الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 15:48 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الخامسة عشرة - السلام على جميع الكائنات!

1 – الكلمات حالات.

في هذه الحلقات لست كاتباً فقط.

وإنما أنا كاتب مرة واحدة وقارئ مرتين.

في المرّة الأولى أنا قارئ مثلكم للحياة.

قارئ لهذا البحر..

لسنا نحن الذين اخترناه.

وجدنا أنفسنا فيه بالصدفة!

لم نكن.. فكيف نمارس الاختيار؟!

ما نستطيعه فقط هو أن نقرأ الحياة/ البحر.

إننا نترجم الحياة إلى أحاسيس، ومشاعر، وأفكار، ومعارف، وقيم، ومبادئ، وقوانين، ومُثل عليا، ومُثل سفلى، وأيديولوجيات، وفلسفات، ومواقف، وسلوكيات، وارتقاء، وسقوط، وانتصارات، وهزائم، وابتسامات، ودموع.

أجل.. قرأت الحياة/ البحر، وما زلت..

وها أناذا أحوّل القراءة إلى رموز تسمّى (كلمات).

إنني أمارس تجسيد قراءتي للحياة في (الكتابة).

وأعود ثانية لأقرأ تلك (الكتابة).

 بلى.. أقرأ معكم ما أكتبه.

أرحل ثانية مع الكلمة واللوحة والخاطرة والفكرة.

أشعر أن حالتي وأنا (قارئ) هي غير حالتي وأنا (كاتب).

أكتشف أني – في حال الكتابة- أكون تحت تأثير حالة شعورية مبهمة، يمكن أن أسمّيها حالة (جَذْب)، أو حالة (شَطْح)، أو حالة (سياحة) على غير هدى، أو حالة (انسجام) مع الذات، أو حالة (انسلال) من متطلّبات الحياة اليومية.. وهكذا ترون أني عاجز عن الوصول إلى العبارة الأكثر دقّة.

 الكلمات نفسها حالات.

ومن الصعب السيطرة عليها دائماً.    

ولا أريد ها هنا أن أوحي إليكم بأني أعيش تلك الحالة المبهمة التي كانت تعيشها عرّافة جزيرة (دِلْفي) اليونانية، حينما كانت تغيب عن الوعي في عبق البخور، فتتلقّى الوحي من كبير آلهة اليونان (زِيوس)، وتجود بالإشارات الإلهية على الحجّاج القادمين من شتى بلاد الإغريق، والمتجمهرين بخشوع أمام المعبد المقدّس.

ولا أكون سعيداً البتّة إذا صوّرتْ لكم هذه الحالات أن لي صاحباً من الجنّ، يجالسني بين الحين والحين، فيلهمني بما يشاء من الخواطر والأفكار.. كان العرب القدماء يظنون أن الإبداعات الشعرية ليست من صنع البشر، وإنما لكل شاعر شيطان (جنّي) يصاحبه، فيوحي إليه بتلك الأشعار.

اعتقدوا أن الإبداع بحاجة إلى قوّة خارقة.

وأن الكائن الإنساني أعجز من أن يُبدع.

أحسب أنهم أخطأوا الطريق إلى الحقيقة.

عندما يكتشف الآخرون أنك أبدعت.

فذلك يعني أنك قرأت الحياة بصدق وبعمق.

2- شجرة الحكمة.

 ولعل الحالات التي أشرت إليها هي قريبة من حالة الاستنارة (النيرفانا)، لقد فاز بها (بُوذا) تحت شجرة (بُو) المقدّسة، شجرة الحكمة.. كان ذلك قبل أكثر من ألفين وخمسمئة سنة.. لقد رأى فيها معاصرو (بوذا) مجرّد شجرة من أغصان وأوراق، ولا أحسب أن بوذا كان متفقاً معهم في ذلك، أعتقد أن شجرة (بو) المقدّسة كانت بالنسبة إلى بوذا شجرة (الوجود/ الحياة)، كان يتوحّد بها، يلقي بنفسه في أعماقها، يصعد بقوّة إلى قممها، يحلّق بعيداً في الأعالي، يندغم في الأعالي، فيكتشف ويستنير.

حقاً.. كي نكتشف الوجود علينا أن نتوحّد به.

عندئذ يمكننا أن نقول مع بوذا: " السلام على جميع الكائنات"!

وقد كان- وما زال- بي شوق عميق إلى الاكتشاف عبر التوحّد، لكن الحياة تأخذ بخناقنا منذ أن نستيقظ صباحاً وإلى أن نأوي إلى فُرُشنا، ولا تكاد تترك لنا ولو فُسحة بسيطة نلتقي فيها بأنفسنا، وننسجم فيها مع ذواتنا، ونلبّي فيها رغباتنا الشخصية.

لقد ولّى زمان (بوذا)..

لم نعد نملك الوقت كي نجلس طويلاً في أي مكان.

نحن في عصر القلقلة.. عصر التحوّلات السريعة.. كانت التحوّلات في الماضي بطيئة، فكان إيقاع الحياة – خارجية كانت أم داخلية- أكثر هدوءاً، وأقل توتّراً. أما الآن فالأمر مختلف جداً، وإذا توقّفتَ، ولم تتلاءم مع التحوّلات المتجدّدة، وجدت نفسك مهدَّداً بانهدام مرتكزات وجودك الأساسية.

3 – اختلاف المدارات.

حقاً.. كانت هجمة ثقافة العصر الحديث علينا مباغتة وشرسة لا ترحم، ولا تدع لنا المجال لنلتقط أنفاسنا: آلات جديدة.. أزياء جديدة.. معلومات جديدة.. أفكار جديدة.. شعارات جديدة.. قيم جديدة.. مواقف جديدة.. مشاعر جديدة.. أحلام جديدة.. نكسات جديدة.. هزائم جديدة.. كنا نعتقد حيناً أننا مركز العالم، ثم نكتشف فجأة أننا نعبث خارج التاريخ.

ومع ذلك كنا قادرين على أن نعيش أحياناً حالات استنارة (نرفانا).. كنا في الغالب لا ننتبه إلى ذلك، كان إيقاع الحياة الجديدة يستلبنا، يغيّبنا عن أنفسنا، يغيّب بعضنا عن بعضنا الآخر، يُحدث في كياننا شرخاً عميقاً بين ممارسة الحياة ووعي الحياة، وما يؤسفني، بل يحزنني ويؤلمني، أني كنت ألتقي في دروب هذه الحياة وساحاتها بعض أولئك القلّة الذين عاشوا حالات الاستنارة (النرفانا) على طريقتهم، وفي إطار الشروط التاريخية والذاتية التي حدّدت مسارات وجودهم، لكن لم أكن أنتبه إليهم، وما كنت أفهمهم إلا بعد فوات الأوان، كانت قدرتي على الارتقاء إلى مداراتهم الوجودية أقل مما ينبغي.

كي نفهم الذين يحلّقون في المدارات العظمى

     علينا الارتقاء برؤيتنا إلى المدارات ذاتها.

ولعلي لست مبالغاً إذا قلت:

إن الاختلاف في المدارات هو الأصل في كثير مما يدور في عالمنا من خلافات وتناقضات وخصومات بين الناس، ولا سيما على الصعيد المعرفي.

4 – غاندي في قريتي!

ولعلّكم تذكرون العمّ (علي مراد) رحمه الله.. إنه أحد رجالات قريتي الذين تركوا أثراً عميقاً في نفسي، لقد تحدّثت عنه باقتضاب في بعض الحلقات الأولى، وأحسب أن (العم علي) كان من الذين جلسوا بعض الوقت تحت شجرة الحكمة، ووصلوا إلى تخوم الاستنارة (النرفانا). 

ذكرت أننا- نحن الصبية- كنا نخطّط للسطو على ثمار التفاح والمشمش في بستان العم علي، كان بستانه يقع أمام القرية مباشرة، على بعد مئتي متر تقريباً من النبع، كان يسقيه من مياه النبع الجارية طوال فصول السنة، كنا نسطو بعناد على ثمار بستانه، كنا نشنّ حملات السطو في الربيع على ثمار المشمش، وفي الصيف على ثمار التفاح،  وفي الخريف على الرمان.

كان العم علي يتوجّه في الصباح الباكر إلى بستانه وهو يعرج، متوكّئاً على عكّازته البنّية الملساء الأنيقة، وكان يوجّه الماء إلى الأشجار والخضار، ثم يعود مع الضحى ليتناول طعام الفطور، كنا ننتهز تلك الفترة، فنشنّ الغزو على بستانه، وكان يرانا أحياناً، فيتوجّه إلينا وهو ويصيح بنا: " لاوْ!.. لاوْ!..أَزْ هاتِمْ ". Law..Law..Az hatim، وتعني هذا بالكردية: (يا هؤلاء! يا هؤلاء! أنا قادم! ).. إشعاراً منه لنا بأنه قد رآنا، وعلينا الابتعاد.

كنا حينئذ ننكشف عن الأشجار، ونبتعد قليلاً، ثم نقف ونردّد معاً في جوقة واحدة: " بافى علي!.. بافى علي!" Bavai Ali.. Bavai Ali، وتعني: (بابا علي.. بابا علي).. فكانت الابتسامة تملأ وجهه، ويقول لنا: " ابتعدوا!.. الثمار لمّا تنضج بعد.. حينما تنضج ستأتون لمساعدتي في قطافها، وستأخذون حصصكم". فننخرط في ترديد الشعار نفسه من جديد، لكن بأصوات أكثر قوّة، ونبتعد رويداً رويداً، ليس خوفاً من عكّازة (بافى علي)، وإنما استلاماً لابتسامته ودماثة خلقه.

5 – الشيطان معتقَلاً!

كان العم علي جاراً لنا، وكان من عائلة (كَلَپْچَكْ) التي تنتمي إليها والدتي، أي أنه كان – حسب العرف القَبَلي والقَروي- من أخوالي، وأحسب أنه كان في العقد السادس من عمره حينما عرفته في صباي، كان متوسّط القامة حنطيّ اللون، وكان الكبار والصغار في القرية ينادونه بالاسم المعبّر عن الودّ والتقدير (بافى علي)؛ أي (الأب علي)، وكان هذا اللقب يُمنح لمن يتميّز برجاحة العقل، وبُعد النظر، وسعة الأفق، ونبل الموقف، وحسن التصرّف. وكانت ثمّة قلّة، وفي حالات نادرة تنمّ عن السخط، تسمّيه (عَلْ كُلَكْ)، أي (علي الأعرج).

ومثل سائر قرويي منطقة عفرين كان (بافى علي) يرتدي سروالاً أسود فضفاضاً، وقميصاً، ومعطفاً قصيراً (جاكيت)، ويضع على رأسه عمامة بيضاء لطيفة، أذكر أن مظهره – حتى وهو في الحقل- كان يتّسم بالأناقة والنظافة، علمت من والدتي – رحمها الله- أن زوجته العمة زكية كانت شديدة الاهتمام بالنظافة إلى حدّ الهَوَس، لكن لا أعتقد أن أناقة العم علي كانت بضغط من العمة زكية، كانت الأناقة فيه طبعاً، وكانت لا تتجلّى في مظهره فقط، بل تبدو في مواقفه وفي تصرفاته وفي أفكاره أيضاً.

كان (بافى علي) كهلاً له سمته الخاص، وبعد أن بلغت مرحلة الشباب، وتحديداً حين كنت في الصف الثاني الثانوي، قرأت كتاب (عند قدمي غاندي) لجواهر لالْ نِهْرُو، رئيس وزراء الهند الأسبق، وكنت وأنا أطّلع على حياة غاندي وفلسفته ومواقفه – حسبما رسمها تلميذه نهرو- ألمح صورة (بافى علي) من وراء وجه غاندي؛ الابتسامة العذبة هي هي، الملامح الطيبة هي هي، النظرة البريئة هي هي، مبدأ اللاعنف هو هو، الفرق أن (بافى علي) لا يضع نظّارة صغيرة على عينيه كنظّارة غاندي، ولا يصطحب معه عنزة حيثما حلّ وارتحل حسبما كان يفعل المهاتما.

كانت عائلة (كَلَپْچَكْ) معروفة بكثرة الخصومات، وبالتسرّع في خوض المنازعات (تغيّرت الحال الآن)، وفي السنة الواحدة كنا نشهد عدداً من المشاجرات العنيفة فيما بينهم، كانت المشاجرة إذا طالت أكثر من الوقت المعهود علم الجميع أن (بافى علي) غير موجود في القرية، أو أنه بعيد عن ساحة الشجار؛ فالمعتاد أنه كان يُسرع إلى المتخاصمين، فتظهر عرجته بوضوح أكثر، والابتسامة تملأ وجهه المدوّر، وهو يخاطب من يمرّ بهم مازحاً: " سبحان الله! مرّة أخرى انفلت هذا الملعون؟! كنت قد اعتقلته، وربطته بالسلاسل، ولا أدري كيف حرّر نفسه، وراح يعيث فساداً؟!".

كان الجميع في القرية قد اعتاد أن يسمع منه هذه العبارات المرحة، ويعلمون أنه يقصد (الشيطان)، باعتبار أن التراث الديني السماوي أسند إلى هذا الكائن مهمّة إثارة الشر والخراب في العالم، فكان (بافى علي) يزعم - مازحاً- أنه يعتقله، ويشدّه بالسلاسل والأغلال، ليرتاح الناس في القرية من شرّه، ولا سيما أهل الحارة الجنوبية (حارة كَلَپْچَكْ).

ولا تكاد تنقضي فترة قصيرة على وصول (بافى علي) إلى ساحة الشجار حتى تبدأ صرخات الغضب بالتضاؤل، ثم تغيض بشكل نهائي، فنعرف أن (بافى علي) أفلح في تهدئة الثائرين، وتبديد المتشاجرين، وبعد حين يعود إلى البيت أو البستان، ينزل ويطلع في مشيته، ويقول لمن يلتقيه بمرح وثقة: " قبضت عليه ثانية! لن يفلت هذه المرة بسهولة، قيّدته بسلاسل خاصة يعجز عن تقطيعها"! فكنا نعلم أنه يقصد (الشيطان). وما كان يكتفي بفضّ الشجار، بل كان يسعى إلى قطع دابر الشر، واقتلاع الخصومة من جذورها، فكان يُتبع جهوده في التهدئة بجهود تفاوضية بين الفريقين المتخاصمين، فيزيل الأسباب التي أثارت الخصومة، ثم يجمع الفريقين في جلسة ودّية يسودها العتاب، ويكون التسامح والعناق ختامها.

6 – البحث عن المنقذ.

حينذاك كنت أدرك أن للعم علي مسلكاً خاصاً، لكن كنت عاجزاً عن فهم رؤيته الحياتية، حينذاك ما كنت أستطيع الربط بين السلوك والرؤية، كنت أقف عند حدود فهم الموقف والتصرّف. وقد علمت بعد زمن ليس بالقصير أن لكلٍّ منا رؤية محدّدة، وإن شئت سمّها فلسفة، وأننا ننطلق منها في التعامل مع الآخرين بشراً وحيوانات وأشجار وجمادات، وتلك الرؤية هي في الأصل منظومة متكاملة من العقائد والمعارف والأعراف والمُثل والمبادئ والقيم. وقسم من تلك المنظومة موروث، وقسم منها مكتسَب، وعلى أساس منها تنتظم مسيرة الفرد الوجودية والاجتماعية، وبتأثير منها تتحدّد مواقفنا وسلوكياتنا وممارساتنا.

وكنت بعد أن كبرت أتساءل:

ما مصدر القوّة التي استعان بها (بافى علي) للاحتفاظ بهدوئه وسط الزوابع؟!

وكيف استطاع الاحتفاظ بابتسامته الوديعة في قلب المشكلات والمنغّصات؟!

ومن أين استمد لطفه ودماثته مع الآخرين صبية وجهلة وطائشين وسفهاء؟!

ومن أين له هذا الحرص على السلام في بيئة طوّقتها محرّضات العنف؟!

مرّة أخرى أتذكّر بوذا وغاندي وأنا أسترجع ذكرى (بافى علي)، وأحسب أنه كان من القلائل الذين استطاعوا الارتقاء برؤيتهم إلى المدار الإنساني الأعظم، مدار (السلام على جميع الكائنات)! أما كيف استطاع ذلك؟! فلا أدري.. لكن ما أعلمه هو أنه منذ أن غاب عنا (بافى علي)- رحمه الله- غاب عنا شعاع كان ينير دروبنا في الظلام. بل أراني أخاطب نفسي وأنا أجد عالمنا يعصف به العنف وتفترسه القسوة:

-  آه يا (بافى علي)! لقد خسرنا ابتسامتك الهادئة!

    كم نحن بحاجة إلى أمثالك لنردّد معه:

    " السلام على جميع الكائنات"! 

(وإلى اللقاء في الحلقة السادسة عشرة).

في10-12-2004م    الدكتور  أحمد الخليل


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar