الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 4:58 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة العاشرة - رحلتي مع الثقافة

1-  لا تنسوا أجسادكم!

منذ سنين قلت لبعض أصدقائي:

نحن- المثقّفين من أبناء الريف المنتمين إلى جيل الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي- لنا تاريخنا الخاص، تاريخنا هو مزيج من مرارة الشقاء وعذوبة التحدي، حفرنا دروبنا في شعاب هذه الحياة بأظافرنا، اجتزنا ألف خندق وخندق، وتغلّبنا على ألف عائق وعائق، وعبرنا ألف برزخ وبرزخ، كَبَوْنا وكبونا وكبونا، الكبوات في حياتنا لا تحصى، لكننا كنا ننهض بعد كل كبوة، وكنا نستمرّ في التقدّم، كان شيء ما يجعل الثقة بالنفس تسري في كل خلية من خلايا أجسادنا الشاحبة، ولولا تلك الأجساد التي خاضت امتحان (البقاء للأقوى) بنجاح لما عشنا إلى هذا اليوم. ولعل هذه الذكريات المتجذّرة بجدارة في صميم كياني هي التي تجعلني أقول لأولادي بين حين وحين:

_ في زحمة مشاغل هذه الحياة لا تنسوا أجسادكم يا أولاد! 

بل أذكر أني كنت أقول لأصدقائي أيضًا:

نحن أشبه بتلك الشجرة الجبلية المنسيّة في متاهات الجغرافيا، المرميّة خارج التاريخ، تعصف بها أعاصير الشتاء، وترميها شمس الصيف بشواظها، وتحاصرها الصخور القاسية، وتنهال عليها السيول، فيزخر جسدها بالجراح، وتتكسّر أغصانها، ويتشوّه مرآها، وتكفهرّ ملامحها، لكنها تظل واقفة بعناد، وتظل تشمخ بقامتها الصلبة وبرأسها المشدوخ، حتى إذا أقبل الربيع أورقت ثم أزهرت ثم أثمرت، فصنعت الظلال الوارفة للرعاة وللمتشردين ولعابري السبيل، وأصبحت هي الجغرافيا، وأصبحت هي التاريخ.

وبالنسبة لي كان ثمّة عامل آخر.. إنه الثقافة.

فكيف كانت رحلتي مع الثقافة؟!

2- الكوّة- المكتبة.

بدايةً آمل أن يلاحظ القارئ الكريم أني أقول: رحلتي مع الثقافة، ولا أقول: رحلتي مع التعلّم، ولعلّي أتناول في حلقات قادمات الحديث عن (رحلتي مع التعلّم)، و(رحلتي مع التعليم)، أما الآن فلنقتصر في حديثنا على الثقافة.

وقد يكون من الغرابة القول بأن خطوتي الأولى مع الثقافة بدأت من القرية.. وتحديدًا من (كوّة) مضافة الجد إبراهيم كلبچك (كالى إبرام)، فالاعتقاد السائد أن المدارس والمعاهد والجامعات هي وحدها التي تخرّج المثقّفين.. وكم هو خاطئ ومضلِّل هذا الاعتقاد!

بلى، إن (كوّة) مظلمة في جدار غرفة بسيطة، تنتمي إلى قرية مثل قريتي، متواضعة جدًا، ومرمية في الشمال على سفح (جبل ليلون)، وبعيدة من مراكز العلم والحضارة، يمكن أن تكون بوّابتك إلى العالم، ويمكن أن تقلب شخصيتك رأسًا على عقب، ويمكنها أن تأخذ بيدك إلى اكتشاف ذاتك وهويتك وانتمائك ونقاط قوّتك وضعفك، وبالتأكيد لست حالة فريدة في هذا المجال، إن معظم المثقّفين المنتمين إلى جيلي والأجيال السابقة علينا في النصف الأول من القرن العشرين انطلقوا من هذه البدايات المتواضعة.

ومرّ بنا في الحلقة التاسعة أني كنت أجد في كوّة مضافة الجد إبراهيم ركامًا من الكتب المختلفة الأحجام، معظمها ذو ورق أصفر، وبعضها قديم متهرّئ الغلاف، وبعضها متشقّق الصفحات من كثرة الاستعمال، لقد عرفت بعد حين أنه كان لتلك (المكتبة) البدائية روّادها وعشّاقها من رجال القرية، كانوا قلّة قليلة جدًا، ربما اثنان أو ثلاثة على الأكثر، لكنهم كانوا يُدخلون الحركة على محتويات (المكتبة).

ويبدو أن الجد إبراهيم كان كريمًا عليهم، ولعل الشيخوخة كانت تحول بينه وبين الاستمرار في تلبية رغبات محبّي الاستماع إلى قصص (حمزة البهلوان)، و(فيروز شاه)، و(ذات الهمّة)، و(تغريبة بني هلال)، و(عنترة بن شدّاد)، و(الزير سالم)، فشجّعته على البحث عمّن يريحه من عناء القراءة بالعربية والشرح بالكردية للسمّار في ليالي الشتاء الطويلة.

3 – الخال عبدو.

كان أبرز المرشّحين لتلك المهمّة التثقيفية خالي عبد الرحمن (عبدو)، وكان فيما علمت بعدئذ من أكثر روّاد المكتبة- الكوّة. إن الخال عبدو كان أكبر أولاد الابنة الكبرى للجد إبراهيم، أقصد جدتي لأمي (مَدينة)، وكان كثير التَّرداد على جدّه، مقرّبًا إليه، ونادرًا ما كانت الفرص تتاح لي في حضور جلسات الاستماع إلى ما كان يرويه الجد إبراهيم بنفسه، وأحسب أن ذلك كان ناجمًا عن صغر سنّي من ناحية، والانشغال باللعب مع الأقران والتبكير في النوم شتاء، من ناحية أخرى، كنت حينذاك كالظل للمرحومة والدتي، وقلّما كانت النساء يحضرن تلك المجالس القصصية.

وكنت حينذاك واقعًا بالكلية في قبضة منهاج المرحوم والدي على الصعيد التعليمي، كان يحرص بحزم، ودون أيّ تساهل، على ختم القرآن الكريم تلاوة، إلى جانب حفظ السور الواردة في (جزء عَمّ)، ولم يقف الأمر معه عند ذلك الحد، وإنما كان يُلزمني بتعلّم المبادئ الأولية في علم الحساب من جمع وطرح وضرب وتقسيم، مع بعض قواعد اللغة العربية، الأمر الذي كان يُحدث الخلل في برامج اللعب التي كنا نتّفق عليها نحن الصبية، ويثير في النفس تبرّمًا دفينًا وغضبًا خفيًا.

وكان من أولى مكاسب التحاقي بالمدرسة الابتدائية أن قبضة منهاج الوالد خفّت، فقد اقتصر على الاستمرار في تلاوة القرآن تحت إشرافه، إذ تبيّن له أن من بين كتبي المدرسية كتابًا للحساب، وآخر لقواعد العربية، إضافة إلى كتب خاصة بالعلوم والديانة والتاريخ والجغرافيا، إذن ثمّة من يقوم مقامه في تنفيذ المنهاج على نحو موسّع، كما تبيّن له أني بحاجة إلى وقت مديد لدراسة تلك المواد وفهمها، فالمسألة باتت صعبة، إنها قضية نجاح ورسوب، وكم سيكون مزعجًا بالنسبة له أن يقول أهل القرية في نهاية السنة: انظروا! ها قد رسب أحمد ابن (خوجة محمود)!

بلى.. منحني الوالد قدرًا وافياً من الحرية في التعامل مع الكتب، ومتَّسعًا من الوقت، وكانت تلك فرصة سانحة لأن أبدأ خطواتي الأولى مع المطالعة الحرة، كنت أتطلّع بشغف إلى القصص التي كنت أسمعها من الخال عبدو، ولا سيما أحداث قصة حمزة البهلوان وقصة فيروزشاه، كانت جميعها أحداثًا بطولية خارقة، كنت لا أملّ سماعها ثانية وثالثة ورابعة، وها قد تعلّمت في المدرسة قراءة موادّ غير آيات القرآن، وغير دروس الحساب.. وها أنا ذا أجد بين يدي الخال عبدو القصص المستعارة من (كوّة) الجد إبراهيم.. فلماذا لا أستعيرها بدوري منه؟!

4 – جسور.. وعوالم.

كان يومًا رائعًا ذلك اليوم الذي أعارني فيه الخال عبدو إحدى القصص البطولية، إني لا أتذكّر عنوانها على وجه التحديد، لكنها كانت واحدة من القصص التي مرت أسماؤها آنفًا. لم يعد بيني وبين حمزة البهلوان وفيروز شاه وأبي زيد الهلالي ودياب حاجز أو مسافة، لقد انهمكت في قراءتها انهماكًا كليًا، بل إن حمزة البهلوان وأصحابه من فيروز شاه وأبي زيد وغيرهم شغلوني عن متابعة كتبي الدراسية على النحو المطلوب، ولولا الخوف من غضب الوالد وردود فعله على رسوبي من ناحية، والخوف من لسعات عصيّ الأساتذة من ناحية أخرى، لرميت بالكتب المدرسية جانبًا، ولجعلت قراءة القصص والروايات شغلي الشاغل ليلاً ونهارًا.

كانت تلك الملاحم، بالنسبة لي، جسورًا إلى عوالم جديدة خارج قريتي، عوالم نائية وغريبة، عوالم تحفل بكائنات بشرية وحيوانية ما كنت أعرفها، وكانت تشتمل على معلومات جغرافية كنت أجهلها جهلاً تامًا، كانت جغرافيا هائلة السَّعة، تمتد من بلاد الهند شرقًا، إلى بلاد المغرب غربًا، والحقيقة أني كنت أتعرّف جوانب من تلك الجغرافيا في المدرسة، لكن تحت تهديد عصا المعلّم وهربًا من الرسوب، كنت أتعرّف في كتب الجغرافيا المدرسية خرائط جامدة ومعقّدة لهذه البلدان، خرائط تتشابك فيها الخطوط وتتقاطع فيها الأشكال، وكنت ملزمًا بحفظ حدودها شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وبمعرفة مساحاتها، وأعداد سكانها، وأهم الصناعات والحيوانات والنباتات فيها، كما كنت ملزَمًا في كتب التاريخ المدرسية بحفظ أسماء الأباطرة والملوك والوزراء والقوّاد، وأسباب قيام الحروب وتواريخ نشوبها وانطفائها، وسلسلة البنود الخاصة بالاتفاقيات والأحلاف.

أما في هذه الملاحم فكنت أتعرّف تلك البلدان والمجتمعات على نحو ممتع ومتكامل، كنت أعرف أسماء ملوكها ووزرائها، فأدخل مع الراوي قلاعهم وقصورهم، وأحضر مجالسهم التي كانوا يعقدونها للبتّ في شؤون الحرب والسلم، وفي حالات السخط والرضا، وأصاحبهم في رحلاتهم للصيد والغزو، وأتعرّف عاداتهم في الملبس والمطعم والمشرب، وأعرف مناسباتهم الاجتماعية في الأفراح والأحزان، إلى جانب اشتمالها على مكائد القصور ورومانسيات الحب، وتهاويل العفاريت والمردة، وأعاجيب البطولات الخارقة، وبعيدًا عن تدقيقات المعلّمين في الأسماء والتواريخ والأحداث، وعن تلويحات العصا، وقتامة الاختبارات، ونكد الدرجات المنذرة بالرسوب.

5 – الراوي الصغير.

وانضاف عامل خارجي إلى العوامل الذاتية المشجّعة على مطالعة تلك الملاحم، ألا وهو أني سردت ذات مرة ما علق بذهني من تلك الملاحم على بعض أقراني من الصبية، فتعلّقوا بي، وتوسّلوا إليّ أن أجود عليهم بالمزيد، وأنزلوني منزلة شيخهم الذي لا يُعصى له أمر، وزعيمهم الذي لا يُرفَض له طلب، وغابت الترّهات والثرثرة التي كانت تهيمن على أحاديثنا ونحن راجعون على الأقدام من المدرسة في عفرين إلى القرية، وأصبحت أحداث تلك الملاحم هي موضوع السرد، فنصل القرية ونحن لا ندري كيف قطعنا مسافة الكيلو مترات الخمسة.

وبطبيعة الحال اقتضت هذه المهمة الجديدة أمورًا عديدة؛ منها أن أستزيد من قراءة الملاحم لأمتلك وفرًا من المعلومات القصصية، وأن أقرأ الملاحم بدقة أكثر وبتركيز أشد، لأوضّح كل استفسار، وأنير كل غامض، كما أنها تطلّبت مني  ممارسة فن جديد ما كنت أمارسه سابقًا إلا في حالات نادرة، ألا وهو فن الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الكردية، فالملاحم كانت مطبوعة بالعربية، وكان عليّ أن أسردها على الأقران بالكردية.    

وبعد هذا الانهماك الكلي بقراءة الملاحم والقصص لم أعد أوافق على مشاريع اللعب التي كنت في السابق أتفق عليها مع أقراني بسهولة، وخرجت ليالي البيادر واتفاقيات اللعب في ليالي الربيع والصيف والخريف من برنامجي وحسابتي، أجل، منذ ذلك الحين اكتسبت أفقًا وجوديًا جديدًا؛ وهو الإحساس الدقيق بالزمن، ويمكنني القول بأني كنت – كغيري من أبناء جيلي- أتعامل مع الزمن بشكل منفلت وغير منضبط، كنت أعرفه على أنه كتل وقتية مديدة (شروق الشمس، غروب الشمس، وقت الغداء، وقت العشاء، الأعياد، الفصول، ...). أما الآن فأحسست أني أكثر لصوقًا بالزمن، ورحت أشعر أن ساعات اليوم الواحد غير كافية لإنجاز ما يجب أن أقرأه، وإلى يومنا هذا أعيش الإحساس نفسه، فأجدني بين حين وآخر أقول لأمّ أولادي (أم محمود) بعفوية:

ـ مشكلة حقيقية.. اهتماماتي ومشاغلي أكثر من وقتي.

وأحسب أن القدرة على وعي الزمان بهذه الحميمية من أولى فضائل المطالعة.

(وإلى اللقاء في الحلقة الحادية عشرة).             

17-9-2004   الدكتور أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar