الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 6:43 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الثامنة عشرة - الغجر سادة العالم!

1 – لوحاتٌ عزيزة.

الزمن منتصف القرن العشرين.

كانت قرانا حينذاك بائسةً حقاً.

لكنها كانت رابضة بثبات كما هي أشجار الزيتون.

منتصبة بعناد كما هي أشجار السنديان والصفصاف.

متشبّثة بذاتها كما هي جذور التوت والدُّلْب والجوز.

كانت قرانا- وما زالت- تنتثر هناك.. على سفوح وقمم جبال لَيْلُون وشٍكاك شرقاً، وعلى مناكب جبال هَشْتِيا غرباً، وعلى منحدرات جبال هاوار شمالاً، وفي أحضان سهول جُومة جنوباً.. كل قرية كانت عالماً تراجيدياً خاصاً.. لكنها كانت تراجيديا خارج الوعي.

وها هنا المفارقة..

إذ لا يكفي أن يكون المرء في موقف تراجيدي.

وإنما المهم أن يعي المرء أنه في موقف تراجيدي.

وكان للحياة في قرانا لوحات ولوحات.. أسمّيها لوحات بعد أن ابتعدتْ عني أكثر من أربعين عاماً. أما حينذاك فكانت تلك اللوحات شطراً من حياتنا، بكل ما كان في حياتنا من إشراقات وظلمات.. وها هي ذي اللوحات تتزاحم أمام عينيّ.. إنها تودّ الانفلات من قبضة الماضي السحيق.. إنها تريد الاغتسال ثانية بوهج الحضور.

وجميعها لوحات عزيزة عليّ.

عزيزةٌ تلك اللوحات التي أسعدتني فأضحكتني.

وعزيزةٌ تلك التي أحزنتني وآلمتني فأبكتني.

وعزيزة تلك التي هدتني بصمت إلى معرفة (الآخَر).

2- لوحة السنونو!

مع إطلالة كل ربيع كنا نستيقظ صباحاً، فنجد طيور السنونو (بالكردية Meqesok) تملأ فضاء القرية، كانت طيوراً وديعة رشيقة الشكل، دقيقة المناقير، سمراء الوجه، سوداء الريش، عدا بعض البياض في الصدر، كانت تندفع في الجو على ارتفاعات منخفضة وبسرعات كبيرة، مع انعطافات مفاجئة، وانزلاقات هوائية حادّة يَمنةً ويَسرةً، وارتفاعاً وهبوطاً، كما كانت تتميّز بزقزقاتها العجيبة، كانت الزقزقة تبدأ بتقطّعات سريعة، وتنتهي على الدوام بمقاطع مديدة.

ومن غرائب السنونو أنها ما كانت تبني أعشاشها على فروع الأشجار، أو في شقوق الجدران الخارجية للبيوت، وإنما كانت تصّر على أن تشاركنا السكن داخل البيوت، وتصبح من أعضاء الأسرة.

ولم أجد مثل السنونو طيوراً نشيطة، دائبة الحركة، منكبّة على العمل، سريعة الإنجاز، ولو نهجت أمةٌ نهجها لسبقت الأمم تقدّماً وازدهاراً في فترة قصيرة. كان كل زوجين يتوزّعان على أحد البيوت، ويشرعان في بناء العش، كانا يسرعان إلى إحضار الطين، ويضمّان إليه قطع القش، فيلصقانه بجانب أحد الأعمدة الممدودة أفقياً في السقف، ويدأبان على ذلك من شروق الشمس إلى وقت الغروب، بلا كلل ولا ملل.

حتى إذا اكتمل العش بادرا إلى تأثيثه بأنواع من القش اللطيف، ثم تضع الأنثى البيض، وتجثم عليه ساعات طويلة كل يوم، وبعد مدة كنا نسمع زقزقة الفراخ من العش المعلّق بالسقف فوق رؤوسنا، وكم كان منظر الزوجين رائعاً وهما ينطلقان لجمع الديدان، وتقديم وجبات شهيّة لفراخهما! وكم كانت الفراخ مبتهجة بتلك الوجبات، إنها كانت تتسابق إلى مدّ رقابها من العش، فاتحةً أفواهها الصغيرة، وهي تُصدر زقزقات رقيقة ملحّة، وكانت اللقمة تستقر في حلق أحدها كلَّ مرة.

وكانت زائراتنا الوديعات في الغاية من اللطف، إنها ما كانت ترمي فضلاتها من الطعام وغيره إلى الأسفل، وما كانت تَغِير على ما في المنزل من حبوب وأطعمة وأشربة، كانت طيوراً نظيفة، ولا أشك أنها كانت تقوم بتنظيف عشّها بانتظام، وكانت طيوراً مهذّبة، تخلد مع غروب الشمس إلى الهدوء التام، فلا تصوّت ولا تزعج، حتى إذا أشرقت الشمس هبّت إلى الخروج بحثاً عن الرزق بكل همّة.

ومع أواخر الصيف كانت زائراتنا المهذّبات يرحلن، كان الرحيل من غير وداع، ولعلها كانت تودّعنا من حيث لا ندري.. إن (المركزية البشرية) تسلبنا متعةَ التواصل مع (الآخر) في عالمنا، وها هو ذا التمدّن يدفعنا إلى المزيد من القطيعة مع شركائنا من الطيور والأشجار والصخور، ومنذ أن هدّمنا بيوتنا المسقّفة بالعواميد الخشبية، وبنينا بيوتاً ذات سقوف إسمنتية، غابت السنونو عن قرانا.

قلت لأولادي ذات مرة: "عندما أنتهي من هذا التشرّد، وأعود إلى القرية، سأبني بيتاً هناك على الجبل، بيتاً متواضعاً مسقوفاً بالخشب".

صمت أولادي.. أحسب أنهم استغربوا مشروعي (التراجعي)هذا.

أما أنا فكنت - وما زلت- أتطلّع إلى عودة السنونو. 

3- لوحة الغجر!

ومع بداية كل ربيع كنا نستيقظ ذات صباح فنجد على فسحات البيادر بعض بيوت الشعر، كانت بيوتاً بسيطة المظهر، وأحسب أنها من بساطتها ما كانت تردّ حَرّاً ولا قَرّاً، وإنما كانت تقوم على الغالب بوظيفة الساتر.

لم تكن بيوت الغجر فارهة، كانت منخفضة محدودة الحجم، ولم تكن تشبه بيوت الشعر عند البدو، ففي بيوت البدو كنا نجد حاجزاً من أعواد الخيزران الرفيعة، يجعل جغرافيا البيت قسمين: قسم مغلق خاص بالنساء، وقسم مفتوح للزوّار وللضيوف.

وكان أثاث بيوت الغجر قليلاً وبسيطاً جداً، بل رثاً ومتّسخاً وغير مرتّب.. مواعين بدائية مبعثرة.. فرشٌ قطنية عتيقة مخرَّقة باهتة الألوان مكوّمة في زاوية، أين منها تلك الفرش الصوفية الوثيرة النظيفة التي كانت جدّاتنا وأمهاتنا يجهدن أنفسهن لإعدادها؟! وخارج البيوت كانت مرابط للحمير، وفي الأغلب كانت الحمير هي مراكب الغجر في حلهم وترحالهم، كما أنها كانت من مصادر رزقهم عبر المتاجرة بها. وكثيراً ما كان الغجر يصطحبون معهم كلاباً، منها العادي ومنها السلوقي الخاص للصيد، وكان من العادي أن يضطجع الكلب داخل بيت الشعر في المكان الذي يشاء.

4- بحث في الجذور.

     كنا- ونحن صبية- نسأل: من هم الغجر؟ من أين يأتون؟ لماذا ليست لهم قرى؟ لماذا لا يسكنون بيوتاً حجرية؟ ما كنا نتلقّى إجابات شافية، سوى أنهم (قُرْبَتْ) و(چُولِكْ)، هكذا كانوا يُسمَّون بالكردية، وأنهم من الصنف الأدنى، بل سمعت في صغري رواية مفادها أن الله خلق البشر كلهم من تراب، ما عدا (القُربَتْ) و(المُرْتُبْ= الطبّالة) فقد خلقهم الله من القمامة. ولا عجب في مثل هذا التعليل.. إن قرانا كانت تنتمي حينذاك إلى ثقافة أواخر العصر البدائي.

     والطريف أن الغجر أنفسهم ينظرون إلى بقية الناس نظرة ازدراء، ويسمونهم (گاجو) gadjo، وتعني فلاح أو مزارع, تماماً كما تعني كلمة جِلْف وغير مهذب, أما هم، بملايينهم الستة تقريباً، فيعدّون أنفسهم سادة العالم كله, يجولون فيه كما يشاؤون قبل أن تُبتدَع الحدود والجوازات.

    وأحسب أن الغجر أقدم الفاتحين العالميين، وأعرق من مارس (العَوْلَمة)، ولكن ليس على صهوات الخيول، ولا بامتشاق السيوف، وتدمير الحواضر، واستعباد البشر، وقمع الشعوب، وإلغاء الثقافات، وإقامة أهرامات الرؤوس، كما فعل الإسكندر وجنكيز خان وتيمور لنك وأتيللا، وسائر الغزاة قديماً وحديثاً، وإنما غزوا العالم على صهوات حميرهم الصغيرة العجفاء مثلهم، وأوصلوا إلى الفلاحين والرعاة بعض منجزات الحضارة من المدن البعيدة، وزرعوا الفرح في القلوب، ولذلك كانوا أطول الغزاة العالميين عمراً.

   وتُنسب إلى الفِرْدَوْسي كبير شعراء الفرس رواية، مفادها أن الملك الفارسي بَهْرام جُور أراد الترفيه عن شعبه, فأرسل وفداً إلى أحد المهراجات في الهند، راجياً أن يرسل له أشخاصاً يجيدون الغناء والرقص والمرح, فأرسل له المهراجا اثني عشر ألف مغنّ جوّال من الرجال والنساء، فخصّص بهرام لهم أرضاً، ومنحهم بذوراً وماشية ليحصلوا على رزقهم بالزراعة والرعي، مقابل الترفيه عن شعبه.

    لكن أولئك الهنود كانوا يأنَفون من الزراعة والرعي، فاستهلكوا البذور، وباعوا بعض مواشيهم وذبحوا بعضها الآخر، فغضب عليهم بهرام، وأمرهم بالتجوال في البلاد، للحصول على معيشتهم بالرقص والغناء، فانتشروا في إمبراطورية فارس الفسيحة، يغنّون ويرقصون، ثم انتشروا منها إلى بلدان شرقي المتوسط وأوربا.

   ولا أدري مدى صحة هذا الخبر، لكن ما أذكره جيداً أن سحنة الغجر الذين كانوا يرتادون قرانا لم تكن شرق أوسطية ولا إفريقية ولا أوربية، كانوا أشبه ببعض شعوب القارة الهندية، كانوا متوسّطي الطول، وأقرب إلى القصر، عجاف الأجسام، في وجوههم وشعورهم صفرة خفيفة، وكانت أزياء نسائهم تختلف كثيراً عن أزياء نساء الكرد، وكنا- نحن الصبية- نندهش لنبرات لغتهم التي تكثر فيها تداخلات حرفي الراء واللام، فكنا نحاول تقليدهم، فنثير استياءهم.

5 – قراءة الكف!

وبقدوم الغجر كانت تدبّ في قرانا حركة غير عادية، فمع الضحى كانت الغجريات يدرن على البيوت بيتاً بيتاً، كن يحملن في أيديهن عصيّاً طويلة لردّ هجمات الكلاب، ويعلّقن على أكتافهن جَعَبات قماشية فضفاضة، فيها ما هبّ ودبّ من اللوازم الخفيفة: خيوطٌ عادية ومطّاطية، إبرٌ، شكّالات، حبّاسات للشعر، علكة طبيعية، خواتم وأساور فضية ونحاسية، عقود ملوّنة، خرز صغير ملوّن. وكن يقايضن كل ذلك بالطحين والبرغل والزيت والسمن والدبس، وغير ذلك.

والأهم من هذا كله أن بعض الغجريات كن يمارسن (قراءة الكف)، وهذا ما كان يجعل نساء القرى أكثر احتفاءً بهن، وكانت الغجريات ماهرات في حبك تلك القراءات، كانت الغجرية تمسك بيد المرأة أو الفتاة، وتديم النظر في الكف المفتوحة، وهي لا تنبس ببنت شفة، في حين كانت النساء يدققن النظر في وجه الغجرية، ويقرأن ما يظهر عليها من ملامح الانقباض والانبساط.

كانت الغجرية قارئة الكف تبدأ بسرد توقّعات عادية، ثم تبدأ بالتصعيد، وتصل إلى العقدة، لكنها كانت تجعل الخاتمة مشرقة على الدوام؛ سيتقدّم خطيب إلى طلب يد هذه الفتاة، (الأم متوجّسة!) ستتمّ الخِطبة (الأم مرتاحة!)، لكنّ أحداثاً مزعجة ستقع (الأم مذعورة!)، وتنفصم الخِطبة (الأم تلطم وجهها برفق!)، لكن بعد فترة قصيرة سيظهر شاب جديد (الأم قلقة!)، إنه أكثر وسامة وأوفر مالاً وأرفع جاهاً (الأم مستبشرة!)، ستصبح ابنتك أماً لسبعة بنين (الأم تكاد تطير فرحاًً). وها هنا تركض الفتاة لتدسّ المزيد من الطحين في جعبة الغجرية.   

وقبيل غروب الشمس كانت نساء الغجر يقمن بجولة ثانية على البيوت، وهن يعلّقن على أكتافهن علباً معدنية متوسّطة الحجم، ويحملن عصيّهن الطويلة، فيحصلن من كل بيت على قسم مما أُعدّ للعَشاء. وكنا نعجب من قدرة الغجر على تناول ذلك الخليط العجيب الغريب.

وأما الرجال فكانوا يلزمون البيوت لرعاية الأطفال والصبية من ناحية، ولصنع ما يحتاجه الفلاح من لوازم يدخل في صناعتها الجلد الطبيعي، مثل الغرابيل، والمذاري، إضافة إلى صنع السلال المختلفة الأحجام من أغصان نبات (الگز).

 6 – أغنية الغجري المشرد!

على أن أكثر ما كان يجذب انتباهنا في الغجر أمران: الألعاب البهلوانية التي كان يجيدها الغجر. وتعلّق الغجر بآلة (الكمان) الموسيقية. وما زلت إلى الآن أتذكّر الأنغام الشجية التي أبدعها غجري عجوز، وهو يداعب كمانه البسيط عصر يوم ربيعي، كان يدندن مع اللحن.. من يدري؟! لعله كان يغني أغنية الغجري المشرَّد التي تقول:

" لم أعرف أبي.. وليس لي أصدقاء.

ماتت أمي منذ زمن.. وتركتني حبيبتي غاضبة.

وأنت وحدك، يا كماني، ترافقني في هذا العالم".

لم أفهم العجوز الغجري حينذاك.

إننا نكتشف الحقائق الكبرى بعد فوات الأوان.

وتلك هي مشكلتنا الأبدية.

(وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة عشرة).

14 - 2- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar