الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 6:40 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الخامسة والعشرون - هذا ما تعلّمته من الوالد!

1 – أنت نتاج أسرتك.

الأسرة هي (المَشْغَل) الأول والأساسي الذي ينتج (الإنسان).

واعذروني إذا استخدمت عبارات هي ألصق بميادين علم الاقتصاد منها بميادين علم الاجتماع، لكن تلك هي الحقيقة، وأراني أصبح أكثر اقتناعاً يوماً بعد يوم أن قوانين الكون والوجود تتماثل، من حيث الجوهر، في جميع الميادين، وما نراه من اختلافات فهي لا تتجاوز المظاهر والوظائف.

ولأسرتنا الكونية الكبرى قوانين تضبط مساراتها، وما أسرتنا الصغرى (العائلة) إلا جزء منها، وما كل فرد منا سوى نتاج قوانين ومُناخات ذلك (المشغل/ الأسرة)؛ وهذا ما عبّر عنه الشاعر المعتمد بن عبّاد في قوله:

          شِيَمُ الأُلى أنا منهـمُ      والأصلُ تتبعـه الفروعْ

وسبق القول أن ما أدوّنه في هذه الحلقات هو سيرة (جيل) بقدر ما هو سيرة (شخص)، وكي تكون الصورة أوضح لا بد من إضاءات عوامل أسرية لها علاقة مباشرة بتكوين شخصيتي، ولعل في ذلك تشجيعاً على البحث في المناخ الأسري، والوقوف عنده وقفة نقدية، وفي ذلك فائدة للآباء والأمهات، كما أن فيه نفعاً للأبناء والبنات، فيعدّون للأمر عدّته.

2 – إضاءات تربوية.

وأعتقد أن المبادئ التربوية والقيم الخلقية، في الإطار الأسري، تنتقل إلى الأولاد- بنين وبناتٍ وحفدةً وحفيدات- عبر ثلاث قنوات رئيسة، تستوي في ذلك الأسر سواء أكانت قديمة أم معاصرة، جاهلة أم متعلمة:

·  الأولى هي الموجّهات والإرشادات النظرية المباشرة: إذ درجت العادة أن الآباء والأمهات والأجداد والجدّات، يجودون بها على الأولاد في المواقف الحياتية المختلفة، ويصوغونها على شكل ثناءات وترغيبات ومكافآت وأوامر، أو على شكل تأنيبات وتحذيرات ونواهٍ وزواجر وعقوبات.

·  والثانية هي الموجّهات والإرشادات النظرية غير المباشرة: ويكتسبها الأولاد عبر ما يسمعون، في إطار الأسرة، من ملاحم وقصص وحكايات وأمثال وآراء وتعليقات على الآخرين.

·  والثالثة هي الموجّهات والإرشادات العملية: ويكتسبها الأولاد عبر (الاقتداء)؛ فالآباء والأمهات قدوة للأولاد في كل صغيرة وكبيرة، ولا سيما في مراحل الطفولة والصبا والمراهقة، ومن الضروري أن ينتبه الآباء والأمهات إلى خطورة (القدوة)، وإلى تأثيرها البالغ في تكوين الشخصية.

وسأقتصر ها هنا على الوقوف عند جوانب من شخصية الوالد- رحمه الله- أحسب أنها أثّرت في تكوين شخصيتي. ولن أزعم أنه كان يمتلك منهجاً تربوياً متكاملاً، ولن أزعم أيضاً أنه كان يعاملنا - نحن معشر أبنائه وبناته- وفق ذلك المنهج دائماً، أو أنه كان يراجع منهجه، فيعدّل ويلغي، ويضيف ويحذف، حسبما هو المفروض في مجال التربية المنهجية الواعية.

ولا عيب من الإقرار بأن ثقافة آبائنا لم تخلُ من بعض البدائية، إنها كانت مزيجاً من ثقافة عصر الرعي والزراعة، وكانت تقوم على الفطرة والارتجال. لكن في الوقت نفسه لن أزعم أن الوالد كان يقوم بتربيتنا على نحو اعتباطي، فهو كان على قدر متقدّم من العلم قياساً بالمستوى الثقافي الذي كان سائداً في أريافنا حينذاك، وكان لثقافته بعدان رئيسان:

·  بعد ديني: وكلنا يعلم موقع الضوابط التربوية والقيم الخلقية في التراث الإسلامي، ومحال أن تبقى تلك الضوابط والقيم بعيدة عن المسار التربوي العام للوالد.

·  وبعد علمي: إذ كان يجيد علم الحساب، وله اطّلاع على التاريخ والفلك، ولا ريب أن معارفه الضئيلة تلك كانت تصقل رؤيته الحياتية بشكل عام، ورؤيته التربوية بشكل خاص.

3 – الداء الخطير!

وحينما أراجع مسارات الوالد التربوية يتّضح لي أنها كانت تقوم على جملة من الأسس الراسخة في شخصيته هو، وهذا ما سأقف عنده بإيجاز:

كان الجد والإتقان في مباشرة المهامّ والأعمال من الصفات التي تميّز بها الوالد، وكان يقسو على نفسه وعلى غيره في هذا الباب، سواء أكان ذلك في مجال التعليم باعتباره شيخاً للكُتاب، أم في مجال ممارسة الأعمال الزراعية باعتباره كان مزارعاً.

إنه كان يلتزم الجد مع الطلبة، ويقسو عليهم، ويصرّ على أن ينفّذوا بدقّة ما يضع لهم من منهج في القراءة والكتابة والحساب، ويحاسب بصرامة على كل تقصير، بل كان يعاقب كل من يتلكّأ أو يهمل إنجاز ما كُلّف به؛ الأمر الذي كان يجرّ عليه نقمة بعض الطلبة، فتأتي أمهاتهم إلى الوالدة – رحمها الله- ناقمات شاكيات.

وكانت الوالدة تنقل الشكوى إلى الوالد، وتطلب منه التساهل والمرونة في معاملة الطلبة، فيرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ويقول غاضباً: هل تريدين أن أكسب الرزق بالحرام؟! هل تنسين أن الله يراقبني؟! هذه هي طريقتي، فمن شاء فليأت، ومن شاء فليمض.

وأراني في كثير من الأحيان مثل الوالد، فإذا كنت بصدد كتابة بحث، أو إعداد بعض ما يتعلّق بالنشاط التعليمي، أجدني منهمكاً فيه كل الانهماك، بل تمرّ ساعات طويلة من غير أن أشعر بملل أو كلل، وقد يمر من الليل ثلثاه، فلا أخلد إلى النوم إلا بعد إنجاز ما يجب إنجازه، وأحياناً أقضي يوماً كاملاً في المكتبة، بحثاً عن مصادر ومعلومات، دونما شعور بالجوع أو بالتعب، حتى إذا عدت إلى المنزل ظهر الإرهاق بوضوح، فأعجب وأقول لنفسي: إذاً كيف كنت أعمل كل هذه الساعات؟!

ومن جملة ما لاحظت على نفسي أني لا أرتاح إذا عملت مع فريق دأبه الاهتمام بالمظاهر في أداء المهامّ، وعدم الحرص على الإتقان، فأضيق بهم ذرعاً، وأجدني مضطراً إلى معارضتهم، وما أكثر تفشّي هذا الداء في مجتمعات شرقي المتوسّط! بل لست مبالغاً إذا قلت: إن هذه العادة الذميمة من أبرز العوامل التي جعلت مجتمعاتنا قاصرة حضارياً. ومن أكثر لحظات حياتي تعاسة أن أجد نفسي ملزَماً بالعمل مع فريق كهذا، وأحسب أن نفوري من هذا النهج هو الذي جعلني أميل إلى العمل منفرداً، ليس ترفّعاً ولا تميّزاً، ولكن حرصاً على الإنجاز بالكيفية التي أؤمن بها وأرتاح لها.

كما ألاحظ حرصي على توجيه طلبتي، أينما كانوا، إلى التزام الجد والإتقان في الأمور، وعدم الاكتفاء بالمظاهر البرّاقة الخادعة، وأجد نفس عنيداً في هذا الباب، ولا أرضى من الطلبة إلا بما هو أفضل، وصحيح أن هذا النهج يزعج قلّة قليلة من الطلبة المتوانين، لكني ألمس علامات الرضا عند الغالبية العظمى منهم.

3 – مبادئ .. لا مصالح!

والناس بشكل عام فريقان:

·  فريق يلتزم المبادئ السامية، ويقدّمها على المصالح النفعية المادية، وهؤلاء هم حرّاس القيم النبيلة، وصنّاع التاريخ الإنساني الناصع، وهم الأكثر عطاء والأكثر ألماً، والمؤلم أن كثيرين منهم يلقون الاضطهاد في مجتمعاتهم، ولا يُعرف قدرهم الحقيقي إلا بعد حين.

·  وفريق يجعل الأولوية للمصالح، ولا يتردّد في التغنّي بالمبادئ في المحافل، وهؤلاء هم أتباع المنهج المكيافيللي القائم على أن (الغاية تبرّر الوسيلة)، وهؤلاء هم الذين ينحرفون بالبشرية عن المسار القويم، ويجرّون على مجتمعاتهم التخلّف والخزي والآلام.

أما الوالد – رحمه الله- فكان بحق رجل المبادئ السامية، لا يهادن في ذلك ولا يداهن ولا يجامل، وكان نهجه هذا يجرّ عليه المتاعب والخصومات، ولا سيما من قبل المتنفّذين في المجتمع.

ومن المبادئ التي رأيت الوالد متمسّكاً بها إيمانه أن الناس سواسية، وأن التصنيفات الاجتماعية مصطنعة، فالبشر كلهم خلق الله، لا فرق بين غجري وآغا، وينبغي أن يكرَّم الإنسان بغضّ النظر عن الطبقة التي صُنّف فيها. وأذكر في هذا الصدد أن أهل القرية كانوا ينظرون بضعة إلى فئتين من البشر: الغجر والطبّالة، لكن كثيراً ما رأيت الغجري الكهل (چِيلُو) وكبير الطبّالة العجوز (جابر) يرتادان بيتنا، فيقوم الوالد بضيافتهما وإكرامهما مثل إكرام أي ضيف أو زائر رفيع المقام، غير ملتفت إلى احتجاجات الوالدة والجدة مدينة.

ويعلم أبناء منطقتنا أن كلمة (آغا) لقب كردي اجتماعي، تعني الكردية (سيّد/ وجيه)، وتماثل لقب (مهراجا) في المجتمع الهندي، ولقب (سير) عند الإنكليز، ولقب (بارون) عن الفرنسيين، والآغاوات هم في الحقيقة سادة القبائل الكردية، إنهم يمتازون بالوسامة في الأشكال، وبالغنى في الملكية، إلى جانب حرص الأصلاء والعريقين منهم على التزام النبيل من الخصال والكريم من الفعال.

والغريب أن الوالد – رحمه الله- ما كان يخاطب من ينتمون إلى هذه الطبقة بلقب (آغا)، بخلاف ما اعتاد عليه الصغير والكبير في مجتمعنا الكردي، وما سمعته فعل ذلك قطّ. وأذكر في منتصف الستينيات من القرن الماضي أنه قدم ذات ليلة شتوية من (المضافة) [وهي غرفة واسعة، كان مختار كل قرية يخصّصها لأهل القرية يجتمعون فيها، فيتسامرون ويتباحثون ويتناقشون، ويتلقّى فيها الغرباء الضيافة والقِرى]. وقال لي وهو بين المبتسم والغاضب:

-       كنا في المضافة، وإذا بفلان [وهو ابن أحد كبار آغاوات منطقة جُومة] يدخل، فخاطبه الجميع بلقب (آغا)، واكتفيت بأن خاطبته باسمه مجرّداً، فظهر الامتعاض على وجهه وفي كلماته، وكدت أن أؤنّبه، لولا أنه ضيف.

ثم علّق قائلاً:

-                       ماذا يظن هذا الشاب نفسه؟! هل منحه الله لقب (آغا)؟!

وألاحظ أني أنفر من مصاحبة الكبراء والمستكبرين من أصحاب الألقاب، ولا أسمح لنفسي أن أُشعرهم بأنهم أرفع منزلة من غيرهم لمجرد حملهم تلك الألقاب، وهذا ما يجعلهم غير مرتاحين إليّ، لكني – وفي الوقت نفسه- لا أبخس الفضلاء منهم حقهم في التقدير والتكريم، إذ الأصل عندي هو: ما هي رؤيتك؟ وما هو سلوكك؟ وليس: ما هو لقبك؟

4 – الفحّامون!

وكان الكرم في الوالد طبعاً راسخاً، وشهدت من مواقفه في ذلك ما كان يدهشني حقاً، ولا سيما حينما كنت أقارنها بضيق ذات يدنا أحياناً، وبحرص الوالد على الاقتصاد والتدبير، وبكرهه للإسراف، وما كنت حينذاك قادراً على تمييز الفواصل الدقيقة بين الاقتصاد والبخل، وبين الكرم والإسراف.

وأذكر في هذا الصدد الموقف الآتي:

كان بعض سكان القرى الغربية في المنطقة يستثمرون أشجار الغابات لصناعة الفحم، ثم يبيعونه لأصحاب الأفران والحدادين في حلب، وكان بعض أهالي القرى القريبة من حلب يقومون بمهمة نقل الفحم على ظهور الدواب ليلاً، لئلا تحس بهم السلطات المختصة، فتنزل بهم العقوبات.

وكان الزمن منتصف الستينيات من القرن العشرين، وكان الفصل شتاء والوقت ليلاً، والمطر ينهمر بغزارة، والريح تعصف بشدّة، فخرج الوالد لصلاة العشاء، وبعد فترة إذا به ينادي وهو في فناء البيت: أحمد! محمد! محمود! هيا.. تعالوا! وكنا قد اعتدنا أن نسرع إلى تلبيته دون تأخير. فتركنا ما بين أيدينا من كتب ودفاتر وأقلام، وخرجنا في العتمة وإذا برجال خمسة وبغال عليها أحمال من الفحم. وسرعان ما أصدر الوالد إلينا أوامره:

-       ساعدوا هؤلاء الرجال في تنزيل الأحمال، وضعوها هناك [أشار إلى غرفة صغيرة بجانب المطبخ] ثم خذوا البغال إلى حظيرة جارنا فهي كبيرة، وقدّموا لها العلف.

أسرعنا إلى تنفيذ المطلوب، وعدنا إلى البيت ونحن نتصبّب ماء من شدّة المطر، فوجدنا الرجال وقد أجلسهم الوالد في صدر البيت على فرش وثيرة كانت تفرش عادة للضيوف.

ورأينا الوالدة في المطبخ تعمل لإعداد عشاء للضيوف، ووجدناها ناقمة، ليس لانشغالها بأمر العشاء، فهي- والحق يقال- كانت كريمة النفس، رحيمة القلب، لكن ما ساءها أنها كانت- مثل سائر نساء قرانا- تقسّم الفُرش قسمين: قسم للاستعمال المنزلي العادي. وقسم ما كان يستعمل في العادة إلا في المناسبات غير العادية، مثل قدوم ضيوف مرموقي المكانة، أو في حفلات الأعراس، وغير ذلك. لكن الوالد ألزمها بأن تفرش لهؤلاء الضيوف من تلك الفرش الخاصة، رغم ثيابهم الملطّخة بالأوحال والفحم والمطر.

وفي فجر صباح اليوم التالي أيقظنا الوالد لجلب البغال، ومساعدة الضيوف على تحميل الأحمال، وإرشادهم إلى الطريق الرئيسة خارج القرية، ثم شرح الموقف للوالدة: خرجت من المسجد آخر الناس، فسمعت لغطاً بجانب السور، وإذا بي أجد هؤلاء الفحّامين قد لجأوا إلى الجدار خشية المطر والريح، فكيف أتركهم في تلك الحال؟! قد تقولين: إن استقبال الغرباء هي من مهمات المختار! هذا صحيح.. لكنك تعلمين أنه ليس من عادتي أن آخذ ضيوفي إلى بيوت الآخرين. وأعلم أنك كنت ناقمة لجلوسهم ونومهم بثيابهم الملطّخة في الفرش النظيفة. لكن الماء والصابون كفيلان بإزالة كل شيء. أما البخل واللؤم فلا شيء يقوى على إزالتهما.

وبعد وفاة الوالد بسنين عديدة قال لي عمّي علي رحمه الله:

- كان والدك متّصفاً بالكرم منذ صباه، إنه كان يجلس على الطريق العامة في (شدود) [قرية في منطقة الباب، شمال شرقي حلب، ولد فيها الوالد وأمضى فيها شبابه] فيقتنص الضيوف، ويأتي بهم إلى البيت في أوقات صعبة مادياً أحياناً، الأمر الذي كان يوقع جدّك وجدّتك في مواقف محرجة.

ولست أزعم أني في الكرم مثل الوالد، لكني أجد نفسي أريحياً في استقبال الضيوف والغرباء والمحتاجين عامة، ومن أية طبقة كانوا، وأشعر بسعادة كبرى عندما أقدّم لهم ما أملك.   

4– المحرّمات الأربع!

وكان الوالد متمسّكاً بالمُثل العليا والمبادئ السامية، حريصاً على فضائل الأخلاق، وكان يحاول غرسها في قلوبنا وعقولنا، ويلزمنا بها إلزاماً منذ الصغر، ولا يقبل منا أي خروج عن جادّة الصواب، بل كان يحاسبنا ويعاقبنا بشدّة عند كل تهاون في هذا المجال. وأحفظ للوالد - رحمه الله- من جملة ما أحفظ له، وهو كثير، أنه ألزمني منذ الصغر أموراً أربعة:

-       أولها تجنّب الكذب: إنه كان يحمل على الكذب والكذّابين حملات شعواء، ويحذّرنا على الدوام من الكذب، ويعدّه منقصة كبيرة، موقناً يقيناً مطلقاً أن (الصدق منجاة، والكذب مهواة). وقد تأصّلت هذه القيمة الخلقية الرفيعة – بحمد الله- في نفسي، وقطفت ثمارها اليانعة في المواقف مهما كانت صعبة.

-       وثانيها تجنّب مجالس الخمرة: فقد كانت هذه المجالس تُعقد في قرانا أحياناً، وكان بعض عِلْية القوم ومحبّي الظهور ومدّعي التميّز في القرية يعقدونها في أماكن خاصة، ولا سيما في مناسبات الأعراس. ومنذ صغري كان الوالد يحذّرني من حضور حفلات الأعراس التي تُعقد فيها مجالس الخمرة، فأصبحت – بحمد الله- وبفضل الوالد بمنجاة من تلك العادة الذميمة.

-        وثالثها تجنّب مجالس القمار: فقد كانت تلك المجالس شائعة في قرانا، وصحيح أن معظم تلك الجلسات كانت من باب تزجية الوقت شتاء، لكن علمت بعدئذ أن بعض كبار القوم كانوا يتقامرون فيها حقيقة. بل علمت أن بعض الوجهاء والمخاتير كانوا يعقدونها شتاء، فتتواصل نهارًا وليلاً، وكان ثمّة من يخسر فيها حتى قوت عياله. وأذكر أن بعض نساء القرية من أمهات وزوجات كنّ يأتين إلى الوالد، فيشكون أبناءهن وأزواجهن المقامرين، فلا يتردّد الوالد في نصحهم وتبصيرهم بعواقب فعلتهم.

-       ورابعها تجنّب التدخين: فقد كان التدخين- وما يزال – شائعًا للأسف الشديد في مجتمعنا. وأذكر أني اقتنيت من باب الفضول، وبعد أن بلغت الثامنة عشرة من العمر، علبة سجائر واحدة، ودخّنت منها سيجارة واحدة إلى منتصفها، فشعرت بالنفور والتقزّز، ورميت العلبة جانباً. وما زلت أعجب كيف يبدّد المدخّنون صحّتهم وأموالهم في شيء مزعج كهذا!

-   -   -   -

هذا غيض من فيض مما تعلّمته من الوالد.

وأقدّر له ذلك أعظم التقدير.

ألا ما أسعد الأبناء والبنات الذين يحظون بأسر تعلّمهم الفضيلة!

وتضع أقدامهم على الطريق إلى حياة رشيدة وصالحة!

ألا إنها نعمة لا تقدَّر بثمن!

[ أعتذر عن التأخير في تقديم هذه الحلقة، فقد كنت أنجزت القسم الأكبر منها، لكن صُدمت نفسياً عند سماع خبر استشهاد الشيخ الدكتور محمد معشوق الخزنوي رحمه الله. ومع ذلك علينا أن نستكمل المسيرة بعناد؛ إذ بقدر ما نمتلك المعرفة الحقة نهتدي إلى أنفسنا، ونفهم الآخرين، فنحرص على وجودهم وليس إلغائهم].   

(وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والعشرين ).

4 - 6- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar