الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 4:58 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة السابعة - كم كنا مسكونين بالأساطير!

كيف يفهم أحدنا نفسه؟

وكيف يفهم العالم من حوله؟

وما هي مداخل رؤيته إلى (الوجود) جملةً وتفصيلاً؟!

ما هي الخلفيات الأسطورية التي يصدر عنها في تفسير العالم؟

وما هي نسبة الخرافة في إدراكه للموجودات، وفي طرائق تفكيره؟!

تأكّد لي، بعد طول تأمّل في مسيرة التاريخ البشري، أن الإجابة عن هذه التساؤلات تلقي الضوء على الكيفيات التي نصوغ بها حياتنا؛ سواء أكنا أفرادًا أم جماعات، وتجعلنا أكثر فهمًا لتفاصيل سلوكنا ومواقفنا، بل إن آمالنا وأحلامنا ونجاحاتنا وخيبات آمالنا وشعورنا بالسعادة أو بالتعاسة لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بهذه الأمور.

1- هزائم واكتشافات.

وأحيانًا أمسك بنفسي متسائلاً:

-  لماذا تلحّ على السفر في الماضي؟!

-  ولماذا السعي إلى نبش الخفايا؟!

-  ولماذا الانسياق وراء (المضحكات المبكيات) الخاصة بحياتك وحياة جيلك؟

-  أهو هروب من الانطلاق نحو المستقبل؟!

-  أم هو إقرار بالهزيمة الشاملة وانكفاء على الذات باستعراض (الذكريات)؟!

ثم أراني أخاطب نفسي قائلاً:

ـ وهل تجرؤ على الادّعاء بأنك أنجزت الانتصار الشامل؟! وهل يجرؤ على ذلك كل من يمتلك القدرة على مواجهة الذات بواقعية وحيادية؟! لماذا نبحث بكل وسيلة عن الفوز بوسام (البطولة)؟! لماذا لا نتحلّى بفضيلة التواضع، فنتحدّث ولو قليلاً عن هزائمنا؟! ثم من قال: إن الهزائم في الحياة هي سلبيات فقط؟! أليست الهزائم نفسها جزءًا جوهريًَا من الحياة؟! ألم تكن الهزائم في بداياتها مشاريع كبرى للبطولة، لكنها مشاريع أخفقت لأسباب خارجة عن إراداتنا؟! ألا تعني الهزائم أنه كانت ثمة إرادة وعزيمة وجهد ومحاولة وكفاح؟! أليس توافر الإرادة في حدّ ذاته من أهم الإيجابيات ومن أسمى الفضائل؟!

إن من أولى مزايا الهزائم أنها (اكتشافات).. والحياة في جملتها، وبمجموع نجاحاتها وإخفاقاتها، سلسلة اكتشافات.. وأحسب أن ما أرويه هو سرد لبعض تلك الاكتشافات، وأذكر أني أطللْت ذات مرة- في أواخر الثمانينيات- من قمة جبل (ليلون) على السهل الواقع في حوض نهر (عفرين)، كانت هي المرة الأولى التي أقوم فيها بتلك الإطلالة من تلك المنطقة العالية جدًا، وكم كانت دهشتي كبيرة! وأذكر أني حينذاك قلت لنفسي ولمن كان معي: يا ربّاه! طوال هذا العمر كنت أعتقد أننا نعيش على سطح الأرض.. وها أنا ذا أكتشف أننا كنا نعيش في قاع بئر!

وعندما ألقي الآن نظرة على حياتنا الماضية أتذكّر ذلك الموقف بوعي عميق.. أرى أننا كنا نعيش في زاوية محدودة جدًا من هذا العالم، وكنت أنا وكثير من أبناء جيلي نحيا على هامش هذا الوجود، ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا أنا كنا نعرف كل الحقائق. بلى.. ها أنا ذا أكتشف بعد خمسة عقود من الزمان كم كانت حياتنا دائرة في فلك الوعي الأسطوري! وكم كنا نتعامل مع الخرافة على أنها جزء من صميم الواقع!

2- جيراننا الجن.

وقد اخترت أن أجعل كيفية فهمنا للعلاقة بالجن محور هذا (الاكتشاف).. وقد تستغربون- أيها الأعزاء- اختياري هذا.. لا، بل قد تستنكرون ذلك.. لكن لا أحسب أنكم توافقون على تزوير الواقع، قد يبدو تزوير الحقائق فنًا جميلاً وممتعًا بعض الوقت، لكن يبقى الصدق أجمل وأكثر متعة في كل الأحوال.

وأقول بصدق: كان (الجن) جزءًا من واقعنا الحياتي، بل كان جزءًا خطيرًا، إن الجن كانوا جيراننا، وكان أجدادنا وجدّاتنا وآباؤنا وأمّهاتنا مسكونين بالخوف من الجن بشكل هائل. ويبدو أن والدي- رحمه الله- ما  كان يعاني من هذه المشكلة، ولا أذكر أنه روى لنا ذات يوم أو لمن كان يحضر مجلسه أية قصة من تلك القصص التي كنت أسمعها من غيره حول أعاجيب الجن والعفاريت. وأذكر أنه كان يسافر بعض الأحايين في الليالي المظلمة وعبر أماكن موحشة، لكنه لم يأت على ذكر ما يتعلّق بتلك الأعاجيب لا من قريب ولا من بعيد، عدا الأخبار التي جاءت عن الجن في القرآن الكريم، وما يتوافق مع الموروث الديني الموثوق.

أمّا والدتي- رحمها الله- فكانت، كغيرها من نساء قريتنا، تروي لنا بعض الأحداث الدائرة حول الجن، حسبما سمعتْها هي ممن تقدّموها.. وما أودّ قوله هو أننا فتحنا أعيننا على الحياة ونحن نعتقد اعتقادًا لا يتطرّق إليه الشك بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم.. هناك الملائكة، وهي كائنات تحمل الخير حيثما حلّت، وتحفظنا من كل سوء.. وهناك الجن، وهي كائنات غامضة ومخيفة قادرة على إلحاق الأذى بالبشر، لا يمنعها من ذلك جدار ولا سقف.. شيئان فقط كانا يمتلكان القدرة على التحصين ضدها، هما: الآيات القرآنية ولا سيما المعوذتين. والحُجب (التمائم) والرُّقى التي كان يكتبها العارفون بهذا الباب من العلم.

ولم يكن في خيالنا تصوّر معيّن حول الجن.. كنا نشكّل تصوّراتنا من القصص والروايات التي كان الكبار رجالاً ونساءً يجودون بها علينا.. والمهم أننا كنا نعرف أن الجن موجودون، وكنا نتصوّر الجنّي مرة على شكل عملاق هائل الخلقة، مرعب المنظر، له أنياب طويلة حادة كالمعاول، وأظافر كالمذاري. وأحيانًا كنا نتصوّر أن له ذيلاً غريب الشكل، وآذانًا طويلة كالحمير، وقرونًا متشعّبة. وأحيانًا تصوّرنا الجنّي على أنه مخلوق بشع المظهر، ينفخ نارًا ودخانًا من شدة الغضب. وكنا نعلم علم اليقين أنه يخترق الجدران، وينبثق فجأة من الأرض؛ وإضافة إلى هذا كله فقد ارتبطت صورة الجني في خيالنا بالليل، والأماكن المظلمة، والكهوف، والخرائب، والبقاع الموحشة.

3- مملكة الخوف.

وبالنسبة لي منذ بدأت أحظى بنعمة إدراك موجودات هذا العالم من حولي ابتُليت بمشكلة الخوف من الجن.. وحينما أعود بالذاكرة إلى أيام صباي- إذ لا أذكر من عهد الطفولة شيئًا- لا يمكنني أن أتجاهل ذلك الخوف الغامض والقابع بصمت وعناد في قرارة ذاتي. وأعتقد أن ثمة ثلاثة عوامل تضافرت فأوصلتنا- نحن أبناء تلك الأجيال- إلى هذه النتيجة:

أما العامل الأول فهو دور الأمهات، إنهن كن مسكونات بالخوف من الجن والعفاريت، لقد انتقل ذلك التراث المرعب إليهن من الجدّات، فنقلنه إلينا بأمانة ما بعدها أمانة، وبدقة ما بعدها دقة، وكان ذلك التراث سلاحًا خطيرًا في أيديهن، يستعملنه بإسراف ضدّنا لردعنا والحيلولة بيننا وبين ما كنا نصبو إليه. فإذا أحببنا الخروج للعب ليلاً قلن لنا: سيأتيكم الجن! وإذا تمرّدنا عليهن في أمر ما قلن لنا: سندعو الجن ليهاجموكم! وهكذا دواليك.

بل أذكر أن الوالدة وغيرها من الأمهات عندما كن يرغبن في إدخال الرعب إلى قلوبنا ليلاً، ويمنعننا من تجاوز باب البيت، كن يقلن لنا: هناك (گارِيگان) واقف خلف الباب من الخارج، وبمجرد خروجكم سيفترسكم. وهذا (الگارِيگان) كان- حسبما يصفنه- حيوانًا خرافيًا، نصفه حيواني، ونصفه الآخر جنّي، له فم كبير جدًا، وأنياب طويلة وحادة، وذنب طويل وبراثن مرعبة، وزمجرة يقشعرّ لها البدن.

وأما العامل الثاني فهو دور الخيال، فقد تبيّن لي بعد أن تجاوزت مرحلة التفسير الأسطوري للعالم، أنه بقدر ما يكون الخيال ناميًا عند الصبي يكون خائفًا من الكائنات الغامضة، فالخيال يمدّه بالقدرة على خلق التصوّرات وتوليدها. وأحسب أن الخيال بالنسبة للإنسان نعمة، فلولاه لما كانت الحضارة أصلاً، وهو في الوقت نفسه نقمة، إذ يُسهم إلى درجة كبيرة في تكوين الخوف وتضخيمه. ويبدو لي أن الحيوانات محظوظة من هذه الناحية، فهي تفتقر إلى الخيال، وصحيح أنها عجزت عن تحقيق النصر الشامل على البيئة وإنجاز الحضارة، لكنها ظلّت بعيدة عن الخوف المؤسس على الخيال.

وأما العامل الثالث فهو دور المناخ الأسطوري المحيط بالصبي، وإتخام ذاكرته بكثير من الروايات الأسطورية الموثّقة على الدوام، كأن يُحدَّد المكان، ويُذكَر اسم الشخص الذي جرى معه الحدث، بما لا يدع عنده مجالاً للشك في صحّة المرويات.

4- لوحات أسطورية.

وأذكر  فيما يأتي بعض معطيات ذاك المناخ الأسطوري:

● كان لبيت العم (مصطو)- رحمه الله-  كلب أسود، كان يغيب كل مساء مع العشاء تقريبًا، ولا يرجع إلاّ في صباح اليوم التالي. فارتاب العم (مصطو) في أمر كلبه، ترى لماذا لا يقوم بمهمة حراسة الدار ليلاً؟! وأين يذهب كل مساء؟! وذات مساء قدّم العم (مصطو) للكلب رغيف الخبز الذي كان يقدّمه له كل مساء، ثم شرع في مراقبته، فإذا بالكلب يخرج من فناء البيت بعد حلول الظلام، ويتوجّه إلى خارج القرية، ويرتقي سفح جبل (ملا موسى) المنتصب أمام القرية، ويقصد كهفًا هناك، فيدخل فيه.

واقترب العم (مصطو) من الكهف فإذا به يسمع دقّات طبل وأنغام زمر وأصوات غناء، فاقترب العم (مصطو) أكثر، واختلس النظر إلى داخل الكهف، ويا لدهشة ما رأى!! ثمة في الداخل مجموعة من الجن يغنون ويرقصون، وإذا بكلبه يخلع شكله الكلبي، وإذا بالقوم يحيّونه قائلين: أهلاً وسهلاً پارناس آغا! لماذا تأخرت علينا اليوم؟! فاعتذر الكلب عن التأخّر، وانخرط مع صحبه في حفلة الطرب.

وعاد العم (مصطو) أدراجه والرعب يتملّكه، وفي الصباح ترقّب عودة الكلب، وإذا به يدلف إلى فناء الدار، فحيّاه العم مصطو قائلاً: أهلاً وسهلاً پارناس آغا! لماذا تأخّرت علينا؟! واختفى الكلب منذ ذلك اليوم، ولم يعد.. وكيف يعود وقد انكشفت حقيقته؟!

● كان العم (بَكُو)- رحمه الله- عائدًا ذات يوم من الجبل.. الوقت ليل، والظلام قد خيّم على كل شيء حوله، وفي وادي (ليلون) الواقع جنوب شرقي القرية وجد جَدْيًا تائهًا، فلم يشك أنه تخلّف عن أحد القطعان، ولئلاّ يصبح فريسة للذئاب، قرر العم (بَكو) اصطحابه إلى القرية، لا بد أنه لأحد أهل القرية. وعمد إلى الجدي فتأبّطه، وسار به صاعدًا من الوادي، وإذا به يحسّ أن الجدي بدأ يثقل، فنظر إليه، فإذا به قد طال وكبر، فأدرك أنه جنّي ظهر له في شكل جدي ليخدعه، فدبّ الرعب في نفسه، ورمى الجدي، وهرع إلى القرية مذعورًا، وأصبح طريح الفراش بضعة أيام، ثم انتقل إلى العالم الآخر.

● رغم قرب منزلنا من الكهف الذي تتدفق منه مياه النبع في القرية، فقد كنا نتحاشى السير بالقرب منه ليلاً، بل كنا إذا مررنا به نهارًا كنا نشعر بالخوف، ونلقي عليه نظرة فيها كثير من التوجّس. وكيف لا نفعل ذلك وقد سمعنا الرجال والنساء في قريتنا يتحدّثون عن جنّي على شكل عبد أسود بشع المنظر يخرج منه ليلاً، فيخيف كل من يعبر من هناك؟!

● كان ثمة كهف يقع في الجبل جنوبي القرية يسمّى (كهف الجن)، كانت هذه التسمية متوارثة جيلاً عن جيل، ولا ريب أن أحدهم توهّم أنه رأى فيه بعض الجن، فشاعت هذه التسمية بين القوم. وإذ أكتب هذه الكلمات أعود بالذاكرة إلى الأعوام الخالية، فلا أذكر أننا معشر الصبية اقتربنا ذات مرة من ذلك الكهف، بل لا أذكر أننا كنا نتّجه إلى المناطق القريبة منه، رغم كثرة ارتيادنا للجبل؛ سواء لمصاحبة الأمهات في جمع (البَلاّن) والزعتر البرّي وبعض الأعشاب العطرية، أو حينما كنا نصاحب الكبار في رحلات الصيد.

5- الإنس والجن.

وحينما أدقق التفكير في مسارات حياتنا تلك الأيام يتأكد لي أن ثمة أمرًا كان يتغلغل رغمًا عنا في تفاصيل مواقفنا وسلوكياتنا وأفكارنا وقيمنا؛ ألا وهو الرهبة من الكائنات الغامضة، وهذا دليل واضح على توافر نسبة كبيرة من البدائية في وعينا حينذاك، كما أنه برهان على تخلّف قدراتنا المعرفية، ولأقل باختصار: كنا ما نزال أسرى النزعة الأسطورية في تحليل الأحداث، وكانت الخرافة مهيمنة على طرائق تفسيرنا لبعض الوقائع الغامضة.

وبطبيعة الحال لا أنكر وجود (الجن)، فهذا الكون مليء بالكائنات، وقد عرفنا القليل منها، ومازلنا نجهل الكثير. وكلمة (الجن) في اللغة العربية نقيض (الإنس)، سمّوا بذلك لاستتارهم عن الناس، والإنسي من الأشياء يعني كل ما هو مرئي ومعروف، والجني من الأشياء يعني كل ما هو مجهول أو غامض. وإن فهمي للجن اليوم يختلف اختلافًا كبيرًا عن الفهم الذي كان شائعًا في مجتمعنا حينذاك، إنه اتّسع ليشمل كل كائن غير مرئي أو غامض، فالحشرات غير المرئية يمكن أن تُعدّ من (الجن)، وكذلك الأشعة السينية والأشعة تحت الحمراء وأشعة الليزر.

6- توظيف الخرافة.

والحق أن النسبة النامية للنزعة الأسطورية وللخرافة في تفكير الناس قديمًا هي التي جعلتهم يضخّمون بعض الأحداث، وينسبونها إلى الجن، بل إن كثيرين استغلّوا الخوف من الجن بوعي لتحقيق أغراض مادية ومعنوية.

فالذين يبحثون عن المال والجاه والشهرة، من بعض المرتزقة باسم الدين ومعدومي الضمير، ما الذي يمنعهم من تسليط الخوف من الجن على رقاب البسطاء من الناس؟! فالبسطاء يهرعون إليهم ويستنجدون بهم ليعصموهم من ذلك العدو الغامض، فيجودون عليهم حينئذ ببعض التمائم والأكاذيب، ويسلبونهم أموالهم.

واسمحوا لي أن أذكر لكم في هذا المجال روايتين:

 إحداهما قديمة.. والأخرى حديثة.

أما الأولى فقرأتها في بعض مصادر التاريخ الإسلامي، ولا يحضرني اسم الكتاب الآن، ومفادها أنه في عهد الدولة العباسية انتشر الخبر أن ثمة جنيًا غريب الأطوار يظهر ليلاً في منطقة موحشة من بعض الطرق الموصلة إلى (بغداد)، ويثير الذعر في قلوب المسافرين. فتحاشى الناس المرور بتلك المنطقة ليلاً.

وذات ليلة مرّ أحد المسافرين الشجعان بتلك المنطقة، فظهر له ذلك الكائن الغريب، كان له شكل غير عادي، وكان يصدر أصواتًا غريبة، ويقوم بحركات مريبة، لكن الرجل تماسك، واستلّ سيفه، وانقضّ على ذلك الكائن الغامض، وسرعان ما تراجع الكائن هاربًا، وطارده الرجل، وأمسك به، وسرعان ما انكشفت الحقيقة.

إن ذلك الجني لم يكن سوى امرأة، ورجت الرجل ألا يقتلها، وذكرت أنها جارية لبني فلان، كانوا يظلمونها، ففرّت إلى تلك البراري، ولجأت إلى ذلك الكهف القريب من ذلك المكان، وراحت تتظاهر ليلاً بأنها جنية، وتقطع الطريق على المسافرين، فيولّون فرارًا، فتأخذ بعض ما يتركونه وراءهم من متاع وأموال، وكانت تجمع تلك الأشياء في الكهف.

وأما حديثًا فقرأت في كتاب موسوعة حلب للمرحوم (خير الدين الأسدي) أنه كان في حلب- خلال بدايات القرن العشرين- أحد القصور القديمة.. كان قصرًا فخمًا ومع ذلك تحاشى الناس السكن فيه شراء أو استئجارًا؛ إذ شاع الخبر أنه مسكون بالجن.

وذات مرة تزوّج أحد شطّار حلب المعروفين بالرجولة يدعى (عُزّو) فيما أذكر، وقرر أن يتخذ بعض غرف ذلك القصر مسكنًا له ولعروسه، فحذّره الناس من الجن، لكنه لم يلتفت إلى أقوالهم، فهو يعمل عتّالاً ولا يملك دارًا، وليس عنده من المال ما يستأجر به دارًا مناسبة.

وفي بعض الليالي خرج (عُزّو) لبعض أموره، وبقيت زوجته وحدها في الدار، وبعد حلول الظلام- ولم تكن حلب منارة بالكهرباء حينذاك- إذا بها ترى من زجاج النافذة شبحين يظهران في فناء القصر، ويقومان بحركات غريبة، ويصدران أصواتًا غامضة، فدبّ الذعر في قلب المرأة، وكادت تموت رعبًا، ولم يبق عندها شك أن هذين الشبحين من الجن، ولما رجع (عُزّو)، ذكرت له الخبر، ورفضت البقاء في ذلك القصر، لكن (عُزّو) طمأنها، وأكّد لها أنه سيجد مخرجًا لهذه المشكلة.

وفي الليالي التاليات لزم (عُزّو) الدار.. وفي منتصف الليل إذ بالشبحين يظهران ثانية، ويقومان بما قاما به سابقًا، ويقتربان من النافذة والباب، وسرعان ما انقضّ عليهما (عُزّو) من خلف الباب، وأمسك بأحدهما، وإذا به يستغيث قائلاً:( دخيلك يا عُزّو! لا تقتلني.. أنا فلان!)، وإذا هو أحد الشطّار أيضًا. وسأله (عُزّو) عن السر فيما يقوم به هو وصاحبه. فذكر أن أحد الأغنياء في الحارة يريد شراء القصر بثمن زهيد، فأشاع الخبر أن القصر مسكون بالجن، وقد استأجرهما ليظهرا ليلاً لكل من يشتري القصر أو يسكنه على أنهما من الجن، فصدق الناس الإشاعة، ولم يجرؤ أحد على شراء القصر أو استئجاره.

7- السرّ!!

وحينما أتفحّص الآن الروايات التي كانت شائعة حول الجن في بيئتنا الريفية، وأدقّق التفكير في تفاصيلها، أجد نفسي منشغلاً بتفسيرها من منظور واقعي صرف، كما ألمح في طياتها الأغراض الساذجة والخادعة التي غيّبت الجوانب الواقعية، وأضفت على الأحداث رداء الخرافة والأسطورة.

● فالجني الذي أشيع أنه مختفٍ في كهف النبع، والذي كان يظهر لبعض الناس على شكل عبد أسود حسب الروايات، كان وراء اختراعه والترويج له أمران:

الأمر الأول هو تخويف الناس من الكهف لئلا يرتادوه، ويفسدوا مياه النبع من مصدره الأساسي، وكي يقتصروا على أخذ حاجتهم وسقاية حيواناتهم من المنافذ الخاصة بذلك؛ وقد مرت الإشارة إلى تلك المنافذ في حلقة سابقة. ولولا قيام (العبد الأسود/الجني) بتلك الحراسة الفريدة من نوعها لكان من الصعب جدًا إقناع بعض أهل القرية بلزوم ما يلزم.

والأمر الثاني أنه كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شيخ للكُتّاب تركي الأصل، يعلّم صبيان القرية بالتركية، ويقرئهم القرآن الكريم.. كان الشيخ غير متزوّج، وكان قد اعتاد بعض الليالي أن يغتسل قبيل الفجر بالمياه المتدفّقة من باب الكهف، ورغم أن المياه كانت تجري لكن أهل القرية لم يستسيغوا تصرّف الشيخ، بل امتعضوا لذلك أيّ امتعاض، فكمن له ذات ليلة أحد المشاغبين، وقد عرّى النصف العلوي من جسمه، ودهنه باللون الأسود، ولفّ على رأسه جلد شاة، ولما اقترب الشيخ من باب الكهف ظهر له ذلك الرجل بهيئة غريبة، وهو يصدر أصواتًا غريبة، فما كان من الشيخ إلا أن تراجع هاربًا، وفي النهار أكّد للجميع أنه نجا من (العبد الأسود/ الجني) بصعوبة بالغة.

● وأما فيما يتعلّق بالجني (پارناس آغا) الذي تجسّد في كلب العم (مصطو) فالحقيقة أن بعض الحيوانات السود- سواء أكانت كلابًا أم قططًا أم أفاعي- كانت متّهمة عند جميع أهل القرية بأنها في حقيقتها جنّ، وكان العم (مصطو) مشهورًا بحبه للدعابة والفكاهة، وببراعته في اختراع القصص العجيبة الغريبة، وقد رأى الفرصة سانحة لاستثمار الرأي العام حول الكلاب السود، فاخترع تلك الرواية حول كلبه الأسود (الجني).

● وأما ما يتعلّق بالجدي (الجني) الذي التقاه العم (بكو)، فلا أشك مطلقًا أن الجدي المسكين كان ضالاً حقًا، وكان بأمسّ الحاجة إلى أن يحضره العم بكو معه إلى الحظيرة، وينقذه من براثن الذئاب التي كانت تنشط ليلاً. لكن الروايات المتراكمة في ذاكرة العم بكو حول الجن وتقمّصها أشكال الحيوانات في الأماكن الموحشة والليالي المظلمة، هي التي صوّرت له أن الجدي طال، وغدا أثقل مما كان.

8- الجذر الخرافي.

إن التفسيرات الواقعية التي أسوقها حول الروايات الأسطورية كانت بعيدة جدًا عن أذهاننا في الخمسينات، ولو نطق بها أحدهم حينذاك لاتّهمه الكثيرون بالغباء أو المروق من الدين، وكيف لا يتّخذون منه هذا الموقف وقد جاءت سورة بكاملها حول (الجن) في القرآن الكريم؟!

أجل، كان للجذر الخرافي حضور طاغٍ في آليات تفكيرنا.. كانت الأسطورة أحد مداخلنا إلى فهم العالم من حولنا، وكان غياب الخرافات والأساطير من حياة أبناء الريف حينذاك يعني دمار رؤيتهم الوجودية، وتركهم معلّقين في الفراغ.

وفيما يتعلّق بي كنت بحاجة إلى مزيد من الوقت، وإلى كثير من الصراع مع المناخ الثقافي السائد من ناحية، والصراع مع الذات من ناحية أخرى، للخروج من دائرة الفكر الأسطوري، وامتلاك رؤية ممتنعة على الخوف من الكائنات الخرافية، والتعامل مع مكوّنات هذا العالم بقدر أكبر من الثقة والأمان والواقعية.

(وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة)

الخميس 4/3/2004  الدكتور أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar