الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Thu - 2 / May / 2024 - 7:36 am
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
الحلقة الثامنة والعشرون - لوحات عتيقة لا تفارق الذاكرة!

1 – بين عهدين!

لكل محطة في تاريخنا – نحن البشر- مذاقها ونكهتها وأهميتها.

ومن الخطأ تقويم (تحديد قيمة) زمن ما بعيداً عن شروطه التاريخية.

ولعقد الخمسينيات من القرن الماضي في قرانا أكثر من دلالة.

إنه كان زمناً فاصلاً بين عهدين:

- عهد القرية المنجمعة على نفسها إلى حد الالتصاق بالذات.

- وعهد القرية المنفتحة المنفلتة المندلقة إلى حد الهرب من الذات.

قبيل الخمسينيات من القرن الماضي كانت قرى منطقتنا- وربما معظم القرى السورية- أشبه بالجمهوريات الإغريقية، أقصد أن كل قرية كانت كياناً مجتمعياً قائماً برأسه، كان لها شخصيتها وسمتها الخصوصي، فالقرية الفلانية معروفة بالكرم، وقرية كذا مشهورة بالبخل، وأهل قرية كذا ثرثارون، وأهل قرية كذا معروفون بحب الفكاهة، وأهل قرية كذا شرسون أكثر مما ينبغي، وقرية كذا مشهورة بحفلات أعراسها, وهكذا دواليك.

بل وصل الانكفاء على الذات حداً أن أغلب الزيجات كانت داخلية؛ الأقارب من الأقارب، والقرية من القرية، ونادراً ما كانت عروس (تُستورد)، أو عروس (تُصدَّر)، وفي الحالة الأخيرة كان شباب القرية يستنفرون بقيادة (شيخ الشباب)، ويقطعون الطريق على القادمين من القرية الأخرى لأخذ العروس، ولا يسمحون لهم بالخروج من القرية والعروس معهم إلا بدفع (خُوّة) تعادل ثمن خروف، وكان هذا الإجراء رمزاً تقليدياً مألوفاً وسنّة متّبعة، وكان يتمّ في الغالب بصورة ودّية، لكن الأمور كانت تتحوّل إلى مشكلة حقيقية، حينما كان والد الصهر الغريب يتهرّب من القاعدة، ويفتقر إلى الحصافة الكافية.   

2 – بركات المشاعية!

وقد قال شاعر صيني، عاش قبل الميلاد بقرون:

" أعمل حين تشرق الشمس.

وأنام حين تغيب.

أزرع حقلي لآكل.

وأحفر بئري لأشرب.

ففيم يهمّني سلطان الإمبراطور"؟!

والحق أن هذا القول يذكّرني بالحياة في قرانا خلال الخمسينيات من القرن الماضي.. لقد كانت كل قرية شبه مكتفية ذاتياً؛ فالنبعة كانت تزوّدنا بالماء العذب ليلاً ونهاراً.. البشر والحيوانات والشجر أحرار في أن يعبّوا من مياهها ما يشاؤون، لا عدّادات تحصي كل نقطة ماء، ولا فواتير حساب آخر كل شهر، بل كانت النبعة تراعي أحوال الطقس، فكانت في الصيف تقدّم لنا المياه باردةً، وفي الشتاء القارس كانت تنعم علينا بالمياه دفيئة.

وكانت الحقول تزوّدنا بالحبوب والخضار، وبقليل من الفواكه، وكانت قطعان الغنم والماعز والبقر تزوّدنا بالحليب واللبن والجبن والسمن وسائر المشتقات، إضافة إلى اللحم في مناسبات الأعياد والأعراس وحفلات الختان وفي المآتم. وما كان فناء بيت في القرية يخلو من الديكة والدجاج.

وكان معظم أثاث المنازل يُصنع ذاتياً أيضاً، كانت جداتنا وأمهاتنا وأخواتنا يقمن بتلك المهمة إلى جانب المهمات الأخرى الموكولة إليهن بحسب العرف والعادة، فكن يستغللن الأصواف والقطن لصنع الفرش والملاحف والمخدات والبسط وبعض أنواع السجاد والملابس.

وعلى الإجمال كانت العلاقات المعيشية في القرية تقوم على نوع من التكافل العفوي والمشاعية الفطرية، فمن يملك شيئاً كان لا يبخل به على من لا يملكه، هذا يفيض على الآخر من لبنه، وذاك من عنبه، وثالث من تينه، ورابع من زيتونه، وخامس من خضاره، وسادس من جبسه وبطيخه، وكانت العادة أن تتولّى كل أسرة أقاربها وجيرانها في الدرجة الأولى.

صحيح أن ظلمات الحرمان والشقاء كانت تخيّم على الحياة في قرانا.

لكن روحية التكافل كانت تفتح للمرء آفاقاً إنسانية مريحة.

3 – مسامير الرُّكَب!

وكان لكل فصل في قرانا حملاته، وأذكر منها حملات (دقّ البرغل) لفصل اللب عن القشر، ولا أجد تسمية أدقّ من هذه، إذ تسمى بالكردية (دانْ كُتانْ)، فالمعروف أن أهل القرى، في المجتمع السوري عامة، كانوا يعتمدون على خبز القمح والبرغل غذاءً رئيساً، وما كان الأرزّ يقدَّم إلا في الحفلات والمناسبات الخاصة، وفي هذا المناخ ولدت أمثال عامية، منها: (العز للرز)، والمثل القائل: (الخبز الحافْ بِعرّض الأكتاف)، [الحاف الذي يؤكل بلا إدام]، والمثل القائل: (البرغل مسامير الرُّكَب).

وجاء في كتب التراث العربي أن وفداً من العرب، قبل الإسلام، زار كسرى ملك فارس، وتكلّم زعيم الوفد فأحسن الكلام، فسألهم كسرى: ما هو طعامكم في بلادكم؟ فقالوا: البُرّ [القمح]. فقال كسرى: " هذا عقل البُرّ "!

وكان إعداد البرغل يمر بمراحل متعبة، إذ يجب غسل القمح جيداً، ثم تجفيفه، ثمّ طبخه يسيراً في قدر كبيرة جداً، ويسمّى حينئذ بالكردية (دانِهْ)، وبعد أن ييبس ال (دانه) يُنقل إلى ساحة ينتصب فيها جرن منقور في حجر ضخم يسمّى بالكردية (سُوقي)، ويقف كل مرة شابان حول الجرن مواجهةً، ويحمل كل منهما مهدّة خشبية ضخمة تسمّى بالكردية (ماكُوت)، وتُملأ الحفرة إلى منتصفها بالبرغل، ويُبلَّل بقليل من الماء، ثم يهوي الشابان عليه بالمهدّة، على نحو متتابع وبإيقاع منتظم.

ولم تكن هذه العملية تمر بصمت، بل كان الشابان يتبارزان، ويتبادلان نوعاً من الغناء الشعبي المتوافق مع إيقاع الضربات، الأمر الذي كان يضفي الحماس على العمل، ويبدّد الرتابة والشعور بالملل.

4 – للوجاهة ثمنها!

وكان للقرية رجالاتها، فالمختار هو الزعيم، وكان يُختار بالتوافق بين أهل القرية، آخذين بالاعتبار التقاطعات الفئوية في القرية، وكان من الضروري أن يكون المختار ثرياً على الغالب، راجح العقل، مسموع الكلمة، وأن يكون من العائلات القوية بعلاقاتها وامتداداتها.

ويساعد المختار في مهمته هيئة اختيارية مؤلفة من بعض الكبار المتصفين بالرزانة والحكمة، وكان من الضروري أن يتّخذ المختار (مضافة) [تسمّى بالكردية: أُودَهْ]، يقوم على الخدمة فيها شخص يسمّى (بَگْجي= حارس)، وهذه ال(أُوده) تكون مفتوحة لأهل القرية وللغرباء، سواء أكان المختار موجوداً أم غائباً، وتقدّم أسرة المختار للزوّار وللضيوف المأكل والمشرب وما يحتاجونه للنوم.

   وإذا ابتلي المختار بزوجة بخيلة غير حصيفة كان عليه الإسراع بالزواج من أخرى كريمة لبقة، وإلا فسرعان ما كانت سمعته تهوي إلى الحضيض، ليس بين أهل القرية فقط، بل بين القرى الأخرى أيضاً، وعند رجال الدرك وموظّفي الضرائب.

وكان بعض الطامحين إلى الشهرة ينافسون المختار أحياناً، فيتّخذون مضافة، تمهيداً لأن يكون مختاراً في المستقبل، وقد زار أحد الظرفاء مضافة كهذه، وكان الوقت ظهراً، فقدّم له صاحب المضافة الشاي، وحان العصر، والضيف ينتظر الطعام، فجاءه الشاي مرة أخرى، فما كان من الضيف إلا أن نهض، وراح يقيس المضافة طولاً عرضاً بخطواته، فسأله صاحب المضافة متعجّباً:

- ويحك يا فلان! ماذا تفعل؟!

- أريد أن أعرف كم طول مضافتك وكم عرضها؟!

- ولِمَ تريد معرفة ذلك؟!

- لأبني واحدة مثلها، وأكون وجيهاً؛ فالوجاهة أصبحت سهلة.. مضافة وكأس شاي!

 5 – زوّارنا!

وكان يرتاد قريتنا زوّار دوريّون، كانوا في الغالب ربيعيين وصيفيين؛ كان الإسكافي (أبو فارس) يحط برحاله تحت شجرة التوت الكبيرة إلى جانب النبع، ويبقى أياماً وهو يصلح لأهل القرية نعالهم لقاء قليل من المال. وكان الأرمني مراد يأتي مع كل ربيع لجلي القدور وسائر الأواني النحاسية، وطليها بالقصدير، وكان صحاب هذه المهنة يسمّى بالكردية (قِلينْجي).

وكان للغجر أيضاً توقيتهم الخاص، فينصبون خيامهم في ساحات البيادر، ويقوم رجالهم بصنع أنواع الغرابيل، وبعض الوسائل الزراعية الأخرى التي تدخل الجلود في صناعتها، في حين كانت نساؤهم يدرن على البيوت وهن يعرضن بضاعتهن من الإبر، والخيوط العادية والمطاطية، ومن الأزرار والأمشاط وغير ذلك.

على أن نساء قريتنا كن يبدين اهتماماً أكبر بزيارات العطار (عبد الجليل) إنه كان يرتاد القرية دورياً وقد جمع بضاعته في صندوقين خشبيين ضخمين، يحملهما حمار ضخم قوي، فتقبل النساء على ما في صندوقيه من صحون، وكؤوس وصابون وصودا وحنّاء وكبريت وخيوط، وغيرها، وكان العطار (عبد الجليل)- والحق يقال- بشوش الوجه، دمْث الأخلاق، ليّن العريكة، طويل الصبر، عفيف العين واللسان.

6 – صندوق الدنيا!

وإن أنس لا أنسى زائراً كان عزيزاً جداً على قلوبنا نحن الصبية، إنه حامل (صندوق الدنيا)، كان يأتي في العام مرة واحدة، يحمل صندوقه على ظهره، وينتقل به من ساحة إلى ساحة، فنتهافت عليه صبية وصبايا، بل كان أهلونا- ولا سيما الجدات- يشاطروننا تلك المتعة أيضاً؛ ولا عجب، فقد كنا منقطعين عن العالم، وما كنا ندرك في الأصل أن ثمة عالماً بالمعنى الذي نفهمه الآن. ولم نكن نعرف مذياعاً ولا سينما ولا تلفازاً، ولا صحفاً ولا مجلات مصوّرة.. إننا كنا نعبر إلى الدنيا عبر (صندوق الدنيا)!

وكان يكفي أن ندفع لصاحب الصندوق فرنكاً واحدًا [خمسة قروش]، فيسمح لأحدنا أن يُدخل رأسه في القطعة القماشية السوداء، ويطل عبر فتحة زجاجية صغيرة على عوالم عجيبة غريب: الكعبة بكسائها الأسود، الإمام علي بن أبي طالب وقد شطر بسيفه ذي الفَقار فارساً شطرين، عبلة في الهودج وعنترة على فرسه الأبجر ووجهه يتمعّر غضباً، الزير سالم وقد أشهر سيفه، أبو زيد الهلالي بشاربيه الغليظين المعقوفين .. إلخ.

7 – وللقرود رأيها!

ولا أنسى زائراً آخر كنا ننتظره بفارغ الصبر؛ إنه عارض القرد، لقد كان يدور على القرى صيفاً، وكان يركب في العادة حصاناً قوياً، ويمر بين البيوت بسرعة، وقد ربط القرد إلى مؤخرة السرج بسلسلة طويلة، وكان القرد يسير خلف الحصان تارة، ولكنه سرعان ما كان يقفز، ويستقر خلف صاحبه متمسكاً به، خوفاً من الصبية الشرسين والكلاب الغاضبة.

وكان منظر القرد الغريب يدهشنا، وكانت حركاته الرشيقة تستهوينا، فكنا نلاحق العارض حيثما سار، ونسير خلفه زرافات ووحداناً، ونحن نتحرّش بالقرد تارة، ونصيح به تارة أخرى بأصوات هي بين الخائفة والساخرة، فيهر القرد بغضب، ويزجرنا العارض بعصبية.

ولم يكن العارض يدور على جميع بيوت القرية، وإنما كان يقصد دار المختار والآغا فقط، فهما البيتان اللذان يستحقان الزيارة، لأنهما الأكثر ثراء، والأقدر على العطاء، وحال وصوله إلى فناء دار المختار كان ينقر على دفّه، ويغنّي للقرد، ويُصدر له الأوامر والإشارات، فيبدأ القرد بالرقص والقفز، والقيام بحركات بهلوانية مضحكة.

والفقرة الأخيرة كانت مسك الختام، إذ كان العارض يذكر اسم المختار مشفوعاً بالمديح، ثم يسأل القرد عن رأيه، فيقف القرد على رجليه الخلفيتين، واضعاً يده اليمنى فوق رأسه، شهادة منه بأن هذا المختار كريم ويستحق الاحترام. ثم يذكر العارض اسم مختار آخر، فكان القرد يحني رأسه إلى أسفل، ويرفع مؤخرته إلى أعلى، ويضع يده عليها، شهادة منه بأن ذلك المختار بخيل ويستحق الاحتقار؛ وهل كان من الممكن، أمام هذا الابتزاز، أن يتلكّأ المختار وأهله عن تقديم أفضل العطايا للعارض وقرده؟!

8 – عيب!!!

تلك لوحات عتيقة من صميم قرانا، وجدتُني منجذباً إلى تمريرها أمام مخيّلة أبنائنا وبناتنا، ليس كي يشفقوا علينا أكثر، وليس كي يسخروا منا أكثر، وإنما كي يفهمونا أكثر، وإلا فالكارثة الكبرى أن تبقى الأصول بلا فروع، وأن تنخلع الفروع من الأصول!

ولم يكن غرضي- وأنا أستعرض هذه اللوحات – هو تجميل صورة حياتنا في قرانا المنغلقة، فعالمنا ذلك كان يعجّ بالكثير من المساحات المظلمة، ولعلي أقف عندها يوماً ما بالتفصيل، ويكفي أنه كان عالماً منضوياً – بسبب ظروفه البدائية- تحت لواء الجهل والخرافة وضيق الأفق. لكن كان ثمة شيء واحد ومهم ينير تلك الظلمة الحالكة، وهو كلمة (عيب!!)؛ كان يكفي أن يقول الأب لابنه والأم لابنتها والكبير للصغير: (هذا عيب!!).

 وها نحن قد خرجنا من القرية (المنغلقة)، وكان ذلك ضرورياً، وها نحن قد اندفعنا بقوة إلى القرية (الممتدة)، وكان ذلك ضرورياً أيضاً، لكننا- وأقولها بألم- دخلنا متاهة القرية (المندلقة)، فخسرنا المنظومة الأخلاقية التي كانت تجسّدها كلمة (عيب!!).

ألا ما أروع أن ترفرف كلمة (عيب!!) في قرانا من جديد!

(وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة والعشرين ).

15 - 7 - 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar