الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 3:34 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الخامسة - ليلة أقفلنا أفواه ذئاب جبل ليلون!

" أنا أفكّر.. إذًا أنا موجود "!

هذه هي مقولة الفيلسوف الفرنسي الشهير(ديكارت).

إن (التفكير) بالنسبة لديكارت هو المدخل إلى (الوجود).

والموجود هو(أنا) و(أنت) و(الآخر) والعالم من حولنا.

فكيف كنا نفهم (الوجود) في منتصف القرن الماضي؟

وكيف كنا نتعامل مع (الموجود) بشرًا وحيوانات وشجرًا وحجرًا؟

وبعبارة أخرى:

ماذا كانت مداخلنا إلى (الوجود)؟

وكيف كنا نمارس تقنيات (التفكير)؟

1- مشاهد من حياتنا.

اسمحوا لي- أعزّائي- أن أقدّم لكم مشاهد من حياتنا في الخمسينيات من القرن العشرين، وفيما قبلها، وربما في الستينيات أيضًا، وأعتقد أننا سنكون قادرين معًا على الإجابة عن التساؤلات السابقة.. وأعدكم بصدق أنني لن أجري وراء الخيال طمعًا في إضفاء الجاذبية على المشاهد، ولن أختلق الأحداث أو أضخّمها رغبة في إثارة الدهشة، لو فعلت ذلك لخدعتكم، ولا أرضى لكم أن تكونوا من(المخدوعين)، كما لا أرضى لنفسي أن أكون من(المخادعين).

وإليكم بعض المشاهد والمواقف:

كان الفصل شتاء، والوقت بعيد المغرب..

كان الوالد قد عاد من الصلاة في المسجد، وكنت قد انتهيت توًّا من إعداد الموقد الحميم.. وأحسب أنكم تتخيّلون الآن مدفأة عصرية معدنية، تنتصب فوقها طاسة كروية ملوّنة، تتساقط من أسفلها قطرات من الوقود (المازوت)، فتظهر ألسنة النيران الحمراء والوردية عبر باب زجاجي صغير، ويتصاعد الدخان فيمر عبر أنابيب أسطوانية، لينتشر في الجوّ خارج المنزل.

بلى.. أحسب أنكم تتخيّلون الآن مدفأة من هذا النوع.

لكن لا يا سادتي.. كان موقدنا بدائيًا مثلنا.. وبسيطًا مثل حياتنا.

كنا نأتي بالصاج (سيْلْ) الخاص بصناعة الخبز، فنضعه خارج المنزل على ظهره، ونضع على الوجه المقعّر صفيحة (تنكة) قديمة مفتوحة من الأعلى والأسفل، ثم نضع في القعر قطعًا من شوك (البَلاّن)، ثم نصفّ فوقها فروعًا يابسة من الزيتون أو التوت أو(الگز) أو(اللُّول)، ثم نضع فوقها قطعتين أو ثلاثًا من حطب الزيتون اليابس، ونشعل النار في البلاّن، فينتقل اللهب إلى الفروع الصغيرة، فالحطب اليابس، وتندلع النيران عالية، حتّى إذا خفّ اللهب، وخفّ الدخان المتصاعد أدخلنا موقدنا الظريف إلى داخل الدار، ووضعناه على فوّهة إناء واسع ممتلئ إلى منتصفه بالماء، لغرضين: الأول تجنّب احتراق البساط. والثاني تسخين الماء لاستعماله في أغراض شتّى .

وبما أنني كنت الولد الأكبر في الأسرة كنت المكلّف بهذه المهمة.

2- شتاء جبلي.

حسنًا.. قلت: كان الفصل شتاء، وكان الوقت بُعيد المغرب.. لكن أشعر أن كلمة (شتاء) وحدها لا تكون دقيقة بما فيه الكفاية.. إن شتاء ذاك الزمان كان غير شتاء هذا الزمان.. إنه كان أقسى وأمرّ، بل كان شديد القسوة أحيانًا كثيرة، كانت الأمطار غزيرة الهطول، وكان الثلج كثير السقوط، وكانت الرياح العاتية الباردة تهبّ من الشرق تارة ومن الشمال تارات أخرى، فتُحدث أزيزًا مخيفًا، وتثير القشعريرة في أجسادنا الصغيرة المفتقرة إلى الكساء الدافئ.

  في أحيان كثيرة كانت أسقف البيوت الطينية أعجز من أن تتصدّى للمطر المنهمر ليلاً ونهارًا، فتتسرّب مياه المطر عبرها إلى داخل البيوت على شكل قطرات متتالية، وكثيرًا ما كنا نستيقظ ليلاً بعد أن تتساقط القطرات على وجوهنا، فتبلّل فرشنا، فتهرع الوالدة إلى بعض الأواني المنزلية صغيرها وكبيرها لتضعها تحت مناطق ( الوكْف )، فكان أرض البيت – حينما تتالى الأمطار أيّامًا عديدة- يبدو شبيهًا بمعرض غير منظّم للأواني المنزلية.. صحون هنا، وطاسات هناك، تتخلّلها بعض المواعين بمختلف الأشكال والأحجام.

وبطبيعة الحال ما كانت قطرات المياه المتفلّتة من السقف تسقط في وقت واحد، وبنسب واحدة، كان لكل واحدة منها لحنها الخاص وإيقاعها المتميّز، فالقطرات المتساقطة في قعر صحن تُحدث لحنًا غير اللحن الذي تصوغه القطرات المتساقطة في قعر ماعون نحاسيّ كبير.. والقطرات المتساقطة في قعر الماعون كان إيقاعها غير الإيقاع الذي ينجم عن القطرات المتساقطة في  قعر صفيحة (تنكة)، كما أن هذه الإيقاعات جميعها كانت تتغيّر رويدًا رويدًا بارتفاع نسب الماء المتجمّع في قاع تلك الأواني.

ومع ذلك.. ورغم ذلك.. كانت حياتنا تسير بوتيرتها المعهودة.

كنا قادرين على أن نتسامر، ونأكل، ونلهو، ونضحك، وندرس، وننام.

هذا داخل البيت.

وأما في الخارج.. فكانت الجداول الصغيرة الجارية في طرقات القرية تتجمّع، وتتحوّل إلى سيول قوية تجرف جوانب من (الأحواش)، وتقتحم البيوت الواقعة في البقاع المنخفضة، وكثيرًا ما كان الوادي الصغير الذي يمرّ بالحارة الجنوبية يتحوّل إلى سيل غزير، يحول دون التنقّل من جهة إلى أخرى، ثم يحاصر بعض البيوت، ويهاجمها من كل جانب، ويصرخ سكّان تلك البيوت طالبين الغوث، فيُسرع الجيران إلى مساعدتهم بشتّى السبل، لتحويل مجرى المياه، أو للتخفيف من وطأتها.

ومهما يكن فإن هذا الوادي ما كان ليقاس بوادي ليلون الذي يمرّ جنوبي القرية على بعد كيلو مترين تقريبًا، [الآن وصلت بيوت القرية إلى حافاته الغربية]، إن هذا الوادي هو ملتقى لثلاثة وديان كبيرة أخرى: هي (گلِي بِرْقى = وادي البرق)، و(گلِي كُشْتِيا = وادي القتلى)، و(گلِي حاوُدْ = وادي الفحل) ، لذا كانت المياه المتدفّقة فيه أغزر بكثير، وأشدّ اندفاعًا، وكانت أصوات المياه الهائجة تختلط بهدير الصخور المتدافعة، فتتحوّل إلى زمجرة رهيبة تصل إلى أسماعنا في القرية ، فكنا نصاحب بعض أهالي القرية نهارًا للوقوف على حافات الوادي العالية، والتمتّع عن قرب بمرآى الأمواج المتراكبة، وسماع دويّها الراعد.

وأحسب أنكم تفهّمتم الآن صفة (الحميم) التي أطلقتها على موقدنا البدائي.

3- قرعٌ على الباب.

في ذلك المساء الشتوي جلسنا نحن الصبية الذكور مع الوالد، نتناول العشاء إلى جانب الموقد، وعلى ضوء السراج الذي يعمل بالكيروسين (الكاز)، في حين جلست الوالدة والأخوات في الجانب الآخر من الدار قرب بقايا النار في المدخنة الجدارية.

كانت التقاليد المتوارثة في بيئتنا تقتضي حينذاك أن يأكل الأب والأولاد الذكور معًا أولاً، ثم تأكل الأم والبنات معًا، ولعلّكم تهزّون رؤوسكم الآن عجبًا وأنتم تقرؤون هذه العبارة، بل لعلّكم تشعرون بالغضب من هذا (التمييز الطبقي) داخل الأسرة الواحدة.. وهذا من حقّكم، لكن كان القوم جميعًا راضين بذلك، وأحسب أنه كان شكلاً من أشكال التراتب الاجتماعي الذي إذا انفرط عقده دبّ الخلل إلى المجتمع كله. والعجيب أن النساء أنفسهنّ كن حريصات على استمرار ذلك البناء التراتبي، فكن يرين من العيب أن تجلس المرأة لتأكل مع الزوج، أو أن تمشي بموازاته في الطرقات، وإنما يقتضي العرف أن تسير خلفه بحوالي خطوة أو اثنتين.

وبينما نحن جلوس إذا بالباب يقُرع، ورجل ينادي: (خُوجة محمود!.. خُوجة محمود!)، كان الوالد يعمل حينذاك شيخ كُتّاب وإمامًا في مسجد القرية، وكان اللقب السائد لمن يمارس هذه المهنة هو(خوجة) بدلاً من (مِلاّ = شيخ)، وعلمت فيما بعد أن لقب (خوجة) تركي الأصل يعني (المعلَّم)، وهو من الألقاب التي كانت متداولة في العهد العثماني.

فتحتُ الباب، ودخل العم (خَلِّكْ) [تصغير لاسم خليل]، فرحّب به الوالد، وقرّب الموقد المتحرك نحوه.. كان العم (خلّك) يملك قطيعًا من الماعز، وكان طوال عمره – رحمه الله- معروفًا بلطف المعشر ودماثة الخلق.

4- هموم قرويّة.

والحقيقة كنا– نحن أفراد أسرة الخوجة-  قد اعتدنا أن يزور بيتنا نهارًا أو ليلاً، صباحًا أو ظهرًا، وفي كل فصول السنة، نساء ورجال من القرية ومن القرى الأخرى، على غير موعد، ودون سابق إعلام.

فهذان رجلان تشاركا في زراعة القطن، وهما يثقان بدقة الوالد في العمليات الحسابية، وبعدالته في تحديد الحصص وتوزيع الأرباح، وما على الوالد إلا أن يمضي قسمًا كبيرًا من الليل وهو يحسب بدقّة نصيب كل منهما، ويسلّم كلاًّ منهما ورقة فيها تفاصيل حصّته.

وهذا رجل تجاوز جاره حدود أرضه في الفلاحة.. ودرءاً للخصومات والشرطة والمحاكم مطلوب من الوالد أن يتدخّل بينهما، ويعيد لصاحب الحق حقه، مستعينًا بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية، وبالترهيب من نار الجحيم التي تنتظر الظالمين يوم القيامة.

وهذا العم (حمّاده) يجلس وهو شديد الحزن.. ثمّة مرض غامض بدأ يتفشّى في حقله المزروع قطنًا والواقع في (الدَّشْت= السهل).. كم كان سعيدًا برؤية شجيرات القطن وهي تنمو بشكل رائع يومًا بعد يوم، إنه لم يقصّر في فلاحة الأرض قبل نثر البذور، وهو حريص كل الحرص على أن يسقي الحقل بانتظام، لكن هذا المرض عكّر عليه صفو سعادته، إن المحصول سيذهب هباء، ولن يقدر على تحصيل المال اللازم لزواج ولده البكر (سعيد)، ولا سيما أن أخاه الكبير - والد العروس- حمّله الكثير من النفقات، ويصرّ على أن يُشترى (الجهاز) من حلب.. وعلى الوالد أن ينظر في (الكتاب)، ويبحث عن حلّ لإيقاف المرض.

فيكتب له الوالد عدّة (حُجُب) صغيرة، ويطلب منه أن يعلّقها في رؤوس بعض شجيرات القطن هنا هناك على امتداد الحقل، وينصحه ألا ينسى أن  يسمّي بالله عندما يعلّق كل حجاب، ولا ينسى أيضًا أن يُخرج صدقة، ويقدّمها سرًا لأحد الفقراء أو الأرامل أو الأيتام.. ذاكرًا له قول الرسول عليه السلام: " إنّ الصدقة تدفع البلاء ".

وهذه عجوز تشكو آلامًا غامضة في الركبتين.. إنها لم تعد قادرة على نقل (قادوس) الماء من النبع كما كانت تفعل سابقًا، وأصبحت تقعد عدّة مرات في الطريق حينما تذهب لحلب الأغنام في الجبل، هذا عدا أنها لا تستطيع النوم طوال الليل بسبب تلك الآلام المبرّحة، فترجو الوالد أن ينظر في (الكتاب) ليبيّن لها السبب، وليدلّها على ما يعيد لركبتيها الحيوية والقوّة.

وهذه أرملة كهلة، وخّط الشيب شعرها، وتغضّن خدّاها، وبانت عروق يديها، رحل زوجها الشاب حينما كانت في مقتبل العمر إثر مرض عُضال، وترك وراءه طفلاً صغيرًا، إنه لم يترك لها قطعة أرض.. كان فقيرًا.. ترك لها بقرة واحدة فقط، وتقدّم إليها بعض الرجال يخطبونها، لكنها فضّلت البقاء أرملة، والقيام على تربية ولدها الوحيد.. وللحصول على لقمة العيش كان عليها أن تستعين بما تدرّه البقرة من حليب، وبما تجود عليها دجاجاتها من بيض.

ألا كم عملتْ مع الناس في حصاد القمح والشعير صيفًا! وكم تعبت في العمل بين حقول القطن خريفًا! وكم شقيت في جمع المال اللازم لتربية ولدها ولزواجه! وكم فرحت ودبكت وزغردت بجنون يوم عرسه! لكن هاهي ذي الكنّة (الماكرة) قد سيطرت عليه ، وحملته على اضطهاد الأم المسكينة.. ترى كيف تحوّل ابنها البارّ إلى ابن عاق ّ؟! لا ريب أن الكنّة وأمها تآمرتا على الأرملة، وذهبتا إلى من يمارس السحر، وسحرتا الابن البارّ.. وتنهمر الدموع من عيني الأرملة، وترجو الوالد أن ينظر في (الكتاب)، ليعرف السرّ، وينقذها من قبضة تلك الكنّة الظالمة.. وما على الوالد إلا يطيّب خاطرها، ويوصيها بالصبر، ويعدها بأنه سينصح ابنها العاق، بل سيؤنّبه، فهو شيخه، وقد تعلّم تلاوة القرآن على يديه.

وهذا كهل يخرج من جيبه رسالة لولده الجندي في ضواحي القُنَيْطرة (في جنوبي سوريا)، بدأها بالديباجة الشهيرة:(إلى الوالد العزيز، والذهب الإبريز). ومطلوب من الوالد أن يقرأ الرسالة ويشرحها كلمة كلمة، ثمّ يبدأ بكتابة رسالة جوابية، تبدأ بديباجة مشابهة، وتنتهي بسلامات مرسلة إلى الابن من كل أخ وأخت، ومن كل عم وخال، ومن كل عمة وخالة، ومن كل جار وجارة.

وهذه جارتنا (فاتى) شاهدت في الليلة الماضية حلمًا مليئًا بأحداث ومشاهد عجيبة.. رأت غمامة سوداء تقطر دمًا، وعبدًا أسود قبيح الخلقة يخطف طفلتها الصغيرة من حضنها غير عابئ بتوسّلاتها وبكائها، وأفعى سوداء كبيرة.. كبيرة جدًا.. تدخل فناء بيتها ولها فحيح مخيف.. كانت ملامح الجارة (فاتى) منقبضة وتقطر خوفًا، إنها قلقة أشدّ القلق.. لا بدّ أن ضرّتها (مرُّوش) تدبّر لها مشكلة جديدة، لتؤلّب عليها زوجهما العجوز (أحمد)، فيشبعها شتمًا وضربًا. لذا فهي ترجو الوالد أن ينظر في (الكتاب)، ويحول دون تحقيق نوايا الضرّة..

فيطلب مني الوالد أن آتي له بكتاب (تفسير الأحلام) لابن سيرين، ويشرع في تقليب الصفحات، والقراءة بصمت، ثم يحاول أن يهدّئ الجارة (فاتى)، ويحاول إقناعها بأنه كثيرًا ما يأتي الواقع على عكس ما توحي به الأحداث في الحلم.

وهذا كهل وزوجته قادمان من قرية (عين دارا) القريبة، إنهما تركا ولدهما الشاب طريح الفراش، ويرجوان الوالد أن ينظر في(الكتاب)، ليرى إذا كان نجمه مازال حيًا، أم أنه مائل إلى الانطفاء؟!. إنهما يعلمان مسبقًا أنه إذا كان نجمه قد انطفأ أو على وشك أن ينطفئ فهذا يعني أنه لا رجاء في شفاء ابنهما. وهنا على الوالد أن يلجأ إلى كتاب خاص آخر، ويحدد الأرقام الفلكية الخاصة باسم الولد واسم أمه، ويحدد البرج الذي ولد فيه، ثم يجمع ويطرح ويضرب ويقسّم، ويخرج بنتيجة تبعث على الطمأنينة.

وهذا رجل آخر هبط من قرية (كِيمار) الجبلية، متوجّهًا إلى عفرين يوم (البازار/ الأربعاء) ، ورأى أنه من الضروري المرور في طريقه على (خوجة محمود)، ليسأله عن كيفية توزيع ميراث أخيه الذي توفّي، ولم يترك ولدًا، فاستأثرت زوجته بكل شيء.

5- ذئاب بأفواه مقفولة.

أجل.. كنا قد اعتدنا أن يكون بيتنا مفتوحًا للناس.. ما كنا نتبرّم ولا نتذمّر، وظننت ذاك المساء أن العم (خَلِّكْ) جاء كعادته ليعرف (الزكاة) التي يجب عليه دفعها عن قطيع الماعز الذي يملكه، أو يسأل الوالد كتابة (حجاب) يغسله في طاسة ماء، ثم يمزج ذلك الماء (المقدّس) بالمياه التي يسقي بها القطيع، ليحصّنه ضد مرض الـ (تَبَك) الذي ظهر في قطعان الآخرين.

وكانت المفاجأة أن ما جاء له العم (خلّك) ذلك المساء كان أمرًا مختلفاً، لقد تبيّن أن عنزتين من قطيعه تخلّفتا في الجبل ذلك المساء، إنه لم يجدهما في الحظيرة، ويخاف أن يأكلهما الذئب، ويرجو الوالد أن يقوم بقفل أفواه الذئاب تلك الليلة، لئلا تفترس العنزتين، ويبدو أن العم (خلّك) كان يعرف لوازم هذا الطقس سابقًا، إذ أخرج من جيبه موسى حادة الشفرة، ووضعها بين يدي الوالد.

أخذ الوالد الموسى، وراح يتلو آيات من القرآن الكريم وهو يقلّبها، أذكر من بينها قوله تعالى:" وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يُبصرون"، وآيات أخرى ورد فيها اسم الذئب من سورة (يوسف)، ثم ختم تلك الآيات القرآنية بعبارات من الدعاء فيها ابتهال إلى الله بصون العنزتين، ثم أرجع الموسى إلى العم (خلّك).

بدا الارتياح الواضح على وجه العم (خلّك).. إنه الآن مطمئن كل الاطمئنان، فذئاب جبل (ليلون) ستبقى مقفلة الأفواه طوال تلك الليلة، ولن تقدر على افتراس العنزتين.. أتذكّر جيدًا أننا جميعًا كنا حينذاك مقتنعين تمامًا بهذا النمط من التفكير، وكنا مطمئنين إلى سلامة هذه المداخل الفكرية في علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين وبالعالم.. لم نكن نخدع أنفسنا.. ولم يكن بعضنا يخدع بعضنا الآخر.

كان هؤلاء الرجال والنساء مؤمنين بهذه الحلول الروحانية الميتافيزيقية.. كانوا يلحّون عليها بصدق، وكان الوالد بدوره مؤمنًا بصحّة ما يقوم به.. كان يشعر أنه يكون مقصّرًا أمام الله إذا لم يهبّ إلى مساعدتهم.. إنه كان يرفض تلقّي أيّ مبلغ من المال لقاء عمله ذلك رغم حاجته أحياناً.. وكثيرًا ما سمعته يقول: أنا أعمل لله.

لم يكن ذلك النمط من العلاقة بالعالم هو الصواب.

لكنّه كان النمط الوحيد حينذاك.

(وإلى اللقاء في الحلقة السادسة).

26 / 1 / 2004     الدكتور أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar