همسات مملكة البراءة

للكاتب مروان بركات

 

ـ همسات مملكة البراءة

ـ قصص

ـ مروان بركات

ـ الطبعة الأولى 2006

ـ صورة الغلاف من متحف الفن العالمي الرمزي

ـ صدر عن دار عبد المنعم ـ ناشرون

ـ جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

ـ موافقة وزارة الإعلام رقم 3096 تاريخ 6/11/2005 وتأشيرة اتحاد الكتاب العرب رقم 792 تاريخ 15/10 / 2005

 

 دار عبد المنعم ـ ناشرون

مؤسسة ثقافية تعنى بنشر الأدب والفكر والعلوم العربية والعالمية

سورية ـ حلب ـ شارع القوتلي ـ ص.ب:6567 ـ تلفاكس 2114512

  تقديـم :

 

من واقع محكوم بالموت ، إلى خيال يعلو فوق كل الوقائع المعاشة في رسم يفوق أشكال الموت المعلن عنها ..

حلم الطفل الذي ما يزال يركض بحثاً عن حقيبة مدرسته التي نسيها في احدى الزوايا ، ليجد بدلاً منها شبح الموت يترصد به ، وحيث أنه لم ينتبه إلى أن هذا هو شبح الموت ، حاول أن يلاعبه ، أن يداعبه .. إنه لا يتحرك لعباً إنه ديجور الموت الذي يخطف الطفولة والأحلام .. لم يرحم حتى طفولة لا تعرف عنه شيء ، عن اجرامه عن لونه الأسود .

 حلبجة – تل الزعتر – بادينان – روابي آغري صبرا – شاتيلا – مذابح الأرمن – مذابح عرفتها كل الشوارع والعواصم  لم يتنسى للتاريخ أن يسميها ..

في هذه المجموعة القصصة يسجل مروان بركات في سجل التاريخ القصصي جريمة عرفها أطفال حلبجة بأرواحهم وأجسادهم وبيوتهم ومدارسهم، عرفوها كما يعرف الطفل الحلم سيحكيها لنا عبر أرواح هؤلاء الأطفال .. كما سيحكيها لكل طفل في الأيام القادمة في كل العالم .

إن هذا النوع من الأدب لا يقال بالمعنى الإقليمي بل يقال بالمعنى العالمي لكل جريمة تقع على أي إنسان في العالم .

الناشر


 إلى الأرواح البريئة التي لم تجد من البشرية إلا ظلمها وعسفها

 توطئة :  

 هذه أصوات بريئة تنطلق من مملكة الأموات لتحدثنا عن الأحلام الصغيرة والأفكار الرقيقة التي كانت تدور في أروقة مخيلة الطفولة حينما داهمتها اليد الظالمة لتطفئ فيها جذوة النور ... وتقطف منها ألق الطفولة وتبتر الأحلام الواهية التي قضّت مضاجعهم , وأرهبت كياناتهم .

قليل من همسات أطفال حلبجة , يهمسون في آذاننا ما كانوا يحلمون به وما كانوا ينتظرونه قبل أن يداهمه أشباح الموت أيام 16- 17- 18 آذار 1988 .

 ==== 

أعظم الذنوب على الإطلاق ..

قتل الأبرياء ..

وعداوة البراءة

الرضيع

 نهضت الأم بسرعة , ساقتها غريزتها إلى غرفة طفلها , لم تر آنئذ إلا بسمة طفلها الرضيع , ولم تسمع من هدير الطائرات وضجيج الناس إلا أنغام طفلها حين يلمس ثديها .

عاشت من الحياة عمراً , فما وجدته إلا مختزلاً في أيام طفلها , ولمست عبر أيامها أنواعاً من السعادة اندمجت كلها في سعادتها بطفلها .

ورأت صنوفاً من الشقاء والمكابدة تلاشت جميعاً في دموع الطفل .

حين بدأ يصرخ أولى صرخاته , كانت نفحة جديدة من نفحات الحياة ترفُّ في أرجاء الغرفة , وهل ميلاد الطفل إلا صورة مصغرة من ميلاد البشرية تتجدد كل حين وهل الطفل إلا أريج البراءة تنضج به أنغام ضحكاته لتطرد عن الكبار هالات الحقد والشر تمركزت حول قلوبهم .

وهل هو إلا تجديد لصورة البشرية علّها تخرج في هذا الطفل ناصعة , نظيفة من أدرانها المعهودة .

وإذا كانت الحياة لا تكتمل إلا بالتجديد , فإن الطفل هذا قد جدد في حياة أمه ما جدد . فالأنثى من النساء لا تكتمل معاني أنوثتها إلا بالولد , والرجل حين يبحث عن معاني الخلود فهو لا يجدها إلا بالولد .

قالت الأم تخاطب طفلها : سأرضعك حليبي, وألفك بحناني وعطفي , وأغسلك بدموعي وأحفظك في قلبي , وأرقب نموك لحظة تلو لحظة , لأراك تحبو , ثم تتلكأ , ثم تمشي فتهرول فتخب , فيملأ ضجيجك أرجاء الدار, فأفرح بك فرح العبقري بإبداعه الناجح .

ولفّ الأب طفله بين ذراعيه , ولثمه من خده, ثم نظر فيه نظرة احتوت الكثير من المعاني , وكأن لسان حاله يقول :

متى تكبر أيها الرضيع فأرى فيك نفسي التي تربيك فأجدك جمعت من العلم والخلق والذكاء والجمال ما عجزتُ عن جمعه , وأجدك قد صنعتَ ما عجزتُ عن صنعه , فتكون أنت بصنيعك إكمال الأنا بصنيعي .

كان الطفل حينئذ يبحث عن أمه , يعرفها من بين نساء الأرض أجمعين , ولو كانت شوهاء .. أصوات قوية أيقظته من غفوته الهادئة . أرعبه ضجيج الكبار فراح يصرخ.

وانتبهت الأم لصراخه قبل أن تنتبه لصراخ الموت , وحاولت جاهدة أن تصل إليه وحاول الموت بلا جهد أن يصل إليها . سقطت على عتبة الباب .. وعيونها تبحث عن طفلها الرضيع .. كانت لحظات حاسمة وسريعة .. وظالمة .. لم تسمع لهذه الأم أن تلق ولو نظرة على طفلها .. لكنها سمعت آخر ما سمعت بكاء طفلها . فكان أعذب الأصوات يهدهد روحها وهي تفيض .

أما طفلها , فربما كان يعجب كيف هان بكاؤه على أمه فتأخرت عنه هكذا .

بكى ثم بكى , وهو يحاول أن يوقظ أمه من بين الأموات .

بحث بفمه الصغير عن الأثداء البعيدة , عن الأذرع الحنونة عن الشعر الناعم يلامس عنقه

ظل يبحث لفترة حسبها طويلة .

لكنها كانت أقصر بكثير مما يحتاجه السم الزعاف كي يقضي على جسم طفل بض .

                                                                 16 / 3 / 2001

========

شهيدة .. ابنة شهيد .. من مدينة شهيدة ..

إنها فيان

التي تلفظت أنفاسها الأخيرة .. في أحضان حلبجة .

فيـان

 كانت الدنيا أبخل من أن تهبني لقمة أسدّ بها رمقي .

وكان الجوع أظلم من أن ينظر إليّ كطفلة .. تستحق الحياة .

وكان الموت أسرع من الجميع .

رأيت بعدها صوراً شتى .. صورة أبي المعلقة على جدران الأحزان , في الغرفة المظلمة التي ملأتها أمي بعبراتها .

رأيت أبي من بعيد , معلقاً سلاحه بكتفه , يبتسم ابتسامته المعهودة التي غابت عني مذ كنت في الثالثة . سمعت الناس يتحدثون عن أبي من قائل يقول : إنه شهيد كردستان.

وآخر يقول : إنه قاتل حتى آخر نفحة من نفحات حياته , ويرد كهلٌ : إنه كان أشجع من الموت .

قلت للجميع : إن أبي أحب كردستان أكثر مني .

تبرز صورة أمي كئيبة , هزيلة , مليئة بالدموع . ومليئة بمعاني الشقاء .

تعود أمي إلى البيت بعد عناء طويل , تحضر لي ولأخي شيار فتاتاً من الخبز وبقايا من طعام الناس نأكل بشهية . نستسيغ كل طعام , وتبقى عيوننا عالقة بقطع الحلوى في أيدي الأولاد .

كل ذلك كان جميلاً في أحضان حلبجة الدافئة, أرى من حولي ثلاثة رموز : أمي الحنونة .. أستدفئ بعبراتها , أخي شيار بيده القوية يشدني من كل زلل ويبعد عني الأذى ومدينتنا الدافئة في الربيع .. الدنيا التي نعيشها أو العالم الذي لا تجتازه أحلامنا الصغيرة .

صور كثيرة تتحطم على صخور الموت .. تلفظ أمي أنفاسها الأخيرة . ترنو إلى شيار وتقول : لا بد أن تكبر يا شيار وتقاتل أعداء الطفولة , ثم تدير وجهها إليّ وتقول : فيان.. لا بد أن تصبحي ممرضة في المشفى التي سنبنيها قريباً .

ثم ابتعد صوتها .. اختفى بين ملايين الأصوات , عندما ضجت الدنيا ضجيجها , وعبثاً حاولنا جذبها من الهاوية . بقيت هناك بين آلاف الجثث .

أما أنا فشدتني يد أخي شيار .. من جديد .. ونقلتني بعيداً عن الضجيج .

فتحت عيناي على الدنيا , وجدتها تأخذ مني أمي وليس لي في هذه الدنيا إلا أخي شيار قلت له : شيار كيف سنعيش في هذا الجبل ؟

أجابني : سوف أبحث عن الطعام والشراب.. وأجلبهما لك كل يوم .

تحطمت كل الصور .. تدافعت أشباح مخيفة. القصف الذي نهش أجساد الأطفال وأخذ مني أمي . الجبل الوعر الموحش . الليل المظلم المخيف , البرد والجوع والعطش تمر أيام قاسية , نلجأ إلى كهف صغير . يتركني أخي شيار ليذهب باحثاً عن طعام وشراب. ثم يعود بشيء من الأعشاب البرية . تأكل أحشائي حين آكلها ثم , تعافها نفسي فأرغب في الجوع عنها , ثم .. تأكل أحشائي بعضها بعضاً .

تنهمر دموعي باردة , خاوية من بريقها .

ويحتار شيار في أمري يجدني أسقط بلا حراك , يتمدد جسدي على تراب الكهف ويميل رأسي صوب بوابته المنيرة .

يخرج شيار يبحث عن أي شيء ينقذني ويسد رمقي .

كانت الأضواء النافذة من بوابة الكهف هي كل الأمل الباقي , وكل الروح ينفذ إلى قلبي أرى به أمي الحبيبة تمد يدها القوية لتجذب لي من الدنيا طعاماً وتبقي على ضحكتي .

أرى به أمي الأخرى حلبجة تحتضنني برفق وتضمني إلى مئات الأطفال مثلي . وتقول للعالم إن هؤلاء الأطفال هم الإشعاع الصاعد من صميم الحياة ليصنع النور ويصنع السرور والأمل

رأيت من خلال الأضواء النافذة . شيئاً أشهى من الحلوى , مددت يدي إليه صنعت منه كرات صغيرة , تناولتها كرة بعد كرة , مضغتها في فمي , كانت خاوية من لذتها وحلاوتها .. لكنها كانت تملأ حمضة بطني.. أردت أن يعود أخي شيار كي يأكل معي, بدأت كرات الحلوى تزداد وبدأ الضوء يخبو , وبدأت قواي تتلاشى , رأيت من خلال الأضواء أخي شيار يدخل من بوابة الكهف يحمل معه صنوفاً من الفاكهة ولحم الدجاج والخبز الطازج , يقدمها لي , ينبض قلبي من جديد , نبضات حارة مضطربة, أرى أخي يبعد عني كرات الحلوى , يهزني بعنف, ويبكي , يصيح بعنف لا تأكلي التراب يا فيان .. يهدأ صوته , يتلاشى .. يتلاشى , ثم تتلاشى معه كل الصور .                                          

23 / 3/ 1995

===========

 حين تعم العدالة ستقتلع أشواك البشرية من حدائق الطفولة

 رينـاس

 كانت شجرة التفاح الصغيرة كطفل يافع تستقبل الحياة بعشق , قطرة قطرة وكنت أنا كالأم لها.

قال لي جدي ذات يوم :

- اعلم يا ريناس أن خير طعامك ما تصنعه بيدك , وخير الثمار ما تجنيها من تعبك وخير التعب ما يثمر .

قلت له :

- جدي , كيف أستطيع أن آكل ثمار تعبي ؟

قال لي : عليك أن تزرع شجرة وتتعهدها بالرعاية , فإذا كبرت وأثمرت وأينعت ثمارها , فحينذاك تأكل ثمار تعبك .

اخترت شجرة تفاح , وزرعتها قريباً من أشجار الزيتون والتين , التي زرعها أبي في الدار .

أسقيها الماء عند إشراقة الشمس وعند مغيبها, وأمضي يومي كله في مراقبتها .

كانت فروعها تنمو رويداً رويداً . تتدافع إلى الحياة بلهف , أراقب أوراقها تتلون بلون الربيع , وجذعها يثخن ليقوى على حمل الأغصان والأوراق .

قلت لأبي ذات يوم :

- أبي عندما تكبر شجرتي سأطعمك ثمارها .. إنها ثمار تعبي .

ابتسم أبي وقال :

- وأنا عندها سأرى ثمار تعبي .

قال جدي : انظر يا ريناس إن ألأعشاب الضارة والأشواك تتلفح حول شجرتك , وتعيق نموها وعليك أن تقتلعها لتنمو بحرية.

آه .. حتى الأشجار بحاجة إلى الحرية كي تنمو .. فهل الحرية إذاً إلا الحياة كأبهى ما تكون .

قلعت الأشواك والأعشاب الضارة حول شجرتي , فرأيتها تتألق نضرة وتزدهر نماءً كانت الأشجار الكبيرة تلقي بأجنحتها فوق شجرتي , كما تلقي الحمام أجنحتها فوق فراخها , وكانت أشعة الشمس تتسرب من خلال الأوراق العريضة , لتنفذ إلى أوراق شجرتي , وتهبها الدفء والنور .

أراقب قطرات الندى عند إشراقة الصباح تلثم أوراقها الندية , وتتدلى منها برفق فتنعكس منها أشعة الشمس الذهبية , فتبرق بريق الحياة في الطفولة .

تنمو شجرتي وأنمو معها , وأرى حلمي الجميل على وشك أن يتحقق , وأرى ثمار تعبي أتية أكاد أقطفها .

حتى إذا ابتهجت الدنيا ذات يوم , وملأت الفراشات جوّ حلبجة , ونشرت الورود والرياحين عبقها في أفقها , وضج الأطفال ضجيج الحياة , أتاها نذير الرعب , فتراقصت أغصان شجرتي وتمايلت , وخبأت الورود والرياحين أريجها , وكفت الفراشات عن الرقص , وارتعب الأطفال وتتدافعوا في شوارع حلبجة , كان أمر جلل على وشك أن يحدث .

تمسكت بشجرتي , إنها تحتوي على آثار تعبي , كما تحتوي على أجمل أحلامي .

رأيت العصافير تختبئ بين أفنانها الرشيقة , اختبأت معها وأنا أراقب السماء كانت الطائرات تنشر السموم والأهوال .

لم أشعر برعب قط طوال حياتي القصيرة .

كانت تلك اللحظات تجمع كل الخوف , وكل الهلع .

قصفت الطائرات بيوت الناس , وشوارع المدينة وأشجار الحدائق والبساتين وحتى عصافير الجو والأطفال .

بحثت حينها عن جدي لأقول له :

- ليس دائماً نجني ثمار تعبنا , أحياناً يضيع التعب سُدىً , حينما تختل نواميس الطبيعة , ويعبث الوحوش بأيام الناس ,

تساقطت أوراق شجرتي , انقطعت أغصانها الطريّة , ظللتني , غطتني , أرادت أن تحميني , لكنها كانت أضعف بكثير من أن ترد كيد الظالمين وكانت أضعف بكثير من

أن تقلع الأشواك البشرية من حدائق الطفولة ولكن بقي تراب الحديقة يحمي جذور شجرتي حتى تفرعت من جديد وأثمرت أنضج الثمار .. نعم زرعتها وها هي أختي دل برين تأكل ثمار تعبي من بعدي هنيئاً .. هنيئاً .. هنيئاً ...                                                    

20/ 3/ 2005

=======

كان فخوراً بأبيه .. حتى التقى به .. خلف جدران الزمن .. في مملكة شـيار

 كل طفل من حولي كان له أب يعدُّ له أيام عمره , أما أنا فقد اعتدت أن أنظر إلى صورة أبي كل يوم وأعدَّ له أيام غيابه .

يومَ همَّ أبي بالذهاب , ضمني إلى صدره ضمة قوية , ولثمني طويلاً , وقال لي : اعتنِ بأمك يا شيار وكن رجلاً , تمسكت بأسماله ورحتُ أبكي .. أمي فعلت نفس الشيء , حاولت أن تمنعه من الذهاب . لكنه لم يرأف بها وبي .. وحبس دموعه , وعصر قلبه .. وذهب .

صديقي ريبار له أب عطوف , يشتري له كل ما يتمناه , يطوف به في شوارع حلبجة, وفي العيد يأخذه إلى مدينة الملاهي الرائعة .

رنكين تقول إن والدها سوف يشتري لها تلفازاً.. وستمضي أوقاتاً طيبة باللهو به ودلسوز يحدثني دائماً عن رحلاته الجميلة مع أبيه في الجبال والحقول والبراري وكيف يعلمه أبوه فن الصيد .

قلت لأمي ذات يوم : إن أبي لا يحبني , لقد تركني هنا كي يسخر مني الأولاد .

قالت ومسحة الحزن لا تفارق وجهها : سيعود قريباً ويجعلك أسعد من كل هؤلاء .

قالت لي دوزكين يوماً : إن والدك مات , فلا تنتظر عودته . صفعتها .. ورحت أركض في شوارع مدينتي الحنونة , أردت البحث عن أبي , لم أجده في حانوت العم "حمو" ولا في مضيفة خالي "حسن" ولا حتى في الحقل, عدت باكياً , ارتميت على أمي .

ضمتني بشدة إلى صدرها , حاولت أن تهدئ من لوعتي , قالت بذات الصوت الشجي: ما بك ؟ شهقت باكياً .. وبصعوبة أجبتها : أين أبي ؟ هل حقاً مات ؟

مسحت بيدها الناعمة على رأسي , مسحت دموعي بأناملها , رأيت دموعاً عالقة بين أهدابها دفعتني فجأة ونهضت لتغيب وراء باب حجرتها , لحقتها .. كانت تمسك بصورة أبي التفتت إلي وقالت باكية : انظر إلى والدك ألا ترى السلاح على كتفه ؟

لقد تركنا ليذهب إلى الجبال ويقاتل مع البشمركة كي نظفر بالأمن والسلام , ويعيش كل الأطفال سعداء في أحضان أمهاتهم .

ماتت السعادة وأنا في حضن أمي .. اختفى الأمل البعيد , في كل صباح كانت عيناي ترنو إلى الأفق الجبلي البعيد , أرقب عودة أبي , وأعزي نفسي كل مساء .. بأن الغد سيكون أجمل ولا بد أن تمر الأيام سريعة ويعود أبي .

مات الأمل في قلبي . واختفت اللعب والملابس والحلوى وضحكة الطفولة .

تركت أمي وهرولت بعيداً عن الدار , التقيت بالأطفال يلعبون في شوارع حلبجة كان ريبار لا يزال يحدث عن أبيه العطوف ورنكين ترسم لمخيلات الأطفال صورة التلفاز, ودلسوز يدهشهم بمغامراته في البراري .

رمقتهم جميعاً , كنت أرى نفسي شيئاً وضيعاً في عالم الطفولة .

وبدأت مشاعر الكره والعتاب تنتابني . فلربما لا يدرك الأطفال شيئاً عن أبي , وقفت قبالتهم ورحت أصرخ فيهم قائلاً :

انظروا يا أولاد : إن أبي أعظم من آبائكم , فإذا كان آباؤكم يقدمون لكم اللعب والحلوى والتسالي , فإن أبي يمنح الجميع أماناً وسلاماً .

وإذا كان آباؤكم يبذلون من أجل سروركم نقوداً , فإن أبي يبذل من أجل سلامة الجميع دماً ويهدي الحرية كأجمل هدية وللجميع.

فإذا عاد أبي فلن أطلب منه شيئاً من أمانيكم, وإذا لم يعد فسأعده أن أصبح فدائياً مثله, وهنا اكتظ الأفق بالأشباح ارتعد الأطفال من الأصوات المخيفة , فتركوا لعبهم وراحوا يتدافعون بخوف ارتفعت الأصوات المخيفة , اقتربت الأشباح أكثر , راحت تقذف سمومها على الأطفال , تحطمت اللعب في الشوارع وتحطمت عليها آمال الطفولة , وغابت معاني اللعب والتسالي واندثرت معاني الأبوة في الأبوة .  فلم يكن هناك أب قادر على طرد الأشباح. علم الجميع أن أبي أعظم من آبائهم , وأمنياتي أجمل من أمنياتهم .

ففي هذه الساعة وحدها علمت وعلم ألأطفال أن الأمان والسلام أهم من كل لعب الأطفال . ولم تكن لحظات حتى ماتت كل ـأماني , حينما تحطمت كل اللعب وتحققت أمنيتي حينما التقيت بأبي .. كان ينتظرني هناك

في مكان ما ... خلف حدود الزمن وبقيت هدية والدي الأجمل والأعظم على الإطلاق.

 

 15/ 3/ 1996

 ===========

انتظر طويلاً .. يراقب عودة شيرين الجميلة ليشعل معها شموعنا وشموع نوروز .. ولكن ....؟؟؟

فرهـاد

 ولدت يوم ماتت آخر وردة من ورود الربيع , وتفتح قلبي للحياة يوم أظلمت الدنيا وضاقت النفوس . وركضت إلى البهجة يوم انتهت البهجة من الوجود.عندما كنت ألعب في باحة المدرسة،دخل رجلٌ طويلٌ يرتدي بذةً عسكرية يمسك بيد ابنته الشقراء،وانتهى بها إلى المدير. وبعد قليل خرج الرجل وبقيت ابنته. داخل الصف عرفت أن اسمها شيرين، وأنها ستبقى معنا حيناً من الوقت يجهله الجميع.

اقتربتُ منها ذات يوم وقلت لها في خجل:

ـ من أين أتيت يا شيرين؟

أجابت: لا أعرف، إننا لا نستقر في مكان واحد، لأن أبي يتنقل في عمله من مكان إلى آخر. لقد تجولتُ في مناطق عديدة,وتعلمتُ في مدارس شتى, وصار لي أصدقاء كثيرون. 

قلت لها : وهل ستكملين هذا العام في مدرستنا ؟

قالت لا أعلم .. لكنني أرغب البقاء في حلبجة الجميلة .

صارت شيرين صديقة لي , أخبرتني عن المدن والقرى البعيدة وعن الجبال التي تكسوها الثلوج في الشتاء وعن الأنهار المتدفقة والينابيع الباردة والمروج والبساتين الخضراء .

حدثتني كثيراً .. وددت أن أكون مثلها .

قلت لها : إذا أردتم الرحيل فخذوني معكم . تناولت دفتري برفق , وفتحته على صفحة بيضاء , وكتبت اسمها ثم رسمت زهرة أقحوان جميلة بجانب اسمها , وأغلقت الدفتر محمرة الوجه وناولتني إياه .

كنت أشعر بأنفاسها الحارة , وأراقب يدها المرتعشة , شيء ما كان يسري في عروقي بدأ جسمي يرتعش .

نظرت إلي بحنوٍ , قالت وهي تذهب :

سنرحل هذه الليلة .. لكننا سنعود بعد النوروز  

انطفأت الشعلة قبل أن تضيء , وماتت البسمة قبل أن تولد

أردتها أن تبقى لكنها غابت , وخلا الصف من بهجتها .

فتحت الدفتر .. كانت أنفاسها عالقة في الصفحة البيضاء .

لمستها بأناملي , تحسست قلبي بلهف , وتحسسته مرة أخرى يتمزق حزناً .

انتظرت النوروز طويلاً . بعد النوروز ستأتي شيرين وستهيج الحياة من جديد مضت أيام الشتاء ثقيلة . تفتح الأقحوان والنرجس .

لمعت في السماء شمس الربيع , وبرزت في الأفق تباشير النوروز .

خرجت إلى شوارع حلبجة , أتفحصها إن كانت تحمل أنفاس شيرين . أراقب وجوه المارة .. أصغي إلى الأصوات البعيدة . ما هي إلا لحظات حتى تخرج شيرين من بين هذا الحشد البشري .. أو أن تناديني من بعيد بأعلى صوتها .

لا بد أن تمزق شيرين حزن قلبي , كما مزقت هذه الطائرات ألق الطفولة ولا بد أن تعود شيرين ولو من بعد ألف عام وعام .

                                                   17/ 3/ 1996

=====

في أحضان حلبجة تنفس الحرية .. وفيها نال وسام الشهادة

جومرد

 في النفحة الثانية عشرة من نفحات عمري كنت حداداً أو شبه حداداً . وكانت خداي كصفيحتي حديد لا تتألمان من صفحات سيدي , كما لا تتألم صفائح الحديد من وقع المطارق .

في شارع مكتظ بالمارة , تتعانق فيه أصوات شتى, رنين الحديد , وصيحات الباعة , وزعيق السيارات وأحياناً بكائي . ومن بين كل ما أراه في هذا الشارع كان شكل سيدي هو الأكثر غرابة .

كان مترهل البطن , عريض المنكبين , أسمر الوجه إلى حد السواد , عيونه تقدح شراراً , وساعداه مفتولتان صلبتان صلابة الحديد , وكفه الحديدية لا تتوانى عن لطم الخد الغض , لا تزال العروق تنضح فيها أولى دفقات الدم القاني , كانت الدنيا تدور من حولي , أقع على الأرض فيتناولني بركلاته حتى تقع علي قطع شتى من الحديد.

ويمضي يومي في مشغل هذا الحداد , بين أصوات المطارق , وطنين الكفوف وأزيز المبرد والمثقب فإذا جعت أنتظر سيدي حتى ينهي طعامه فأهوي على ما بقي من فتات

لم يكن لي مسكن , عند المساء يغلق سيدي باب المشغل من الخارج , فأبقى بداخله أفترس برادة الحديد وألتحف تلك الصفائح .

عندما مات أبي أخرجتني أمي من المدرسة وأتت هنا بي كي أعمل .

لكنها قالت حينذاك : انظر يا جومرد , ستعمل لدى هذا الحداد حتى يعود خالك فيأخذنا معه إلى حلبجة مدينة الآلام والآمال. متى أنضم إلى أطفالك ؟

ترى كيف يقضي أطفال حلبجة أيامهم .. هل فيهم من ينام بين صفائح الحديد ؟

يقولون إن حلبجة تحتضن أطفالها برفق وتهبهم كل ما يحبونه .. أحببت حلبجة قبل أن أراها وحلمت بها مدينة تقضي على تعسي .

ذات يوم رجعت إلى البيت , طرقت الباب , فلم يفتح , ظللت أطرق وأصرخ حتى اجتمع الجيران وفتحوا الباب بعنف .. كانت أمي هناك على فراشها , مستلقية بهدوء . منذ ذلك اليوم لم يعد لي بيت , جذبني الحداد ورماني قطعة ملقية في إحدى زوايا مشغله , لا يعرف من الطفولة معانيها ولا من الحياة روحها .. سوى أمل يبعد يوماً بعد يوم ..

أيقظني سيدي ذات صباح وقال لي : قم يا جومرد , آن الأوان كي تغيب عن وجهي .

كان خالي مستعداً كي يأخذني معه إلى حلبجة ،

قال لي :  لا تخف يا جومرد , سنرحل اليوم إلى حلبجة, وهناك ستبدأ طفولتك , وستنطلق ضحكتك .

ولم تكن ساعات حتى وجدت نفسي في أحضان حلبجة .

شوارعها الجميلة , بساط ربيعي تطأه أقدام الأطفال برفق .

أفقها الطلق يرتد منه صدى ضحكات , لم يكن فيها رجل كالحداد , ولم أشعر بالخوف وامتلأت عيوني ألقاً .. طرت من الفرحة .

ارتفعت أصوات غريبة , ضج الأطفال وتركوا لعبهم بذعر .

شدني خالي بعنف وأراد أن يحلق بي بعيداً , ترامى الأطفال على البساط الربيعي تلونت الدنيا بلون الموت . بحثت عن مشغل سيدي وعن صفائح الحديد وحتى الصفعات كانت أرحم ألف مرة ومرة من سموم الطائرات.

كان الألم والجوع والبرد وكل الشقاء .. مع كل الأحلام , تتقلص وتتقلص .

ورأيت صورة حلبجة الجميلة تملأ الأفق , ورأتني بعد ذلك أبتهج بالموت ... في أحضان حلبجة .

                                                            16/ 3/ 1998

تلطخ الأقحوان بالدم .. سقطت وهي تبتسم للنرجس وبيدها باقة القرنفل .. إنها روشين إبنة حلبجة

روشين

 كانت باقات الورود التي صنعتها مع رفيقاتي, أجمل من كل أحلامنا , جمعناها بلهفنا الطفولي , بعد أن اختارتها عيوننا الحالمة , ثم وضعنا فيها كل أجزاء إبداعنا لنصنع منها شيئاً كأجمل ما يمكن أن يهدى لمعلمتنا الغالية .

كانت مدرستنا الجميلة تتألق بوجودها , لا نكاد نغادرها حتى نمتلئ شوقاً إلى الغد يحملنا إليها , نتطاير كعصافير فقدت أعشاشها , نريد أن نبني لأنفسنا أعشاشاً بداخلها. وإذا أحاطت بنا الدروس , وضغطت علينا الوظائف وحاصرتنا هموم الحفظ , لجأنا إلى معلمتنا لنجد عندها الراحة والمفترج لكل همومنا الصغيرة , نجد أنفسنا نبتسم لكل شيء بينما تبقى المعلمة على حزنها الأبدي . وتبقى بين أهدابها دمعة حائرة , ترتجف قلوبنا حينما نلمحها .

قلت لها ذات مرة :

- معلمتي : لماذا نراك دائماً حزينة , لا يسفر وجهك عن بسمة ؟

قالت بصوتها الهادئ الحنون : لأن الحلم إذا مات ماتت معه البسمات والضحكات .

كان حلمي أن أصبح معلمة لأحقق رغبة أبي الذي أفنى عمره قبل أن أحقق له رغبته.

وكلما أقف في موقف المعلمة , أذكر أبي فتسيل دموعي .

بعد أن فهمت حزن معلمتي , فقدتها .

قالوا أنها تركت المدرسة , ثم قالوا أنها سجينة . وبالغوا بالقول أنها ماتت .

لكن إدارة المدرسة أكدت أنها طريحة الفراش في بيتها تعاني من وعكة صحية .

كان يمكننا أن نزورها .

قلت لصديقتي دلشان : لا بد أن نجمع وروداً جميلة لنقدمها لمعلمتنا المريضة .

قالت دلشان : حول بيت دوزكين حديقة جميلة , فيها من كل أنواع الورود . مضينا إلى دوزكين وجمعنا من الحديقة ما شئنا .

صنعت باقتي من الورود الحمر والبيض , ولففتها بأوراق خضراء عريضة .

صنعت دلشان باقتها من أوراق الزيزفون , وزينتها بأزهار الأقحوان والقرنفل .

صنعت دوزكين باقة جميلة من عروق الرياحين وأزهار النرجس والياسمين .

كانت باقات الورود أجمل أحلامنا وكانت المعلمة أحق الناس بها .

تراكضنا بسرور , غايتنا أن نضع الورود بين يدي المعلمة .

صاحت دلشان : ستفرح المعلمة بباقات الورد .

قالت دوزكين : سنقول لها : أنت كأمنا وسنحفظك في قلوبنا .

كان الطريق إلى بيت المعلمة طويلاً . يخترق أسواق حلبجة وساحاتها . لمحنا الأطفال يمرحون بلعبهم .. هدأت اللعب فجأة, هدأت الدنيا كلها لحظة .. كان الهدوء الذي يسبق العاصفة... ثم ضجت السماء وصخب الناس . صاحت دوزكين : انظري يا روسيل , إن السماء تمتلئ بالطائرات .

تمسكت كل واحدة منا بالأخرى , خبأنا باقات الورد, زعقت الطائرات وكرهت هنأة الطفولة, نشرت في قلوبهم الرعب , حصدت أرواحهم سريعاً. شيء ما لم يؤخذ بالحسبان.هوت دلشان أمام أعيننا على الأرض, تبعثرت أوراق الزيزفون, تلطخ الأقحوان بالدم.سقط القرنفل على صدرها, فامتزج عبقه بنفحات روحها , وصعدا معاً إلى السماء .

وسرعان ما تناثرت عروق الرياحين , وتبعثرت أزهار النرجس والياسمين وأحاطت جميعها بجسد دوزكين لترسم لوحة طفولية تعزز زعيقها في أعماق الوحشية .

ثم تألق الورد الحمر بقطرات الدم , وانتشرت من حوله الأوراق الخضراء , وتطايرت وريقات الوردة البيضاء , لتهوي واحدة تلو الأخرى على صدري الممزق , كما لو أنها تضمد جراحي . حينها .. كنت أهدي كل أيامي إلى معلمتي الغالية . أصبحنا لوحة مميزة الألوان على جدار الزمن وشعلة تضيء مملكة البراءة أبداً.

 

25/ 3/ 1997

===========

حكيمٌ .. بحكمته الحكيمة ..

حكم بين الأشقياء بالوفاء والإخلاص

برزو

 كانت الكرة المتطايرة في الهواء هي الوحيدة التي تهدد طائرات الموت بغد أسود .

حينما يتفجر الغضب الطفولي وتنطلق من القلوب الصغيرة آهة الظلم .

كانت الكرة المطاطية تمنحنا الكثير من السعادة والحيوية , حينما نتراكض خلفها صاخبين . 

نثير الأرض ونملأ الأثير ضجيجاً . تتقلص الدنيا كلها أمامنا في الساحة الصغيرة التي تدور عليها مباراتنا .

ذات يوم جاءت مجموعة من الأطفال من حي آخر , وأرادت اللعب في ساحتنا .

وقفنا قبالتهم ومنعناهم من دخول الساحة .

تقدم كبيرهم وقال : اخرجوا من هذه الساحة قبل أن نحطم رؤوسكم فيها .

تقدمت منه وقلت محتداً : هذه الساحة لنا , ونحن أحق باللعب فيها .

رفع صوته مجدداً وقال : اخلوا الساحة فوراً وإلاّ لقناكم درساً لن تنسوه ما حييتم .

تقدم رفيقنا جنكو وصاح :

إذا تقدمتم خطوة واحدة فلن تخرجوا من هنا سالمين .

واحتدمت النفوس آنئذ وكشر كل عن أنيابه وهمَّ بالعراك .

في تلك اللحظة , هرع إلينا كهل من الحيّ , فأسرع يدق الأرض بعكازته .

 وقف بيننا يريد الكلام , لكن السعال منعه , انتبه إليه الجميع , رقّت لحاله القلوب التي امتلأت غيظاً .

لما هدأ سعاله قال :

- ما بالكم يا أولادي , لِمَ تتشاجرون ؟

قلت له : يا عماه .. إن هؤلاء يريدون إخراجنا من ساحتنا التي اعتدنا اللعب فيها دائماً.

التفت العجوز إلى الآخرين وقال لهم :

- ما الذي أتى بكم إلى هذا الحي ؟

أجابه كبيرهم : لا توجد باحة واسعة في الأحياء الأخرى , وهذه الساحة للجميع . قال الكهل : انظروا يا أولادي .. لا شيء أفظع من العدوان , ولا شيء أدعى للسخرية من قتال الأخوة , إذا بقيتم على عنادكم وتشاجرتم فلن تكون الساحة لأحد وسيأتي أولاد من خارج حلبجة ليلعبوا فيها .

طأطأ الأولاد رؤوسهم أجمعين .

واستمر العجوز يتكلم :

إذا كانت الساحة للجميع فلا يعني ذلك أن يتقاتل عليها الجميع . بل فلتكن جزء من الوقت لهؤلاء وجزء آخر من الوقت لهؤلاء. أو تباروا معاً في ذات الوقت والمكان ولا تفرطوا في ساحتكم الفريدة

كان كلام الكهل يسري في عروقنا ينبه فينا إحساساً غامضاً .

ارتسمت على شفاهنا بسمات ساخنة . بينما كان الكهل يدق بعكازه على الأرض مبتعداً مترنماً , مغتبطاً بما صنع من وفاق .

وتدحرجت الكرة من جديد .. لا حقتها الأقدام .. عادت صرخات الأطفال تملأ كل الحي , حينذاك لم يهنأ أعداء الطفولة ..

فحملوا ذخائرهم وصعدوا إلى السماء لينشروا من هنالك الأهوال .. ويفرقوا وحدة الأطفال .. ويحولوا الساحة التي شهدت ميثاق الأخوة إلى مقبرة جماعية .

تحتضن عشرات الأطفال .

 18/ 3/ 1998

==========

كسر القفص .. أطلق جناحه للسماء وقال تعالوا معي ..

برادوست

 

رأيت بأم عيني كيف أصبح الفضاء الواسع أضيق ألف مرة من القفص الذي صنعته لعصفوري , ثم تجرعت بعد ذلك مرارة الظلم , وفهمت حزن عصفوري حين غابت عنه معاني الحرية .

عرفت الأقفاص منذ ليونة أظفاري , , كان أبي يصطاد الطيور ويضعها في الأقفاص.

ونحن الصغار ... أحببنا تلك الأقفاص ,فما كانت هذه في عقولنا إلا أجمل بيت تحلم به الطيور . حين نرى أحد العصافير يتراقص داخل القفص نظن أنه نشوان مغتبط بهذه النعمة التي ساقتها له الأقدار .. نقدم له الطعام والشراب . ونبتهج بأنغامه العذبة .. (علمت مؤخراً أنها لم تكن أنغاماً .. بل أنيناً)

أردت من أبي أن يأخذني معه في رحلة صيد لأتعلم من الحقول والبراري معنى الشرود وأرى كيف يخلص العصفور إلى بيت جميل يحميه من غضب الطبيعة .

وهناك .. بين جذوع الأشجار الطويلة وقفت قائلاً لأبي :

- ألا تخاف العصافير ظلمة البراري , ألا تخشى الأفاعي ؟

أجابني أبي مبتسماً :

- بلى يا برادوست , وها قد جئنا لننقذها .

قلت مجدداً :

- لكن كل هذه الطيور الجميلة .. أين تنام ؟ وماذا تأكل ؟ وكيف تقضي يومها ؟

قال أبي : إنها تصنع لنفسها أعشاشها من القش , في أحضان هاتيك الأشجار ثم تظل تتنقل من فنن إلى فنن , تلملم ما تستسيغه طعاماً , وهي في ذلك تجد وتدأب .. وتراها تزقزق بفرح , فالأشجار كلها ملك لها .

قلت في نفسي : ما أسعد العصافير لولا الأفاعي !

ونحن بعقولنا الصغيرة عصافير بشرية , تتنقل من حضن إلى حضن , تلملم من القبلات والضمات , ولا تكدّ بعد ذلك في مطعمها ومشربها , ثم ترى الدنيا كلها ملكاً لها .

آه .. ما أسعد الطفولة لولا الوحوش . وما أسعد العصافير لولا الأفاعي ..

اصطاد أبي عصافير جميلة , وضع كل واحد منها في قفص , كان عصفوري رائعاً بريشه الرمادي المزركش بالصفرة والزرقة , وساقيه الدقيقتين وعيونه الصغيرة البراقة , لكنه كان حزيناً لا يتراقص . وعندما أقدم له طعامه يعبس أكثر ويبتعد عنه ويظل يتلفت حوله كمن أضاع شيئاً ثميناً .

قلت لأبي : إن عصفوري حزين .. ولا أدري عمّ يبحث .

قال : إنه يبحث عن الحرية .

لم أفهم قصده , لكني قلت : وأين يجدها ؟

قال : في هذا الفضاء الواسع .

قلت : والصقور ؟

قال : لأن يبقى في القفص الجميل حزيناً خير من أن يسعد لحظات في فضاء يملؤه الصقور شعرت أنني صقر من الصقور يريد أن يقتل العصفور . شعرت بكراهية العصفور لي .

أردت أن أخلص من حقد العصفور لأريه أني لست إلا طفلاً يحب الحياة للجميع .

حملت القفص ومضيت به إلى الشارع , كانت حلبجة قد أطلقت من أقفاصها كل الصغار فتحت باب القفص فاندفع العصفور بسرعة نحو الفضاء .

قلت له وهو يطير : سوف لن تأمن شر الصقور ..

أعداء العصافير يملأون الفضاء .. بدأت أشعر بالذعر , لم يكن في الفضاء صقور فحسب بل أشياء أخرى أكثر وحشية . أردت أن أركض كما فعل كل الصغار .

ظل بصري شاخصاً في السماء .. كان عصفوري الحزين يبحث هذه المرة عن قفصه الصغير , كما كان الأطفال يبحثون عن أحضان حلبجة ..

حلبجة لا تطلقي صغارك ضميهم إلى أحضانك , فلا زال في الفضاء أشباح الموت.

لم تكن لحظات حتى تحول الفضاء الشاسع إلى سجن ضخم , يتسع لمئات العصافير .

وتحولت أحضان حلبجة إلى مفترش واسع , ألقيت عليه مئات جثث الأطفال ممن لم يتجرعوا بعد مرارة الظلم , ولم يدركوا بعد معنى الحرية .

عندها فقط .. وجدت نفسي واحداً من مئات الصغار الذين فهموا بعمق , أن الحرية ثمنها غالٍ .. وكسر الأقفاص بداية الانطلاق إلى فسحة الحرية  .

 

20 / 3 / 1999

==========

أضاعوا حلمهم في مدينة السلام .. ولكن المدينة لا .. ولن تضيع حلمها .

آردل

 

كانت طائرتي أضعف طائرة في السماء , لكنها كانت الوحيدة التي تسعد الأطفال . صنعتها من الورق , لونتها بألوان الربيع , زينتها بأشرطة ملونة , وربطتها بخيط طويل. تذهب بعيداً حين أطلق عنانها , فإذا ما ارتفعت في السماء , اجتمع ألأطفال من كل حدب وصوب , ليشاهدوها كيف تحلق وتتراقص مبدية أروع ألوانها .

يتراقص معها الأطفال , مبدين تمازج أرواحهم النقية , مع هذه الطائرة الورقية .

فنكون جميعاً بأرواحنا العذبة , وعقولنا النقية, طائرات ورقية في سماء البشرية .

نحوم ونتمايل , ونلوي ونصارع الريح , ونبلغ الغيوم .

تهوي أجسادنا على مروج حلبجة , نستقي منها راحة وحناناً , ثم نهب مجدداً لنطير نحو الفضاء . تاركين للأرض أرضها وقيودها .

قالت دوزكين :

- إن طائرتك جميلة ليست ككل الطائرات .

قالت شيرين :

-       إنها تحلق في السماء كالعصافير , ليتني أطير مثلها , وأدخل بين الغيوم وألوح لكم بيدي من هناك .

 قال سيوار :

لكن أبي قال إن الطائرات صنعت لقتل الأطفال .

قلت لهم :

عندما نحلق في السماء , فسوف نحمي كل الأطفال , ونمد بأجنحتنا لنظلهم جميعاً .

عدت إلى البيت وقلت لأبي :

كيف أستطيع أن أحلق في السماء يا أبي ؟

أجابني : إذا أصبحت طياراً .

قلت إذاً فاجعلني طياراً .

وافق أبي , فانطلقت أزف البشرى لأصدقائي, وأقول لهم :

سوف أصبح طياراً , وأحلق في السماء , وأراكم من هناك ..

قال هفال : نريدك أن تكون نسراً قوياً يحمي أطفال حلبجة من السحب الملوثة .

أطلقت طائرتي الورقية , فاندفعت كالبرق نحو السماء , ظننت نفسي على متنها .

فتراكضت خلفها أطير من الفرح . وركض الأطفال خلفي , كانت أحلامهم تبلغ السماء

لكن السماء كانت تخبئ لهم شيئاً .

انقطع الخيط .. فشردت طائرتي في الجو , لا تعرف أين تتجه .

وقلقت حين فقدت سيطرتي عليها . ووقف الأطفال مشدوهين .

وتأملنا جميعاً في الطائرة الورقية , كيف تتخبط في الطيران .

اجتمعت طائرات كثيرة في سماء حلبجة . أحاطت جميعها بطائرتي الصغيرة .

ودار قتال عنيف .. بين تلك الطائرات بكامل ذخائرها المدمرة , وبين طائرتي بكامل ألوانها الزاهية .

رأيت الأطفال يتساقطون تباعاً , وتساقط حلمي الجميل حينما سقطت طائرتي وحيدة بألوانها الزاهية لتنضم إلى جثث الأطفال التي فرشت أديم مدينة السلم والسلام .

قررت عندها ألا أصبح طياراً , كي لا يخاف مني الأطفال .

شعرت بالألم الحاد , رأيت جناحي طائرة صغيرة , تزينها أشرطة ملونة تعانقني بشدة, ثم تحملني على متنها, وتحلق بي بعيداً , إلى عالم كل ما فيه نور .

 13 / 4 / 1999

=============

 حلبجة رمز مملكة الإنسانية

ربيع

 ثلاث قبلات دافئة كانت كافية لأن تهبني الحياة من جديد .

ونسمة واحدة من نسمات الربيع كانت كافية لأن ترد الحياة لكل الصغار .

لكن حتى الربيع .. في تلك اللحظات قد بخل بنسماته , وقبلاته الندية .

بين أشجار الزيتون البعيدة أمضيت معظم الصيف , تراكضت خلف الفراشات , كانت ألوانها زاهية كألوان الربيع , وكألوان ضحكات الأطفال , وكألوان الأزاهير غطت أديم الأرض وكألوان كردستان لبست ثوب الربيع .

في كل صباح كان بريق الشمس يكمل عيون الصغار , ويصبح كل شيء يلتمع حين يسري فيه عرقُ النور . ولا يضيء النور في الأعين وحدها وكلهم في القلوب أيضاً .

ويكون للشمس حرارتان .. إحداهما في القلب .

وتسرق البلابل غفوة الصباح من عيون الصغار , ويزيد جمال الماء جمال الصباح , وحين يعبث الأطفال بالماء فيرشونه على وجوههم الناعسة , يصبح جمال الطفولة أبهى من جمال الربيع ذاته .

منذ القديم كانت البلابل صديقة للأطفال , عاشت معهم بين أفنان الزيتون .. وعلى ضفاف الجداول . تعلمت البلابل ألحانها من ضحكات الأطفال وأهازيجهم , فالأطفال هم بلابل بشرية ينتشي الكبار بأنغامها العذبة .

ويعبث الأطفال بأجنحة الفراشات الملونة , يجدون في جمالها ألق الطفولة , فيتفجر عشقهم عبثاً .. كالوحشية, حين يقطعون تلك الأجنحة بأناملهم الصغيرة .

بين المروج الخضراء جمعت مع رفاقي كثيراً من الفراشات , حفظناها في أوانٍ زجاجية كي يدوم الجمال إلى ما بعد الربيع , وراقبناها ترقص بجنون , نظنها رقصات الانتشاء نسخر منها بضحكاتنا الطفولية .

لاحت في الأزاهير كأنها ألفاظ رقيقة .. وكل زهرة كابتسامة , أو هي تفرق الألوان السبعة من ضوء الشمس حين ملامستها وجه الطبيعة .

أزهار الأقحوان والياسمين والقرنفل وشقائق النعمان والنرجس .. كانت أجنحة الفراشات تستقبل ضياء الشمس , وتودع حبات الندى التي ظلت تعانقها طوال ليل هادئ . وبدافع الحب كنا نقطف تلك الأزاهير , لا بدافع الوحشية .

كنا نصنع منها باقات تجمع ألوان الحرية , ونكتب بوريقاتها الكلمات الآتية : الحب .. السلام .. الفرح .. الحرية .

نمضي لنقطف من فاكهة هاتيك الحقول نملأ بها بطوننا .. فنمتلئ نشاطاً وحيوية نسابق الريح .. نحو القمة العالية .. نطأ الصخور القاسية بأقدامنا الطرية نصل إلى القمة , نرى كل شيء حولنا , القرى البعيدة , تحيط بها أشجار السرو والغار والحور

كروم الزيتون كصفحة خضراء ممتدة مد البصر , الجبال البعيدة الصامتة صمت كل شيء فيها .

يقولون إن قنابل الأعداء قد كمّت أفواه الحجارة , وأصمتت الجبال وأبكت القمم .

ويقولون أيضاً إن في تلك الجبال بعض قنابل سوف تتفجر .. لا أحد يدري متى .

تنحدر الشمس نحو الأفق فنتدحرج من القمة كالحجارة زحزحت عن مواطنها فلم تعد قادرة على كبح جماحها.

نعود إلى مدينة السلام .. نمر على فراشاتنا في آنية الزجاج , نراها قد همدت ..ينظر كل واحد منا في عيون الآخر نصرخ بصوت واحد : لماذا كفت الفراشات عن الرقص ؟

حلقت البلابل من جديد , نشرت أنغامها فوق رؤوس الأطفال , أدرك الجميع أن الحرية تصنع الأنغام , وهي التي تعلم الفراشات فن الرقص .

وحينما تغيب الشمس خلف الأفق ويسربل الظلام .

يدنو النعاس من عيون الأطفال وقيل أن يستسلموا للنوم , تدور في أروقة أفكارهم أحلام جميلة عن الغد حين تشرق الشمس من جديد .

وفي الشتاء , أخرج من البيت بعد مطر غزير , أجول في شوارع حلبجة , أبحث فيها عن أغصان تركت عليها الشمس آخر خيوطها الذهبية بعد أن أفسحت لها الغيوم منفذاً

أجد فيها الشمس كأنها صورة معلقة في السحاب , أخرج لأرى كل أطفال حلبجة قد اجتمعوا في يوم أبيض .

أهدتهم السماء من ثلجها فأثلجت قلوبهم وخرجوا يرفعون أكفهم لتصطاد الحبات الناصعة الباردة .

نتقاذف بكرات الثلج تدفئ أيدينا حرارة الفرحة , نستلقي على الثلج لنرى انطباع أجسادنا الصغيرة .

وفي الليل , عندما يرتعش جسمي الصغير مما جمع تحت جلده من برد . آوي إلى أمي فتدفئني أنفاسها , لأقول لها قبل أن يغشي النوم على جفوني : لقد اشتقت للربيع وحقول الزيتون , والفراشات والأزاهير ,  لن أحبس الفراشات هذا الربيع ولن أقطف الزهور , سأدعها تلهو بالحياة , فتزداد بها الحياة جمالاً .

تقبلني أمي ثلاث قبلات , يحمر وجهي دفئاً في حضنها , وأستغرق في نوم عميق .

وتأتي أيام آذار على حلبجة , وتلوح ملامح الربيع في الأفق , وقبل أن يولد الربيع هذا العام . قرر الأطفال أن يصنعوا من أجسادهم أزاهير الربيع , وبألوانها المعهودة , ويتراقصوا بجنون كما رقصت فراشات الربيع في آنية الزجاج وتنضح دماؤهم لتصنع دفء الربيع , أو دفء الحياة , وترسم على صفحة حلبجة بقعة من ربيع أزلي , تزدهي جلالاً , كأنما هي رمز مملكة إنسانية جديدة .. ستستمر مدى الحياة .

  18 / 4 / 1999     

 

 

مع تحيات الكاتب مروان بركات - موبايل ( 094305810 ) / الاعداد الالكتروني  تيريج عفرين - 5 / 5 / 2007

العودة إلى الصفحة السابقة