الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 5:11 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الثالثة - داخل العالم.. خارج التاريخ !

1 – لوحات.. لا مذكّرات!

لست أكتب مذكّرات.. ولا يوميّات.

فأنا لم أعش في بلاط ملك..

ولم أخض حروباً عالمية..

ولم أقم برحلات استكشاف في أصقاع مجهولة..

ولم أزامل المشاهير من الرياضيين والفنانين والفنانات..

إن ما أحاوله هو استعادة لوحات من صميم الحياة..

لوحات بسيطة كما كانت حياتنا، وأحياناً ساذجة كما كان وعينا لأنفسنا وللعالم من حولنا، لوحات عشتها وعاشها كثير من أبناء جيلي، كنا نعتقد حينذاك أننا نعيشها اختياراً، وتبيّن لنا فيما بعد أننا عشناها اضطراراً.

ولا شك أن بين المذكّرات واللوحات فرقاً كبيراً.

وكي أسترجع تلك اللوحات بنكهتها الحقيقية، وبإيقاعها الواقعي، وكي أقدّمها للأجيال صادقة ونقيّة، وبعيداً عن التجميل أو التشويه، لا بد أن أسمّي الأشياء بأسمائها، من غير تضخيم ولا تقزيم، ولا تلميع ولا تزييف. وأستميح القارئ الكريم عذراً إذا وجدني أضع التدرّج التاريخي جانباً، فغاية ما أطمح إليه هو تصوير المواقف والمشاعر، وليس تدوين الأحداث وتأريخها.  

2 –  قريتي!

فتحت عينيّ على الحياة في قريتي (قرزيحل) في خريف سنة (1945م) حسبما هو مدوّن في سجلّ القيد الخاص بي.. وتقع قريتي هذه على بعد خمس كيلومترات جنوبي مدينة (عفرين)، إنها تتّكئ على السفح الغربي لجبل (لَيْلُون)، تجاورها قريتا (طُورِنْدَه) و(عَرْش قِيبار) شمالاً، وقرية (باسوطا) جنوباً، وقرية (عَين دارا) غرباً، وينتصب أمام القرية جبلان صغيران يفصل بينهما مضيق، يدعى الجبل الشمالي (جبل زيارة)، إذ تبدو في قمته قبّة متواضعة مبنية على قبر قديم لرجل مجهول الهوية يسمّيه أهل القرية (شيخ صالح)، ويدعى الجبل الجنوبي (جبل ملا موسى).

وبمناسبة الحديث عن (شيخ صالح) فإن كثيراً من ذكور الأجيال السابقة في قريتي كانوا  يحملون اسم (صالح)، تيمّناً باسم (شيخ صالح)، وقد لاحظت هذه الظاهرة- أقصد العلاقة بين الأسماء والمزارات- في كثير من قرى منطقة عفرين؛ ففي القرى القريبة من قلعة (النبي هُوري) الواقعة بين (مَيْدانكي) و(بُلْبل) تكثر أسماء (هُورُو) و(هُورِيك) و(أُوريا). في حين تكثر أسماء (عبد الحنّان) و(عبد المنّان) في القرى القريبة من مزار (حنّان ومنّان) في قرية (مَشْعَلا)، كما يكثر اسم (عبد الرحمن) في القرى القريبة من مزار (عبد الرحمن) الواقع في سهل (جنديرس).

الأسماء في حدّ ذاتها كون ثقافي مدهش.. لعلّنا نقوم برحلة عبره ذات يوم.

كانت بيوت قريتي – وما زالت- مبنية على السفح الغربي لجبل (ليلون) في شكل مدرّجات، كما هو شأن معظم قرى (عفرين) الجبلية.. الآن بيوت قريتي حديثة وعصرية.. كانت حينذاك بيوتاً من الحجارة والطين، ومسقوفة بأعمدة خشبية من جذوع الأشجار، ولا سيما أشجار الحُور (قَواق)، وكان أهلونا يأتون بفروع شجر (الكَز) من ضفاف نهر عفرين، ويبسطونها على جذوع الحور الممدودة على السقف بانتظام، ثمّ يفرشون طبقة من التراب على تلك الفروع، وينتهي السطح الخارجي للسقف بطبقة طينية رقيقة، لتمنع تسرّب مياه الأمطار إلى الداخل شتاء.

كانت بيوتاً متواضعة المظهر، لكن الجدّات والأمهات والأخوات كنّ يحاولن جهدهنّ إضفاء مسحة من الجمال على ذلك المظهر المتواضع، بوساطة تقنيات طبيعية متواضعة أيضاً، فكنّ في كل ربيع أو صيف يجلبن (الحَوار)- وهي تربة بيضاء اللون- من المناطق القريبة، ويضفن إليه الماء مع قليل من صبغ أزرق اللون يسمّينه (زَراق)، ثم يقمن بدهن جدران البيوت من الداخل بذلك السائل الذي تخالطه زرقة سماوية خفيفة، فيكتسب المنزل رونقاً خاصاً، ويوحي مرآه بالنظافة والأناقة والراحة النفسية، هذا علاوة على أنهنّ كنّ يحرصن على ترتيب الأثاث البسيط والمقتنيات بشكل منظّم، ويعلّقن على الجدران بعض السجاد المشرق اللون، أو بعض الزخارف التي كنّ يمضين ليالي الشتاء وهن ينسجنها على القماش الأبيض بخيوط زاهية الألوان، ويسمّينه بالكردية (قَناوِيج).

وما كان الذوق الجمالي للجدّات والأمهات يقف عند هذا الحدّ، وإنما كنّ يقمن بدهن واجهة المنزل من الخارج أيضاً بذاك السائل الحواري الناصع البياض المشوب بالزرقة الخفيفة، فكم كنت أتمتّع وأنا شاب بمنظر واجهات تلك البيوت في أُويقات الأصيل، حينما كنت أجلس على صخرة من صخور جبل (ملا موسى)، وتصبح القرية كلها أمامي! بل كم كان ذاك المنظر يغدو أجمل ربيعاً وصيفاً بعد اخضرار أشجار التوت التي كانت تزدان بها أفنية معظم البيوت!

في أسفل القرية كان ثمّة كهف صغير منخفض، يسيل منه الماء، ويتوزّع من بعد على أحواض حجرية متعدّدة، تنتشر على طرفي قنطرة رومانية مقوّسة الشكل، وتبدأ من الأعلى بحوض خاصّ لغرف مياه الشرب، ثمّ يتلوه حوض لغسل الملابس، هذا في الجهة الشرقية من القنطرة، أما في الجهة الغربية من القنطرة فكانت هناك ثلاثة أحواض خاصة لشرب البهائم من خيول وأبقار وحمير، وتسيل المياه بعدئذ في مجرى ضيّق لتتجمّع في بركة كبيرة، وكان أصحاب الحقول القريبة يستثمرونها في سقاية أشجار الرمان والمشمش والتفاح والجوز وبعض الخضار. وكانت ثمّة أحواض حجرية مستقلّة يملأها الرعاة بالمياه أيام الصيف لسقاية قطعان الغنم والماعز.

3 – سباقات ماراثونية!

كنت حينذاك، مثل غيري من الصبية، أرتدي ثوبًا واحدًا يلفّ جسدي من العنق إلى الكعبين، وأنتعل (تاسومة) حمراء، بلى.. كانت حمراء رائعة في البدايات، وسرعان ما كان ذلك اللون المثير يضيع بين لطخات أوحال السواقي والأمطار، فتصبح (تاسومة) لا أكثر! غير أننا كنا نتمرّد على (التاسومة) صيفاً، فنرميها جانباً، وننطلق حفاة في دروب القرية وعلى جنباتها، بل في الحقول أيضاً.. نلهو ونلعب.. نتراكض ونتدافع ونتسابق.. غير عابئين بالحجارة والأشواك والخدوش. وأحسب أن هذا التمرّد على (التاسومة) كان لا يثير الآباء والأمهات، فهو كان يريح جيوبهم، ويوفّر عليهم ثمن أحذية جديدة في كل فصل، ولا يكلّف الأمهات سوى إصدار الأوامر بضرورة غسل أقدامنا كل مساء، قبل أن ندخل المنزل، ونأوي إلى فرشنا.

كنت كغيري من الصبية أعرف الحياة لعبًا فقط.. لا شيء غير اللعب!

كنا نحوّل أكثر المهام جدّيةً إلى لعب، وهذا ما كان يزعج الأهل أحيانًا، فكانوا ينهمرون علينا بالتأنيب حينًا، وبالوعيد حينًا، وأحيانًا كان اللعب يجرّ علينا الأذى، وعلى الأهل الضرر، فكانوا يسرعون إلى معاقبتنا بالزجر تارة، وبقرص الآذان تارة، وأحيانًا قليلة كان الأمر يخرج عن المعتاد، فنتلقّى من الكبار صفعة على الخدّ، أو ضربة بفرع شجرة على الظهر، وفي هذه الحال كنا نجد في أكناف الجدّات والأمهات ملاذنا الآمن، ونحن نخفي في الوقت نفسه استغرابنا لكل هذا الغضب، ودهشتنا من هذا الهياج.. كن نعتقد بيقين مطلق أننا نمارس أموراً طريفة وبديعة وممتعة.

بلى.. كنا لا نفهم الكبار.. كنا نعجب من ردود أفعالهم غاية العجب.

فما هي المشكلة مثلاً إذا ركب أحدنا ظهر البقرة وهو يعود بها من الحقل! صحيح أن البقرة تُقتنى فقط لجرّ المحراث وللحصول على العجول والحليب، لكن أليس في ركوبها نوع من التجديد والإبداع والعبقرية؟! ثمّ أليس القعود على ظهرها العريض أبعث على الراحة؟! أليست مشيتها الوئيدة أدعى إلى الاطمئنان؟!

وما المشكلة إذا (امتطى) أحدنا ظهر الحمار، ووقف عليه منتصبًا، آخذًا بالرسن بين يديه، ثم راح يحثّ الحمار على الإسراع في المشي، ليسبق غيره من الصبية وقد انتصبوا جميعهم وقوفاً على ظهور حميرهم؟!

كان نعدّ من يفوز في هذا السباق بطلاً لا يقلّ عن شرف البطولة التي يحوزها بعض الناس هذه الأيام في مسابقات الأولمبياد، ونتحرّق غضبًا على أنفسنا لفشلنا وسقوطنا من على ظهر الحمار، وكنا نحمّل الحمار مسؤولية فشلنا، فننقضّ على أذنيه عضًّا، وعلى ظهره لكماً، ونصبّ عليه العذاب بالضرب صبّاً.. ما كنا لنفهم الحمار المسكين أبداً، وما كان الحمار ليفهمنا أبداً.

4 – العم أبو حميد!

ثم ما هي المشكلة إذا وقع أحدنا من على ظهر جواده الأولمبي – أقصد حماره- فانكسرت يده؟! فالنتيجة معروفة.. ستقرّعه أمّه قليلاً، ثم ستبحث عن قطعة صابون وبيضتين أو ثلاثة، ثم ستأخذه مساء إلى بيت العمّ (أبو حميد) – مدّ الله في عمره وعافاه إذ علمت أنه مريض الآن- فهو، كما درجت عادة الرعاة، لا يعود بقطيعه من المرعى إلا عند مغيب الشمس.

وهناك ستشرح الأم للعم أبي حميد قصّة (البطل الصغير)، وهي تسمّيه (إبليس) تارة، و(شيطان) تارة أخرى، و(قرد) أحياناً، وهي صفات ظاهرها تعبير عن الاستياء، وباطنها تعبير عن الإعجاب بنشاط ولدها وبحيويته وحبه للمغامرة، وترجوه أن يتفحّص يده. وما كنا نجد أنهم يدفعون للعم أبي حميد مالاً، وإنما هي بضع كلمات تعبّر عن الشكر والتقدير والامتنان، مثل: " أمدّك الله بالصحة وطول العمر"، " ليكن الله معك"، " ليرزقْك الله حجّة مباركة"، " ليحفظ الله أولادك". 

وما كنا نجد العمّ أبا حميد يتذمّر أو يتبرّم.. كان يخلع عباءته بهدوء فيضعها جانبًا، ثم يشرع في لمس مكان الإصابة بلطف، وكم كنا نسرع إلى الصراخ تعبيرًا عن الألم في مثل تلك الحالات! وما كان العم (أبو حميد) يعير اهتمامًا بتلك الصرخات، وإنما كان يمضي جادًا في تحديد نوع الإصابة، ترى أهي خلعٌ أم رضٌّ أم كسرٌ؟! ثم ينهمك في إعداد الجَبِيرة إذا كان كسراً.

كان ُيخرج موساه الحادّة من جيبه، ويقوم أولاً بتشذيب عيدان خشبية صغيرة مستطيلة، ثم يكشط قطعة الصابون، فيجعلها شرائح رقيقة، ويضيف إليها سائل البيض، ويخلط قشر الصابون وسائل البيض جيداً، ثم يمدّد ذاك الخليط على قطعة قماش، ويضع عيدان الخشب المشذّبة حول المنطقة المصابة بعد القيام بالجبر، ويلفّ قطعة القماش بأناة وعناية حول العيدان، ثم يشدّ اليد المجبرة إلى العنق بمنديل كبير، ويحدّد الفترة التي ينبغي مراجعته فيها للنظر ثانية، وفك الجبيرة إذا تبيّن أن اليد عادت كما كانت.. وخلال إجراء تلك العملية الطبية ما كانت الابتسامة تفارق وجه العم أبي حميد، وما كانت (عيادته) البسيطة تخلو من الدعابات اللطيفة.

شتّان بين وداعة العم أبي حميد وجهامة وجوه بعض أطبّائنا المعاصرين!

5 – غزوات مباحة!

 وما المشكلة إذا سطونا عند الظهيرة على ثمار التفاح اليانعة في بستان العمّ (علي مراد) ؟! كان العم علي مراد قريباً جداً إلى قلوبنا نحن الصبية، كانت الابتسامة الطيبة تنداح دائماً على ملامح وجهه، وكثيراً ما كان يداعبنا ببراءة إذا التقيناه، ويسرع إلى إنقاذنا من غضبة الآباء حينما كانوا يهمّون بضربنا، عقاباً لنا على الإيغال في عصيانهم، وإهمال بعض المهام الموكولة إلينا.

بلى.. كان العم علي مراد قريباً إلى قلوبنا، لكن التفاحات اليانعة كانت تتغلّب على خجلنا وخوفنا، وتدعونا إلى السطو عليها حينما كان يخلد إلى الراحة وقت الظهيرة، فنعود بالغنيمة حيناً، ويفاجئنا العم علي أحياناً، فيصرخ من بعيد مهدّداً: "لاوْ.. لاوْ ! ماذا تفعلون؟! ".. إنه كان يعلم ما نفعل.. فكان يتوجّه نحونا وهو يعرج ويتوكّأ على عكّازته، فينبّه بعضنا بعضاً، ونسرع إلى الفرار كالبرق ونحن نتضاحك ونتدافع، ويُحمّل كل منا الآخر المسؤولية عن فشل (الغزوة).

كنا نبتعد عن العم علي.. فنجتمع تحت شجرة.

ونعقد جلسة مغلقة.. ونخطط لغزوة جديدة.

6 –  حدود عالمنا!

كان لنا حينذاك عالمنا الخاص وتاريخنا الخاص.

أما عالمنا فكانت حدوده بيادر القرية وحقولها في السهول الغربية ومراعيها وكهوفها في الجبال الشرقية، وضفاف نهر عفرين، وجوانب بحيرة (عين دارا).. عالم كنا نتواصل فيه مع أهالينا بكل ما كانوا يتميّزون به من حنان وحَدَب، وبكل ما كانوا يقاسونه من كدح وبؤس، وبكل ما كانوا يعيشونه من جهل وضيق أفق، نتيجة الظروف التاريخية التي كانت تحيط بهم.

عالم كنا نتواصل فيه بحميمية، وأحياناً قليلة بعدوانية - ومن حيث لا ندري- مع شركائنا الآخرين، أقصد الحيوانات الأهلية والوحشية، والأطيار والأشجار والحجارة، والشمس والقمر والنجوم، والنسائم والرياح والعواصف، والبروق والرعود والأمطار والثلوج والسيول.

وأما تاريخنا فكان يتوزّع على مدار العام بين ارتياد غرفة (الكُتّاب) مرغمين، لتلاوة القرآن الكريم، وتعلّم أصول الحساب، وتجنّب لسعات تلك العصا الطويلة، وبين مساعدة الأهل في الحقول في حدود طاقاتنا، ورعي الأبقار والخراف، والانصراف إلى اللعب البريء.

7 – كوميديا الدبّ!

كانت مناسبات الأعراس أجمل أزمنتنا وأعذبها.. كانت حفلات الأعراس تقام في الهواء الطلق.. كنا نتوجّه إلى البيوت لنغتسل من الأتربة والأوحال، ثم نرتدي ثيابنا الجديدة على قلّتها، ثم نندفع إلى الساحة الخاصة بالأعراس.. هناك كنا نملأ الأجواء صخباً وحركة.. جرياً وقفزاً حول حلقة العرس، ووثباً من فوق النيران المشبوبة ليلاً في ساحة العرس.

على أن أكثر اللحظات إثارة لنا نحن الصبية كانت تمثيلية (القَشْمَر)..

في العادة كان العرس ينتهي مع ظهيرة يوم الخميس، وقبيل ذلك بساعات كان بعض الشباب يجتمعون في أحد البيوت سراً، كانوا يرتدون ألبسة هزلية شبيهة بما يرتديه الناس اليوم في الحفلات التنكّرية.. كان أحدهم يمثل دور الدب، ويسمّى بالكردية (هُرْچ)، فيرتدي فروة مقلوبة بحيث يكون الصوف إلى الخارج، ويضع على رأسه قُبّعة من الجلد غريبة، ويكون (المخرج) قد دهن وجهه بالسُّخام (سواد أسفل القدر)، فيبدو مخيف المنظر.. وشاب آخر كان يرتدي ثياب فتاة، فيبدو كأنه فتاة حقيقية، وشاب ثالث كان يردي ثياباً أنيقة، ويتسلّح بخنجر في حزامه، وبعصا غليظة.. إنه حامي الفتاة من الخطف.

كان الفريق التمثيلي يدخل ساحة العرس مصحوباً بجمهور من الشباب، كانت الحلقة تتوقّف عن الرقص.. ها هنا على الطبال والزامر أن يبدآ بألحان خاصة بالتمثيلية.. في البداية تظهر الفتاة وهي تمشي في الساحة بصحبة حاميها.. يغير عليها الدب فجأة من أحد جوانب الساحة، يأخذها من يدها، يشدّها.. الحامي يجعل نفسه مشغولاً بشيء ما.. الفتاة تتمنّع.. الدب يشدّها بقوّة وهو يزمجر.. الفتاة تزداد تمنّعاً.. الدبّ يجرّها.. الفتاة تستغيث.. ينتبه الحامي فيتوجّه نحو الدب بعصاه.. الدب يحاول حمل الفتاة وخطفها.. الفتاة تصرخ (هاوار!.. هاوار= الغوث!.. الغوث!).. يستل الحامي خنجره.. يهاجم الدبّ.. يلوذ الدب بالفرار.. وتنجو الفتاة.

يختفي الدب برهة قصيرة.. تطمئن الفتاة، تواصل الرحلة.. ينشغل الحامي ببعض الأمور.. الفتاة تبتعد.. ينتهز الدب الفرصة، فينقض عليها.. يحملها ويهرب بها.. الفتاة في وضع مأسوي.. ينشب الصراع من جديد بين الدب والحامي. في الغالب كان الحامي هو المنتصر.. ونادراً ما كان الدب يفوز بالفتاة.

كنا نحن الصبية ننسى أنفسنا، فلا نميّز بدقة بين التمثيلية والواقع.. كنا نصرخ منبّهين الفتاة إلى الخطر.. ونصرخ في الدب مهدّدين.. ونهيب بالحامي إلى الدفاع.. في حين كان الكبار رجالاً ونساء يستغرقون في الضحك.

ذلك كان عالمنا.. وذاك كان تاريخنا.  

ولم نكن نشكّ حينذاك أننا نعيش داخل العالم.

لكن علمت فيما بعد كم كنا نعيش خارج التاريخ!

\"\"

(وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة).

10- 1- 2004    الدكتور أحمد الخليل


تعليقات حول الموضوع

آمنة | يا سيدي
"لوحات بسيطة كما كانت حياتنا، وأحياناً ساذجة كما كان وعينا لأنفسنا وللعالم من حولنا،" يا سيدي وهل هناك أجمل من هذه اللوحات !
21:08:12 , 2010/10/16


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar