الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 14:03 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة التاسعة - 1- مثقفو قريتي الأوائل.

بعض الأمور الصغيرة في بدايات حياتنا كم هي خطيرة!

إنها نقاط جوهرية لحدوث التحولات وأحيانًا الزلازل الكبرى في كياننا.

وقد تحدّر المسارات الأكثر حميمية - وربما الأكثر تراجيدية- في مستقبلنا.

ومن هذا المنظور أفهم الانتصار على الذات، بالعبور من رَهَبوت (الوعي الأسطوري) بكل ما يعنيه من بدائية وانقماع وانخذال، إلى مَلَكوت (الوعي الواقعي) بكل ما يعنيه من عقلانية وانفتاح وجراءة، وما كان ذلك الانتصار ليتحقق لولا رحلتي مع الثقافة.

وكنت وما زلت أعتقد أن ثقافة متقدمة تعني وعيًا متقدمًا.

وأن وعيًا متقدمًا يعني منظومة متقدمة من المبادئ والقيم والمواقف.

ويعني أيضًا آليات معرفية متقدمة للتأمل والتفكير والتحليل والتقويم.

ويعني من ثَمّ فهمًا متقدمًا ومتعمّقًا للذات.

كما يعني تفسيرًا متقدمًا ومتجددًا للعالم.

لكن كيف كانت بدايات رحلتي الثقافية؟!

ببساطة تامة: كانت البداية مع مثقفي قريتنا الأوائل.

وقد يستهجن القارئ الكريم استخدامي مصطلح (مثقف) لأناس من قريتي عاشوا في النصف الأول من القرن العشرين، الزمن الذي هيمن فيه التفكير الأسطوري والبدائي على معظم مداخل وعينا ومخارجه، والزمن الذي كانت بعض القرى فقط تحظى فيه بوجود ممثل الثقافة الوحيد (شيخ الكتّاب) القادم من غربي تركيا، أومن جهات (مَلَطْيَة) في تركيا العثمانية.

لكن دعونا نتذكر أن حقائق عالمنا نسبية، وكذلك أحكامنا، وأن لكل عصر مستوى من الجهل يتوافق مع معطياته البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وله أيضًا مستواه الثقافي الملائم لتلك المعطيات، والمثقف في كل عصر هو طليعة المجتمع، إنه الأغزر من حيث المعلومات، والأقدر على الربط والمقارنة، والأعمق في التحليل والتنظير، والأكفأ لاستخلاص النتائج، والأكثر قدرة على التوقّع والتنبّؤ، والأشد تمسّكًا بالمبادئ الجوهرية، والأكثر إقدامًا وبسالة في الدفاع عن القيم السامية.

والحق أن كثيرًا من هذه المزايا كانت متوافرة في مواقف وممارسات وسلوكيات مثقفي قريتي الأوائل، إنهم كانوا ثلاثة:

1- الجد إبراهيم كَلَبْچَكْ.

كان المعهود في قرانا أن تتغيّر الأسماء؛ تارة للاحترام والإجلال، وأخرى للتحبّب، وثالثة للدعابة، ورابعة للسخرية، وخامسة للاحتقار. وبالنسبة للجد (إبراهيم كَلَبْچَكْ) - رحمه الله- كان الصغير والكبير في القرية يسمّيه (كالى إبْرام= الجد الكبير إبراهيم)، تعبيرًا عن الاحترام والإجلال. كان قد قارب الثمانين حينما أدركته، هذا ما أرجّحه.. وتوفّي على الغالب في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين.

كان مظهره يذكّرني- من غير مبالغة- بما كانت تختزنه مخيلتي من صور الأبطال العظام الذين قرأت عنهم في روايات (حمزة البهلوان)، و(فَيْرُوزشاه)، و(أبو زيد الهلالي)، وكان- رغم تقوّس ظهره بعض الشيء تحت وطأة السنين- طويل القامة، كبير الهامة، واسع الصدر، عريض المنكبين، ضخم العظام، أبيض اللون تخالطه شقرة خفيفة، واسع العينيـن، أقنى الأنف، جهوري الصوت، جليل المظهر، مهيب الهيئة.

وقد عاصر (كالى إبْرام) أواخر العهد العثماني، وعهد الاحتلال الفرنسي لسورية، وعهد الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، وعرف الحياة بحلوها ومرّها، ودخل السجون، وتشرّد في الجبال، وكان من أبرز زعماء الثائرين على السلطات العثمانية في منطقة (جُومَهْ) والذين عُرفوا بلقب (چتَهْ)، ثم كان من الثوّار على السلطات الفرنسية، إنه كان صديقًا حميمًا للثائر (مُحُو إيبُو شاشُو) الذي أطلق أول رصاصة في سورية ضد الفرنسيين، وأول من خاض المعارك ضدهم في سهل العَمْق ومنطقة (جُومَه)، وسمعت من معمَّري قريتنا أن الثائر (محو) نزل ضيفًا على (كالى إبْرام) في قريتنا بصحبة مقاتليه، حينما كان يخوض الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، وقد ألقت السلطات الفرنسية القبض على (كالى إبْرام) وبعض مرافقيه، ومنهم جدي لوالدتي (قَرَه محمد = محمد الأسمر) رحمه الله، وسجنوا عدة سنوات.

إن (كالى إبْرام) كان ذا سمت خاص، كان قليل الكلام، رصين العبارات، عميق التفكير، صائب الرأي، يجيد من اللغات الكردية والعربية والتركية، إنه كان جدّ والدتي لأمها، وكثيرًا ما كانت والدتي تزوره، وتقوم برعايته، فكنت أرافقها في تلك الزيارات، وكنت وأحفاده الصغار ننتهز فرصة غيابه عن الدار، فندخل غرفة (المضافة) الخاصة به، ونغلق الأبواب والنوافذ، لنبدأ بمطاردة طيور السنونو التي كانت تبني أعشاشها في سقف الغرفة، وقد لفت انتباهي حينذاك وجود عدد من الكتب في كوة كبيرة، كانت كتبًا ذات ورق أصفر، جلودها عتيقة، وقد تهرّأت جوانبها من كثرة الاستعمال.

وأذكر أن كثيرين من رجال القرية كانوا يزورون (كالى إبْرام) في ليالي الشتاء، فيشرع في قراءة صفحات من بعض الكتب، بعضها بالتركية وبعضها بالعربية، ويشرح لهم مضامينها، وكانت الكتب التاريخية الواقعية والروايات التاريخية ذات البعد البطولي الأسطوري هي الغالبة على مكتبته الصغيرة. وبطبيعة الحال ما كانت التقاليد الاجتماعية تسمح لنا نحن الصبية بحضور تلك الجلسات التثقيفية العفوية.. بلى كان من المعيب حينذاك أن يحضر الصبية والشباب الصغار مجالس الكبار، وأحسب أن هذا التقليد كان من أبرز آليات تغييب المعرفة النظرية والعملية عن النشء حينذاك.

2- المختار أبو حسن.

ما زلت أتذكّر ذلك الرجل الذي عرفته في صباي كهلاً، ثم عرفته في شبابي عجوزًا، أقصد مختار القرية (أبو حسن)، كان اسمه- رحمه الله- (محمود ملا محمد عثمان)، وقد عاصرته سنوات أطول من تلك التي عاصرت فيها (كالى إبْرام)، كان يتميّز بقيافته المرتّبة وهندامه الأنيق، ويعتمر قلنسوة حمراء اللون من النمط الذي كان يعتمره الآغاوات وتجار حلب حينذاك، والذي كنا نجده في الكتب المدرسية على رؤوس الشخصيات الوطنية والسياسية الشهيرة في النصف الأول من القرن العشرين، من أمثال السلطان العثماني عبد الحميد، والملك فاروق، وأحمد عُرابي، وسعد زغلول، وشكري القُوَّتلي. لكن المختار (أبو حسن) كان يلف حول قلنسوته عمامة بيضاء رقيقة مزركشة بخطوط صفر، فكانت تبدو أكثر بهاء

 ومن أبرز سمات المختار (أبو حسن) هدوءه الجمّ، وتأمله العميق، ومظهره الوقور، وحِلمه البالغ، وفطنته الدقيقة، ورؤيته الرحيبة، وحكمته العملية، وسياسته المرنة، وإدارته التي كان يجمع فيها بين الحزم واللين. وقد يتعجب القارئ الكريم قائلاً: هل كان هذا الرجل يقود دولة أو رئاسة وزارة أو كان وزيرًا؟!

بطبيعة الحال إنه كان مجرد (مختار) للقرية، لكن لعل أبناءنا وبناتنا اليوم لا يعلمون بدقة أهمية مكانة المختار وخطورة وظيفته وفاعليته الاجتماعية في النصف الأول من القرن الماضي.. كان المختار حينذاك- ويسمى في مصر (العُمدة)- بمثابة رئيس القرية وقائدها وزعيمها، وكان يفترض فيه أن يكون ثريًا، وحصيفًا، وكريمًا، وطويل البال، ويمتاز بقدر من العلم أو المعلومات، وخبيرًا بحل المعضلات، وله دراية بخفايا الأمور، كما يمتلك القدرات التي تؤهّله لحفظ التوازنات العائلية في القرية، من خلال تشكيل لجنة شبيهة بمجلس شورى مصغّر من زعماء تلك العائلات، يستعين بها في حل الخلافات وفض النزاعات، وكل ما يمكن أن يؤزّم العلاقات بين أفراد المجتمع القروي.. بل إن مؤسسات الدولة كانت تستشيره وتأخذ برأيه في كل موضوع يصل إلى المحاكم ودور القضاء.

 كان المختار يجيد من اللغات الكردية العربية والتركية، وكان الطابع الغالب على ثقافته هو التاريخي الديني من ناحية، والديني الفقهي (الحلال والحرام) القانوني من ناحية أخرى، ولا ريب أن لهذا التوجّه علاقة وثيقة بوظيفته كزعيم لمجتمعه القروي. ولذا كانت مضافته مقصد الرجال من أهل القرية، يؤمونها على مدار ليالي السنة، وأما في الشتاء فكانوا يرتادونها معظم أوقات النهار والليل، يتطارحون فيه الحديث في شؤون الزراعة والرعي، ويسألونه عما دق وجل من أمورهم الخاصة والعامة، فلا يبخل عليهم بالنصيحة الرشيدة والتوجيه السديد.

ورغم أن المختار كان يصغر (كالى إبْرام) بأكثر من عقد من الزمان، وكان من أبناء عمومة الوالد- رحمه الله- إلا أني كنت أتهيّب مقاربته وحضور مجلسه، شأن كل فتية القرية حينذاك، إن قلنسوته المتميّزة، وحلول رجال الدولة (القائم مقام، الحاكم، الطبيب الشرعي، مدير المالية، رئيس المخفر، الدرك) ضيوفًا عليه، إضافة إلى مظهره الجادّ الدائم، وصمته الغامض، كل هذا كان يجعلنا نتهيّب ارتياد مجالسه، إن هدوءه الحازم يذكّرني برئيس ألماني في بدايات القرن العشرين، ولعله هندنبرغ، سأله الصحفيون ذات مرة:

- ماذا تفعل عندما تغضب؟!

- أصفّر.

-  لكنا لم نسمعك تصفّر أبدًا!

- وأنا لا أغضب أبدًا.

    وكذلك كان المختار (أبو حسن) إلى حد كبير.  

3- الوالد.

كان الوالد- رحمه الله- هو الشخصية المثقفة الثالثة في قريتنا، ومن المفيد أن نأخذ بعين الاعتبار نسبية مصطلح (المثقف) كما مر بنا سابقًا. وقد فتحت عيني على الحياة وأنا أرى على جدران بيتنا صفّين من الرفوف الخشبية الطويلة، تصطفّ عليهما رزم مختلفة الألوان والأحجام، وبعضها ملفوف بأوراق الصحف ومشدود بالخيوط، كما كنت أجد كوّة كبيرة في الجدار تتكدّس فيها كتب متنوعة، بعضها كبير وبعضها صغير، وبعضها قديم ومتهرّئ الجوانب، وبعضها يبدو من شكله أنه متوسّط العهد، ومعظمها ذات ورق أصفر اللون، أضف إلى ما سبق أني كنت أجد في زاوية البيت على الدوام صندوقًا خشبيًا صغيرًا، يُخرج منه الوالد- رحمه الله- في فترات شبه منتظَمة، ولا سيما صباحًا باكرًا وعصرًا، بعض الكتب، ثم يضعها على الصندوق ويشرع في قراءتها.

وبعد أن بلغت سن الرشد علمت أن ما كان على الرفوف، وما كان في الكوّة، وما كان في الصندوق الخشبي، هو مكوّنات ما نسميه (مكتبة خاصة)، وقد جعلها الوالد ثلاثة أقسام بحسب حاجته إليها: أما ما اطّلع عليه في سابق أيامه، ولم تعد له حاجة ماسّة إليه، فقد ربطه على شكل حزم، ووضعه على الرفّين، وأما ما كان يحتاجه أحيانًا فوضعه في الكوّة، وأما ما كان يحتاجه يوميًا فوضعه في الصندوق وجعله في متناول يديه.

وكان الطابع الغالب على مكتبة الوالد هو الطابع الديني والطابع اللغوي (معاجم تركية – تركية، معاجم عربية- تركية، نحو)، والطابع الطبي الشعبي وتفسير الأحلام، وبعض كتب التاريخ الخاصة بالعهد العثماني، وبعض كتب الحساب. ويبدو واضحًا أن لهذا التنوّع علاقة وثيقة بطبيعة عمل الوالد رحمه الله، إنه أمضى أكثر من ثلثي عمره (1910-1973م) وهو يعمل (شيخ كتّاب) وإمام مسجد القرية وخطيبها.

ويبدو أيضًا أن الوالد كان حريصًا على أن يكون في مستوى موقعه الديني والتعليمي، فشيخ الكتّاب شبه الجاهل لا يمكن أن يعلّم الطلبة كما ينبغي، ثم إن مجتمعات القرى كانت تتوقّع من من الإمام والخطيب أن يجيب عن كل سؤال، ويوضّح كل مبهم، ويفسّر الآيات الكريمة، ويتناول المسائل الفقهية، ولا سيما أمور الحلال والحرام والميراث، كما عليه أن يجيد العمليات الحسابية، وإلا فكيف يمكنه حل الإشكالات الناجمة عن قياس مساحة الأراضي المشتراة، أو الموزّعة بين الورثة، أو المختلف على حدودها بين جارين؟! وكيف يمكنه تذليل صعوبات توزيع حصص الشركاء في مزارع القطن بدءًا بالمصاريف وانتهاء بالأرباح؟!

وإني إذ أذكر هذا أشعر بالأسى العميق حقًا، فقد احتاجت الدار بعد وفاة الوالد- رحمه الله- بفترة إلى الترميم، وكنت حينذاك ملتحقًا بالخدمة العسكرية، فجمع الأهل تلك الكتب في كيسين كبيرين أو أكثر، ووضعت في غرفة أخرى صغيرة ملاصقة للدار، غير أن حريقًا أتى على تلك الغرفة وما فيها، ولم يسلم من تلك الكتب إلا النزر اليسير جدًا.    

-         -  -

 هؤلاء كانوا مثقّفي قريتي الأوائل.

وصحيح أن جهودهم التثقيفية تعدّ متواضعة بمعايير عصرنا هذا.

لكنها- والحق يقال- كانت جهودًا متقدّمة في النصف الأول من القرن العشرين.

ومن تلك الجهود بدأت خطوتي الأولى في رحلتي الطويلة مع الثقافة.

(وإلى اللقاء في الحلقة العاشرة).

2 - 7 – 2004م        الدكتور أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar