما بعدئذ فلم تضعف وتيرة الانتفاضات والثورات، بل زادت؛ تارة بسبب سياسات القهر التي مارسها المرتزقة العسكريون الأتراك المتحكمون في دار الخلافة ببغداد، وتارة أخرى ضد سلطة الدَّيْلم الفرس أو المتفرّسين الذين أزاحوا المرتزقة الترك جانباً سنة (334 هـ = 946 م)، وحلّوا محلهم في بغداد، وتارة ثالثة ضد سلطة التركمان السلاجقة الذين دخلوا بغداد سنة (447 هـ = 1055 م)، واستولوا على مقاليد الأمور في غربي آسيا.

تلك- فيما نرى- هي المعطيات التي سوّغت لبعض المفسرين تصنيف الكرد ضمن (قوم أولي بأس شديد)، ووضعهم في خانة أعداء الله الأشداء من الفرس والروم والترك والقبائل العربية البدوية؛ أولئك الأعداء الذين لا وسيلة إلى حملهم على اعتناق الإسلام إلا بالقتال.

المراجع

1.          ابن أبي حاتم: تفسير ابن أبي حاتم، نسخة إلكترونية.

2.          ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.

3.          الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978.

4.          البغوي: معالم التنزيل في التفسير والتأويل، تحقيق خالد عبد الرحمن العك، مروان سوار، دار المعرفة، بيروت، 1987.

5.          ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عباس، بكر عبّاس، دار صادر، بيروت، 1996.

6.          الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شُعَيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1982.

7.          الزِّركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1986.

8.          السيوطي: تفسير الدُّرّ المنثور في التفسير المأثور، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية 1983.

9.          الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فنّي الرواية والدراية وعلم التفسير، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرَة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الثانية، 1997.

10.     الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، القاهرة، 1968.

11.     ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، تحقيق محب الدين أبو سعيد عمر بن غرامة العَمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1995.

12.     القِنوجي البخاري: فتح البيان في مقاصد القرآن، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر، 1989.

13.     ابن كثير: البداية والنهاية، دار أبي حيّان، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996.

14.     ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنّا، محمد أحمد عاشور، عبد العزيز غنيم، الشعب، القاهرة، 1971.

15.     أبو نعيم الإصبهاني: ذكر أخبار إصبهان، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، 1934.

16.     الواقدي: كتاب المغازي، تحقيق الدكتور مارسدن جون، عالم الكتب، بيروت، 1980.

وإلى اللقاء في الحلقة العاشرة

د. أحمد الخليل   في 5 – 2 -  2009

dralkhalil@hotmail.com

الحلقات السابقة ( 1 - 2 - 3 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 )

العودة إلى الصفحة السابقة