الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 9:03 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة السابعة عشرة - يا حكماء قريتي.. كم كنتم رائعين!

1 – مفارقة!

" بِياكُلْ قُضامَهْ، وبِيحْكي في الفلسفة "!

مثل شعبي حلبي قديم، يُضرب لمن يحاول الجمع بين أمرين: أحدهما هامشي عابث، والآخر جادّ جليل. وقد يصحّ هذا المثل في عنوان هذه الحلقة؛ فالمعروف أن القرى مواطن الفلاحين والرعاة والبسطاء من الناس، فكيف تكون قريتي المنزوية على السفح الغربي من (جبل لَيْلُون) موطناً للحكماء؟!

حسناً.. دعونا نسترح قليلاً من عبودية المصطلحات.

  فالحكيم فيما أعلم هو من يفهم الحياة بعمق، ويتصرّف برزانة، ويعمل بما يؤمن به، وانطلاقاً من هذا المعنى المبسَّط لكلمة (الحكمة) أجد الشجاعة لأن أسمّي بعض أبناء قريتي (حكماء)، ولم لا ؟!.. إنهم كانوا أصحاب رؤى حياتية عميقة تتناسب والمرحلة التاريخية التي عاشوها، وكانوا يجسّدون تلك الرؤى في أقوالهم ومواقفهم بصدق وعفوية رائعة.  

2-  صداقة غير مألوفة!

وحين بلغت الصف الثالث الثانوي كانت علاقة الصداقة قد توطّدت بيني وبين اثنين من حكماء قريتي: كان الأول شيخاً في السبعينات، وكان الثاني كهلاً في الخمسينات.. وهذا ما لم يكن مألوفاً في مجتمعنا القروي، وأحسب أن هذا الاستثناء على القواعد الريفية الصارمة كان لأسباب:

منها أني كنت كثير الانكباب على المطالعة، وكان أولئك الشيوخ والكهول يلقون عليّ أسئلة تاريخية ودينية وعلمية، فكنت أجيب عمّا أعرف ببساطة ووضوح، وأعتذر عما لا أعرفه، فكانوا يجدون في إجاباتي ما يشبع نهمهم إلى المعرفة.

ومنها أن الوالد- رحمه الله- كان إمام المسجد في كثير من الأوقات، وكان شيخ الكُتّاب في فترات عديدة، وتعلمون أننا - معشر الشرقيين- كثيراً ما نتوسّم الخير في أبناء شيوخ الدين.

ومنها أيضاً أني كنت، منذ شبابي الأول، أتجنّب السلوكيات الفجّة، وكنت حريصاً على التمسّك بالآداب العامة، معروفاً بالهدوء والتعقّل، وكان الفضل في ذلك كان للنهج التربوي الحازم الذي التزمه الوالد إزائي. وأحسب أن هذه الصفات شجّعت الكهول والشيوخ على صرف النظر عن الفوارق العمرية، وجعلتهم يطمئنون لي ويثقون بي.

3-  أمثال تركية.

أما الشيخ الحكيم السبعيني فكان العمّ علي مراد (بافى علي).. ومرّ في الحلقة السابقة أن (بافى علي) كان يقوم في قريتي مقام المهاتما غاندي في الهند.. إنه كان يأخذ بمبدأ اللاعنف في وسط ريفي يؤمن بالعنف إلى حد الجنون، وكان صاحب فلسفة اجتماعية مسالمة، دعامتها ابتسامة وديعة، ومرح مهذّب، وهدوء جمّ في أشد اللحظات حرجاً.

كان (بافى علي) قد تعلّم في صباه بالتركية على يدي شيخ كُتّاب قادم من الأناضول، شأنه في ذلك شأن القلّة القليلة ممّن تعلّم حينذاك، إنه كان ينقل حكمته إلى الآخرين عبر بعض الأمثال والعبارات السائرة بصيغتها التركية. فإذا أراد أن يداعب أحد الكسالى، ويشجّعه على العمل قال له: لا تكن مثل تنابل السلطان عبد الحميد! فنسأله: ومن هم هؤلاء؟! فيقول: هم جماعة من الكسالى المتواكلين، إن أحدهم كان يتمدّد تحت شجرة المشمش، فتقع عينه على الثمرة فيشتهيها، فلا يقوى من كسله على النهوض وقطف الثمرة، فيخاطبها قائلاً: " مِشمش! مِشمش! گَلْ بُوغازِنَهْ دِشْ". Mishmish! Mishmish! gal bogazineh dish  (يا مشمشة! يا مشمشة! تعالي ادخلي إلى حلقي).

وإذا أسرف أحدهم في بذل الوعود الجوفاء قال (بافى علي) المثل التركي " بوش أنبار، ديفسيس كُولَك.. ها أُولْج! ها أُولْج"، Bosh Anbar divsis kolek ha olch ha olch (مستودع فارغ، ومكيال بلا قاعدة، فكِلْ وكِلْ قدرَ ما تشاء)!

4 -  فَرَمان سلطاني!

وكثيراً ما كنت أزور (بافى علي) في بستانه في أويقات الضحى تارة، وفي أوقات العصر تارة أخرى، حاملاً معي دفتراً وقلماً.. كان مشروعي حينذاك هو تعلّم التركية، وكان (بافى علي) بارعاً فيها، وكنا قد اتفقنا على أن يروي لي بعض قصص الحيوانات بالتركية، ويترجمها إلى الكردية.. كانت قصصاً شبيهة، إلى حد كبير، بما جاء في كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفَّع.

وروى لي (بافى علي) في ضحى يوم ربيعي القصة التالية:

" ذات يوم التقى ثعلبان جائعان.. بحثا معاً عمّا يسدّ الرمق، فكلاب القرية شرسة، ولا تترك لهما المجال للسطو على الديكة والدجاجات.. كان الوقت صيفاً.. وكانت الأعناب قد نضجت.. مرّا بجانب كرم، عناقيد العنب الشهيّة تسيل اللعاب.. لكن ما العمل؟! فالناطور يراقب من أعلى الخيمة.. رأى أحد الثعلبين ورقة على الأرض، التقطها.. حدّق فيها.. تهلّل وجهه بشراً.. التفت إلى صاحبه قائلاً:

-  لا عليك بعد الآن! بإمكاننا الدخول إلى أيّ كرم دونما اعتراض.

-  وكيف ذلك يا صاحبي؟!

-  خذ! هذا فَرَمان (قرار) من السلطان العثماني.. اقرأه!

-  يا لتعاستي!.. أنا لا أعرف القراءة.. ماذا يقول الفرمان؟

-  فيه أن رعاية جلالة السلطان خاقان البرَّين والبحرَين شملت رعيته بشراً وحيوانات، وبناء عليه سُمح للثعالب الجائعة أن تدخل إلى أي كرم تريد، وتتناول ما تشاء من الأعناب.

-  إنه لفرمان رائع حقاً! أدام الله سلطاننا العادل!

دخل الثعلبان الكرم.. نهشا بعض العناقيد.. أحسّ بهما الناطور فأهاج الكلب.. نبح الكلب بقوّة وانطلق نحو الثعلبين.. جرى الناطور خلف الكلب.. قفز الثعلب حامل (الفرمان) هارباً.. تبعه الثاني مندهشاً.

-  الثعلب الجاهل (صارخاً في المتعلم): فَرْمانَهْ جِقْدِرْ! فرمانه جِقْدر! (أبرزْ الفرمان! أبرزْ الفرمان!).

-  الثعلب المتعلم (متضايقاً): يا هُو! أُونْقِيانْ كِي؟! دٍنْكِيانْ كِي؟! (ويحك! من يقرأ؟! ومن يستمع؟!).

ومنذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا كم من مرّة وجدت نفسي وأنا أردّد بالتركية: " يا هُو! أُونْقِيانْ كِي؟! دٍنْكِيانْ كِي؟!". فالمرء في عالمنا هذا كثيراً ما يجد نفسه في مواقف حرجة، فلا يملك فرصة للدفاع عن نفسه والتعبير عن مشكلته، كما أنه على الغالب لا يجد الشخص الذي يسمعه، وهكذا لا يبقى له سوى أن يجري ويجري من غير توقّف.

5 – الآغا الحكيم.

كان الحكيم الآخر من حكماء قريتي هو الحاج شكري نسيب آغا رحمه الله، ومعروف أن لقب (آغا) بالكردية يماثل لقب (السيّد) ولقب (شيخ القبيلة) بالعربية. وتمتاز طبقة الآغاوات الكرد بأمور؛ منها الغنى وكثرة الأراضي الزراعية، وطرائق العيش المتحضّرة، والتزام التقاليد الأرستقراطية، وفراهة المنازل، وأناقة المظهر، ووسامة الرجال، وجمال النساء، إضافة إلى شيء من التعالي في التصرف.

أما صديقي الآغا الحكيم هذا فكان له في الحياة مسار آخر، كان نادراً ما يختلف عن الفلاحين في المظهر وطرائق العيش، وكنت ألاحظ من مجمل سيرته أنه أقرب إلى الفلاسفة الزهّاد منه إلى الآغا المتعالي، كان قليل الكلام كثير التأمل، وكان إذا تكلّم ينتقي عباراته بعناية، ويعرض أفكاره على نحو متّسق أنيق، وكانت حركات يديه ورأسه الهادئة غير المتشنّجة، وإيماءات عينيه المعبّرة، تُضفي المزيد من الرونق والجاذبية على أحاديثه.

ولا أذكر الآن كيفية نشأة علاقة الصداقة بيني وبين صديقي الآغا الكهل هذا، لكن كنت أعرف أنه كان يجلّ والدي رحمه الله، وكان الجميع في القرية يخاطبه بلقب (آغا)، وما وجدت والدي يفعل ذلك، وإنما كان يخاطبه باسمه (شكري)، وما كان صديقي الكهل يتضايق، ربما لأنه كان قد تتلمذ حيناً على والدي في عهده الأول.

كان لهذا الحكيم الريفي سمت فكري خاص، ومزاج حياتي متميّز، كنت أجده مهتماً على الغالب بالقضايا الكلية، سواء أكان على الصعيد التاريخي أم الديني أم الوجودي، ولكن ضمن النطاق المبسّط وأحياناً الميتافيزيقي والأسطوري المناسب لفترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في أريافنا.

لم ألاحظ أن الآغا الحكيم كان مهتماً بالأبّهة والمظاهر، كان يجلس بتواضع لا يخلو من وقار، ويأخذ بهدوء نفثات عميقة من سيجارته، وكان حريصاً على القيام سنوياً برحلة مديدة لصيد الحجل (بالكردية: كَوْ Kew)، وكم كنت أجده مشغوفاً بسماع هديل تلك الطيور، وقد وضعها في قفص إلى جانبه، وزوّدها بما تحتاج من ماء وحبوب!

6 – الشاعر الجوّال.

كان لشيوخ القرية وكهولها- ومنهم شكري آغا- ثلاثة مجالس معروفة: شجرة التوت المعمَّرة بجانب النبع (قُطعت للأسف)، وشجرة الدُّلْب الكبيرة المنتصبة غربي النبع بجانب الطريق العام، وهي ما زالت قائمة، وشجرة السنديان المعمّرة المعروفة بـ Darai Zaretai (شجرة الزيارة)، شمالي القرية، وهي ما زالت قائمة أيضاً.

وذات يوم كان الوقت ضحى.. وكنت أستمع إلى حكاية يرويها لي العم شكري (هكذا كنت أناديه).. كنا جالسين تحت شجرة الدُّلْب الوارفة الظل.. ومن بعيد لمحت رجلاً يمتطي حماره ويتقدّم باتجاهنا.. اقترب الرجل أكثر، عرفته.. إنه الراوية والمغنّي الجوّال العجوز (جَوْهر)، كان جوهر يزور قريتنا كل عام قادماً من الشرق، كان يروي الملاحم الكردية العريقة؛ مثل (ممى آلان)، و(جَبَلي)، و(دَوْريش)، وغيرها.

حاد جوهر عن الطريق العام.. اتّجه نحونا.. اقترب من الشجرة.. نزل من على ظهر حماره الفاره.. لم يحيّنا.. أمسك برسن الحمار وراح يربطه إلى فرع متدلّ من الشجرة وهو يقول بصوت مسموع: "هكذا سيُعلَّق الناس الآغاوات على المشانق". ثم جلس منفرداً، وأخرج علبة التبغ المعدنية من جيبه، وراح يلفّ سيجارة غليظة.

فاجأتني عبارة (جوهر).. أذهلتني.. ما كنت سمعت شخصاً غريباً يوجّه إهانة بهذه الطريقة القاسية إلى (آغا) كردي.. صحيح أن (العم شكري) كان معروفاً بطول البال ورحابة الصدر، لكن الناس العاديين في القرى يُسيلون الدماء في مثل هذه المواقف.. فكيف والإهانة تُوجَّه من شخص وضيع بالمقاييس الاجتماعية إلى (آغا) مرموق المكانة؟!

دققت النظر في ملامح العم شكري.. في جبينه العالي.. في عينيه السوداوين.. في شاربيه الصغيرين المدبّبين.. في شفتيه الرقيقتين، في ذقنه اللطيفة.. في جلسته الوقور.. في بندقية الصيد ذات الفوّهتين إلى جانبه.. تخوّفت أن كارثة ما ستقع..  تُرى كيف سيردّ (الآغا) على هذه الإهانة الرهيبة بالمعايير الريفية؟! وماذا يمكنني أن أفعل إذا خرج الأمر عن الحدود المعتادة؟!  

لم ألمح في هيئة العم شكري ما يدلّ على أنه غضب.. سوى رعشات بسيطة بدت على شاربيه.. أخذ نفثة عميقة من سيجارته.. تطلّع بهدوء إلى الأفق الغربي.. ثم التفت إليّ يكمل الحكاية برزانة، ولينهيها بقوله: " كلُّ امرئ بعقله راضٍ، أمّا بماله فلا "!.

بعد سنين كثيرة فهمت العم شكري على نحو أعمق.

وعلمت أن رأس الحكمة هو الحِلم.

وأن سلوكاً أنبل يعني عالماً أجمل.

(وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة عشرة).

27 - 1- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar