الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 15:32 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الثامنة - ليلة الانتصار على الذات

1- إضاءة!

عاملان اثنان أحسب أن لهما تأثيرًا هامًا جدًا في تكوين شخصية الإنسان:

- البيئة الطبيعية (الأساس المكاني).

- الثقافة الشعبية (الأساس المعرفي).

      أما بالنسبة إلى البيئة الطبيعية فقد أكد المختصون في علم (الجغرافيا البشرية) أن أبناء الجنس البشري يتأثرون– شاؤوا أم أبوا- بطبيعة البيئة التي فيها يولدون وفيها يعيشون، ويظهر ذلك التأثير في الخصائص الثلاث للشخصية البشرية:

- الخصائص الجسمية (الفيزيولوجية).

- الخصائص النفسية (السايكولوجية).

- الخصائص المعرفية (الثقافية).

    وبطبيعة الحال لا يدور حديثنا في هذا المجال عن (الأفراد)، وإنما عن (الشعوب) ولا سيما في بدايات التاريخ البشري، حينما اكتمل إلى حد كبير تكوين ملامح وخصائص كل شعب، وفي الدراسات التي تدور حول هذا الموضوع حقائق طريفة، وعلى سبيل المثال يربط المختصون بين صغر عيون الأسكيمو وضيق فتحات أنوفهم من ناحية، ونور الشمس المبهر الذي تعكسه الثلوج، وبرودة الهواء معظم أيام السنة من ناحية أخرى، كما يربطون بين سعة عيون الزنوج الأفارقة وسعة فتحات أنوفهم من ناحية، وضعف سطوع الشمس في ظلال الغابات الاستوائية، وتمدد الهواء نتيجة الحر من ناحية أخرى.

    وأما بالنسبة إلى الثقافة الشعبية فيكفي أن نلقي نظرة مقارنة على عادات الشعوب وتقاليدها وآدابها وفنونها وسلوكياتها في الأفراح والأحزان لنغدو واثقين من وجود هذه الحقيقة. وأحسب أن الشاعر الإنكليزي (كِپْلِنْغ) انطلق من هذه الحقيقة في تحديد الفروق الجوهرية بين (الشرق) و(الغرب)، وقال بيته الشهير:

" الشرق شرقٌ، والغربُ غربٌ.. ولن يلتقيا أبداً ".

2- روايات .. ومشكلات!

وقد ذكرت في الحلقة السابقة أني كنت في عهد الصِّبا مسكونًا بقصص الخرافات والأساطير، مثل أغلب الناس في ذلك الوقت، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: مثل كل الناس. وكانت الثقافة الشعبية السائدة في بيئتنا هي التي أوصلتنا إلى تلك المأساة، وقد تضافرت قدراتنا المحدودة على تفسير العالم من حولنا تفسيرًا علميًا مع تلك الثقافة الشعبية، فأصبح الخوف من الكائنات الخرافية الغامضة- ولا سيما الجن- خوفًا مركّبًا شديد التعقيد.

وأذكر جيدًا أنه وصل بي الأمر حينما كنت صبيًا أني ما كنت أجرؤ على تجاوز باب البيت ليلاً إلا إذا صاحبني أحد الكبار مثل والدي أو والدتي رحمهما الله، وظل هذا الخوف من الكائنات الخرافية يلازمني حتى بدايات عهد الشباب، وأصبح مشكلة من أكثر المشكلات تعقيدًا بالنسبة لي، وما كنت أفصح عنها للآخرين، إذ كان من المعيب بالنسبة لي أن أفصح عن ذلك.

وأمضيت سنوات الدراسة الابتدائية وأنا أحمل هذا الخوف معي، وكنت حينذاك بدأت أنكب على مطالعة القصص، ولم تكن في عفرين حينذاك مكتبة عامة، وإنما كنت أقرأ بنَهمٍ قصص (ألف ليلة وليلة) و(سيف بن ذي يزن)، و(تغريبة بني هلال) و(حمزة البهلوان) و(فَيْروز شاه)، كنت أجد أخوالي (عبد الرحمن) و(نوري) و(شكري) ينكبون على قراءتها فرحت أستعيرها منهم، وكان أبرز ما يعجبني في تلك القصص أمران: 

-    الكائنات الأسطورية (العفاريت والمردة).

-    القدرات البطولية للشخصيات البشرية الرئيسة فيها.

وأذكر أني كنت أقرأ تلك القصص مرات ومرات، وليس هذا فحسب بل كنت أرويها لأصدقائي بحماس شديد، ولا أعتقد أن طريقة سردي للأحداث كانت هي الوحيدة التي تأخذ بألبابهم، وتجعلهم يلحّون عليّ أن أرويها لهم، وإنما كان لوقوعهم مثلي في أسر البعد الأسطوري لثقافتنا الشعبية تأثير كبير في ذلك الاهتمام، وأحسب أن روايتي للأحداث بحماس كانت عاملاً إضافيًا لأن تتغلغل أحداثها الأسطورية إلى اللاوعي عندي، وتترسّخ فيه، وتتسلّط من بعد على آليات التفكير عندي، وتلقي بظلالها على طريقة فهمي للعالم من حولي، وعلى صياغة مواقفي وردود أفعالي.

بلى في المرحلة الابتدائية كنت أعاني من مشكلة واحدة، هي الخوف من الجن ليلاً غالبًا، وأحيانًا نهارًا في الأماكن الموحشة، لكن بعد انتقالي إلى المرحلة الإعدادية وتقدّمي في الدراسة ظلّت هذه المشكلة تلازمني، وانضافت إليها مشكلة جديدة، ألا وهي (إدراكي) بأني أعاني الخوف من الجن، كان هذا الإدراك يجرحني ويؤرّقني جدًا، إنه كان ينتقص- بيني وبين نفسي- من شعوري بأني قوي، ويفتح ثغرة في شعوري بالزهو والثقة بالنفس.

3- الشجيرة المرعبة!

وكنت في المرحلة الإعدادية بدأت الاطلاع على ألوان من الثقافة غير قصص ألف ليلة وليلة والروايات الأسطورية الأخرى التي ذكرتها، وأذكر أن المدارس كانت مزوّدة بمكتبات صغيرة، لكنها كانت بالنسبة لي كنزًا لا يُقدّر بثمن.. كنت كثير الإقبال على ما فيها من كتب، وكنت مشغوفًا حينذاك بسير المشاهير وحياة العظماء والأبطال، وبدأت أطلع على شخصيات وبطولات لها نكهة أخرى، ولها طابع مختلف عن طابع الشخصيات والبطولات التي كنت أعجب بها في القصص والروايات ذات البعد الأسطوري، كنت ألمح في الأبطال الجدد قدرات بشرية واقعية، إنهم لا يختلفون عني وعن غيري من البشر في الهيئة والشكل، وكلما كنت أزداد اطلاعًا على هذا النمط الجديد من القراءات كان إدراكي لما أعانيه من (الخوف الأسطوري) يصبح أكثر إيلامًا.

وكنا حينذاك ننتقل من القرية إلى عفرين على أرجلنا في فصلي الخريف والربيع، وكان الأهل يستأجرون لنا سكنًا في عفرين خلال فصل الشتاء فقط، بسبب كثرة الأمطار والثلوج وقسوة البرد، وكان النظام في المدارس حينذاك أن يكون الدوام اليومي على مرحلتين: الأولى من الصباح إلى الثانية عشرة، والثانية من الساعة الثانية إلى الرابعة مساء.

أذكر أن الوقت كان خريفًا.. ولعلي كنت في الصف الثالث الإعدادي، وتأخرت ذات يوم عن زملائي من الطلبة، فكان عليّ أن أعود إلى القرية وحيدًا.. انطلقت من عفرين مع أذان المغرب، فأسرعت الخطا.. وتجاوزت قرية (طُرِنْده)، وبدأت ظلمة الليل تزداد رويدًا رويدًا.. كان أكثر الأماكن في الطريق رهبة هو المسافة الواقعة بين طرندة وقرزيحل، وتحديدًا أكثر منطقة بحدود كيلومتر تقريبًا، نسميها نحن سكان قرزيحل منطقة (دارْ پاچكْ = شجرة الخِرَق).. في هذه المنطقة تغيب عن السائر مشاهد بيوت طرندة وقرزيحل تمامًا، ويشعر المرء بالوحدة والعزلة والوحشة.

غير أن الأمر ما كان مقتصرًا على الشعور بالوحشة.

إن (دارْ پاچكْ) هذه كانت شجيرة جبلية شوكية، تتكوّم أغصانها الكثيفة على الأرض بارتفاع قامة الإنسان.. كانت واقعة وسط رجم من الحجارة، وكانت معظم فروعها الشوكية المنتصبة مزدانة بمزق من الأقمشة مختلفة الألوان، وكنا نسمع أن سكان قرى منطقة (شَيرَوان) في أعالي جبل ليلون- ولا سيما النساء- يحرصون على التبكير صباح يوم الأربعاء (يوم البازار) للوصول قبيل شروق الشمس إلى تلك الشجيرة. ثم يعلّق كل واحد مِزقة رفيعة من قماش ما على أحد فروعها، ويطلب من الله جلب خيرٍ ما أو دفع أذىً ما. وبعد اطلاعي على أساطير الشعوب وثقافاتها البدائية تبيّن لي أن هذه الممارسة كانت من الطقوس السحرية الغامضة القديمة جداً.

وجملة القول أنه انتقل إلينا عبر الموروث الشعبي أن هذه الشجيرة تمتلك بعض خصوصيات القداسة الغامضة. لكن لماذا، وكيف؟! لا ندري. وفي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تعرّض كثير من الأماكن المبجّلة (شعبيًا) والأثرية إلى سطو الباحثين عن الآثار والذهب، وكانت (دارْ پاچكْ) إحدى ضحايا تلك الغزوات، وتبين أنه تحت ذلك الرجم من الحجارة كانت حفرة منحوتة في الصخر على شكل  قبر صخري قديم، وبطبيعة الحال اقتُلعت الشجرة وأزيل الرجم، وبنيت الآن بيوت بالقرب منها. لكن ما زال اسم (دارْ پاچكْ) قائمًا إلى يومنا هذا.

وإضافة إلى الخوف من (المقدس الغامض) إزاء منطقة (دارْ پاچكْ) كان هناك الخوف من الجن، فثمة عدد من النساء والرجال والشباب والصبية كانوا يؤكدون على الدوام أنهم رأوا في تلك البقعة بعد هبوط الليل أشباحًا وحيوانات غريبة، وكان التفسير الذي يتفق عليه الجميع هو أن المكان مسكون بالجن.

في ذلك المساء الخريفي راح الخوف يغزوني من كل جانب، وشرع يزداد مع كل خطوة أخطوها نحو (دارْ پاچكْ)، وأذكر الآن جيدًا أنه على بعد حوالي مائتي متر تقريبًا منها بدأت الوساوس تهاجمني بقوة، فرحت أشجع نفسي، وألتمس الثقة من وعيي (العلمي) الجديد، وتقدّمت أكثر.. لكن الوساوس لم تنقص بل ازدادت أكثر، وعلى بعد حوالي مئة متر تقريبًا شعرت بضربات قلبي تدق بعنف، ورحت أتلفت حولي بقلق شديد.

كانت الجهة الغربية على يمين الطريق جبلية، فيها بعض الصخور والنباتات البرية، ولا سيما نبتة (الخِنْت).. بدأت أتصوّر أمامي كائنات في قامة الإنسان، وكائنات أخرى غريبة الأشكال.. أحسست أن شعر رأسي ينتصب.. أصبح الخوف ذعرًا.. لكني رحت أتشجّع وأستعين بتلاوة المعوّذتين وأنا أرفع صوتي، وكأني ألقي خطبة في جمهور كبير، ورحت أتقدّم إلى الأمام فأجد تلك الكائنات إما أنها صخرة أو أنها شجرة (خِنْت)، وكان لا بد لي من التقدّم.. أصبحت بمحاذاة (دارْ پاچكْ).. هنا كان الذعر قد بلغ مني كل مبلغ.. توقعت أن يخرج من بين أغصانها الشوكية عفريت ما أو كائن غامض ما.. ازددت من تلاوة ما أحفظ من الآيات القرآنية وأنا أسرع الخطا.. اجتزت المنطقة بسلام، وسمعت صوت راع على سفح جبل ليلون وهو يعود بقطيعه إلى القرية.. فاستأنست به.

4- نقمة على الذات.

مع تقدّمي في الثقافة والمطالعة بشكل عام شعرت في قرارة نفسي بالنقمة على ذاتي.. كانت نقمة مشوبة بالخجل، ويبدو أن الأمر تطور ليصبح مشكلة نفسية فكرية ذات طابع فلسفي بدائي.. كنت أشعر بين الحين والحين أنه علي أن أضع حدًا نهائيًا لهذه المشكلة.

وحينما اجتزت المرحلة الإعدادية، وانتقلت إلى المرحلة الثانوية حظيتْ مدينة عفرين بمكتبة عامة سميت (المركز الثقافي)، وكانت وزارة الثقافة قد استأجرت غرفتين كبيرتين إحداهما مفتوحة على الأخرى، وكانت ثمة طاولات وكراسٍ كان المكان ضيقًا جدًا، لكن كان عدد الطلبة في عفرين حينذاك قليلاً أيضًا، وأذكر أني كنت من روّاد تلك المكتبة في معظم أوقات الفراغ.

ومن حسن الحظ أن تلك المكتبة كانت تضمّ كثيرًا من القصص والروايات الرومانسية، وكثيرًا من كتب التراجم، وبعض كتب التاريخ، والكتب ذات المعلومات العلمية الحديثة، إلى جانب كثير من كتب الشعر والأدب، فوجدت نفسي مقبلاً على القصص الرومانسية ودواوين الشعر وكتب الأدب والتراجم. ورحت أزداد بُعدًا عن قصص ألف ليلة وليلة وأمثالها، ويبدو أن البعد الواقعي والعلمي شرع يحتل مساحة أكبر في إدراكي، ويبدو أيضًا أن البعد الخرافي راح يتراجع بعض الشيء، لكنه كان يضايقني بقوة في بعض المواقف، ويبدو أن صراعًا خفيًا وضاريًا كان يدور بين هذين النمطين من الإدراك في كياني، وظهر الصراع إلى السطح ذات ليلة بكيفية عجيبة لم أفكر فيها، ولم أخطط لها.

5- المغامرة!

كنت حينذاك في الصف الثاني الثانوي فيما أذكر، وكان الوقت شتاء، وكان الأهل قد استأجروا لنا سكنًا في عفرين.. وذات مساء كان المطر ينهمر والريح تعصف، ولست أذكر الآن بدقة تفاصيل الأحاسيس والمشاعر التي كنت أعيشها ذلك المساء، لكني أرجّح أنها كانت تتعلّق بمشكلة الصراع الدائر في ذاتي حول الخوف من الجن ومن ظلمة الليل. فوجدت نفسي أرتدي ثيابي، وأحتذي (الجَزْمة)، وأتدثّر بمعطف شبه جلدي ينتهي من الأعلى بغطاء (قلنسوة) للرأس، ثم وجدت نفسي أنحدر نحو السوق، وأركب الطريق باتجاه قريتي (قرزيحل).

لم يكن ثمة أي مبرّر منطقي وواقعي للذهاب إلى القرية في تلك الليلة الماطرة الظلماء، والقيام بتلك المغامرة الطائشة، فالأهل كانوا يزوّدوننا بحاجتنا من الثياب والطعام والنفقات بما يكفينا لمدة أسبوع.. ولا أذكر الآن بدقة الخواطر والأفكار التي سيطرت عليّ حينذاك، لكن كل ما أذكره هو أني كنت أقوم برحلة للانتصار على نوعين من الرهبة: الرهبة من ظلمة الليل، والرهبة من الجن.

كان وقت انطلاقي قبيل صلاة العشاء.. ولا يخفى أن الظلمة تحلّ بسرعة في ليالي الشتاء الماطرة بسبب كثافة السحب.. كنت قد تسلّحت بخنجر فقط.. وكانت رغبتي الجامحة تلك الليلة هي رؤية أحد الجن.. كنت أحدّث نفسي: إذا كان ثمة جني فلا بد أن ألتقيه هذه الليلة، فالزمن شتاء، والوقت ليل، والظلام كثيف، والطريق موحشة.. وأتذكر إلى الآن الأصوات الأربعة الوحيدة التي كنت تزاملني في تلك الليلة: انهمار المطر، والريح العاصفة، قصف الرعود، خبطات قدميّ على الطريق.

كانت الطريق من (طرنده) إلى (قرزيحل) ترابية تربتها غضارية تلتصق أوحالها بالحذاء فتصبح عبئًا على السائر، هذا إضافة إلى ضياع معالم الطريق في ظلمة الليل، فقررت السير مع الطريق العام المرصوف المتوجّه إلى قرية (عين دارا) ثم إلى قرية (باسوطا) فإلى (قلعة سَمْعان)، والمار عبر السهل، ويبدو أن ما صرفني عن السير في الطريق الترابية ليس هو تجنّب الأوحال فقط، وإنما مخافة الوحوش الكاسرة في تلك الليلة الشتوية أيضًا، فتلك الطريق تمر بالقرب من سلسلة جبل ليلون. وكنا في الخريف والشتاء وأوائل الربيع نلمح على سفوحه بعض الذئاب، لكن كانت الضباع هي التي تخيفنا أكثر، وكان ذلك أيضًا نتيجة القصص المرعبة التي كان الكبار يجودون بها علينا بين الحين والحين.

سرت في الطريق العام.. تجاوزت (طُرِنْدَه).. تقدّمت باتجاه (عين دارا).. المطر يخِفّ تارة ويتساقط بغزارة تارة أخرى.. كنت ألتفت حولي بحرص وتوجّس، وأدقق النظر فلا أرى أية كائنات غريبة.. كانت موجات من الخوف تنتابني موجة تلو الموجة.. كم مرة حدّثتني نفسي بالعودة والتخلي عن المشروع (البطولي).. لكني كنت أتخلّص من الخوف عبر حوار مع الذات من منطلقين: الأول الشكوك التي بدأت تخامرني إزاء تصورنا البدائي عن الجن. والثاني هو اتخاذ القرار بالانتصار على هذا الخوف، وكنت أشعر بالعار أمام نفسي إذا تراجعت. وهكذا لم أر بدًا من الاستمرار في خوض المعركة. وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات من عفرين تقريبًا كان عليّ الاتجاه شرقًا عبر الممر الواقع بين جبلي (ملا موسى) و(زيارة).. فالطرق الجبلية أوحالها قليلة جدًا، والسير فيها أسهل شتاءً.

كنت وأنا أتقدّم أنتظر في كل ثانية أن أرى جنيًا ما.. لكن لم يكن ثمة شيء سوى الظلمة والمطر والريح ولمعان البروق بين حين وآخر.. وتبدّد الخوف من الجن رويدًا رويدًا، لم أشعر أن ضربات قلبي تدق بعنف،  كما لم أشعر أن شعر رأسي ينتصب، وأن القشعريرة تدبّ في أوصالي.. بدلاً من ذلك رحت ألوم نفسي على هذه المغامرة الطائشة، قائلاً:

ترى ماذا سيحلّ بك لو هاجمك سرب من الذئاب في هذه الليلة الظلماء؟!

وماذا يكون مصيرك لو صادفتك بعض الضباع؟!

ماذا ينفع خنجرك هذا؟!

كيف يمكنك التصدي لهجماتها؟!

ومن الذي سينقذك من مخالبها وأنيابها؟!

حقًا.. تبدّد الخوف من الظلمة والكائنات الغامضة، وحلّ محلّه الخوف من الوحوش المفترسة.. لكن لم يكن أمامي خيار سوى الاستمرار.. أطللت على القرية.. الظلمة تلفّها من كل جانب، ومع ذلك تنفست الصعداء، وشعرت بالسكينة تسري في نفسي.. وصلت القرية.. دققت باب البيت.. فتح إخوتي الصغار الباب.. وكم كانت مفاجأة الوالدة والوالد- رحمهما الله- شديدة! سألاني عن سبب قدومي في هذا الليل العاصف.. زعمت أني نسيت بعض الأوراق الخاصة بالدروس.. ورحت أقلّب الأوراق في كوة جدارية كانت خاصة بكتبي ودفاتري.. زعمت أني وجدت الورقة، وألحّا عليّ بالبقاء، لكني زعمت أيضًا أن ثمة واجبات مدرسية تنتظرني ولا بد من العودة.. لم يدم مكوثي في البيت أكثر من نصف ساعة.. ودّعت الأهل.. واندفعت عائدًا إلى عفرين.

6- انتصار على الذات.

في رحلة العودة كنت قد تخلّصت من هاجس الخوف من الجن، كانت المشكلة الجديدة هي الخلاص من قبضة الوحوش المفترسة.. وبدأت أتعامل مع هذا الخوف من منظور واقعي، فالوحوش تنشط عادة مع منتصف الليل (هكذا كنا نعتقد)، وليس من المعقول أن تخرج من أوكارها الجبلية في هذه الليلة العاصفة المطيرة، وما عليّ سوى الإسراع بالعودة.

عدت.. ووصلت إلى عفرين سالمًا.

وعبر هذه المغامرة تعلّمت درسًا أفادني طوال حياتي وهو:

إذا كنت أخاف شيئًا ما فما عليّ سوى مواجهته.

إن ما سأخسره في المواجهة هو الخوف فقط.

ومنذ تلك الليلة تحررت من رهبة (الجن) ومن رهبة (الظلمة).

وبعد سنوات أدركت الحقيقة.

الانتصار الذي أنجزته لم يكن على الجن والظلمة.

كان إحدى محطات  الخروج من مملكة الخوف.

كان انتصارًا على (الذات).

ـــــــــــــ

(وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة).

الخميس 20/5/2004    الدكتور أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar