سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الثامنة )

الكرد في قصة النبي سليمان والجن (مشروع (الأبلسة)

 

 مفارقة!

وردت في المصادر التراثية الإسلامية أربع روايات تنسب الكرد إلى الجن تارة وإلى الشيطان والشياطين تارة أخرى:

- الأولى أوردها المؤرخ العربي المَسْعودي (ت حوالي 346 هـ = 957 م) في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر).

- والثانية أوردها الفقيه الشيعي الاثنا عشري المشهور أبو جعفر الكُلِيني الرازي (ت 328 هـ = 940 م) في كتابه (الكافي)، وأصله من قرية (كُلِين) في منطقة الرَّيّ (قرب طهران حالياً).

- والثالثة أوردها الأديب الفارسي الراغب الأصْفَهاني (ت 502 هـ = 1108 م) في كتابه (محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء).

- والرابعة أوردها الأمير والمؤرخ الكردي شرف خان بَدْلِيسي (ت 1013 هـ = 1604 م)  في كتابه (شرفنامه).

وزمن هذه الروايات يمتد على لا أقل من ستة قرون ونصف، وهذا زمن ليس بالقليل في تاريخ غربي آسيا الإسلامي، وهو دليل على أن الرواية كانت حية في الذاكرة الغرب آسيوية طوال تلك المدة.

وثمة حدثان بارزان بشأن الكرد في تاريخ غربي آسيا، بدءاً من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، كان من المتوقَّع لهما أن يكبحا جماح البعد الأسطوري في هذه الروايات، ويزحزحا ما فيها من سذاجة وفجاجة، وينقّحاها من اللاواقعية واللامعقولية، ويعيدا الذهنية الغرب آسيوية إلى الصواب في تناول أمور حسّاسة كهذه؛ لكن الأمور لم تسر في الاتجاه الذي كان ينبغي أن تسير فيه، والحدثان البارزان هما:

1 - نبوغ الكرد سياسياً في عهد الدولة المَرْوانية (الدُّوسْتِكية)، خلال القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، ثم بصورة أقوى في عهد الدولة الأَيوبية، خلال القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).

2 – نبوغ الكرد ثقافياً عامة، وفي مجال الثقافة الدينية خاصة، بفضل عدد كبير من الفقهاء، ولا سيما من مدينة شَهْرَزُور في جنوبي كردستان، وبلغ بعض هؤلاء مقاماً رفيعاً في بلاط الخلفاء ببغداد، وفي عهد الدولة التركمانية الزَّنْكية، وكانوا في ميادين العلم أشهر من نار على عَلَم، أذكر منهم على سبيل المثال: القاضي كمال الدين الشهرزوري، والقاضي ضياء الدين الشهرزوري، وشيخ الإسلام ابن الصَّلاح الشهزوري (انظر أحمد الخليل: سلسلة مشاهير الكرد في التاريخ، النسخة الإلكترونية).

بلى، كان من المتوقع، بعد هذا النبوغ الكردي، أن تعيد الذهنية الغرب آسيوية النظر في التفسير الأسطوري لأصل الكرد؛ إذ كيف يمكن لنسل (الجن والشياطين) أن يصبحوا شيوخ الإسلام وأئمته؟ وكيف يمكنهم أن يدبّجوا المصنّفات المرموقة، والمعتمَدة إلى يومنا هذا، في العقيدة والشريعة؟ وكيف يمكن لحفدة (الجن والشياطين) أن يصبحوا سادة شعوب غربي آسيا، ويوحّدوا صفوفها، ويقودوها لردّ أعتى هجمات الفرنج، ويعيدوا مدينة القدس (أُولى القِبلتين وثالث الحَرَمين) إلى المسلمين، في وقت كان فيه حفيد (الإنس) وأمير المؤمنين الخليفة العباسي منشغلاً مع بِطانته بمصالحه وملذّاته؟

إنها لمفارقة يصعب تجاهلها، ولا يمكن فهمها إلا في إطار التوجّه العام الذي كان يتحكّم في تشكيل الذاكرة الغرب آسيوية، ولا يمكن تفسيرها إلا بمعرفة النوايا الخفية لنخبة غرب آسيوية معيّنة، إن تلك النخبة كانت تبذل كل ما في وسعها لتشكيل تلك الذاكرة بما يتناسب مع مطامحها ومطامعها، ويبدو أن الكرد كانوا يشكّلون عقبة صعبة في طريق تلك المطامح والمطامع، فكان لا بد من إزالة تلك العقبة بكل وسيلة، وكانت أَبلسة (شَيطنة) الكرد من أكثر تلك الوسائل فاعلية.

والآن دعونا نتفحّص الروايات الأربع.

تحليل الرواية الأولى

قال المسعودي بشأن أصل الكرد:

" ومن الناس من ألحقهم بإماء [ = جواري]  سليمان بن داود عليه السلام حين سُلب مُلكَه، ووقع على إمائه المنافقات الشيطانُ المعروف بالجَسَد، وعَصَم الله منه المؤمنات أن يقع عليهن، فعَلِق [ = حَبل] منه المنافقاتُ، فلمّا ردّ الله على سليمان مُلكَه، ووضع الإماءُ الحواملُ من الشيطان، قال: اكردوهنّ [= اطردوهن] إلى الجبال والأودية. فربّتهم أمهاتهم، وتناكحوا، وتناسلوا، فذلك بدءُ نَسَب الكرد ". (مروج الذهب، ج ، ص 124).

وإليكم الملاحظات الآتية على هذه الرواية:

الملاحظة الأولى: يبدو أن القائلين بهذه الرواية لم يكونوا أفراداً معدودين على أصابع اليد الواحدة كما يقال، وإنما كانوا جماعة (من الناس)، والمثير للانتباه أن تلك الجماعة لم تكن محتارة في أصل العرب والفرس والأرمن والسريان، وغيرهم من شعوب غربي آسيا، وإنما كانت محتارة في أصل الكرد فقط، فالكرد – حسب تصوّرها- مخلوقات غير عادية، وبناء على ذلك لم تجد الجماعة الحائرة مسوِّغاً منطقياً لتنسيبهم إلى بني آدم الأسوياء، فكان المخرج الذي اخترعوه هو إلحاقهم بإماء النبي سليمان المنافقات وبالشيطان (الجَسَد).

الملاحظة الثانية: إن مخترعي هذه الرواية أقاموها على أرضية دينية قرآنية؛ أي على أرضية (المقدس)، وكانوا يعلمون أنها – أقصد الرواية- ستكون عندئذ أسرع قبولاً عند المسلمين خاصّتهم وعامّتهم، والأرضية القرآنية الموظَّفة في هذا الميدان هي الآيات الآتية:

( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {30} إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ {31} فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ {32} رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ {33} وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ {34} قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ {35} فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ {36} وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ {37} وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {38}) (سورة ص، الآيات 34 – 38).

الملاحظة الثالثة: ليس في هذه الآيات، ولا في بقية الآيات القرآنية ذات الصلة بقصة النبي سليمان، أيّة علاقة لا بالكرد ولا بغير الكرد، وليس في كتب التفسير قديمها وحديثها- رغم أن أغلبها زاخر بالأساطير وغرائب عالم اللامعقول- أيّ ذكر لعلاقة الكرد بقصة النبي سليمان، وقل الأمر نفسه في الكتب الخاصة بأسباب نزول الآيات، وفي الكتب الخاصة بالناسخ والمنسوخ في القرآن، ولا شيء عن الكرد في الأحاديث التي وردت فيها معلومات لها صلة بآية (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ)، ثم إن الآية تذكر أن الله ألقى على كرسي سليمان جسداً، ولم تذكر أن ذلك الجسد كان شيطاناً، فما هي العلاقة بين الجسد والشيطان؟ وما هو المصدر الذي اعتمد عليه مخترعو هذه الرواية؟

الملاحظة الرابعة: وقف علماء التفسير حائرين أمام تفسير الآية الخاصة بسليمان والكرسي والجسد، وكما هي عادة أغلبهم في مثل هذه الأمور المُلْبِسة لم يمتلكوا الجرأة على أن يقولوا: (لا نعلم)، وإنما لجأوا إلى التفسيرات الأسطورية، واستعانوا بعالم اللامعقول، وأكتفي بذكر ما أورده ابن جَرِير الطَّبَري في هذا الشأن، فهو – بالقياس إلى غيره- من المفسرين المشهود لهم بالتحري والدقة، وإليكم خلاصة ما ذكره:

كان لسليمان مئة امرأة، وكانت إحداهن، واسمها جَرادة، أحبّك نسائه إليه، وكان إذا أجنب أو أراد قضاء الحاجة يخلع خاتَم المُلك، ولا يأتمن عليه أحداً من الناس غيرَ جَرادة، وذات يوم خلع الخاتَم وأعطاه لجَرادة، ودخل لقضاء الحاجة، فانتهز الشيطان الفرصة، وتمثّل في صورة سليمان، وقال لجرادة: هاتي الخاتم. فأعطته باعتبار أنه سليمان، وذهب الشيطان المتنكّر في شكل سليمان، وجلس على عرش المُلك، وصار سيّد القصر بما فيه من نساء سليمان، وأصبح الآمر الناهي في المملكة.

وبعد أن قضى سليمان الحاجة، طلب من جرادة أن تعطيه خاتمه، فقالت له: ألم تأخذه؟ فقال: لم آخذه. فأنكرت عليه ذلك، وصار سليمان الحقيقي متهماً بأنه محتال يزعم أنه سليمان، فخرج من القصر تائهاً، وظل الشيطان يحكم في المملكة أربعين يوماً. لكن كبار فقهاء بني إسرائيل أنكروا عليه أحكامه، وشكّوا في أمره، وأتوه ذات يوم وقد نشروا التوراة (كتاب الله)، وقرأوه عليه، فطار الشيطان من بين أيديهم حتى وقع على شُرفة والخاتم معه، ثم طار حتى ذهب إلى البحر، فوقع الخاتَم منه في البحر، فابتلعه حوت من حيتان البحر.

أما سليمان الحقيقي فقد تشرّد واشتد جوعه، فطلب من صيادي البحر أن يطعموه من صيدهم، وقال لهم: إني أنا سليمان. فسخروا منه، وضربه بعضهم فشجّ رأسه، فلام الصيادون زميلهم، وأعطوا سليمان سمكتين كانتا قد تعفّنتا، فوجد خاتمه في بطن إحداهما، فلبسه في إصبعه، فردّ الله عليه مُلكه، وعاد إلى قصره، وباشر الحكم كالسابق، وسخّر الله له الريح والشياطين يومئذ، ولم تكن سُخّرت له قبل ذلك، وأمر بإلقاء القبض على الشيطان، فوُضع في صندوق من حديد، ثم أُطبق عليه فأُقفل عليه بقفل، وخَتم سليمان عليه بخاتَمه، ثم أمر به، فأُلقي في البحر، فهو فيه حتى تقوم الساعة. (تفسير الطبري، ج 23، ص 159).

الملاحظة الخامسة: لم يأت بقية المفسرين بجديد في هذا المجال، وظلوا يدورون في فلك التفسير الأسطوري، واختلفوا في اسم الجني (الشيطان) فهو تارة (حَبْقيق)، وأخرى (صَخْر)، وثالثة (آصَر)، ورابعة (آصَف). وثمة تفسير آخر أورده القُرْطُبي، وخلاصته أن سليمان كان قد فرض أعمال السخرة على الشياطين، ولمّا وُلد لسليمان ولد اسمه (جَسَد) " اجتمعت الشياطين، وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ابنٌ لم نَنْفَكّ مما نحن فيه من البلاء والسُّخرة، فتعالَوا نقتلْ ولده أو نُخبله [= نصيبه بالجنون]. فعلم سليمان بذلك فأمر الريح حتى حملته [= الولد] إلى السحاب، وغدا ابنه في السحاب خوفاً من مضرّة الشياطين، فعاقبه الله بخوفه من الشياطين، فلم يَشعر إلا وقد وقع [= الولد] على كرسيّه ميتاً ". (القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 15، ص 201).

الملاحظة السادسة: اقتبس المفسرون هذه المعلومات الخرافية مما كان يرويه بعض المتخصصين في المزج بين الواقع والخرافة، ويرتزقون بها، من أمثال وَهْب بن مُنَبِّه، ومحمد بن إسحاق، وطاوُوس بن كَيْسان، ويَسار أبو نُجَيْح، ومُجاهد بن جَبْر، وإسماعيل السُّدّي، وشَهْر بن حَوْشَب، وكلهم من الموالي، ومعظمهم من أصل فارسي، أو من حملة الثقافة الفارسية قبل الإسلام، وكما هي عادتهم كانوا ينسبون تلك الروايات إلى بعض كبار الصحابة من أمثال عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عبّاس، وأبي هُرَيْرة، كي يتم تسويقها على نحو أفضل، ولإيهام الناس بأن ما يروونه هو حقائق لا شك فيها.

الملاحظة السابعة: تنبّه سيّد قُطْب- وهو من كبار المفسرين في القرن العشرين- إلى حيرة المفسرين القدامى في تفسير الإشارتين الواردتين بشأن (الصافِنات الجِياد) و(الجسد) الذي أُلقي على كرسيّ سليمان، فقال:

" كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأيّ تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما. فهي إما إسرائيليات منكَرة ، وإما تأويلات لا سَند لها، ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي، فأصوّره هنا وأحكيه ". (سيد قطب: في ظلال القرآن، ج 23، ص 99).

وأضاف سيّد قطب أنه لم يجد في الموروث الديني دليلاً يحمله على الثقة بما جاء في تفسير أمر (الصافنات الجياد) و(الجسد)، سوى حديث نبوي، رواه أبو هريرة، وأخرجه البُخاري في صحيحه مرفوعاً (يتصل سنده بالنبي)، وأضاف قائلاً: " ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة ". (سيد قطب: في ظلال القرآن، ج 23، ص 99).

ونص الحديث الذي أشار إليه سيّد قطب هو:

" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ سُلَيْمَانُ لَأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً [=أجامع]، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ [= نصف] رَجُلٍ. وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ[= أقسم بالله] ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ ". (صحيح البخاري، ج 7، ص 281).

وعلّق سيّد قطب على الحديث بقوله:

" وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا، وأن يكون (الجسد) هو هذا الوليد الشِّق ". (سيد قطب: في ظلال القرآن، ج 23، ص 99).

والخلاصة أن سيّد قطب لم يصدّق قصة الشيطان/ الجن (الجسد).

الملاحظة الثامنة: قد يقال: بما أن للأمر صلة بالنبي سليمان، وهو نبي عبراني، فمن المحتمل أن يكون أصحاب هذه الرواية اقتبسوها من (الإسرائيليات). والحقيقة أننا أخذنا هذا الاحتمال في الحسبان، وعدنا إلى سيرة النبي سليمان في التوراة (العهد القديم)، بدءاً من ولادته وحتى وفاته، فلم نجد فيها أي ذكر لا للكرد، ولا للجن، ولا أي ذكر لشيء اسمه (الجسد)؛ سواء أكان شيطاناً أم غير شيطان.  

وخلاصة ما جاء في التوراة بشأن افتتان النبي سليمان هو ما يلي:

أطلّ النبي داود من على سطح قصره، فوجد امرأة جميلة جداً تستحمّ، فعشقها، وسأل عنها، وعرف أنها (بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ)، زوجة أحد قادة جيشه المخلصين واسمه (أُورِيّا الحِثّي)، وكان في جبهة القتال، فأمر داود بإحضار المرأة، وضاجعها، فحبلت المرأة بعد حين، وأخبرت داود بذلك، ثم تحايل داود على أوريّا، وأمر بأن يكون في مواجهة بني عَمُّون الشديدي البأس (في شرقي الأُردنّ) كي يُقتَل، وقُتل أوريّا فعلاً، فتزوّج داود امرأته، وكان سليمان هو ابنها الثاني من داود. (انظر العهد القديم، سفر صموئيل الثاني، الأصحاح الحادي عشر، الآيات 1- 27).

ولما صار سليمان ملكاً على بني إسرائيل بعد وفاة والده أقام علاقات طيبة مع جيرانه، ووطّد تلك العلاقات بالزواج من بنات الأسر الحاكمة في البلدان المجاورة، فتزوج ابنة فرعون مصر، ومن العَمُونيّات والأَدُومِيّات (في شرقي الأُردنّ)، ومن الفينيقيات والحِثّيّات، ولم يُجبر زوجاته الأجنبيات على ترك أديانهن، وسمح بإقامة معابد للإلهة عَشْتَروت وللإله مُولوك وللإله كَمُوش، وكانت زوجاته الأجنبيات يمارسن الطقوس الخاصة بآلهتهن، فغضب (يَهْوَه) إله العبرانيين على سليمان، وأنذره بأنه سيعاقبه بتمزيق مُلكه، ولكن ليس في حياته، وإنما في عهد ابنه رَحُبْعام، وكان كذلك. (انظر العهد القديم، سفر الملوك الأول، الأصحاح الحادي عشر، الآيات 1 – 11، والأصحاح الثاني عشر، الآيات 1- 20).

هذه هي قصة سليمان، ولا مكان فيها لا للجسد، ولا للشيطان، ولا للكرد.

تحليل الرواية الثانية

قال الفقيه الإمامي (الاثنا عشري) الكُلِيني:

" عن أبي الربيع الشامي، قال: سألت أبا عبد الله [= الإمام جعفر الصادق] عليه السلام، فقلت: إن عندنا قوماً من الأكراد، وأنهم لا يزالون يجيئون بالبيع، فنخالطهم ونبايعهم. فقال: يا أبا الربيع، لا تخالطوهم، فإن الأكراد حيٌّ من أحياء الجن كشف الله عنهم الغطاء، فلا تخالطوهم ".(الكافي، ج 5، ص 158).

وقال الكُلِيني أيضاً:

" عن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله [= الإمام جعفر الصادق] عليه السلام: ولا تُنكحوا الأكراد أحداً، فإنهم من جنس الجن كشف الله عنهم الغطاء ".(الكافي، ج 5، ص 352، باب من كره مناكحته).

الملاحظة الأولى: أُسندت الرواية إلى شخصية ذات مقام رفيع جداً في التراث الإسلامي عامة، وفي التراث الشيعي خاصة؛ ألا وهو الإمام جعفر الصادق (ت 148 هـ = 765 م) وهو ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وترتيبه السادس في سلسلة الأئمة الاثنا عشرية (الإمامية)، وهو الجد الأكبر لمن بعده من أئمة هذا المذهب.

ومن المفيد أن نأخذ في الحسبان هنا أن مفهوم (الإمامة) عند أهل الشيعة هو غيره عند أهل السنة، فمصطلح (الإمام) عند السنة متعدد الدلالات، يُطلق على من يؤمّ الناس في الصلاة (إمام المسجد)، وعلى العالم المتبحر في علوم الدين، كالإمام أبو حامد الغَزالي، وعلى مؤسس المذهب، كالإمام أبي حنيفة النُّعمان، والإمام مالك بن أَنَس، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حَنْبَل، وهم في النهاية أناس غير معصومين، يمكن أن يختلف المرء معهم، ولا يأخذ بقول من أقوالهم. أما (الإمام) عند الشيعة فهو معصوم، ولا يجوز الخروج عن أوامره ونواهيه؛ ومن هنا تأتي خطورة تنسيب الكرد إلى الجن في الرواية المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق.

الملاحظة الثانية: لم أعرف بدقة المكان الذي كان يعيش فيه أبو الربيع الشامي، لكن يُفهم مما رواه أنه كان يقيم في العراق على تخوم كردستان، وهو من كبار رجالات الشيعة الجعفرية (الاثنا عشرية)، وعندما يتوجّه رجل مثله بطلب الفتوى من كبير أئمة عصره (جعفر الصادق) بشأن التعامل مع الكرد، فذلك يعني أنه كان ثمة جدل ولَغَط بين عامة الناس في موطنه حول هذا الأمر، ويعني أيضاً أنه كان ثمة فريق يبيح التعامل مع الكرد، وكان فريق آخر يحرّم التعامل معهم، وبات مطلوباً من كبار علماء الشيعة من أمثال أبي الربيع الشامي حسم الموضوع، واحتار أبو الربيع وأقرانه في المسألة، فطلبوا الفتوى من المرجع الأكبر الإمام جعفرالصادق.

الملاحظة الثالثة: إن أبا الربيع طلب الفتوى بخصوص قوم معيّنين من الكرد، كان هو وجماعته يتعاملون معهم بيعاً وشراء، لكن المفاجأة أن فتوى الإمام جعفر جاءت عامة، إذ أفتى بأن الكرد جميعهم (الجنس الكردي) من الجن أصلاً، وصرّح بذلك من خلال عبارتين (حيّ من أحياء الجن، من جنس الجن)، وبذلك يكون قد أكّد أن الأمر لا يتعلق بالفرع (قوم من الكرد)، وإنما هو متعلق بالأصل (جنس الكرد).

الملاحظة الرابعة: معروف في التراث الديني الإسلامي أن الجن نوعان:

1 - جنٌّ مؤمنون (مسلمون)، آمنوا برسالة النبي محمد، واستمع فريق منهم إلى القرآن، وهم الذين قال فيهم القرآن: ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا {1} يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا {2} ). (سورة الجن/ الآيتان1- 2).

2 - جنُّ مشركون (كفّار)، وقد جاء في القرآن على لسانهم: ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا {14} وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا {15} ). (سورة الجن/ الآيتان141- 15).

ويفهم من فتوى الإمام جعفر أن الكرد من الجن المشركين (الكفّار)، ولذلك لم يكتف بتحريم التعامل معهم بيعاً وشراء، وإنما أفتى بتحريم مخالطتهم بشكل عام، كما أفتى بتحريم مناكحتهم؛ ومن المفيد أن نأخذ في اعتبارنا أن الإسلام لا يمنع التعامل مع المشركين (الكفّار) بيعاً وشراء، أما مع الكرد فالتحريم شامل، وهذا يعني أن الكرد كفّار من طينة خاصة.

الملاحظة الخامسة: الكُلِيني هو أبو جعفر محمد بن يعقوب الكُليني الرّازي، من كبار فقهاء الشيعة الإمامية (الاثنا عشرية/الجعفرية) ومن مشاهير المصنّفين في مذهبهم، توفي في بغداد سنة (328 هـ = 940 م)، ودفن فيها، وأصله من قرية اسمها (كُلِين) كانت تابعة لمدينة الرّي (تقع آثارها قرب طهران)، وصفه الحافظ الذَّهَبي في كتابه (سِيَر أعلام النبلاء) بقوله: " شيخُ الشيعة، وعالِمُ الإمامية، صاحبُ التصانيف ". (انظر الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 15، ص 280. الزركلي: الأعلام، ج 7، ص 145). وحينما ينقل فقيه كبير مثل الكُليني رواية أبي الربيع الشامي عن الإمام جعفر الصادق، ولا يشكّك فيها- أقصد في رواية الشامي- فذلك دليل على أن تنسيب الكرد إلى الجن كان أمراً لا جدال فيه.

تحليل الرواية الثالثة

قال الراغب الأصبهاني:

" ذُكر أن عمر بن الخَطّاب رضي الله عنه روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: الأكرادُ جيل الجن كُشف عنهم الغطاء! وإنما سُمُّوا الأكراد لأن سليمان عليه السلام لمّا غزا الهند، سَبى منهم ثمانين جارية، وأسكنهم جزيرة، فخرجت الجن من البحر فواقعوهن، فحمل منهم أربعون جارية، فأُخبر سليمان بذلك، فأمر بأن يخرجن من الجزيرة إلى أرض فارس، فولدن أربعين غلاماً، فلما كثروا أخذوا في الفساد وقطع الطرق، فشكَوا ذلك إلى سليمان. فقال: اكردوهم [= اطردوهم] إلى الجبال! فسُمُّوا بذلك أكراداً ". (محاضرات الأدباء، ج 1، ص 160).

الملاحظة الأولى: إن رواية تنسيب الكرد إلى الجن أُسندت إلى الشخصية الإسلامية الأعظم أهمية (النبي محمد)، وإلى الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب، ومعروف أنه من كبار الشخصيات العربية الإسلامية ذات الأهمية، ومن رجال الصف الأول بعد النبي محمد في التراث الإسلامي.

الملاحظة الثانية: يستفاد من هذه الرواية أن تنسيب الكرد إلى الجن لم يكن وَقفاً على كبار شخصيات الشيعة، وإنما تحدّث عنه أيضاً كبار شخصيات السنّة من أمثال عمر بن الخطّاب، وهذا يعني أنه ثمة (إجماع) بين كبار علماء المسلمين على هذا التنسيب، مع اختلاف طفيف في الفروع.

الملاحظة الثالثة: قَرنت هذه الرواية بين وثيقتين: الأولى تنتمي إلى الدين الإسلامي (من خلال النبي محمد والخليفة عمر). والثانية تنتمي إلى اليهودية والمسيحية، باعتبار أن النبي سليمان نبي وملك عبراني، وهو في الوقت نفسه شخصية مبجّلة في التراث الديني المسيحي والإسلامي، وهكذا فإن منتج هذه الرواية يهدف إلى الإيحاء بأنها تمثّل وجهة نظر الأديان السماوية الثلاثة (اليهودية، والمسيحية، والإسلام).

تحليل الرواية الرابعة

نقل شرف خان بَدْلِيسي الروايات العديدة التي وردت في المصادر بشأن أصل الكرد، ومنها الرواية التي تقول:

" قال الحكماء: إن الأكراد طائفة من الجن كشف الله عنهم الغطاء. كما أن بعض المؤرخين يروي أن الشياطين تزاوجوا مع بنات حوّاء، فنشأ منهم الكرد. والعلمُ عند الله، وهو على كل شيء قدير ". (شرف خان البدليسي: شرفنامه، ج 1، ص 57 – 58).

الملاحظة الأولى: جمع شرف خان بين الرواية التي تقول إن الكرد هم من جنس الجن في أصل تكوينهم، وبين الرواية التي تقول بأن آباء الكرد شياطين، وأمهاتهم آدميات، ومعلوم أن للرواية الثانية صلة وثيقة بقصة النبي سليمان والشيطان (الجَسَد)؛ وبذلك يكون شرف خان قد لخّص مجمل ما نُسب إلى تراث الديانات السماوية الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام) بهذا الشأن.

الملاحظة الثانية: لم يكتف شرف خان بمجرد عرض الروايتين، وإنما بدا حيادياً تارة؛ حينما قال: " والعلم عند الله "، ثم بدا وكأنه لا يرى مانعاً من أن يكون أصل الكرد من الجن والشياطين؛ وهذا مفهوم من قوله: " وهو على كل شيء قدير"، أي ليس من المحال أن يحوّل الله بعض الجن إلى شكل إنسي، وأن يخلق نسلاً من التزاوج بين رجال شياطين ونساء آدميات.

الملاحظة الثالثة: المشهور أن شرف خان أمير كردي، وقد ذكر في مقدمة كتابه أنه ألفه " حتى لا يبقى صيت الأسر الكردية ذات الأثر الفعّال في حياة كردستان العامة في حجاب الستر والكتمان " (شرفنامه، ج1، ص 51)، وذكر أن أسرته تنتمي إلى قبيلة (رُوژكي) الكردية المتألفة من تحالف (24) عشيرة كردية (شرفنامه، ج1، ص 339)، وأفرد في كتابه حوالي مئة صفحة لذكر سيرة أسرته، وبناء على ما سبق كان من المتوقَّع أن يقف شرف خان موقفاً عقلانياً واقعياً من هذه الروايات الغريبة بشأن أصل الكرد، ليس دفاعاً عن الحقيقة فقط، وإنما دفاعاً عن أصله الكردي الآدمي على الأقل، ولكنه لم يفعل ذلك.

الملاحظة الرابعة: لعل شرف خان رأى أنه لا ضرر يصيب أسرته إذا كان الكرد من الجن والشياطين، فالرجل قد نأى بأسرته من هذه النسبة المزعجة المنفِّرة، إذ بعد حديثه عن قبيلة رُوژكي عاد فذكر أن أسرته الأميرية لم تكن من هذه القبيلة، وإنما ترجع في أصلها إلى أخوين " من نسل سلاطين الأكاسرة "، كانا يقيمان في خلاط (مدينة قديمة في شمالي كردستان/ شرقي تركيا)، ودعاهما زعماء قبيلة رُوژكي إلى تولّي زعامة القبيلة، ففعلا ذلك (شرفنامه، ج1، ص 340 - 341).

والحقيقة أن لقب كِسرى يرجع في الأصل إلى العهد الميدي، وكان أشهر ملوكهم هو كي أخسار Cyaxares، أو كي خسرو Kai – Khosru ابن فراورت (كي: لقب ملكي يسبق الأسماء)، ويسميه هيرودوت (سياشاريس)، و(كيخسرو) هو الملك الميدي الذي عاش بين سنتي (633 – 584 ق.م)، وحرر الميديين من الغزاة الاسكيث (السكيث) أولاً، ثم قضى على الدولة الآشورية سنة (612 ق.م)، وحرر جميع شعوب غربي آسيا من سطوتها؛ وقد فصّلت القول بشأن حقيقة اسم لقب (كسرى) في الحلقة الخاصة بهذا الملك الميدي في سلسلة (مشاهير الكرد في التاريخ). (انظر هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 80. ول ديورانت: قصة الحضارة، ج 2،  ص 401. طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 40 – 41).

ولكن بعد أن قضى الفرس الأخمين على الدولة الميدية، نسبوا التراث الحضاري الميدي إلى الفرس، بما فيه ألقاب الملوك، وعملوا بكل وسيلة لطمس كل ما يشير إلى الحضور الميدي في تاريخ غربي آسيا، وكانت النتيجة أن الأصل الميدي للقب (كسرى) غاب، وحلّت محله الصيغة الفارسية، ولما جاء الإسلام، دخلت الصيغة الفارسية إلى التراث العربي الإسلامي، وصار لقب (الأكاسرة) في المصادر وقفاً على ملوك الفرس.

الملاحظة الخامسة: لا نشك في أن الأمير شرف خان كردي الأصل، لكنه ربيب ممتاز للتراث الغرب آسيوي، وذاكرته جزء من الذاكرة الغرب آسيوية التي صاغتها النخب الإمبراطورية وفق تطلعاتها، وكان الكرد- معظم الأحيان- في الطرف النقيض من تلك التطلعات، وما كانت النخب الإمبراطورية تعترف بالحضور الكردي إلا بمقدار ما كان الكرد يقدمون من خدمات سياسية وعسكرية وثقافية للمشاريع الإمبراطورية، وبقدر ما كانوا يستميتون في الدفاع عنها، ويغفلون عن حقيقتهم وعن مشروعهم.

إننا على ضوء هذه الحقائق نفهم رغبة شرف خان في تنسيب أسرته إلى الأكاسرة (الفرس)، وعلى أية حال هو ليس الكردي الوحيد الذي اختار هذا التوجّه، فإن في تاريخ الكرد قديماً وحديثاً كثيرين من الزعماء والمشاهير الكرد الذين تبرّأوا من النسب الكردي، ونسبوا أنفسهم إلى عائلات فارسية كسروية، أوعربية هاشمية، وربما طورانية سَلجوقية عثمانية، ولِم لا يفعلون ذلك وقد أصبح اسم الكرد مقروناً في الذاكرة الإسلامية عامة، وفي الذاكرة الغرب آسيوية خاصة، ليس بالتخلف والجلافة فقط، وإنما صار مقروناً بالأبلسة أيضاً؟

أَبْلَسَة الكرد

إن الباحث- وهو يتفحّص الروايات التي نسبت الكرد إلى الجن والشياطين- يجد نفسه أمام مشروع غريب حقاً، هدفه الأساسي والصريح هو ( أَبْلَسة )الكرد، وبطبيعة الحال ثمة جهات إقليمية (غرب آسيوية) معيّنة صممت هذا المشروع، وليس ثمة مشروع يتم تصميمه إلا وتكون هناك أهداف محدّدة يراد تحقيقها في النهاية، وليس ثمة من يقوم بتصميم مشروع إلا ويكون قد وضع آليات تنفيذه.

والمشاريع أنواع ومستويات: منها ما هو تكتيكي ومنها ما هو ستراتيجي، ومنها ما هو قصير الأمد، ومنها ما هو طويل الأمد، ومنها ما هو خاص بمجال معيّن، ومنها ما هو شامل. وبمراجعة مشروع (أبلسة) الكرد يتضح أنه مشروع ستراتيجي وشامل ومفتوح إلى أبد الآبدين.

وكان القائمون على مشروع أبلسة الكرد يعرفون جيداً خصائص الذهنية الغرب آسيوية، فهي ذهنية دينية في الدرجة الأولى، إنها لا تستطيع أن تعي العالم وتتعامل معه إلا عبر المداخل الدينية، والدين بالنسبة إليها كالهواء موجود في كل شيء، إنه موجود في السياسة والاقتصاد، وفي الآداب والفنون، ولذلك حرص مصممو مشروع الأبلسة على إنتاج المشروع بصناعة (ماركة) دينية، وحرصوا على تسويقه دينياً أيضاً.

إن الكرد – حسب مشروع الأبلسة- جن كفّار تارة، ومن نسل الشياطين تارة أخرى، والشهود على ذلك ليسوا أناساً عاديين، إنهم كبار ممثلي الأديان السماوية في غربي آسيا؛ فثمة النبي العبراني سليمان، وثمة النبي العربي محمد، وثمة أحد كبار شخصيات السنّة الخليفة عمر بن الخطّاب، وثمة كبير أئمة الشيعة الإمام جعفر الصادق، وثمة فقيه الشيعة الكُلِيني، وثمة (الحكماء) حسب رواية شرف خان، وبعد كل هؤلاء الشهود كيف يمكن للكرد أن يفلتوا من قبضة مشروع الأبلسة؟

وبطبيعة الحال ما كان يهم أصحاب مشروع (أبلسة الكرد) أن يلتزموا ضوابط المعقول (ما يقتضيه العقل)، كما أنهم لم يجدوا مانعاً من الالتفاف على صريح المنقول (النص الديني)، وتوظيفه بما يخدم أهدافهم، بل يبدو لنا أنهم لعبوا في هذا المجال لعبة فيها الكثير من الدهاء، ونفّذوها على مرحلتين:

1 – في المرحلة الأولى: تم تنفيذ عملية (الأَسْطَرة)؛ إذ دسّوا في التراث الديني الغرب آسيوي، بصورته الأخيرة (الأديان السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام)، روايات خرافية أسطورية، ونسبوها إلى كبار الشخصيات الدينية المبجّلة (النبي سليمان، النبي محمد، ابن عبّاس، أبو هُريرة، الإمام جعفر الصادق، إلخ)، وضمنوا بذلك السيطرة على مداخل الوعي للجماهير المسلمة، وتغييب آليات التعقيل والتحليل، وإخضاع تلك المداخل لسلطة (النص الديني) المدسوس.

2 – في المرحلة الثانية: تم تنفيذ عملية (الأبلسة)، من خلال الارتكاز على قاعدة (الأسطرة)؛ إذ من المحال أن تجد عملية (الأبلسة) لها موقعاً في الوعي إلا ضمن إطار (الأسطرة)، وهذا هو سر بقاء الروايات الدائرة حول أبلسة الكرد طوال ستة قرون، وعدم شعور من نقلوها بالحرج العقلي والأخلاقي.

ولن نقف الآن عند الجهات التي كان من مصلحتها إنتاج مشروع الأبلسة هذا، ولعلنا نكون قادرين على ذلك حينما ننتهي من استكشاف بقية الجوانب الغامضة في هذا الموضوع، ودعونا نحصر اهتمامنا في النتائج المترتبة على هذا المشروع، وهي كثيرة ومتشعّبة، ولعل أبرزها ما يلي:

1 - الكرد على الصعيد الإثني سلالة غير آدمية الأصول، إنهم سلالة جنية وكائنات مستنسَخة مشوَّهة، وليس هذا فحسب، بل إنهم سلالة شيطانية مقيتة ومنبوذة.

2 - الكرد على الصعيد الاجتماعي مخرّبون، وقطّاع طرق، وأشرار، وأعداء للحضارة، لا يصلحون سوى للسكنى في الجبال الوعرة، بعيداً عن البشر الأسوياء، ولا تجوز مخالطتهم، كما لا يجوز التعامل معهم لا بيعاً ولا شراءً ولا تزاوجاً.

3 - الكرد على الصعيد الديني بعيدون عن الله، خارجون عن طاعة أنبياء الله، وبتعبير آخر: هم أعداء الله والأنبياء والصالحين.

4 – بناء على التوصيفات السابقة يصبح من الطبيعي أن يتم تجريد الكرد من حقوق النسل الآدمي، ويصبح من المباح التعامل معهم على هذا الأساس طرداً وتهميشاً وتغييباً وتقتيلاً.

وهكذا فإن مشروع (أبلسة الكرد) لم يكن جهلاً ولا غفلة، ولم يكن فكاهة ولا زلّة لسان، وأخطر ما فيه أنه يطعن في أصل الكرد، ولا يخفى أن الطعن في أصل شعب ما يعني الطعن في هويته من الأبد إلى الأزل، ويعني الطعن في جميع أجيال ذلك الشعب على مر القرون، ولا تعود المسألة مسألة أفراد يمكن إصلاحهم، أو شرائح يمكن تهذيبها، أو مظالم يمكن دفعها، وبعد أن أُدخل الكرد في خانة (الأبلسة) هل

 ينفع الكردي أن يصبح (مُوبَذ مُوبَذان) الزردشتي، أو (الحبر الأعظم) البابوي، أو (شيخ الإسلام) السُنّي، أو (آية الله) الشيعي؟

-   -   -   

توضيحات:

1 -  لم أتمكن من معرفة سيرة الفقيه الشيعي أبي الربيع الشامي، وأرجو ممن يعرف شيئاً عن هويته تزويدي بذلك مشكوراً.

2 – كنت قد ذكرت في الحلقة (1) من هذه السلسلة أن (أبا عبد الله) الوارد في رواية الكُليني هو (الإمام الحسين بن علي)، باعتبار أن كنيته (أبو عبد الله)، وقد تفضل الأخ الدكتور مهدي كاكائي بتصويب الخطأ، وأفاد أن (أبا عبد الله) في تلك الرواية هو الإمام جعفر الصادق، وبالعودة إلى المصادر اتضح لي أن ما ذكره الدكتور مهدي هو الصواب، فله مني الشكر الجزيل.

3 – المشهور في كتب التراث الفارسي والإسلامي أن الأسرة الساسانية فارسية الأصل، وصحيح أن الطبري أورد في تاريخه عبارة أردوان الأشگاني: "أيها الكردي المربّى في خيام الأكراد " مخاطباً أَرْدَشير بن بابك مؤسس الأسرة الساسانية الحاكمة، لكن الأرجح أن ذلك كان في معرض الانتقاص والشتم، ولا سميا أن النخب الفارسية الحاكمة، بعد أن قضوا على الدولة الميدية، صوّروا الكرد على أنهم بداة متخلفون أجلاف. ومع ذلك ذكر أكثر من باحث كردي أن الأسرة الساسانية كردية الأصل، وفي رسالة له إلي منذ عهد قريب لم يستبعد الأخ الدكتور مهدي كاكائي صحة ذلك، ورأى ألا نجزم بفارسية الساسانيين، وأفاد أنه يتابع الموضوع. فله الشكر والتقدير.     

المراجع

1.    البخاري: صحيح البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى،  1992.

2.    الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شُعَيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1982.

3.    الإمام الرازي: تفسير الرازي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1981.

4.    الراغب الأصبهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، د. م، د. ن، 1970.

5.    الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1986.

6.    سيد قطب: في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، 1967.

7.    شرف خان البدليسي: شرفنامه في تاريخ الدول والإمارات الكردية، ترجمة محمد علي عوني، دار الزمان للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 2006.

8.    الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، القاهرة، 1968.

9.    الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1979.

10.      القُرْطُبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967.

11.      الكتاب المقدس، العهد القديم: دار الكتاب المقدس في العالم العربي.

12.  الكليني: الكافي، نقلاً من: سيد حسين الحسني الزرباطي: الكورد الشيعة في العراق، ط2، 2007، موقع جلجامش. وكتاب الكافي غير متوافر بين يدي.

13.  المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973.

14.      هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.

15.      ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957- 1958.

وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة

د. أحمد الخليل   في 17 – 1 -  2009

dralkhalil@hotmail.com

 ===

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة السابعة )

الكرد في أسطورة الضحّاك / الأزدهاق: (2- بحث عن الحقيقة)

 

 

 الإله مولوخ

جاء في كتب التاريخ أن الإله الفينيقي بَعْل مُولُوخ (مُولُوك) كان شَرِهاً إلى الدماء، مُغرَماً بالقرابين البشرية، وخاصة الأطفال، إن حرقهم على مذبحه كان يرضيه، فيُنزل بركاته على أتباعه، ولمّا استولى الآشوريون على العاصمة الفينيقية صُور (في جنوبي لبنان)، في عهد الملك الفينيقي بيجماليون (820 – 774 ق.م)، رحل بعض الفينيقيين إلى شمالي إفريقيا، واستقروا في شمالي تونس، وأسسوا هناك مدينة قرطاجة (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 76).

ونقل الكهنة الفينيقيون معهم إلههم بَعْل مولوخ إلى قرطاجة، وكان من البديهي أن تنتقل معه طقوسه أيضاً، ومنها حرق الأطفال، ولما حاصر الجيش الروماني قرطاجة سنة (307 ق.م) أُحرق على مذبح الإله مولوخ مئتا غلام من أبناء أرقى أسر المدينة، وأقيم احتفال فخم بهذه المناسبة، وكي لا يسمع الآباء والأمهات وبقية الجمهور صراخ الأطفال وهم يحترقون، رتّب الكهنة فرقة موسيقية، تقوم بالدق على الطبول والنفخ في المزامير، فضاعت صرخات الأطفال وسط ذلك الضجيج والعجيج. (ول ديورانت: قصة الحضارة، ج 2، ص 61).

والغريب أن فريقاً من منتجي الثقافة في العهود الإسلامية كانوا يمارسون- من حيث يدرون ولا يدرون- نهجاً شبيهاً بما كان ينهجه كهنة الإله مولوخ، وكان ذلك النهج يؤدي في النهاية إلى اغتيال الحقائق بعيداً عن الأنظار والأسماع، وتحت ستار كثيف من الضجيج والعجيج، وهذا النهج واضح الملامح في مجال التفسير والتاريخ واللغة والأدب وبعض كتب البلدان.

آليّات التَّعْمِية

ويعتمد ذلك الفريق آليّات التعمية الآتية، وخاصة في مجال التاريخ:

1 - الآلية الأولى: هي مواجهة المتلقّي- سامعاً كان أم قارئاً-  بضخامة (الكم) أقصد (تنفيخ) الكتاب، فيجد القارئ نفسه دفعة واحدة أمام عدد من المجلدات الضخمة، فيشعر للوهلة الأولى أن السيطرة على هذا (الجبل) المعلوماتي الهائل أمر في غاية الصعوبة؛ إذ من أين له الوقت الكافي لتقليب جميع تلك الصفحات الكثيرة؟ ومن أين له الصبر والجَلَد على فهم واستيعاب تلك المعلومات الغزيرة؟ وتؤدي هذه الآلية وظيفة تهيئة المتلقّي نفسياً لـ(التفكير في الاستسلام).

2 - الآلية الثانية: هي مواجهة المتلقّي بكومة من الروايات، يأخذ بعضها برقاب بعض، ويُنسي آخرُها أوّلَها، وتحوّل هذه الآلية المتلقّي من وضعية (التفكير في الاستسلام) إلى وضعية (الرغبة في الاستسلام)؛ إذ يجد نفسه- وهو يتعامل مع الكتاب الواحد ذي المجلدات العديدة- أمام حشد من الروايات المتداخلة، والمتشابهة حيناً والمتعارضة حيناً آخر، وكثير منها يبدأ بعبارات غامضة عائمة، أبرزها: (زعموا، وفي رواية، وقيل، ويقال، وقالوا، وقال آخرون، وقال بعضهم، وقال بعض الناس، ومن الناس من رأى، ومما رُوي عن السَّلَف، إلخ).

وفوق هذا فإن المؤرخ يعمد إلى تخدير وعي المتلقّي، وإيهامه بأنه يقرأ معلومات موثَّقة، لا سبيل إلى الشك فيها، ولا سيّما حينما يذكر أسماء الرواة، ولنستشهد على سبيل المثال بنهج الطَّبَري في تاريخه، فالرجل أكثر مؤرخي القرن الثالث الهجري حرصاً على توثيق المعلومات، وتمسكاً بالأمانة العلمية، ورغبةً في كسب ثقة القارئ، وكان عُمدة المؤرخين المسلمين بعده، وإليكم بعض مرويّاته:

قال بشأن خَلق الشمس والقمر:

" أما ابن عبّاس فرُوي عنه أنه قال: خلق الله يومَ الجمعة الشمسَ والقمرَ والنجومَ والملائكةَ إلى ثلاث ساعات بقيتْ منه. حدّثنا بذلك هنّاد بن السَّرِيّ، قال: حدّثنا أبو بكر بن عَيّاش، عن أبى سَعْد البقّال، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ". (تاريخ الطبري، ج1، ص 63).

لاحظوا هنا ما يلي:

اعتماد أسلوب (العَنْعَنَة) المتّبَع في روايات الحديث النبوي، ويظهر ابن عبّاس (ابن عم النبي) في سلسلة السند، ويرفع ابن عباس الرواية إلى النبي، وهذا يعني أن الرواية حديث نبوي، وبالعودة إلى كتب الحديث النبوي، ولا سيما الكتب المعتمَدة منها (صحيح البُخاري، صحيح مُسْلِم، سُنَن النَّسائي، سُنن داود، سُنن ابن ماجَة، سُنن التِّرْمِذي)، لا نجد فيها أيّ حديث يتعلق بخَلق الشمس والقمر يوم الجمعة، ثم لاحظوا الإيهام بالدقة العلمية، فالخَلق لم يكن يوم الجمعة فقط، بل تم قبل انقضاء ذلك اليوم بثلاث ساعات.

وبعد أن يجد المتلقّي أن الرواية هي حديث نبوي، وأن في سندها الصحابي الشهير ابن عبّاس، وبعد أن يجد نفسه أمام هذه الشبكة المُحكَمة النسج، ويتعرض لهذا القصف الديني المركَّز، كيف لا يرفع راية الاستسلام؟ ومن أين له أن يفكر حينئذ بأن وجود الأيام والساعات لم يكن إلا بعد خلق الشمس والقمر، وأن من المحال أن يوجد يوم الجمعة قبل وجود الشمس نفسها؟

ثم من أين للمتلقّي أن يعرف حقيقة (عِكْرِمة) الذي يحتكر نقل هذه الروايات عن ابن عبّاس؟ من أين له أن يعرف أن عِكرمة هذا كان عبداً من شعب الأمازيغ (البربر) يُباع ويُشترى ويُهدى، وأوّل ما فعله ابن عبّاس أنه جرّده من اسمه الأصلي، وفرض عليه اسماً عربياً، ثم علّمه ليوظّف قدراته بعدئذ في إذاعة رواياته وترويجها بين المسلمين على مر الأجيال، ولم يُعتقه ابن عبّاس، وظل يستثمر قدراته إلى آخر لحظة، وإليكم ما قاله ابن خَلِّكان في هذا الصدد:

" أبو عبد الله عِكْرِمة بن عبد الله، مَوْلى عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما؛ أصله من البَربر من أهل المغرب، كان لحُصَيْن بن الحُرّ العَنْبَري، فوهبه لابن عبّاس رضي الله عنهما، حين وَلِيَ البَصْرة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، واجتهد ابن عبّاس في تعليمه القرآن والسُّنَن، وسمّاه بأسماء العرب ". (وفيات الأعيان، ج 3، ص 265).

وأضاف ابن خلّكان قائلاً:

" ومات مولاه ابن عبّاس وعِكرمة على الرِّقّ [= العبودية]، ولم يُعتقه، فباعه ولده عليّ بن عبد الله بن عبّاس من خالد بن يَزيد بن مُعاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عِكرمة مولاه عليّاً، فقال له: ما خِيرَ لك، بِعتََ علمَ أبيك بأربعة آلاف دينار؟! فاستقاله وأقاله وأعتقه. وقال عبد الله بن الحارث: دخلت على عليّ بن عبد الله بن عبّاس وعِكرمة مُوثَقٌ على باب  كَنِيف [= بيت الخلاء، مرحاض]، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟! قال: إنّ هذا يكذب على أبي ". (وفيات الأعيان، ج 3، ص 265 - 366).

وكيف لا يفقد المتلقّي توازنه بعد أن يسمع الأقوال المتضاربة التي جاءت في وصف عكرمة، وإليكم بعض ما قيل فيه:

" قال أبو خَلف عبد الله بن عيسى الخَزّاز، عن يحيى البَكّاء: سمعت ابن عمر [= عبد الله بن عمر بن الخطّاب] يقول لنافع [= مولى دَيْلَميّ، أصابه عبد الله بن عمر في غزوة]: لا تكذبْ عليّ كما كذب عِكرمة على ابن عبّاس ". (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 22).

- " عن عثمان بن حَكِيم قال: كنت جالساً مع أبي أُمامة بن سَهْل، إذ جاء عِكرمة، فقال: يا أبا أُمامة، أذكرك اللهَ، هل سمعتَ ابن عبّاس يقول: ما حدّثكم عني عِكرمة فصدّقوه، فإنه لم يكذب عليّ؟ فقال أبو أُمامة: نعم ". (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 16).

- " قال أيوب، عن عمرو بن دِينار: دَفَع إليّ جابر بن زَيد مسائل، أسألُ عِكرمة، وجعل يقول: هذا عِكرمة مولى ابن عبّاس، هذا البحرُ فسَلُوه ". (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 16).

- عن " ابن عُيَيْنَة، عن عمرو سمع أبا الشَعْثاء يقول: هذا عِكْرمةُ مولى ابن عبّاس، هذا أعلمُ الناس ". (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 16).

وإليكم مثلاً آخر من (تاريخ الطبري) بشأن حَوّاء:

" وحدَّثنا ابن حُمَيْد، قال: حدّثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحُصَيْن، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبّاس، قال: كانت حَوّاء تلد لآدم،  فتُعبّدُهم اللهَ عزّ وجلّ، وتسمّيهم عبدَ الله وعُبَيْدَ الله ونحوَ ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليسُ وآدمَ عليه السلام، فقال: إنكما لو تسمّيانه بغير الذي تسمّيانه به لعاش. فولدتْ له ذكراً، فسمّياه عبدَ الحارث، ففيه أنزل الله عزّ ذكره، يقول الله عز وجلّ: (هو الذي خَلَقَكُمْ مِن نَفسٍ واحدةٍ) إلى قوله (جَعَلا له شُرَكاءَ فيما آتاهما) إلى آخر الآية ". (تاريخ الطبري، ج1، ص 148- 149).

لاحظوا هنا ظهور نهج (العَنْعَنة) مرة ثانية، ومرة أخرى يظهر في المشهد ابن عبّاس ومولاه عِكرمة، بل إن هذه الرواية تستظل بآية قرآنية أيضاً، فتصبح أكثر هيمنة على وعي المتلقّي المسلم، وأمام هذا كله من أين للمتلقّي التفكير في مسألة أن اللغة العربية لم تكن موجودة أيام آدم وحوّاء؟ فكيف كانت تسمّي أبناءها (عبد الله، عبيد الله، عبد الحارث) وهي أسماء عربية؟

3 - الآلية الثالثة: هي الخلط بين الواقع والأسطورة، فحينما يجتاز المتلقّي بوّابة المعلومة، ويبدأ التَّجوال في رحابها، يجد نفسه أمام مزيج عجيب من الأخبار والأحداث، فيها ما هو واقعي، لكن قسماً مهماً مما هو واقعي أُلبس عباءات الأساطير والشطحات والخوارق، فأصبح أشبه بالعجائب؛ وحسبنا أن نعود إلى بعض كتب التاريخ في العهود الإسلامية، لنرى فيها كثيراً من الشواهد على التداخل بين الأسطورة والواقع، وخاصة في مجال الأخبار المتعلقة بقصة الخَلق والطوفان وتواريخ بعض الملوك القدماء.

والخلاصة أن المتلقّي يجد نفسه منبهراً بما يقرأ من جهة، ومذهولاً من جهة ثانية، وعاجزاً عن تدقيق النظر في أكوام الروايات من جهة ثالثة، وعاجزاً عن فكّ الاشتباك بين الروايات المتعارضة من جهة رابعة، ويصبح في النهاية بين أحد أمرين: إما التسليم بما قرأ، وإما السكوت على مضض.

وبطبيعة الحال ثمة خيار ثالث، وهو عدم التسليم وعدم السكوت، والإصرار على سماع صرخات الأطفال وهم يحترقون، أقصد الإصرار على معرفة الحقائق، لكن لهذا الخيار ضريبة باهظة جداً من العناء والصبر والوقت. وكلما قرأت قصص آدم ونوح وإبراهيم ونَمُْرود وزَرْدَشت وبُخْتُنَصَّر، وقصص أشباههم من الأنبياء والملوك والمشاهير، في مصادر التراث الإسلامي، وجدت نفسي أمام ذَينك الخيارين الصعبين.

وأعلم أنني أنفق بعض الوقت في أمور قد تبدو خارج نطاق موضوعنا الأساسي (الكرد في التراث الإسلامي)، وأعرّج بين حين وآخر إلى قضايا تتعلق بطرائق تشكّل التراث الثقافي الإسلامي، وتتناول آليات تدوينه وتناقله، لكن أعتقد أن فهم تلك الطرائق والآليات، وتفكيك بناها، وإخضاعها للنقد الموضوعي، هو المدخل الصحيح إلى فهم حقيقة كثير من المعلومات الواردة في مصادر التراث الإسلامي، وتمييز الصواب من الخطأ، وهو المنهج الصائب إلى قراءة تراث غربي آسيا، وإعادة كتابته بشكل صحيح.

عَود إلى قصة الضحّاك

ودعونا نتوجّه من جديد إلى قصة الضحّاك (الأزدهاق)، وهذا يقتضي منا القيام بجولة سريعة في خريطة الأنساب الآريانية حسبما رسمتها النخبة الفارسية قبل الإسلام، وحسبما أُحييت منذ القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) على يدي ابن المقفَّع وأمثاله من أساطين الثقافة الفارسية.

وبعد أن استعرضنا أبرز الروايات المتعلقة بقصة الضحّاك (بيوَراسْب، بيوَراسْف، أَزْدهاق، أَزْدهاك) في الحلقة السابقة، وهي لسبعة من كبار المؤرخين والجغرافيين والموسوعيين، يغطّي حضورهم حوالي خمسة قرون من العهود الإسلامية، وبعضهم فرس أقحاح، وبعضهم خبراء في الثقافة الفارسية، نخرج بالنتائج الآتية:

1 – خمسة من الرواة لم يذكروا الكرد قطّ في قصة الضحّاك، وفيهم أربعة ممّن يصحّ الاحتجاج بآرائهم، وهم: الطَّبَري، والهَمَذاني، والفِرْدَوسي، وابن الأَثير، مع الأخذ في الاعتبار أن روايات الفردوسي في (شاهنامه) هي خلاصة عدد مهم من المصادر الخاصة بالتاريخ الفارسي قبل الإسلام.

2 – أقدم الروايات التي نسبت الكرد إلى عتقاء الضحّاك تعود إلى ابن قُتَيْبَة الدِّينَوَري، وهو أديب ونحوي ولغوي، وليس من المتخصصين في التاريخ، ثم إن الرجل برّأ ذمّته بأن نسب الرواية إلى الفرس (العجم).

3 – الرواية الثانية التي نسبت الكرد إلى عتقاء الضحّاك أوردها المَسْعودي، لكنه دلّل على بطلانها حينما نسب الكرد إلى فرع رَبيعة بن نِزار من العرب العدنانيين (عرب الشمال).

4 – أغلب الروايات التي تتضمن قصة الضحّاك ترجع إلى مصادر فارسية، وتستقي من الذاكرة الفارسية، وفي سلسلة رواتها مؤرخ عربي وحيد، إنه هشام بن محمد بن السائب الكَلْبي، وسبق أن مر في ثَبْت المؤرخين (الحلقة 6 من هذه السلسلة) أنه كان يقتبس معلوماته في هذا المجال من مصادر فارسية ومسيحية نسطورية في مدينة الحِيرة، وليس من مصادر عربية.

5 – إن من أورد من المتأخرين روايات تنسب الكرد إلى نسل عتقاء الضحّاك، من أمثال المَقْدِسي (مطهّر بن طاهر ت بعد 355 هـ = بعد 966 م)، في كتابه (البدء والتاريخ)، والمقْرِيزي  (ت 845 هـ = 1442 م) في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك)، وشَرَف خان بَدْليسي (ت 1013 هـ = 1604 م)  في كتابه (شرف نامه)، إنما كانوا يقتبسون مما جاء في الروايات الفارسية، ثم إنهم كانوا يستخدمون عبارات توحي بالشك في تلك الروايات.

6 – إذا سلّمنا بأن الضحّاك شخصية حقيقية، وأن (الأكراد) من عتقائه، تواجهنا إشكالية جغرافية؛ فالروايات التي ذكرت قصة الضحّاك بالتفصيل أكّدت أن وزيره كان يأمر العتقاء بالذهاب إلى جبل دُنباوَنْد (دُماوَنْد= دَباوَنْد) والإقامة فيه، والحقيقة أن هذا الجبل يقع بين مدينة (رَيْ) غرباً (آثارها قرب طهران الآن) ومنطقة طَبَرِستان شرقاً، وهي مناطق كان يسكنها شعب (الدَّيْلَم)، وليس الكرد. (انظر ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 2، ص 540 - 541).

أضف إلى هذا أن قصة الضحّاك- بهذه الكيفية الغريبة- هي من نسج الخيال الفارسي، وتستحق أن تُصنَّف بجدارة في قائمة الأساطير، وهذا واضح للعيان في مُجريات الأحداث، وهي – أقصد قصة الضحّاك- جزء من خريطة الأنساب التي اختلقتها النخبة الفارسية، بقصد تأصيل الحضور الفارسي في التاريخ، وتمجيد الفرس، وإظهارهم بأنهم أصحاب الفضل في إهداء الحضارة إلى العالم على يدي أُوشهنج (أُوشهنگ، هُوشَنْگ)، وجَمْشيد (جمشيذ)، ولسحب البساط من تحت أقدام بقية الشعوب الآريانية (الآرية) في غربي آسيا، مثل الكرد والبُلُوش والأفغان، وهذا يعني ضمناً أن الفرع الفارسي هو الأجدر بحكم العالم.

إن خريطة الأنساب الفارسية هذه تذكّر المرء رغماً عنه بخريطة الأنساب العبرانية الواردة في التوراة، تلك الخريطة التي تهيمن عليها الأَسْطَرة، والتي تحرص على تأصيل الفرع العبراني وتمجيده ديناً ودنيا، على حساب الفروع السامية الأخرى، كالعرب والسُّريان والكِلْدان وغيرهم، وهذا يعني ضمناً أنه الفرع المختار من الله، والأجدر بالهيمنة على سائر الشعوب.

أَبْلَسة أستياگ الميدي

ثم لا ننس ظاهرة خطيرة في بعض ثقافات غربي آسيا، ولعلها من أكثر الظاهرات خطورة في تاريخ الشعوب الغرب آسيوية، وأكثرها سبباً في جرّ تلك الشعوب إلى الخصومات والحروب والمآسي، وتتلخص تلك الظاهرة في أن تلك الثقافات التوسعية المنطلَقات لا تؤمن لا بالتجاور ولا بالتحاور، وإنما تقوم في الأصل على (إلغاء الآخر)، وهي تنشئ بموازاة مشروعها التوسعي مشروعاً آخر، يهدف إلى شَيْطَنة (أَبْلَسة) الثقافات التي تخالفها أو تعارضها، وكما هي العادة منذ أربعة آلاف عام على الأقل يستظل المشروعان معاً (مشروع التوسّع ومشروع الشيطنة) باسم أحد الآلهة (مَرْدُوخ، آشُور، بَعْل، أَهُورامَزْدا، إيل، إيلُوهِيم، الله).

وبتكريس مشروع (الشَّيطنة) تصبح الثقافة المخالفة شيطانية (إبليسية)؛ أي أنها تصبح رجساً يجب القضاء عليه، ومن الطبيعي والحال هذه أن تنسحب صفة الشَّيْطنة (الأَبْلَسة) على أتباع الثقافة المخالفة، فيصبحون بدورهم شياطين (أبالسة) يجب القضاء عليهم، أو على الأقل إخراجهم من دائرة التاريخ، بتحويلهم إلى مجرد أرقاء لأتباع (الثقافة المقدسة).

وفي إطار هذه الظاهرة تصبح حقيقة أسطورة الضّحاك (أزدهاك) أكثر وضوحاً، فالنخبة الفارسية- مثقفين وساسةً- كانت توظّف أسطورة الضحّاك (أزدهاك) في كل عصر بما يخدم أهدافها الستراتيجية، وكانت تلك الأهداف تتلخّص في إزاحة القوى الكبرى الأخرى الموجودة على الساحة الغرب آسيوية، والسيطرة على مقدَّرات غربي آسيا أرضاً وشعوباً وثروات.

وواضح من المعلومات التي أوردها المؤرخ الأرمني موسى خُورني أن أزدهاك هو (أستياگ)، ملك ميديا الأخير، ويسمّى (أستياگز) Astuages أيضاً، ويسمّيه هيرودوت (أستياجيس)، ولاحظوا سهولة التبادلات الصوتية بين حرفي (س، ز)، وحرفي (ت، د)، وحرفي (هـ، ي)، ورغم أن هذا الملك الميدي كان قد تزوّج أخت الملك الأرمني تيگران (ديگران)، فإن هذا الأخير تعاون مع الملك الفارسي الأخميني كورش الثاني للقضاء على حكم أستياگ. (انظر دياكونوف: ميديا، ص 333. طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 41 - 42).

وهذا يعني أن النخبة الفارسية التي كانت تابعة للدولة الميدية، عندما قررت القضاء على الملك الميدي، وإزاحته عن طريق المشروع الفارسي، والسيطرة على إمبراطورية ميديا، عمدت إلى شَيْطنة (أبلسة) أستياگ، عبر التجسير اللغوي بين اسمه ولقب أزدهاك (أژدهاك= أژدها= التنّين).

وفي إطار مشروع شيطنة أستياگ حيكت قصة الحلم الذي رآه أستياگ في منامه، وخوفُه من أن يقضي عليه حفيده المتوقَّع ولادته (ابن تابعه قَمْبيز الأخميني من ابنته مانْدانا)، وقسوتُه حينما استقدم ابنته مع طفلها إلى القصر، ثم تكليفُه كبير قادة الجيش الميدي هارباگ (آرباگ= آر پاك) بقتل الطفل، ولما اكتشف أن هارباگ قصّر في تنفيذ المهمّة، طلب من الراعي مِيثْرادات إرسال الصبي كورش إلى القصر الملكي، ثم طلب من هارباگ إرسال ابنه الصبي ليلاعب كورش، ثم أمر بقتل ابن هارباگ وطبْخه، وتقديمه طعاماً لوالده، وبعد أن شبع الوالد من لحم ولده، أخبره أستياگ أنه كان يأكل لحم ولده، جزاء له على خيانته في تنفيذ المهمة التي أُوكلت إليه (انظر تاريخ هيرودوت، ص 82 - 88).

وبعد تقديم أستياگ الميدي بهذه الصورة الوحشية المنفّرة المقزّزة كيف لا يتحوّل في الذاكرة الشعبية إلى شخص مقيت وشرير؛ أي إلى شيطان (إبليس)؟ ومن يجرؤ على التعاطف معه؟ وكيف يمكن الدفاع عنه؟ وكيف يمكن لأتباعه الميديين (جدود الكرد) أن يكونوا بمنجاة من تُهمة أنهم أتباع رجل دموي شرير عمل بنصيحة إبليس؟ وكيف يمكن أن يكونوا بمنأى من (الانتقام المقدس)؟

أَبْلَسة الضحّاك العربي

حسناً، لقد عمدت الآلة الدعائية الفارسية إلى تحويل أستياگ إلى (أزدهاك= أژدها) في الذاكرة الآريانية خاصة، وفي الذاكرة الغرب آسيوية عامة، بل وفي تاريخ البشرية أيضاً، لكن ما علاقة (الضحّاك) العربي بهذا المسألة؟

  لا يمكن فهم مسألة إقحام (الضحّاك) العربي في هذه الأسطورة ما لم نأخذ في الحسبان الظروف التاريخية التي نسج فيها الفِرْدَوسي، ومن سبقه من الشعراء الفرس مثل الدَّقيقي وغيره، خيوط هذه الأسطورة، فقد مر في (الحلقة السادسة من هذه السلسلة) أن الذاكرة الفارسية، حوالي منتصف الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، كانت ما تزال عامرة بأمجاد الدُّول الفارسية قبل الإسلام، وصحيح أن العرب المسلمين أسقطوا الدولة الساسانية، وورثوا ممتلكاتها من حدود الهند والصين شرقاً إلى تخوم شبه الجزيرة العربية غرباً، لكن كان من المُحال تفريغ الذاكرة الفارسية من أمجادها القومية.

وبمجرد أن ظهرت الدول الفارسية المستقلة ( الدولة الطاهرية، الدولة الصُّفّارية، الدولة السامانية) في بلاد إيران، خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، هيّأ الساسة الفرس المناخ كي تنشط النخبة المثقفة، وتعيد إحياء ما بقي في الذاكرة الفارسية من رواسب التاريخ القومي، وبما أن ذلك التاريخ كان قد تأسس منذ فجر عصر التكوين على الأساطير- وهذه حقيقة تؤكدها الشاهنامة بوضوح- كان من الطبيعي أن يعاد إحياء تلك الأساطير، وأن تُوظَّف مرة أخرى بما يخدم المشروع القومي الفارسي الناهض.

لكن من هي الجهة التي كانت تقف عائقاً في طريق المشروع الفارسي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)؟ إنها الدولة العربية الإسلامية، ممثَّلة في الخلافة العباسية؛ فكان لا بد – والحال هذه- من تكريس مشروع لشَيْطنة العرب هذه المرة، وكان لا بد من أن تعاد صياغة أسطورة (أژدها= أژدهاك) بما يتناسب مع المشروع الجديد، وفي كل مرة يجد القائمون على مشروع الشيطنة (الأبلسة) آليات كفيلة بتحقيق الأهداف المرسومة، وهذه المرة كان التجسير اللغوي بين الاسم العربي (الضحّاك) واللقب الآرياني (أزدهاك= أزدهاق) هي الآلية المناسبة، وبطبيعة الحال لا يهم صاحب الذهنية الأسطورية أن تتعارض رواياته مع الواقع، فبالنسبة له (الأسطورة) هي (الواقع).

ولتكن رواية الفِرْدوسي هي مصدرنا لتفحّص مشروع شيطنة (أبلسة) العرب، فقد أصبح جَمْشيذ (جمشيد) بن طَهْمُورت بن أُوشهنج (هُوشَنْگ) بن سيامك بن جيُومرت (گيُومرت) هو الملك الرابع الأكبر في سلسلة ملوك الفرس الأوائل، واستكمل جهود والده طهمورت وجدّه أوشهنج في نشر الحضارة، قال الفردوسي يصف حال جمشيد:

" فلما استكمل جميع أسباب العز والرخاء، تجبّر وتكبّر وتسلّط، وتخلّى عن المعونة الإلهية، فاضطرب حكمه، وعمّت الفوضى، ودبّ الذعر، وانتشر الفساد، وهرب العلماء والحكماء، وارتجّت بذلك الأرض والسماء ". (الفردوسي: الشاهنامه، ص 10).

 وماذا كانت النتيجة؟

" انشقّ ملوك الفرس أجمعون عن طاعة ملكهم الأكبر، واستبدّوا في الرأي والمُلك، واجتمعوا إلى الضحّاك ابن ملك العرب، ليخلّصهم من جمشيذ، فما كان منه إلا أن نصب نفسه ملكاً عليهم، وقصد جمشيذ الذي هرب إلى أرض الهند، واختفى ليظهر بعد مرور مئة سنة، فقصده الضحّاك ثانية، وقضى عليه، آمراً قتله بالمنشار بعد حكم دام سبعمئة سنة ". (الفردوسي: الشاهنامه، ص 10).

ومن هو الضحّاك؟

" أما الضحّاك فهذا لقبه، وهو بيوَراسْب بن مِرْداس ملك العرب الذي عُرف بصلاح حكمه، وحبه لشعبه، وهو شابّ يقتني آلاف الخيل المُسرَجة بسروج الذهب والفضة، والمرصَّعة بالجواهر الثمينة، يحب اللهو والطرب والصيد والطَرْد، وكان له من الجن خادم يُدعى إبليس ". (الفردوسي: الشاهنامه، ص 10 - 11).

وإذا سألنا الفردوسي: متى وقعت تلك الأحداث؟ ولماذا أسرع ملوك فارس إلى وضع أنفسهم تحت إمرة ملك عربي للخلاص من جمشيذ، وليس تحت إمرة زعيم فارسي؟ وأين كان الملك العربي مِرْداس يحكم حينذاك؟ فالمعروف أن الملوك لم يوجدوا في بلاد العرب قبل الميلاد إلا في اليمن، وكان ذلك حوالي ألف سنة قبل الميلاد، مع ظهور دولة مَعِين ودولة قَتَبان، ثم دولة سَبَأ، ثم دولة حِمْيَر (صالح أحمد العلي: تاريخ العرب القديم والبعثة النبوية، ص 21، 33.  منذر عبد الكريم: دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 216)، في حين تعود أحداث قصة (الضحّاك) إلى فجر التاريخ البشري. ثم كيف يكون الملك عربياً ويكون اسمه آريانياً فارسياً (بيوَراسْب) أي صاحب عشرة آلاف فرس؟

إن الفردوسي غير معنيّ بالإجابة عن هذه الأسئلة، فباعتباره أحد كبار قادة إيقاظ الروح القومية الفارسية يهمّه أن يوصل الحاضر بالماضي في الذاكرة الفارسية، ويعمل لتحرير الشخصية الفارسية من سلطة الثقافة العربية، عبر شيطنة ( أَبْلَسة) تلك الثقافة، فكان من الضروري استنساخ أزدهاك (أژدها) عربي في شخص (الضحّاك) من الأزدهاك الآرياني الذي كان الملك الميدي (أستياگ) آخر تجلّياته، وكان من الضروري أيضاً تحويل الضحّاك العربي إلى كائن إبليسي دموي، يوظّف أدمغة البشر لخلاصه الشخصي، وكي تتخلّص الشعوب من دموية الضحّاك العربي لا يكون ذلك على يدي منقذ عربي، وإنما يكون المنقذ فارسيّاً من سلالة جمشيد؛ إنه الفتى أفريدون، بتأييد من الفارسي الأصبهاني كاوَه الحداد.

ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء لاكتشاف أوجه الشبه بين المحاور الأساسية في أسطورة الأزدهاك الميدي (أستياگ)، والمحاور الأساسية في أسطورة الأزدهاك العربي (الضحّاك)، ففي القرن السادس قبل الميلاد كان المطلوب إزاحة أستياگ من العرش الميدي؛ لفتح الطريق أمام المشروع التوسعي الفارسي. وفي القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) كان من الضروري إزاحة الأزدهاك العربي (الضحّاك)؛ أي السلطة العربية متمثّلة في (الخلافة)؛ لإحياء المشروع القومي الفارسي بأبعاده الإمبراطورية. وإليكم بعض المقاربات في هذا الشأن:

·      كان أستياگ الميدي ملكاً طيباً، ثم تحوّل إلى طاغية. وكذلك كان شأن الضحّاك العربي.

·  كان أستياگ الميدي كثير الغنى والبذخ، يمتلك آلاف الخيول، محباً للهو والطرب. وكذلك كان الضحّاك العربي.

·  رأى أستياگ الميدي حلماً غريباً فسّره له المنجّمون بأن حفيده الفارسي من ابنته ماندانا سيجرده من السلطة، ويحكم بدلاً منه. وكذلك رأى الضحّاك العربي حلماً غريباً، فسّره المنجّمون بأن طفلاً من سلالة جمشيذ الفارسي سيولد، وسيحكم بدلاًَ منه.

·  حاول أستياگ الميدي قتل حفيده الفارسي فور ولادته. وحاول الضحّاك العربي قتل الطفل أفريدون الفارسي فور ولادته.

·  تدخّلت الأقدار، وأنقذت الطفل كورش الفارسي من القتل، وصار صبياً تظهر أمارات المُلك في ملامحه وتصرفاته. وكذلك نجا الطفل أفريدون من القتل، وظهرت عليه أمارات المُلك منذ الصغر.

·  كان القائد الميدي هارباگ يتعاون سراً مع كورش، ويتآمر على سيّده أستياگ. وفي الشاهنامة مؤشّرات على أن كندرو وزير الضحّاك كان متعاوناً في السر مع أفريدون، ومن تلك المؤشرات قول الفردوسي:

" جلس أفريدون على عرش الضحّاك بين معاونيه وجواريه، ودخل عليه وزير الضحّاك كندرو، فخرّ ساجداً بين يديه، وأطلق لسانه بالدعاء لاستدامة مُلكه العليّ، وتحادثا طويلاً عمّا قاساه الناس من ظلم الضحّاك ". (الفردوسي: الشاهنامه، ص 17 - 18).

·  لما انتصر كورش على أستياگ لم يقتله، واكتفى بإبعاده إلى مقاطعة هركانيا، ووضعه تحت الإقامة الجبرية. ولما انتصر أفريدون على الضحّاك سجنه في جبل دُنباوَنْد.

بحث عن الحقيقة

وكنت أتذكر- وأنا أقرأ أسطورة أزدهاك في الشاهنامه وغيرها- تلك الرواية الشعبية الشائعة بين الشعوب الآريانية، ومنهم الكرد، بشأن الملك المستبد (دهاك)، والبطل الثائر (كاوَه) الحداد، وارتباط تلك الثورة بعيد نَوْرُوز (نُورُوژ) الذي تحتفل به جميع الشعوب الآريانية في (21) آذار/ مارس من كل عام، باعتبار أنه اليوم الذي تم فيه الخلاص من ظلم (دهاك)، وإيقاد النيران مساء ذلك اليوم على قمم الجبال وفي المرتفعات، إما كإشارة لإعلان الثورة، وإما استبشاراً بانتصار الثورة، وهذا ما لم يُذكر في الروايات السابقة.

بلى لست أنسى هذا كله، ولست أنكر أن الخطوط العامة للرواية الشعبية السائدة شبيهة إلى حد كبير بما ورد في المصادر الفارسية، وأرى من الصعب أن تتفق الشعوب الآريانية جميعها، وطوال عشرات القرون، على الاحتفال بحدث لا علاقة له بالحقيقة مطلقاً، وينبغي ألا نرمي بهذه القصة وراء ظهورنا، فإنها لا تخلو من دلالات تاريخية، ومن رموز ميثولوجية، لها صلة بفجر تاريخ الشعوب الآريانية، وجدير بالاهتمام ها هنا أن نأخذ في الحسبان الأمور الآتية:

·  موقع (النار) في الميثولوجيا الآريانية بشكل عام من جهة، ومكانتها في الديانة الزردشتية سليلة تلك الميثولوجيا من جهة ثانية.

·      مكانة (الشمس) في الميثولوجيا الآريانية (الميثرائية)، ومكانتها في سليلتها الزردشتية.

·  حرص الكرد على إشعال النار بُعيد غياب شمس يوم (20) آذار/مارس، ولعل بقية الشعوب الآريانية تفعل ذلك أيضاً، وكأنما ذلك يرمز إلى دحر الظلامية الشريرة المتمثلة في الليل، والإصرار على استمرار النورانية الإلهية المتمثلة في الشمس، بل إن الكرد كانوا يحرصون، حتى عهد قريب، على إشعال النار في المناسبات السعيدة كالأعراس، والقفز من فوقها (رمزية التطهير)، ولعلهم ما زالوا يفعلون ذلك في القرى، وكنت في أيام صباي ممن يفعل ذلك.

·  ارتباط أحداث الصراع مع أزدهاك (الضحّاك) بعيدَين هما أعظم أعياد الشعوب الآريانية: الأول عيد مِهْرَجان، ومعناه عيد (روح الشمس) باعتبار أن (مِهر) اسم (الشمس)، و(جان) تعني (روح)، ولا حظوا هنا أن كلمة (مهرجان) دخلت العربية في وقت مبكّر جداً من العهود الإسلامية، وصارت تعني (احتفال). والعيد الثاني هو عيد نُورُوز.

·   (دهوك) كلمة ميدية تعني صاحب الإقليم (ملك البلاد)، وسُجّلت في المدوَّنات الآشورية بصيغة (دهياوكو)، وهذا يذكّرنا باسم الزعيم الميدي (دِياكو)، وهو أول من بدأ بإعلان الثورة على السلطات الآشورية، ويسمّيه هيرودوت (ديوسيس)، وأخذت كلمة (دهوك) في الپهلوية صيغة (دهاك)، أو (دهيك)، واشتق العرب منها صيغة (دِهْقان)، وهي تعني في التراث الإسلامي (زعيم قرية، زعيم منطقة)  وجمعها (دَهاقِنَة). (مجموعة من الباحثين: كركوك، بحث د. جمال رشيد، ص 169، هامش 2).

·  القرابة الصوتية الوثيقة بين صيغة (دهاك) الآريانية، وصيغة (ضحّاك) العربية، تثير احتمال أن يكون اسم (الضحّاك) العربي تعريباً لكلمة (دهاك) الآرياني، إذ لا يتّسق مع الثقافة العربية، ولا سيّما في مجال إطلاق الأسماء على الذكور، أن يسمّى الرجل (ضحّاك) بدلالته اللغوية العربية التي تعني المبالغة في الضحك (انظر الحلقة السادسة) في حين يتّسق مع الدلالة اللغوية في الأصل الآرياني (الكردي، الفارسي)، إذ تحمل معاني الرفعة والقوة والسيطرة.

·  حرص الفرس في جميع عهودهم الإمبراطورية ليس فقط على إزالة كل ما يتعلق بتاريخ الميديين، وإنما عملوا بكل وسيلة لتشويه صورتهم، وخاصة صورة آخر ملوكهم أستياگ.

·  كلمة (أژدها) بالكردية- وهي من أعرق اللغات الآريانية- تعني (الحيّة الضخمة المرعبة= التنّين)، وربما لها المعنى نفسه بالفارسية أيضاً، ولاحظوا ظهور (حيّتين) في جميع الروايات التي تناولت قصة الضحّاك.

حينما آخذ هذه المعطيات في الحسبان، وأضم إليها ما هو معروف بشأن مسيرة الشعوب الآريانية ميثولوجياً واجتماعياً وسياسياً، أرجّح ما يلي:

1 – توجد تقاطعات دقيقة، في أحداث قصة الضحّاك، بين اثنين من محاور حياة الشعوب الآريانية: محور ميثولوجي، ومحور اجتماعي سياسي، ويتجلّى ذلك في التطابق بين عيدي مهرجان ونوروز، والانتصار على الضحّاك.

2 – الأرجح أن أحداث هذه القصة تعود، في جذورها الأولى، إلى العهد الذي كانت فيه القبائل الآريانية تعيش مجتمعة في وسط آسيا (جنوبي روسيا)، قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولا ننس أن أقدم ما ورد في الأڤستا (الأبستاق) يعود إلى تلك العهود.

3 – بعد أن انتشرت القبائل الآريانية جنوباً وغرباً، وتحوّلت إلى شعوب وقوميات، وتفرّعت من الثقافة الآريانية المشتركة العريقة ثقافات قومية عديدة، تختزنها ذاكرات قومية خاصة، وابتعدت لهجاتها بعضها من بعض، وصارت لغات مستقلة، أخذت هذه القصة طابعاً خاصاً في ذاكرة كل شعب، وأُسقطت عليها إحداثيات مختلفة، كانت في كل مرة نتيجة معطيات تاريخية معيّنة.

4 – بما أن الفرس سيطروا منذ سنة (550 ق.م) على مقاليد الأمور في غربي آسيا، وخاصة في آريانا الكبرى (أفغانستان، والقسم الغربي من پاكستان، وبلوشستان، وفارس، وكردستان، وأذربيجان)، فقد احتكروا إنتاج الثقافة وتسويقها، وفي إطار ذلك أعادوا صياغة بعض المكوّنات الأسطورية في ثقافة آريانا، بما يتناسب مع مشروعهم للهيمنة والتوسع، وسوّقوها في كل عهد بما يخدم أغراض ذلك المشروع، وليست أسطورة الضحّاك إلا نموذج لذلك.

ما وراء الكلمات

وأما ظهور الكرد بصورة العتقاء في أسطورة الضحّاك فيُراد به ما يلي:

1 – الكرد في الأصل سلالة من (العتقاء، الطرداء)، وكان أجدادهم من الأسرى الذي كان يمكن أن يُقتلوا، لولا أن منّ عليهم (الطبّاخ/الوزير) بالحياة.

2 - الكرد ليسوا تكويناً عرقياً واحداً، إنهم مزيج غير معروف الهوية، والدليل على ذلك أن الرواية لا تذكر شيئاً عن هوية أولئك العتقاء، فهم كانوا من خليط شتّى.

3 - الكرد شعب متوحش، مواطنهم الجبال، لا يفقهون أبجدية الحضارة، ولا يمكن أن ينتقلوا من دائرة (التوحش) إلى دائرة (التمدن).

والخلاصة أن ظهور الكرد في أسطورة الضحّاك ليس أمراً فريداً، إنه حلقة في سلسلة الحملات التي دُشّنت في غربي آسيا لتشويه صورة الكرد منذ سقوط دولة ميديا سنة (550 ق.م)، وتسلّلت من بعد إلى مصادر التراث الإسلامي، وأخذت فيها أشكالاً عديدة، من أبرزها مشروع الطعن في (أصل الكرد)، واعتبارهم بشراً من الصنف الرديء. وكان الذين صمّموا هذا المشروع، ونفّذوه في الغاية من الدهاء؛ إذ معروفٌ أن (الفروع) في كل شيء تتبع (الأصول)، ويكفي أن تكون (الأصول) فاسدة، كي تكون (الفروع) فاسدة أيضاً.

وبطبيعة الحال لم يقتصر تعميم صورة الكرد المشوَّهة على الذاكرة الغرب آسيوية فقط، وإنما عُمّمت على ذاكرة الشعوب الإسلامية جميعها، بحكم أن مصادر التراث الإسلامي مبثوثة في بلاد المسلمين جميعها، وكل من يطّلع على تلك المصادر يخرج منها- شئنا أم أبينا- بانطباع سيّئ عن الكرد، وخاصة أن عامّة المسلمين، وقسماً كبيراً من خاصّتهم، يتعاملون مع معظم ما جاء في التراث الإسلامي بقدر كبير من القبول والتسليم، ولا يُخضعونه للفحص والتحقيق.

وعلى أية حال يبدو لنا أن مسألة (شَيطنة) الكرد، من خلال قصة الضحّاك (أزدهاك، أستياگ)، لم تكن أمراً عارضاً، ولا زلّة لسان، ولا ضرباً من العبث، إنها كانت- فيما نجد من مؤشرات وفيما نستشعر- حلقة من مشروع قديم وضخم ومعقَّد، لعلنا نستمر في التنقيب عنه، واستكشاف ملامحه، في الحلقة القادمة.

المراجع

1.           ابن خلّكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1969.

2.           دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.

3.           الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شُعَيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1982.

4.           صالح أحمد العلي: تاريخ العرب القديم والبعثة النبوية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.

5.           الطبري: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.

6.           الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1979.  

7.           الفردوسي: الشاهنامة، ترجمة سمير مالطي، دار العلم للملايين، بيروت،  الطبعة الرابعة، 1986.

8.           مجموعة من الباحثين: كركوك (بحوث الندوة العلمية حول كركوك) 3-5 نيسان 2001، دار آراس للطباعة ولنشر، أربيل، كردستان العراق، الطبعة الأولى، 2002.

9.           الدكتور منذر عبد الكريم البكر: دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام (تاريخ الدول الجنوبية في اليمن)، جامعة البصرة، البصرة، 1980.

10.      ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973.

11.      وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959.

12.      ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990.

وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة

د. أحمد الخليل   في 1 – 1 -  2009

dralkhalil@hotmail.com

 ===

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة السادسة )

الكرد في أسطورة الضحّاك/أزدهاك ( 1- مؤرخون وروايات )

للدكتور أحمد محمود الخليل

 

 

 صور غريبة

استعرضنا في الحلقة السابقة صورة الكرد في الذاكرة العربية قبل الإسلام، واتضح أن المعلومات في هذا المجال كانت قليلة، ومع ذلك ظلت تلك الصورة متماسكة في صدر الإسلام (عهد النبوة والخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر، عمر، علي، عثمان)، وظلت كذلك طوال العهد الأموي أيضاً (40 – 132 هـ)، واحتفظت بتماسكها في العقود الأولى من العهد العباسي، ثم طرأت عليها تحوّلات جديدة، أنتجت في كثير من الأحوال صوراً غريبة عن الكرد، وقدّمت الكرد إلى الأجيال الغرب آسيوية على نحو مشوَّه وفي مشاهد منفِّرة، بل نجد بين أيدينا من المعطيات ما يوحي بأنه كانت ثمة مشاريع قائمة لهذا الغرض خصّيصاً.

ودعونا نتناول بالتحليل أحد مشاريع تشويه صورة الكرد، إنه متمثل في  قصة الضحّاك (الأزدهاق)، لكن قبل ذلك دعونا نقم بجولة مع المؤرخين والمدارس التاريخية ومنهج المؤرخين في التراث الإسلامي، خلال القرون الهجرية الثلاثة الأول؛ لأن تلك القرون تُعَدّ الينبوع المعرفي الذي كان يستقي منه المؤرخون رواياتهم في القرون التالية، وباطلاعنا على مرتكزات الثقافة فيها نصبح أقدر على معرفة الجهة صانعة المعلومة والمروّجة لها، ونصبح أقرب إلى الواقعية في فهم المعلومة، وأقرب إلى المنطقية في الحكم عليها.

مؤرخون ومدارس ومناهج

هناك ثلاث حقائق مهمة جداً في ميدان التعامل مع الروايات المتداولة في مصادر التراث الإسلامي عامة، وفي مصادر التاريخ خاصة.

أولاً - الحقيقة الأولى: تتعلق بهوية المؤرخين المسلمين الأوائل؛ أقصد مؤرخي القرون الهجرية الثلاثة الأولى، كما تتعلق بالمصادر التي كانوا يستقون منها معلوماتهم حول الأحداث الغابرة، وإليكم ثَبْتاً بأسماء مشاهير مؤرخي تلك الفترة:

1. عُبَيد بن شَرِيَّة الجُرْهُمي ( ت نحو 67 هـ = 686 م): من المعمَّرين، أصله من عرب الجنوب (اليمن)، كانت قبيلته جُرْهُم صاحبة النفوذ في مكّة زمن النبي إبراهيم (القرن 19 ق.م)؛ حسبما تقول الروايات الدينية، ويفتقر عُبَيد - أغلب الأحيان- إلى الحس التاريخي الدقيق، ويقع نهجه في رواياته تحت تأثير الأساطير والإسرائيليات، ومع ذلك كان شديد التأثير في الرواة والمؤرخين بعده (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 144 – 145).

2. وَهْب بن مُنبِّه (ت 114 هـ = 732 م): من أشهر مؤرخي القرن الأول الهجري، أمه يمنية من حِمْيَر، وأبوه من المقاتلين الفرس الذين أرسلهم كسرى أنو شروان إلى اليمن سنة (575 م)، لمساعدة الزعيم اليمني سَيف بن ذي يَزَن على دحر الأحباش، وكان الأحباش قد احتلوا اليمن سنة (525 م) (فيليب حتي وآخران: تاريخ العرب ص 98، 101). ويفتقر وَهْب مثل عُبيد إلى الحس التاريخي الدقيق، وتغلب الأسطوريات والإسرائيليات على رواياته، وكان شديد التأثير في المؤرخين بعده، حتى إن الطَّبَري، وهو من أبرز أعلام التأليف في المجال الديني، استمدّ في تفسيره الكبير للقرآن كثيراً من أقاويل وَهْب (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 144).

3. محمد بن إسحاق بن يَسار (ت 151 هـ = 768 م): من الموالى (غير العرب)، وكان جدّه يَسار ممن أُسروا في العراق سنة (12 هـ)، ومعروف أن الفرس كانوا يحكمون الجزيرة قبل غزوات العرب المسلمين، ويقول هاملتون جب في هذا الصدد: " ومن الخطأ أن نبحث عن أيّ مؤثرات سوى المؤثّرات الفارسية البعيدة في المفهوم الذي قام عليه كتاب ابن إسحاق (السيرة النبوية التي هذّبها ابن هشام) ". (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 149).

4. هشام بن محمد الكَلْبي (ت حوالي 204 هـ = 819 م)، نسّابة ومؤرخ عربي، كان يستمد معلوماته مما كان يتوافر في الحِيرة من الكتب، ومعروف أن الحِيرة كانت مركزاً للنصارى النساطرة من ناحية، وكانت تحت النفوذ الفارسي سياسةً وثقافةً من ناحية أخرى، واهتم بجمع الأخبار التاريخية من محفوظات كنائس الحِيرة، كما أنه اعتمد على المواد الفارسية التي تُرجمت له. (هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، ص 147).

5. محمد بن عمر الواقِدي  (ت 207 هـ = 823 م)، وهو من الموالي، ويُعَدّ من أقدم المؤرخين في الإسلام ومن أشهرهم، وهو من حُفّاظ الحديث، وُلد بالمدينة وتوفي بالعراق.

6. أبو عُبَيْدَة مَعْمَر بن المُثَنّى (ت 209 هـ = 824 م)، من الموالي، وأصله من الجزيرة، والمشهور أنه من الفرس، وهو من كبار اللغويين، وكان مهتماً بذكر أخبار التاريخ الفارسي أيضاً، فاتُّهم بالتحامل على العرب، وصُّف في عِداد كبار الشعوبيين (الشعوبيون هم من لا يرى للعرب فضلاً على غيرهم من الشعوب، ويذكرون نقائصهم قبل الإسلام).

7. أبو الحسن المَدائني (علي بن محمد، ت 225 هـ = 840 م): من الموالي، بصري الأصل، أقام في المدائن، فلُقّب بالمدائني، وقد اعتمد الطَّبَري والمهتمون بأخبار المغازي على كثير من رواياته.

8. محمد بن سَعْد (ت 230 هـ = 844 /845 م)، من موالي قبيلة بني زُهْرة القُرَشية، ولد في البصرة، وأقام في بغداد، وهو كاتب الواقدي، وصاحب الكتاب التاريخي الشهير (طبقات ابن سعد)، وقد استفاد في ذلك الكتاب من روايات أستاذه الواقدي.

9. عُمَر بن شَبَّة (ت 262 هـ = 876 م)، من موالي قبيلة بني نُمَيْر، أديب نحوي إخباري لغوي فقيه، نشأ بالبصرة، وتوفّي بسامرّاء.

10. أحمد بن يحيى البَلاذُري (ت 279 هـ = 892 م)، ليس بعربي، والأرجح أنه من كتّاب الفرس، ومن أهل بغداد، وهو مؤرخ جغرافي نسّابة، وأحد المترجمين من الفارسية إلى العربية، تلقّى العلم عن ابن سعد والمدائني، وله كتاب (فتوح البلدان).

11. ابن واضح اليعقوبي (أحمد بن إسحاق ت 284 هـ = 897 م)، مؤرخ جغرافي كثير الأسفار، من أهل بغداد، صاحب كتاب (تاريخ اليعقوبي)، وهو من الموالي، والأرجح أنه فارسي.

12. الطَّبَري (محمد بن جرير ت 310  هـ = 923 م)، أصله من طَبَرستان في شمالي بلاد إيران (جنوبي بحر قزوين)، وهو من ذوي الثقافة الفارسية، " وقد اعتمد الطبري فيما يختص بتاريخ الفرس على ترجمات عربية لكتب فارسية، وخاصة كتب ابن المُقَفَّع، كما استمد من كتب هشام الكَلْبي الذي كان يعتمد في تاريخ ملوك الفرس والحِيرة على وثائق ومدوَّنات، وعوّل في تاريخ الروم على ما نقله من كتب نصارى الشام "، ومر في أثاء حديثنا عن وَهْب بن مُنَبِّه أن الطبري تأثر به. (أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، ص 20 – 21).

(لمزيد من المعلومات راجع: الفِهرِسْت لابن النديم، وتاريخ الإسلام للذَّهَبي، ومعجم الأعلام للزركلي، ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحّالة).

وبتدقيق النظر في منابت هؤلاء المؤرخين إثنياً وجغرافياً وثقافياً يتضح أن المؤثرات العربية في رواياتهم كانت قليلة، وبخاصة حينما كان الأمر يتعلق بأخبار غير العرب قبل الإسلام.

ثانياً - الحقيقة الثانية: تتعلق بالمدارس التاريخية المؤثّرة في إنتاج الأخبار وتسويقها، خلال القرون الهجرية الثلاثة الأولى، فثمة مدرستان رئيستان، كانتا مصدرين لمعظم الروايات الواردة في كتب المؤرخين والجغرافيين والموسوعيين المسلمين؛ أقصد الروايات ذات الصلة بأخبار ما قبل الإسلام:

1 - المدرسة الأولى كان مركزها اليمن، وكان وَهْب بن مُنَبِّه الفارسي الأصل من أبرز شيوخ تلك المدرسة، وقد مزج الرجل ببراعة بين ما جاء في مصادر التاريخ الفارسية من أحداث وأساطير، وبين ما جاء في الروايات العبرانية والنصرانية، حتى إنه صار من المقرَّبين إلى خلفاء بني أُميّة، ومعروف أن اليهودية كانت قد انتشرت في اليمن برعاية من الملك اليمني ذي نُواس، وكانت النصرانية تنافسها بقوة، وكان الخصام شديداً بين الثقافتين، ثم دخلت الثقافة الفارسية إلى الميدان، وصارت منافساً لكل من اليهودية والنصرانية، وكانت الدوائر السياسية التي تقف وراء هذه الثقافات، تعمل لتغليب ثقافتها على الثقافات الأخرى، ليس في اليمن فقط، بل في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية.

2 - المدرسة الثانية كان مركزها في العراق، وصحيح أن الثقافة الفارسية كانت صاحبة النفوذ هناك، لكن كان للثقافة النصرانية في تجلياتها النَّسطورية حضور قوي أيضاً، ولا سيما في الحِيرة (مركز الإمارة العربية التابعة للفرس)، وفي الجزيرة (بين النهرين دجلة والفرات)، ومعروف أن النساطرة فرقة نصرانية منشقة، رفض مؤسسها نسطور الأخذ بالمذهب المَلْكاني (الخلقيدوني) الرسمي في الدولة البيزنطية (الرومية)، فتعرض أتباعه للاضطهاد، ولجأوا إلى أراضي الدولة الساسانية عدوّة بيزنطا، ونشأ تحالف سياسي وثقافي وثيق بين الساسانيين والنساطرة، وكانت (أكاديمية) جُندي سابور (گُنْدى شابور) " مركزاً للدراسات الآرامية، وكان أغلبية قوّادها من العلماء النسطوريين، بيد أنها كانت في الوقت نفسه مكاناً عاماً لاجتماع الثقافات الفارسية والهندية واليونانية والآرامية، وما ناولته للعرب كان مزيجاً من كل تلك الثقافات " (هاملتون جب، دراسات في حضارة الإسلام، ص 297).

ثالثاً - الحقيقة الثالثة: تتعلق بمنهج معظم المؤرخين المسلمين في التعامل مع الروايات والمعلومات، فهم في معظم الأحيان لا يكلّفون أنفسهم عناء تفحّصها، لا من حيث تتبّعُ المنشأ؛ تُرى في أيّ وسط جغرافي وثقافي ظهرت أولاً؟ ولا من حيث تتبّعُ المسارات؛ تُرى كيف بدأت؟ وكيف انتهت؟ ولا من حيث طبيعتُها؛ تُرى أهي واقعية أم أسطورية؟ والمؤسف أن معظمهم يسرع إلى تلقّف المعلومة، ولا سيما إذا كان فيها شيء من الغرابة، فيتبنّاها بحماس، ويقدّمها إلى الأجيال على أنها حقيقة أو شبه حقيقة؛ هذا عدا تركيزهم- قدامى ومحدثين- على (الكمّ) بدل (النوع)، ووقوعهم تحت تأثير الرغبة في (تنفيخ) الكتاب، كما أشرنا في حلقة سابقة؛ وها هو ذا المؤرخ الشهير ابن الأثير يفصح عن بعض ذلك قائلاً:

" فإني لم أزل محبّاً لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها، ... فلمّا تأمّلتها رأيتها متباينةً في تحصيل الغرض، يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل إلى العَرَض، فمن بين مطوِّل قد استقصى الطرق والروايات، ومختصِر قد أخلّ بكثير ممّا هو آت، ومع ذلك فقد ترك كلُّهم العظيمَ من الحادثات، والمشهورَ من الكائنات، وسوّد كثيرٌ منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى، وتركُ تسطيرها أحرى، ... وقد أرّخ كلّ منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذَيّل عليه، وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه، والشرقيُّ منهم قد أخلّ بذكر أخبار الغرب، والغربيُّ قد أهمل أحوال الشرق؛ فكان الطالب، إذا أراد أن يطالع تاريخاً متصلاً إلى وقته، يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددّة، مع ما فيها من الإخلال والإملال " (الكامل في التاريخ، ج 1، ص 2).

ولا ننس في الوقت نفسه أنه لم تكن ثمة مؤسسات أكاديمية تجمع المؤرخين، وتشرف على أعمالهم في إطار ضوابط نقدية محددة، وإنما كان المؤرخون يقومون بجهود فردية. ولا نُسقط من الحساب أيضاً أن العلم والأدب كانا من أبواب كسب الرزق في ذلك الحين، ومن وسائل الوصول إلى أبواب الخلفاء والأمراء وإلى مجالسهم، وخاصة بالنسبة إلى أبناء الموالي؛ وكلما كان المؤرخ غزير المعلومات، بغضّ النظر عن مصدرها وصحّتها، وكان أكثر سرداً  للغرائب والعجائب، كانت سوقه أكثر رواجاً، وكان المردود المادي أوفى.

وبعد هذا لنعد إلى أبرز الروايات ذات العلاقة بقصة الضحّاك.

رواية ابن قُتَيْبة الدِّينَوَري

ابن قُتَيْبَة الدِّينَوَري (عبد الله بن مُسلِم، ت 276 هـ = 889 م)، أديب نحوي لغوي، وهو بغدادي، غير عربي، والأرجح أنه فارسي الأصل، لأنه يقال له (المَرْوَزِيّ) نسبة إلى مدينة (مَرُو) عاصمة إقليم خُراسان، وهو ليس من أهل مدينة (دِينَوَر/دَيْنَوَر) الكردية الواقعة في جنوبي كردستان (جنوب غربي إيران حالياً)، والتي كانت تابعة لولاية قَِرْمِيسِين (كَرْمَنْشاه)، وإنما عمل قاضياً في دينور، فنُسب إليها، وهو أقدم مَن وصلنا ما دوّنه حول علاقة الكرد بقصة الضحّاك، فقد قال في كتاب (المعارف، تحت عنوان: الأكراد):

" تَذكر العجم أن الأكراد فَضْلُ طعام بِيوراسف؛ وذلك أنه كان يأمر أن يُذبَح له كلَّ يوم إنسانان، ويُتّخَذ طعامه من لحومهما، وكان له وزير يقال له: أَرياييل، فكان يَذبح واحداً يَسْتَحْييه، وَبْعث به إلى جبل فارس، فتوالدوا في الجبال وكثروا ".

وأورد الزبيدي (ت 1205 هـ = 1790 م) رواية ابن قتيبة، ثم علّق عليها قائلاً: " قال شيخنا: وقد ضعّف هذا القول كثير من أهل الأنساب. قلت: وبيوراسْف هذا هو الضحّاك الماري [لعل الصواب: المادي، نسبة إلى الماد= الميد]، مَلَكَ العجم بعد جَمْ بن سليمان ألف سنة. وفي (مفاتيح العلوم) [كتاب للإمام فخر الدين الرازي ت 606 هـ يدور حول تفسير سورة الفاتحة] هو معرَّب دَهْ آك؛ أي ذو عشر آفات. وقيل: معرّب أزده؛ أي التِنّين، للسَّلَعَتَين [الزائدتين] اللتين كانت له " (تاج العروس، مادة كرد). وواضح أن ابن قتيبة نسب الرواية إلى العجم، وهو يقصد الفرس، وواضح أيضاً أن أهل الأنساب ضعّفوها.

رواية الطََّبَري

معروف أن الطَّبَري ( ت 310 هـ = 923 م) من أبناء الثقافة الفارسية الأقحاح، ويتميّز بأنه موسوعي الثقافة، وهو من كبار مفسّري القرآن، كما أنه من كبار المؤرخين المسلمين، وها هو ذا المؤرخ ابن الأثير يقول في وصف كتاب (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، والمشهور باسم (تاريخ الطبري):

" فابتدأتُ بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطََّبَريّ؛ إذ هو الكتابُ المعوَّل عند الكافّة عليه، والمرجوعُ عند الاختلاف إليه،... فلمّا فرغتُ منه، وأخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها، وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ... وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين؛ إذ هو الإمام المتقِنُ حقّاً، الجامعُ علماً وصحّةَ اعتقادٍ وصدقاً " (الكامل في التاريخ، ج1، ص 3).

ولا ريب في أن الطبري كان يعلم الرواية الفارسية التي أدخلت الكرد في سياق قصة الضحّاك، لكنه أعرض عن ذكرها، ولم يقبل أن يوردها في كتاباته، وحينما يُعرض مؤرخ شهير وقدير كالطبري عن ذكر تلك الرواية فأقلّ ما يعني ذلك أنه طعن في مصداقيتها، وأباح للدارسين أن يَعُدّوها ضرباً من الإقحام والتكلّف والتلفيق.

وقد ذكر الطبري أن الضحّاك هو (الأزدهاق)، والعرب تسمّيه الضحّاك، ويدّعي أهل اليمن أنه يمني، وأنه الضحّاك بن عُلْوان بن عُبَيد بن عُوَيْج، وأن أخاه سِنان حكم مصر حينما هاجر إليها النبي إبراهيم. وأما الفرس فيذكرون أن الأزدهاق هو بِيوَراسْب بن أَرْوَنْداسْب بن زينكاو بن ويرَوْشك بن تاز، بن فرواك بن سيامك بن مشا بن جِيُومَرت، ومنهم من يذكر له نسباً آخر هو أنه الضحّاك بن أندرماسب بن زنجدار (زنحدار) بن وندريسج بن تاج بن فرياك (فريال، فرمال) بن ساهمك (شاهمك) بن تاذي (ماذي/ مادي) بن جيومرت. ونقل الطبري عن هشام بن محمد الكلبي أن الضحّاك هو نَمْرود، وأن النبي إبراهيم وُلد في زمانه، وأنه الذي أمر بإحراق إبراهيم، كما ذكر الطبري قصة الحيّتين على منكبي الضحّاك، وإطعامهما من دماغ البشر.

وذكر الطبري أيضاً قصة ثورة كاوَه على الضحاك، وسماه (كابي)، ونسبه إلى مدينة أصبهان (أصفهان)، وذكر أن قطعة الجلد التي اتخذها راية كانت من جلد أسد، فجعل ملوك الفرس تلك الراية عَلَمهم الأكبر، وسُمّوها (دِرَفْش كابيان)، وكانوا يتبرّكون بها، ولا يرفعونها إلا في الأمور العظام، وذكر الطبري قصة انتصار أفريدون على الضحّاك بفضل ثورة كاوَه، وفي مكان آخر من كتابه سمّى الضحّاك باسم (أجدهاق، وذكر أن عمره كان ألف سنة، وأن مدة حكمه كانت ستمئة سنة، وزعم بعضهم أن النبي نوحاً كان في زمانه (تاريخ الطبري، ج1 ، ص 194 – 201).

ولم يذكر الطبري قطّ أن الكرد كانوا من سلالة الناجين من القتل.

رواية الهَمَذاني

الهَمَذاني هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إسحاق المعروف بابن الفقيه (توفي نحو 340 هـ = نحو 951 م)، وهو من مدينة هَمَذان (هَمَدان= آمَدان)، وهي عاصمة الميديين القديمة أگبَاتانا، وتعني (الفريدة= العديمة النظير)، والهمذاني من كبار الجغرافيين في التراث الإسلامي، وقد أورد معلومات تفصيلية تتعلق بقصة الضحّاك، وصرّح في بدايتها بأنها " تدخل في باب الخرافة، ومقتبسة من روايات الفرس "، وفي هذه الرواية اسم الضحّاك هو بيوَراسْف، " ويقال إن طول أفريذون تسعة أرماح- والرمح بباعه ثلاثة أَبْوُع [ثلاثة أذرع]- وعرض عَجُزه [مؤخرته] ثلاثة أرماح، وعرض صدره أربعة أرماح، ووسطه رمحان " (الهمذاني: البلدان، ص 552).

وذكر الهمذاني أن فريدون (أفريدون/أفريذون) جاء بالضحّاك من المغرب نحو المشرق، ليسجنه في جبل دُنْباوَنْد، فمرّ بكُورة (منطقة) إصبهان، فجلس للغداء، " فأدار سلاسله على جبل من جبال إصبهان، وأوثقه بأساطين وسكك من حديد قوية، وتوثّق منه حتى ظن أنه قد أحكم ما أراد، حتى إذا جلس على غدائه، اجتذب بيوَراسْف سلاسله مع تلك الأساطين والسكك، واحتمل الجبل يجرّه بسحره، ثم طار به في الهواء، فلحق فريدون به في مدينة بزورند [كذا من غير ضبط، وهي الرَّي]، وضربه بمقمعة من حديد، فسقط بيوراسف مغشيّاً عليه، ورسا ذلك الجبل المنقول من إصبهان بمدينة الرّي "، ثم قاد فريدون بيوراسف من الرَّي نحو محبسه (الهمذاني: البلدان، ص 549).

وفي رواية الهمذاني اسم وزير الضحّاك هو أرمائيل، وهو الذي أشفق على الناس، " فإذا جاؤوه بالأسارى من الآفاق ليذبحهم، ويأخذ أدمغتهم، فيغذّي الحيّتين، أعتق في كل يوم أسيراً، وذبح مكانه كبشاً، وخلط دماغه بدماغ المقتول، وغذا به الحيّتين أعواماً كثيرة، ثم بدا له في الذبح [أعاد النظر في قضية الذبح]، فكان إذا جاؤوه بالأسارى أعتقهم، وأسكنهم الجبل الغربي من قرية ميندان... فكان كلما أعتق أسيراً أعطاه داراً، وأسكنه الجبل الغربي، وأمره أن يزرع لنفسه ما يريد ويبني ما يشاء. فكانوا يفعلون ذلك " (الهمذاني: البلدان، ص 550 - 551).

وبعد أن انتصر أفريدون على الضحّاك، وسجنه في جبل دُنباوَنْد، أوكل أمر حبسه إلى الوزير الطيب أرمائيل، وكان الوزير قد اهتدى إلى طِلَّسْم، فطَلْسَم طعامَ الضحّاك، بحيث يشبع ولا يحتاج إلى طعام آخر، وذات يوم أوفد أفريدون رسولاً إلى الوزير ليأتيه بخبر الضحّاك، فأحبّ الوزير أن يُطلع الرسول على حال المعتقين من الذبح، فأمر " أن يوقد كلُّ واحد منهم على باب الموضع الذي هو فيه ناراً، ففعلوا. فقال الرسول: ما هذا؟ قال: هؤلاء المعتقون من الذبح. قال الرسول بالفارسية: وسْ مانا كي ته آزاد كردي؟ أي: كم من أهل بيت قد أعتقتهم! وتناهى الخبر إلى أفريذون، فسرّ به سروراً شديداً "، ثم مضى أفريذون فشاهد الأمر على الواقع، وكافأ أرمائيل بأن أقطعه مدينة دُنباوند بقراها، واتخذ أفريدون يوم سجن بيوراسف عيد (المِهْرَجان) (الهمذاني: البلدان، ص 551 - 552).

وجاء في رواية أخرى نقلها الهمذاني، وهي لرجل من كَلْب (الأرجح أنه هشام بن محمد الكلبي): أن أفريدون أراد معاقبة الوزير أرمائيل بعد الانتصار على بيوراسف، لأنه كان صاحب الذبح، فقال الوزير " كان يأمرني بذبح اثنين في كل يوم، فكنت أذبح واحداً وأعتق الآخر. قال وكيف عِلْمُ صحة ما ذكرت؟ قال: اركب معي حتى أريك إياهم. فركب معه، وسار حتى أشرف على جبال الدَيْلَم والشُّور، فنظر إلى عالَم قد توالدوا وتناسلوا. فقال: هؤلاء كلهم عتقائي. فقال أفريذون: وسْ ما نا كي ته آزاد كردي؟ كم من أهل بيت أعتقتهم! اذهب فقد ملّكتك عليهم، فأعطاه مملكة دُنباوند، فلم يزل الضحّاك عنده موثقاً ستة أشهر، ثم قتله يوم النيروز، فقالت الأعاجم: إمروز نُوروزي، أي: استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيداً " (الهمذاني: البلدان، ص 554).

ومرة ثانية لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.

رواية المسعودي

سبق أن أوردنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة الرواية التي ساقها المسعودي (ت 346 هـ = 957 م) بشأن الضحّاك والكرد، ولا بأس من عرضها ثانية، فقد قال:

" ومن الناس من رأى أن الضحّاك ذا الأفواه المقدَّم ذكره في هذا الكتاب، الذي تنازعت فيه الفرس والعرب من أيّ الفريقين هو، أنه خرج بكتفيه حيّتان، فكانتا لا تُغذَّيان إلا بأدمغة الناس، فأفنى خلقاً كثيراً من فارس، واجتمعت إلى حربه جماعة كثيرة وافاه أفريدون بهم، وقد شالوا راية من الجلود تسمّيها الفرس دِرَفْش كاوان، فأخذ أفريدون الضحّاك وقيّده في جبل دُنْباوَنْد على ما ذكرنا، وقد كان وزير الضحّاك في كل يوم يذبح كبشاً ورجلاً، ويخلط أدمغتهما، ويطعم تَينك الحيّتين اللتين كانتا في كتفي الضحّاك، ويطرد من تخلّص إلى الجبال، فتوحّشوا وتناسلوا في تلك الجبال، فهم بَدء الأكراد، وهؤلاء من نسلهم، وتشعّبوا أفخاذاً ". (مروج الذهب، ج 2، ص 122 – 123).

وأضاف المسعودي في المصدر السابق ذاته قائلاً: 

" وما ذكرناه من خبر الضحّاك فالفرس لا يتناكرونه [= لا ينفونه]، ولا أصحاب التواريخ القديمة والحديثة ".

وتناول المسعودي قصة الضحّاك في كتابه (التنبيه والإشراف، ص 75 - 76) أيضاً، فقال:

" بيوَراسْب، وهو الضحّاك مَلَك ألف سنة، والفرس تغلو فيه، وتُذكَر من أخباره أن حيّتين كانتا في كتفيه تعتريانه لا تهدئان إلا بأدمغة الناس، وأنه كان ساحراً يطيعه الجن والإنس، ومَلَك الأقاليم السبعة، وأنه لما عَظُم بغيُه، وزاد عُتُوُّه، وأباد خلقاً كثيراً من أهل مملكته؛ ظهر رجل من عَوامّ الناس وذوي النُّسك [التقوى] منهم، من أهل إصبهان إسكاف كابي، ورفع راية من جلود علامةً له، ودعا الناس إلى خلع الضحّاك وقتله، وتمليك أفريذون، فاتّبعه عَوامّ الناس، وكثير من خواصّهم، وسار إلى الضحّاك، فقبض عليه وأنفذه أفريذون إلى أعلى جبل دُباوَنْد [دُنباوند] بين الرَّي وطَبَرِستان، فأُودع هناك، وأنه حيّ إلى هذا الوقت، مُقيَّد هناك، في أخبار يطول ذكرها، قد شرحناها في كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر ".

وكي تكتمل الصورة دعونا نقرأ ما أورده المسعودي أيضاً حول أصل الكرد في كتابه (التنبيه والإشراف، ص 78):

" وكذلك الأكراد عند الفرس من ولد كرد بن أسفنديار بن مَنُوشَهْر، منهم البازَنجان، والشوهجان، والشاذنجان، والنشاورة، والبوذيكان، واللّرّية، والجورقان، والجاوانية، والبارسيان، والجلالية، والمستكان، والجابارقة، والجروغان، والكِيكان، والماجَرْدان، والهَذْبانية، وغيرهم ممن بزمام فارس وكَرْمان وسَجِستان وخُراسان وإصْبَهان وأرض الجبال من الماهات [ولايات]؛ ماه الكوفة، وماه البصرة، وماه سَبَذان والإيغارين، وهما البُرْج وكَرَج أبي دُلَفُ، وهَمَذان، وشَهْرُزور، ودراباذ، والصامَغان، وآذربيجان، وأرمينية، وأَرّان والبَيْلقان، والباب، والأبواب، ومن بالجزيزة والشأم والثغور".

وهكذا قدّم المسعودي ثلاث روايات:

-  أما في الأولى فكان مجرد ناقل لما كان شائعاً عند " الفرس "، وبين " أصحاب التواريخ القديمة والحديثة ".

-  وأما في الثانية فذكر قصة الضحّاك، لكن من غير أيّ ذكر للكرد، اكتفاءً منه بما سبق أن أورده في كتابه (مروج الذهب).

-  وأما في الثالثة فنقل ما رواه الفرس بشأن أصل الكرد، من غير ذكر أية علاقة لهم بقصة الضحّاك.

وأقل ما يمكن أن يقوله المرء وهو يكرر النظر في هذه الروايات أنها مضطربة ومحيّرة، ولا تستند على أية وثيقة تاريخية ذات مصداقية، وبالطبع لا نحمّل المسعودي مسؤولية ذلك، فحسبُ الرجل أنه كان أميناً في عرض ما وصل إليه من روايات الفرس، أما بالنسبة لرأيه هو فقد برّأ ذمّته من هذه الرواية بصورة واضحة، وبين أيدينا دليلان على ذلك، هي:

1 – الدليل الأول عندما صرّح بأن الفرس هم الذين يتداولون هذه الرواية فيما بينهم، ولا تلقى منهم إنكاراً، ولا علاقة لا للعرب، ولا لأيّ شعب آخر، بالترويج لها.

2 – الدليل الثاني عندما صرّح بأن الأصح هو أن الكرد عرب من نسل ربيعة بن نزار (الفرع العدناني)، وبذلك يكون قد أخرج أصل الكرد من دائرة الأحداث المتعلقة بالضحّاك جملة وتفصيلاً.

وقد يقال: إن المسعودي نسب هذه الرواية إلى " أصحاب التواريخ القديمة والحديثة " أيضاً، أفليس هذا دليلاً موثَّقاً على صحّتها؟ وهل كان من الممكن أن يتفق المؤرخون- قديمهم وحديثهم- على رواية كهذه؛ لولا أنها كانت مؤكَّدة؟ وإذا رددنا رواية تناقلها المؤرخون القدامى والمحدثين، وأجمعوا ضمناً على صحتها، أفلا يكون ذلك خلطاً للأوراق، ونزعاً للثقة من جميع ما رواه أولئك المؤرخون؟

إنها تساؤلات منطقية بكل تأكيد، وللإجابة عنها بمنطقية حسبنا أن نتذكر ما ورد قبل قليل بشأن أشهر المؤرخين المسلمين في القرن الهجرية الثلاثة الأولى، فإن أصحاب التواريخ القديمة والحديثة الذين ذكرهم المسعودي ليسوا إلا هؤلاء الذين ذكرناهم، ومن هم تَبَعٌ لهم، وكانوا جميعاً- أتباعاً ومتبوعين- ممن يدورون في فلك الروايات التي بثّتها المدرستان الثقافيتان الكبريان؛ مدرسة اليمن، ومدرسة العراق، وكانت هاتان المدرستان – كما علمنا قبل قليل- نتاج تمازج الثقافات الفارسية واليهودية والنصرانية.

رواية الفِرْدَوْسي

سقطت الدولة الأموية سنة (132 هـ = 750 م)، وحلّت الدولة العباسية محلها، ولولا جهود قادة كبار، منهم بُكَيْر بن ماهان، وأبو سَلَمة الخلاّل، وأبو مُسْلم الخُراساني، وخالد البَرْمَكي، ومن ورائهم عشرات الألوف من المقاتلين والمؤيدين – وكان جميعهم من الموالي (غير العرب)- لما استطاع العباسيون الوصول إلى سُدّة الخلافة، ومنذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري ظهرت دول مستقلة وأخرى شبه مستقلة في الأجزاء الشرقية والغربية من الدولة العباسية.

ويهمنا الآن ما جرى في الأجزاء الشرقية، وخاصة في بلاد الشعوب الآريانية (تسمى في مصادر التراث الإسلامي بلاد إيران)، وهي تضم بلاد الفرس والكرد والبُلُوش (البلوج) والآذريين والأفغان، فقد ظهرت في تلك البلاد الدولة الطاهرية، ومؤسسها هو القائد الفارسي الكبير طاهر بن الحسين، أسّسها في عهد الخليفة المأمون (ت 218 هـ)، وكانت عاصمتها نيسابور، وورثتها الدولة الصُّفّارية (254 – 290 هـ = 867 – 903 م)، ومؤسسها يعقوب بن الليث الصُّفّار، وهو من أصل فارسي، ثم حلت محلها الدولة السامانية (261 – 389 هـ = 874 – 999 م)، وينتمي السامانيون إلى أسرة فارسية عريقة، يرجع أصلها إلى بَهْرام جُور، الزعيم الفارسي الشهير قبل الإسلام (د. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام، ج3، ص 65 – 82).

والحقيقة أن العنصر الفارسي كان ما زال قريب العهد بأمجاد الإمبراطورية الساسانية، وكانت الذاكرة الفارسية عامرة بسِيَر ملوك الفرس، وقد بدأ مثقفوهم بإعادة تنشيط تلك الذاكرة، وإحياء الشعور القومي الفارسي، من خلال ترجمة تواريخ ملوك الفرس إلى العربية، وكان المثقف الفارسي الكبير ابن المُقَفَّع (قُتل سنة  142 هـ = 759 م)، من أبرز من قام بذلك حينما ترجم كتاب (خُداي نامَه) من الپهلوية إلى العربية، وسمّاه (كتاب تاريخ ملوك الفرس) (الزركلي: الأعلام، ج 4، ص 140. أمين عبد المجيد بدوي: جولة في شاهنامة الفردوسي، ص7).

وفي ظلال الدولة السامانية الفارسية، وبتشجيع من كبار الأمراء، نشط الأدباء والمؤرخون الفرس في مجال إحياء الثقافة الفارسية، وانتقلوا إلى مرحلة جديدة هي التأليف بالفارسية بدل العربية، وفي إطار عملية الإحياء الشاملة هذه ظهرت النماذج الأولى من ملحمة (شاهْنامه)، وهي عبارة عن تدوين التاريخ الفارسي شعراً، فظهرت (شاهْنامة) أبي المؤيَّد البَلْخي، ثم (شاهنامة) أبي منصور الدَّقيقي، وهما من مشاهير شعراء الدولة السامانية، واستكمل الشاعر الفارسي الكبير أبو القاسم الفردوسي (ت 401 هـ أو 403 هـ = 1010 أو 1012 م) ما بدأه البَلْخي والدَّقيقي، وانتهى من تأليف كتاب (شاهنامه) سنة (384 هـ)، وظل ينقّحه حتى سنة (400 هـ) (انظر د. حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام، ج3، ص 82. أمين عبد المجيد بدوي: جولة في شاهنامة الفردوسي، ص 10 – 19).

ويمكن القول بأن الفردوسي جمع في الشاهنامة معظم ما كان في الذاكرة الفارسية من تواريخ وأساطير تتعلق بالدول الفارسية وبسِيَر ملوكها قبل الإسلام، ورغبنا في رسم صورة واضحة للمُناخ الثقافي الذي ظهرت فيه ملحمة الشاهنامة، كي نقدم الدليل على أن هذه الملحمة تمثل خلاصة ما ترسّخ في الذاكرة الفارسية بشأن تواريخ ملوك الفرس، ونجد في الشاهنامة ذكراً لكل من الضحّاك (الأزدهاق)، ولخصمه فريدون (أفريدون= أفريذون)، وللثائر كاوَه الحداد، ولكن لم يأت لا الفردوسي ولا من نقل عنهم الفردوسي على أيّ ذكر بأن الكرد كانوا من نسل أولئك الشباب الذين كانوا ينجون من القتل في عهد الضحّاك (الفردوسي: الشاهنامة، ص 10 – 16).

وإليكم خلاصة ما ذكره الفردوسي:

في البدء حكم العالَم كلَّه مَلِكٌ يُدعى جِيُومَرْت (جيومرث= گيومرت)، وهو يماثل (آدم) في خريطة الأنساب العبرانية المعتمَدة في اليهودية والمسيحية والإسلام، وكان لجيومرت ابن يُدعى سيامك، لكن أحد الجن قتل سيامك، فحزن جيومرت على ابنه حزناً شديداً، وسلّم مقاليد السلطة لحفيده أوشهنج بن سيامك، وأوشهنج هذا هو مكتشف النار، وواضع أبجديات الحضارة في العالم، صناعةً وزراعةً وتدجيناً للحيوانات، ثم تولّى الحكم بعده ابنه طَهْمُورث، فاستكمل مسيرة والده في ميدان التحضر، وكان العالم يفتقر حينذاك إلى معرفة الخط والكتابة، فحارب طهمورث الجن، وسجن كثيرين منهم وأذلّهم، فوعدوه بأن يعلّموه الخط والكتابة إذا أطلق سراحهم، وتلك كانت بداية ظهور الكتابة في العالم (الفردوسي: الشاهنامة، ص 5 – 8). 

ثم حكم جَمْشيد بعد والده طهمورث، ومعنى اسمه (شعاع القمر)، وسار شوطاً واسعاً في ميدان التحضر؛ إذ تفنّن في صنع الآلات الحربية، واتخذ الكتّان والحرير والصوف للثياب، ونشر الصناعات، ومنها الصناعات الطبية، في أرجاء العالم، وكلّف الجن بأعمال شاقة، وطار إلى ممالك العالم على سرير كانت الجن تحمله (لاحظوا ما جاء في سيرة النبي العبراني سليمان حول هذه الأمور)، لكنه تجبّر وتكبّر، واستبدّ بالسلطة، فانشق ملوك الفرس الذي كانوا من أتباعه، واجتمعوا إلى الضحّاك ابن ملك العرب، ليخلّصهم من جمشيد، فتولى الضحّاك الأمر، وتغلب على جمشيد بعد صراع طويل، وقتله بالمنشار (الفردوسي: الشاهنامة، ص 9 – 10). 

والضحّاك لقب، أما اسمه فهو بيوَراسب بن مِرْداس ملك العرب، وكان ملكاً صالحاً في البداية، وكان له خادم من الجن اسمه (إبليس)، وكان يظهر في شكل شاب جميل، وأغرى إبليس الضحّاك بقتل والده، لفرض حكمه على العرب أجمعين، لكن الضحّاك تردّد، ولم يوافق على ذلك رغم وسوسة إبليس له. وذات ليلة خرج الأب مرداس يمشي في بستان له، فوقع في بئر مغطاة بالحشيش، فطمرها إبليس بالتراب، وهكذا أصبح الضحّاك ملك العرب (الفردوسي: الشاهنامة، ص 10). 

ولم يكتف إبليس بالخلاص من الأب، وإنما ظهر في شكل طبّاخ، وتولّى شؤون المطبخ الملكي، وتفنّن في صنع الأطعمة، فأُعجب به الضحّاك، وأراد مكافأته، فسأله: ماذا تطلب؟ فطلب الطبّاخ (إبليس) أن يقبّل منكبيه، فوافق الضحّاك، وما إن قبّل الطبّاخ منكبَي الضحّاك حتى غاب عن الأبصار، وظهر على كل منكب من منكبي الضحّاك حيّة سوداء أرعبت الملك والحاشية، ونصح الأطباء الضحّاك بقطع الحيتين، لكنهما كلما قُطعتا نبتتا من جديد، وهنا ظهر إبليس متنكراً في زيّ طبيب، وأقنع الضحّاك بأن هذا قدر من الله، ولا بد من تغذية الحيتين بأدمغة الناس، كي يخفّ أذاهما؛ وكان غرض إبليس من ذلك أن يسفك الضحّاك دماء الناس، ويبيد الجنس البشري، وقد أصدر الضحّاك الأمر بقتل رجلين كل ليلة، وتقديم دماغيهما طعاماً للحيتين (الفردوسي: الشاهنامة، ص 11 – 12). 

وبعد فترة طويلة من ظلم الضحّاك تنبّأ أحد المنجّمين الحكماء بأن مُلكه سيزول على يدي ملك اسمه أفريدون (فريدون)، لمّا يولد بعدُ، فصُعق أفريدون، ونشر رسله في أطراف البلاد لترقّب ولادة ذلك الطفل، والمبادرة إلى قتله فور ولادته، وفي تلك السنة ولد أفريدون، وكان والده من جملة الذين قتلهم الضحّاك لإطعام الحيتين، وخافت عليه والدته من شر الضحّاك، فهربت به إلى مرج تكسوه الخضرة، ويخص راعياً كانت له قطعان كبيرة من الغنم والبقر، فتعهّد للأم بتربية أفريدون، ولاحظوا الشبه بين قصة أفريدون وشخصيات شهيرة أخرى:

-  سَرْجون الأول الأكادي: حملت به أمه الكاهنة سِفاحاً، ولما ولد جعلته في سلّة مطليّة بالقار، ووضعت السلة في النهر، فالتقطه البستاني (أكي)، وربّاه واتخذه ابناً (توماس طمْسُن: الماضي الخرافي، ص 511 - 512).

-  النبي العبراني موسى: خبّأته أمه ثلاثة أشهر خوفاً من أن يقتله فرعون، ثم وضعته في صندوق صغير مطليّ بالقار، ووضعته بين الأعشاب بجانب نهر النيل، فوجدته جواري ابنة فرعون وهو يبكي، فرقّت له الأميرة الفرعونية، فتبنّت رعايته. (العهد القديم، سفر الخروج، الأصحاح 2، الآيات 1 – 10).

-  كورش الثاني الأخميني: والده قمبيز، وأمه ماندانا ابنة الملك الميدي الأخير أستياگ، وقد رأى الملك الميدي حلماً غريباً يتعلق بابنته ماندانا، وفسّر المنجّمون الحلم بأن ابنته ستلد طفلاً، وسيخلعه حفيده ذاك من السلطة، ويحكم بدلاً منه، فقرر أستياگ الخلاص من الطفل فور ولادته، ولما ولد الطفل كلّف أستياگ القائدَ الميدي الكبير هارباگ (هارباجوس) بتلك المهمة، فدفع هارباگ الطفل إلى الراعي ميثرادات (معناه: هبة الإله ميثرا) ليقتله، لكن زوجة الراعي رقّت للطفل، ونصحت زوجها بعدم قتله، وبتربيته وتبنّيه، ففعل الراعي ذلك (هيرودوت: تاريخ هيرودوت ص 82- 83. هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، ص 87)

وبعد ثلاث سنوات استلمت الأم ولدها أفريدون من الراعي، وهربت به إلى بلاد الهند، وقصدت جبلاً عالياً، فرعاه أحد الرهبان هناك، وعلّمه مكارم الأخلاق، ثم زار أفريدون أمه، وقرر الثأر لوالده من الضحّاك، فنصحته والدته بالتريّث، وخلال تلك المدة كان اسم أفريدون يقلق الضحّاك ويرعبه، وفجأة قاد الحداد كاوَه (جاوه= گاوه) ثورة عارمة ضده، إذا كان أحد أبنائه قد اختير ليكون دماغه طعاماً للحيتين، وأخذ كاوه قطعة جلد كان يغطي بها قدمه حينما كان يطرق الحديد، ورفعها على عصا، واتخذها راية، وسمّيت (دِرَفْش گاويان)، وراح ينادي بطاعة أفريدون، آأة أوأوقاد أفريدون الثورة على الضحّاك، وانتصر عليه، وجلس على عرش بلاد إيران، واقتاد الضحّاك إلى مغارة في جبل دُنْباوَنْد، وسجنه هناك، كي يُعذَّب هناك إلى يوم القيامة (الفردوسي: الشاهنامة، ص 14 – 18).

ومرة ثالثة لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.

رواية ابن الأثير

ابن الأثير الجَزْري (عزّ الدين ت 630 هـ = 1233 م) مؤرخ مشهور، جمع في كتابه معظم المعلومات التي ذكرها كبار المؤرخين قبله في كتبهم، وها هو ذا يقول: " ولا أقول: إني أتيت على جميع الحوادث المتعلقة بالتاريخ، ... ولكن أقول: إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، ومن تأمله عَلِم صحة ذلك " (الكامل في التاريخ، ج1، ص 2).

وقال ابن الأثير في مكان آخر من مقدمة كتابه بشأن منهجه: " على أني لم أنقل إلا من التواريخ المذكورة، والكتب الشهيرة، ممن يُعلَم بصدقهم، وصحّة ما دوّنوه، ولم أكن كالخابط في ظَلْماء الليالي، ولا كمن يجمع الحَصْباء واللآلي ". (الكامل في التاريخ، ج1، ص 3).

وقد ذكر هذا المؤرخ المحقق معظم الأخبار المتعلقة بالضحّاك وكاوه (كابي) وأفريدون، واتخذ روايات الطبري أصلاً، وضم إليها ما جاء في المصادر الأخرى، فذكر أن بِيوَراسْب هو الأزدهاق، وقال: " وأهل اليمن يدّعون أنّ الضحّاك منهم، وأنه أول الفراعنة، وكان مَلك مصر لما قدِمها إبراهيم الخليل، والفرس تذكر أنه منهم، وتنسبه إليهم، وأنه بِيوَراسْب بن أرْوَنداسْب بن رينكار بن وَنْدْرِيشْتَك بن يارين بن فروال بن سيامك بن ميشى بن جيومرث " (الكامل في التاريخ، ج1، ص 74). وذكر ابن الأثير قصة الحيتين، وثورة كابي (كاوه)، وتأييده لأفريدون، وانتصار الأخير على بيوراسب، وحبسه في جبل دُنباوند (الكامل في التاريخ، ج1، ص 75).

وأضاف ابن الأثير قائلاً:

" وبعض المجوس تزعم أنه [أفريدون] وكّل به قوماً من الجن. وبعضهم يقول: إنه لقي سليمان بن داود، وحبسه سليمان في جبل دُنباوند، وكان [دنباوند] ذلك الزمان بالشام، فما برح بيوراسب بحبسه يجرّه حتى حمله الى خُراسان، فلمّا عرف سليمان ذلك أمر الجنّ فأوثقوه [الجبل] حتى لا يزول، وعملوا عليه طِلَّسْماً كرجلين يدقّان باب الغار الذي حُبس فيه أبداً؛ لئلا يخرج، فإنه عندهم لا يموت. وهذا أيضاً من أكاذيب الفرس الباردة، ولهم فيه أكاذيب أعجب من هذا تركنا ذكرها " (الكامل في التاريخ، ج1، ص 76).

وقال ابن الأثير أيضاً:

" وبعض الفرس يزعم أن أفريدون قتله يوم النّيروز، فقال العجم عند قتله: إمْرُوز نَوْرُوز، أي استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيداً، وكان أسره يوم المِهْرَجان، فقال العجم: آمَد مِهْرَجان، لقتل من كان يذبح " (الكامل في التاريخ، ج1، ص 76).

ويقول ابن الأثير أخيراً:

" وإنما ذكرنا خبر بِيوَراسْب ها هنا لأن بعضهم يزعم أن نوحاً كان في زمانه، وإنما أرسل إليه والى أهل مملكته، وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة بابِل ومدينة صُور ومدينة دمشق " (الكامل في التاريخ، ج1، ص 77).

ومرة رابعة لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.

رواية القَلْقَشَنْدي

القَلْقَشَنْدي (أحمد بن علي ت   821هـ = 1418 م)، باحث مصري موسوعي، عُني في كتابه (صُبح الأعشى في صناعة الإنشا) بذكر معلومات تفصيلية – إلى حد ما- عن طبقات ملوك بلاد آريانا (إيران) قبل الإسلام (الڤيشداديون، الكيانيون، الأشغانيون، الساسانيون)، وقد ذكر الضحّاك، وصنّفه ضمن ملوك الطبقة الأولى، وهي طبقة الملوك الڤيشداديين (بيشداذ)، وأنه صار ملكاً بعد جمشيد (جمشيذ)، وقال: " ويُعرف بالدهاك، ومعناه عشر آفات، والعامة تسميه الضحّاك؛ ومَلَكَ جميع الأرض فسار بالجَوْر والعَسف، وبسط يده بالقتل، وأحدث المُكوس والعُشور [الضرائب]، واتخذ المغنين والملاهي ". (القلقشندي: صبح الأعشى، ج 4، ص 410).

وعاد القلقشندي مرة أخرى إلى ذكر قصة الضحّاك حينما ذكر دين الزردشتية (المجوسية حسبما وضّح)، فقال بشأن المجوس: " ويسخطون على بِيوَراسْب؛ وهو رابع ملوكهم: وهو الضحّاك، يقال له بالفارسية: الدهاش، ومعناه عشر آفات "، وذكر القلقشندي قصة الحيتين، وإطعامهما من أدمغة الناس، وثورة كاوه (كابي/ كابيان)، وانتصار أفريدون على الضحّاك. (القلقشندي: صبح الأعشى، ج 13، ص 297 - 298).

ومرة خامسة لا نجد أيّ ذكر للكرد في قصة الضحّاك.

ويبقى السؤال المهم: أين هي الحقيقة إذاً؟

هذا سيكون موضوع الحلقة القادمة.

المراجع

1.           ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.

2.           أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1977.

3.           الدكتور أمين عبد المجيد بدوي: جولة في شاهنامة الفردوسي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1976.

4.           توماس طُمْسُن: الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ)، ترجمة عدنان حسين، قَدْمُس للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 2001.

5.           الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1973.

6.           الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1986.

7.           الطبري: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.

8.           الفردوسي: الشاهنامة، ترجمة سمير مالطي، دار العلم للملايين، بيروت،  الطبعة الرابعة، 1986

9.           د. فيليب حتي، د. أدوَرد جرجي، د. جبرائيل جبّور: تاريخ العرب، دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثامنة، 1990.

10.      ابن قتيبة الدينوري: المعارف، تحقيق محمد إسماعيل عبد الله الصاوي، دار المعارف، القاهرة، ، 1969.

11.      القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987.

12.      المسعودي: التنبيه والإشراف، دار التراث، بيروت، 1968.

13.  المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973م.

14.      هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991م.

15.      هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1969.

16.      الهمذاني (ابن الفقيه): البلدان، تحقيق يوسف الهادي، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1996.

17.      هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.

وإلى اللقاء في الحلقة السابعة

د. أحمد الخليل   في 20 – 12 -  2008

dralkhalil@hotmail.com

 

 =====================

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الخامسة )

الكرد في الذاكرة العربية قبل الإسلام

للدكتور أحمد محمود الخليل

 

 حفريات ونتائج

في الحلقة الرابعة ناقشنا السؤال (هل الكرد من أصل عربي؟)، وأوصلتنا المعلومات التاريخية إلى أن الكرد ليسو من أصل عربي، وإنما هم شعب آري (هندو أوربي)، له خصوصيته الإثنية مثل باقي شعوب العالم، واقترحنا حينذاك أن نجعل السؤال كالآتي: (هل هناك جذور إثنية وثقافية مشتركة بين العرب والكرد؟)، وجدير بالانتباه إلى أن الفضاء التاريخي الذي كنا نتحرك فيه للإجابة عن السؤال الأول (هل الكرد من أصل عربي؟) لا يتجاوز أربعة عشر قرناً من الزمان، أي منذ ظهور الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي.

أما للإجابة عن السؤال الثاني فلا بد لنا من الانتقال بالبحث والتنقيب إلى فضاء تاريخي أرحب، وإلى مواقع أكثر غموضاً في تاريخ غربي آسيا، أجل، سنكون بحاجة إلى التحرك على امتداد ثلاثين قرناً قبل الميلاد (36 قرناً قبل الإسلام)، وفي جغرافيا شاسعة، تمتد من وسط آسيا شرقاً إلى نهر النيل غرباً، ومن جبال القوقاز (قفقاسيا) شمالاً إلى اليمن جنوباً.

والحقيقة أنني لم أُثر السؤال الثاني على أنه مجرد (فرضية) بحاجة إلى (برهان)، وإنما لأنني لمحت في تاريخ العرب والكرد، قبل الميلاد بثلاثين قرناً، مؤشرات قليلة تُشعر بأن المسألة أكبر من أن تكون مجرد فرضية، وتشجّع المرء على متابعة الاستقصاء في هذا المجال، والبحث عن الأدلة التاريخية التي قد- إلى الآن أقول: قد- تؤكد أن ما هو مشترك بين العرب والكرد لا يقتصر على الإسلام فقط، وإنما له صلة- إلى حد ما- بالجانب الإثني أيضاً، ولعل رحلتنا في هذه السلسلة تدفعنا إلى المزيد من الحفر عميقاً في طبقات تاريخ غربي آسيا، ولعلها توصلنا بين حين وآخر إلى مؤشرات جديدة ومفيدة في هذا الاتجاه.

وآمل من القراء الأعزاء ألا يتفاجأوا عندما أعدّل معلومة كنت قد أوردتها في حلقة سابقة، أو ألغي نتيجة كنت قد توصلت إليها بناءً على قرائن معيّنة، أو أتوصّل إلى نتيجة جديدة تتعارض مع نتيجة سابقة، فالحقيقة أننا أمام كمّ هائل من المصادر تمّ إنتاجها طوال أربعة عشر قرناً، ويحتاج الحفر فيها إلى سنين، هذا إذا جعلنا الحفر مقتصراً على المصادر المؤلفة بالعربية فقط.

لكن كيف يكون الأمر إذا ضممنا إلى المصادر العربية مصادر مؤلفة بلغات أخرى (الهندية، الفارسية، السريانية، القبطية، الأرمنية، التركية، الإنكليزية، الألمانية، الروسية، إلخ)، ولها صلة بجغرافيا غربي آسيا وبتواريخ شعوبها؟ لا شك في أن العبء حينئذ يكون أشدّ وطأة، ومع ذلك حبذا أن يقوم من يجيد إحدى هذه اللغات بتلك المهمة، إنها في الغاية من الفائدة، ولا أشك في أن المعلومات الواردة في تلك المصادر ستجعل النتائج أكثر دقة وموضوعية.

وما دمنا قد تناولنا موضوع تجدد النتائج بتجدد الحفر في المصادر أذكر أنني قلت في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، وهي بعنوان (أصل الكرد في التراث الإسلامي 2: ملاحظات وتساؤلات) ما يلي:

" فمن خلال مراجعاتي المتكررة للأدب العربي قبل الإسلام (الجاهلي)، ولا سيما الشعر- وهو دائرة تخصصي الأكاديمي إلى جانب الأدب العربي في صدر الإسلام- لم أجد أيّ ذكر للكرد، لا من قريب ولا من بعيد، وهذا يعني أن العرب- خاصّتهم وعامّتهم- ما كانوا يمتلكون، قبل الإسلام، معلومات عن الكرد ".

 وصحيح أنني التزمت بالدقة عندما أضفت قائلا:

" أو أنهم كانوا يمتلكون معلومات قليلة جداً، ولم يعرفوهم عن قرب إلا مع بدء الفتوحات الإسلامية على الجبهة الشرقية، والصراع مع الدولة الساسانية الفارسية ".

لكنني لم أكن حذراً بما فيه الكفاية عندما أطلقت النتيجة الأولى، وكان عليّ أن أقيّدها بعبارة (إلى الآن) فتصبح العبارة كالآتي: " لم أجد- إلى الآن- أيّ ذكر للكرد، لا من قريب ولا من بعيد ". ولو فعلت ذلك لكنت موضوعياً ودقيقاً تماماً؛ أقول هذا لأنني وجدت خلال الحفر في المصادر التراثية ثلاث معلومات جديدة، لها صلة بالكرد في الذاكرة العربية قبل الإسلام، وفاتني أن أذكر معلومة رابعة كنت أعرفها منذ بضع سنوات، وتلك المعلومات دليل على أن بعض النتائج لا تصبح نهائية ومؤكدة، أو شبه نهائية وشبه مؤكدة على أقل تقدير، إلا بعد الانتهاء من التنقيب في المصادر.

والمعلومات المشار إليها هي موضوع حلقتنا هذه، فماذا عنها؟

السلاح الميدي

قال الشاعر اليَثْرِبي عبد الله بن رَواحَة (من مشاهير الصحابة في الإسلام) يردّ على منافسه الشاعر اليَثْرِبي قَيْس بن الخَطِيم، قبل الإسلام (الكامل في التاريخ، ج 1 / ص 683):

ومُعْتَرَكٍ ضَنْكٍ يُرى الموتُ وَسْطَه

مَشينا له مَشْيَ الجِمـال المَصاعِب

برَجْلٍ تَرى المـاذِيَّ فوق جلودهم

وبَيضاً نَقيّاً مثلَ لــون الكواكب

[ معترك: معركة. ضنك: حامية جداً. المصاعب: جمع مُصْعَب، وهو الفحل القوي الذي لا يُركب، ويُترك للفحولة، وبه سمّى العرب اسم مُصْعًب، ومنهم مُصعب بن الزُّبَيْر بن العَوّام. رَجْل: مقاتلون مشاة. الماذيّ: السلاح. بَيض: جمع بيضة، أي خوذة].

وجاء في (لسان العرب، مادة حقب) لابن منظور (ت 711 هـ) قول النابغة الذُّبياني (شاعر جاهلي) يمدح بعض العرب:

مُسْتَحْقِبِي حَلَقِ الماذِيِّ يَقْدُمُهم

شُمُّ العَرانِينِ ضَرَّابُونَ لِلهـامِ

[ مستحقب: حامل معه. حلق الماذي: السلاح. العرانين: الأنوف. الهام: الرؤوس].

وبالعودة إلى معجم (لسان العرب، مادة مَذَيَ) نجد ما يلي:

-      " المَذْيُ البَلَل اللَّزِج الذي يخرج من الذكر عند مُلاعبة النساءِ ".

-       " المِذاء أَن تَجْمع بين رجال ونساء، وتتركهم يلاعب بعضهم بعضاً".

-       " المَذاء: الدِّياثة، والدَّيُّوث الذي يُدَيِّث نفسَه على أَهله فلا يبالي ما يُنال منهم ".

-      " الماذِيُّ: العسَل الأَبيض ".

-      " الماذِيَّةُ: الخَمْرة السهلة السَّلِسة شُبّهت بالعسل ".

-       " الماذِيَّةُ: من الدروع البيضاء ودِرْعٌ ماذِيَّة سهلة ليِّنة".

-  " الماذِيُّ: السلاح كله من الحديد. ... الماذيُّ الحديد كله؛ الدِّرْع والمِغْفَر والسلاحُ أَجمع، ما كان من حديد فهو ماذيٌّ ... ويقال الماذِيُّ: خالص الحديد وجَيِّدُه ".

وفي معجم (تاج العروس، مادة موذ) للزبيدي (ت 1205 هـ) نجد ما يلي:

-      " المَاذِيُّ : العَسَلُ الأَبْيضُ ".

-      " والماذِيُّ : الدِّرْعُ اللَّيِّنَةُ السَّهْلَةُ ".

-      " والماذِيُّ : السِّلاَحُ كُلُّه الدِّرْعُ والمِغْفَرُ وغيرُهما ".

-      " والمَاذِيَّةُ : الخَمْرُ ".

والمعروف في اللغة العربية أن الأسماء والأفعال تقوم على الجذور الثلاثية، وأن الصيغ المشتقة من الجذر اللغوي الواحد يتضمن كلٌّ منها شيئاً ما من المعنى الأصلي للجذر، ولنأخذ على سبيل المثال الجذر اللغوي (ج ن ن)، فجميع الكلمات المشتقة منها تشتمل، بمستويات مختلفة، على معنى (الاستتار والغموض)، وإليكم مشتقات ذلك الجذر ومعنى كل مشتق:

-      الجِنّيّ: غير المرئي وهو عكس الإنسي (المرئي).

-      الجَنين: الولد ما دام في بطن أمه.

-      المجنون: الذاهب العقل.

-      الجَنّة: المكان الكثيف الشجر، فيستتر ما بداخله ولا يظهر.

-      الجُّنّة: الدرع تستر جسم لابسه.

-      الجِنّة: الجنون، والجِن.

-      المِجَنّة: التُّرْس.

-      جَنّ الليل: أظلم.

-      اجتنّ: استتر.

وتعالوا نطبّق هذه القاعدة على ما أدرجه ابن منظور والزبيدي ضمن مشتقات الجذر اللغوي (م ذ ي) و( م و ذ)، سنجد أن البون شاسع بين بعض تلك المشتقات، وإذا كنا نجد وجهاً للتشابه بين (المَذْي) و(الماذِيّ، بمعنى العسل) و(الماذِيّة بمعنى الخمرة) من حيث الليونة والبياض، فلا أدري كيف يمكن التوفيق بين معاني هذه الكلمات من حيث الطعم، لا بل إن التوفيق يبدو صعباً حينما نصل إلى كلمة (الماذيّة بمعنى الدرع البيضاء)، ويصبح ضرباً من المُحال حينما نصل إلى كلمة (الماذيّ بمعنى السلاح المصنوع من الحديد الخالص الجيد).

 حسناً، إذاً ما الذي جعل ابن منظور والزبيدي وغيرهم من اللغويين يدرجون بعض الكلمات الغريبة ضمن أسرة لغوية معيّنة (جذر لغوي)؟

هنا ينبغي أن نأخذ في الحسبان أن لغة كل شعب هي جزء جوهري من هويته، كما أنها بنية أصيلة من ثقافته في عصور التكوين، بل لعلها أكثر تلك البنى أصالة، ولعلها أصدقها تجسيداً لملامح تلك الثقافة، وأقدرها على الصمود في وجه التقلّبات والتحوّلات عبر القرون، وقل الأمر نفسه في اللغة العربية، إنها تحمل في طيّاتها ملامح الثقافة العربية في عهود التكوين الأولى، فالفرد يحمل جنسية القبيلة، ومبرّر حمله لتلك الجنسية هو أن يكون له موقع في سلسلة نسب القبيلة.

وماذا إذا لجأ أحد الغرباء إلى القبيلة، وعاش فيها، وقررت قادة القبيلة منحه جنسية القبيلة لسبب أو لآخر؟ ها هنا يحصل (الدخيل) على الجنسية عبر آلية (الإلحاق)، ويأخذ (الإلحاق) أحياناً شكل (الموالاة)- بالكردية (كِرِيفْ Kirîf) فيما أعلم- وبموجب هذه الآلية يفوز الغريب بجنسية القبيلة.

وهذا ما فعله اللغويون في المجال اللغوي، فالكلمات التي تنتسب إلى الجذر اللغوي في الأصل تحمل جنسية (الجذر اللغوي) بالأصالة، أما الكلمات الدخيلة فمنحوها جنسية الجذر اللغوي بالإلحاق، ومثال ذلك:

-      كلمة (زَنْجَبيل) غير العربية أُلحقت بالجذر (ز ن ج).

-      كلمة (سُرادِق) الكردية الفارسية ألحقت بالجذر ( س ر د).

-      كلمة (فِرْدَوْس) اللاتينية أُلحقت بالجذر (ف ر د).

وماذا كان يفعل اللغويون حينما كانوا يجدون كلمات لا يمكن إلحاقها بقبيلة لغوية معيّنة؟ حينئذ كانوا يختلقون قبيلة لغوية جديدة، ويعطونها اسماً خاصاً، ويمنحون جنسيتها لتلك الكلمات الغريبة الوافدة؛ ومثال ذلك كلمات (إسْطَبْل، أُسْطُرْلاب، أُسْطُوانة، أُسْطورة، أُسْطول)، فقد اختلقوا لها القبيلة اللغوية؛ أقصد الجذر اللغوي (أ س ط)؛ والدليل على ذلك أننا لا نجد كلمة عربية أصيلة مشتقة من هذا الجذر.

ولنعد إلى كلمة (الماذيّ) فهي في رأينا غير عربية الأصل، ولا تحمل جنسية الجذر (م ذ ي) والجذر (م و ذ) بالأصالة، وإنما بالإلحاق ليس غير، وهي معرّبة من كلمة (مادي)، فالعرب كانوا يحوّلون حرف الدال (د) في كثير من الكلمات غير العربية الوافدة إلى حرف الذال (ذ)، ومثال ذلك (بغداد / بغداذ)، (آزاد / آزاذ)، (آباد / آباذ)، (همدان / همذان)، (قُباد / قُباذ)، (سُنباد / سُنباذ)، والأمثلة كثيرة في كتب التراث العربي.

وكلمة (مادي) هي بالآشورية (ماداي) Medai، و(أماداي) Amadai، و(ماتاي) Matai، وبالعيلامية الحديثة (ماتا- په) Mata- pe، وبالعبرية القديمة (ماداي)، وبالفارسية القديمة (مادا) Mada، وباليونانية القديمة (مادُوي/ميِدُوي) Madoi، Medoi (دياكونوف: ميديا، ص 146 وهي كلمة (ميدي) المعروفة في الدراسات الحديثة، وتعني الميديين (أحد فروع الشعب الكردي قديماً).

وقد يقال: ما علاقة الميديين باسم (الماذيّ) الذي يعني السلاح بالعربية؟

ها هنا لا بد من مراجعة سريعة لتاريخ الميديين؛ فالميديون شعب هندو أوربي (آري)، وصل إلى غربي آسيا قبل الميلاد بأكثر من ألف عام، واستقر في منطقة جبال زاغروس وحوافّها، وتحديداً في المنطقة التي كنت تُعرف قبل ذلك باسم (غُوتيوم= گُوتيوم) نسبة إلى شعب (غُوتي= گُوتي= جُوتي= جُودي)، وكان الميديون يتألفون من اتحاد ستة قبائل، سمّاها دياكونوف: Boussi, Paretaknoi, Strouknates, Arizantoi Boudloi, Magoi، وسمّاها هيرودوت (بوسّي، وباريتاسيين، وستروكاتي، وأريزانتي، وبودلوي، وماجي)، وكانت اللغة الميدية مشتركة بين أفراد هذا الاتحاد القبلي، ويستفاد مما ذكره أرشاك سافراستيان أن ميديا هي امتداد جغرافي وتاريخي وثقافي لگوتيوم (انظر دياكونوف: ميديا، ص 143، 146. هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 80. أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ص 24، 25).

ووقع الميديون تحت هيمنة الإمبراطورية الآشورية في البداية، لكن السلطات الآشورية عجزت عن فرض سيطرتها الكاملة عليهم، إذ كانوا يقاومونها باستمرار وبعناد، ثم برز من بين الميديين زعماء عظام (دياكو، خُشْتريت، كَيْخُسرو)، امتازوا بالذكاء والحنكة وقوة الإرادة، فوحّدوا القبائل الميدية، ووضعوا قواعد الدولة، وانتقلوا بوعي الإنسان الميدي من دائرة (القبيلة) إلى دائرة (الأمة)، وأسسوا جيشاً وطنياً قوياً، وألحقوا الفرس بالدولة الميدية، ثم عقدوا تحالفاً مع الدولة البابلية التي كانت ترزح تحت الاحتلال الآشوري، وأعلنوا الحرب على السلطة الآشورية، وقضوا عليها سنة (612 ق.م).

إن سقوط الإمبراطورية الآشورية القوية والشرسة، على أيدي الميديين، وتحرير شعوب غربي آسيا من جبروتها، كان حدثاً هائلاً في ذلك العصر، ودوّى صداه في أرجاء العالم القديم، وهل كان من الممكن للميديين أن يقضوا على دولة عظمى معروفة بقوة الشكيمة كالدولة الآشورية، لولا وجود جيش ميدي يمتلك أقوى أسلحة ذلك العصر، ويمتاز بالفروسية والخبرة القتالية المتطورة؟

إن الانتصار الذي حققه الميديون، وقيامهم بتأسيس إمبراطورية قوية ومزدهرة، جعل اسمهم مخلداً في ذاكرة شعوب العالم القديم، حتى إنه بعد سقوط إمبراطورية ميديا في قبضة أتباعهم الفرس الأخمين سنة (550 ق.م) كان ملوك العالم القديم ومؤرخوه يطلقون على ملوك الأخمين الأوائل لقب (الملك الميدي) تارة، ولقب (ملك فارس وميديا) تارة أخرى، كما جاء في التوراة (سفر المكابيين الأول، الأصحاح الأول، الآية 1، والأصحاح الرابع عشر، الآية 2)، وأصبح زيّ الفارس الميدي مشهوراً بين شعوب غربي آسيا وعند اليونان.

وإليكم بعض الشواهد على ذلك:

·  وصف هيرودوت جيش الملك الأخميني أحشويرش بن دارا الأول الزاحف على أوربا، فقال: " أولاً الفرس، ويرتدون القبّعة المثلّثة وهي من اللبّـاد الناعـم، والقميص المطرَّز مـع أكمامه، وفوقـه الدرع الذي يبـدو كحراشف السـمك، والسِّروال، وأما عَتـادهم فهو التُّرس المصنوع من قضبان الصَّفصاف، وتحته المِقلاع والرمح القصير، والقوس القوية، والسهام المصنوعة من الخَيزران، والخنجر المربوط بالنِّطـاق على الفخـذ اليمنى... أما الفرقة الميدية فكانت بقيادة تيجرانيس الأخميني، ومسلّحة بذات العُدّة والعتاد كالفرس، والحق أن هـذا النمط من اللباس ميديّ الأصل، وليس زيّاً فارسيّاً بأيّ شكل" (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 515- 516).

·  في تراقيا " ولما وصل أحشويرش وجيشه إلى أكانثوس أظهر الصداقة لأهلها، وقدم لهم هدية من الأزياء الميدية " (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 531).

·  في جيش أحشويرش الزاحف على الإغريق، كان سلاح (السرنجيين)، وهم من أقوى فرق الجيش الفارسي " القوس والنشاب والرماح الميدية " (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 517).

·  في جيش أحشويرش الزاحف على الإغريق: " أما الآريون فكان على رأسهم سيزامنس بن هيدرانيس، وسلاحهم القوس الميدي "(هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 517).

·  " إن الميديين، بالنسبة إلى الفرس والسكايين، كانوا معروفين بالشجاعة، ويعتمد عليهم، وهؤلاء كانوا القوة الضاربة الرئيسية في جيش خشيارشاه" (دياكونوف: ميديا، ص 412).

وصحيح أن الفرس الأخمين قضوا على دولة ميديا، لكن شهرة العسكرية الميدية ظلت حية في ذاكرة شعوب غربي آسيا مدة طويلة، وبما أن الدول الفارسية المتعاقبة كانت تحكم العراق وبعض السواحل الغربية من الخليج، وبما أن ملوك الحِيرَة العرب (بنيت الكوفة بالقرب منها في الإسلام) كانوا من أتباع الدولة الفارسية، وكان عرب شبه الجزيرة العربية يتعاملون تجارياً مع الدولة الفارسية، كان من الطبيعي أن تنتقل إليهم شهرة السلاح الميدي، وشهرة زيّ المقاتل الميدي، وأن يفخروا بالأسلحة الميدية (المادية/الماذية) التي كانوا يقتنونها.

وها أراني قد سافرت بعيداً مع اللغة فالجغرافيا فالتاريخ، لكن كيف يمكن للباحث أن يرفع بسرعة حطاماً معلوماتياً هائلاً، تراكم عبر ثلاثين قرناً بعضه فوق بعض، وغيّب عن الأبصار والأسماع والأذهان والأفئدة ما يتعلق بتاريخ الكرد من حقائق؟! وهكذا فقد اضطررت إلى القيام برحلة مديدة؛ لأصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أن العرب، في شبه الجزيرة العربية، لم يكونوا يجهلون ما له صلة بالكرد جهلاً تاماً، ولكن لعلهم- بل الأرجح- أنهم ما كانوا يعلمون أن الميديين (الماديين/الماذيين) هم من أجداد الكرد. بلى، إنني أطلت،

اللباس الكردي

المعلومة الثانية أكثر لصوقاً بالكرد، ويبدو أنها أحدث من (السلاح الماذيّ)، وهي تتعلق بلباس معيّن كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، وكانوا يسمّونه (الكُرديّ)، وإليكم خبره، فقد جاء في (سُنن أبي داود، ج1، ص 303 – 304) ما يلي:

" ... عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ [أهداب]، فَقَالَ: شَغَلَتْنِي أَعْلامُ هَذِهِ، اذْهَبُوا بِهَا إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّتِهِ. حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَاماً يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ، قَالَ: وَأَخَذَ كُرْدِيّاً كَانَ لأبِي جَهْمٍ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْخَمِيصَةُ كَانَتْ خَيْراً مِنْ الْكُرْدِيِّ ".

وخلاصة ما جاء في كتاب (عون المعبود، ج 2، ص 409) لمحمد شمس الحق العظيم آبادي حول مضمون الحديث أن (الخَمِيصَة ) " كِسَاء مُرَبَّع لَهُ عَلَمَانِ ". وأن " خَمِيصَة هِيَ ثَوْب خَزّ أَوْ صُوف مُعَلَّم. وَقِيلَ: لا نُسَمِّي خَمِيصَة إِلاّ أَنْ تَكُون سَوْدَاء مُعَلَّمَة، وَكَانَتْ مِنْ لِبَاس النَّاس قَدِيماً ". و(الأَنْبِجَانِيَّة) " كِسَاء غَلِيظ لا عَلَم لَهُ "، نسبة إِلَى مَوْضِع يُقَال لَهُ أَنْبِجَان. وأضاف صاحب (عون المعبود) يقول: "(وَأَخَذَ كُرْدِيّاً): أَيْ رِدَاء كُرْدِيّاً. الْكُرْد بِالضَّمِّ. وَيُشْبِه أَنْ يَكُون الرِّدَاء مَنْسُوباً إِلَى كُرْد بن عَمْرو بن عَامِر بن رَبِيعَة بن صَعْصَعَة، وَكَانَ عَمْرو بن عَامِر يَلْبَس كُلّ يَوْم حُلَّة، فَإِذَا كَانَ آخِر النَّهَار مَزَّقَهَا لِئَلاّ تُلْبَس بَعْده، هَكَذَا ضَبَطَ نَسَبه أَبُو الْيَقْظَان أَحَد أَئِمَّة النِّسَاب ".

ونستخلص الحقائق الآتية من هذا الحديث النبوي:

1 – كان الكساء الكرديّ الذي ارتداه النبيّ لا يقلّ زخرفة عن الخميصة، في وقت كان النبي يريد كساء أكثر بساطة، كي لا يشغله عن الصلاة.

2 – كانت البضائع المصنوعة في بلاد الكرد تصل إلى أسواق بلاد العرب، وكانت تحمل معها اسمها (الكردي)، ويبدو أن هذا الاسم كان يساهم في الترويج لتلك البضاعة، وهذا يذكّرنا في العصر الحديث بحرص تجار حلب، عند عرض بضاعتهم، على ذكر اسم (كردي) لبعض المنتجات الواردة من جبل الكرد في عفرين، مثل (زيت كردي، سُمّاق كردي، زَعْتَر كردي).

3 – وصول التجار العرب، أو التجار الذين كان العرب يتعاملون معهم، إلى بلاد الكرد، ووجود علاقات تجارية بين الفريقين.

4 – رغم وقوع الكرد تحت سلطة الدول الفارسية المتتابعة لم يفقدوا هويتهم، وبها كانوا يُعرَفون حتى في أعماق صحارى بلاد العرب.

5 – شيوع تنسيب الكرد إلى أصل عربي من سلالة كرد بن عمرو بن عامر، ودور النسّابة العربي أبي اليقظان في ذلك.

اٍلاسم الكردي

المعلومة الثالثة لها علاقة باسم (كرد)، فقد ذكر السيوطي في كتابه (لباب النقول في أسباب النزول، ج1 ، ص ، 193) الخبر الآتي بشأن الآية (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) [سورة الجن، الآية 6]:

" عن كُرد بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أوّلَ ما ذُكر رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم، فآوانا المبيتُ إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حَمَلاً من الغنم، فوثب الراعي فقال: عامرَ الوادي [الجني الذي يحمي الوادي حسب اعتقاد العرب حينذاك]، جارَك! فنادى منادٍ: لا نراه يا سِرْحان [ لا نوافق يا ذئب]. فأتى الحَمَل يشتدّ [يركض] حتى دخل الغنم. وأنزل الله على رسوله بمكّة: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن...".

ومعلوم أن سورة (الجِنّ) من السور المكية؛ أي أنها نزلت قبل هجرة النبي إلى المدينة؛ أي في الثلاث عشرة سنة الأولى من الدعوة، وهذا يعني أن كُرد بن السائب قد سُمّي باسمه (كرد) في الجاهلية، أي قبل بدء الغزوات العربية الإسلامية بأكثر من عقدين من الزمان، وهذا يعني بدوره ما يلي:

1 – كان اسم (كرد) معروفاً ومستخدماً عند العرب قبل الإسلام، لكن في نطاق محدود جداً.

2 - كان اسم (كُرد) من الأسماء المرغوب فيها عند عرب الجاهلية ولعل السبب في ذلك أنه كان يحمل دلالات القوة والشجاعة، باعتبار أن العرب البداة خاصة كانوا يطلقون على أبنائهم أسماء مثل (همّام، عَلْقَمَة، حَنْظَلة، صَخْر، إلخ)؛ تفاؤلاً بالقوة والصلابة والبأس، وبقصد إخافة الأعداء (الجاحظ: الحيوان، ج1، ص 324).

3 – نرجّح أن لوصول اسم (كرد) إلى المجتمع العربي في البادية قبل الإسلام علاقةً بما كان معروفاً عن الكرد من شجاعة وشدّة بأس طوال عهود أجدادهم، بدءاً من الكاشيين، فالگوتيين، فالميتّانيين (الحُوريين)، وانتهاء بالميديين، ولو تفحّصنا طبيعة تشكيلات جيوش الدول الفارسية المتتابعة لوجدنا للمقاتلين الكرد فيها موقعاً هاماً.

4 – نرجّح أن إطلاق العرب اسم (كُرد) على بعض أبنائهم لم يكن مقتصراً على فترة قُبَيل الإسلام (قُبيل القرن السابع الميلادي)، وإنما كان يمتد إلى أزمنة بعيدة، وتحديداً إلى العهد الذي يسمّيه المؤرخون (الجاهلية الأولى)، وهو يمتد إلى ما قبل (200) مئتي سنة قبل ظهور الإسلام، والدليل على ذلك وجود اسم (كُرْد بن عَمْرو بن عَامِر بن رَبِيعَة بن صَعْصَعَة) كما مر قبل قليل، واسم (كُرْد  بن مَرْد بن صَعْصَعَة بن هَوازِن) كما مر في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، واسم (كُرد بن عَمْرو مُزَيْقِيا بن عامر ماء السماء) كما مر في الحلقة الأولى أيضاً.

5 – نرجّح أن النسّابة العرب ساروا في الاتجاه الخاطئ حينما وجدوا في شجرة الأنساب العربية تكرار اسم (كُرْد)؛ إذ بدل أن يستنتجوا من ذلك وجود علاقة ما بين العرب والكرد، تسرّعوا في تنسيب الكرد إلى العرب العدنانيين تارة وإلى العرب القحطانيين تارة آخرى.

الصحابي الكردي

للمعلومة الرابعة علاقة بالصحابي الكردي جابان، وقد بسطنا القول بشأنه في الحلقة الأولى من سلسلة (مشاهير الكرد) الإلكترونية، وكذلك في كتابنا (تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، ص 151 - 153)، فقد جاء في كتاب (أُسْد الغابة، ج1، ص 299) لابن الأثير، وفي (تجريد أسماء الصحابة، ج 1، ص 71) للحافظ الذهبي، وفي كتاب (الإصابة في تمييز الصحابة، ج 1، ص 201) لابن حَجَر العَسْقَلاني، وفي تفسير (روح المعاني، ج 26، ص 103) للآلوسي، اسم صحابي يدعى جابان، وكنيته (أبو ميمون)، سمع من النبي محمد حديثاً يفيد أن أيّ رجل تزوّج امرأة وهو ينوي ألاّ يعطيها الصَّداق (المَهر) لقي الله عز وجل وهو زانٍ.

ولنا أن نستنتج أن جابان كان مقيماً - على الغالب في المدينة-، حيث أقام النبي محمد بعد الهجرة، ولعله كان من أهل مكة، فهاجر إلى المدينة بعد إسلامه؛ فالمعروف أن جاليات فارسية ورومية وصابئة وحبشية كانت تقيم في مكة، لأغراض تجارية أو تبشيرية أو سياسية، وقد يكون جابان أحد أفراد تلك الجاليات.

ولعل جابان كان قد وقع في الأسر خلال الحروب الفارسية والبيزنطية، ثم بيع في أسواق النخاسة، وانتهى به الأمر إلى مكة أو المدينة، باعتبارهما مركزين تجاريين بين العراق وبلاد الشام من ناحية، وبين اليمن بوّابة شبه الجزيرة العربية على إفريقيا وجنوبي آسيا من ناحية أخرى. وعلى أية حال لم يكن جابان حديث عهد بالحجاز، وإلا فكيف أجاد اللغة العربية فهماً وتحدثاً؛ إلى درجة أنه كان يفهم بدقة ما يسمعه من النبي، وينقل ما سمعه إلى الآخرين بدقة؟

وهذا كله يقودنا إلى الحقائق الآتية:

1 – إن جابان كان كردياً، فقد نصّت المصادر على كردية ابنه ميمون، ويسمّى (ميمون الكردي).

2 – إن جابان كان من الصحابة، وكان شديد الورع، إلى درجة أنه كان يتحرّج في رواية الأحاديث عن النبي، مخافة السهو أو الخطأ.

3 – إن سماع جابان من النبي كان متكرراً؛ أي أنه كان يجالسه مراراً، وإلا فلماذا يطالب الناس ابنه ميموناً بأن يروي لهم ما سمعه عن أبيه، عن النبي؟

4 - إن الكرد كانوا معروفين عند العرب قبل الإسلام بأنهم شعب قائم برأسه، معروف باسمه، ولذا لم يُسَمّ ميمون باسم (ميمون الفارسي) كما قيل لسلمان (سلمان الفارسي)، بل سُمّي (ميمون الكردي).

-  -  -  -

وجملة القول أن العرب في الجاهلية الأخيرة (قبل الإسلام بحوالي 200 سنة) ما كانوا يجهلون الكرد جهلاً تاماً، وإنما كانوا يمتلكون معلومات محدودة عنهم، وهذا أمر منطقي، فحينذاك لم يكن الكرد يجاورون العرب من الشرق والشمال مباشرة، فقد كان أقصى مكان يصل إليه الحضور العربي هو منطقة الحِيرة في جنوب غربي العراق (شرقي نهر الفرات، قرب الكوفة حالياً)، وكان الفرس يحكمون العراق، ويشكلون فاصلاً بين العرب والكرد.

والجدير بالملاحظة أن صورة الكرد في الذاكرة العربية حينذاك لم تكن رديئة، ولم تكن سلبية، إنها كانت صورة عادية، وكانت تبلغ أحياناً مستويات تدعو إلى الإعجاب، حسبما وجدنا من خلال (السلاح الماذي / الميدي)، و(الكساء الكردي)، وإطلاق اسم (كرد) على بعض أبناء العرب.

لكن بعد ذلك تُرى كيف أصبحت صورة الكرد في التراث الإسلامي؟

هذا ما سنتابعه في الحلقة القادمة.  

المراجع

1.    ابن الأثير (عز الدين) أسد الغابة في معرفة الصحابة، تحقيق محمد إبراهيم البنا، محمد أحمد عاشور، محمود عبد الوهاب فايد، دار الشعب، القاهرة، 1970.

2.    ابن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.

3.    أحمد محمود الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو، 2007.

4.  أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ترجمة أحمد محمود الخليل، دار هيرو، 2007.

5.    الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978.

6.    الجاحظ: الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، 1938.

7.    ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، 1970 - 1972.

8.    أبو داود: سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر. (نسخة إلكترونية).

9.    دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.

10.      الذهبي: تجريد أسماء الصحابة، دار المعرفة، بيروت، 1960.

11.      الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 هـ.

12.      السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول، نسخة إلكترونية.

13.      محمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود شرح سنن أبي داود، نسخة إلكترونية.

14.      ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1970.

15.      هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001.

وإلى اللقاء في الحلقة السادسة

د. أحمد الخليل   في 2 – 12 -  2008

dralkhalil@hotmail.com

 ============

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الرابعة )

أصل الكرد في التراث الإسلامي (4) - ( هل الكرد من أصل عربي؟ )

للدكتور أحمد محمود الخليل

عَود على بَدء

مرّ سابقاً أن نسبة الكرد إلى العرب أسندت إلى اثنين من أشهر النسابين العرب، ومن أقدمهما في الإسلام، هما ابن الكَلْبي وأبو اليَقظان (عاشا في القرن الثاني الهجري)، وعلمنا أيضاً أنه كان ثمة تنافس واضح بين نسّابي الفرع القحطاني ونسّابي الفرع العدناني في هذا المجال، بل وصل التنافس إلى داخل الدائرة العدنانية حول تنسيب الكرد إلى قبائل مُضَر تارة وإلى قبائل رَبيعة تارة أخرى. ولم يقف التنافس عند هذا الحد، وإنما وصل إلى داخل القبائل المُضَرية نفسها، فمن الرواة من نسب الكرد إلى قريش (من حفدة إلياس بن مضر)، ومنهم من نسب الكرد إلى عامر بن صَعْصعة (من حفدة قَيْس بن عَيْلان بن مُضَر).

ووجدنا مؤرخاً عربياً عدنانياً قحّاً، هو المسعودي (ت 346 هـ = 957 م)، لم يتردد في تدوين الروايات التي نسبت الكرد إلى العرب، والمثير أن هذا المؤرخ القدير- بشهادة هاملتون جب- بدأ بسرد الروايات التي نسبت الكرد إلى العرب، ثم ذكر الروايات التي نسبت الكرد إلى أصول أسطورية خرافية، وعلّق على جميع ذلك بقوله: " وما قلنا عن الأكراد فالأشهر عند الناس، والأصح من أنسابهم أنهم من ولد ربيعة بن نزار " (مروج الذهب، ج2، ص 124)؛ أي أن الكرد- بحسب رأي المسعودي- عرب عدنانيون.

ونستخلص من تعليق المسعودي أموراً ثلاثة:

-       الأول: أن المسعودي حكم بنسبة الكرد إلى العرب العدنانيين، وإلى فرع ربيعة خاصة.

-  والثاني: أن المسعودي شكّك في الروايات التي نسبت الكرد إلى الفرع القحطاني، وإلى الجن، وإلى الشيطان (الجَسَد).

-  والثالث: صحيح أن المسعودي لم يذكر الأدلة التاريخية التي بنى عليها حكمه، وساق بناء عليها عبارته الفاصلة " والأصح ". لكن لا نعتقد أن مؤرخاً مثله يتخذ هذا الحكم إلا بعد أن يكون قد قارن بين الروايات المختلفة، ووجد من المبررات ما يحمله على ترجيح رواية على أخرى.

وميزة المسعودي أنه لخّص في كتابه جميع الروايات التي كانت سابقة على عصره أو كانت معاصرة له، أي أنه تتبّع الروايات والأقوال التي دارت حول أصل الكرد طوال ثلاثة قرون، وغربلها، وصنّفها، ويبدو أن كل من تناول الحديث عن أصل الكرد بعد المسعودي إنما اقتبس منه، أو اقتبس من المصادر ذاتها التي اقتبس منها المسعودي، ولم يأت مؤرخو القرن الخامس الهجري ومَن جاء بعدهم بجديد في هذا المجال إلا نادراً.

ومن تلك الروايات النادرة ما نقله الزبيدي ( ت 1205 هـ = 1790 م) في كتابه (تاج العروس، مادة كرد)، إذ قال: " وقيل: عصى قوم من العرب سليمانَ عليه السلام، وهربوا إلى العجم، فوقعوا في جَوارٍ كان اشتراها رجل لسليمان عليه السلام، فتناسلت منها الأكراد ". وهذه رواية متأخرة جداً عن عصر المسعودي، ولا ننس أن الزبيدي لم يذكر المصدر الذي استقى منه هذه الرواية، واكتفى بعبارة (وقيل...)، لكن الجديد في روايته أنها نقّحت أصول الكرد من الجانب المغرق في الخرافية؛ أقصد مسألة التنسيب إلى الجن وإلى الشيطان (الجَسَد)، فأجداد الكرد في هذه الرواية ليسوا جناً ولا شياطين، وإنما هم بشر عاديون من العرب، تزوّجوا – على نحو غير شرعي- من جواري النبي العبراني سليمان؛ إذ هذا هو المفهوم من عبارة (وقعوا في جَوار)، ولا تذكر الرواية هويّة أولئك الجواري، لكنهن غير عربيات بكل تأكيد، وإلا لكانت الرواية قد نصّت على ذلك، ونخرج من هذه الرواية بأمرين:

-  الأمر الأول: أن الكرد من سلالة عربية، لكنهم ليسوا عرباً أقحاحاً، وإنما هم من العرب الهجناء، قال ابن منظور الإفريقي في (لسان العرب، مادة هجن): " والهَجِينُ العربيّ ابنُ الأَمَة لأَنه مَعِيبٌ... الهَجِين الذي أَبوه خير من أُمه ... قيل لولد العربيّ من غير العَربية هَجين... الهجين من الخيل الذي ولدته بِرْذَوْنة [= فرس غير أصيلة] من حِصَانٍ عربي... الفَحل الهَجين إِذا أَراد أَن يَضرِب [= يلقح] كرائم الإِبل [= الأصيلة] قَرَعُوا أَنفه بعصاً أَو غيرها ليَرْتَدّ عنها ويتركها ". وهكذا فالمراد من هذه الرواية أن الكرد عرب، لكنهم عرب من الدرجة الثانية.

-  والأمر الثاني: أن الكرد ليسوا عرباً هجناء فقط، وإنما هم عرب عصاة على النبي سليمان أيضاً، وهكذا فقد جمعوا بين افتقارهم إلى الشرعية المجتمعية (الأصالة الكاملة)، وافتقارهم إلى الشرعية الدينية (التقوى، وطاعة النبي سليمان).

وبعد هذا كله ترى أين الصوت الكردي في زحمة هذه الآراء؟

ماذا قال الكرد؟

الحقيقة أن الصوت الكردي موجود أيضاً، وثمة ستة من الكرد القدماء الذين تناولوا علاقة النسب بين الكرد والعرب.

أما الأول والأقدم فهو الشاعر الحسين بن داود البَشْنَوي (ت 465 هـ = 1074 م)، قال العماد الأصفهاني في (خريدة القصر، ج 2، ص 541): "

" ومن الأكراد الفضلاء الحسين بن داود البَشْنَويّ، ابنُ عمِّ صاحب فنَك، عصره قديم، وبيتُه كريم، ... توفّي في سنة خمس وستين وأربعمائة، وله ديوان كبير، وشِعرٌ كثير ".

وبخصوص قلعة فَنَك قال ياقوت الحموي: 

" وفَنك أيضاً قلعة حصينة منيعة لأكراد البَشْنَويّة قرب جزيرة ابن عُمر [= جزيرة بوتان]، بينهما نحو من فرسخين [= 11 كم تقريباً]، ولا يقدر صاحب الجزيرة ولا غيره - مع مخالطتهم للبلاد- عليها، وهي بيد هؤلاءِ الأكراد منذ سنين كثيرة نحو الثلثمائة سنة، وفيهم مُرُوّة وعصبية، ويحمون من يلتجئ إليهم، ويُحسنون إليه " (معجم البلدان، ج 4، ص 316 - 315).

وكان الشاعر الحسين بن داود البشنوي معاصراً لأحداث نشأة الإمارة الدُّوستكية الكردية- عُرفت بعدئذ باسم (الدولة المروانية)- ولا سيما كفاح الأمير الكردي باز (باد) بن دُوسْتِك الحَميدي ضد الدول البويهية وحلفائهم الحمدانيين والعُقَيْليين، وكان الكرد البَشْنوية- أصحاب قلعة فَنَك- من أنصاره، ووصف هذا الشاعر معركة باجُلايا التي دارت بين باز وخصومه، وقُتل فيها (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 9، ص 35 . عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، ج 13، ص 382) . والذي يهمنا في الأمر أن الحسين بن داود البَشنوي يقول في بيتين من قصيدة له:

إن يَعْرِف الناسُ رَسْم الذُّلِّ في جهةٍ     

فالذلُّ عنـــد بني مِِهْرانَ مجهولُ

نحن الذُّؤابةُ من كُرْدِ بنِ صَعْصَعةٍ      

من نَسْلِ قيسٍ لنا في المَحْتِد الطُّولُ

(العماد الأصفهاني: خريدة القصر، ج 2، ص 542)

ومن الواضح أن البشنوي يفتخر بانتساب قومه إلى قبيلة مِهْران (أي الشمسانيون، نسبة إلى مِهْر اسم الشمس)، والأرجح أنها القبيلة الكردية المعروفة الآن باسم (مِيران)، ويبدو أن قبيلة بشنوي فرع منها، ولا يكتفي البشنوي بذلك بل يفتخر بأن قومه يتربّعون على قمة بني (كرد بن صَعْصَعَة)، من فرع قيس عَيْلان العدناني (عرب الشمال)، وهذا يعني أنه كان مطّلعاً على الروايات التي نسبت الكرد إلى العرب، وأنه يقر بأن الكرد عرب عدنانيون.

ومرة أخرى نسب البشنوي نفسه إلى فرع قيس من العرب العدنانيين (عرب الشمال)، وذلك في قصيدة أفصح فيها عن تشيّعه، وعن إخلاصه لآل البيت، وهاجم الذين اغتصبوا حق آل البيت في الخلافة، وهو يقصد خلفاء بني العباس، وسمّاهم النواصب، وهو المصطلح الذي يطلقه الشيعة على من لا يقر من أهل السُنّة بأحقية ذرية علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي بالخلافة، قال البشنوي:

أآلُ طــــهَ بلا نصيبٍ

ودولةُ النَّصْب في انتصاب؟!

إنْ لم أُجرِّد لهـا حُسامي

فلست من قيسٍ في اللُّباب

مَفاخِر الكُرْدِ في جُدودي

ونَخوةُ العُرْبِ في انتسابي

(العماد الأصفهاني: خريدة القصر، ج 2، ص 542)

ويبدو أن مسألة انتساب الكرد إلى العرب غير واضحة في ذهن البشنوي، أو ربما أن له تصوراً معيّناً لسنا قادرين على فهمه، فهو ينتسب إلى عرب قيس العدنانيين، وفي الوقت نفسه يجمع في نسبه بين الكرد والعرب، وكأن الكرد غير العرب، وهذا مخالف لما سبق أن قاله من أن قومه ينتسبون إلى كرد بن صَعْصَعَة، ترى هل كان يقصد أن قومه جمعوا بين أمجاد الأصل (العرب) وأمجاد الفرع (الكرد) معاً؟ ربما.

وأما الكردي الثاني الذي تناول مسألة نسبة الكرد إلى العرب فهو الملك الأيوبي المعزّ إسماعيل بن طُغْتكين (قتل سنة 598 هـ = 1202 م)، لكن الرجل نسب قومه الأيوبيين فقط إلى العرب، وإلى قريش على وجه التحديد، ولم يدّع أن الكرد كلهم عرب، فقد ذكر ابن الأثير في (الكامل في التاريخ، ج 12، ص 130) أن إسماعيل بن سيف الإسلام طُغتكين بن أيوب صار ملك اليمن بعد وفاة أبيه طغتكين أخي صلاح الدين، وأضاف قائلاً:

" وكان أهوج، كثير التخليط، بحيث إنه ادّعى أنه من قريش من بني أميّة، وخطب لنفسه بالخلافة، وتلقّب بالهادي، فلما سمع عمّه الملك العادل [= أخو صلاح الدين] ذلك ساءه وأهمّه، وكتب إليه يلومه ويوبّخه، ويأمره بالعَوْد إلى نسبه الصحيح، ويترك ما ارتكبه مما يضحك الناس منه، فلم يلتفت إليه، ولم يرجع وبقي كذلك، وانضاف إلى ذلك أنه أساء السيرة مع أجناده وأمرائه، فوثبوا عليه وقتلوه، وملّكوا عليهم أميراً من مماليك أبيه ".

وقال المقريزي في أحداث سنة (594 هـ):

" ادّعى معزّ الدين إسماعيل بن سيف الإسلام طُغتكين ملك اليمن الإلهيةَ نصف نهار، وكتب كتاباً وأرّخه من مقرّ الإلهية، ثم رجع عن ذلك، وادّعى الخلافة، وزعم أنه من بني أمية، ودعا لنفسه في سائر مملكته بالخلافة، وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس " (السلوك لمعرفة دول الملوك، ج 1، ص 173- 174)

وقال الزركلي في (الأعلام، ج 1، ص 316):

" المعزّ الأيوبي: إسماعيل بن طُغتكين بن أيوب، سلطان اليمن، خرج في زمان أبيه عن مذهب أهل السُّنة في اليمن، واتبع مذهب الإسماعيلية، فطرده أبوه، فخرج من زَبِيد يريد بغداد، فتوفّي أبوه عقب خروجه (سنة 593 هـ)، فعاد قبل أن يبتعد، ودخل زبيداً فمكث يوماً، وخرج إلى تَعِز، فأظهر فيها مذهبه، وقويت به الإسماعيلية. وكان فارساً سفاكاً للدماء، شاعراً، وقيل: خولط في عقله، فادّعى أنه قرشي النسب، من بني أُميّة، وخوطب بأمير المؤمنين، ثم تألّه، وأمر أن يكتب عنه (صدرت هذه المكاتبة من مقرّ الإلهية)، وبغى وطال ظلمه، إلى أن قتله بعض من معه من الأكراد في زَبِيد، ونصبوا رأسه على رمح، وداروا به بلاد اليمن ".

وهكذا نجد أن جميع الروايات تؤكد أن الملك إسماعيل الأيوبي هذا كان شخصاً طموحا جداً، وكان صاحب أحلام سياسية كبيرة، وأنه طمح إلى منصب الخلافة، وهو منصب خاص بقبيلة قريش العربية حسب أغلب المدارس الفقهية الإسلامية، ووجد أن ثمة عائقاً (ڤيتو) هائلاً يعترض سبيل أحلامه، وهو أن الخليفة لا بد أن يكون عربي النسب، ومن قبيلة قريش، فقرر التغلب على ذلك (الڤيتو)، فاختلق لأسرته الأيوبية نسباً عربياً قرشياً أموياً، واختار بني أمية تحديداً لأنهم كان أصحاب الخلافة قبل العباسيين، ولكن الرجل لاقى معارضة شديدة من عمّه الملك العادل، ومن سائر أفراد الأسرة الأيوبية، واستنكروا عليه الانخلاع من أصله الكردي، ولما خالفهم وأصرّ على الاستمرار في مشروعه السياسي الطموح، اتخذوا قرار القضاء عليه.

وأما الكردي الثالث الذي أورد نسبة الكرد إلى العرب فهو القاضي المؤرخ ابن خَلِّكان الإربلي (ت 681 هـ = 1282 م)، فقد قال في معرض حديثه عن ترجمة القائد العربي المهلّب بن أبي صُفْرة:

" وحكى أبو عمر ابن عبد البَر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه الذي سمّاه القَصْد الأَمَم في أنساب العرب والعجم- وهو كتاب لطيف الحجم- أن الأكراد من نسل عمرو مُزَيْقِياء " (وفيات الأعيان، ج 5، ص 357).

وابن عبد البر هذا هو يوسف بن عبد الله القُرطبي (ت 463 هـ = 1071 م)، ولا ريب في أنه قد استقى هذه المعلومة ممن سبقه من النسّابة والمؤرخين، من أمثال المسعودي وغيره، وها نحن نرى أن ابن خلّكان قد أورد المعلومة من غير تعليق عليها ولا إبداء الرأي فيها، هذا مع العلم أنه مؤرخ قاض، ومن منهج القضاة أن يدققوا ويحققوا، وهذا أمر عهدناه منه في أمكنة أخرى من كتابه (وَفَيات الأعيان)، وكنا نتوقع منه أن يفعل ذلك بشأن هذه المسألة أيضاً، ولا سيما أنه كردي الأصل، ينتسب إلى جعفر بن يحيى بن خالد البَرْمَكي، وكان حريصاً على أن ينقل خبر نسبه البرمكي الكردي إلى ابنه موسى، وأكد له أن قبيلته التي ينتسب إليها كردية واسمها (زرْزاري= ولد الذئب).

وأما الكردي الرابع الذي ذكر نسبة الكرد إلى العرب فهو الملك الأيوبي المؤرخ أبو الفداء إسماعيل (ت 732 هـ = 1331 م)، إن جدّه الخامس هو شاهنشاه أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي، ولكن الجدير بالانتباه أن أبا الفداء لم يجزم بانتساب الكرد إلى العرب، وإنما نقل بأمانة ما ورد في المصادر، ولم يذكر رأيه في الموضوع، فقد جاء في كتابه (المختصر في أخبار البشر، ج 1، ص 83):

" والفرس فرق كثيرة، فمنهم الديلم، ... ومنهم الجِيل ... ومنهم الكرد،... وقيل: إِن الكرد من العرب، ثم تنبّطوا. وقيل: إِنهم أعراب العجم ".

وأما الكردي الخامس الذي تناول مسألة تنسيب الكرد إلى العرب فهو العلاّمة محمد أفندي الكردي، ولم نجد في المصادر التي بين أيدينا معلومات كافية عن هذا الرجل، ويبدو أنه كان من مشاهير علماء عصره، وإذا أخذنا في الحسبان أن لقب (أفندي) ظهر في عهد الدولة العثمانية، وكان يُطلق على كبار العلماء والموظفين، ويعادل لقب (أستاذ) في عصرنا، فلنا أن نقول: إنه من علماء الكرد في الدولة العثمانية المتأخرين، وذكر الزبيدي أن العلامة محمد أفندي استقى معلوماته من كتاب (مناهج الفِكَر ومناهج العِبَر) للكُتْبي، وبالعودة إلى حاجي خليفة في كتابه (كشف الظنون، ج 2، ص 1846) وجدنا ما يلي: " مناهج الفكر ومناهج العبر ... للشيخ جمال الدين : محمد بن إبراهيم الوطواط الكتبي الورّاق، المتوفّى سنة 718 هـ ".

وهكذا لا يبقى شك في أن العلامة محمد أفندي الكردي عاش في القرن الثامن الهجري (السادس عشر الميلادي) أو فيما بعد، وقد رجّح عباس العَزّاوي في كتابه(عشائر العراق، ج 1، ص 201، نسخة إلكترونية) أن محمد أفندي المذكور هو محمد بن سليمان الكردي الذي ذكره المُرادي في كتابه (سِلك الدُّرَر في أعيان القرن الثاني عشر، ج 4 ص111) والمتوفّى سنة (1194 = 1780م). وقد ذكر الزبيدي العلامةَ محمد أفندي في (تاج العروس، مادة كرد) قائلاً:

" وقد ألّف في نسب الأكراد فاضل عصره العلاّمة محمد أفندي الكردي وذكر فيه أقوالاً مختلفة بعضُها مصادم للبعض، وخَبَط فيها خِبْط عََشْواء، ورجّح فيه أنه كُرْد بن كنعان بن كُوش بن حام بن نوح، وهم قبائل كثيرة، ولكنهم يرجعون إلى أربعة قبائل: السُوران، والكُوران، والكَلْهُور، واللُّر. ثم إنهم يتشعّبون إلى شعوب وبطون وقبائل كثيرة لا تُحصى، متغايرة ألسنتهم وأحوالهم ".

وأضاف الزبيدي قائلاً:

" ثم قال محمد أفندي المذكور: ... وقيل: عصى قوم من العرب سليمان عليه السلام، وهربوا إلى العجم، فوقعوا في جَوار كان اشتراها رجل لسليمان عليه السلام، فتناسلت منها الأكراد ".

وخلاصة ما نخرج به مما أورده محمد أفندي أنه كان يمتلك معلومات دقيقة حول الفروع الرئيسة التي يتألف منها الكرد، فذكر (السُوران والگُوران والكلهور واللور)، ولعله جعل الكرمانج والسوران فرعاً واحداً، ويبدو أنه ضاع في زحمة الروايات القديمة، ووقع في أسرها باعتبارها كانت مرتبطة على الغالب بسياق (المقدس)، فجمع بين الأقوال المختلفة والمتباينة، وكانت النتيجة أنه رجّح رأياً مفاده أن الكرد ينتسبون إلى " كُرْد بن كنعان بن كُوش بن حام بن نوح "، وبذلك يكون محمد أفندي قد أخرج الكرد من دائرة الانتساب إلى العرب والفرس دفعة واحدة، باعتبار أن هذين الشعبين هما من سلالة (سام بن نوح) حسب التصنيف التوراتي، وصنّف الكرد في بني كنعان، ونسبهم من ثَمّ إلى حام بن نوح، ولذا حكم عليه الزبيدي بأنه " خَبَط فيها خَبْط عَشْواء ".

وأما الكردي السادس الذي أورد نسبة الكرد إلى العرب فهو إبراهيم فصيح الحيدري (ت 1299 هـ = 1881 م)، قال عنه الزركلي (الأعلام، ج 1، ص 44) :

" إبراهيم بن صِبْغة الله بن أسعد الحيدري، فصيح الدين، ويقال له إبراهيم فصيح، أديب بغدادي المولد والمنشأ والوفاة، كردي الأصل، تولى نيابة القضاء ببغداد، وألف كتباً ".

وقد قال عباس العزّاوي في كتابه (عشائر العراق، ج 1، ص 141، نسخة إلكترونية):

" ومن المتأخرين إبراهيم فصيح الحيدري قد تعقّب ما جاء في تفسير الآلوسي، فقال: والأكراد كلهم على ما في القاموس [= المحيط] من أولاد كرد بن عمرو مُزَيْقِيا.... فعلى هذا تكون الأكراد من أشراف العرب وأكابرهم، وكرمُهم وشجاعتُهم وغيرتُهم أعدلُ شهود على كونهم من أشراف العرب. وأما ذكرُ بعضهم من أنهم ليسوا من العرب فهو من قبيل التعصب، وكفى صاحب القاموس تصحيحاً وشهادة، فهم على ما ذكره المجد صاحب القاموس [= الفيروزآبادي] من قحطان من العرب العاربة نسباً. لأن مزيقيا على ما ذكره علماء النسب من بني قحطان. وتبدّل لسانهم لقرب منازلهم من العجم ".

ومن الواضح أن هذا العالم الكردي لم يكن راضياً عما أورده الآلوسي حول عدم نسبة معظم الكرد إلى العرب، وأحيا من جديد الرواية التي أوردها الفيروزآبادي بشأن نسبة الكرد إلى بني قحطان، وله في ذلك حجتان نراهما بعيدتين عن الموضوعية ومنطق العلم:

-  الأولى احتجاجه بما أورده الفيروزآبادي، وكأن الفيروزآبادي حُجّة في هذا المجال، علماً بأن الرجل لغوي وليس نسّابة ولا مؤرخاً، وأنه استقى معلومته هذه مما جاء قبله في روايات المسعودي وغيره.

-  والثانية اتهام علماء الكرد غير المتفقين معه بأنهم متعصبون، وما هكذا يكون الحجاج العلمي الرشيد والرصين.

هل الكرد من أصل عربي؟

وحان لنا أن نتساءل: أين هي الحقيقة؟ هل الكرد من أصل عربي حقاً؟

وكي نجيب بـ (نعم) أو (لا)، دعونا نلق نظرة فاحصة وشاملة على المعلومات والمعطيات المتعلقة بالموضوع، وإليكم خلاصتها:

أولاً: بُنيت الروايات التي نسبت الكرد إلى أصل عربي على عبارات غير دقيقة، أبرزها: (قيل، ويقال، ومن الناس من رأى، ومن الناس قال، ومن الناس من زعم...).

ثانياً: لم يرد في تلك الروايات والأقوال من الأدلة التاريخية واللغوية والإثنولوجية ما يؤكد نسبة الكرد إلى العرب، سوى أن ثمة إشارات قليلة دارت حول الشبه بين العرب والكرد من حيث طابع حياة (البداوة) الذي كان غالباً على الشعبين قديماً، والشبه في بعض القيم مثل الأَنَفة والشجاعة والكرم.

ثالثاً: لم نجد في كتب الأنساب المهتمة بقبائل العرب وتفرعاتها أية قبيلة باسم كرد، بل لم يقف مؤلفوها عند الروايات التي نسبت الكرد إلى العرب، وهذا دليل على أنهم كانوا يعرفون عدم صحة تلك الروايات، فأهملوها، وأذكر من تلك الكتب: (نسب قحطان وعدنان للمُبَرِّد)، و(جمهرة أنساب العرب لابن حَزْم الأندلسي)، و(لبّ اللباب في تحرير الأنساب للسُّيوطي)، و(نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقَلْقَشَنْدي)، و(الأنساب للسمعاني)، والأغرب من هذا كله أنه لم يرد شيء عن ذلك في كتاب (جمهرة أنساب العرب لابن الكلبي)، وابن الكلبي هذا هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وقد مر أن ابن السائب الكلبي واحد من أقدم نسّابَين عربيَّين أُسندت إليهما روايات نسبة الكرد إلى العرب، فكيف لا ينقل عنه ابنه هشام ذلك وينقله الآخرون؟ تُرى هل أشاع ابن السائب تلك الروايات، واختلف معه ابنه هشام في ذلك فأهملها؟

رابعاً: ثمة مؤرخان مشهوران في ميدان التاريخ الإسلام، هما الطَّبَري وابن الأثير (عز الدين)، فما رأي كل منهما في هذا الباب؟

أما الطبري (ت 310  هـ = 923 م) فهو أقدم المؤرخين المسلمين، ومن أكثرهم دقة في سرد المعلومات، وهو من مشاهير مفسري القرآن، وكان يطبق ضوابط الأحاديث النبوية على الخبر التاريخي، من حيث صحة الإسناد، والغريب أنه لم يعرّج على أصل الكرد لا من قريب ولا من بعيد، ولم ينسبهم إلى أحد، وإنما كان يذكرهم باسم (الأكراد) حيناً، وباسم (الكرد) حيناً آخر، يقيناً منه بأنهم شعب له خصوصيته العرقية، وليس مضافاً إلى شعب آخر.

وأما ابن الأثير (ت 630 هـ = 1233 م) فنهج نهج الطبري، ولا ننس أنه  كان معاصراً للدولة الأيوبية الكردية، بل إن أسرته تنتمي إلى جزيرة ابن عمر (جزيرة بُوتان) في كردستان (جنوب شرقي تركيا حالياً)، وقد صنّفه بعض المؤلفين الكرد- ومنهم المؤرخ محمد أمين زكي- ضمن مشاهير الكرد؛ باعتبار أن نسبه ينتهي بلقب (الجَزَري) نسبة إلى جزيرة ابن عمر، ولم أجد- إلى الآن- دليلاً على ذلك، فقد جاء في نسب أسرته لقب (الشَّيْباني)، وشَيْبان قبيلة عربية أصيلة، ولم أجد- إلى الآن- معلومة تفيد أن أسرته من (موالي بني شيبان)، والمهم أن هذا المؤرخ الخبير بالكرد، والمنتمي إلى الجغرافيا الكردية لم ينسب الكرد سوى إلى أنفسهم؛ هذا مع كثرة اهتمامه بالبحث في أصول شعوب غربي آسيا، ولا سيما العرب والفرس.

خامساً: من المؤرخين والعلماء القدماء من رفض صراحةً نسبة الكرد إلى العرب، قال ابن خلدون(ت 808 هـ = 1406 م) (تاريخ ابن خلدون،ج 3، ص 14):

" وقد قيل إن الكرد والدَّيْلَم من العرب، وهو قول مرغوب عنه ".

وقال الآلوسي في (روح المعاني، ج 25، ص 103):

" والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مُزَيْقيا، وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب، وليس من أولاد عمرو المذكور، إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلاً. وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال: إنهم من ذرية خالد بن الوليد، وآخرون يقال: إنهم من ذرية مُعاذ بن ّجَبَل؛ وآخرون يقال: إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب، وآخرون يقال: إنهم من بني أميّة، ولا يصحّ عندي من ذلك شيء، بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البرزنجية لا شك في صحة نسبهم".

وقال المقريزي في كتابه (المواعظ والاعتبار، ج 2 ، ص 232)، وهو يتحدث عن تاريخ الأسرة الأيوبية:

" وقيل هم يُنسَبون إلى كرد بن مرد بن عمرو بن صَعْصَعَة بن معاوية بن بكر، وقيل هم من ولد عمرو مُزَيْقِيا بن عامر ابن ماء السماء، وقيل من بني حامد بن طارق، من بقية أولاد حُميد بن زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ. وهذه أقوال الفقهاء لهم ممن أراد الحُظوة لديهم عندما صار المُلك إليهم، وإنما هم قبيل من قبائل العجم ".

سادساً: تؤكد جميع الدراسات العلمية في العصر الحديث أن الكرد من العرق الآري (الهندو أوربي)، وليسوا من العرق السامي، واستدلوا على ذلك بالاختلاف الجوهري بين اللغتين الكردية والعربية من حيث الخصائص الصوتية والصرفية والنحوية، لكن لا ننس أن من الرواة من برر ذلك بأن أولئك العرب خالطوا العجم، فنسوا لغتهم، واكتسبوا لغة جديدة، وعلى أية حال لم يتخذ علماء العصر الحديث مسألة اللغة فقط دليلاً على أن الكرد شعب آري، وإنما ربطوا ذلك بكثير من الأدلة التاريخية والأركيولوجية والإثنولوجية، وتناولوا وجود الكرد في إطار الهجرات الكبرى التي قامت بها الشعوب الآرية من وسط آسيا باتجاه الجنوب (الهند) والغرب (إيران وكردستان)، والشمال (أوربا)، وتلك الأدلة مبسوطة في معظم المؤلفات التي دارت حول الكرد، وذكر الكاتب الأرمني أرشاك سافراستان بعضها في كتاب له ترجمناه، وهو بعنوان (الكرد وكردستان)، كما أننا ذكرنا أهمها في كتابنا (تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية).

وخلاصة ما جاء في تلك المؤلفات أن الكرد هم أحفـاد الأقـوام الآرية (الهندو أوربية) التي سكنت البلاد التي سمّيت بعدئذ (كردستان) منذ ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد (لولو، گوتي، كاشّو، ميتّاني، سوباري، نايري، أورارتو)، وامتزج هؤلاء بأقوام آخرين كانوا يفـدون إلى كردستان من الشمال الشرقي، ومن أبرز هؤلاء الأقوام: الميديون الذين أسّسوا المملكة الميـدية، وأسقطوا الإمبراطورية الآشورية بالتعـاون مع الدولة البابلية سنة (612 ق.م).

هذه هي الحقيقة إذا انطلقنا من السؤال: هل الكرد من أصل عربي؟

أما إذا سألنا: ألا يمكن أن تكون ثمة جذور إثنولوجية وثقافية عريقة مشتركة بين العرب والكرد؟ فالأرجح أن النتائج ستكون مختلفة، بل قد تكون غريبة ومثيرة، وربما تُهدّم كثيراً من القناعات التي عُدّت وما زالت تُعدّ من الثوابت التاريخية الراسخة، لكن البحث في المسألة من هذا المنظور بحاجة إلى قدر كبير من الحفر في تاريخ شعوب غربي آسيا قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة آلاف عام، وتدقيق النظر في التكوين البدئي لكل من العرب والكرد.

وهذا كله بحاجة إلى المزيد من التسلّح بآليات التفكير العلمي الموضوعي، والالتزام بالمزيد من معايير البحث العلمي النزيه، وفوق هذا وذاك إنه بحاجة إلى مزيد من الجرأة على التحرر من جبروت خريطة الأنساب العبرانية المهيمنة إلى الآن على تصنيف الشعوب في ثقافات شرقي المتوسط. 

وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة.

 

المراجع

1.    ابن الأثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.

2.    الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978.

3.    حاجي خليفة: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، جامعة إستانبول، 1941.

4.    ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، دار الكتاب المصري- القاهرة، دار الكتاب اللبناني- بيروت، 1999.

5.    الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 هـ.

6.    الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1986.

7.    عباس العزّاوي، عشائر العراق، نسخة إلكترونية.

8.    العماد الأصفهاني: خريدة القصر وجريدة العصر (قسم شعراء الشام)، تحقيق الدكتور شكري فيصل، المطبعة الهاشمية، دمشق، 1959.

9.    عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، مكتبة المثنى، بيروت، ودار إحياء التراث العربي، بيروت، 1957.

10.      أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1970.

11.      المرادي: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، مكتبة المثنى، بغداد، 1968.

12.  المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973.

13.      المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره محمد مصطفى زيادة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1957.

14.      المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (الخطط المقريزية)، دار صادر، بيروت، 1974.

15.      ابن منظور لسان العرب المحيط، دار الجيل- بيروت، دار لسان العرب – بيروت، 1988.

16.      ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990.

د. أحمد الخليل   في 19 / 11 /  2008

dralkhalil@hotmail.com

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الثالثة )

أصل الكرد في التراث الإسلامي (3) - (التنافس العربي على الكرد)

للدكتور أحمد محمود الخليل

 

 كيف نقرأ التاريخ؟

كتابة التاريخ شيء، وقراءة التاريخ شيء آخر.

ويكاد يكون من المحال أن توجد كتابة تاريخية بلا نوايا، بغضّ النظر عن طبيعة تلك النوايا من حيث كونها إيجابية أم سلبية، وثمة قطبان اثنان كانا – وسيظلان – مؤثرين في الكتابات التاريخية، إنهما: الثقافة، والسياسة.

ولقراءة التاريخ قراءة صائبة ودقيقة تجب الإجابة عن أربعة أسئلة:

1 – من هو المؤرخ الذي سرد المعلومة التاريخية؟

2 – من أين استقى ذلك المؤرخ المعلومة التي سردها؟

3 – ما هو المناخ الثقافي والسياسي الذي كان يحيط بالمؤرخ؟

4 – ما هي الذهنية التي صدر عنها المؤرخ في سرد المعلومات؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة أمر مهم للتعامل مع كتابات المؤرخين بشكل عام، ولوضعها في سياقاتها الثقافية والسياسية الصحيحة، وهو- حسبما أرى- أكثر أهمية في التعامل مع كتابات المؤرخين المسلمين بشكل خاص، لأن كتاباتهم في عهد التأسيس (القرن الأول والثاني والثالث الهجري) كانت تقع، بهذا القدر أو ذاك، تحت تأثير الأمور الآتية:

1 – استقاء المعلومات من مصادر مجهولة تماماً في كثير من الأحيان، والاكتفاء بعبارات غامضة مثل ( قيل، قال بعضهم، رأى بعضهم، زعم، زعموا، ... ).

2 – إسناد المعلومة، بعض الأحيان، وعبر سلسلة من العنعنات، إلى راوٍ، من غير أن يذكر ذلك الراوي أية مصادر استقى منها المعلومة (كتاب، شاهد على الحدث، آثار، ... )، والإيهام بأن ذلك الراوي ثقة، ولا مجال للشك في أقواله.

3 – الوقوع في أسر الخرافات والأساطير، وعدم الاحتكام، في نقل المعلومة، إلى منطق العقل ومقتضيات الواقع، ولاسيما في المعلومات المتعلقة ببدايات نشأة الشعوب وتفرعها.

4 – ضعف الحس العلمي النقدي، والشغف برواية ما هو مثير من الغرائب والعجائب.

5 – الوقوع تحت تأثير الروايات التي تُرجمت من الكتب الفارسية والسريانية والعبرانية، وعدم تمحيصها تمحيصاً علمياً كافياً.

6 – الافتقار- بعض الأحيان- إلى القدر الكافي من النزاهة العلمية، والانسياق مع التوجهات الدينية والتيارات المذهبية، ومداهنة الوضع السياسي القائم.

7 – الوقوع تحت تأثير شهوة (تنفيخ المعلومة)، وتنفيخ المعلومة يعني في النهاية (تنفيخ الكتاب)، فيصبح ضخماً، بل يصبح مجلدات ضخمة، ولا يخفى شغف الذهنية الشرقية التقليدية بالجانب الكمي على حساب الجانب الكيفي (النوعي)، والمؤسف أن هذه الذهنية ما زالت تفعل فعلها على الصعيد الثقافي.

العرب والتاريخ قبل الإسلام

وما دمنا بصدد أصل الكرد في التراث الإسلامي، فلنقم بجولة سريعة في ربوع نشأة (علم التاريخ) عند العرب في الإسلام، فالمعروف أن الأمية كانت هي الغالبة على العرب قبل الإسلام، ولم يكن المجتمع العربي القبلي يحظى بمؤسسات علمية تساعد على الدرس والبحث والتأليف والنشر، وأقصى ما رواه مؤرخو الأدب في هذا المجال أن النخبة العربية اختارت بعض القصائد العربية المتميّزة في العصر الجاهلي (عصر ما قبل الإسلام)، لبعض كبار الشعراء، فكتبتها وعلّقتها على جدار الكعبة، أو وضعتها في خزانة الكعبة، فسمّيت تلك القصائد باسم (المعلَّقات)، وما زال هذا الاسم قائماً، وما عدا ذلك لم نجد في مصادر التراث العربي أنه كان ثمة كتب ومراجع تاريخية كانت النخبة العربية تتوارثها قبل الإسلام.  

ومن باب الحذر نستثني أولئك العرب المعروفين بلقب (الحنفاء)، ومنهم الشاعر الثقفي أُميّة بن أبي الصَّلْت، والمتنور المكي زيد بن عمرو بن نُفَيْل، وهو ابن عم عمر بن الخطاب ( ابن هشام: السيرة النبوية، ج 2، ص 53، 73. ابن حبيب: المحبَّر، ص 171. المسعودي: مروج الذهب، ج 1، ص 70 - 71)، ونستثني أيضاً أولئك العرب الذين تنصّروا أو تمجّسوا (اعتنقوا الزردشتية) أو تهوّدوا، فقد كان هؤلاء يطّلعون على كتب العقائد التي اعتنقوها، ونذكر منهم على سبيل المثال المتنوّر المكي المتنصر وَرَقة بن نَوْفل ابن عم السيدة خديجة زوجة الرسول (ابن هشام: السيرة النبوية، ج 2، ص53 . والمسعودي: مروج الذهب، ج 1، ص 74، 73)، والمتنوّر المكي الآخر النَّضْر بن الحارث بن كَلَدة الذي كان متأثراً بالثقافة الزردشتية، ومطلعاً على بعض أخبار التاريخ الفارسي، فكان يعارض الرسول، ويروي لقريش أخبار أسفنديار وغيره من ملوك الفرس، وقد أمر الرسول بقتله يوم فتح مكة عقاباً له (ابن حبيب: المحبّر، ص 161، والمسعودي: مروج الذهب، ج 1، ص 250 - 251).

على أن من المفيد الأخذ في الحسبان أن عدد هؤلاء المتنورين كان قليلاً جداً، بالقياس إلى سائر العرب، وكانوا يقيمون- على الغالب- في المراكز الرئيسة الواقعة على الخط التجاري الدولي المعروف باسم (طريق البخور)، وأبرز تلك المراكز هي يَثرب ومكة والطائف، وهي تقع جميعها في المنطقة الجغرافية المعروفة باسم (الحجاز) في غربي شبه الجزيرة العربية، ثم إن هؤلاء المتنورين  كانوا شبه معزولين وشبه منبوذين من غالبية المجتمع العربي ذي الثقافة الوثنية، ولم يكن لهم تأثير يُذكر في رسم ملامح الثقافة العربية.

ويمكن الترجيح بأن العرب عبروا من العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي، وهم لا يملكون مدوّنات تاريخية، كتلك التي كانت عند الفرس والرومان واليونان والمصريين والهنود، ولم يكن في التراث الثقافي العربي حينذاك علم يصحّ أن يُطلق عليه اسم (علم التاريخ). حسناً، وهل معنى ذلك أن العرب كانوا شعباً بلا تاريخ؟ لا بكل تأكيد، إذ من المحال أن تكون الشعوب بلا ذاكرة، ومن المحال من ثَمّ أن تكون بلا تاريخ، لكن تاريخ كل شعب يتشكل وينتظم وفق أوضاعه البيئية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى المجتمع العربي، وعلى ضوء ذلك ينبغي البحث في (التاريخ) عند العرب.

إن العرب قبل الإسلام، ومع ظهور الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، وبحسب ما ورد في المصادر العربية الإسلامية، كانوا يتألفون بشكل عام من فرعين رئيسين هما:

1. عرب الجنوب (اليمن) المنتمون إلى الجد الأكبر قَحْطان، وتطلق عليهم المصادر العربية الإسلامية اسم (العرب العاربة)؛ أي العرب الأصلاء، وكان هؤلاء أصحاب ممالك ودول تعود بداياتها إلى حوالي ألف عام قبل الميلاد، من أبرزها دولة مَعِين، ثم دولة سَبأ، ثم دولة حِمْيَر، وكانت تلك الدول تمتلك المراكز التجارية الواقعة في الطرف الجنوبي من طريق البخور، لكنها انتهت إلى الضعف والزوال، وقد حدث انهيار سد مَأْرب سنة (120 ق.م) (أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، ص 41)، أو سنة (542 م) (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 19. وفيليب حتي: تاريخ العرب، ص 99 وكان انهياره كالقشة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل العربي، ووقعت اليمن في قبضة الاحتلال الحبشي حلفاء الروم سنة (525 م)، وانتهى الاحتلال الحبشي سنة (575 م) (سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ص 193)، وحل محله النفوذ الفارسي الساساني، وكان من المتوقع أن يكون في تلك البلاد مصادر تاريخية، لكن الغريب أن الأمر لم يكن كذلك، ولم يبق من شاهد على تلك الدول والممالك سوى مصدرين هما: الآثار القائمة، والروايات الشفهية.

2. عرب الشمال المنتمون إلى الجد الأكبر عَدنان، وتطلق عليهم المصادر العربية الإسلامية اسم (العرب المستعربة)، وتنسبهم إلى النبي إسماعيل ابن النبي إبراهيم، ومعروف أن عرب الشمال لم تكن تجمعهم دولة، وإنما كان النظام القبلي هو السائد بينهم، وبعبارة أخرى: كان كل فرد يحمل جنسية قبيلته، وكان لكل قبيلة حِماها (وطنها) وشعراؤها وخطباؤها (إعلاميوها) ونسّابوها ورواة أخبار حروبها (مؤرخوها).

وخلاصة القول أنه كان للعرب قبل الإسلام معلومات تاريخية، لكنها كانت مبثوثة في قصائد الشعراء وخطب الخطباء، وكان النسابون ورواة أخبار الأيام هم العارفون بها، وكانت تلك المعلومات تنتقل من جيل إلى آخر عبر الروايات الشفوية، ولذلك كانت عرضة للضياع، وللتحريف والتشويه، وللحذف والإضافة.

العرب والتاريخ في الإسلام

قد يُظن أنني رحلت بعيداً عن موضوعنا الأساسي، وهو أصل الكرد في المصادر الإسلامية، والحقيقة أنني ما زلت في صلب الموضوع، فما جاء حول أصل الكرد في تلك المصادر يعود بلا ريب إلى مصادر أقدم، بلى، هذا هو المفترض، وإلا فمن المنطقي والموضوعي أن نحكم عليها بأنها مختلقة ومدسوسة، وقد ذكرت سابقاً بأنني لم أجد في التراث العربي قبل الإسلام (الشعر، الخطب، أخبار الحروب) ذكراً للكرد، وذكرت بأنني لست ضيفاً طارئاً على ذلك التراث، إنه مجال تخصصي الأكاديمي، دراسة وبحثاً وتأليفاً، وهكذا لم يبق أمامنا سوى أمر واحد؛ وهو الاعتقاد بأن ما جاء حول الكرد في مصادر التراث العربي إنما وُجد بعد ظهور الإسلام، وهذا ما يجب أن نتناوله بالتحقيق والتمحيص، وفي سبيلنا إلى ذلك دعونا نتذكر الحقائق الآتية:

1. ظهر الإسلام بين عرب الشمال، وكان رسول الإسلام قرشياً من عرب الشمال، وجاء القرآن (كتاب الإسلام) بلهجة قريش، وهي القبيلة الأرفع مكانة بين عرب الشمال.

2. إن القبائل ذات الأصول الجنوبية (القحطانية) التي رحلت إلى الشمال نتيجة خراب سد مأرب، ولأسباب أخرى، كانت قد اكتسبت ثقافة عرب الشمال، ونذكر منها- على سبيل المثال- قبيلة طيّئ، فهي إحدى فروع قبيلة مَذْحِج القحطانية الكبرى، ونذكر قبيلتي (الأَوْس والخَزْرَج) في يَثْرِب- سمّيت (المدينة) في الإسلام- فهما تنتسبان إلى قبيلة الأَزْد القحطانية الكبرى، وكذلك المَناذرة أصحاب الحِيرة في جنوب غربي العراق، والغَساسنة في جنوبي بلاد الشام.

3.  لم يُلغ الإسلام النظام القبلي، وبتعبير آخر: لم يُلغ الجنسية القبلية، وإنما أوجد إلى جانبها جنسية أوسع وأشمل هي الجنسية الإسلامية، وهذا يعني أن كل قبيلة احتفظت بتراثها الشفوي، أي بتاريخها الخاص، وبه كانت تُعرف عند القبائل الأخرى.

4. صارت القبائل أكثر حرصاً على تاريخها في القرن الأول الهجري خاصة، لسببين: الأول انتظام أبناء كل قبيلة تحت راية قبيلتهم في الغزوات والفتوحات الإسلامية، لبث روح التنافس في ميادين الحروب. والثاني قيام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بإحداث (الديوان)، وكانت مهمة القائمين على (الديوان) تسجيل أسماء أفراد كل قبيلة في سجل خاص، بقصد إحصائهم حيناً، وتوزيع حصصهم المالية من بيت المال حيناً آخر.

وفي كنف هذا التغيير الكبير الذي أحدثه الإسلام في المجتمع العربي، ولحاجة كل قبيلة إلى التفاخر بمآثرها في خضمّ الفتوحات من ناحية، وخلال الصراعات المذهبية والسياسية من ناحية أخرى، نشطت الروايات التاريخية، ولاقت رواجاً كبيراً، يقول هاملتون جب إن " نشاط النسّابين، الذي قوي حين استُحدث الديوان، وحين تضاربت مصالح الأحزاب العربية المتنافسة، بلغ في الفترة الأموية حداً اضطرب معه علم الأنساب كله " (دراسات في حضارة الإسلام، ص 146). وكانت النتيجة أن روايات النسّابين دُوّنت، وتمّ الاحتفاظ بها، مدمجةً ضمناً في الأحداث التي واكبت ظهور الإسلام وانتصاره داخل شبه الجزيرة العربية، وعلى الصعيد الإقليمي، ولا شك في أن تدوين القرآن والأحاديث النبوية كان من جملة العوامل المساعدة على البدء بتدوين أخبار العرب، وظهور الكتابات التاريخية في المجتمع العربي.

رحلة إلى البدايات

لكن كيف كانت تلك البدايات؟

إن أقدم المؤرخين العرب الذين صنّفوا كتباً في التاريخ، وذكرتهم المصادر الإسلامية، رجلان اثنان: عُبَيْد بن شَريَّة الجُرْهُمي ( ت نحو 67 هـ =  نحو 686 م)، ووهْب بن مُنََبِّه (ت 114 هـ =  732 م)، وقد ذكر هاملتون جب أن كتابات هذين المؤرخين:

" برهان ساطع على أن العرب الأول كانوا يفتقرون إلى الحس والمنظور التاريخيين، حتى عندما يتطرقان إلى ذكر أحداث تكاد تكون معاصرة لهما. ومع هذا فقد تقبّلت الأجيال المتأخرة أكثر ما كتباه، وأدخله المؤرخون وغيرهم من المؤلفين في كتبهم. وكان ابن إسحاق ممن رووا عن عُبيد، ... حتى الطَّبَري، وهو يعدّ فريداً في ميدان التأليف الديني، استمد في تفسيره الكبير للقرآن، كثيراً من أقاويل وهب بن مُنَبِّه ... وهكذا بقيت هذه الأساطير عنصراً مخالفاً للمنطق في ميدان التدوين التاريخي العربي كله، فكانت عقبة في سبيل نشوء ملكة النقد، وفي الوصول إلى أي فهم واضح للتاريخ القديم " (دراسات في حضارة الإسلام، ص 144- 145).

أجل، هكذا كان شأن التدوين التاريخي في القرن الأول الهجري، وجدير بالذكر أن المؤرخين لم يُرجعوا الروايات الدائرة حول أصل الكرد إلى أيّ من هذين المؤرخين، وإنما أرجعوا بعضها إلى اثنين من مشاهير علماء النسب العرب:

-  الأول هو ابن الكَلْبي، محمد بن السائب بن بِشر بن عمرو بن الحارث الكلبي، أبو النَّضْر ويُعرف بـ (ابن السائب الكلبي)  (ت 146 هـ = 763 م)، نسّابة، راوية، عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب، من أهل الكوفة، مولده ووفاته فيها، وهو من قبيلة (كَلب) اليمنية. (ابن النديم: الفهرست، ج 1، ص 167. والزركلي: الأعلام، ج 8، ص 133).

-   والثاني هو أبو اليَقْظان، واسمه عامر بن حَفْص، واشتهر بلقب سُحَيْم لسواد لونه، توفي سنة (170 هـ) بحسب ابن النديم، وسنة (190 هـ =  806 م) حسبما جاء في الأعلام للزركلي، وله كتب، منها (أخبار تميم) و (كتاب النسب الكبير)، وقد وُصف بأنه " ثقةٌ فيما يرويه " (ابن النديم: الفهرست، ج 1، ص 165 – 166. والزركلي: الأعلام، ج 3، ص 350).

ومر في الحلقة الأولى من هذه السلسلة أن الزبيدي نقل في (تاج العروس، مادة كرد) ما يلي: " وقال أَبو اليقظان: هو كُرْدُ بن عمرِو بن عامِرِ بن رَبِيعَةَ بن عامر بن صَعْصَعَةَ ". ثم أورد الزبيدي ما يلي: " أَمَّا الأَكرادُ فقال ابن دُرَيدٍ في الجمهرة : الكُرْدُ أَبو هذا الجِيلِ الذين يُسمَّوْنَ بِالأَكراد. فزعمَ أَبو اليَقْظانِ أَنَّه كُرْدُ بن عمرِو بن عامر بن ربيعةَ بنِ عامر بن صَعْصَعَةَ. وقال ابن الكلبِي: هو كُرْد بن عمرو مُزَيْقِياءَ . وقعوا في نَاحِيَةِ الشَّمَال لَمَّا كان سَيْلُ العَرِم، وتَفَرَّقَ أَهلُ اليَمن أَيْدِي سَبَأ ".

ومر قبل قليل أن ابن الكلبي توفي سنة (146 هـ)، وأن أبا اليقظان توفي سنة (170 هـ) أو سنة (190 هـ)، وهذا يعني أن أقدم خبر مدوّن عن أصل الكرد، في التراث العربي، يرجع إلى حوالي منتصف القرن الثاني الهجري، أما قبل ذلك، أي طوال القرن الأول الهجري، فلا شيء مدوّن وصلنا، ولكن ما لاشك فيه أن كلاً من ابن الكلبي وأبي اليقظان قد اقتبس روايته من مصدر سابق عليه، وقد يكون لكل من عُبيد بن شَريّة الجُرهمي ووَهْب بن مُنِبِّه علاقة بتلك الرواية وانتشارها بعدئذ بين علماء الأنساب، ولا سيما أنهما كانا من المصنّفين، وقد يكون مصدر الرواية شخصاً آخر غير هذين المؤرخين.

والمهم أن تسلسل الرواية الخاصة بأصل الكرد يقف عند ابن الكلبي وأبي اليقظان فقط؛ هذا مع العلم أن النخبة الثقافية العربية، متمثلةً في الصحابة والتابعين، ما كانوا يجهلون الكرد، فقد كان من الصحابة كردي اسمه جابان، وكان بين التابعين أكثر من شخصية كردية، أبرزها مَيمون الكردي ابن جابان المذكور، ورجّحنا في كتابنا (تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية) أن جابان كان من قرية (سَرْدَرُوذ) التابعة لمدينة هَمَذان (آمدان/ أكباتانا، عاصمة الميديين)، وأن ابنه ميمون كان حياً في أواخر القرن الأول الهجري (انظر ياقوت الحموي: معجم البلدان، 3 / 236. وابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب، ج 2، باب السين والراء).

فحص الروايات

وثمة ثلاثة تساؤلات جديرة بالاهتمام.

التساؤل الأول: لماذا تأخر شيوع ذكر نسبة الكرد إلى العرب طوال قرن ونصف من الزمان تقريباً؟ هل للمسألة علاقة بالصراعات التي نشبت في المجتمع الإسلامي حينذاك؟ إنها كانت صراعات لها أوجه ثلاثة، لكنها كانت تتقاطع وتتشابك على نحو عجيب:

-     الوجه الأول هو الصراع بين السلطة الأموية ومعارضيها من الشيعة والخوارج.

-  والوجه الثاني هو الصراع بين العرب العدنانيين والعرب القحطانيين، وكان حكّام بني أمية يجيدون إثارة ذلك الصراع، ويستقوون كل مرة بأحد الجناحين للقضاء على الآخر، أو لإخضاعه.

-  والوجه الثالث هو الصراع بين المسلمين الموالي (الأعاجم/غير العرب) وبين السلطات الأموية ذات العصبية العربية المتشددة.

ولمزيد من التوضيح لنعد إلى الرواية الأقدم وهي رواية ابن الكلبي، فقد توفي هذا النسّابة سنة (146 هـ) كما مر، والأرجح أن روايته لهذا الخبر لم تكن قبيل وفاته مباشرة، وإنما قد تعود إلى ما قبل ذلك بعقد أو بعقدين وربما أكثر، وضروري ها هنا أن نأخذ في الحسبان أن هذا النسّابة عاصر أحداث الثورة العباسية ضد الدولة الأموية، وتكللت تلك الثورة بالنجاح سنة (132 هـ)، أي قبيل وفاة ابن الكلبي بـ (14) سنة فقط.

ودعونا ننقّب أكثر في سيرة ابن الكلبي، فقد جاء في المصادر أنه " شَهد وقعة دَير الجَماجم مع ابن الأشْعَث " (الزركلي: الأعلام، ج 8، ص 133)، وكانت تلك الوقعة سنة (82 هـ)، وابن الأشعث هذا هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكِنْدي (قتل سنة 85 هـ = 704 م)، وكان قائد الجيش الأموي المقاتل في الجبهة الشرقية ضد الترك، لكنه اختلف مع أميره الحجّاج بن يوسف الثقفي والي بني أمية على العراق وفارس، وقاد ثورة خطيرة ضده وضد الحكم الأموي سنة (81 هـ، أو 82 هـ)، وقاتل معه كثيرون من الموالي، ودفع حياته ثمناً لتلك الثورة.

ولعل الأمر يصبح أكثر وضوحاً إذا علمنا أن قبيلة كِنْدة يمنية (قحطانية)، وأن ابن الكلبي ينتمي إلى قبيلة كَلْب، وهي يمنية (قحطانية) أيضاً، وأن بني أمية وواليهم الحجّاج هم من عرب الشمال (بنو عدنان), وهكذا فإن هوى ابن الكلبي كان يمانياً، وكان من معارضي الحكم الأموي، وكان من الموالين للثورة العباسية ضد دولة بني أمية، حسبما يُفهم مما ذكره ابن الندي في (الفهرست، ج 1، ص 167).

ونصبح أكثر تفهّماً لاهتمام ابن الكلبي (اليماني) بالأكراد حينما نعرف الجغرافيا التي تمركزت فيها ثورة ابن الأشعث إلى حد كبير، إنها منطقة جنوب شرقي العراق حالياً، وجنوب غربي إيران، وكانت بعض مناطق جنوبي كردستان تشكل قسماً كبيراً من الجغرافيا التي اندلعت فيها تلك الثورة، وبتحديد أكثر دقة: إن قسماً كبيراً من جغرافيا الثورة هي منطقة الكرد اللور (يسمّون الآن الكرد الفَيْلي)، وهي تتاخم الأهواز (خوزستان) جنوباً، ومنطقة الجبال (إقليم الجبال) شمالاً، وذكر كل من الطَبَري وابن الأثير أن ابن الأشعث خسر إحدى معاركه في السوس (سوسا) أمام عمارة بن تميم قائد جيش الحجّاج، فانهزم ومن معه " وساروا حتى أتوا سابُور، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالاً شديداً على العَقَبة [المضيق]، فجُرح عمارة وكثير من أصحابه، وانهزم عمارة وترك لهم العَقَبة " (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 4، ص 484. وانظر تاريخ الطبري، ج6، ص 368).

لماذا الاختلاف؟

والتساؤل الثاني: ماذا وراء الاختلاف في نسبة الكرد إلى الفرع القحطاني تارة وإلى الفرع العدناني تارة أخرى؟ هل كان ثمة تنافس بين نسّابي الفرعين العدناني والقحطاني لتنسيب الكرد إلى هذا الفرع دون ذاك؟ وما سبب ذلك التنافس؟ وها هنا لا بد من العودة إلى تدقيق النظر في رواية الزبيدي السابقة الذكر، فالملاحظة الأولى ها هنا أن ابن الكلبي ينسب الكرد إلى الفرع القحطاني (الجنوب)، أما أبو اليقظان فينسبهم إلى الفرع العدناني (الشمال). وقد مر أن ابن الكلبي هو نفسه من الفرع القحطاني، وبمراجعة سيرة أبي اليقظان يتضح أنه ينتسب إلى الفرع العدناني، وكان النسّابة الحامي لتواريخ ذلك الفرع، وهذا واضح في مؤلفاته، فمنها: كتاب حِلف تميم بعضها بعضاً، وكتاب أخبار تميم، وكتاب نسب خِنْدِف وأخبارها، وتَميم وخِنْدِف من القبائل المُضَرية العدنانية.

وهكذا بات واضحاً أن التنافس على تنسيب الكرد إلى العرب العدنانيين وإلى العرب القحطانيين كان قائماً، ونصبح أقرب إلى استكشاف أبعاد تلك المنافسة حينما نعود إلى ما رواه الزبيدي مرة ثانية، ونقرأه بمزيد من الدقة، فالزبيدي نفسه يمني (قحطاني)، لكنه توفي سنة (1205 هـ = 1790م)، أي أنه من أبناء القرن الثامن عشر الميلادي، وحينذاك كانت جذوة التنافس العدناني/ القحطاني قد همدت، على النقيض مما كان عليه الأمر في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، ولذا نقل الزبيدي رواية أبي اليقظان بأمانة، من غير تشكيك فيها، فقال: " وقال أبو اليقظان: ...".

والأمر مختلف في الرواية التي ساقها ابن دُرَيْد، وقد أوردها الزبيدي أيضاً بأمانة، فقد قال ابن دُريد: " فزعمَ أَبو اليَقْظانِ..... وقال ابن الكلبِيِّ: ... ". والفرق كبير بين معنى كلمة (قال) ومعنى كلمة (زعم)، فالأولى خبر حيادي يحتمل الصدق والكذب، أما الثانية فتحمل في طياتها عناصر التشكيك والاتهام بالكذب، ومن الأمثال العربية القديمة (زعموا: مَطِيّةُ الكذب)؛ أي إذا قيل: (زعم فلان كذا) فذلك تنبيه إلى أنه يكذب. والغريب أن ابن دُرَيد لم يستخدم مع ابن الكلبي الكلمة الاتهامية (زعم)، وإنما استخدم الكلمة الحيادية (قال).

ولا نعرف سبب هذا التمييز إلا إذا عرفنا من هو ابن دُرَيْد؛ إنه محمد بن الحسن بن دُرَيْد الأَزْدي (223 - 321 هـ = 838 - 933 م)، من أَزْد عُمان من قحطان، وكنيته أبو بكر، ولد في البصرة، وانتقل إلى عُمان، فأقام بها اثني عشر عاماً، وعاد إلى البصرة، وهو من أئمة اللغة والأدب، وكانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء. وهكذا فقد بطل العجب إذ عُرف السبب، فابن دُريد القحطاني أمضى معظم حياته في القرن الثالث الهجري، وهو القرن الذي كانت فيه آثار التنافس العدناني القحطاني ما زالت قائمة في المجتمع العربي، ولذا فهو منحاز إلى ابن الكلبي القحطاني، ومتحامل على أبي اليقظان العدناني، رغم أن هذا الأخير كان معروفاً بأنه ثقة في رواياته كما مر.

وظل التنافس على تنسيب الكرد قائماً إلى القرن الرابع الهجري، وأوضح مثال على ذلك ما قاله المؤرخ المسعودي بهذا الشأن، فبعد أن استعرض الآراء المختلفة بشأن أصل الكرد، ختم الكلام بعبارة يقينية واضحة، فقال مفصحاً عن رأيه: " وما قلنا عن الأكراد فالأشهر عند الناس، والأصحّ من أنسابهم أنهم من ولد ربيعة بن نزار ". وهكذا نفى المسعودي أن يكون الكرد من الفرع القحطاني، وجعلهم من الفرع العدناني حصراً.

وهذا يستدعي أن نتساءل: من هو المسعودي؟ إنه علي بن الحسين بن علي (ت 346 هـ = 957 م)، وهو مؤرخ قدير وصفه هاملتون جب بقوله: " ومن حق المسعودي أن يعدّ من أعظم المؤرخين العرب " (دراسات في حضارة الإسلام، ص 155)، والمسعودي عربي قحّ من ذرّية الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود، وينتمي  عبد الله بن مسعود إلى القبيلة المُضرية العدنانية هُذَيْل؛ وهكذا نجد أن المسعودي يصنّف الكرد في قائمة قومه العدنانيين، وليس في قائمة القحطانيين، وهذا دليل على أن ذيول التنافس القبلي بين الفرعين الكبيرين كانت لا تزال حية في عهده (القرن الرابع الهجري).  

 

ظاهرة فريدة

والمثير في الموضوع أن الروايات المنسوبة- حول أصل الكرد- إلى النسّابة العرب الأقحاح روايات لا تخرج عن حدود الواقعية، وهي بعيدة كل البعد عن الجانب الخرافي الأسطوري، كما أنها خالية من كل ألوان الدس والتحامل والتشويه؛ فالكرد في هذه الروايات بشر عاديون، ينتمون إلى بني آدم، وليسوا من الجن، كما أنهم ليسوا كائنات مستنسخة مشوَّهة، نصفها آدمي (من خلال الأمهات)، ونصفها الآخر شيطاني (من خلال الشيطان المعروف بالجَسَد).

ولا تقف دلالات روايات النسّابة العرب عند هذا الحد بشأن الكرد، وإنما توحي، على نحو واضح، بأن الكرد أناس غير رديئين، بل توحي بأنهم أناس ممتازون، وجديرون بأن يكونوا من العرب، سواء أكانوا عدنانيين أم قحطانيين، وسواء أكانوا من مُضَر أم من رَبيعة. بل دعوني أقل: إن إقبال النسّابة العرب على تنسيب الكرد إلى الأصل العربي كان- وفق أعراف ذلك العصر- نوعاً من التشريف والتكريم للكرد، بلى، كان ذلك امتيازاً يدعو إلى الفخار.

ولا تتضح أبعاد ذلك التشريف والتكريم إلا إذا استكشفنا المناخات السياسية والثقافية والاجتماعية التي كانت سائدة حينذاك، فالعرب- أقصد الأقحاح المعروفين بقبائلهم وأنسابهم، وليس عرب اللغة- كانوا الأمة التي أنجبت الرسول، وبلغتهم كان القرآن وكان الحديث النبوي وكانت أنواع الإنتاج الثقافي، ومنهم كان الخليفة (أمير المؤمنين)، ومنهم كان السادة والقادة وكبار الولاة، في حين كانت بقية الشعوب الإسلامية تسمّى (الموالي)، ومن يرجع إلى مصادر التراث العربي قبل الإسلام وفي الإسلام يدرك كم كان العربي معتزاً بهويته القومية، وكم كان ينظر إلى (الأعاجم) باستعلاء، وحسبي أن أذكر الشواهد الآتية:

·   " قدَّم نافعُ بن جُبَيْر بن مُطْعِم [قرشي] رجلاً من أهل الموالي يُصلِّي به، فقالوا له في ذلك؛ فقال: إنَّما أردتُ أن أتواضع لله بالصَّلاة خلفَه. وكان نافعُ بن جُبَيْر هذا إذا مَرَّت به جِنازة قال: من هذا؟ فإِذا قالوا: قُرشي؛ قال: وا قَوْماه! وإذا قالوا: عربيّ؛ قال: وا بلدَتاه! وإذا قالوا: مَوْلى؛ قال: هو مالُ الله يَأخذ ما شاء، ويَدَع ما شاء " (ابن عبد ربّه: العِقد الفريد، ج 3، ص 412 - 413).

·   تزوّج عبد الله بن كَثِير، مولى بني مَخْزُوم، من امرأة عربية، وهو يحبها وهي تحبه، لكن مُصْعَب بن الزُّبَيْر [= ابن العَوّام] فرّق بينهما، لا لشيء، سوى أنها عربية، وأنه من الموالي (محمد عمارة: فجر اليقظة العربية، ص 96).

·   أراد أحد كبار الدهاقين (وجهاء القرى في بلاد فارس) أن يتزوج امرأة من باهلة، وتعدّ باهِلة من أصغر قبائل العرب وأكثرها ضَعَة، فرفضت القبيلة طلبه. ففكر الدِّهْقان في سَبيها، وأثارت هذه الحادثة حرباً كبيرة انتصر فيها العرب ( زاهية قدورة: الشعوبية، ص 50).

·   " كانت العرب، إلى أن عادت الدولة العباسية، إذا أقبل العربي من السوق ومعه شيء فرأى مولى دفعه إليه ليحمله عنه، فلا يمتنع، ولا السلطان يغيّر عليه، وكان إذا لقيه راكباً وأراد أن ينزل فعل، وإذا رغب أحد في تزوّج مولاة خَطبها إلى مولاها دون أبيها وجدّها " (أحمد أمين:  ضحى الإسلام، ج 1، ص 25).

إن ما أوردناه هو قليل جداً مما جاء في مصادر التراث العربي حول موقف العرب الأقحاح من الموالي، فكيف تجاوز النسّابة الخطوط الحمر التي كانت مرسومة بين العرب والموالي اجتماعياً؟ وكيف تجرّأوا على إدخال الكرد إلى ملكوت التميّز العربي حينذاك؟ وقد فعلوا ذلك إزاء البربر (الأمازيغ) أيضاً، ولم يفعلوه لا إزاء النبط (سكان جنوبي العراق)، ولا إزاء الفرس والترك، ولا ننس في الوقت نفسه أن الكرد – قبل الإسلام- كانوا يختلفون عن العرب لغة وديناً، ومع ذلك كان النسابة والمؤرخون يبحثون عن العوامل الواقعية التي تبرر ذلك الاختلاف، ونذكر هنا قول المسعودي: " وقد اعتصموا في الجبال طلباً للمياه والمراعي، فحالوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الأمم "؛ وقد أوردنا هذا الخبر في الحلقة الأولى.

وللمرء أن يتساءل: ما أسباب التنافس القائم بين نسّابي عرب الجنوب ونسّابي عرب الشمال تارة، وبين نسّابي عرب الشمال من مُضر وربيعة تارة أخرى، على تنسيب الكرد إلى هذه الفرع أو ذاك، وإلى هذه القبيلة أو تلك؟

الحقيقة أن الأسباب غير معروفة بدقة، لأن أصحاب الروايات- أقصد النسّابين والمؤرخين- لم يذكروها، وليس لنا إلا أن نلجأ فيها إلى الظن والاحتمال والترجيح، وربما لأن الكرد كانوا يشكّلون قوة قتالية هامة، سواء أكان ذلك خلال الصراع بين الشيعة والدولة الأموية، أو بين العباسيين والدولة الأموية، وكانوا يهيمنون على جغرافيا واسعة، وكان كل طرف من الأطراف العربية المتنافسة والمتصارعة حريصاً على جذب تلك القوة إلى جانبه.

وأخيراً يبقى التساؤل الثالث والأهم، وهو:

ما مدى صحة نسبة الكرد إلى العرب؟

وهذا سيكون موضوع الحلقة القادمة.

 

المراجع

1.    ابن الأثير (عز الدين): اللباب في تهذيب الأنساب، دار صادر، بيروت، 1980.

2.    ابن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979م.

3.    أحمد أمين: ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة العاشرة، 1980.

4.    أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1977.

5.    الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978.

6.    ابن حبيب: المحبّر، رواية أبي سعيد السكّري، تصحيح إيلزة ليختن شتيتر، منشورات المكتب التجاري، بيروت.

7.    زاهية قدورة: الشعوبية، وأثرها الاجتماعي والسياسي في الحياة الإسلامية في العصر العباسي الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972م.

8.    الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1986.

9.    الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 هـ.

10.       سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر، دار الرقي، بيروت، 1986.

11.  الطبري: تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.

12.      ابن عبد ربه: العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982.

13.      د. فيليب حتي، د. أدوَرد جرجي، د. جبرائيل جبّور: تاريخ العرب، دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثامنة، 1990.

14.       الدكتور محمد عمارة: فجر اليقظة العربية، دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت، 1984.

15.  المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973م. وطبعة دار المعرفة، بيروت، 1982.

16.      ابن النديم: الفهرست، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1978م.

17.      هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، 1969.

18.      ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1991.

وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة

د. أحمد الخليل   في 2 – 11 -  2008

dralkhalil@hotmail.com

=======================

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الثانية )

أصل الكرد في التراث الإسلامي (2) - (ملاحظات وتساؤلات)

اتجاهات ...

استعرضنا، في الحلقة الأولى أبرز الروايات التي جاءت في مصادر التراث الإسلامي حول أصل الكرد، وهي تتلخص فيما يلي:

1.              الكرد عرب من نسل عَمرو بن صَعْصَعة (عرب الشمال).

2.              الكرد عرب من نسل رَبِيعة بن نِزار بن مَعَدّ بن عَدْنان (عرب الشمال).

3.              الكرد عرب من نسل مُضَر بن نِزار بن مَعَدّ بن عَدْنان (عرب الشمال).

4.    الكرد من نسل كُرْد  بن مَرْد بن صَعْصَعَة بن هَوازِن، من فرع قيس بن عَيْلان بن مُضَر بن نِزار بن عَدنان (عرب الشمال).

5.    الكرد من بقية أولاد حُمَيد بن زُهير بن الحارث بن أَسَد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ (من قريش- عرب الشمال).

6.              الكرد عرب من نسل عَمرو مُزَيْقِياء (عرب الجنوب- اليمن).

7.              الكرد أعراب فارس.

8.              الكرد من نسل أسْفَنْدِيار بن مَنُوشَهْر.

9.         الكرد من نسل أكراد بن فارسان بن أهلوا بن إرَم بن سام بن نوح.

10. الكرد من نسل أَشُوذ [ كذا. والصواب: أَشُور ]، ولأشوذ أربعة من الولد هم: إيران، ونَبٍيط، وجَرَْمُوق، وباسِل، ومن إيران: الفرس والكرد والخَزَر.

11.    الكرد من نسل الشبان الذين نجوا من الضحّاك (أزدهاك)، والتحقوا بالجبال، وتناسلوا هناك.

12. الكرد والكُرْج (الجورجيون) من نسل واحد: " ويقال في المسلمين الكُرد، وفي الكفار الكُرْج " (انظر القَلْقَشَنْدي: صبح الأعشى، ج1، 423 - 424).

13.    الكرد هم من بني إيران بن أشور، بن سام، بن نوح.

14.    الكرد من نسل كُرد بن كَنعان بن كُوش بن حام بن نوح.

15.    الكرد من نسل كُرد بن مُرْد بن يافث بن نوح.

16. الكرد من نسل شيطان يسمّى (الجَسَد)، فقد زنى هذا الشيطان بجواري النبي سليمان بن داود، وبنسائه المنافقات، فحملن منه، وأنجبن الكرد.

17. الكرد جيل (شعب) من الجن كُشف عنهم الغطاء، وقد ذكر الراغب الأصبهاني في كتابه (محاضرات الأدباء، ج 1، ص 160) أن " عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأكراد جيل الجن كُشف عنهم الغطاء. وإنما سُمّوا الأكرادَ لأن سليمان عليه السلام لما غزا الهند، سَبى منهم ثمانين جارية وأسكنهم جزيرةً، فخرجت الجن من البحر فواقعوهن، فحمل منهم أربعون جارية، فأُخبر سليمانُ بذلك، فأمر بأن يخرجن من الجزيرة إلى أرض فارس، فولدن أربعين غلاماً، فلما كثروا أخذوا في الفساد وقطع الطرق، فشكوا ذلك إلى سليمان، فقال: أكردوهم إلى الجبال! فسموا بذلك أكراداً ". ولسنا ندري هل تقتصر الرواية عن النبي على "الأكراد جيل الجن كُشف عنهم الغطاء"، أم يشمل الباقي من الرواية أيضاً؟

ونخرج من هذه الروايات بالملاحظات الآتية.

الملاحظة الأولى

أول ما يلفت الانتباه هو كثرة الروايات الدائرة حول أصل الكرد في المصادر الإسلامية، واختلاف تلك الروايات، فالكرد تارة من نسل عربي، وتارة أخرى من نسل فارسي، وثالثة من نسل سام بن نوح، أي هم (ساميون) حسب التصنيفات الحديثة للشعوب، ورابعة هم من نسل يافث بن نوح، أي هم (آريون)، وخامسة هم ليسوا بشراً، وإنما هم فريق من الجن تجسّدوا في أشكال آدمية، وسادسة نصف الكردي أدمي  (من جهة الأمهات) ونصفه الآخر شيطاني (من جهة الأب: الشيطان الجَسَد).

والحقيقة أن اهتمام مصادر التراث الإسلامي بأصول الشعوب وطباعها لم يكن مقصوراً على الكرد، وإنما كان موجَّهاً إلى شعوب أخرى، نذكر منهم العرب عَدنانيين وقَحْطانيين، والروم، والفرس، والدَّيْلَم، والنَبْط (النَّبِيط)، والسُّريان، والقُبط، والنُّوبة، والترك، والبَرَبَر (الأمازيغ)، وشعب التِبِّت، وشعب الأندلس (إسبانيا). لكن لم تكن الروايات الدائرة حول أصل هذه الشعوب كثيرة ومختلفة، ومتضاربة أحياناً، كالروايات الدائرة حول أصل الكرد.

والأرجح أن وراء الأمر سببين اثنين:

1 – السبب الأول هو الغموض الذي كان يحيط بالكرد، فمن خلال مراجعاتي المتكررة للأدب العربي قبل الإسلام (الجاهلي)، ولا سيما الشعر- وهو دائرة تخصصي الأكاديمي إلى جانب الأدب العربي في صدر الإسلام- لم أجد أيّ ذكر للكرد، لا من قريب ولا من بعيد، وهذا يعني أن العرب- خاصّتهم وعامّتهم- ما كانوا يمتلكون، قبل الإسلام، معلومات عن الكرد، أو أنهم كانوا يمتلكون معلومات قليلة جداً، ولم يعرفوهم عن قرب إلا مع بدء الفتوحات الإسلامية على الجبهة الشرقية، والصراع مع الدولة الساسانية الفارسية.

2 – السبب الثاني ناجم إلى حد كبير عن السبب الأول، فندرة المعلومات عن الكرد قبل الإسلام أدّى إلى قبول كل الروايات؛ مهما كانت درجة اختلافها وتخبّطها وتناقضها، وهذا أمر يستوي فيه رواة الأخبار القدامى سواء أكانوا من العرب أم من غير العرب.

والمثير للانتباه أننا لا نجد الروايات تتزاحم وتتناطح حينما يكون الأمر متعلقاً بأصول الشعوب الأخرى، ولنأخذ الترك مثلاً، فليس في شعر العرب قبل الإسلام أيّ ذكر لهم، وكانت مواطنهم تقع في وسط آسيا، وهذا يعني أنهم كانوا بعيدين جداً عن العرب في الجاهلية، بخلاف الكرد، فلماذا لا نجد كثرة الروايات وتخبطها وتناقضها بشأن أصلهم أيضاً؟ أما كان المنطق يقتضي أن تكون الروايات الدائرة حول أصلهم أكثر اختلافاً وتخبطاً وتناقضاً من الروايات المتعلقة بأصل الكرد؟ ولماذا لا نجد ذلك الاختلاف والتخبط في أصل الفرس أيضاً، علماً بأنهم كانوا- وما زالوا- من جيران الكرد القريبين جداً، وبينهم وبين الكرد قرابة في الأصل الأرياني، وفي الثقافة الزردشتية، هذا عدا خضوع الشعبين معاً لدولة قادها الميد (أجداد الكرد) تارة، ولأخرى قادها الفرس الأخمين والساسانيون تارة ثانية؟

وباختصار: لماذا خُص الكرد وحدهم بكل هذا التأصيل والتشعيب؟

الملاحظة الثانية

الروايات التي أرجعت أصل الكرد إلى العرب كثيرة، وفيها اختلاف حول التفاصيل، فرواية واحدة فقط تجعلهم من نسل العرب القحطانيين (عرب الجنوب- اليمن- العاربة)، وهي الرواية التي أرجعتهم إلى الجد الأكبر (عمرو مُزَيقياء)؛ وهذه الرواية منسوبة إلى النسّابة العربي (ابن الكلبي)، فقد قال: " هو كُرْد بن عمرو مُزَيْقياء. وَقعوا في ناحية الشمال لما كان سيل العَرِم، وتفرّق أهلُ اليمن أيدي سَبَأ " (انظر الزبيدي: تاج العروس، مادة كرد).

وأكثر الروايات تجعل الكرد من نسل العرب العدنانيين (عرب الشمال – المستعربة)، وأقدم من نُسب إليه أصل هذه الروايات هو النسّابة العربي (أبو اليقظان)، (انظر تاج العروس، مادة كرد). ومعروف في كتب الأنساب أن العرب العدنانيين هم من نسل نِزار بن مَعَدّ بن عدنان. ويتفرع من نزار فرعان اثنان:

-       فرع رَبِيعَة بن نزار.

-       وفرع مُضَر بن نزار.

وينقسم فرع مضَر بن نزار بدوره إلى فرعين أصغر هما:

-       فرع إلياس بن مُضَر، ومنه قريش.

-       وفرع عَيْلان بن مُضَر، ومنه بنو هَوازن.

وبمراجعة الروايات التي أرجعت أصل الكرد إلى الفرع العربي العدناني يتضح أنها مختلفة، فرواية تنسبهم إلى فرع رَبيعة بن نزار، وأخرى تنسبهم إلى فرع مُضر بن نزار، ووصل الاختلاف إلى داخل دائرة الفرع المُضري نفسه، فرواية تنسبهم إلى قَيس بن عَيلان بن مُضر. وأخرى تنسبهم إلى قُصيّ، وهو أعظم شخصيات قُرَيش، والجد الأكبر لبني هاشم (أسرة النبي محمد)، وقد مر أن الجد الأكبر لقبيلة قريش هو إلياس بن مُضر.

فماذا وراء هذه الاختلافات في الروايات التي نسبت الكرد إلى العرب؟

الملاحظة الثالثة

ثمة روايات أرجعت أصل الكرد إلى الفرس مباشرة حيناً، وإلى الشعوب الآريانية حيناً آخر، والمقصود بالشعوب الآريانية تلك الشعوب التي عاشت في آريانا، وهي المنطقة الجغرافية التي تشمل الآن كردستان، وإيران، والقسم الشمالي الغربي من أفغانستان (خُراسان قديماً)، وتلك الروايات غامضة بشكل عام، فالكرد تارة (أعراب فارس)، والمقصود بالأعراب (البدو)، والمقصود بكلمة (فارس) هو بلاد فارس، أي منطقة آريانا الغربية (إيران حالياً)، وليس المقصود (إقليم فارس) الذي يقع في جنوب غربي إيران حالياً.

ورواية أخرى تنسب الكرد إلى الأصل الفارسي مباشرة، من خلال (أسفنديار بن منوشهر)، ورواية أخرى تجعلهم من سلالة أولئك الشبان الذين كان وزير الملك الآرياني الضحّاك (أزدهاك) يطلق سراحهم، ويأمرهم بالهروب إلى الجبال، فتزاوجوا هناك وتناسلوا، وكان منهم الكرد.

والسؤال هو: ما حقيقة الصلة بين الفرس والكرد؟

وما حقيقة قصة الضحاك؟ أهي أسطورة أم حقيقة تاريخية؟

وماذا كان أصل أولئك الشبّان؟ هل كانوا من الفرس؟ أم من الميد؟

أم كانوا من جنسيات أخرى؟

الملاحظة الرابعة

هناك رواية جعلت الكرد والكُرج (الجورجيون) من أصل واحد، واتخذت من الدِين معياراً للتمييز، فالكرد هم المسلمون، والكُرج هم المسيحيون (الكفّار حسب التوصيفات الإسلامية التراثية). فهل اعتمد صاحب هذه الرواية على التقارب اللفظي بين اسمي (الكُرْد، الكُرْج)؟ وهل اتخذ ذلك التقارب اللفظي دليلاً على أن الشعبين شعب واحد في الأصل؟ أم أنه اعتمد أموراً أخرى مثل الجوار الجغرافي بين الكرد والكرج في جنوب غربي القوقاز؟ أم أن ثمة دليلاً آخر غير هذا وذاك؟

الملاحظة الخامسة

أرجعت بعض الروايات أصول الكرد إلى مراحل قديمة جداً، ولم تقف عند تنسيبهم إلى العرب والفرس، واعتَمدت على التقسيمات الواردة في التوراة حول أصل الشعوب؛ فشعوب العالم – بحسب التوراة- تعود إلى أبناء نوح الثلاثة، وهم سام (جد الساميين)، وحام (جد الحاميين/الأفارقة)، ويافث (جد بقية الشعوب). ونجد ضمن هذا التوجيه اختلافاً كبيراً، فالكرد تارة من بني أشور بن سام، وتارة من بني كنعان بن كوش بن حام، وثالثة من بني مرد بن يافث.

فلماذا كل هذا التضارب الشديد في تنسيب الكرد؟

وأين هي الحقيقة؟

الملاحظة السادسة

إن بعض الروايات جعلت الكرد مخلوقات مكوّنة من جنسين: الجنس الأول آدمي، باعتبار أن أمهات الكرد هن الجواري الآدميات اللواتي كنّ في قصر النبي سليمان. والجنس الآخر شيطاني، نسبة إلى الشيطان المعروف باسم (الجَسَد)، وتذكر الروايات أن هذا الشيطان جامع تلك الجواري المنافقات، فأنجبن منه الكرد، ولهذه الرواية علاقة بالآية القرآنية: ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ) (سورة ص، الآية 34). فقد جاء في كتب تفسير القرآن، حول هذه الآية، روايات متعددة وطويلة، خلاصتها أن النبي سليمان أراد دخول الخلاء لقضاء الحاجة، فخلع خاتمه، باعتباره خاتم النبوة والمُلك، وأعطاه لواحدة من نسائه، وكانت لها مكانة خاصة عنده بسبب جمالها، لكنها كانت حديثة عهد بالوثنية، فانتهز الشيطان الجسد الفرصة، وتقمّص شكل سليمان، واحتال على المرأة وأخذ منها الخاتم، وعندئذ جُرّد سليمان من جميع سلطاته، وصار الشيطان الجسد هو الآمر الناهي، وأصبح يضاجع زوجات سليمان ونسائه، وبعد حين استردّ سليمان خاتمه، فاستردّ سلطاته، وأبطل ما قام به الشيطان الجسد، لكن نساءه وجواريه كن قد حملن من الشيطان، وكان من المستحيل أن يمنعهن من وضع أولادهن. وابن جرير الطبري هو من المفسرين القلائل الذين ذهبوا إلى أن الله عصم نساء سليمان من الشيطان الجسد، فلم يضاجعهن. (انظر ابن الجَوْزي: زاد المسير في علم التفسير، ج 7، ص 132 – 138. والبَغَوي: معالم التنزيل في التفسير والتأويل، ج 4، ص 604 – 606. وابن كَثير: تفسير القرآن العظيم، ج 7، ص 57 – 58).

وجاء في (روح المعاني للآلوسي، ج 22، ص 198 - 199) حول تفسير هذه الآية أن النبي سليمان " قال : لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة، وجاءت بشِقّ رجل [نصف رجل]... فالمراد بالجسد ذلك الشِّق الذي ولد له، ومعنى إلقائه على كرسيه وضعُ القابلة له عليه ليراه ". وقد ذهب النَسَفي هذا المذهب أيضاً، وقال: " وأما ما يُروى من حديث الخاتم والشيطان، وعبادة الوثن في بيت آل سليمان عليه السلام، فمن أباطيل اليهود ". (انظر النَسَفي: مدارك التنزيل وحقائق التأويل، ج 3، ص 194).

لكن معظم المفسرين أخذوا بالتفسير الأول. والمهم في المسألة أنه لم يأت ولا في كتاب واحد من كتب تفسير القرآن أن الكرد من سلالة الشيطان الجسد وجواري النبي سليمان؛ وللتحقق من ذلك رجعت إلى أكثر من عشرين كتاباً من كتب التفسير، بين قديم وحديث، أذكر منها: (تفسير الطَبَري، تفسير القُرْطُبي، تفسير ابن كَثِير، تفسير البَغَوي، تفسير البَيْضاوي، تفسير الآلوسي، تفسير النَّسَفي، تفسير الكشّاف للزَّمَخْشَري، تفسير النّيسابوري، تفسير أبي السُّعود، تفسير الجَلالين، تفسير في ظلال القرآن).

فمن أين جاءت إذاً الرواية التي تجعل الكرد من نسل الشيطان الجسد؟!

ومن يقف وراءها؟ ولماذا تم اختلاق تلك الرواية أصلاً؟

الملاحظة السابعة

بعض الروايات جعلت الكرد نتاج تزاوج جنسين هما الجن والنساء الآدميات، لكن النساء هذه المرة جوارٍ هنديات، والجن جن البحر وليسوا جن البر، ومرة أخرى نرى أن للنبي سليمان علاقة بالموضوع، وأنه أمر أمهات الكرد الهنديات أن ينتقلن بأولادهن من تلك الجزيرة النائية في قلب البحر إلى بلاد فارس، لكن ذلك النسل الهجين (الجني / الآدمي) مارس قطع الطرق، فأمر النبي سليمان بطردهم من السهول إلى الجبال. وتشتق هذه الرواية اسم (الكرد) من قول النبي سليمان (اكردوهم إلى الجبال).

وينطلق مخترع هذه الرواية من فرضيتين:

-    الأولى أن النبي سليمان كان يتكلم العربية.

-    والثانية أن غزوات النبي سليمان وصلت إلى الهند شرقاً.

والحقيقة أن الفرضيتين كلتاهما محض خيال واختلاق؛ فلغة النبي سليمان كانت العبرانية (الكنعانية أصلاً)، وليس العربية. ومعروف أن سليمان حكم بين سنتي (961 – 922 ق.م)، حسبما ذكر سبتينو موسكاتي في كتابه (الحضارات السامية القديمة، ص 144)، أو بين سنتي (965 – 928 ق.م)، حسبما ذكر أبراهام مالمات، وحاييم تدمور، في كتابهما (العبرانيون وبنو إسرائيل، ص 216)، كما أن سليمان لم يستطع فرض سيطرته الكاملة على الممالك الآرامية في سوريا المجاورة لفلسطين شرقاً، فكيف وصل بغزواته إلى الهند؟ وكيف اخترق سوريا التي كان الحثيون الأقوياء يحكمون نصفها الشمالي بدءاً من حماه؟ وكيف اخترق بلاد الرافدين حيث كان الآشوريون الأقوياء يحكمون؟ وكيف اخترق كردستان وفارس حيث كان يسيطر الميد والفرس؟

إذاً فرواية كون الكرد من نسل الجن وجواري النبي سليمان هي من نسج الخيال جملة وتفصيلاً، وتتعارض مع الحقائق البيولوجية والتاريخية والجغرافية، فما الدافع إلى نسجها على هذا المنوال؟ ومن يقف وراء الأمر؟

هذه هي أبرز الملاحظات والتساؤلات التي تلفت انتباه المرء؛ وهو يراجع الروايات التراثية الخاصة بأصل الكرد، وسنسعى إلى الإجابة عنها في الحلقة القادمة إن شاء الله.

المراجع

1.    أبراهام مالمات، حاييم تدمور: العبرانيون وبنو إسرائيل في العصور القديمة، ترجمة وتعليق دكتور رشاد عبد الله الشامي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، الطبعة الأولى، 2001.

2.    الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978م.

3.    البغوي: معالم التنزيل في التفسير والتأويل، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1985.

4.    ابن الجوزي: زاد المسير في علم التفسير، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق- بيروت، الطبعة الأولى، 1964.

5.    الراغب الأصبهاني: محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء، د. م، د. ن، 1970.

6.    الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 هـ.

7.    سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة الدكتور السيد يعقوب بكر، دار الرقي، بيروت، 1986.

8.    الطبري: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1967م.

9.    القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تحقيق محمد حسين شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987.

10.      ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم البنّا، محمد أحمد عاشور، عبد العزيز غنيم، الشعب، القاهرة، 1971.

وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة

تيريج عفرين / د. أحمد الخليل   في 17 – 10 -  2008

dralkhalil@hotmail.com

 

===============

 

 

سلسلة دراسات من ذاكرة التاريخ

 ( الحلقة الأولى )

أصل الكرد في التراث الإسلامي (1) - (مصادر وروايات)

 

 

 المصطلح أولاً

نقصد بمصطلح (التراث الإسلامي) كل ما ينتمي إلى العهود الإسلامية على صعيد الدين (قرآن، تفسير، حديث، فقه، تصوف)، والتاريخ، والجغرافيا، والعلوم (طب، هندسة، رياضيات، فيزياء، كيمياء)، والفكر، والفلسفة، والأدب (شعر، نثر)، والفن (رسم، موسيقا، غناء). والمقصود بـ (العهود الإسلامية) هو الزمن الذي يبدأ بظهور الدعوة الإسلامية حوالي سنة (610 م)، وينتهي مع سقوط الدولة العثمانية، وقيام الزعيم التركي مصطفى كمال (آتاتورك) بإلغاء منصب الخلافة سنة (1924 م).

إذاً فالفترة التي تشملها (العهود الإسلامية) تمتد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان، وطوال هذا الزمن المديد كان الشعب الكردي – وما زال- أحد الشعوب الإسلامية، إنه ربيب التراث الإسلامي، ومن أبرز المساهمين في صناعة هذا التراث؛ كان منه الصحابي، والتابعي، والمفسّر، والمحدّث، والفقيه، وشيخ الإسلام، والصوفي، والمفكر، والفيلسوف، والطبيب، والمهندس، والمؤرخ، والجغرافي، وعالم الطبيعة، والأديب، والناقد، والشاعر، والموسيقي، والمغنّي، وكان منه السلطان، والملك، والأمير، والوزير، والوالي، والقائد العسكري، والمقاتل.

وبتعبير آخر: إن الشعب الكردي لم يكن قطّ خارج التاريخ الإسلامي، ولا خارج الجغرافيا الإسلامية، بل كان على الدوام في صميم كل منهما، فماذا قيل عن أصله في التراث الإسلامي؟ ومن أية زاوية جاء الحديث عن ذلك؟

اللقاء العربي الكردي

وقبل استعراض ما جاء في مصادر التراث الإسلامي حول (أصل الكرد)، ثمة حقيقة جديرة بالانتباه؛ وهي أن الكرد هم من أوائل الشعوب التي التقى بهم العرب المسلمون، أيام الفتوحات، في الجبهة الشرقية، ولعل الأمر يصبح أكثر وضوحاً إذا علمنا أن معركة القادسية سنة (15 هـ) بين العرب المسلمين والفرس جرت على تخوم كردستان، وأن معركة جَلُولاء سنة (16 هـ) ومعركة نَهاوَنْد سنة (19 أو 20 هـ) دارتا في صميم الأرض الكردية، وكانت هذه المعارك حاسمة في إسقاط الإمبراطورية الفارسية.

وهذا يعني أن العرب المسلمين عرفوا الكرد في وقت مبكّر جداً من القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، وصحيح أن الكرد كانوا تابعين، قبل الإسلام، للدولة الساسانية، وأنهم كانوا من أتباع العقيدة الزردشتية كالفرس، لكنهم كانوا شعباً له خصوصيته القومية، وكانوا معروفين باسمهم القومي (كرد، أكراد)، والدليل على ذلك أن المصادر الإسلامية سمّتهم باسمهم حينما قاوموا الهجوم العربي، أو انضموا إلى الثورات التي كانت تنفجر في وجه الفاتحين العرب، وإليكم الخبرين الآتيين:

v  " غزا عُتْبة بن فَرْقَد شَهْرَزُور والصامغان، ففتحها بعـد قتال على الجزية والخراج، وقتل خلقًا من الأكراد " (تاريخ ابن خلدون، ج 4، ص 982).

v " اجتمع إلى عمر [= ابن الخطاب] جيش من المسلمين، فبعث عليهم سَلَمة بن قيس الأَشْجَعي، ودفعهم إلى الجهاد على عادته، فلقوا عدواً من الأكراد المشركين، فدعوهم إلى الإسلام والجزية فأبوا، وقاتلوهم، وهزموهم، وقتلوا وسبوا، وقسّموا الغنائم " (تاريخ ابن خلدون، ج 4، ص 993).

وقد جرى هذان الحدثان زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب: جرى الأول سنة (22 هـ)، والثاني سنة (23 هـ)، أقول: رغم الوقت المبكّر الذي عرف فيه العربُ المسلمون الشعبَ الكردي نجد في مصادر التراث الإسلامي أخباراً عن أصلهم هي غامضة تارة، ومتناقضة تارة أخرى، وغريبة تارة ثالثة، وصحيح أن بعض تلك المصادر أخذ في مواضيع كثيرة بالخرافات، وأنزل الأساطير منزلة الحقائق الدامغة، وخلط بين الحقيقة والوهم، ونقل المعلومات تحت بند (قال الناس، وقيل، وقالوا، منهم من زعم)، من غير تحكيم للعقل والمنطق في معظم الأحيان؛ لكن مع ذلك فإن بعض ما جاء فيها حول (أصل الكرد) أمر يثير العجب حقاً.

وإليكم أشهر ما جاء في هذا المجال.

في مجال التاريخ

قال المسعودي في (مروج الذهب، ج 2، ص 122 – 123):

" وأما أجناس الأكراد وأنواعهم فقد تنازع الناس في بدئهم؛ فمنهم من رأى أنهم من ربيعة بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان، انفردوا في قديم الزمان، وانضافوا إلى الجبال والأودية، ودعتهم إلى ذلك الأَنَفة، وجاوروا مَن هنالك مِن الأمم الساكنة المدنَ والعمائرَ من الأعاجم والفرس، فحالوا عن لسانهم، وصارت لغتهم أعجمية، ولكل نوع من الأكراد لغة لهم بالكردية.

ومن الناس من رأى أنهم من مُضَر بن نزار، وأنه من ولد كُرْد  بن مَرْد بن صَعْصَعَة بن هَوازِن، وأنهم انفردوا في قديم الزمان لوقائعَ ودماءٍ كانت بينهم وبين غَسّان.

ومنهم من رأى أنهم من ربيعة ومُضَر، وقد اعتصموا في الجبال طلباً للمياه والمراعي، فحالوا عن اللغة العربية لما جاورهم من الأمم.

" ومن الناس من ألحقهم بإماء سليمان بن داود عليه السلام حين سُلب ملكَه، ووقع على إمائه المنافقات الشيطان المعروف بالجَسَد، وعصم الله منه المؤمنات أن يقع عليهن، فعلق منه المنافقات، فلمّا ردّ الله على سليمان ملكَه، ووضع الإماءُ الحواملُ من الشيطان، قال: اكردوهن إلى الجبال والأودية. فربّتهم أمهاتهم، وتناكحوا، وتناسلوا، فذلك بدء نسب الكرد.

" ومن الناس من رأى أن الضحّاك ذا الأفواه المقدَّم ذكره في هذا الكتاب، الذي تنازعت فيه الفرس والعرب من أيّ الفريقين هو، أنه خرج بكتفيه حيّتان، فكانتا لا تُغذَّيان إلا بأدمغة الناس، فأفنى خلقاً كثيراً من فارس، واجتمعت إلى حربه جماعة كثيرة وافاه أفريدون بهم، وقد شالوا راية من الجلود تسمّيها الفرس درفش كاوان، فأخذ أفريدون الضحّاك وقيّده في جبل دُنْباوَنْد على ما ذكرنا، وقد كان وزير الضحّاك في كل يوم يذبح كبشاً ورجلاً، ويخلط أدمغتهما، ويطعم تَينك الحيّتين اللتين كانتا في كتفي الضحّاك، ويطرد من تخلّص إلى الجبال، فتوحّشوا وتناسلوا في تلك الجبال، فهم بدء الأكراد، وهؤلاء من نسلهم، وتشعّبوا أفخاذاً، وما ذكرناه من خبر الضحّاك فالفرس لا يتناكرونه، ولا أصحاب التواريخ القديمة والحديثة ".

وأضاف المسعودي (مروج الذهب، ج2، ص 124):

" وما قلنا عن الأكراد فالأشهر عند الناس، والأصحّ من أنسابهم أنهم من ولد ربيعة بن نزار ".

وقال المقريزي في (كتاب السلوك، ص 22 – 23):

" الأكراد ينسبون إلى كُرْد بن مَرْد بن عمرو بن صَعْصَعة بن معاوية بن بَكْر بن هَوازِن. وقيل: هم من ولد عَمْرو مُزَيْقِياء بن عامر ماء السماء. وقيل: إنهم من بني حميد بن طارق الراجع إلى حميد بن زهير بن الحارث بن أَسد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ بن كِلاب. وهم قبائل: منهم الگُورانية بنو گوران، والهَذْبانية، والبَشْنَوية، والشاهَنْجانية، والسرلجية، واليزولية، والمَهْرانية، والزَّرْزارية، والكِيكانية، والجاك، واللُّور، والدُّنْبُلية، والرَّوادية، والديسنية، والهكّارية، والحَمِيدية، والوركجية، والمروانية، والجلالية، والشَّبَنْكية، والجُوبي. وتزعم المروانية أنها من بني مروان بن الحكم بن أبي العاص. وتزعم بعض الهكّارية أنهم من ولد عُتْبة بن أبي سفيان صَخْر بن حَرْب ".

في مجال الدين

قال الآلوسي في (روح المعاني، ج 25، ص 102 – 103):

" وفي القاموس [= المحيط] الكرد بالضم جيل من الناس معروف والجمع أكراد وجدهم كرد بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء. انتهى ...، والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقيا، وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب، وليس من أولاد عمرو المذكور، إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلاً، وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال: إنهم من ذرية خالد بن الوليد، وآخرون يقال: إنهم من ذرية مُعاذ بن جَبَل؛ وآخرون يقال: إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب، وآخرون يقال: إنهم من بني أُميّة، ولا يصح عندي من ذلك شيء، بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البَرزَنْجية لا شك في صحة نسبهم، وكذا في جلالة حسبهم ".

" وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: البارز [الجبال] يعني الأكراد ...، وأخرج ابن المنذر والطبراني في (الكبير) عن مجاهد قال: أعراب فارس وأكراد العجم، وظاهر العطف أن أكراد العجم ليسوا من أعراب فارس، وظاهر إضافة أكراد إلى العجم يُشعر بأن من الأكراد ما يقال لهم أكراد العرب، ولا نعرف هذا التقسيم وإنما نعرف جيلاً من الناس يقال لهم أكراد، من غير إضافة إلى عرب أو عجم، وللعلماء اختلاف في كونهم في الأصل عرباً أو غيرهم فقيل : ليسوا من العرب، وقيل منهم، قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان في ترجمة المُهلب بن أبي صفرة ما نصه: حكى أبو عمر بن عبد البَر صاحب كتاب (الاستيعاب) في كتابه (القَصْد والأَمم في أنساب العرب والعجم) أن الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء، وأنهم وقعوا إلى أرض العجم، فتناسلوا بها، وكثر ولدهم، فسُمّوا: الأكراد، وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله ابن عبد البَر:

لَعَمْرُك، ما الأكرادُ أبناءُ فارس      ولكنه كُردُ بنُ عَمرو بنُ عامر ".

وجاء في ( تفسير الطبري، ج 10، ص 43، وتفسير القرطبي، ج 11، ص 200، وروح المعاني للآلوسي، ج 17، ص 67 – 68):

" الكرد هم أعراب فارس ". 

هذا ما جا ء عن أصل الكرد في مصادر المسلمين السنّة.

وأبدى بعض علماء الشيعة اهتماماً بالموضوع أيضاً، فقال الكُلِيني في (الكافي، ج 5، ص 158):

" عن محمد بن يحيى وغيره عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم، عمن حدثه عن أبي الربيع الشامي، قال: سألت أبا عبد الله [= الحسين بن علي] عليه السلام، فقلت: إن عندنا قوماً من الأكراد، وأنهم لا يزالون يجيئون بالبيع، فنخالطهم ونبايعهم. فقال: يا أبا الربيع، لا تخالطوهم، فإن الأكراد حيّ من أحياء الجن كشف الله عنهم الغطاء، فلا تخالطوهم ".

وقأل الكُلِيني أيضاً في (الكافي، ج 5، ص 352، باب من كره مناكحته):

" عن علي بن إبراهيم، عن إسماعيل بن محمد المكي، عن علي بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن الحسين بن خالد، عمن ذكره، عن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله [= الحسين بن علي] عليه السلام: ولا تنكحوا الأكراد أحداً، فإنهم من جنس الجن كشف لله عنهم الغطاء ".

في مجال اللغة

قال الزبيدي في (تاج العروس، مادة كرد):

" الكُرد (بالضم) جيل معروف، وقبائل شتى، الجمع أكراد... واختُلف في نسبهم؛ فقيل: جدّهم كُرْد بن عمرو مُزَيْقِياء، وهو لقب لعمرو، لأنه كان كل يوم يلبس حُلّة، فإذا كان آخر النهار مزّقها لئلا تُلبَس بعده... وهذا الذي ذهب إِليه المُصنّف هو الذي جَزم به ابن خَلِّكان في (وَفَيات الأعيان)، في ترجمة المُهلَّب بن أبي صُفْرة، قال: إن الأكراد من نسل عمرو مُزيقياء، وقعوا إلى أرض العجم، فتناسلوا بها، وكثر ولدهم، فسُمّوا الأكراد. قال بعض الشعراء:

     لَعَمْرُكَ، ما الأكرادُ أبناءُ فارسٍ     ولكنّهم كُرْدُ بنُ عَمرِو بنُِ عامرِ

هكذا زعم النسّابون.

وقال ابنُ قُتَيْبة في كتاب (المعارف): تَذكر العجم أن الأكراد فَضْلُ طعام بِيُوراسف [= بيوراسب]. وذلك أنه كان يأمر أن يُذبَح له كلَّ يوم إنسانان، ويُتّخَذ طعامه من لحومهما، وكان له وزير يقال له: أَرياييل، فكان يَذبح واحداً، ويُبقي واحداً يَسْتَحْييه، ويَبْعث به إلى جبل فارس، فتوالدوا في الجبال وكثروا.

قال شيخنا: وقد ضعّف هذا القول كثير من أهل الأنساب.

قلت: وبيوراسف هذا هو الضحّاك الماري [= المادي= الميدي]، مَلَك العجم بعد جَمْ بن سليمان ألف سنة. وفي (مفاتيح العلوم) هو معرَّب دَهْ آك؛ أي ذو عشر آفات. وقيل: معرّب أزده؛ أي التِنّين، للسَّلَعَتَين اللتين كانت له. وقال أبو اليقظان: هو كُرد بن عمرو بن عامر بن رَبيعة بن عامر بن صَعْصَعة.

وقد ألّف في نسب الأكراد فاضل عصره العلاّمة محمد أفندي الكردي، وذكر فيه أقوالاً مختلفة بعضُها مصادم للبعض، وخبط فيها خبط عَشواء، ورجّح فيه أنه كُرْد بن كنعان بن كُوش بن حام بن نوح، وهم قبائل كثيرة، ولكنهم يرجعون إلى أربعة قبائل: السُّوران، والكُوران، والكلهور، واللّر. ثم إنهم يتشعّبون إلى شعوب وبطون وقبائل كثيرة لا تُحصى، متغايرة ألسنتهم وأحوالهم. ثم نقل عن (مناهج الفِكَر ومباهج العِبَر) للكُتْبي ما نصُّه: أما الأكراد فقال ابن دُرَيْد في (الجَمْهَرة): الكُرْد أبو هذا الجيل الذين يسمَّون بالأكراد، فزعم أبو اليَقْظان أنه كُرْد بن عَمْرو بن عمرو بن صَعْصَعة. وقال: ابن الكَلْبي هو كُرْد بن عمرو مُزَيْقياء، وَقعوا في ناحية الشَّمال لما كان سيل العَرِم، وتفرّق أهلُ اليمن أيدي سبأ.

وقال المسعودي: ومن الناس من يزعم أن الأكراد من ولد ربيعة بن نزار، ومنهم من زعم أنهم من ولد كُرْد بن كنعان بن كوش بن حام. والظاهر أن يكونوا من نسل سام، كالفُرس، والمعروف منهم السُّورانية، والكُورانية، والعمادية والحَكارية، والمحمودية والبُختية، والبَشْنَوية، والجُوبية، والزَّرْزائية، والمَهْرانية، والجاوانية، والرضائية، والسَّروجية والهارونية، واللُّرية، إلى غير ذلك من القبائل التي لا تُحصى كثرةً، وبلادهم أرض الفارس وعراقُ العجم، وأذربيجان والإربل والموصل.

انتهى كلام المسعودي، ونقله هكذا العلامة محمد أفندي الكردي في كتابه.

قلت: والذي نقل البُلْبيسبيّ عن المسعودي نص عبارته: هكذا تنازع الناس في بدء الأكراد، فمنهم من رأى من ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل، انفردوا في الجبال قديماً لحال دعاهم إلى ذلك، فجاوروا الفُرس، فحالت لغتهم إلى العُجْمة، وولد كل نوع منهم لغة لهم كردية. ومنهم من رأى أنهم من ولد مضر بن نزار، وأنهم من ولد كُرْد بن مرد بن صَعْصَعة بن هوازن، انفردوا قديماً لدماء كانت بينهم وبين غسّان، ومنهم من رأى أنهم من ولد ربيعة بن مضر، اعتصموا بالجبال طلباً للمياه والمرعى، فحالوا عن العربية لمن جاورهم من الأمم. وهم عند الفرس من ولد كرد بن إسفنديار بن مَنُوَجْهر. ومنهم من ألحقهم بإماء سليمان عليه السلام، حين وقع الشيطان المعروف بالجَسد على المنافقات، فعلِقن منه، وعُصم منهن المؤمنات، فلما وضعن قال: اكردوهن إلى الجبال...

ثم قال محمد أفندي المذكور: وقيل أصل الكرد من الجن، وكل كردي على وجه الأرض يكون ربعه جنّياً، وذلك لأنهم من نسل بِلْقيس، وبلقيس بالاتفاق أمها جنّية. وقيل: عصى قوم من العرب سليمان عليه السلام، وهربوا إلى العجم، فوقعوا في جَوار كان اشتراها رجل لسليمان عليه السلام، فتناسلت منها الأكراد. وقال أبو المعين النسفي في (بحر الكلام): ما قيل إن الجني وصل حرم سليمان عليه السلام، وتصرف فيها، وحصل منها الأكراد باطل لا أصل له. انتهى.

قلت: وذكر ابن الجوّاني النسّابة ... عند ذِكر ولد شالخ بن أَرفخشذ ما نصُّه: والعقب من فارسان بن أهلوا بن أَرم بن أَرفخشذ أكراد بن فارسان جد القبيلة المعروفة بالأكراد، هذا على أحد الأقوال. وأكثر من يَنسبهم إلى قيس، فيقول: كُرد بن مرد بن عمرو بن صَعْصَعة بن معاوية بن بكر بن هَوازن بن منصور بن عِكْرِمة بن خَصَفة بن قيس عَيْلان بن مُضَر بن نزار بن مَعَدّ بن عدنان،... والله أعلم ".

وقال الفيروزآبادي في (القاموس المحيط ، مادة كرد):

" الكَرْدُ ... جِيلٌ معروف، الجمع أَكْرادٌ، وجَدُّهُم كُرْدُ بنُ عَمْرٍو مُزَيْقِياءَ بنِ عامِرِ بنِ ماءِ السَّماءِ ".

-   -   -   -

هذا أبرز ما جاء في مصادر التراث الإسلامي حول أصل الكرد.

ونترك أمر مناقشة هذه الأقوال وتحليلها للحلقة الثانية.

المراجع

1.    الآلوسي: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الفكر، بيروت، 1978م.

2.    ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون دار الكتاب المصري، القاهرة ، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1999م.

3.    الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 هـ.

4.    الطبري: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1967م.

5.    الفيروزأبادي: القاموس المحيط،مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة، 1970 م.

6.  الكليني: الكافي، نقلاً من: سيد حسين الحسني الزرباطي: الكورد الشيعة في العراق، ط2، 2007، موقع جلجامش. وكتاب الكافي غير متوافر بين يدي.

7.  المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، الطبعة الخامسة، 1973م.

8.  المقريزي: كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، نشره محمد مصطفى زيادة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1957م.

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية

 / تيريج عفرين / د. أحمد الخليل   في 4 – 10 -  2008

dralkhalil@hotmail.com

العودة إلى الصفحة السابقة