الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 10:35 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الثانية - طريق نحو الشمال!

1- أمهات عظيمات.

للخريف في قرانا الجبلية لون خاص وطعم متميّز..

كانت والدتي صباح ذلك اليوم الخريفي على عجلة من أمرها.. وكعادتها رشّت قبضة من حبات السمسم الذهبية على ما تبقّى من العجين، وقسّمته إلى قطع أكبر من تلك التي كانت تعدّها للأرغفة العادية، ثمّ مرّرت عليها تلك العصا الأسطوانية الرشيقة المعروفة في الكردية باسم ( تِيرْ )، فانداحت القطع واحدة تلو الأخرى وتوسّعت، ثمّ ألصقتها الوالدة بالصفيحة الحديدية المحدّبة المحمّاة على النار (سَيْل= صاج)، وهي تعلم مدى حرصنا- نحن الصبية- على التهام ذلك الخبز السُّمسمي المقمّر كل صباح.

ثم هبّت مسرعة لمباشرة مهامها الأخرى.

عندما أستعرض تفاصيل حياتنا حينذاك أدرك كم كانت أمهاتنا عظيمات!

كان على والدتي ذاك الصباح أن تعدّ لنا طعام الفطور من ناحية، وتعدّني للتوجّه إلى (عفرين) من ناحية أخرى، كما لا ينبغي لها، بأيّ حال من الأحوال، أن تتخلّف عن جاراتها في حملة الاحتطاب.. كانت تلك الحملة تتفاقم وتصل إلى الذروة في الخريف.. إن حزم شوك (البلاّن) الضخمة التي نقلتها النساء على ظهورهن – بلى.. على ظهورهن- من الجبل غير كافية، فشوك البلاّن يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة، وكم من مرّة سمعت الشيوخ والعجائز يشبّهون الإنسان السريع الغضب والسريع الرضا بنار شوك (البلاّن)!

لم يكن ثمة مجال إلى التقاعس في ريفنا.

المرأة التي كانت تتقاعس عن استكمال حاجيات بيتها كانت تبدو أقل شأناً.. كانت النسوة يستهجنون تقاعسها.. وهكذا فلا بدّ من استكمال حملة الاحتطاب، تارة بجمع عيدان الذرة، وأخرى بجمع عيدان نبات القطن، وثالثة بالتوجّه زرافات إلى ضفاف (نهر عفرين) لجمع أغصان شجيرات (اللُّول) و(الكَز) وغيرهما.

2- حكمة عجوز.

في ذلك الصباح كان على الخال (شكري) أن ينتظرني بعض الوقت، لأقذف بضع لقيمات في جوفي، ولأرتدي دشداشتي، وأنتعل (التاسومة) التي أسمّيها حذاءً من باب التلطيف.. وكم فوجئت بدهشة خالي وهو يتساءل مبتسماً:

ـ " أبهذه الهيئة تريد الذهاب إلى المدرسة يا أحمد "؟!

 ثم التفت إلى والدتي قائلاً:

" يا أم أحمد! أين بنطاله؟! أين حذاؤه؟! " .

كان الخال يقصد بالحذاء ما كنا نسميه بـ (القُنْدَرَة)!

ما كانت والدتي تعرف شيئاً عن هذه الأمور، أقصد المظهر الذي تتطلّبه مسألة الالتحاق بالمدرسة، وما كانت تحبّ هذه التعقيدات.. أما أنا فقد أحببت والله هذه (التعقيدات!).. ولِم لا؟! فلكم تحرّقت شوقًا إلى انتعال (القندرة)!..

تذكّرت ما سمعته من العطّار المتجوّل (عبد الجليل).. قال: ذات مرة زار شاب امرأة عجوزًا في إحدى قرى (جبل سمعان).. كان يبتغي خطبة ابنتها، وكان قد ارتدى أجمل ثيابه، وانتعل (قندرة) فاخرة، فأعرضت عنه العجوز قائلة له: " يا بنيّ! بِدْنا طنجرة تُبَقبِق، ما بِدْنا قندرة تُزقزق! ". وهي تقصد أنها تريد لابنتها زوجاً يهتم بتأمين ضروريات الحياة، وليس زوجاً ينشغل بالكماليات والأمور الثانوية.

لكن ما لي وللعجوز والطنجرة والبقبقة! فالمهم الآن هو (القندرة)!.. ثم كيف آخذ برأي تلك العجوز وأنا أرى الدكتور (حسن أفندي) يزور مختار القرية قادمًا من عفرين، وهو يرتدي البنطال وينتعل (القندرة)؟! وكذلك كنت أرى الحاكم الذي كان يأتي إلى القرية لحلّ الإشكالات المعقّدة، وأرى جابي الضرائب يفعل الشيء نفسه! فهل تلك العجوز أعقل من كل هؤلاء؟!

لم يكن الوالد في المنزل حينذاك.. فانتهزت ملاحظات الخال الساخرة، ورحت أنهمر على الوالدة بالاحتجاج تلو الاحتجاج، وطوّرت الأمر أكثر، فشرعت أعصر عينيّ كمن يهمّ بالبكاء.. غير أن تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح.. واكتفيت مرغمًا بالوعود التي أنعمت بها الوالدة عليّ.

وسرعان ما انطلقت مع الخال.

3- لوحات خريفية.

النساء يتقاطرن من الطرق المتعرّجة مسرعات.

إنهن يتّجهن بقواديسهن الفارغة إلى (النبع) ليملأنها ماء.

أخريات وضعن القواديس المليئة على رؤوسهن، وتوجّهن إلى البيوت.

جارنا (عبد الله) يصفّر لحصانيه، ليرتويا من الماء قبل التوجّه إلى الحراثة.

 الإسكافي (أبو فارس) الذي كان يقدم كل عام من قرية (نُبُّل) [هي الآن مركز ناحية] قد حطّ رحاله إلى جانب جذع شجرة التوت الكبيرة قرب النبع.. إنه جالس على كرسيّه العتيقة المكسوّة بجلد خروف أبيض.. الأحذية القديمة منثورة أمامه.. أحذية رجال ونساء وصبية.. وها هو ذا قد انكبّ على حذاء قديم، يخيطه تارة، ويدقّ فيه المسامير تارة أخرى.. إلى جانبه عجوز وخّطه الشيب.. يتحادثان بمودّة.. يضحكان.. ولا ينسى (أبو فارس) بين حين وآخر أن يمرّر قطعة الشمع الأصفر على خيوطه المتينة، فتصبح أكثر متانة.. كان الجميع يحرص على الإتقان. 

بائع العنب القادم من القرى الجبلية الغربية في (ناحية راجو) قد وصل إلى القرية قبيل إطلالة الشمس من خلف الجبل.. إنه وضع صندوقيه تحت شجرة التوت الكبيرة نفسها.. شجرة التوت هي مركز القرية.. أظهر البائع بعض العناقيد الذهبية والخمرية اللون.. الحبّات غضّة بضّة.. انتصب البائع بقامته الفارعة، وسوّى قلنسوته البنيّة على رأسه، وراح ينادي بصوت جهوري:

ـ " تعالوا على العنب.. ها! بالنقود .. ها! بالحنطة.. ها! بالشعير..ها "!.

ما زلت أتذكّر إلى الآن جمال عناقيد العنب الخريفي ولذّته.. يُقبل أهل القرية على شراء العنب.. يقايضونه بالقمح وبالشعير.. النقود في جيوب الناس قليلة.. كنا في نهايات عصر المقايضة.. بائع العنب جذلان.. لن يتأخر في العودة إلى قريته.. سيأتي بعد أيام قليلة بحمل آخر. 

حماره الضخم ينصرف عن كيس العَلِيق.. يحرّك ذيله بعصبية.. يدفع بأذنيه الطويلتين إلى الأمام.. ينخرط في نهيق مديد البدايات متموّج النهايات.. إنه يردّ تحية الصباح بحماس على حمار آخر ينهق من أطراف القرية.. الحمير أيضاً تتعارف وتبني الصداقات.

جارنا العم (علي مراد) منشغل بفتح فوّهة بركة النبع، وتوجيه المياه إلى بستان الرمّان والمشمش.. إنه لا ينسى في الوقت نفسه أن يعبّ أنفاسًا عميقة من سيجارته الغليظة.. وينأى بسرواله عن رشقات الماء الملوّث بالطين.. زوجته العمة (زكية) مشهورة بحرصها على النظافة.

طفل يملأ الجو زعيقًا..

يتفلّت من بين يدي أخته الصغيرة..

يندفع في الطريق باكيًا حافي القدمين..

يريد اللحاق بأمه الذاهبة إلى الحقل.

ديك زاهي الريش تحيط به رعيّته من الدجاجات والفراخ.

ينبش التراب برجليه..

يصفّق بجناحيه..

يمدّ عنقه إلى أمام..

نخرط في صيحة فخورة مديدة.

غجريّتان نحيفتان ترتديان ثياباً فضفاضة.. إنها ثياب ذات خطوط سود وصفر.. إنهما تتحدّثان بلغة غريبة.. تمرّان قرب النبع بسرعة.. تدلفان إلى بيت الجدة (مدينة).. تبيعان إبراً وخيوطاً، وحبّاسات شعر، وخواتم، وعلكة طبيعية.. تقايضان كل ذلك بالطحين والزيت.. النقود في جيوب الناس قليلة.. كنا – كما سبق القول- في نهايات عصر المقايضة.. الناس لم يفقدوا كرامتهم.. المقايضة خير من التسوّل!

صبيّ يجري بحدّة خلف نعجة تخلّفت عن القطيع.

عجوز تحلب بقرة..

شيخ يسعل..

لم أكن منشغلاً بهذا المشهد القروي..

كان مشهداً مألوفاً.

كان الخال (شكري) سريع المشي.

     وعليّ أن أتّجه معه شمالاً.. نحو (عفرين).

(وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة)   

8 – 12- 2003    الدكتور أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar