الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 12:00 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الثالثة والعشرون - صبراً علينا يا آينشتاين!

1 – فوق سطح القمر.

إنني أنتمي إلى جيل منتصف القرن العشرين، فقد ولدت سنة (1945م)، السنة التي انتهت فيها الحرب العالمية الثانية، وأحسب أنها السنة التي استقال فيها العالم الفيزيائي الشهير البرت آينشتاين من التعليم الجامعي، كي يتفرّغ لبحوثه حول (النظرية النسبية) التي أعلن عنها سنة (1905م)، وكانت تلك النظرية فتحاً علمياً كبيراً، وعلى ضوئها دخل العالم عصر الذرة من ناحية، وعصر الفضاء من ناحية أخرى.

وكان من جملة ما أسفرت عنه (النظرية النسبية) أمور ثلاثة:

- أولها أن المكان والزمان لا ينفصمان، ومن ثَمّ لا يوجد مكان فقط، ولا زمان فقط، بل يوجد (زَمَكان).

- وثانيها أن الكون كله محدّب، ومن ثَمّ فلا وجود لخطوط مستقيمة حسبما اعتقد نيوتن، وإنما هناك خطوط أقرب إلى الاستقامة، وكل الخطوط هي في الحقيقة محدّبة.

- وثالثها أن الزمن نسبي، فمن يسافر في الفضاء بسرعة الضوء ستة أشهر سيجد، لدى عودته، أن قرناً من الزمان قد مضى على سكان الأرض، وأن حفيده قد أصبح أكبر منه سناً.

وفي النصف الأول من القرن العشرين اكتُشف الإسبرين، واختُرعت المقذوفات الصاروخية، وكان العلماء في كل من روسيا السوفياتية وأمريكا يعملون ليل نهار لغزو الفضاء، فكان الروس سبّاقين إلى إطلاق القمر الصناعي سبوتنك الأول سنة (1957م). وتبعهم الأمريكان، فأرسلوا في 38 نوفمبر/ تشرين الثاني (1964م) المركبة مارينر الرابع لاستكشاف المريخ، فمرت بالقرب من المريخ  في منتصف يوليو/تموز 1965م، بعد أن قطعت مسافة (134) مليون ميل. وكان العلماء من سكان الأرض يزوّدونها بالتعليمات، وكانت الآلات من سكان المركبة تزوّدهم بالصور والمعلومات.

ولم يقف الأمريكان عند هذا الحد، بل أطلقوا في السادس عشر من يوليو/ تموز (1969م) أول مركبة فضائية مأهولة لزيارة جارنا القمر، والسؤال عن حاله، وِلمَ لا؟! فهو جار قريب منا، لا يبعد عنا سوى بمسافة (384000) كم، وهي مسافة رمية حجر إذا أخذنا في الحسبان المسافات الهائلة بين النجوم والمجرات، والتي تقاس بآلاف بل بملايين السنين الضوئية، ولم يكن التأخير في موعد الانطلاق أكثر من (724) ميللي ثانية [الميللي ثانية جزء من ألف من الثانية]، وبعد ثلاثة أيام تحققت المعجزة، ووطئت قدما أول إنسان سطح القمر.

2 – نحو الأعماق.

وكانت ثمة إنجازات فكرية هائلة قد سبقت الإنجازات العلمية والتقنية أو واكبتها، فقبل أن أتشرّف بأن أكون أحد ضيوف هذا العالم، كانت المجتمعات الأوربية قد أنجزت قفزات كبيرة في الفلسفة، وينبغي أن نتذكّر أن الفلسفات الكبرى هي في الحقيقة مناهج كبرى، ترسم للمجتمعات رؤاها ومُثُلها ومبادئها وقيمها وتشريعاتها وسياساتها، وهي التي تزرع بذور التقدم والازدهار، أو تصنع فيروسات التفسخ والانهيار.

وقبل أن أكون ضيفاً على الكرة الأرضية كانت الفلسفة الماركسية قد قادت الثورة البلشفية في روسيا أولاً، ومن بعد في بلدان أوربا الشرقية وفي الصين، وعملت بإخلاص كي توقف الفكر الفلسفي على قدميه بعد أن كان الفيلسوف الألماني هيغل قد أوقفه على رأسه، حسبما كان يقول ماركس ساخراً. كما عملت بعناد لإثبات أن البنى المادية هي الأصل، وما البنى المعنوية (الروحية) إلا انعكاس لها، وليس العكس.

وكانت الفلسفة الوجودية قد انتشرت في أوربا الغربية على أيدي فلاسفة ومفكرين مشاهير منهم: كِيركغارد، وهَيدجر، وسارتر، ومِيرلُوبونتي، والبير كامو، وآخرين. وراحت توجّه الاهتمام نحو علم الذات، وناضلت بعناد لتأكيد أن (الوجود يسبق الهوية) وليس العكس، وأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه، وهو المسؤول الوحيد عن ذلك التاريخ.

 وكانت الفلسفة البراغماتية (الذرائعية) قد رسّخت جذورها في المجتمع الأمريكي، بفضل جهود فلاسفة كبار منهم: وليم جيمس، وشارل بيرس، وجون ديوي. ورفعت تلك الفلسفة شعار (العقل هو ما يؤدّى)، ووجّهت الاهتمام إلى ضرورة ربط المعرفة بالممارسة، فالنتائج العملية الصائبة تعني بالضرورة مقدّمات معرفية صحيحة.

ولا أرى حاجة إلى الوقوف عند إنجازات فكرية وفلسفية أخرى هامة، مثل الأنثروبولوجيا (علم الإناسة)، والإثنولوجيا (علم السلالات) واللسانيات، وعلم النفس، وعلم الجمال، والبنيوية، والتفكيك، وغير ذلك. وكلها علوم مفيدة وفلسفات جادة، عُنيت بعلم نفس الأعماق على الصعيدين الفكري والنفسي، وراحت تستكشف الإنسان من الداخل، بجرأة لا تقل عن الجرأة التي تمّ بها استكشاف أقطار السماوات وأعماق البحار. 

كانت تلك تحوّلات علمية وحضارية عظيمة حقاً.

وكان موقعها في النصف الشمالي والغربي من كرتنا الأرضية.

ولنعد إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط.

فماذا عن التحوّلات العلمية في مجتمعاتنا؟!

3 –  القدّيسة حنيفة.

كان الزمن منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وكان الوقت ربيعاً، وذات يوم دبّت حركة غير عادية في حارتنا.. النساء يتزاورن بكثافة.. يتبادلن الأحاديث، لكن هذه المرة ليس عن مكان جديد للاحتطاب، ولا عن موقع في الجبل لجلب الحوّار الخاص بتبييض البيوت، ولا عن سفرة إلى قرية (كُشْتُعار) لجلب حجر (البَيْلُون) الخاص بالحمّام، والذي كانت الحوامل يقضمنه توحُّماً بدل الموالح، ولا عن خِطبة تُطبَخ على نار هادئة، ولا عن المعروضات الجديدة التي جاء بها العطّار عبد الجليل.

كانت الأحاديث تدور حول شيخة قدّيسة ظهرت في قرية (بَعْدِنْلي) الواقعة في الجبال الغربية، إنها تُدعى حنيفة [هكذا كان اسمها فيما أذكر]، فقد رأت النبي محمداً عليه السلام في المنام، وختم علي كفّها اليمنى بخاتم النبوّة شهادة لها بالصلاح والتقى، فأثر الختم يلمع في كفّها كالمصباح، وما من مريض ولا سقيم ولا صريع ولا مجنون يقصدها إلا ويعود صحيحاً معافًى.

 وكانت جدّتي (مدينة)- رحمها الله- محور تلك الحركة المفاجئة، وكانت جدتي لأمي هذه مغرمة بالأسفار، كانت لها رحلات شبيهة برحلات الشتاء والصيف، وفي بعض الأحيان كنت رفيقها في تلك الرحلات وأنا صبي. وقد ألحّت على والدتي- رحمها الله- للذهاب معها، لكنّ الوالد-رحمه الله- كان يرفض تصديق مثل هذه الخوارق، فما سمح للوالدة بالذهاب.

وما هي إلا أيام قليلة وإذا بسيارة تقف قرب النبع مع الضحى، ويفتح السائق بوقها المرة تلو الأخرى، وإذا ببعض النساء والرجال يتقاطرون من أطراف القرية وقد ارتدوا ثيابهم الجديدة. وانطلق الجميع للتبرّك بزيارة الشيخة حنيفة، وليعودوا مع المساء.

حدّثتنا الجدة (مدينة) بالعجب العُجاب: 

الزائرون بالمئات، إنهم قادمون من كل فج عميق، من قرى جبل الكرد، ومن قرى منطقة أعزاز، ومن حلب، ومن مناطق أخرى بعيدة، الكل يحمل معه هدايا للشيخة القدّيسة، خرفان، ديكة، سكّر، رزّ، قهوة، سمن، نقود. أما الشيخة حنيفة فكم كان مظهرها مباركاً! كانت ترتدي ثياباً بيضاً، وتتلفّع بشال أبيض، وتظهر للجموع وهي ترفع يدها اليمنى، فاتحة كفّها، فيلمع نور من كفّها، وكيف لا؟! إنه أثر خاتم النبي محمد عليه السلام!

ثم تطلب الشيخة حنيفة من الجموع أن تستلقي على وجوهها صفوفاً بعد صفوف، وتمرّ على الصفوف وهي تدوس عليهم واحداً واحداً، كانت تمرّ بسرعة، ألا كم كانت خفيفة الوطأة على الناس! كان أحدنا يشعر ببرد وسلام عندما كانت تدوس علينا.

هكذا روت لنا الجدة مدينة والأخريات.

وبعد سنين سمعنا أن حنيفة هذه كانت امرأة قروية بسيطة وطيبة حقاً، مثل معظم نساء قرانا، لكن عرف بعض الشطّار كيف يقتنصونها، ويوظّفون بساطتها وطيبتها لأغراض نفعية، فختموا كفّها بمادة فوسفورية مشعّة، وأقنعوها أن هذه اللعبة خير وسيلة لكسب المال والجاه معاً.

4 –  عشيق الجنية.

    الزمن منتصف الستينيات من القرن العشرين، الوقت صيف، زارنا ذات يوم أحد الكهول من القرية، فرحّب به الوالد – رحمه الله – على عادته، ودار بين الزائر والوالد الحوار الآتي:

-       الزائر: جئتك مستشيراً يا خوجه محمود! [خوجه لقب تركي تعني بالكردية مُلاّ، وبالعربية شيخ].

-       الوالد: تفضل.

-  الزائر: تعلم أن ولدي مريض منذ فترة، ولم تنفعه أدوية الدكتور (حسن أفندي)، ولا أدوية غيره من الأطباء، وتوجهت به إلى بيت شيخ القادر في (بابْلِيتْ) [قرية غربي عفرين بحوالي أربعة كيلو مترات]، للتبرّك بالأُوجاق [أُوجاق كلمة كردية الأصل أو تركية، تعني الجذر المبارك، والأرومة المقدّسة]، لكن لا فائدة. ونصحني بعض الناس أن آخذه إلى قرية (شاه دَير) [على مسافة عشرين كيلو متر تقريباً جنوبي عفرين].

-       الوالد: ولِمَ؟!

-  الزائر: آخذه إلى عند (شيخ عَفْدال) [عفدال بالكردية اختصار لاسم عبد الله]، إن له عشيقة جنّية تصاحبه، وهي تعلّمه المعجزات، وتصف أدوية للأمراض المستعصية.

-  الوالد (في استنكار): دعك من هذه الخزعبلات يا رجل! صحيح أن القرآن حدّثنا عن وجود الجن، لكن (شيخ عفدال) راع أمّي، لا يعرف شيئاً لا من علوم الدين ولا من علوم الدنيا.

-       الضيف: أهذا هو رأيك؟!

-       الوالد: أجل.. ابحث لولدك عن طبيب، وتوكّل على الله.

وبعد عدة أيام رجع الوالد إلى البيت عصراً، وسمعته يقول: " صدق القائل: هؤلاء الناس لا تحبّهم ولا تسبّهم [يقصد المنجّمين وأصحاب الجن]! فاليوم كنت في الكرم، فغفوت ونمت، وفي المنام حدث لي العجب؛ فقد ظهر لي شيخ عفدال غاضباً ساخطاً، وأوسعني بعصاه ضرباً مبرّحاً، عقاباً لي على ما قلت بحقه منذ أيام".

رحمك الله يا والدي، كنت تقف بصلابة ضد المتاجرين بالأولياء والكرامات، وكنت شديد الحملة على الشعوذة باسم الدين، هذا عندما كنت تسترشد بوعيك أنت، وعندما كنت تفكر بعقلك أنت. لكن عندما انفلت وعيك الباطن من عقاله- يسمّيه عالم النفس يُونغ (الوعي الجمعي)- وتسلّط عليك، اختلف الأمر، ولمَ لا؟! فمنذ كنتَ طفلاً، ثم صبياً، ثم شاباً، ثم كهلاً، و(الوعي الجمعي) يغزو كيانك بالعجائب والغرائب والكرامات والخوارق والجن الأحمر والأزرق، فكيف تنجو من كل تلك الحملات؟!

5 –  عصا الأُوجاق.

ومرت الأيام والأعوام.. والتقيت بعبد الحليم بن شيخ عفدال، وكان والحق يقال شاباً دَمْث الخلق، مرح الطبع، منفتح الفكر، محبّاً للعمل، مهتماً بالمشاريع التجارية.، فحدّثني طويلاً عن والده والعشيقة الجنية، إنها كانت ترافقه، وتظهر له في البيت وخارج البيت، فكانت تشغله عن الأهل والولد، لكن ما كان أحد يراها سواه. وزارني عبد الحليم في القرية، وطلب مني أن أزوره أيضاً، فوعدته، وذكر لي أن والده سلّمه (عصا الأوجاق) قبل وفاته، ليخلفه في المسيرة المقدّسة.

ومرت الأيام والأعوام أيضاً.. وقمت بزيارة لصديقي عبد الحليم في قريته (شاه دَير) منذ سنوات قليلة، ومعي ولدي صلاح الدين، فإذا ببضع رجال جالسون على المصطبة، وظننتهم ضيوفاً. وما إن سمع عبد الحليم بقدومي حتى خرج للقائي مرحّباً، لكنه قال بصوت خافت وبنبرة اعتذار مرحة: أنا الآن شيخ، لقد حملت (عصا الأُوجاق) حسبما أوصاني والدي، وعندي في الداخل بعض الناس بخصوص أمر، وهؤلاء ينتظرون دورهم، فأرجو الانتظار قليلاً.

ودخل الشيخ عبد الحليم غرفة الأوجاق ثانية، ولم يطل الوقت حتى خرجت من عنده جماعة فيها رجال ونساء، وهبّ إليّ الشيخ مرحّباً ثانية، وقال يخاطب الجالسين بوقار: لا مؤاخذة يا أصحابي، فالدكتور أحمد قادم من بعيد، وأمره مستعجل!

شاب ذكي حقاً، يعرف كيف يوظّف المعطيات لصالحه أفضل توظيف، فمعظم الناس في منطقتنا وفي ريف حلب إذا سمعوا كلمة (دكتور) ينصرف ذهنهم إلى (الطبيب)، باعتبار أن كل طبيب- وإن كان حاصلاً على الدبلوم فقط - يُطلق عليه في سوريا لقب (دكتور).

وهكذا فقد أحسن شيخ عبد الحليم توظيف زيارة صديقه الدكتور له، فأوحى إلى الحاضرين بأني طبيب، وأني قادم في شأن كالشأن الذي هم قادمون له، فإما أن شيئاً سُرق منّي، أريد أن يرشدني شيخ عبد الحليم إلى معرفة السارق ومكان وجود المادة المسروقة، وإما أن ولدي الذي معي مريض، أو عاشق، فجئت أبحث عن الخلاص. وإما.. وإما.. . وما دام الدكاترة – وهم من علية القوم معرفةً- يأتون من بعيد ليتبرّكوا بالأُوجاق فكيف تكون حال الناس العاديين؟!

- - - - -

قلت لنفسي وأنا أغادر قرية (شاه دَير):

نحن الشرقيين لنا أيضاً فتوحاتنا العلمية الفريدة، لكن على طريقتنا نحن، وهي طريقة تتقدّم بنا كل قرن خطوة واحدة، بلى.. نحن كالمجرات، دوراتنا الحضارية الفلكية بطيئة جداً، وما أشد ابتلاءنا بهؤلاء الأوربيين الذي يعكّرون علينا صفو حياتنا! إنهم يُكرهونا على الخروج من جلدنا، ويرهقوننا بهذه التحوّلات العلمية الجارية على قدم وساق!

ألا صبراً علينا يا آينشتاين!.. ودعنا في حالنا يا صاحبي!

نحن ما زلنا نؤمن حتى النخاع بأن جميع الخطوط مستقيمة.

لكننا ما زلنا نمارس حياتا وقضايانا حتى النخاع باعوجاج. 

(وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والعشرين ).

1 - 5- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar