الأنثى والشعر

بير رستم

    

   كتب الكثير – وما زال يكتب – شعراً ونثراً عن الأنثى وعشقها إلى درجةً يشعر المرء بالخوف والفراغ والجدب من دون هذا المخلوق الشفاف والنوراني ويتساءل: لولاها ولولا طيفها وعبقها الرباني ولولا عشتار وخصوبتها، ما كان لون الحياة، بل هل كان للحياة والطبيعة لوناً وجمالاً بالأساس. بل هل كانت هناك شيء أسمها الحياة من دونها ودون طغيانها وجبروتها العشقي هذا؛ حيث منها وبها بدأت – وتبدأ دائماً – الانفجارات الجسدية والكونية الكبرى لتولد ملايين البراكين هنا وهناك وتبدأ السيول الجارفة الحارقة في رواء الوديان السحيقة العطشى وتبدأ البراعم بالتفتح وتكون الولادات؛ ولادة الرب والإنسان والحياة معاً.

 

تُحدِثنا كتب التاريخ؛ إنها (الأنثى) كانت الرب والإلهة قبل أن يطيح بها الذكر عن عرشها ليستولي على مكانها دون مكانتها لتبقى هي سيدة القلوب وملكتها ويبقى الرجل – الذكر عبداً خانعاً ذليلاً في محرابها المقدس، نعم.. هذا ما يذكرنا بها معابدها وتماثيلها التي عبدت وسجدت لها قديماً. أما كتب الشعر والعشق فما زالت تروي قصص وحكايات عشقها وأفروديتها وعن جمالها وخصوبتها التي أعطت الحياة معنى الوجود ومعنى المعنى. ولكن وبعد هذا التاريخ الطويل من حكايات الشعر والجمال والحب والأنثى، هل يمكن للشاعر أن يرمي بعدته وعتاده ويستريح مكتفياً بما دونه وسطره في تلك القواميس والدواوين، أما ما زال أمامه الكثير ليقدمه لهذا الكائن الملائكي مكفراً بذلك عن ذنوب وخطايا أجداده الذين أطاحوا بعرش الأنثى ومملكتها.

 

إن المجموعة التي بين أيدينا (أرواح تائهة) للشاعر الشاب (أحمد عثمان) هي محاولة أخرى على هذا الدرب؛ درب جلجلة الشائك والمدمي وذلك تكفيراً وابتهالاً؛ تكفيراً عن ذنوب الأجداد وابتهالاً وتقرباً لمحراب جسد الأنثى والعبادة لها وبها معاً حيث ينبوع الكينونة والوجود، الولادة والموت في الآن ذاته. وما يميز هذه المجموعة هي جرأتها و(وقاحتها) العارية ومن دون الرتوش وذلك بتطرقه لمواضيع العشق والجسد والإله الأنثى ونادراً الوطن وقضاياه وأعياده وأيديولوجياته. وقد نحى (أحمد عثمان) في التعبير عن خلجات وغليان الجسد دروب القدماء والمدارس الكلاسيكية من بحور وسجع وتنميقٍ في الكلام ولكن من دون أن يقلد أو يسطح مواضيعه، بل عرف كيف يزاوج بين جرأة الحداثة في المواضيع ورزانة الأسلوب الكلاسيكي، وهذا ما أضاف إلى مجموعته خصوصية أخرى. وإننا نورد المقطع الشعري التالي نموذجاً عن جرأته في تناول المواضيع، وإن لم يكن الأكثر شغباً وإثارةً في المجموعة.

 

اذكريني حينما أموت وحين أصلي

فربما في صلاتي إلى الله

تدركين ما معنى أنا

فتضاءُ يوماً عليَّ الشموع

لأبحث في ملامح وجهك حينها

عن محمد وعن يسوع

فتعثرين على روحي التائهة

وتحظى روحي بهذا القمر

أتراني نسيت أن أجعل من خصلاتك شهبا

تضيء عليَّ طريق آثامي

وتُؤنسُ سكْرتي وقت السحر

أتراني نسيت أن أجعل من عينيك معبدي

وأبني بجانب ثغرك مذبحا للرب

أتَمسَّحُ على عتباتها

 

جانبٌ آخر يتناوله الشاعر (أحمد عثمان) في مجموعته (أرواح تائهة) ألا وهو الإرث والمورث الثقافي الاجتماعي بما يتضمنه من عادات وأعراف اجتماعية قبلية والحكم على الأنثى بأنها (الضلع القاصر) وتكبيلها بقيد الشرف و(غشاء البكارة) وكأن الشرف لها وبها تفتقد ومن دون أن يكون للذكر نصيبٌ منها، والمقطع التالي يتناول الموضوع بتلك الجرأة المعهودة لدى جيل الشباب عامةً والمعروف عنها التمرد والثورة على كل القيم الأخلاقية (البائدة)، فها هو يكتب:

 

أرجوكَ قفْ مكانك لا تقتربْ

أخاف على ذاك الغشاء

أخاف على ذاك الذي من أجله أُنتهك

 .. أخاف إن اقتربت

أن ترقبني بعض العيون

 أتريد أن أغدوا أمامهم يوما

إنسانة فاجرة..

 

وهكذا فلا مفر من الاعتراف بالواقع والبيئة الموبؤة والمكبلة للطاقة الكامنة في الجسد والروح والمقيدة للحركة وحرية المعنى والوجود وبالتالي عليك العمل على السطح والقشور ودون الخوض في الأعماق الإنسانية، لكن روح الشاعر (قلمه – كلمته) والمعروفة عنها التمرد والثورة على كل ما هو غير إنساني ومكبلٌ لها تأبى أن ترضخ لهكذا واقع وشروطها وبالتالي تحاول أن تخترقها بفتح كوات تتسلل من خلالها ضوء الشمس والحرية.

 

وأخيراً بقي أن نقول أن الشاعر (أحمد عثمان) يضع وليده البكر بين يدي القارئ يهديه مشاعره وأحاسيسه ومعاناته؛ حيث معاناة الولادة هي الأقسى والألذ من بين كل ما يعانيه المرء خلال مسيرته الحياتية، وهو (الشاعر) لا يدعي أنه قدم الأفضل لكن يحق له أن يقول إنه قدم الصدق؛ صدق الكلمة والحب والمعاناة، ولا يطلب من القارئ إلا التعامل بود ودون حقد مسبق مع هذا الوليد الجديد.

 

جندريسه – 2007

21 / 4 / 2007

 

 

لوثة الكتابة

 

بير رستم

 

 لماذا الكتابة وما الحاجة إليها، ما هي الدوافع والمسوغات التي دفعت بالعقول الأولى إلى إيجاد هذا الاختراع المذهل والمدمر بنفس الوقت، ولما أضطر أولئك إلى لغة للتفاهم عبر أبجدية كتابية ولم يتم استعاضتها ببدائل أخرى وهم الذين أبدعوا الرسومات الأولى بل الرقصات الكهنوتية ليتم التعبير من خلال حركات الجسد، كما في رقص شرقي مجنون، عن مكنونات النفس ولواعج الفؤاد. عند تتبع الخط البياني لسيرورة التاريخ البشري سوف نكتشف بساطة الأشياء والحقائق وإن الإنسان ما زال يبحث عن إجابات لهذه الحقائق، بعد أن أولها وزاد من تعقيدها، وها هي واحدة من تلك الحقائق البسيطة والتي دفعت أول شاعر ليبدع أبجديته ويبوح بمكنونات قلبه لحبيبته ويصف لنا جمال ديارها.

الينابيع الأولى دائماً تكون نقية ومياهها لم تتلوث بعد ولكن وعندما نبتعد عن المنابع وتكون هناك عقود وعقود تفصلنا عن هذه الينابيع الأولى فإن الزمن كفيل بتحويل تلك الجداول الصافية إلى سيل جارف يحمل معه كل أوساخ الرغبة وهكذا هي في اللغة ولغة الحب أولها؛ فمع ارتكاب الخطيئة الأولى فقدت هذه اللغة عذريتها ونقاءها ودخلت دائرة الشهوة واللهاث بعد أن نسيت لون السماء الأزرق ومارست العري في حانات العربدة والمجون. لكن دائماً هناك جداول تدهشنا بنقائها وكأنها خارج السرب، تغريك أن تتعرى لتلامس نقائها روحك وهي تحتضنك وتحتضن أفكارك وأحلامك.

إن قراءة مجموعة "ذكريات من الثلج" تعيدنا إلى تلك الينابيع الأولى من حيث نقاء الروح والكلمة؛ فهي تطير بعيداً عن لهاث الجسد وتحاول أن تغوث في أعماق أبجدية الروح الأولى، دون أن تنسى إنها أسيرة الواقع والممكنات والزمن، وعندما تكتشف بأن كل محاولاتك هي للعبث فأنت مجبر أن تلجأ إلى الصمت والانزواء في عتمات الجسد بعد تعب الانتظار في محطات الخيبة؛ "وما أكثر المحطات والنساء" لتحمل صخرتك السيزيفية "كما حمله  سيزيف الهرم" وأنت تودع خريف العمر، فقدرك إنك شاعر وعليك أن تمشي إلى الحب وتعانقه كما يعانقك "الوقت.. في خطوط لوحة" ولا أن تصطدم به لتفتح بذلك "شرفة في الغيمة البعيدة" و"يسيل دم الحب.. في عروق الكلام".

وأعلم إنك سوف تكتب "للبنفسج.. قصيدة شوق وأحزان المدينة"، عن العشق "في لحظة الوداع" و "عن امرأة مزقت أوراق شعرك" وأنت على موعد مع رياح الشمال، لكن لن تستطيع "أن تسبق ظلك" حين تبدأ الشمس بسحب أذيالها لـ"تختفي وراء الأفق البعيد" ويبدأ الليل بـ"نثر سواده في شرفات الصمت" وتحمل من جديد أشعارك المبعثرة لـ"تعود إلى المنفى حيث ثورة الأشواق" واجترار الذكريات والخيبة وتنتقل من حالة لأخرى إلى أن يلف الجسد "رعشة الشتاء" وأنت في بحثك الأبدي عن صديقتك الصغيرة وأنت تبذر الحب والعشق دون أن تحصد إلا رياح الشمال، لتبقى "الملك المخلوع" على عرش لم تتوج يوماً عليه ولم يبقى لك إلا أن تركض "وراء نعش وحدتك" الأبدية "مبتور اليدين".  

  إنها "رحلة البنفسج" في بحثها عن "الخبز والحرية" والهوية المهتوكة على قارعة الطرقات، إنها رحلة البحث عن "سرير دافئ" وصدر حنون لتكون استراحة محارب نبيل، خرج من صفحات تاريخ القرون الوسطى، بعد أن أجهدته محاربة طواحين الهواء وملوك الظلام لكن ليجد أخيراً "كيف تغتال الفراشات" في "احتراق الصمت" حيث صمت القبور وصمت الآلهة فيغمغم في نفسه؛ "هل من نهاية لرحلة البنفسج" هذه. لكن لا إجابات، هناك أسئلة وأسئلة؛ الرفاق يسألون عن مزكين: "هل من عودة لها بعد الغياب!" دون أن يدركوا أنهم بسؤالهم هذا يثيرون "الغبار في الأفق" لكن الشاعر وحده يعلم؛ إنه حينما "تزهر المواعيد" على شفاه مزكين فسوف تعود من رحلتها الأخيرة.

فسطر أيها القلم عن "أسطورة الزيتون" و"أنفض عن جبينك غبار التعب" فلا مجد بعد مجد الحرية يذكر، ولكم أن تقيدوها "كما تقيدون العجائز والأطفال.. من معاصمهم" لكن عندما تزهر الزيتون "وتنضج السنابل على شفاههم" عندها فقط سوف ترون إن هذا القيد فد أصبح "مفتاح النهار" ولن نرثي حينئذ "أحلامنا الندية" بل ستبدأ "ثورة النساء" برواية ملحمتها في أسطورة الزيتون عن إنهدام جدران رجولتكم العفنة وأيام "جوع القحط الملعون" ولن ترتل سورة النساء عندما تكون على "موعد مع انبلاج الشمس.. والولادة".

لكن "ما تزال هناك بقايا أغنية.. على شفاهها"؛ إنها حالات، وهي وإن تمردت على الآلهة لكنها ستبقى أسيرة عشقها للعطاء في رعشة الروح وستلد من بين أناملها "نهنهات تحترق بوجل" لتسطر "ذكريات من الثلج" على محراب الجسد "في دهاليز المساء". وعندها سوف تنساب إليك كلمات أغنية روكا.. تحمل معها "رائحة الظلام" لتداعب "خطوط يديك" وأنت تحلم "أ ن تقطف الأنجم من.. شعرها، أن تقتل عويل الأبجدية على شفتيها والأهم.. أن تعدم جنونك في محراب عينيها، لتدفنه في المعبد المقدس.. لالش".

وستعود من رحلتك الأخيرة وأنت تركض حافي القدمين، "ملغياً شوارع المدينة لتمتص المسافات" إلى "نبع الحنان"؛ حيث الدفء والأمان ورائحة التنور و"خبز القمح" بعد تعب السنين وغدر الأيام ومحطات الخيبة في انتظار عودة الغائبين والمطرودين والمنفيين لتسأل من جديد: أماه "من سيحرث السماء بأنامله من بعده؟؟؟ من يمشط شعر طفلته..؟؟؟" بعد غيابه وتختنق الأجوبة في ضجيج "المدينة الحالمة" حيث لحظات الرعشة في أماسي الشتاء الباردة وأنت تنتظر بزوغ الشمس لتزيل الصدأ عن الروح.. وتولد من جديد في محراب "إنعتاق الأنثى" من القدر؛ حيث "زمن الصمت وتمردات.. الهذيان".

وأخيراً نقول؛ إن النص الجيد هو الذي يقدم لنا قراءات متعددة وبالتالي تأويلات متعددة، ونعتقد أن النص الذي بين يدين يحاول أن يطرق أكثر الممرات الوعرة، وهو أن يقدم نصاً جميلاً ودون تنميق لغوي أو ادعاءات ثقافية: كأن يحشو النص بكل جغرافية وتاريخ العالم بحيث يترنح النص تحت أسماء الآلهة والتاريخ الديني الأسطوري وفلسفته العقيمة للحياة والوجود. ففي هذا النص، يحاول الشاعر "جوان سرفراز" وحسب قراءتنا له أن يقدم لنا الفكرة والإحساس بأقل الطرق التواء ولكن دون أن يفقد نصه لذة الشعر و.. تبقى الكلمة الأخيرة لذوق المتلقي وثقافته وإحساسه بدور الكلمة.

بير رستم / جنديرس 4/4/2006

===============

 

حوار مع الكاتب الكردي

بـــــــــــير رســــــــــــــتم

 

*  حبذا في البداية لو تقدم نبذة عن حياتك الأدبية.

 

*  نعتقد بأن هناك أكثر من بداية في حياة أي كاتب وبالنسبة لنا هناك على الأقل بدايتان؛ الأولى عندما تعرفنا إلى المادة الأدبية وذلك من خلال التراث الشفهي وعن طريق المغنين والقصاصين الشعبيين، عندما كان الأهل يتسامرون حول النار في ليالي الشتاء وهناك من يقصص عليهم بعض الملاحم الشعبية مثل: ممه آلان Memê Alan؛ عيشه إيبه Eyşa Îbê، جبلي Cebelî  وغيرها الكثير.. ولا مجال هنا لذكرها كلها، فكانت هذه الملاحم تؤدى بطريقة غنائية تتخللها مقاطع نثرية. وبالإضافة إلى هذه الملاحم كانت هناك حكايات وقصص نثرية بحتة أمثال حكايات: علي الجبان Eliyê Tirsonek  وحكايات الغول Dêw وغيرها. هذه كانت البدايات الأولى في تعرفنا على الأدب وسوف تصقل هذه المعرفة بعد انتقالنا من القرية؛ شيخ جقلي والتي كانت فيها الينابيع الأولى، بقراءات متنوعة لأجناس أدبية مختلفة وأذكر جيداً تلك المكتبة المتواضعة في مدرستنا بناحية جنديرس حيث كنت من المداومين على استعارة الكتب منها، وما زلت أحتفظ بكتاب منها وأعتبرها نواة مكتبتي الحالية ويعود تاريخ تلك الواقعة إلى عام 1974 حيث كنت طالباً في الصف الرابع الإبتدائي، وبالإضافة إلى مكتبة المدرسة كان هناك مصدراً آخر لي كي ألتهم الكتب؛ ألا وهي كتب وزارة الثقافة في سورية حيث أن المركز الثقافي بحلب كان يرسل أسبوعياً أو كل خمسة عشرة يوماً مجموعة كتب لتستبدلها بأخرى، وكان يقوم بهذا العمل أحد المواطنين من البلدة وذلك بهدف تنويري. ولكن وبعد انتقالنا إلى مدينة حلب للدراسة في جامعتها ودخولنا ميدان العمل السياسي وذلك بالانضمام إلى إحدى الأحزاب السياسية الكردية، كانت القراءات الحقيقية بالنسبة لنا قد بدأت. هذه من حيث القراءات ونعتبرها أهم بداية في حياة أي مبدع، إن كان أديباً أو تشكيلياً أو.. رجل سياسة؛ فمن دون القراءة وبكثافة وحالة شبهة هستيرية لا يمكن للمرء، ومهما أوتي من "الموهبة" وخاصة في عصر التخصصات، أن يبدع جديداً.

أما من حيث الكتابة والنشر فإنها بداية أخرى وهي طريفة إلى حد ما؛ إنني أذكر جيداً ذلك اليوم وكأنني أعيشها الآن, فهناك محطات في حياة الإنسان لا يمكن أن ينساها أو يتجاوزها وكأن الزمن يعيش حالة عطالة عند تلك المحطات ومن هذه المحطات عندما تم تكليفي من قبل الحزب بأن أتابع وضع أحد الرفاق بحكم إنني كنت المسؤول الإداري في تلك الهيئة، والذين دخلوا معترك الحياة السياسية يعرفون هذه الآليات، المهم كان هذا الرفيق على علاقة غرامية مع صديقة للحزب وهذه العلاقات في تلك الأيام كانت تخضع لرقابة دقيقة من قبل الحزب..  وكان لقاءنا نحن الثلاثة في المدينة الجامعية، وحتى لا ندخل في التفاصيل فإنني كنت قد التقيت بصديقة رفيقي هذا عدة مرات من قبل وأعجبت بها وكانت هذه فرصة جيدة لأكون قريباً منها وأحاول أن ألمع شخصيتي في عيونها ولا أملك من مواصفات الرجولة غير لساني أو بشكل أدق ذخيرتي المعرفية، إن كانت تعتبر هذه من الذخائر وأيضاً من صفات الرجولة. وهذا ما كان بالفعل؛ حيث استطعت أن الفت انتباهها ولذلك وجهت لي العبارة التالية: "لما لا تستخدم هذه الذخيرة المعرفية وتوظفها في الكتابة". نعم وبكل بساطة هذه كانت البداية والدافعة الحقيقية لأن أكتب وبالتالي أكون في المكان غير المناسب، وأقول ذلك لأنني لو كنت أملك أي خصوصية بحيث تجعلني إنساناً مميزاً "سوبرمان" لما لجأت إلى الكتابة.

بقليل من التفصيل نستطيع أن نقول بأن هذه هي البدايات، إن كنا قد تجاوزناها. أما إذا كنت تقصد ما هي الأعمال التي أنجزناها إلى الآن، فأي متتبع للصحافة الورقية أو الألكترونية يستطيع أن يعرف ما هي نتاجاتنا وفي أي الحقول نكتب.

 

*  من خلال إطلاعي على مجموعاتك القصصية الأربعة تبين لي بأن المجموعة الأولى والثانية (فيها مواضيع جنسية أكثر).

 

*  ربما..  وهو شيء طبيعي؛ بالتأكيد الفنان ومن خلال إبداعه يعيش حالة وجدانية، هذا من جانب ومن الناحية الأخرى فإن قصص المجموعتين الأولى والثانية تعود إلى فترة تاريخية قريبة، أي ليس هناك زمن تاريخي بعيد بين القصة الأولى وآخر قصة من قصص المجموعة الثانية وهي تعود إلى ما بين أعوام 1987 و 1993 من القرن الماضي وفي هذه الفترة كنت في أوج مرحلة الرجولة، رجولة شرقية بكل ما تعنيه الكلمة. فمن ناحية فإن الجسد الفيزيولوجي بحاجة إلى متطلبات وتلبية رغبات غريزية وجنسية ومن الناحية الأخرى أنت تعيش في بيئة اجتماعية محافظة، ترى كل عفتها وشرفها في عذرية الأنثى وتهدر دم كل من يهتك محرماتها هذه، ولو استطعنا أن نحصي عدد الذين نحروا وقدموا قرابين الشرف الشرقي هذا، لوجدناهم يفوقون أي عدد آخر راحوا ضحايا العنف الديني أو الطائفي-الأيديولوجي أو الأثني والقبلي. إذاً ماذا تتوقع أن تكون جل اهتمامك وأنت تعيش في هكذا بيئة تحرمك من أهم رغبة غريزية على الإطلاق. أما المجموعتان الثالثة والرابعة فهي تعود إلى ما بعد زواجي ورضوخي لقوانين وصكوك الشرق ومع ذلك تجد فيهما مواضيع جنسية ولكن أقل جرأة على المجتمع وأعتقد إنه تم "تدجيني" في تلك المرحلة.

 

*  يقال عن إبداعات بـــــــير القصصية بأنها مأخوذة (الأكثرية) من الحياة والواقع المعاش.

 

*  لا نقول الأكثرية بل جميعها مأخوذة من الواقع ولو أن هناك بعض القصص لا ينطبق عليها حتى الخيال؛ وقد أتهمنا ولأكثر من مرة بأننا سرياليين ونكتب لأنفسنا فقط، ومع ذلك نقول كلها. لأنني "مؤمن" بأن لا شيء يأتي من العدم ولا شيء يذهب إلى العدم, الطاقة لا تفنى وإنما تتحول إلى أشكال وأنواع أخرى من الطاقة، هذا هو مبدأ و سر الحياة وديمومته؛ بما معناه لا تأتي بما هو غير موجود وخارج الحياة ومع ذلك هناك إبداع مستمر على آلاف المواضيع التي كتبت عنها وما زالوا يكتبونها، فالمواضيع التي نبحث فيها وإن كانت كثيرة فهي معدودة ويمكن إحصاؤها ولا يمكن لأي كائن من كان أن يبدع مواضيع إنسانية جديدة ولكن طرق وأشكال وأساليب تناول هذه المواضيع هي التي تتغير مع الظروف والمناخات الجديدة ومع والوعي والإدراك البشري وهنا يكمن الإبداع والتجديد. بكلمة أخرى نستطيع أن نقول بأن الإبداع هو الشكل والأسلوب وتناول المبدع لمواضيعه.

 

*  إن نظرة عامة للقصص (عند بــــــير) نرى بأن أكثرية المواضيع تعالج جوانب من الحياة الاجتماعية في الريف، قلما نرى المدينة، هل برأيك أنه من المفروض أن يبدأ الإصلاح من الريف.

 

 لا نعتقد ذلك، بل ومن خلال قراءتنا للتاريخ القديم والمعاصر فإن جل الحركات الإصلاحية تتبلور في المدن وذلك لعوامل عدة تتعلق بالنواحي المادية والثقافية-السياسية لسنا بصددها، ولكن عندما تجد كثرة المواضيع والتي تعالج جوانب من الحياة والمجتمع الريفي لدينا؛ فبكل بساطة لأنني أبن الريف وأحمل ذاكرة ريفية غنية بالمواضيع، فلقد ولدت في الريف وكانت الينابيع الأولى ومن المعترف به، بل من بديهيات علم السلوك والنفس لدى البشر؛ بأن السنوات الخمس الأولى هي الحاسمة في رسم الشخصية المستقبلية للإنسان وكون المبدع يتناول مواضيعه من ذاكرته وبيئته فإن جل مواضيعي ستكون من وعن الحياة الريفية ومعاناتها.

 

*  ما نظرتك لواقع الكتابة الأدبية الكردية ؟

 

*  إذا كان السومريين والفراعنة يتنافسون على من أوجد الأبجدية والكتابة أولا،ً بحيث يرجعونها إلى الألف الرابع قبل الميلاد، فنحن الكرد ما زلنا نفتقد إلى تلك الأبجدية الأولى والواحدة والتي تعطينا مساحة جيوبوليتيكية أكثر عمقاً لتكون هناك رئات؛ من رئة، متعددة تؤمن للمبدع أجواء حقيقية لأن يتنفس هواءً نقياً وبعيداً عن غرف الإنعاش. نعم ويا للأسف فإننا ما زلنا نفتقد إلى المكونات الأساسية في الحياة الثقافية ناهيك عن مشاكلنا في تعدد اللهجات وإن كانت في جوانب منها عامل غنى وتنوع وأيضاً الاختلافات حول القواعد اللغوية ومسألة القواميس وغيرها العديد من المعيقات والمشاكل.

ولكن وعلى الرغم من هذه المأساة والتي أصبحت لها عتي من الدهر، فعندما ننظر إلى الخارطة الإبداعية وأهرامات الكتابة ندرك كم هو الإنسان بكائن جبار، فهو يتكبر على جراحه ومآسيه وينهض كالعنقاء من الرماد، وهذه واحدة من خاصية الكائنات الحية وإلا لما كانت حية واندثرت مثل الماموت والديناصورات. فالكرد مثل غيره كباقي شعوب العالم يبحث لنفسه عن موطأ قدم على هذه الكرة المزدحمة بالحقد والكراهية والحروب الطاحنة بين البشر وعلى أتفه الأسباب والمواضيع؛ "هل وصل ذنب الكلب أم لم يصل" وكلها تدور في هذا الفلك وأكثرها لا ترتقي عليها بل دونها من التفاهات.

قلنا ونؤكد أنه وعلى الرغم من هذه الظروف والمعيقات ومن خلال نظرة موضوعية للخارطة الأدبية في عموم بلادنا يتبين لنا بأن الحياة الأدبية والفنية تعيش حالة نهضوية وتريد حرق المراحل وهو شيء طبيعي حسب قراءتنا لسيرورة التاريخ؛ فلكي لا يفوت قطار الزمن الكرد –على الرغم إنها ومنذ أزمنة غابرة قد غادرت المحطة وتركتنا بأفواه مفتوحة على الدهشة، قد أنسج العنكبوت بيوت الموت على ضفتيها- ولكن وعلى الرغم من إدراك الفنان الكردي لهذه الحقيقة اللاذعة، فإنه يحاول جهده أن يلحق هذا القطار اللعين ومن دون أن يقع تحت عجلاتها التي لا ترحم أحداً.

 

*  إن الانتقال بين المجالات الكتابية الأدبية، هل لها تأثير إيجابي أم سلبي لواقع الأدب الكردي بشكل خاص وألا ترى بأن هذا الانتقال يؤدي إلى الفوضى في الكتابة.

 

*   بحكم الكم الهائل من المعلومات ومن أجل اكثر مهارة ودقة وفي جميع ميادين الحياة لاحظنا التخصص وفي عصرنا هناك تخصص التخصص؛ أي أصبحت هناك التخصص في أدق التفاصيل والجزئيات فهل الأدب يحتاج إلى هذا وهل يمكن أن نشهد تقسيمات أخرى في ميدان العمل الأدبي، أي بما معناه هل يمكن أن نشاهد أجناس أدبية جديدة كالقصة القصيرة جدا "الأقصوصة" أو أي تسمية أخرى يمكن أن نتفق عليها وغيرها من أجناس لم نعرفها بعد. شخصياً لا أستبعد شيء وهذه واحدة من سنن الكون؛ ألا وهو التجديد وإلا لما كان هناك شيء أسمه الإبداع والخلق.

أما عن الجوانب السلبية والإيجابية عند هذه الحالة أو تلك فلا يمكن أن نعطي صفة الإطلاق؛ فلا شيء في الكون تحمل هذه الخاصية بأنه إيجابي على الإطلاق أو سلبي بشكل نهائي، أي أنه لا إله ولا إبليس. ولكن هناك النسبية وهنا يكمن بيت القصيد؛ فهل هذا الانتقال بين الأجناس الأدبية تخدم الحالة الثقافية الكردية أم تشكل عبأ إضافي يضاف إلى جملة العوامل الكابحة لتطور وتقدم الحركة الثقافية والسياسية . إننا نعتقد وإن كانت لها جوانب سلبية عديدة؛ بحيث يتشتت الكاتب الكردي بين عدة أجناس أدبية ولا يمكن عندها أن يبدع في كلها أو سيكون على حساب التقنية الإبداعية، فإنه والحالة الكردية ومسائل التخلف وانتشار الأمية وخاصة الأمية بلغة الأم كون الكتابة بغيرها لا تدخل في حيز وبوتقة الأدب الكردي، وأيضاً عدم التخصص المعرفي-الأكاديمي وخاصة في الحقول التي هي أقرب إلى العلم منها إلى الأدب كالفلسفة والنقد وغيرها، من قبل معظم إن لم نقل جميع من يعمل في حقل الأدب والثقافة الكردية، وبالإضافة إلى هذا وذاك، كون المكتبة الكردية فقيرة إلى درجة الرعب فهذه كلها عوامل ضغط إجبارية تدفع بالكاتب الكردي أن يتنقل بين العديد من الأجناس وهي بالتأكيد تخلق نوع من الفوضى وليس على المستوى المعرفي-الدلالي فقط، وإنما على المستوى الوجداني والنفسي للكاتب الكردي.

 

*  نرى مؤخراً عند بـــــير رســـــــــتم الانتقال من كتابة القصة إلى الرواية والآن المقالات والدراسات السياسية والدينية، فهل كانت كتابة القصة سبيل الانتقال إلى الدراسات والأبحاث أم إلى.. الرواية.

 

*  لا أخفيك عندما أقول إنني كنت وما زلت أحب وأهاب الرواية وإن أكثر ما يسعدني عندما أعرف كروائي وعندها سأكون قد أنجزت مرحلة متقدمة من مشروعي الثقافي، مع العلم وإلى الآن لم أنجز إلا عملاً روائياً يتيماً ينشر على أحد المواقع الكردية، على الرغم من أن كتابتها أو كتابة معظم فصولها تعود إلى أكثر من عشر سنوات. والآن لي قراءات عدة وعلى محاور متباينة بهدف البدء بمشاريع روائية مستقبلية، نعم.. إنني أعتبر كل ما كتبته إلى الآن ومن ضمنها عملي الروائي اليتيم ذاك الذي أشرت إليه قبل قليل بمثابة تمرين على الكتابة، لكي أعرف كيف أكتب رواية حقيقية.

 

*  الأنترنت هي إحدى الوسائط الأحدث في الاتصال الوظيفي بين المفكرين والكتاب في العالم، وللمواقع الكردية حصة في هذا المجال، ما رأيك بالمواقع الكردية على الأنترنت.

 

*  هي صحافة اليوم ولأول مرة يواكب الكرد العالم في مسألة ما؛ فإن عدنا إلى تاريخ الصحافة الورقية ومن خلال مقارنة تواريخ انطلاقها نلاحظ إننا نتأخر عن الشعوب العربية بحوالي مائة سنة ناهيك عند الشعوب الأوربية. ومهما يكن هناك ملاحظات وسلبيات في مسائل الإدارة أو المادة المنشورة على هذه الصفحات فإننا نعتقد بأن هؤلاء الذين انبروا للقيام بهذا العمل؛ إدارة مواقع أنترنيتية، وأكثرهم يعتمد على ميزانيته الخاصة وعلى حساب راحته الشخصية، فإنهم يؤدون دور "الرسل" في إيصال الكلمة إلى العالم. والمواقع الكردية تحديدا لها دور مهم في هذا المجال؛  ومن جهة أخرى، فإنها ألغت هذه الحدود التي تمنع أن تتواصل مع الشطر الآخر من البيت الكردي، بالإضافة إلى تواصلك مع كرد الشتات، مما جعلتنا حقيقة نعيش في قرية واحدة وبلد واحد؛ فأنا اليوم أتواصل مع مجموعة كبيرة من الكتاب الكرد عن طريق هذه المواقع، ولولاها لما عرفت العديد منهم وما اطلعت على نتاجاتهم أو على الأقل كنت أحتاج إلى فترة أكثر بعدا لأقرأ لهم، مما يؤثر سلباً على نقل المعلومة العلمية-الثقافية، وبالتالي تجعل حركة تقدم التاريخ أكثر بطئاً. ولذلك نلاحظ اليوم بأن التطور وفي جميع المجالات تسير بوتائر أسرع وسوف تتسارع أكثر كلما استطعنا أن نمتلك معرفة أكثر عمقاً بالتقانة الحديثة وهو ما سينعكس إيجاباً على كل الشعوب والدول وفي كافة المجالات ومنها الأدب والثقافة الكردية.

أجرى الحوار: تموز شمالي 15/10/2005

=====================

 

قريباً من الرد، بعيداً عن التشنج

 

                                                                            بير رستم

                                                     pirustem@scs-net.org 

     

 بداية لا بد من أن نشكر الأخ والصديق هوشنك أوسي على ذاك الجهد الذي بذله في محاولته "قراءة" بحثنا المعنون Çanda Tirsê û Imperetoriya Xwînê ، ومهما كانت هناك تباينات واختلافات في وجهات النظر وزوايا الرؤية فإنه لا يمنعنا من أن نتحاور بهدوء لعل أن نتفق على بعض الأسس والبديهيات والتي بدونها، ضمن سياق تاريخي-معرفي، لا يمكن أن نتواصل وأن نبني عليها رؤية معرفية-نقدية. ومن أولويات هذه الأسس وذلك عندما نود أن نقترب بموضوعية من نص ما لدراسته وتفكيكه وإعادة تركيبه بهدف الوصول إلى حقول دلالاته، أن يكون دارس النص قد تعمق في قراءته للمواضيع المتداخلة مع النص، ناهيك عن قراءاته العديدة للنص الذي يود أن يفككه.

كان لا بد من هذه التقدمة لكي نوضح للقارئ بأن الصديق هوشنك قد وقع في جملة أخطاء في تعليقه على أمسيتنا الدمشقية والتي نشرها في موقع عفرين-نت تحت عنوان "Pir RUSTEM بعيداً عن القصة، في أمسية ثقافية كردية دمشقية". بداية نود أن نوضح للقارئ إننا نتحمل جزءاً من المسؤولية في هذه الإشكالية وذلك عندما اكتفينا بشرح دراستنا ببعض الجمل الشفهية ودون قراءته أو إرساله إلى اللجنة المشرفة على تلك الأمسيات، وبالتالي كي يتسنى لهم أن يتم نسخها وتوزيعها على الذين يودون حضور الأمسية بأن يتطلعوا عليها ومن ثم مناقشة المواضيع المطروحة فيها بشكل أكثر عمقاً. ولكن وإن كانت هذه الملاحظة مقبولة وكمأخذ علينا من قبل الحضور في الأمسية فإنها لا تبرر للأخ هوشنك أن يكتفي بالأمسية فقط عندما يريد أن يعلق على الدراسة مجملة دون الاكتفاء بالأمسية فقط وذلك لكونها منشورة في أكثر من موقع وكان عليه أن يعود إليه وقراءته ومن ثم بناء أحكامه.

بعد هذا التوضيح نعود إلى تعليق السيد هوشنك. هو يذكر على لسان الأخ جمال ملا محمود بأن المحاضر قد وقع في مغالطات تاريخية " من حيث المعلومة والتعامل مع الفرضيات أو القراءات المختلفة للتاريخ_ حسب ورودها في بعض المصادر_ على أنها يقينيات ومسلمات". ومن ثم يضيف "أن آراء الأستاذ المحاضر في الدعوة لنبذ العنف بهذا الشكل المفرط، تناقض منطق العلم والتاريخ والحضارات التي تأسست على الكثير من الحروب وويلاتها. كما ذكر : بأنه_أي الأستاذ جمال_ لم يستطع أن يعرف ماذا يود أن يقول الباحث من خلال بحثه هذا؟!".

أولاً: كنا نود من العزيزين أن يشيرا بالاسم إلى تلك المغالطات، لا أن يكتفيا بالمفاهيم العامة ولهم الوقت والزمن الكافي أن يعودا إلى بحثنا المنشور وسنكون ممتنين لهم عندما ينبهانا إلى تلك المغالطات التاريخية, أما كون تلك الوقائع قد ورد عند هذا المذهب أو هذا الدارس للتاريخ دون ذاك فهذه مسألة أخرى وهي موضع جدل ودرس ولا يستطيع أحد أن يجزم بصحة رأيه دون الآخر.

ثانياً: مسألة كون التاريخ البشري قد تأسس على الحروب فهذا صحيح، أما أن نقول أنه هذا هو منطق العلم والتاريخ فهذا بغير صحيح بل الأصح أنه منطق الجبابرة والطغاة وهذا المنطق مرفوض تماماً ومدان من قبلنا، وهذا ما نود أن نوصله للقارئ من خلال سردنا الطويل لمجمل تلك الأعمال الوحشية والتي وصلت في كثير من الأحيان إلى حد الإبادة الجماعية بحق المجموعات البشرية والأديان والمذاهب الأخرى.     

هذا ما يذكره على لسان الأخ جمال، أما ما يتعلق بشخصه الكريم فإنه يوضحها من خلال مداخلته والتي يقوله هو بأنها كانت طويلة ولن نقول بأنها كانت مملة واستعراضية أكثر من كونها موضوعية وعلمية، ولنرجع إلى مداخلته ومن ثم نبدي آرائنا وأحكامنا وذلك قبل أن نطلق الأحكام جزافاً وبالتالي لا نقع في أخطاء غيرنا ونحاكمهم على ذلك ونكون قد سرنا على منهجهم.

وها نحنا نحيل القارئ الكريم إلى مداخلته " وقد كان لي أيضاً مداخلة طويلة، من ضمنها :" أشكر الأستاذ بير رستم على تلبيته لدعوة الأمسية وتحمله لعناء السفر. وعلى الجهد الذي بذله لإعداد هذه المحاضرة.
أولاً، ما أتمناه من الأستاذ رستم أن يعود للقصة، إن كان تعاطيه مع البحث التاريخي العملي بهذا الشكل. فما قدمه يمكن ان يكون شيء آخر، إلا أنه ليس ببحث، وسأذكر لماذا ليس هو ببحث لاحقاً.
ثانياً، لو كان أفلاطون بيننا هنا الآن، لنصَّب الأستاذ رستم رئيساً أبدياً لجمهوريته، لم يتمتع به من اليوتوبيا الجملية التي فاقت يوتوبيا أفلاطون. ومن نزعة مسالة فاقت نزعة غاندي ودعاة اللاعنف. فيمكنك أن توظِّف هذه العواطف الجيَّاشة والنبيلة الحالمة في قصيدة أو قصة أو رواية. لكن، أثناء إجراءك لبحث فكري علمي تاريخي، ينبغي أن تضع العواطف والأحاسيس جانباً. وتكون عقلانياً إلى أقصى حد يمكنك، لأنك تتعاطى مع موضوعة فكرية علمية نقدياً، تستوجب عليك القيام بمحاكمات عقلية لها وعليها. ولا تحتاج إلى دفقة من المشاعر والعواطف الإنسانية، التي تشكر عليها.
أما لماذا ما قدمه الأستاذ ليس ببحث؟. فلجملة من الأسباب، لعل أهماها.
1- الجزء الأول من العنوان "ثقافة الخوف و....." له مدلول فكري سياسي اجتماعي نفسي، يصلح لأن يكون عنواناً لبحث. أما الجزء الثاني، "...و إمبراطورية الدم" فهذا الجزء له معزى أدبي مجازي، يصلح لأن يكون عنوان مقالة أو قصيدة أو قصة أو رواية أو خاطرة...الخ.
2- وفق العنوان الذي اختاره الباحث لبحثه، ينبغي أن يكون بحثه متوقفا على دراسة وتحليل النص القرآني والحديث النبوي، كونهما المصدرين الرئيسين للدين الإسلامي. لا أن يورد لنا كيف عُيّن أبو بكر خلفية للرسول محمد في سقفية بن ساعدة. وكيف قتل الخوارج علي. وكيف قتل الحسن مسموماً. وكيف قتل الحسين في موقعة كربلاء. وكيف كان يقتل خلفاء بني أمية وبني العباس...الخ؟!.
3- على صعيد توارد الأحداث، كان هنالك ثمة عشوائية في في السرد. حيث بدأ بالحديث عن الخلفاء الراشدين، ثم انتقل لطريقة المعتصم العباسي في تصفية خصومه، ثم عاد لحادثة مقتل عثمان بن عفان، ثم لمقتل الحسين في كربلاء، ثم لموقعة صفين، والمفاوضات بين علي ومعاوية، ثم أسلوب أبو جعفر المنصور في القتل، وهكذا دواليك.
4- على الصعيد المعلومة، كانت هنالك بعض المعلومات الخاطئة أو المشكوك في صحتها، كمحاولة النبي إبراهيم لذبح ولده "إسحاق" كما ذكره الكاتب، واعتمد هنا على التوراة، او العهد القديم للإنجيل. وكان عليه أن يكون مصدره إسلامي كالقرآن وكتب التفاسير، بحيث يذكر إسماعيل لا إسحاق.
وأعتقد أن ما قدمه الأستاذ بير، لم يحتوي على الجديد من المعلومة، أو الجديد في المعالجة، كما فعل الكاتب والمفكر والسياسي العراقي حسن العلوي مؤخَّراً، بتعاطيه مع شخصية عمر بن الخطاب المنبوذة لدى الشيعة، عندما أطلق ما سماه " القنبلة الشيعية" والتي هي عبارة عن كتاب بعنوان "الفتوح السوفيانية" الذي يعطي فيه صورة ورؤية شيعية جديدة لعمر بن الخطاب، تغاير، وبل تعاكس وتناقض ما اعتادت عليه، وتوارثته أجيال الشيعية من 1400 عام وحتى الآن.
وأشاطر الأستاذ جمال أن الأستاذ المحاضر، حبذا لو كان عنوان محاضرته: بعض صور العنف أو مظاهر العنف في الإسلام. أو ما شبه ذلك، بدلاً من العنوان الحالي. لأن النحاضرة في واد وعنوانها في واد آخر. وأكرر شكري له مرة أخرى".   

بداية نلاحظ تلك اللغة الخطابية والوعظية على طريقة أهل السنة والجماعة وذلك عندما ينصحنا أن نعود إلى كتابة القصة وأن ندع البحث والدراسة جانباً وقد بين الرجل أو حاول أن يوضح طلبه ذاك لاحقاً، وهذه تؤخذ عليه، فمن بديهيات الدرس والتحليل أن تقوم بتفكيك وتحليل الموضوع المطروح للدراسة ومن ثم تقوم ببناءه وبناء الأحكام والآراء على ضوء ذلك، لا أن تطلق الأحكام ومن ثم تحاول أن تبرر تلك الأحكام بقراءات غير دقيقة وصحيحة. فهو يقول "ما قدمه يمكن ان يكون شيء آخر، إلا أنه ليس ببحث، وسأذكر لماذا ليس هو ببحث لاحقاً."

أما ما يتعلق بمسألة العواطف والمشاعر الجياشة أعتقد إنها مسائل سيكولوجية ولم أوظفها في بحثي الذي هو قيد الجدل والدرس ولكنني لا ألومك كونك اعتمدت على ما قيل شفاهة على لساننا في الأمسية وقد أتت نتيجة اللحظة الانفعالية ولم تكلف خاطرك لتعود إلى البحث وتبذل القليل من الجهد وأنت الذي تعيب الآخرين على هكذا نقيصة, وبذلك كنت تفاديت هكذا أخطاء.

والآن لنبحث في "المبررات والبراهين" التي يقدمها السيد هوشنك في "إثباته" كون دراستنا ليس ببحث. هو يبدأ من العنوان ويدعي إن الجزء الثاني "إمبراطورية الدم" لا تصلح أن تكون عنواناً إلا لرواية أو قصة وليس لبحث فكري كونها ذو مغزى أدبي مجازي. نحن نتفق معه أن العنوان هو إلا حد ما حامل للمدلول ولكن وبالتأكيد ليس سبباً أو مبرراً أو حجة على البحث والباحث ولكي نطلق الأحكام على هذه المادة أو تلك بأنها دراسة أو ليس كونها كذلك من خلال العنوان, هذا من جانب, أما الجانب الآخر من ملاحظتنا, إنه ينسى السياق الدلالي والتاريخي والسيكولوجي لما يوحي به العنوان "ثقافة الخوف وإمبراطورية الدم" من تاريخ موغل بالعنف والعنف المضاد وما رافقهما من المجازر وأكوام الجماجم وجبناً أوصل مجتمعاتنا إلى ما نحن عليه من سلبية وتقوقع داخل محاجرنا.

الملاحظة الثانية من تعليق السيد هوشنك بعيد كل البعد عن الفهم الموضوعي للدراسة ونحن لا نلومه على ذلك لعدة أسباب وأهمها كونه أعتمد على ما قيل في الأمسية ولم يكلف خاطره عناء البحث في الدراسة ومطالعتها وأيضاً عدم قدرته على القراءة الموضوعية والهادئة كونه مسلوب بفكرة النقد والإنتقاص من عمل الآخرين وإلا ليس من معنى لكلامه عندما يطالبنا بالعودة إلى القرآن والأحاديث ونحن نبحث في تاريخ العنف الإسلامي والمجازر التي ارتكبت بحق الآخرين تحت شعار الإسلام هو دين الحق وكل الأديان والشعائر الأخرى باطلة؛ وذلك عندما أطلق نداء "جاء الحق وزهق الباطل".

ملاحظته الثالثة ليست بأفضل من الثانية وذلك عندما يأخذ علينا إننا لم نتخذ خيط التاريخ في سرد الأحداث والوقائع وذلك دون العلم وإلمامه من إننا أتبعنا أي منهج في البحث والدراسة ولن نطيل بالشرح المستفيض على القارئ وإنما نحيله هو والسيد هوشنك إلى البحث ومن ثم فليحكما. أما الملاحظة الرابعة وليست الأخيرة فإنها تعطينا صورة واضحة وحقيقية عن ضحالة في فهم التاريخ ومصادر ومرجعيات المعلومة التاريخية. فهو يأخذ علينا إننا اعتمدنا العهد القديم ولم نعتمد القرآن في قصة إبراهيم والأضاحي ولذلك ينسب إلينا إننا اعتمدنا على المعلومة الخاطئة وهو ينطلق في هذه المسألة من خلفية دينية، مسلمة بحتة؛ كونه يعتبر قصة القرآن هي الصادقة وبالتالي كان يجب علينا أن نأخذ اسم إسماعيل وليس اسحق مثلما اعتمدنا في دراستنا على العهد القديم والذي هو أحد المصادر الأساسية لكل من العهد الجديد والقرآن، وبالتالي على أي باحث موضوعي أن يعود إلى الأصل وليس الفروع. أما إذا كان يعتبر أن العهد القديم قد بدل من قبل اليهود والقرآن حفظ من التبديل والتغيير، وذلك على مبدأ المسلمين فهذا شأنه ولا يستطيع أن يلزم الآخرين على اعتناق مبادئه وقناعاته إلا من خلال امبراطورية جديدة وها هم أصدقاءه من المجموعات التكفيرية يحاولون ذلك في العراق وغيرها.

أما ما يتعلق بمسألة رأيه بأننا لم نقدم بجديد، فإذا كان يقصد من وراء ذلك إننا لم نقدم بجديد في ما يتعلق بالمعلومة التاريخية فهذا صحيح كون أن التاريخ قد دون بهذه الوقائع والأحداث التي بين أيدينا وليس من اختصاصنا ولا تقع ضمن مجال دراستنا أن نعيد كتابة التاريخ كي نقدم الجديد للسيد هوشنك أوسي، أما إذا كان الأمر يتعلق بمفهوم التحليل والرؤية والنقد، فنعتقد بأنه لو لم نقدم الجديد لما كلف السيد هوشنك خاطره عناء هذا الدفاع المجاني عن الإسلام والمسلمين من حيث يدري أو لا يدري. وأخيراً وليس آخراً أرجو أن لا يكلف خاطره بتوجيه النصح للآخرين على طريقة الأئمة والقادة السياسيون الأكراد أن نفعل كذا ونتجنب ذاك، فكفانا وزارة واحدة في التربية والإرشاد الثقافي.

 

ملاحظة أخيرة: كانت هناك بعض الأخطاء في تعليق السيد هوشنك أوسي ولم نقم بتصحيحه لكي نحافظ عليه وننقله للقارئ كما هو دون مس أو تغيير.

                
  

 

====================

 

حوار مع القاص والكاتب بير رستم

        pirrustem@amude.com   

 

 

 

نبذة عن حياة الكاتب :

 ولد بير رستم عام 1963 في قرية حدودية ؛ شيخ جقلي إحدى قرى منطقة عفرين وأمضى سنوات طفولته الأولى هناك إلى أن انتقل مع أسرته  إلى ناحية جنديرس حيث درس في مدارسها المراحل الثلاث الأولى إلى أن  نال شهادة البكالوريا حيث انتقل إلى مدينة حلب ليكمل دراسته العليا في جامعتها فرع الهندسة الميكانيكية ولكن وقبل أن ينهي دراسته الأكاديمية وفي السنة الرابعة ونتيجة جملة عوامل وظروف يترك الدراسة في الجامعة ليعود إلى بلدته جنديرس حيث ما زال يقيم فيها .

بدء القاص بير رستم حياته الأدبية مثل أغلبية كتابنا مع لغة وثقافة الآخر المهيمن ولكن دون أن ينشر شيئ من كتاباته تلك ، وقد ترجم العديد من تلك القصص إلى لغته الأم وتم نشرها . وقد نشرت أولى محاولاته القصصية في مجلة إستير{ St.r } وكان ذلك عام 1990 . ومن ثم كانت رحلته مع الأدب والصحافة الكردية ، والى جانب قصصه قد نشر العديد من المقالات والدراسات الفكرية و السياسية في مجموعة من الجرائد والمجلات منها : زانين، آسو ، آزاديا ولات ، برس ، زيانا روشن ، آرمانج ، به نوس ... الخ . وله إلى الآن ثلاث مجموعات قصصية مطبوعة :

1-   العصافير المجهضة(~iv,k.n Berav.t,) ، منشورات آسو 1992 بيروت .

2-   العنكبوت  (Pilindir)، منشورات آسو 1993 بيروت .

3-   النحات  (P/tvan)،منشورات مرخ 1998 بيروت .

4-   الماء الثقيل (Tîrav ) منشورات سبيره ز 2000 دهوك.

وروايته ( طفولة مرآت وأشياء أخرى Zarotiya Neynikekê û tiştin din ) بالإضافة إلى كتاب آخر يضم مجموعة من مقالاته ودراساته تحت عنوان ( دوائر وكلمات Cerg û Gotin ) تحت الطبع.

 

 

 

  *   كيف تشعر انك بصدد كتابة إبداعية وأنت تقرأ كتابا" ما ؟

·     عندما تضيف جديدا" إلى مخزوني الثقافي أولا" وأخيرا" . وبالتأكيد لا ننسى مسألة   المتعة }اللذة{ 

وإن كانت المعرفة – وفي إحدى جوانبها – بحد ذاتها ممارسة لفعل اللذة . وبالتالي الكتابة الإبداعية تتلون وتختلف من قارئ إلى آخر, فالمتلقي هو صاحب القرار هنا  وبإختلاف المناخات الثقافية والسويات المعرفية ومسألة التذوق تتدرج الكتابة الواحدة بين الإبداع والاتباع، على الرغم من بعض "  الشروط " الضرورية للنص كفعل إبداعي .

                 

                *   من خلال قراءتي لبعض قصصك استنتجت أسلوبا" سهلا" في بعض الأحيان وأسلوبا" غامضا" رمزيا" أحيانا" أخرى وفي جميع الحالات فأنت تعبر عن حالات إنسانية عميقة، ترى ما رأيك بالأسلوب ؟

·        إذا جاز لنا أن نأتي بكلمة ترادف الإبداع ، أعتقد إننا لن نجد بديلاً أفضل من الأسلوب . هل هذه مغالاة من جانبنا على طريقة الشكلانيين الروس ابتداءً وانتهاءً بآخر المدارس الحداثوية وما بعد الحداثة ، ربما ولكن ورغم هذه المغالاة فإن التاريخ الأدبي والنقدي يبرهن المرة تلوى الأخرى بأن الموضوع الواحد يتدرج باختلاف الأساليب بين نص إبداعي وآخر إنشائي .

                      أما مسألة تعدد الأساليب بين السهل والغامض الرمزي ، فهي تعود بنظري للأسلوب كما أسلفت، وبأنه مرادف للإبداع . والإبداع لا يعرف الثبات والاستقرار فهي حالة خلق متجددة مع كل فعل إبداعي جديد ولذلك تتعدد الأساليب وتختلف من نص إلى آخر بحكم التجريب والتجديد . أما مسألة التعبير عن الحالة الإنسانية فهي تعود إلى مواقفنا وآرائنا  وإنتماءاتنا بكل تلاوينها من أثنية ودينية وإجتماعية ..الخ . وتعاطفنا مع الأخر أو مع حالة إنسانية ما، تحمل من الدلالات على عمق إرتباطنا بتلك الحالة ونصيبنا من الألم والمعاناة والمشاركة .

 

·    الهاجس الفني ... إلى أي حد يؤثر عليك وأنت تشرع في كتابة قصة جديدة ؟

·     أعتقد أنه لولا الهاجس الفني لما وجدنا نصوصاً جميلة ومعبرة . هو صحيح أن موضوع القص ، الدراما لها دور كبير في الإرتقاء بالنص ولكن تبقى للناحية الفنية الجمالية دورها المتميز في التعبير عن الحالة والتواصل مع الآخر – المتلقي . فكما يقال ، مهما كانت القضية عادلة فإن محامياً فاشلاً يخسرك قضيتك ، إذاً تبقى للكلمة وإستنطاقها ومدلولاتها وطرائق تعبيرها الدور الأكبر في الكشف والتفجير .

 

 *   الحلم والواقع عنصران من أهم عناصر الكتابة بشكل عام وفي القصة بشكل خاص فأيهما الأوفر حظاً ضمن إهتماماتك وأنت تكتب ؟

·     لا أعتقد أن هناك كبير فرق بين الحلم والواقع  لأفكر في هذه المسألة وأحدد أيهما أوفر حظاً في كتاباتي ، وهنا أستطيع أن أقول إنني أحسدك على هذه اليقينيات الثنائية ، على الرغم من إعترافي بدورها في حياتنا ، فالأشياء عندي تتماهى وتتداخل بحيث تفقد حدودها ولا تبقى لدي القدرة على التمييز بينها . كنت ولا زلت أعتقد بأن ما يسمى بالواقع والحياة الواقعية ليس إلا حلماً من أحلام أحدنا وفي اللحظة التي يستفيق فيه هذا الأحد من سباته العميق سوف يتلاشى ذاك الحلم والواقع والوجود برمته .

                 ولذلك تجدين في كتاباتي هذا التماهي والتداخل، بحيث إنك لا تعرف هل أنت أمام حالة واقعية أم إنك تعيش " أضغاث أحلام " .

 

·    التفاعل مع البيئة يعني وحياً دائماً للكتابة ودافعاً قوياً لها .. . هل تتفق معي فيما ذهبت إليه ؟

·     سؤالكي يشبه إلى حد بعيد تلك الفخاخ والتي كنا ننصبها لعصافير القطا والدراج ، وذلك قبل أن تغتال السنوات تلك الطفولة الشيطانية . فأنت أيضاً تموهين جيداً ما تريدين أن تنصبيه للآخر بما يشبه تلك الفخاخ . فإن كنت تقصدين من وراء ذلك التفاعل إن المبدع ينهل موضوعاته من الطبيعة وبشكل آلي – فوتوغرافي فهذا ما لا أتفق وإياك .

               أما إن كنت تقصدين أن الطبيعة بغناه المادي والروحي هي إحدى أهم المصادر والشروط في خلق وتكوين الإنسان ، فهذا مما لا شك فيه ، وليس عبثاً يقال : أن الإنسان ابن بيئته ومناخه . الطبيعة من هذا الجانب شرط ومناخ ثقافي، بل فعل ثقافي متجدد بحد ذاته، ولكن تحتاج إلى عين دقيقة لتضع اللوحة في إطارها التاريخي – الإبداعي .

 

  *   تناغم الحياة الروحية والوجدانية والذاتية والاجتماعية للكاتب ، هل ينتج برأيك كتابة ملبية لحاجات الإنسان بشكل كامل ؟

·     لا بالتأكيد . ربما الشرط السابق يوفر للإنسان حياة هادئة ولكن الإبداع يحتاج إلى فعل تحريضي –  توتري أكثر مما يحتاج إلى ذاك التناغم ، وعلى هذا الأساس أعتقد إنه يمكن أن ندعي أن تلك الحياة يمكن أن تكون نتيجة وليس سبباً للفعل الإبداعي ، فهي في إحدى جوانبها تشبه وإلى حد بعيد الفردوس الإلهي . والحياة الحقيقية –  وهي الشرط الضروري للخلق والإبداع – بعيدة كل البعد عن مفهومنا للفردوس .

                  

·    قصة الومضة  ..  ماذا تقول فيها ؟

·     هي فتح عدسة الكاميرا وإغلاقها خلال ثواني  .. . هي قبلة ولكنها لن تكون الفعل الجنسي ، ربما تتحقق من خلالها بعض المتعة ولكنها بالتأكيد تخلو من حياة كاملة حقيقية ، فالحياة ليست تلك القبلة السريعة والتي توقظ في العاشقين نوع من اللذة والهيجان المشوشتين ، وإذا توقفت العلاقة بين الحبيبين عند تلك الحدود فلن يكون هناك أي مخاض، وأيضاً لن يعرفا معنى الحقد والكراهية والدموع  ؛ وعدم معرفتك للجانب الأسود من الوجود ستفقدك بالتأكيد، ليس معنى الوجود فحسب، بل الوجود ذاته .

 

                    *   يقال أن عصرنا عصر الرواية الشعرية ، وأنت تتجه نحو الرواية في منتوجك الأدبي ، ترى ما هي نسبة الشعرية أو النفس الشعري فيها ؟

·     أعتقد أن سؤالك من بقايا الماضي والذي بقي معلقاً في ذاكرتنا مع ما تبقى من القرون الماضية؛ ففي عصر وزمن هيمنة الكومبيوتر والستلايت والأنترنيت لن يقبل منا أحد أن نقول: بأن عصرنا عصر الرواية .

                 أما مسألة توجهي إلى الرواية فهذه كانت ولا زالت حلماً يراودني أن أكون كاتباً روائياً على الرغم من اشتغالي في مجل القصة القصيرة والبحث والدراسة . فأنا أجد نفسي بل أكون أكثر سعادة وفرحاً عندما أعمل على الرواية وهناك أكثر من مشروع روائي بدأت به ولم أنجز إلا واحدة منها وهي قيد الطبع . وسوف أترك مسألة الشعرية في منتوجي للآخر ، ولن أكون ناقداً وخاصةً لأعمالي ، ولكن  سأعلق   فقط   على    مفهوم   المصطلح  - الشعرية أو النفس الشعري - . أعتقد إننا شعب قد شب على التقليد، وهذه واحدة بل السبب الأهم في مسألة تخلفنا، وخوفنا من الخلق والتجدد وما مسألة الدعوة إلى الإتباع ونعت أصحاب الإبداع بالزندقة إلا نتيجة لهذه البنية الفكرية الدينية .

               سوف أعود إلى مسألة الشعرية ، صحيح إنني قلت لست ناقداً ولكن أستطيع أن أدعي أن الواحد منا ، وبعد أن يجتهد الآخر في مجال من المجالات ويحدد أطرها وأنظمتها حسب مقاييسه ومناخاته ، يأتي ويقع فريسة هذه الأطر والمصطلحات ، ويبقى هذا الواحد خائفاً إلى درجة الرعب والموت من محاولة الخروج أو التمرد على هذه النظريات . وقضية الشعرية أو الفنية – وبرأي هذه الأخيرة هي الأصح – شرط ضروري بل بدونها لا يكون العمل الأدبي – الفني إبداعاً وخلقاً ، فمنذ الرسوم الأولى على جدران الكهوف مروراً بتماثيل عشتار الأم والإلهة إلى آخر المدارس حداثة ، إن لم تتوفر فيها الفنية لن يكون هناك نتاج فني – إبداعي أصلاً .

 

·    ما رأيك بالرواية الكردية ، وما هي الشروط الموضوعية لكتابة الرواية الكردية الناجحة ؟

·     إن كنا نعني بالرواية الكردية تلك التي تكتب باللغة الكردية، أعتقد أنه لازال الوقت مبكراً  للحديث فيها، على الرغم أنه في السنوات الأخيرة بدأت تطل علينا بعض المحاولات الروائية . ولكن لم تتوفر بعد الشروط الموضوعية لهذا الجنس الأدبي عندنا نحن الأكراد ، على الرغم أن الثورة التقنية – الإتصالاتية قد حدت كثيراً ، إن لم نقل ألغت ، من مسألة ضرورة وجود كيان سياسي – مدني مستقل كشرط تاريخي وحضاري لبلورة هوية وثقافة شعب ما وأصبحنا حقيقة نعيش فيما يعرف بالقرية الكونية .

. بمعنى آخر ، أن الإنسان الأوربي لم يعد قارئاً كسولاً أمام كتاب أو صحيفة بل هو يشارك وعبر خطوط البريد الإلكتروني والإنترنيت في تكوين وتشكيل لوحة ثقافة وطنه ومن ثم ثقافة العالم عبر حواره مع الآخر .

               لذلك أكثر مما أخاف منه هو أن نبقى دون تحقيق شيء في هذا الحقل الأدبي – طبعاً هذه ليست استثناء في حياتنا - ، إلا إذا تغيرت جملة عوامل وأسباب ودخلنا مع شعوب الأرض قاطبة عصر التواصل التقني والمعلوماتي . ولكن ، وللأسف ، قراءة الواقع يدل على إننا ما زلنا بعيدون عن معطيات العصر ومواكبته ، فما زلت جاهلاً أمام تقنية مثل الكومبيوتر ناهيك عن العامل الذي يركض ليل نهار وراء رغيف الخبز المر ولم أقل " الخبز الحافي " ، وأعتقد أن هناك كثيرون لا يدركون الفرق بين الإثنين ، فالجائع لا يهمه كثيراً ولا قليلاً مسألة الثقافة .

 

 

                                                                                                      حاورته : آخين ولات

*****************************

 

كم أنت ثقيل أيها الحزن*

 

   هل يمكن أن نحس بآلام الآخرين ونكتب عنها كما هي آلامنا ، هل يمكن للمرء أن يترجم دمعة طفل وهي تنحدر على خده إلى حروف وجمل وهل يمكن لنا أن نرسم مرارة وحزن أم فجعت بولدها وبكرها وهل .. . أسئلة كثيرة وهي تسبح في فضاءات الحزن دون أجوبة ، وأعتقد إنه من الصعب ، بل المستحيل ، الإجابة على هذه الأسئلة قبل أن نكون متأكدين بأن الآخر كم هو قريباً منا وإلينا ، وكم نكون قد اكتوينا بنار تلك الجروح والدموع . فلا يمكن للمرء أن يكون ، على الأقل ، صادقاً إن لم نقل مبدعاً في كتابته عن تجربة – أي تجربة كانت – إن لم يعشها شخصياً .

   جاء مبكراً ورحل مبكراً ، هكذا عرفته وهكذا أتذكره . عندما أتاني للمرة الأولى برفقة زميل وصديق له ، نديم يوسف ، حاول أن يقول الكثير- الكثير من خلال صمته وبريق عينيه وهو يقرأ ملامح المكان . لقد فاجئني ثقافته وتواضعه في آنٍ معاً رغم سنوات عمره المتواضعة ، وعرفت عندئذٍ أنه قد اتخذ من الأدب "سلاحاً قبل أن يتخذها مهنة وحرفة" ، ولكن كان يريد أن يعرف كيف يستخدم "سلاحه" بحنكة ودون ضجيجٍ وشعاراتٍ جوفاء .

   رحيله المبكر وبتلك الطريقة التراجيدية ، قد خلف وراءه الكثير من اللامعقولية ، لامعقولية "القدر" ، ولامعقولية الفعل والكون ،  وأيضا ً وحشية وهمجية الطبيعة وبرودتها تجاه الآخر وفي تعاملها مع المشاعر والأحاسيس . وعندما أتاني خبر نعيه حاولت أن أستمع إلى الكلمات وأرسم معانيها ولكنها كانت تفر مني وتحل محلها صورة ذاك الشاب الذي أتاني بزيارات متفرقة ليجبرني على أن أحبه وقد كنت سعيداً بذاك الحب والصداقة معه .

   إن المرء خلال حياته والمحطات التي يمر بها يلتقي بالكثير الكثير من الآخرين ، يستمر مع بعضهم ويفقد آخرين وينسى الكثيرين منهم . إلا أن هناك من يترك آثاراً عميقة في حياتك وذاكرتك ، إن استمروا بعلاقتهم معك أو برحيلهم عنك . وقد كان الراحل محمد بلال يوسف أحد هؤلاء الذين يخلفون تلك الآثار ، وليس على الصعيد الشخصي فقط وإنما برحيله نكون قد خسرنا وخسرت الثقافة الكردية أحد أبنائها وهو في بداية عطاءه ومشواره الإبداعي .

 

(*)  في رثاء الصديق الشاعر محمد بلال يوسف.

 

بير رستم 5/4/2004

*****************************

 

هوامش للبوح و الكتابة

(( بير رستم ))

 

   عندما طلب مني أن أكتب مقدمة لهذه النصوص ترددت طويلاً في القيام بهذه المهمة، فأنا واحد من الذين يكرهون المقدمات، ونادراً ما أقرأ مقدمة كتاب. وكنت وما زلت أحس أنها زائدة وتحاول أن تصادر من الكتاب والكاتب حرية التعبير، بل أكثر المقدمات وكتابها يحاولون أن يكونوا أوصياء وشيوخ كار يزكون هذا أو ذاك، وفي أكثر الأحيان دون أن يكونوا هم "مقتنعين" بما يكتبون. فهل بكتابتي لهذه الهوامش أرتكب فعل الخيانة مع أن الخيانة في هذا الزمن الأعوج أصبحت أمراً طبيعياً؟!. وبالمناسبة لا أعتقد بأن الزمن كان مستقيماً في يوم من الأيام.

 قلت أرتكب خيانة، وذلك لأمرين، الأول: كما أسلفت، أما الأخر: فإنني لست من عاشقي الشعر وقد أعلنت وفي أكثر من مناسبة، أنني لا أحب الشعر، فهل بكتابتنا عن أشياء لا نحبها ـ وما أكثرها ـ نرتكب فعل الخيانة؟ فإن كانت فلتكن خيانة بيضاء، رغم شكوكي في بياض الخيانات.

 لهذا وذاك لن أحاول أن أقدم أو أنظر للكتاب وأكون أحد الذين يصادرون حق القارئ في التعرف على الينابيع الأولى بأنفسهم، ولن أكون "مرشداً ودليلاً أدبياً" لأقودهم في أزقة وأنفاق متن الكتاب، وسأحاول أن أحترمه وأحترم فيه وعيه وثقافته، عندما ألغي هذه الوساطة بينه وبين هذه النصوص التي بين يديه، ولسبب آخر، كوني لست من فرسان هذا الحقل ولا حتى من رجالاته. فما هذه الأسطر إلا هوامش للبوح.

أسراب النوارس تهاجر البحر لتنتحر على الشاطئ، أفلا يحق للبحر أن يسأل: إلى متى تبقى نوارسنا على الشاطئ تموت جوعاً وتشرداً، وهل جففت من الأسماك ليكون النورس في الشاطئ جائعاً، وإلى متى هذا النزيف الإنساني، ألا يكفي البشرية أن دماء الأجداد قد انتصبت أعواد مشانق للتاريخ المغتصب ولدمعات ليلى الأخيرة؟!.

نعم إنه القيد، فأنت سجين قفصك من الحب إلى التمرد وحتى تمردك أسير الأقفاص ومحكوم عليك باللاوصول "فننهض بوجه ظالميها كأسد في قفص" وأنت تنتقل في قفصك بين مسارح السيرك والسياسة لتقوم بألعابك البهلوانية بين سخريات وضحكات ملوك المدينة المتحجرة. ومع أن كل المدن متحجرة؛ الأبنية من حجر وأرصفتها من حجر، أشجارها وينابيعها من حجر وحتى ناسها من حجر، مع كل هذا المد الحجري في المدينة، عندما يقول الشاعر "أيتها المدينة المتحجرة" فهو يصدمنا وفي الوقت نفسه يشعرنا بأن هناك خطأً ما، فنستدرك تماماً ويهيمن على أرواحنا السؤال التالي: لم المدينة متحجرة؟ وهل ـ تحجر المدينة ـ نابع من قروية عمر المصدومة بحجرية المدينة أم نابع من تجربة غنية بين أحجار المدينة المتحجرة؟.

وبعد السؤال: أيكون الرحيل أم الثورة؟ ولكن أليس الرحيل عنها هو شكل من أشكال الثورة عليها؟! فها هو يرحل بعد أن يعلن عليها الثورة، على المدينة التي تأكل وليدها تاركة غدرها يأكل غدره لتنتصر الهزيمة. هذه الثنائية المتناقضة ـ انتصار الهزيمة ـ توحي بأجوائها اللاهوتية بين قوتي الخير والشر وسرياليتها وإمتداداتها بين الأزل والأزل لتوصلنا إلى العماء الأزلي.. . إلى "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله".

فهذا العماء المائي على امتداد جغرافية النصوص هو عودة إلى بدء الأشياء والأماكن والتكوين والخلق، والبحر هو الآخر امتداد له، بل "الموجة تكحل جثتي المترامية على الشاطئ"، وما هذه الجدلية بين الموت والبحر، الله والبحر، أهي ترمز وتؤسس لتناقض آخر وبذلك تعمق المأساة الشرقية؛ والكل يعلم عطاءات البحر، أم هي إمعان في تعميم حالة الموت في أوسع وأعمق بؤر الحياة والخلود / البحر/.

و لجبران مخلوقات نورانية، فمن خلال قصيدة "سلمى كرامة" يبوح لنا الشاعر صمته ورحلته بين المجهول والمجهول و "الصمت قد أفاق الصمت في داخلي" و هاهو يحاول أن يحلق بعيداً عن الغرق في أوحال / اليومي/ ولكن هناك سلمى "أسطورة هذا القلب الجريح" والتي تشده إلى مادتها الترابية الوحلية على ضفاف الخابور والفرات، فينحني كما "الوردة تنحني للمطر" ويتكور إلى داخله إلى أن يجد نفسه صامتاً كشلال هادر يأكل نفسه في هروبه ونفيه إلى عوالمه وأفكاره ونتساءل معه: هل هو "انتحار أمام محراب عينيها" أم إعادة السيوف إلى أغمادها، أم الخوف من الجميل والجمال؛ "لا أطلب قربك يا جميلة لأنك جميلة". ولكي يتخلص من "عذابات الحب" يلجأ إلى قبرها وقبر نفسه ويقبر معها أحلام وطن بات لا يعرف من ألوان قوس قزح غير اللون الأسود.

هذا السفر عبر السؤال والشوارع المجهولة و "جدارات الفراق" هل أوصله إلى أجوبة ملغومة أم "تلاعبت به رياح الأقدار"، وكان قبضاً على السراب. إنه التيه والضياع والبعثرة في الأنين والصراخ، والصمت عناوين ومحطات سفر لهذا التشتت واللامعقول؛ إنها "فردوس من التيه"، مازوشية اللامنتمي في حضارة البترودولار "الروح تتلذذ بالعذاب والألم". ولكن، ورغم ذلك، هناك نقاط وعي وإدراك في هذا التماهي فهو يصرخ وبعقلانية باردة ليوقظنا على حقيقتنا؛ بأننا جزر متفردة ومعزولة في عماء حضارتنا الجديدة، "أمضي لا شيئ يمضي معي، أقف كل الأشياء تمضي" وهنا أتساءل: هل حقاً هناك جرائم فوضوية وأخرى منظمة، أم هي عبثية الكلمة ـ المصطلح؛ فالجريمة إما أن تكون جريمة أو لا جريمة. وهل الجريمة سمة العصر ـ عصرنا و عصر غيرنا ـ، إننا نترك الأجوبة لأطفال ديرسم، دير ياسين، قانا، حلبجة، مذابح الأرمن والهولوكوست.. . القائمة طويلة طول مقام عشتار، أكان محكوم على بني آدم أن يقتل قايين أخاه ليروي بدمه رمال القفار. لقد بدأت "الروح تتفتت تحت أقدام النسيان" وأحقاً هو نسيان أم "تاريخ أرجل ملطخة" و "همجية الخطوات" تحت ظل آلاف الآلهة وهم راكعون للقمر.

و السفر في جغرافية المكان هو "رحلة الصقيع من عفرين إلى عامودا"، من الشمال إلى الشمال، إنه التيه بين منفى ومنفى والبحث عن الهوية وعن قلب تائه.. . بين سواد الغيوم عن نافذة للخلاص والروح، عن حرية مهتوكة تبوح بأسرار الخريف والزيتون.

و في قصيدة / حفنة من محاولات النسيان / يعود بذاكرتنا ـ كما هو الحال في أكثر قصائده ـ إلى الماضي حيث يتكئ على الأسطورة ورموزها ومدلولاتها. ففي هذه القصيدة يحاول أن يحاكم تاريخ وحضارة الرجل من خلال ذاته "لأنفذ بحق ذاتي حكم الإعدام"، فهو ـ الرجل ـ الذي جعل جرح "أم الهول" عميقاً نافذاً إلى القلب، لتكون ضحية ذكورته ـ حضارته. إنها "إماتة" التي جعلها الإسكندر قرباناً له على منبر فحولته وهو "يمضي مثل جلجامش بحثاً عن خلود صلواته في معبد نهديها". بل وهو يطل من "شرفة الجرح الأخضر.. على تاريخ ملغوم بالضحايا" و "القرنفل الموجوع النازف.. ".

أفلا يحق بعد هذا أن نقع، أحياناً، ضحية للإيديولوجيا كـ"وقوع" سيزيف تحت عبء صخرته. "أمضي في المعراج صعوداً في جبال حبك، حاملاً ـ كسيزيف ـ صخرة من نيران الكادحين" إنها لعنة الإيديولوجية وهي تلاحق الكردي في حله وترحاله؛ محكومون ومتهمون بالهم السياسي، فهل هو الآخر قدر ملعون أم "نبيذ في حضرة الجرح والموت"، أم / سمفونية رجل حامل / و "هل يحمل الرجل طفلاً في بطنه؟". ربما، ولكن أعتقد أنه طفل مؤود، حتى نتخلص من صراخه الدائم بأن حياتنا "منقادة خلف الموت" والشاعر يحاول أن "يوقظنا من رقادنا الطويل"، من سكرتنا بالورود الذابلة. والقصيدة تتماهى مع قصة الصديق القاص عبد الحليم يوسف والتي بعنوان "الرجل الحامل" ضمن مجموعته التي تحمل نفس العنوان.

هذا الموات المتماهي والمنتشر في كل الاتجاهات ومن الوريد إلى الوريد، "أبحث في أعماقي / عن تابوت الحياة" أهو العبث أم البحث عن الكفن لنكفن بها "ظنون النهاية". إذاً أين يكمن الخلود، هل في الحب؛ "الحب سيبقى كما الله باق"، ولكن هل الله باق، ألم يسرق هو الآخر منا بعد رحيل الأنبياء، وتركونا نصرخ مع نيتشيه "مات الله".

و للوطن ذكريات وتاريخ من رماد، ورائحة الدخان تحجب الشمس عن وجهها الميدي، ويمضي الزمن في طريق الخيانة ويتفجر السؤال: أ "وطن بلا شعب" أم "شعب بلا وطن" أم "سراب صحراءٍ من خيال" لكي "تبعث فينا روح الموتى" وتتسع دائرة السؤال لنسأل مع عمر: أيكمن الخلاص والانفلات من هذا الزمان الدائري واللحاق ـ بالرقم ـ الذي يليه "بأن نمتطي صخرة الحب"، أم "نلتف بالعباءة السوداء" وننام مع النمل دهوراً أخرى. فهناك من "دعا إلى الحق تسعة قرون" وقرود "دون أن يصدقه أحد".

أننمذج هذا المثال ونكفي البلاد والعباد شرور لوثتنا بالطفولة ونحن نصرخ ملء أشداقنا بأن الملك عارً وعارٌ. ففي زمن "الحب خدعة والحرب هزيمة" هل "ستصمد الشمعة بوجه الريح". أشك في ذلك و هاهي الانتصارات والفتوحات تتوالى على الجسد الأنثوي وهم يتسلون بحفر خنادق جديدة. فلا "انتصار إلا للأنذال" وأنت طفل على أبواب الحانات و "أرصفة الحزن" و "اليد مبتورة"، فلم يبقى لك إلا أن تبحث عن رغيف خبز جاف أو "عصفورة ميتة منذ الربيع".

و يبقى السؤال الأهم: "إلى أين المصير.. ؟". سؤال عريض، وهل تكفي حياة واحدة للإجابة عليه أم نحتاج حيوات أخرى. فمنذ عذرية الأساطير وابن آدم يبحث عن إجابة ومن ثم يعلن انتحاره، ولكن "الدروب تتسكع" أمام سكره، وكلما حاول أن يرافق واحدة منها تنفتح على الهاوية وخيانات الأحلام وهي تعاشر رجالات القبيلة، الساهرين على أقبية النور وكوات الظلام، بعلنية عاهرة. وصحيح أن "النور لا ينام" ولكن هو الآخر أصبح من تابعي ـ تابعي الملك، الذي وقف منادياً في أتباعه: فإن كنا سلبناكم النور فـ "إنا أعطيناكم الكوثر و.. جناناً" من رماد.

ولا يبقى إلا أن أقول هذا و.. . كنت قد قلت في البدء: إنني لن أقدم الكاتب أو الكتاب. و ها إنني خنت، وأخون العهد وأقول: إن عمر. ل. حسن شاعر حزين من دون ضجيج، وحتى ضجيجه هادئ، بل أحياناً يكون صامتاً. فبعد رحيل " لورا" لم يعد يهمه إن كان "وردة ذابلة في حقيبة" أو "جواز سفر ٍ مؤقت" أم "شاعراً حزيناً". ولا مفر فالساعة قد دقت ونسيت الأشياء أن لها ذاكرة من ماء، وذاك "الإله القابع في سفن الانتظار" نسي أن الموانئ قد هاجرت تاركة خلفها مصابيح باردة، تفتش بين "أوراق الأمس" عن معنى "التشتت والضياع"، عن التيه و "جفون الحرمان". عن "أناهيتا" ومعاركها الخاسرة والعشاق الخائنين ـ الخائبين؛ تاركين، وحدها، على قارعة الحدود والملوك وتجار الخيبة، لتصارع هي الأخرى ذاك التيه "وتبحث للمرة الألف" عن.. هوية. 

بير رستم

pirustem@scs-net.org

1/2/2004

العودة إلى الصفحة السابقة