الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 16:43 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/bayram.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الرابعة والعشرون - كم هو عمرك المعرفي؟!

1 – قدرات.. لا معجزات!

المشهور أن للإنسان في هذه الحياة عمرين:

-  الأول: عمر زمني، وهو يقاس بالأيام والشهور والأعوام، فيقال: بلغ فلان من العمر كذا وكذا عاماً؛ انطلاقاً من يوم ولادته.

-  والثاني: عمر عقلي، وهو يقاس بما يمتلكه المرء من ذكاء، فقد يزيد عمر المرء الزمني على أربعين عاماً، لكنه قدرته على الفهم والتحليل والتركيب والاستقراء والاستنباط لا تتجاوز قدرات صبي في الثانية عشرة من العمر، وقد يكون العكس؛ كما هو الأمر عند بعض الصبية العباقرة الذين يحلّون مسائل عويصة في الرياضيات يعجز عنها كبار الأساتذة.

وأحسب أن لكل منا نوعاً ثالثاً من العمر، هو (العمر المعرفي).

إن هذا النوع من العمر لا يقاس بالسنين والقدرات العقلية، وإنما يقاس بالمعارف التي يمتلكها المرء كمّاً وكيفاً؛ ترى هل تقف طاقاته المعرفية عند عصره هو، أم تتجاوزه إلى عصور سابقة؟! وهل تلك العصور السابقة مداها قرون معدودة، أم أنها تمتد لتصل إلى بدايات التاريخ البشري؟! وهل تقف تلك المعارف عند السطوح والقشور، أم تتوجّه نحو الآفاق والأعماق؟!

ولا يقتصر العمر المعرفي على المعارف المنتمية إلى الماضي، وإنما قد يمضي باتّجاه المستقبل أيضاً، وقد يكون هذا التوجّه بعقد من الزمان، أو بقرن أو بعشرة قرون. وكلما كان عمرك المعرفي أطول كنت أقدر على التنبّؤ بما يمكن أن يقع، ولا علاقة لهذا الأمر بمسألة (علم الغيب) و(المعجزات)، وإنما هو حصيلة تراكم معرفي، يجعل المرء قادراً على التنبّؤ بما (قد يكون) بناء على ما (قد كان)، وهو ما يُعرف بمبدأ (الاستدلال على المجهول بالمعلوم).

وقد جسّد ألبرت إينشتاين (1879- 1955م) هذا المبدأ حين سئل بعد استعمال السلاح الذري في الحرب العالمية الثانية:

- ما السلاح الذي سيُستخدم في الحرب العالمية الثالثة؟!

- فقال: أما في الحرب العالمية الثالثة فلا أدري! لكن في الحرب العالمية الرابعة سيتحارب الناس بالقوس والنشاب.

2 – هل للعمر المعرفي ضريبة؟!

ولا ريب أن المرء لا يملك من العمر والفراغ ما يكفي لإشباع نهمه المعرفي، سوى في حال واحدة؛ وهي أن يعيش عيش الزاهدين، فلا يزاحم الآخرين في أسواق الأمجاد، ويُمضي الحياة من غير مسؤوليات أسرية، وبلا وظيفة تأخذ من عمره أزهاه، ومن طاقاته أفضلها. بلى.. كي تطيل أمد عمرك المعرفي لا بد من ضريبة تدفعها، وما من عالم متبحّر وعارف وعبقري إلا ودفع تلك الضريبة بسخاء، وإليكم بعض الشواهد:

إن الأمير الهندي سيدها جوتاما (ت 470 ق. م) لم يصبح (بوذا= المستنير) إلا بعد أن انسلخ من الإمارة مظهراً ومخبراً، واعتزل العالم سنين عديدة، وأدار ظهره لما ينشغل به العاديون من الناس، مستغرقاً في تأملاته المعرفية الرحيبة، ليخرج إلى العالم من جديد بشعاره الفلسفي الرائع:

" السلام على جميع الكائنات "!

أجل.. عندما تتعمّق معرفتك لا تقدر على مخاصمة سائر الكائنات.

وإن الفيلسوف اليوناني ديوجينوس الحكيم (عاش في القرن الرابع قبل الميلاد) عُرف في التاريخ باسم ديوجينوس الكلبي، لأنه كان يعيش حياة تعيسة بمعاييرنا نحن، فشبّهه معاصروه بالكلب الضالّ، إنه لم يكن يمتلك بيتاً، فكان يبيت أحياناً في وعاء شبيه بالبرميل، وقد مر به الإسكندر المكدوني ذات صباح، فوقف عنده يتحدّث إليه، فما كان من ديوجينوس إلا أن خاطبه وهو في قعر بيته البرميلي قائلاً: تنحّ، لقد حجبت عني الشمس!

أعتقد أن ديوجينوس كان يقصد ما هو أبعد من (الشمس) العادية.

وأحسب أنه كان يقصد (الإشراق المعرفي).

والخليل بن أحمد الفراهيدي (توفّي في أوائل القرن الثاني الهجري) هو صاحب أول معجم في العربية، ومكتشف بحور الشعر، وكان ضليعاً في الرياضيات والموسيقا، ومع ذلك كان يعيش في خُصّ (بيت من قصب) من أخصاص البصرة، ليس فيه من الأثاث إلا حصيرة وكوب للماء وماعون للطعام، في حين كان سيبويه وأقرانه من النحاة واللغويين والأدباء المشاهير  يتتلمذون على يديه، ويرتزقون بعلمه.

وكان إبراهيم بن أدهم (ت 161 هـ) من أمراء بَلْخ (في شمالي أفغانستان)، لكن رحلته المعرفية الكبرى لم تبدأ إلا بعد أن هجر الإمارة والزوج والولد، وتنازل لأحد رعاة والده عن ثيابه الفاخرة وفرسه، لقاء عباءة الراعي الصوفية، ثم ساح في الأرض، يعمل أجيراً تارة، وناطوراً للكروم تارة أخرى، وظل كذلك إلى أن توفّي في مدينة (جَبلة) على ساحل البحر الأبيض المتوسط في سوريا.

ويروى أن إبراهيم أدهم التقى الصوفي شَقِيق البلخي (ت 194هـ):

-  فقال إبراهيم لشقيق: علام أصّلتم أصولكم؟

-  قال شقيق: إذا رُزقنا أكلنا، وإذا مُنعنا صبرنا.

-  فقال إبراهيم: هكذا كلاب بَلْخ! إذا رُزقت أكلت، وإذا مُنعت صبرت. إنّا أصّلنا أصولنا على أننا إذا رُزقنا آثرْنا، وإذا مُنعنا حَمَدْنا وشكرْنا.

فقام شقيق، وقعد بين يديه، وقال: " أنت أستاذنا"!

وأخيراً كيف أصبح أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) عالماً كبيراً وعارفاً قديراً، وحاز لقب (الإمام) و(حُجّة الإسلام)؟! إنه كان رئيس (المدرسة النظامية) ببغداد، وكانت تلك المدرسة شبيهة بجامعات عصرنا هذا، وكان ذا أهل وولد ومنصب، وفجأة هجر المنصب، وترك الزوج والأهل والولد، وساح في الأرض، باحثاً عن المعرفة، حتى إنه أمضى سنوات مقيماً في إحدى منارات مسجد دمشق الكبير، وهناك ألّف أهمّ كتبه، ومنها موسوعته المعرفية الضخمة (إحياء علوم الدين)، و(المستصفى)، و(المضنون به على غير أهله)، وغير ذلك من مؤلّفاته المعروفة.

3 – أصول وفروع!

وقد يقال: لقد جعلت الأمر صعباً.. وتركتنا أمام خيارين أحلاهما مرٌّ؛ فإما أن نعيش بشكل عادي، ونتنازل إلى الأبد عن الطموح في (العمر المعرفي)، وإما أن نتنازل عن الأهل والولد والمنصب والمال، لنفوز بالعمر المعرفي.

حسناً! ها هي ذي ذاكرتي تضع أمامي قول أبي العتاهية:

      لكل شيء مَعـدِنٌ وجوهرُ     وأصغرٌ، وأوسطٌ، وأكبرُ

     وكلُّ شيء لاحـقٌ بحوهرِهْ     أصغرُه متّصـلٌ بأكبرِهْ

وكذلك الأمر في مجال المعارف؛ إن لها أصولاً وفروعاً، وأمّهات وبُنيّات، ومعظمنا لا يملك القدرة والوقت كي يتنقّل بين جميع عوالم (الفروع)، فما علينا، والحال هذه، إلا أن نحرص على السياحة في عوالم (الأصول). ولعل أبرز تلك الأصول أربعة:

·   الدين: وهو أصل معرفي خاص بنزوعنا الروحي المثالي، تبدأ مسيرته العريقة من عصر الخرافات والأساطير (الميثولوجيا)، وتنتهي بعصر الأديان السماوية.

·   الفلسفة: وهو أصل معرفي خاص بنزوعنا العقلي التأملي، وبحاجتنا إلى (تعقيل) الوجود، وتأصيل كينونة الموجودات، كما أنه تعبير عن رغبتنا الدائمة في البحث عن جوهر الأشياء وحقائق الأمور، والتعامل مع العالم ومكوّناته بمنطقية وموضوعية.

·  الشعر: وهو أصل معرفي خاص بعوالمنا الشعورية، كما أنه تجسيد لنزوعنا الفطري إلى ما كل هو جميل في الأشكال والمظاهر، وجليل في المعاني، ونبيل في المبادئ والقيم، وسامٍ في المواقف، وكامل في العلاقات.

·  التاريخ: وهو أصل معرفي خاص بنزوعنا إلى ربط الأسباب بالنتائج، كما أنه رصد دقيق لمراحل تطور الحضارات البشرية، بدءاً من العصور الحجرية، وانتهاء بعصر سفن الفضاء وهندسة الجينات؛ بكل ما تشتمل عليه تلك الحضارات من أديان وفلسفات، وإيديولوجيات وسياسات، وعلوم وآداب وفنون.

والمشهور أن وجودنا وكوننا قائمان، في الأصل، على التنوّع في إطار الوحدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعارف، فهي صورة عنا نحن، ومن ثَمّ فلا حدود فاصلة بين الدين والفلسفة والشعر والتاريخ وغيرها من المعارف، الكل يتكامل بالكل، والجميع يتقاطع مع الجميع، وإن افتراض استقلالية أصل معرفي عن سائر الأصول يوصلنا إلى نتائج غير واقعية، فضلاً عن أنه يسوقنا إلى المتاهات، وينتهي بنا إلى أحكام ناقصة.

وأعتقد من ناحيتي أن من لا يطّلع على هذه الأصول المعرفية الأربعة بشكل كاف يظل لاهياً خارج ملكوت المعرفة، ولا يحظى بعمر معرفي كافٍ، بل اعذروني إذا قلت: إنه لا يكون ممن وضع قدمه في عتبة الثقافة.

4 – ذاكرتي تتآمر عليّ!

ولعلكم تتذكّرون الحكمة القائلة: " خاطبوا الناس على قدر عقولهم".

وقياساً عليها أقول: " خاطبوا الناس على قدر أعمارهم المعرفية".

وقد ابتُليت منذ سنين بعادة أجدها تجرّ عليّ الضرر أحياناً؛ وهي أني أشهد موقفاً ما، أو أجد نفسي في موقف ما، فتتمرد عليّ ذاكرتي، ويشايعها لساني، فيلهج من حيث لا أريد بقول قد يكون عرضاً لحدث، أو مثلاً سائراً، أو حكمة، أو بيت شعر، له صلة ما بذلك الموقف سلباً أو إيجاباً.

وفي هذه الحال لا بأس إذا كنت بمفردي، فأنا قادر على فهم نفسي وإدارتها وإرضائها ومحاسبتها. لكن المتاعب تبدأ حينما أكون بصحبة آخر بيني وبينه فارق في (العمر المعرفي)، فيعجز عن إدراك مغزى ما قلت، وينتهي بي الأمر إلى حال هي شبيهة بحال الصوفي السُهْرَوَرْدي (ت 587هـ) حينما قال: " من لم يطّلع على إشاراتنا لا يفهم عباراتنا".

وقد سألني صديق لي ذات مرة: كم عمرك؟ فوجدتني أقول:

 عمري ألف عام، بل خمسة آلاف عام، بل عشرين ألف عام، بل أكثر.

وظهر الضيق على ملامح الصديق، وحقّ له ذلك، فهذا الجواب إذا لم يكن مزاحاً فلا ريب أنه بعض أشكال الهذيان.   

وكنت - والحق يقال- جادّاً فيما نطق به لساني، اعتقاداً مني أنه بقدر ما توسّع معارفك ومعلوماتك، وتؤصّلها وتعمّقها، توسّع عمرك المعرفي وتعمّقه، وحينذاك أنت تعيش الوجود ليس مرة واحدة،  بل أنت تعيش الوجود عشرات وربما مئات وآلاف المرات. وحينذاك أنت لا تعيش الحياة في منطقة جغرافية واحدة، وإنما تعيشها في عشرات وربما في مئات المناطق والساحات الجغرافية.

ثم ألست، حين تتعرّف حياة البشر في العصر الحجري مثلاً، تتعرّف كل ما يتعلّق بتلك الحياة من ظروف بيئية، ومناخ ثقافي، وعلاقات اجتماعية واقتصادية ومشكلات ومعضلات؟! ألست عندئذ تخترق العصور والدهور، وتتغلّب على المسافات، وتصبح في قلب الحدث؟! ألا تكتشف على ضوء تلك المعطيات المعرفية حقائق جديدة في حياتك وفي حياة الآخرين، وتعيد من ثَم تفسير أمور كنت قد فسّرتها أو فسّرها غيرك على نحو خاطئ؟!

وقل الأمر نفسه حينما تطّلع على المجتمع السومري (حوالي 3000 سنة قبل الميلاد)، وعلى المجتمع الفرعوني، وعلى المجتمع الهندوسي، وعلى مجتمعات الهنود الحمر في الأمريكتين، وعلى حياة الأقزام في غابات إفريقيا، وعلى سائر العصور والمجتمعات والثقافات والحضارات في أرجاء هذا العالم.

-   -    -   -

حقاً.. إذا كنا عاجزين عن إطالة عمرنا الزماني فأمام كل واحد منا فرصة لا تُقدَّر بثمن؛ إنها فرصة إطالة عمره المعرفي. لكن لا يكفي أن تسعى إلى إطالة أمد عمرك المعرفي فقط.. وإنما ينبغي أن تساعد الآخرين على ذلك أيضاً.

وإلا فإنك تحكم على نفسك بالفشل والمرارة والتعاسة.

لا فرق في ذلك.. سواء أكنت ربّ أسرة.

أم مختار قرية.

أم قائد شعب.

(وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والعشرين ).

15 - 5- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar