الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 14:49 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الحادية والعشرون - هذه هي قصّتي مع المعرفة

1 – المسيرة الطويلة.

حقاً.. إن لي مع المعرفة قصّة.

وما أطولها من قصة! وما أغناها!

بل ما أجملها من قصة! وما أنبلها!

وقد مررت في حياتي بغير قليل من التجارب المؤلمة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو اجتماعي، ولقِيت ما لقيت من المتاعب والمصاعب، وواجهتني العوائق زَرافاتٍ ووُحداناً، وداهمتني المنغّصات ألواناً وأشكالاً، حتّى إني لأتذكّر قول أبي تمّام في بعض شعره: " على قَدْر أهل العزم تأتي العزائمُ ". فأقول: " على قَدْر  أهل الوعي  تأتي المتاعبُ ". ولا أحسب أن المتنبّي كان مبالغاً حينما قال:

   فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ       تكسّرت النِّصالُ على النِّصالِ

على أنه كان لي طوال تلك المسيرة المتعبة، وبموازاتها تماماً، فسحات وارفة وممتعة وسعيدة، إنها كانت فسحات المعرفة، فسحات أجالس فيها الكتب وتجالسني، أناجيها وتناجيني. وفي أحيان كثيرة كانت الفسحات تغدو عوالم وفضاءات، لها ألوانها وظلالها، ولها أبعادها وآفاقها، فكانت تنتشلني مما أنا فيه من شعور بالوحدة، أو شعور بالقهر، أو شعور بالغُبن، أو شعور بالكآبة، أو شعور باليأس، أو شعور بالضياع.

كنت تارة أعيش قيم البطولة مع (فيروزشاه) و(حمزة البهلوان).

وأخرى أذرف الدموع مع المنفلوطي في (النَّظَرات) و(العَبَرات).

وثالثة أحلّق بعيداً مع جبران خليل جبران في (الأجنحة المتكسّرة).

ورابعة أصعد قمم الفكر الجامح مع نيتشه في (هكذا تكلّم زَرادَشْت!).

وخامسة أضحك مع التوحيدي من سلوك البشر في (مثالب الوزيرين).

وسادسة أرتقي على نفسي مع المتصوّفة والحكماء ولفلاسفة.

وسابعة أهيم على وجهي في مدارات الخيال والجمال مع الشعراء.

وثامنة أستكشف الجزر والمفازات والغابات والقارات مع الرحّالة.

وتاسعة أنداح بعيداً في أقطار السماوات والأكوان مع علماء الفلك.

وعاشرة أرجع عشرات القرون إلى الوراء مع المؤرّخين.

وهكذا دواليك..

2 – الخطا الأولى!

وكانت والدتي- رحمها الله- أمّية تماماً، لا تقرأ ولا تكتب، إنها كانت تتحدّث الكردية فقط، ولا أذكر أنها كانت تعرف من العربية جملة واحدة. أما الوالد – رحمه الله- فكان يجيد العربية والتركية إلى جانب الكردية، ولعله كان قد حاول في أيام شبابه الإلمام بالفارسية، إذ وجدت بين كتبه معجماً تركياً عربياً، وآخر تركياً تركياً، وثالثاً تركياً فارسياً، والعجيب أني ما وجدت بينها معجماً عربياً كردياً، ولعل هذا يعود إلى ندرة وجود معاجم من هذا النوع، وإلى عدم شيوعها، وقد يعود أصلاً إلى الإهمال والغُبن اللذين لحقا بالثقافة الكردية على نحو عام.

ولاحظت، منذ عهد شبابي الأول، أن والدي كان قد جمع كثيراً من الحكم والأمثال السائرة، بعضها كانت أشعاراً، وبعضها كانت أقوالاً نثرية، بعضها كان بالتركية، وأغلبها كان بالعربية، كان - رحمه الله- قد دوّنها بخطّ يده وبعناية في دفتر خاص، وأحياناً على حواشي صفحات بعض الكتب التي كان يطالع فيها، وكان خطّه جميلاً وواضحاً ومميَّزاً. وفي كثير من الأحيان كان يستخرج ذلك الدفتر، ويقرأ فيه بصمت.

ومن صفات الوالد – رحمه الله- أنه كان قليل الكلام، كثير الصمت، سواء أكان ذلك في المنزل أم خارجه، في حلّه وترحاله، وفي حالات صمته كانت ملامحه تبدو جادّة مهيبة، إلى درجة أني كنت أتهيّب أن أفاتحه بحديث ما، أو أسأله شيئاً ما في مجال العلم والمعرفة؛ ممّا يوحي بأن صمته ذاك كان صمت تفكير لا صمت تقتير.

على أنه كان إذا سئل في مجلس ما عن أمر أو موضوع أفاض في الحديث، وأتى بالأمثلة والشواهد، منها الدينية ومنها الواقعية، ومنها ما يتعلّق بحياته الشخصية، مع فصاحة في اللسان، وتدفّق في العبارات، ومرح في العرض، وبراعة في التصوير، وطلاقة في الوجه، وانسجام مع الموضوع، حتى إني كنت أتساءل: أحقّاً هذا هو والدي أم هو شخص آخر؟!

وبعد أن أنهيت مرحلة التعليم الثانوي كنت ألاحظ أن الوالد – رحمه الله- خرج من دائرة (مهابة الأب) بعض الشيء، فكان يذكر لي جوانب من حياته ومعاناته الاجتماعية، ويوجّهني إلى بعض المبادئ الخلقية والعملية، وكان يقرأ لي بعض تلك الأشعار والأقوال الحكيمة، ويشرح مضامينها، ويربطها بمواقف حياتية خاصة وعامة.

وحينما أدقق النظر في العشر الأُوَل من سني حياتي يتّضح لي أمران:

·  أوّلهما أن الوالد - رحمه الله - كان أوّل من وضع أقدامي على درب المعرفة، فهو الذي علّمني القراءة والكتابة قبل دخولي المدرسة، وكان في ذلك حازماً إلى درجة الصرامة، وكان يغضب أيّما غضب إذا لمس مني تهاوناً أو تهرّباً.

·  وثانيهما أن الخال عبد الرحمن رحمه الله- (توفّي منذ شهرين تقريباً، وشدّ ما حزنت على رحيله!)- كان أول من فتح لي نافذة على المطالعة العامة، وأضاء لي الطريق إلى عالم المعرفة، خارج الكتب الدراسية، وذلك من خلال إقباله هو على اقتناء الروايات التاريخية مثل (حمزة البهلوان)، و(فيروز شاه)، و(أبو زيد الهلالي)، إضافة إلى ألف ليلة وليلة.

3 – طاحونة سحقت عمرنا!

ومنذ أن امتلكت القدرة على فهم ما أقرأ، وإلى هذا اليوم، ظلّ الكتاب رفيقي الدائم، لا يفارقني ولا أفارقه، ولا يملّني ولا أملّه، إنه يصحبني في المَنشط والمَكرَه، وفي اليسر والعسر، وفي الحل والترحال، بل أصبحت حالي مع الكتب والمطالعة حال (إدمان)، ونِعم (الإدمان) هو! وما أكثر الأوقات التي ذهبت من عمري سُدًى! إلا الأوقات التي أمضيتها مع الكتب، فقد كانت كلها خيراً عميماً، ومتعة روحية وعقلية تخرج عن الوصف.

وذكرت في حلقة سابقة أن أهالينا- نحن أبناء الريف- كانوا يقضون العمر في خوض معركة (الصراع من أجل البقاء)، وكان حتماً علينا أن نشاركهم ذلك الصراع، إنهم كانوا بحاجة إلى عضلاتنا الصغيرة، وإلى قدراتنا المحدودة، كان علينا أن نساعدهم في معظم مهامّ الفلاحين: رعاية الحيوانات من خيول وبغال وثيران وأبقار وأغنام وماعز، إضافة إلى مهامّ الحراثة ونثر البذار وقطف ثمار الزيتون، وتشذيب الأشجار في أواخر الخريف، وزراعة فسائل الأشجار وغيرها من الخضراوات في الربيع.

أما في الصيف فكانت تنتظرهم مهام الحصاد بالمناجل، والرَّجاد على ظهور الدوابّ (نقل السنابل إلى مكان خاص بالبيادر)، ودراسة السنابل بالنَّوارج لتقطيعها، ثمّ الخوض في عمليات التذرية لفصل الحبوب عن التبن، ثم عمليات نقل الحبوب والتبن إلى البيوت والحظائر في أكياس تُحمَل على الظهور حيناً وعلى الدوابّ أحياناً، وما كانت مهامّ الصيف تقف عند هذا الحد، بل كانت القائمة طويلة؛ فهناك سقاية القطن والخضراوات، وتعزيقها، ثم يأتي دور حملات القطف والتعبئة والنقل إلى الأسواق.

وصحيح أن الأعباء كانت تخفّ علينا مع الخريف، حيث بدء الدراسة، لكن كان لنا منها نصيب في أيام الجُمع والعطلات الرسمية، أما في الصيف فكان علينا أن نكون مع الأهل جنباً إلى جنب في كل الميادين.

وعدا هذا كانت قرانا تفتقر حينذاك إلى الكهرباء والمواصلات المنتظمة، فقد دخلت الكهرباء قريتي في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وهذا يعني أني أمضيت مراحل دراستي الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية والدبلوم على ضوء سراج (الكاز/ الكيروسين)، ويعني هذا أيضاً أننا ما كنا قادرين حينذاك على اقتناء التلفاز والصحف، وبعبارة أدق: كنا خارج التاريخ، وخارج العالم، وكنا في قطيعة مأساوية مع عالم الثقافة والمعرفة،  وما هو أكثر مرارة أننا ما كنا ندرك ذلك.

بلى.. كانت أعمارنا تنسحق بقسوة، وما كنا نعي ذلك.

4 – اللهمّ لا حسد!

وحينما أقارن ظروف حياتنا- نحن مثقّفي الريف- بظروف أقراننا من أبناء المدن حينذاك، أخرج بنتائج تدعو إلى الاعتزاز بقدر ما تدعو إلى الإشفاق والحزن العميق، ولا أملك إلا أن أقول بحرقة:

وا حسرتاه!

كنا في عالم آخر!

كان محكوماً علينا أن نظلّ في هامش الحياة!

وإليكم شيئاً من المقارنة:

ففي الوقت الذي كان فيه قريني المدني ينعم بالسكنى في غرفة حديثة أو شبه حديثة، ويضع كتبه في مكتبة صغيرة، ويجلس على كرسي، ويقرأ على طاولة، ويستنير بضوء مصباح كهربائي، كان عليّ أن أسكن غرفة من اللَّبِن والطين، لا تختلف كثيراً عن بيوت العصر الحجري الأخير، وكان عليّ أن أضع  كتبي في كوّة، وأجلس على الأرض، وأتّخذ وسادةً ما طاولة لي، وأستنير مع العائلة كلها بسراج الكيروسين الباهت الضوء، وكم كانت مشكلات تلك السرج كثيرة! تارة تنطفئ مع هبّة هواء، وأخرى تنكسر الزجاجة بتأثير الحرارة، وأخرى ينضب الكيروسين، وأما غاز الكربون المقيت الذي يصدر عنها فحدّث عن أضراره ولا حرج.

وفي الوقت الذي كان فيه قريني المدني يتوجّه إلى مدرسته في طرق وشوارع إسفلتية نظيفة، إما على رجليه إذا كانت المدرسة قريبة من داره، وإما بوسائل النقل العامة إذا كانت المدرسة بعيدة، كان عليّ أن أقطع كل يوم خمسة كيلو مترات صباحاً وخمسة كيلو مترات مساء؛ لأحقق يوماً دراسياً واحداً، وأين ؟! وكيف؟! في طريق ترابية غير ممهّدة، تتحوّل إلى طين لجوج مع أوّل هطول للأمطار، وفي ظروف مناخية قاسية. فكم من الوقت والجهد أضعته وأنا أتنقّل بين قريتي والمدارس في (عفرين) خلال رحلتي الدراسية من الابتدائي إلى أن حصلت على الشهادة الثانوية؟!

وفي الوقت الذي كان فيه قريني المدني ينعم بالجلوس إلى التلفاز في أوقات فراغه، ويطوف من خلال برامجه عبر العالم، وتتوافر له إمكانية الاطّلاع على الجديد في مجالات الفن والأدب والعلم والسياسة، كان محتوماً عليّ أن أسمع قصص الجنّ والعفاريت والغيلان، علاوة على اجترار بعض مكوّنات ثقافة العصر البدائي الأخير، وأبقى جاهلاً بما يدور في العالم من أحداث، وبما يجدّ فيه من علوم ومعارف.

وفي الوقت الذي كان فيه قريني المدني يُمضي الصيف في المطالعة المنزلية، وفي ارتياد دور الكتب والمراكز الثقافية، وحضور المحاضرات والندوات والمعارض والمهرجانات الثقافية، كان عليّ أن أكون إلى جانب الأهل في هذا الجبل وذلك السهل وتلك الشجرة وهاتيك الشتلة، ومع هذه الدابة وذلك الخروف وتلك البقرة، وأحمل المنجل حيناً، والمجرفة حيناً آخر.

5 – بعيداً عن التهويل.

  وكان من الطبيعي أن تنعكس ظروف حياتنا الريفية على تحصيلنا العلمي من ناحية، وعلى قدراتنا الفكرية والتعبيرية من ناحية أخرى، وتحكم على كثيرين منا بالفشل في المجال المعرفي، وعلى آخرين بالاقتصار على الحد الأدنى من العلم. أما من قرّر الاستمرار، من أمثالي، واستطاع الصمود، فكان عليه أن يدفع الثمن غالياً، تارة من راحته وصحّته، وأخرى من علاقاته العائلية والاجتماعية، هذا عدا المشقّة التي عاناها، وضآلة الثمار التي جناها، وكان الجني بعد فوات الأوان.

أقول بصدق:

لست من هواة التهويل والتجميل.

ولا أستسيغ التظاهر بالبطولات والخوارق.

وأمقت الحديث بطريقة تراجيدية لاستدرار الشفقة.

لكن قصّتي مع المعرفة كانت قصة تراجيدية حقاً.

وكذلك كانت قصص سائر مثقّفي الريف من أبناء جيلي.

ولعلّي أستعرض خفايا فصول تلك القصة مستقبلاً.  

(وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والعشرين ).

1 - 4- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar