الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 14:45 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة السادسة - ليلة أنقذْنا صديقَنا القمر!

1 – مفارقات!

كان الفصل صيفًا، والوقت ليلاً.

لكن كان لليالي الصيف- ولا سيما المقمرة منها- في قرانا معنى يختلف كثيرًا عما هو عليه الآن.. صحيح أن الناس في القرى ما زالوا يعقدون في ليالي الصيف جلسات السَّمر على المصاطب أمام المنازل، لكنه سَمرٌ يتمّ على ضوء المصابيح الكهربائية، وينقضي على الغالب مع التلفاز، وأنتم أدرى بالتلفاز ونوعية السمر معه!

حروب تندلع هنا وهناك.

ملاكمان ضخما الجثّة يخوضان صراعًا طاحنًا.

طائرات تسقط بركابها في البحر أو على قمة جبل.

قطاران في بلاد الهند مكتظّان بالركّاب يتصادمان.

مسلسلات فيها ما هبَّ ودبّ ممّا يسرّ ولا يسرّ.

أغنيات كثيرة، قليلاً ما تُطرب، وكثيرًا ما تُزعج.

لاعبة سيرك أحبّت أن تؤكد للجمهور الودّ القائم بينها وبين النمر، فأدخلت رأسها الصغير الجميل في فمه الفاغر، فما كان منه إلاّ أن أنشب أنيابه في رقبتها الرقيقة، وأودى بها إلى عالم الأموات.. كان في شعرها شكّالة وخزت حلقه فآلمته!

رجل قرّر تخليد اسمه في (موسوعة جينز) للأرقام القياسية، فربّى شاربين طول كل واحد منها يزيد عن المتر، وأمضى الأعوام وهو يعتني بهما تزييتًا وتدليكًا وفتلاً.

2 –  رحيل البراءة !

بكل تأكيد ثمة في التلفاز أمور جيدة ومفيدة أيضًا.

لكن أين هذا كلّه من روعة ليالينا الصيفية المقمرة الخالية من المذياع والتلفاز؟!

إنني لا أنكر أن سكّان قرانا اليوم أكثر وعيًا وعقلانية، لكن المشكلة أنهم أصبحوا أكثر حزنًا.. إنهم كثيرًا ما يخطئون الطريق إلى الفرح البريء، والفكاهة العذبة، والضحكة النقيّة.

كانت ملامح أبناء الريف في الماضي أكثر وداعة.. ووجوههم أكثر بشاشة.

كانت أصواتهم أكثر دفئًا.. وأحاديثهم أوفر صدقًا.. وضحكاتهم أكثر براءة.

 ترى لماذا حدث هذا الانقلاب الذي يبعث على التشاؤم؟!

يبدو لي أنهم خسروا كثيرًا من علاقتهم الحميمة مع الطبيعة.

أصبحت رؤيتهم إلى شركائهم في البيئة أكثر ماديّة وأقلّ جمالية.

كان الفلاح كثيرًا ما يداعب بودادة جبهة حصانه أو بغلته أو ثوره أو حماره.

وإذا غضب أحدهم لأمر ما على حصانه أو بغله أو حماره، وانهال عليه ضربًا، كان الآخرون من أبناء القرية ونسائها يهرعون إلى تقريعه وزجره، وإنقاذ الحيوان من سطوته.

كان العم (كالى أحمد) يخاطب ثورَيه وهو يحرث أرضه قائلاً: " ها.. قُرْبانْ! ها.. حَيْرانْ!"، كان يعي بعمق مقدار الجهد الذي يبذله الثوران، فكان يشجّعهما ويواسيهما، ويفديهما بنفسه، ويقدّم لهما أفضل العلف، إنهما كانا صديقيه وشريكيه في درب الحياة الزاخرة بالتعب.

وكانت الخالة (بَسى) تعيش كل صباح حالة وَجْد مع بقرتها الشقراء قبل أن تحلبها، كانت تنتقي لها أزهى باقات العشب، ثم تحكّ لها جلدها برفق، وتمسح وجهها بحنان، فتُصدر البقرة حركات لطيفة برقبتها صعودًا وهبوطًا، وتذبذب ذيلها ذات اليمين وذات الشمال في هناء، وتُصدر أصواتًا خافتة تعبّر عن طمأنينتها وسعادتها.

كنا نحن والخراف والتيوس والعجول والمهور أصدقاء وشركاء.. نداعبها وتداعبنا.. نلاعبها وتلاعبنا.. نطاردها وتطاردنا، كانت تعدو خلفنا وهي تُخفض رؤوسها، وتُوحي بأنها ستنطحنا بقرونها، فنستلقي على الأرض تعبيرًا عن الاستسلام ورفع الراية البيضاء، فتتراجع في رقّة، أو تنطحنا نطحات خفيفة، توحي من خلالها إلينا أنْ تعالوا نلعب ثانية!.. كنا نعقد صداقات حميمة حتى مع الكلاب والقطط أيضًا، فتتبعنا بحب حيثما انتقلنا، وتداعبنا وتلاعبنا ببراءة. 

كانت أشجار الزيزفون والزنزلخت وشجيرات الورد الجوري وأزهار النرگز (النرجس) الصفراء والبيضاء وأزهار (الگُورَّشْ) البنفسجية تنتشر في أفنية البيوت، وعلى جنبات الحقول، فكان النسيم العطر اللطيف يداعبنا- ولا سيما ليلاً- من كل حَدَب وصوب.

والآن .. ها هي ذي الرؤية المادية النفعية قد تسلّلت إلى عقول أبناء ريفنا وإلى نفوسهم، وزحزحت الرؤية الجمالية بعيدًا.. وبات الاهتمام منصبًّا على زراعة أفنية الدور بدوالي العنب وأشجار الدرّاق والإجّاص، فهي تدرّ مالاً أكثر. وحلّت السيارات والجرّارات محلّ الخيول والبغال والأبقار والحمير في إنجاز الأعمال.. ولا شكّ أن في هذا التحوّل خيرًا كثيرًا وراحة كبيرة، وتوفيرًا للجهد والشقاء، لكني أشعر – من ناحية أخرى- أنها قلّصت تواصلنا مع شركائنا في هذا العالم، وحدّت من تفاعلنا معهم، وبتنا غرباء عنهم وعن أنفسنا إلى حدّ كبير.

3 – بيادر.. وبيادر!

حسنًا.. لنعد إلى ما بدأنا به.

قلت: كان الفصل صيفًا، وكان الوقت ليلاً.

بيادر القمح والشعير والعدس انتصبت بمختلف أحجامها على جانبي القرية، شمالاً وجنوبًا، وراحت النوارج تدور حولها من الصباح إلى المساء، تجرّها الأحصنة أو البغال أو الحمير ببطء، فتُصدر دواليبها المسنّنة أنغامًا موسيقية متباينة ومتداخلة ورتيبة، وكان لكل نورج أنغامه وإيقاعه ونوطته الموسيقية المتميّزة.

وفي الليل كانت البيادر ملاعبنا وفرشنا معًا، كنا نتطارد حولها ونتقافز فوقها، ونتدحرج من أعلاها إلى أسفلها، ونختبئ في طيّات سنابلها، غير عابئين بالأشواك التي كانت تتسلّل مع السنابل إلى البيدر، وتلسعنا بوخزاتها على حين فجأة في أيدينا وأرجلنا وظهورنا وبطوننا.

كنا من أعمار شتّى، فينا الشباب والصبية.. كان الشباب سادتنا وقادتنا وشيوخنا.

منهم من كان يروي قصة فيها من الغرائب والعجائب ما تشاء وما لا تشاء؛ كهوف جبلية مخيفة، عفاريت مرعبون، حيوانات خرافية تطير، شباب فقراء تحبهم بنات الملوك أو الوزراء لأمر ما، فإذا بهم يصبحون بقدرة قادر ملوكًا أو وزراء.. عجائز ماكرات يدبّرن المكائد..إلخ.

ومنهم من كان ينشد مقاطع من أغنيات فولكلورية شهيرة، مثل (دَلال)، و(سيامند)، و(جَبَلي)، و(لى مَيْرُ! لى مَيرَمى!)..أغنيات فيها كثير من العشق وخيبة الأمل والأسى، كان يغنّيها بصوت شجيّ وقلب محروق، وكأنه هو (دلال) وهو (سيامند)، وهو (جبلي).. لكننا -نحن الصغار- كنا أعجز من أن نفهم الخلفيات الواقعية لتجربته العاطفية.

ومنهم من كان ينفخ في مزماره، فلا يجد الجميع أنفسهم إلا وقد عقدوا حلقة الدبكة، وراحوا يتمايلون يَمنة ويَسرة، وإلى الأمام والخلف، وهم يخبطون الأرض بأقدامهم الحافية.

4 – فتيان إسبارطا!

لكن ليالي البيادر ما كانت تقف عند هذه الأنشطة.

في بعض الليالي كان الزعماء الشباب ينظّمون صفوف الصغار باعتبارهم جنودهم المطيعين، ويضعون خططًا للسطو على الفواكه الصيفية، وكانوا يوزّعون عليهم الأدوار، ويتقدّمونهم في ميدان التنفيذ مثل كل القوّاد الشجعان.. فليلة كان الهدف كرم العنب للحاج حسن، وأخرى كرم العنب لشكري نسيب آغا، وثالثة بستان البطيخ للعم (مصطو)، ورابعة شجر المشمش للعم (علي مراد) أمام القرية.

بل إن غزواتهم كانت تتجاوز أحيانًا حدود القرية، فكان الزعماء يقودونهم ليلاً عبر الأراضي الشائكة إلى بستان التفاح القريب من (تل عين دارا)، وكان للغزو الليلي استراتيجياته الخاصّة، منها اختيار الليالي غير القمراء، وتنفيذ المهام بدقّة، والتزوّد بكيس أو أكثر لحمل الغنائم، وتجنّب الحديث إلاّ همسًا، وتجنّب السير في الطرق المعتادة؛ إذ قد يصادفهم أحد أبناء القرية ويكتشف خطتهم، وأن يكون خطّ سير الإياب غير خطّ سير الذهاب.

وكان القادة يخبّئون الغنائم من العنب والبطيخ والتفاح وغير ذلك في أعماق البيادر الكبيرة، وفي كل ليلة كانوا يجتمعون ، فيخرجون شيئًا من هذا وذاك ليأكلوه معًا، وهم يتذاكرون بفرح المصاعب التي واجهتهم، والمفاجآت المضحكة التي داهمتهم.

والعجيب أنه بعد مرور أعوام، وفي المجالس التي كانت تعقد ربيعًا وخريفًا في ظل شجرة التوت الكبيرة بجانب النبع، كثيرًا ما سمعت أولئك الشباب الذين غدوا رجالاً يصارحون أصحاب تلك البساتين بالغزوات التي شنّوها وهم يضحكون، فما كان من أولئك الكهول إلاّ أن ينخرطوا في الضحك بدورهم، ويقولوا: حلال عليكم!. حلال عليكم!. كنا نفعل مثلكم عندما كنا صغارًا. ثم يسترسلون في سرد أمجاد غزواتهم الليلية التي تبيّن أنها كانت أكثر طموحًا وجرأة؛ إذ كانت تصل إلى بساتين الرمّان في سهول (باسوطة) وكروم العنب الجبلية في (كِيمار).

إن حديث أولئك الكهول يذكّرني الآن بموقف الكبار من الصغار في الجمهورية الإغريقية الشهيرة (اسبارطا)، كانوا إذا أمسكوا بهم وهم يختلسون الثمار من الحقول يُنزلون بهم أشدّ العقاب، ليس بسبب أنهم يختلسون، وإنما لأنهم لم يجيدوا فنّ الاختلاس.

5 – صراع مع الحـوت!!

والآن عودة على بدء..

في تلك الليلة القمراء كنا مستغرقين في النوم على قمم البيادر، وقد انغرزت أجسادنا بين أحضان السنابل اليابسة، بعد أن طرح كل واحد منا تحته كيسًا من الخيش أو ما شابهه، واستيقظنا قرابة منتصف الليل فجأة على أصوات البواريد، وصرخات بعض الرجال ولغط بعض النساء.

يا للمصيبة!.. لا ريب أن ثمّة خصومة شرسة اندلعت بين عائلتين من القرية! تُرى من هما العائلتان؟! لكن العادة جرت أن يبدأ المتخاصمون بتبادل الشتائم وإطلاق عبارات التهديد والوعيد عن بُعد، ثم كانت الخصومة تتفاقم، فيتراشق الجمعان بالحجارة، ثم تتصاعد أكثر فتبرز العصي الطويلة الثخينة، ويصل التصاعد إلى القمّة، فيمتشق القوم الفؤوس والمجارف والمذاري.. أما البواريد فكان الجميع يتحاشى استعمالها، لأنها تعني الموت المحقّق، وهذا مالا يريدونه.

ثمّ إن الخصومة كانت تندلع على الغالب في إحدى حارات القرية.. أما تلك الليلة فكان دوي البواريد واللغط يعمّان كل حارات القرية، وها هو ذا والدي يرفع صوته بالأذان باعتباره إمام المسجد، وثمّة ضرب على الصفائح الفارغة (التَنَكْ)، وقرقعة ناجمة عن الضرب على المواعين الكبيرة.. بل هاهو ذا طبّال القرية (جابر) قد انضمّ إلى هذه الجوقة الصاخبة، فشرع يدق الطبل دقات سريعة شبيهة بإيقاع دَقّة (الحربية) التي كانت تُقرع بشكل تقليدي في العرس بعد ظهيرة يوم الخميس، إيذانًا بانتهاء حفلة العرس، والتوجّه إلى بيت أهل (العروس) لنقلها إلى بيت أهل (العريس).. ويبدو أن الحيوانات فوجئت أيضًا بذلك الضجيج والعجيج، فراحت الكلاب تنبح والحمير تنهق.

أجل.. استيقظنا فجأة على ذلك الصخب والدوّي والقرقعة، وفركنا أعيننا نحن الصبية، ورحنا نتطلّع حولنا في ذعر، إذ لا أهدأَ من ليالي الصيف في القرى، حتى الحمير تكون قليلة النهيق، والكلاب تكون قليلة النباح.. فماذا هناك يا ترى؟! وما الذي يجري؟!

وسرعان ما عُرف السبب وبطل العجب.

قال لنا أحد الشباب: إنه الحوت يبتلع القمر! انظروا! هاهو ذا القمر يغيب في فم الحوت رويدًا رويدًا!.. كان وقع هذا الخبر علينا كالصاعقة ومرعبًا.. حدّقنا في السماء.. وإذا بالظلمة تغشى صفحة القمر ببطء.. وبطبيعة الحال ما كنا نعرف عن القمر حينذاك ما نعرفه اليوم، كنا نعرف أنه قمر وحسب.. وأنه كائن سماوي مضيء أصغر من الشمس وألطف منه، وأكبر من النجوم.

دبّت المخاوف في نفوسنا، وساورتنا الوساوس.. ترى إذا ابتلع هذا الحوت الغامض المرعب قمرنا الجميل، فكيف ستكون حالنا؟!.. وإذا كان هذا الحوت قادرًا على الوصول إلى القمر وابتلاعه فما الذي يمنعه من الهبوط إلى الأرض وابتلاع كل من عليها؟! وكنا نعرف أن الحيتان مسكنها البحار.. فكيف وصل هذا الحوت إلى القمر؟! لكن الشباب أكّدوا لنا أن ثمّة بحارًا هائلة في السماء.. وإلا فمن أين ينزل المطر؟! وزاد الشباب الطين بلّة حين تفتّحت قرائحهم، وشرعوا ينذروننا بأن ابتلاع الحوت للقمر يعني نهاية الدنيا وخراب العالم وبدء القيامة.

يا الله! ما لنا ولهذا الحوت الظالم؟!

وأكمل الشباب بقية الرواية: إن الناس يطلقون الرصاص ويحدثون هذا الدوي والقرقعة، ويكبّرون ويهلّلون لإخافة الحوت، وإرغامه على الابتعاد، ومساعدة القمر على الخلاص.

وسرعان ما تحمّسنا جميعًا لهذه المهمّة الكونية، أقصد مساعدة القمر على الإفلات من فم الحوت، وهرعنا إلى الصفائح التي نضع فيها مياه الشرب في البيادر، فأفرغناها ورحنا نطرقها بالحجارة ونحن نصرخ في الحوت ونهدّده.

وبعد قليل من الوقت، زال الهم وانكشف الغم.

تخلّص القمر رويدًا رويدًا من فم الحوت.

راح يستكمل مسيرته الهادئة باتجاه الغرب.

وعاد السكون ليخيّم مرة أخرى.

يا صديقنا القمر.. كنت سميرنا في السهرات الليلية.

فهل من المروءة أن نتخلّى عنك؟!.

أليس الصديق وقت الضيق؟!

(وإلى اللقاء في الحلقة السابعة).

14 / 2 / 2004     الدكتور أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar