الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 7:57 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة العشرون - ومضات على دروب المعرفة

1 – يُورِيكا! يوريكا!

المعرفة ليست على الدوام سلسلة نجاحات.

إنها في أحيان كثيرة سلسلة من الأخطاء.

كما أنها قد تكون سلسلة من المصادفات.

الأخطاء والمصادفات في حقيقتها اكتشافات.

وبقدر ما نكتشف فداحة أخطائنا وأهمية صُدَفنا نكون نُبهاء.

وبقدر ما نتأمّلها، ونؤصّلها تصنيفاً ومقارنة وتحليلاً، نكون علماء.

وبقدر ما نستثمرها معرفياً، ونطبّقها عملياً، نكون حكماء.

وقد جاء في كتب التاريخ القديم أن ملك (سراكوزه) دفع إلى صائغ كمية من الذهب والفضة، ليصنع له تاجاً، وصنع الصائغ التاج، وقدّمه إلى الملك، لكن دبّت الريبة في نفس الملك، وأراد التأكّد من أن الصائغ وظّف كمية الذهب بالكامل في صنع التاج، ولم يجعل نسبة الفضة أكثر مما اتُفق عليه. فدعا ابن عمّه العالم أرخميدس (قتله الرومان سنة 212 ق.م)، وأوكل إليه حلّ هذه المعضلة.

أشكل الأمر على أرخميدس، وطالت حيرته، فالتاج قد صُنع، وهو في النهاية خليط من الذهب والفضة، فكيف له أن يحدّد نسبة كل من الذهب والفضة في ذلك الخليط؟! أصبح الأمر شغله الشاغل، ودخل ذات يوم الحمّام، وجلس في الحوض، وسرعان ما خرج من الحوض جارياً نحو قصر الملك بثياب الحمّام، وهو يصيح (يُورِيكا! يوريكا!)؛ أي (وجدتُها! وجدتُها!)..

لقد اهتدى أرخميدس إلى الحل بالمصادفة، إنه لاحظ وهو جالس في الحوض أن الماء يدفعه إلى أعلى، وأن ثمة كميّة من مياه الحوض تنزاح، تلك الكمية تتناسب مع وزنه هو.. إذاً يمكن أن نتّخذ الماء معياراً لمعرفة الوزن النوعي للأشياء؛ وهكذا اكتشف أرخميدس واحدة من أكثر النظريات العلمية أهمية؛ ألا وهي نظرية (الوزن النوعي) للموادّ، وبناء عليها استطاع معرفة الوزن النوعي لكل من الذهب والفضة، والتأكّد من أن الصائغ كان أميناً، وأنه وظّف الذهب بالكامل في صنع التاج.

هذا عن المصادفات.

وما أكثر الأخطاء التي هدت العلماء إلى الاكتشافات!

إنّ ما نحتاجه هو فقط أمران اثنان:

·  قدرٌ من الشجاعة لتفحّص أخطائنا.

·  وقدرٌ من الصبر لتأمّل ما في حياتنا من مصادفات.

عندئذ قد نجد أنفسنا ونحن نصرخ بين حين وآخر:

 يُوريكا!.. يُوريكا!

2 – كون أصغر وكون أكبر.

لكن (يوريكا!) هذه لا تأتي دون عناء.

إنها تحتاج إلى مُناخ معرفي أولاً.

وإلى مجاهدة معرفية ثانياً.

وإلى مراجعة معرفية ثالثاً.

لا (يوريكا!) من غير بيئة معرفية خصبة.

ولا (يوريكا!) من غير مجاهدة معرفية مخلصة.

ولا (يوريكا!) من غير مراجعة معرفية جريئة.

وأذكر أني قلت لبعض أصحابي منذ سنين:

لوجودنا كونان، إليهما ننتمي، وبهما نُعرَف:

·  كون أكبر: هو القرية، المدينة، الدولة، القارة، العالم.

·  وكون أصغر: هو البيت (الأسرة).

والكون الأصغر (البيت) هو المدخل إلى (الكون الأكبر)، فإذا كنا نريد كوناً أكبر أجمل وأنبل، وأرقى وأكمل، فلنبدأ من الكون الأصغر، من البيت، من الأسرة. وإلا فالخلل بين الكونين واقع لا محالة، ولا بد أن نعيش انفصاماً حادّاً في الشخصية الفردية والشخصية المجتمعية، وينتهي الأمر بنا إلى القصور في استيعاب (قيمة الحياة)،  والفشل في ممارسة (فن الحياة).

وكنا حينذاك نتحدّث عن العلم والمعرفة، فقلت:

ألا ترون أننا نخصّص في بيوتنا مواضع لتخزين الطحين (كانت أمهاتنا وزوجاتنا حينذاك يخبزن في البيوت)، وأخرى للبُرْغُل والماء والملح والزيت وفرش النوم؟! فلماذا لا نخصّص زاوية- ولو صغيرة- في بيوتنا، فنضع فيها بضعة كتب، ونسمّي تلك الزاوية من المنزل (مكتبة)؟!.. وكم هو رائع أن نعلّق على الحائط خريطة للعالم صغيرة!

وقلت حينذاك:

انظروا كم نُنفق المال بسخاء، بل ببذخ، في مناسبات الأعراس على الأثاث الخشبي وغير الخشبي؛ الأسرّة الفارهة، المقاعد الفخمة، الكراسي المزخرفة، الطاولات، السجاجيد، البسط، الأواني الزجاجية الثمينة، المصابيح الملوّنة...  إلخ. بل إن معظمنا يقع بين براثن الديون بسبب ذلك البذخ. فلماذا لا نجعل مكتبةً صغيرة بسيطة جزءاً من ذلك الأثاث الفخم؟! ولماذا لا تكون بعض هدايانا إلى العروسين بضعة كتب تنتصب ببهاء في تلك المكتبة؟!

وأذكر أني قلت أيضاً:

عندما نعلّق في بيوتنا خريطة للعالم أتدرون ماذا نُنجز؟! إننا عندئذ نؤكّد، في وعي أطفالنا ولا وعيهم، حقيقة الترابط بين الكونين الأكبر والأصغر، وإننا بذلك نحرّرهم من ضيق الأفق، ونفتح أمامهم إمكانية الانطلاق في كل الاتجاهات.

بلى، ما أروع أن يفتح أطفالنا أعينهم، فيجدوا في البيت زاوية تسمّى (مكتبة)، ويجدوا والدهم يتصفّح كتاباً بين حين وآخر! إننا بذلك نزرع في وجدان أطفالنا عشق (المعرفة)، ونعلّمهم كيف يبنون علاقات سويّة ومفيدة ليس بين الكونين الأكبر والأصغر فحسب، بل نهديهم إلى بناء علاقات سويّة بحقيقة إنسانيتهم، ونعلّمهم أن السبيل الحقيقي إلى (الحياة) النقية والتقيّة والرّضية والرخيّة هو (المعرفة).

3 – اجتياز البرزخ.

ولعلي قلت في حلقات سابقات:

إننا- مثقّفي الريف في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين- شهود على ثقافتين متباينتين:

·  ثقافة نهايات العصر البدائي، عصر المحراث، والمنجل، والمجرفة، ومصباح الكيروسين.

·  وثقافة عصر الذَّرّة، وأشعّة الليزر، وسفن الفضاء، وشبكة الإنترنت، وهندسة الجينات.

ويبدو أن ثمّة مُناخاً معرفياً أتيح لكلٍّ منا بالمصادفة، وأن ثمّة مجاهداتٍ معرفيةً وجدنا أنفسنا نخوضها من حيث ندري ولا ندري، ومن حيث نريد ولا نريد، فكابدناها وأنجزناها، واجتزنا، بنجاح ملموس، البرزخ الفاصل بين ثقافة العصر البدائي، وثقافة عصر هندسة الجينات.

وأحسب أن لكل منا تجربته الخاصة في هذا المجال، وله من ثَمّ قصّته وتراجيدياه وكوميدياه أيضاً. وحبّذا لو استعرض كلٌّ منا تلك القصة كما هي!.. فلا أشكّ أن فيها لأولادنا وأحفادنا نفعاً عميماً.. إنها قد تَصدِمهم.. لكن لا بأس!.. إذ ينبغي أن يعرفوا أن اجتياز البرازخ ملحمة.

ألا إن من لا يجتاز البرازخ يبقى خارج التاريخ.

ومن لا يواجهها لا تكتمل معرفته.

ولاجتياز البرازخ ثمنٌ يُدفع.

اجتياز البرازخ لا يكون بلا آلام.

اجتياز البرازخ تحوّل في الجوهر.

انتقال من كينونة إلى كينونة.

فلا بدّ من عرق غزير.

ولا بدّ من دموع صامتة.

ولا بد من توجّعات في الأعماق.

4 – معركة البقاء.

حقاً.. ما كان اجتياز ذلك البرزخ سهلاً قطُّ.

كانت ثمّة كوكبة من الصعوبات تترصّدنا على كل سبيل، وكانت حشود المثبِّطات تنهشنا ليل نهار، كان الفقر وكان القهر.. كان الشقاء شاملاً.. وفوق ذلك كان الجهل مطبقاً.. يا ويلاه!.. كان أهلونا يكافحون بعناد من أجل لقمة العيش، كانوا يخوضون رغماً عنهم معركة الصراع من أجل البقاء.. كانت القضية قضية حياة أو موت.. فكيف لهم أن يغفلوا عن توظيف طاقاتنا في تلك المعركة الحاسمة؟!

تارة كان علينا أن نرعى الخراف في الجبل.

وثانية كان علينا أن نهتم بالأبقار في السهل.

وثالثة كان علينا أن نحمل المنجل، وننطلق إلى الحصاد من السَّحَر إلى غروب الشمس.. ولا يعرف مرارات العذاب وألوان الشقاء من لم يمارس الحصاد بالمنجل، ومتى تحديداً؟! في أيام الصيف اللاهبة!

ورابعة كان علينا أن نحمل الفأس، ونعزق البستان من الصباح إلى المساء، نتحرك شبراً شبراً، وخطوةً خطوةً، من ثَلْم إلى ثَلْم، ومن عشبة إلى أخرى.

وخامسة كان علينا أن نحمل المجرفة، ونسقي الحقل طوال أشهر الصيف، وأذكر أن الوالد – رحمه الله- سافر ذات مرة، وكنت الابن الأكبر، إخوتي الآخرون (محمد ومحمود ومصطفى) كانوا صغاراً، عبد الرحمن ما كان قد ولد بعدُ، كانت أختي (فاطمة) هي الأصغر مني مباشرة، لكن تقاليد الريف ما كانت تسمح للفتاة بحمل المجرفة وسقاية الحقل. فكان عليّ أن أقوم بالسقاية ثلاثة أيام متتابعات بلياليها، أغوص في الوحل إلى ركبتيّ، ويداهمني النوم بعد منتصف الليل، فأضطجع بين شجيرات القطن حيثما كان.. فراشي الأرض ولحافي السماء.

5 – عصا والدي.

واحسرتاه!

لقد طحنت معركة الصرع من أجل البقاء مستقبل كثيرين من أبناء الريف وبناته، إنها استنفدت طاقاتهم، وقذفت بهم- رغماً عنهم- بعيداً عن دائرة المعرفة والثقافة.. كانت قريتنا صغيرة حينذاك، لكن كان من أبناء جيلي ما لا يقل عن عشرة ممّن بدأوا التعليم في (عفرين)، وكنت أول من حصل على الشهادة الثانوية (البَكَلوريا) – الفرع العلمي- سنة (1965). وفي الجيل السابق عليّ كان اثنان فقط قد حصلا على الثانوية الزراعية.

هل كنت الأذكى من بين أبناء جيلي في القرية؟!

لا .. مطلقاً.

وإنما لعبت المصادفة دورها.

وكان (المُناخ العرفي) هو المصادفة.

فقد فتحت عيني على الحياة في بيت كانت فيه نواة مكتبة، كانت مكتبة موزّعة بين ربطات من الكتب على رفّين خشبيين طويلين، وكتبٍ أخرى موضوعة في كوّة، وبضعةِ كتب في صندوق صغير، وقد ذكرتُ ذلك في (مثقّفو قريتي الأوائل). وكنت، وأنا صبي ثم يافع ثم شاب، كثيراً ما أجد والدي يقلّب صفحات تلك الكتب، وأتذكّر أنه – رحمه الله- كان يُمضي أكثر أوقاته في المنزل وهو يقرأ أو يكتب.

وأحسب أن المُناخ المعرفي الذي أتيح لي- رغم بساطته وبدائيته- كان مصادفة مباركة، وأن تلك المصادفة أنقذتني من الانسحاق بين فكّي شقاء (القرية/الضَّيعة)، ووضعتني على أول الطريق في رحلتي الطويلة مع (المعرفة). وثمة مثل كردي قديم جداً، يعود إلى عهود أيام الرعي، يقول:

" الابن يحمل عصا أبيه، والفتاة تحمل مغزل أمها".

وهكذا قُدّر لي أن أرث (عصا) أبي.

وكانت عصاه (الكتاب/المعرفة).

وها أناذا أحملها منذ خمسة وأربعين سنة.

تارة أتوكّأ عليها.

وأخرى أهشّ بها على قَدَري.

ولي فيها مآرب أخرى.

(وإلى اللقاء في الحلقة الحادية والعشرين).

15 - 3- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar