* مواويلُ عِشْق ٍ وهيام *

صلاح الدين عيسى

 

 ما مِنْ بُدٍّ في أن أكثرنا يود لو يحظى من الآخرين بقسط من العطف والاهتمام والاحترام،وكلنا يرغب في أن يوجه له شكر و ثناء يشعرانه بالزهو يشتد عزماً ويربط جأشاً ويندفع تلقائياً لسلوكيات خيرة،يستزيد منها استحساناً يأمله من وسط في حياض رياحينه ترسخ جذوره.

    قد تختلس الفضائيات أوقاتنا أو يدفعنا تكاثر المبتكرات وتزاحمها انبهار الأبصار وولع القلوب بها أن نسهو عن إهداء الآخرين بعضاً من جمالية القول والمعاملة،فهل يذكر أحدنا ولأيام مضت،كم من البشر أسعدهم جميلُ كلامه أو حسن فعاله ..؟.

أصبحنا وفي برهة وجيزة ، أناساً تغلف المادة أدمغتنا، أحدنا ـ كحجر الرحى ـ يبحث عن ذات مفقودة في زحمة الأيام ،وآخر عن كسرة خبز يسد بها الرمق،وثالث يلهث في جمع الثروة وارتقاء المنصب ورابع يتشبث بكرسي صاحب الجلالة واهباً ما غلا أو رخص من مال ومتاع أو من كرامة،وخامس يبحر في عالم اللهو والملذات،يقتنص المزيد مما يبهج الأنفس ويغذي الأبدان،وأجمعنا يتسول ما يهدئ اختلاج القلوب،مفتشاً عما يملأ فراغاً هي الروح فيه .

من البرِّ تقاسم عناقيد الفرح والمسرة مع الخلان والأقران،فما من حبور أو من هناء مطلقين،ما لم ترفرف بيض الحمائم على كل وهاد الوطن وتلاله وشطآنه،ما لم ينشد أبناؤه أجمعهم، مواويل حب وعشق وهيام .

وكما أن الرقي،لن تصيبه الأسرة،إن لم تنم في جنباتها شجيرات الألفة والوئام،ا لم يكن التعاضد والتراحم سمات تزين أجبنة الأبناء والأبوين على حد سواء،فإنه ما من وطن حر،ما لم تشرق الشمس فيه على جميع أطياف وألوان البشر،وأما الرفعة،فلن تكون،إنْ في الوطن حورب الفرد في عيشه وفكره ومعتقده .

لا من صلاح في الحياة إن لم نعزف أجمعنا على أوتار الحب،فلا من بهجة تكتمل أو من فرح يعم،ما لم نخلد سوادنا إلى فيئ ذواتنا الشتيتة، نسْكنُ المحبة في سويداء القلوب،نُبَدِّلُ القبحَ جمالاً والعهر عفافاً والمذلةَ عزاً وشموخاً وإباء.  

* الأديبُ وصَنْعَة ُ الكتابة *

   أن يعيش المرء شُحَّ الفكر والحلم والأمنيات،أن يصبح جل تفكيره وكل إبداعه،محصوراً في اقتناص لقمةٍ يُنجدُ بها جسداً منهكاً وقلباً حطمتهُ النوائب،فذاك ما يحدُّ من تطلعات أي مجتمع لأي سموٍّ ينشدهُ،فما من أمةٍ تصيب حظوظاً في الرقي والرفعة ما لم ينزاح عن أبنائها ثالوث الصمت والاتكالية واللامبالاة وثالوث المرض والجهل والفاقة.

   بالنسبة للأديب،لا تقل الكتابة أهمية عن الماء والهواء،هي إكسير،يمنحه الرغبة في العيش والبذل والمنح،أو متنفسُ يطرح من خلاله سموماً تستوطن أعطاف النفس ، فإن كُبِّلَتْ أو شُلَّتْ يداه أو أحجم فكرهُ أوجُزَّ لسانه،تحولَ إلى جثة هامدة ، محاطاً بضروب من العزلة والحيرة والكآبة والإحباط.

مُلزمٌ الكاتب في مجتمعات الصمت،  أن يعمل في الصباغة،ملوناً بالبياض فساداً وظلماً وبطالة،يلبس الانحلال الخلقي ثوب الفضيلة،مباركاً كل فتحٍ للفضائيات الماجنة في تبديل الأفكارِ والرؤى،مُلزمٌ هو ،مجاراة العلمانية والتعصب الديني،مباركاً ثراء فاحشاً ـ ولو على إفقار المواطن ـ يصيبه التاجر،متوسلاً إياه ،رُوَيْداً ورحمة بالفقير،متسولاً في أروقة الساسة وفي دهاليز العتمة، أثيراً مشبعاً برغد العيش.

في الكتب وحدها نلتقي بكتاب،التزموا قضايا الخلق فسخروا الأقلام والنفس،امتشقوا حسام الحق،منددين إن ألفَوْا خرقاً أو انتهاكاً للحقوق،أو عَلَتِ البسمة جباههم، إنِ الْتُزِمَ في أداء الواجبات فنعِمَ الشعب بالأمن والاستقرار. في الكتب وحدها نستشفُّ الفضيلة والعفة والصدق،فيها نحلقُ في فضاءات حبٍّ سامٍ منزَّهٍ ،يرقى بالأنفسِ  وينأى بها عما يسمى حباً يغزو حيوات الأبناء في  زمن مشبع بكل ألوان التناقض والزيف.

الكاتب لا يمتلكُ الحق في أن يكتب ما شاء له الهوى، كونه محاصراً بسهام القريب دون البعيد. الرد قاسٍ والضربة موجعةٌ لثريٍّ يرى الكاتب مترصدا ًله في حِلِّهِ وتَرْحالهِ ،والبتة لن يروق للسياسيِّ ما يُسَطِّرُهُ يراع الكاتب،بينما ذاته ـ أي السياسي ـ وأملاً في ذرِّ الغبار على الأعين والأنفس،يَجْهَدُ في تصَنُّعِ الطهر والنقاء،لن يُهادنَ الكاتبَ أبداً مَنْ ـ وباسم الدين ـ يزهق الأرواح ولا من نجدةٍ،تُغيثُ مثقفاً في مجتمعات لا  تصفق إلا للأقوياء .

  أحياناً يصيب الكاتب وهَنٌ،فيرى الحياة مسرحية، يرسم ذاته معالم  شخوصها فيمنحهم ما شاء من سلوكيات وأخلاقيات،وغالباً ما يهجر أوراقه وأفكاره،ليعيش في غفوةٍ يرى الأُفولَ متربصاً به من كل حدبٍ وصوب،لكنه كالوليد متشبثاً بأحضان أمه وكالأطيار في حنينها للأوكار،يفاجئنا،وعلى حين غرةٍ،بأنه لا يتقن شيئا خلا الكتابة،وأنه لن يتذوق للحياة طعماً،مالم يخطَّ يراعه ما يمنح الكون نفحات جمالية،تزيح عن كاهل الإنسان انتقاصاً للرغبة في عيشٍ كريمٍ وغدٍ مشرقٍ يحملُ في ثناياهُ تباشيرَ البهجة والفرح .              

" مَنْ عَلَّمَني حرفاً كنتُ لهُ عبداً "

  الاحترام من الحُرْمَةِ...لا انتهاكٌ لذمةٍ أو حقٍّ أو صٌحبةٍ. ذاك اللفظ الجميل،كالقطع النادر،نكاد نفتقده اليوم مجسداً في تعاملنا مع الآخرين.ولأنَّ تراكماً وتبدلاً سريعاً في الأحداث والأفكار نلحظه،ومع نشوء ظواهر جديدة وتكوين رؤىً ومفاهيم لم تكن مألوفة،أصبحنا نظنُّ أنفسنا ـ جيل الكبار ـ غرباء على حياةٍ تفاجئنا كل يوم بجديدٍ،فنستسلم لشريط من الذكريات،نُمَتِّعُ الأنظار بمشهد رومانسي اكتنف ما أفُلَ من ماضٍ ،كنا نحاول ـ جهدنا ـ التأدب في حضرة المعلم،فإن فوجئنا به في أزقة الحارة،طأطأنا الرأس أو أنّا غيرنا في وجهة طريقنا. لم تك البتة، عصا المعلم،مَنْ تًلْزِمُنا احترامه أو تبجيله،إنما جملة من المثل والقيم والمبادئ استوطنت أغوارنا.كنا نجسد على أرض الواقع،ما نُلَقَّنُ بهِ من حكم وأقوال مأثورة " قم للمعلم وفه التبجيلا،العلم أنفع من المال،إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ،من علمني حرفاً "،وعلى الرغم من أنَّ أكثرنا كان يصارع مسالكَ العيشِ الوعرة،أو كانت البساطةٍ في المسكن والملبس والمأكلِ والتعامل،غيومٌ ظللت آفاقنا،فإن قلوبنا،قد زينتها لآلئ صدقٍ وجُمِّلَتِ منا الأنفسُ بيواقيت من زمردٍ ومرجان.

ومع تسارع وتيرة الزمن وإتحاف الحياة الإنسانية بكمٍّ هائل من المبتكرات،وإضافة إلى تحسينٍ طرأ على الحياة المعيشية للإنسان،فإن عجلة التغيير قد طالت فضائل،أيَّما جمالية أضفتها على كثير من جنبات الحياة .لم يكُ المعلم إلا واحداً ممن اعتنقوا نمطاً جديداً من أخلاقيات،استُعيضَ النبل فيها والروحانية بزيفٍ هو نتاج المجتمعات المادية،فبينما على كاهله تكتمل مهمة التهذيب والتقويم والتربية،فإننا نراه اليوم وقد خفَّ احترامه للطالب وللعملية التربوية برمتها،فمن عشية لضحاها أصبحَ يُمَجِّدُ الأنا ويسترخصُ ما رُبِّيَ عليهِ من طهرٍ نهلَ من مشاربهِ ،وَهِنَ العقل وأصابتِ الأنفسَ ضروبٌ من المذلة والهوان لمّا سال لعاب أكثر المربين وأبهرهم بريق المال ولمعانه. ما كان المعلم إلا رمزاً للطهر والعفاف لكنه وفي ليلة ظلماء تفتقِدُ البدرَ،انقلبت الآية فأصبحنا نراه أنموذجاً سلبياً أفرزه سلطان المال،انطفأت لديه شموع الرغبة في رفد المجتمع بأجيال تسمو به وترقى،فمِنْ تأخُّرٍ في المنهاج المقرر إلى غياباتٍ مكررة إلى تلميح أو ترويج ـ وعلانية ـ لدروسٍ خصوصية،تُنْجِدُ النشء من تقصيرٍ ذاته قد تعمدهُ،سلوكياتٌ يتسم بها كثير ممن تُعَوِّلُ المجتمعات عليهم لحاقاً بركب التنمية والتحديث.أصبحنا جيل الكبار، نترحم على زُهُوِّ ماضٍ زركشتهُ الأفئدة بكل ألوان المحبة.وهل من حيلة لدينا خلا وقوفنا على الأطلال،نتجرع  كؤوسَ الخيبة والأسى...!!؟؟.

 تيريج عفرين - 5 / 6 / 2008 / صلاح الدين عيسى ـ 7875830 ـ 0944989574

salah-isa@hotmail.com

==========

 

وعلى نفسها جنت براقش

صلاح الدين عيسى

    قد يألف المرء أناساً فيُسرَّ لمرآهم أو امرأةً يعزُّ عليه فراقها،أو يألف منزلاً تجمعه ذكريات فيه،أو مقهىً وحديقة يتردد إليهما مراراً،الألفة تعني:الصداقة والمؤانسة والاجتماع والالتئام،هي أحاسيس ومشاعر سكنتِ النفس بعد أن أمضيت ردحاً من الزمن في دارٍ مضى على بنائها أكثر من قرن،سكنتها من قبلي عوائل هجرتها إلى المدينة بعد أن اشتد العود في أبنائها وأحفادها.

  كانت جدران الغرفة التي خصصت لسكناي ملبسة بالطين مدهونة بالجبس وسماكتها قد زادت عن نصف متر،أما سقف الغرفة،فقد ظهرت فيه أعمدة متوازية،يعلوها حصرٌ فُرِشت بكميات كبيرة من التراب،أخرجُ كلما هطل الغيث إلى سطح الدار،فأُدَحرِجَ الدولاب الحجري كي يتماسك التراب،فيمنع من تسرب الماء داخل الغرفة .

   تلك الجدران الطينية وذاك السقف وكل ثنايا الدار والغرفة التي أشغلها،استوطنتها كائنات،رغم اختلاف أنواعها وأحجامها،لكنها جميعاً قد رحبت بشخصي،فأبت إلا مقاسمتي أو منازعتي الزاد ، عندما أبدأ طعامي الذي اختصرته لوجبتين في اليوم وعيناي مثبتتان على التلفاز، أتابع خبراً مصوراً أو أغنية أو مسلسلاً درامياً،يفاجئني الجرذ بخروجه إلى سطح التلفاز منتصباً على قائميه الخلفيين مصوباً إليَّ عينين دائريتين تتوضعان في مقدمة رأس صغير ملتصق بجسد يزيده طولاً واتساعاً،وقائماه الأماميان،قد أرخاهما،وكأني به في هيئته تلك،يود استبيان ردة فعلي إزاء ظهوره المفاجئ،لكني وما أن أفغر فاهي وأكف عن تفتيت اللقمة وأنا من الدهشة في أشدها من كائن لم ينبئني أحد مبعث زيارته،ولم أعلم مسبقاً أمكنة تواجده،فما أن أحرك من جسدي ،حتى أراه يسارع الاختباء في ثغرة  أحدثها في واحد من جدران الغرفة.

ونظراً لأن زواري ثقيلي الدم،يجهلون أوقات راحتي،فقد كنت أعتمد الأسرة للنوم أو الجلوس دون فرش للأرض بالبسط التي كنت ألحظ كثيراً من العناكب تتخذها مخابئ لها،أما الفئران فكنت أحسد فيها سرعتها وتسلقها للجدران والأعمدة،فحينما تتجول في سقف الغرفة وتُسقِطُ بعضاً من ترابٍ على محتوياتها،أتعمد إخافتها بإحداث جلبة،لأنعم ببعضٍ من الهدوء يُحَفِّزُ لدي الرغبة في متابعة الكتابة.

   هل من أخطار تهددني بمجاورتي لتلك المخلوقات الجائعة دائماً..؟؟،بالطبع لا، فكلها قد توحدت في الرأي واجتمعت كلمةً،أن ترفع الأبيض من الرايات،وليس أدل مثالاً،تلك الأفعى،رمادية اللون،حيث يؤكد القرويون خطورتها،فحينما كنت أطهو الطعام،يتناهى إلى مسامعي أصوات مصدرها السقف،أراها تكوِّر من نفسها،ترخي النصف الأمامي من جسدها نحو البخار المنبعث من القِدْرِ الذي يمتلئ لنصفه ببعض من الخضار،ترخيه وتسحبه نحو الأعلى في حركة متسارعة،وحينما أُلوح لها بالعصا،تختفي في ثنايا السقف،فيدهشني انصياعها لأوامري وامتناعها عن الحركة في المكان الذي تختبئ فيه.

كنت وتلك الكائنات في سلام،ربما لأني أزيدها حجماً،فتمتنع عن مهاجمتي،أو لأنها تدرك اختلافاً في الخلق والتكوين والفصيلة،فترفض أن تطبق بحقي أي من المواد التي نصت عليها شريعة الغاب،لكني ولسنوات خلت،شهدت حروباً شعواء دارت فيما بينها،فلمرة أدهشتني السرعة في صرصار يذرع أرض الغرفة وتلاشى استغرابي،حينما وجدت حرباء تلحقه،فتمد بلسان طويل،تمسك به وتدخله من ثم في جوفها. كنت حينما أفتقد الفئران في غرفتي،أتيقن خروج الأفعى من جحرها،وعندما أشاهد الحرابي،متسلقة جدران الغرفة وزواياها،أطمئن لاختفاء الصراصير وباقي الحشرات.

استنجدت بصاحبٍ لي أعدت زوجته قِدراً من البرغل،رششت عليه بعضاً م السموم،ارتديت بعدها الكامل من لباس الميدان،لأبدأ بالفئران معاركاً أُجبرت على خوضها،كانت الجحور كثيرة في جدران الغرفة،إلى حد جعلني أُنهي على القِدر في ملئها بالبرغل وسدها بالطين الممزوج بالإسمنت.

حصيلة اليوم الأول من المعارك كانت تأوهات مبعثها الجدران التي كنت أسترق السمع إليها فعرفت منها سيارات الإسعاف تنقل الجرحى أو هي عربات دفن الموتى لست أدري،ونظراً للتعاطف الذي أبداه لي بعض القرويين،فإن أحدهم قد تبرع بفخٍّ صُنع خصيصاً لاصطياد الأرانب وسواها من الحيوانات التي تغير على منتجات الكروم والبساتين،فبعد أن تبينت الشقوق التي منها تخرج الجرذان للغزو،كنت أضع قليلاً من اللحم في إبرة الفخ،فأخرج لسويعات من الدار،لأعود وقد أطبق الفخ على نفسه،واللحم قد أكله الجرذ ومضى في حال سبيله،كررت المحاولة لأترقب الأحداث عن قرب،ألفيت جرذاً،شدته رائحة اللحم،فخرج من جحره،لكنه من الذكاء،بحيث لم يندفع من فوره نحو الطعم،بل كان يكرر الدفع بقائميه الأماميين للمس قطعة اللحم وسحبهما سريعاً نحو الوراء إلى أن أطبق الفخ على نفسه من جديد واندفع صاحبنا إلى الوليمة بعد الإحساس بزوال الخطر.

اعترفت بهزيمتي أمام الجرذ،وأخذت أعد العدة لمعركة سأخوضها لاحقاً مع الأفعى التي حذرني الفلاحون من شدة خطورتها وضرورة التخلص منها بعد أن أسدوا إلي كثيراً من النصائح ومن أهمها:طرد الحمام الذي تكاثرت بيوضه وفراخه في الجدران الخارجية للمنزل.

عملت بالنصيحة وأعددت من ثم وجبة من بيض مسلوق،رششت عليه بعضاً من السموم،أفرغت البيض بعد تقسيمه في وعاء وضعته في مكان من الغرفة ،يُمَكِّنُ الأفعى من شمها والإقبال عليها،خرجت لساعة أو أكثر،دون إحكام لإغلاق الباب،ولما عدت،وجدت نفاذ البيض،فشعرت بنشوة النصر لهنيهة لم تدم،حين أنبأني أحد الصبية،بأن كلباً ينازع الموت قد تمدد أسفل الوادي،أحسست حينها بالإثم وأنحيت باللائمة على ذاك المتطفل الذي اقتحم الغرفة عنوة،والتهم وجبة لم تخصص له،هدَّأتُ من نفسي وأسكنتُ من روحي متمتماً :وعلى نفسها جنت براقش .

 

صلاح الدين عيسى / 31 / 3 / 2008

أرضي: 7875830 ـ جوال: 0944989574

==========================

 

دراسة

            " الهند... روحانية في الأدب والفن "

 

 

      ما أن نتطرق إلى الحكمة والزهد وخصب الخيال والعمق في التفكير؛حتى تتبادر الهند إلى أذهاننا،بلاداً،صبغ الدين حياتها الثقافية والاجتماعية بنفحات روحانية . فإن كانت الآداب مرآة،تعكس بجلاء حياة الشعوب على وجه المعمورة،فإن الأدب الهندي، الحافل بالأساطير وقصص الآلهة،والصراع بين الخير والشر،كان صادقاً في تصويره روحانية، منحت الهنود فلسفة خاصة،تعددت في أشكالها وصورها،استُمِدَّتْ من عقائدهم الدينية ومن روحانيتهم التي أضفت الفرادة على حياتهم،وكستها بمسحة من الوقار والحزن،يلمسها المرء على وجوه الناس وفي آدابهم وموسيقاهم ومبانيهم .

كتب الأدب الهندي باللغة السنسكريتية ،وهي الهندية الفصحى التي سُطِّرَت بها الملاحم والكتب المقدسة . تلك الملاحم،كانت تجسيداً للحياة الدينية والاجتماعية للهنود قبل العصر الإسلامي،كانت أساطيراً،شُبِّهت بالألياذة عند اليونان،لكنها تميزت عنها،بأنها لم تنسب لشخص معين ولم تتقيد بوحدة الزمان،إذ أنها نشأت في العهد القديم وطالت حتى اكتملت في نحو ألف سنة .

من الملاحم الهندية العظيمة نذكر:" المهابهاراتا "و" الرامايانا" و" البورانا " ، فالمهابهاراتا، أرَّخت حياة أبناء ملك قبيلة " بهارتا"،وحدثتنا عن انقسام البلاد إلى دولتين:إحداهما بزعامة أولاد بهاراتا ،والثانية بزعامة أبناء أعمامهم،وعما دار من حروب بين الدولتين،بسبب من أطماع أبناء العم في بسط نفوذهم على البلاد كلها. كتبت ملحمة"المهابهاراتا "شعراً وعُدَّت أطول قصيدة شعرية،إذ بلغ عدد أبياتها المئة ألف . " الرامايا " ملحمة تناولت حياة الملك راما والملكة سيتا،الملك في هذه الملحمة يمثل الرجولة في عنفوان قوتها والملكة أنموذج حي للمرأة الهندية الفاضلة . ركزت الملحمة على وفاء الزوجة لزوجها والزوج لزوجته والابن لأبيه والإخوة لأخيهم الأكبر . وأما " البورانا " ـ كتاب الهندوس المقدس ـ فيحتوي على شعائرهم الدينية وتقاليدهم،ويحكي قصصاً عن الآلهة والأبطال .

      في الهند،ارتبطت الدراما المسرحية والرقصات الشعائرية،منذ القدم وحتى منتصف القرن التاسع عشر،ارتباطاً وثيقاً بقصص الآلهة وبالأساطير الدينية،إلى أن دخلت الدراما الحديثة حياة الهنود ، فاستقلت المسرحيات النثرية عن الرقص والموسيقى والدين،وأصبحت تؤدى باللغات المحلية خلافاً للمسرحيات القديمة،التي كان أكثرها مكتوباً باللغة السانسكريتية . في معرض تناولنا للرقص الهندي،لا بد وأن نلفت الانتباه إلى أصالته وروعته،وما يتضمنه من قواعد ومعان يدركها عامة الناس .

حمل الرقص في بدايته طابعاً دينياً،يؤديه الراقصون في المعابد وانتقل من ثم إلى المسارح والحفلات. يتميز الرقص عند الهنود بحركات اليدين والجفون والحواجب والعيون،كلٌّ منها له حركات عديدة،ولكل حركة مغزى معين.تخطى الرقص الهندي أسوار المعابد والمسارح والحفلات،فألفينا رقصاً شعبياً في مناسبات زراعية مثل : بذر الحبوب ومواسم الحصاد إذ يشترك في ذاك الرقص نساء القرية ورجالها،يقفون صفاً متماسكين،متمايلين،كتمايل سيقان الزروع،أو يحدث أن يقف الرجال في صف والنساء في صف مقابل،يقترب الصفان ويبتعدان عل أنغام الموسيقى،وقد يبلغ الحماس بالراقصين من الجنسين،أن يلقوا بأنفسهم أرضاً متدحرجين،وكلهم اعتقاد بأن الرقص في حالته تلك،إنما يبهج المحصول ويزيد في الإنتاج .

وأما الموسيقا الهندية فأفضل ما توصف به،أنها موسيقا الوجدان والحواس والعواطف،هي صوت الطبيعة وكائناتها،من غناء العصافير وشدو البلابل،إلى هدير الماء في السيول المنحدرة من الجبال إلى عصف الرياح وزئيرها،وحفيف أوراق الأشجار في تناسق لا يدركه حق الإدراك إلا الهنود أنفسهم .

 والفن الهندي في البناء،بلغ بدوره درجة عالية من الإتقان والبراعة والإعجاز،وخير ما يؤكد ذلك،أعجوبة العجائب" تاج محل "و " المسجد الجامع " في مدينة دلهي وكذلك الفن التشكيلي، قدم نماذج رائعة،ذاع صيتها في أنحاء الكون،تماثيل للآلهة والحيوانات ونقوش باهرة،أكثرها يعود لأقدم العصور،مستمدةً من حياة الإله" كريشنا" ورفيقته " رادها " ومن قصة الملك " راما"والملكة "سيتا" ومن قصة الأميرة" سافتري" .

 الشعر الهندي،وإن لم نستطرد في الحديث عنه،فذلك لا يعني التقليل من شأنه،فللشعر كما للرقص والموسيقى،مكانة مرموقة عند الهنود،فبالشعر كتبوا ملاحمهم وعلى تراب الهند نشأ وترعرع كبار الشعراء الذين منهم من خلت أشعارهم من الحس الوطني فغلبت عليه الصفة الدينية. من أهم رواد الحركة الشعرية عند قدماء الهنود،الشاعر" كبير" الذي اهتم بالتوفيق في العقيدة بين الهندوسية والإسلام .

 ومما قاله " كبير " على لسان الإله :"عبدي،إلى أين تذهب باحثاً عني،وأنا في جوارك .لست في معبد ولا في جامع،ولست في شعائر ولا في مواكب . إن كنت حقاً تطلبني وتهوى لقائي،فانظر،فإنك ستراني " فيض من المشاعر الوطنية تميز بها الأدب الهندي في عصرنا الحديث،جسدت في كتابات الأدباء.ففي قصيدته " السيل "،حدثنا الشاعر " نيرالا " عن الوطنية الجارفة: أيها السيل العرم،يا من لا تصده قوة على وجه الأرض،أنت اليوم تكتسح كل ما يعترضك من عقبات،وأنت اليوم تحرر الروح الثائرة " .

 وممن لمع نجمه من كتاب الهند وشعرائها،"رابندارانات تاجور"الذي ولد في كلكتا عام 1861م وتوفي سنة 1941م.كتب" تاجور" أوائل قصائده بالبنغالية،لغة موطنه،ومن أهمها:أناشيد " جيتانجالي "التي نال من أجلها،جائزة نوبل لعام 1913م .تميز شعره بحب كبير للإله:

 " أحقاً أنك،وأنت ملك الملوك،قد نشرت كل هذا الجمال والبهاء لكي تأسر قلبي وحنايا وجداني".

جمع"تاجور" في شعره بين القديم والحديث،بين أفكار الشرق والغرب،وكانت أشهر قصائده " نايفيديا " التي كتبها عام 1901م،انطوت على معرفة عميقة بالله وعطفه البالغ وسعة رحمته بالعباد.لتاجور مؤلفات كثيرة،بعضها نثر وبعضها شعر،وقد ترجمت أعماله إلى معظم اللغات  الحية ، وأدرج اسمه بين أعلام أدباء العالم وأوسعهم ثقافة . 

                   المصادر :

                     ـ تاريخ الهند الثقافي ، تأليف " رولنسون "

                     ـ الهند :تأليف "عزت فهيم صالح"

               صلاح الدين عيسى

  أرضي: 7875830 ، جوال: 0944989574

=====================

 

دراسة

 

  " المخدراتْ ، عالمٌ لا متناهٍ منَ الجنونْ "

 كرم الله ـ عز وجل ـ ابن آدم،أبدع في خلقه وتكوينه،فضله على الكائنات حينما وهبه نعمة العقل،وزاد على ذلك بأن جعله خليفة لجلالته على كوكب الأرض،كي يتولى إعمارها بالمحبة والتسامح والشكر لخالقٍ كريم ٍمعطاء .

 الصلاح والطلاح،يُسْتَدَلُّ عليهما،مقدارُ إيمان المرء وانصياعه كلياً لمشيئة خالق السماوات والأرض،وكونه ـ جل شأنه ـ رحيم بالإنسان؛فإنه أدرى بالسبل التي تنجيه من المهالك . فلم يكن الهدف من إرسال الرسل والأنبياء،إلا تذكيرٌ للناس بسلوكِ طرقٍ توطد أواصر القربى بين العبد وربه,وما الكون وأسراره،إلا دعوة للتأمل،وحتمية للإيمان بوجود عظيمٍ، عليمٍ،جبارٍ،يسيِّرُ أموره .

    قبل التطرق إلى موضوع المخدرات لا بدَّ مِنْ تعريف المخدر،هو في اللغة:"مشتق من الخدر،والخدر هو الضعف والكسل والفتور والاسترخاء،عرفه الفقهاء بأنه ما غيَّبَ العقل والحواس من غير نشوة ولا طرب " .

        يُقدِمُ الكثير من الناس في معظم دول العالم المتخلف والمتحضر على حد سواء،إلى ولوج عالم المخدرات لقناعات شخصية ودوافع وأسباب نذكر من أهمها:ضعف الوازع الديني وعدم اللجوء إلى الله في الشدائد،ذلك أن المتديِّن بعيد جداً عن الاعتياد،إذ لا يمكن ليده أن تمتد إلى المخدر،لا بيعاً ولا تداولاً ولا تهريباً،لأنه يدرك تماماً أن طريق المخدرات، هو طريق الشيطان،ويعلم بأن طريق الرحمن لا يمكن أن يلتقي بطريق الشيطان،ومن الأسباب أيضاً،الفقر والبطالة والجهل وسوء التربية ومصاحبة أصدقاء السوء أو الهرب من مشاكل عاطفية،أو لزيادة القدرة الجنسية أو بهدف التجربة،أو لانتشار الأفلام الهابطة التي تروج للمخدرات،أو لتقليد أعمى وفقر يعيشه المراهقون،يُلْجِئُهُمْ للبحث عمن يمنحهم ويغنيهم؛فيتلقفهم أرباب الفساد وتجار الرذيلة،دون علم بمدى الشناعة التي يرتكبونها بحق أنفسهم وذويهم ومجتمعاتهم،وحينما يبرز دور المجتمع في تقييم ذلك،فإنه يتوجب التمييز بين المدمن والمتعاطي،فالمدمن يستحق الشفقة لفقدانه السيطرة على نفسه،كون المادة المخدرة قد سلبته إرادته،فيتحتم علاجه،أما المتعاطي،فإن خطره أشد على المجتمع، وعقابه واجب لأنه يعلم تماماً،ما تحدثها المخدرات من سلبيات تقوض من بنيان المجتمع ، ورغماً عن ذلك؛فإنه يدفع بأكبر عدد من الناس إلى مصيدة المخدرات .

   لمحة عن تاريخ الأفيون

        يعتبر الأفيون من أقدم المواد المخدرة التي عرفتها الإنسانية،ومن المحتمل أن الأقوام التي كانت تقطن بلاد ما بين النهرين ( ميزوبوتاميا )،هم من أوائل من زرع نبات الخشخاش لخواصه المسكنة والمنومة،وربما سبقوا غيرهم في التنبه لتأثيراته الأخرى،فقد كان السومريون يطلقون عليه اسم ( بوبي ) وتعني نبات السعادة،وقد عثر البحاثة الأثريون على ألواح فخارية من مخلفات هؤلاء قدر أنها تعود لستة آلاف سنة،كتبت على هذه الألواح عبارات تصف طرق زراعة النبات المشار إليه،وكيفية تحضير أفيونه ولا تختلف تلك الطرق من حيث المبدأ عن الأساليب المتبعة في وقتنا الحالي،وأما الآشوريون والفرس والفراعنة والإغريق فقد استعملوا الأفيون كعلاج لعدد من الأمراض،ويستدل على ذلك من أوراق البردى التي يرجع تاريخها لحوالي ( 1550ق.م ) .

 اشتقت كلمة أفيون ( أوبيوم ) من كلمة( أوبيون ) اليونانية،وتعني العصير،وهناك ما يشير إلى أن الطبيب الإغريقي( أبي قراط )الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد،قد أوصى باستعمال عصائر محافظ الخشخاش لمداواة كثير من الحالات المرضية .    

     سبق العرب الأوربيين في استعمال الأفيون لمداواة المرضى واكتشاف أهميته في معالجة أمراض العيون وفي وقف الإسهال،ونقله تجارهم إلى مختلف الأصقاع،ويحاول الإعلام الغربي إيهام الناس بأن العرب والمسلمين،هم المسؤولون الرئيسيون عن انتشار عادة تدخينه بتعمد ذاك الإعلام،إغفال الإشارة إلى أن اهتمام العرب بالأفيون  كان محصوراً بالنواحي الطبية .  

   ازدهرت زراعة نبات الخشخاش في أواسط آسيا والهند بصورة خاصة،حيث راجت عادة تدخين الأفيون بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر،وأما عدم وجود تسمية للأفيون في اللغة السنكريتية أو الهندوسية،فإنما دليل على أنه كان غير معروفاً لدى سكان القارة الهندية،ويرجح الباحثون أن زراعته في الهند بدأت في القرن التاسع عشر،وفي عام ( 1773 م ) . بدأ التجار الإنكليز في كلكتا  وعن طريق شركة الهند الشرقية،يلعبون دوراً رئيسياً في نشر تعاطي الأفيون في بلاد الشرق الأقصى،وشجعوا الناس على تدخينه، تأميناً للربح الوفير ، وعندما رأى الإميراطور الصيني ( يونغ ـ شن ) الحالة المؤلمة التي أصبح عليها سكان بلاده من جراء تفشي عادة الإدمان على المخدرات،حظَّر استيراد الأفيون، وكرد فعل لهذا العمل،وبتحريض من شركة الهند الشرقية ومن يؤيدها من مصاصي الدماء وتجار الشعوب،اندلعت نار الحرب بين الصين وبريطانيا في الفترة الواقعة بين عام 1829م إلى 1840م،وسميت تلك الحرب بحرب الأفيون،وعلى الرغم من هزيمة الصين إلا أنها رفضت وبإصرار السماح بتجارة الأفيون .                   

في أوربا،أخذ تعاطي الأفيون ومشتقاته وما يعادله من العقاقير يتوضح في أواخر القرن التاسع عشر،وازداد بصورة ملحوظة بعد الحرب العالمية الثانية،وفي أمريكا الشمالية والولايات المتحدة بشكل خاص،شاع تدخين الأفيون بين  بعض الناس في عام ( 1868م ) أثناء الاحتلال الإنكليزي،وازداد عدد المدمنين بعد الاستقلال عن طريق الجالية الصينية  ـ التي كان يعمل أبناؤها في بناء خط السكك الحديدية عبر القارة ـ فوصل عددهم إلى مائتي ألف مدمن .

مشتقات الأفيون ومجالات استعماله :

       يعرف الأفيون بأنه العصارة اللبنية المستخرجة من المحافظ غير الناضجة لنبات خشخاش الأفيون،تتصف تلك العصارة بلون بني قاتم ومرارة في المذاق ولزوجة في الملمس .  تبدأ عملية تحضير الأفيون حينما يهرع الفلاحون إلى الحقول عصراً،بعد تساقط الأزهار ليقوموا بتجريح قشور الثمار الخارجية قبل نضجها،فينتج عنه إفراز وسيلان للأفيون على شكل مادة صمغية بيضاء تتجمع على الأوراق والسيقان،وفي صباح اليوم التالي،يعود الفلاحون لجمع ذاك الصمغ بعد تجمده ليلاً،فيقومون بلفه بورقتين من أوراق النبات ويعرضونه للضغط على شكل كتل كروية أو أقراص مستديرة تلف بأوراق السيلوفان لترسل بعدها إلى معامل التحضير.

 أظهرت التحليلات المخبرية على احتواء الأفيون لنسبة 75 بالمئة  من المواد الراتنجية و على نسبة 10 بالمئة من المورفين ونسبة 6 بالمئة من الناركوتين  ونسبة 8 بالمئة من البافيرين،ونسب قليلة من التيبانين والايومورفين،وهذا إن دلَّ،فعلى شدة خطورة الأفيون الذي يصنَّع منه عدد لا بأس به من المواد المخدرة،من أهمها  :

ـ المورفين:ويعتبر من أكثر أنواع المخدرات انتشاراً.تصنِّعه معامل الأدوية المرخصة، ويحضَّر سريا لتأمين الحاجات المتزايدة للمدمنين وهو يباع على شكل أقراص أو حبوب أو محاليل .يتعاطاه المدمنون إما حقناً تحت الجلد أو بلعاً مع الشاي أو القهوة أو تدخيناً مع التبغ . 

ـ الهيروئين : مسحوق أبيض ناعم شديد الأذى على المدمنين،يقبلون عليه بكثرة لسهولة نقله واستعماله،ويدخل في تركيب الأدوية المضادة للسعال والمسكنة للآلام،وخاصة لتسكين آلام السرطان والسل الرئوي. يتم تعاطي الهيروئين عن طريق التدخين أو الحقن الوريدية أو الجلدية أو عن طريق الاستنشاق،وعادة أكله منتشرة بين الهنود،فهو عندهم لتسكين آلام جهاز الهضم والتنفس،وإن نسبة 50 بالمئة من الهنود تتعاطاه لتسكين الآلام ونسبة 30 بالمئة تتناوله للتخلص من المشاكل والهموم ونسبة 20 بالمئة للتسلية .

إن الإدمان على الأفيون أشد خطراً من الإدمان على الحشيش،فمدمنوا الحشيش يستطيعون هجره إن امتلكوا الإرادة.الأمر مختلف بالنسبة للأفيون،فمدمنوه يقعون فريسة لأمور عديدة من أهمها ارتباطهم الجسدي والنفسي بتلك المادة،إضافة إلى قوة تأثيرها المهلكة للجملة العصبية، فالمدمن على الأفيون إن حاول هجره،فإنه سيتعرض لآلام بدنية ونفسية غالباً ما تؤدي إلى وفاته . إن الشعور بالراحة والطمأنينة والهدوء والبهجة هي ظواهر آنية يعيشها المدمن ، يتبعها حالات من ضيق وانقباض وتوتر في الأعصاب وإحساس شديد بالتعب بعد زوال المادة المخدرة,وأما أضرار الأفيون الجسدية فتظهر في صرف شهية المتعاطي عن الطعام وإحداث ضعف وهزال عام في جسمه كمقدمة لإصابته بالسل الرئوي،ناهيك عن القروح والدمامل الجلدية التي تؤدي بصاحبها للإصابة بمرض السرطان،كما أنه يعطل نشاط إفرازات المعدة  والأحشاء ويفقد الشهية ويساعد على الإصابة بمرض تصلب الشرايين.

     يصاب المدمن على الأفيون،من اختلاطات استعمال الحقن الملوثة،بتجرثم الدم والتهاب الكبد الفيروسي وبمرض الإيدز،وقد يحدث الموت نتيجة الحصول على جرعة كبيرة . أما بالنسبة للنشاط الجنسي فقد أكد الباحثون،التأثير الضار للأفيون على الوظيفة الجنسية،فالمدمن يصاب بتأخر القذف والعنانة أو بفشل القذف،ويشكو أكثر المدمنين بألم أثناء القذف،وفي نهاية المطاف،فإن معظم المدمنين يصابون بضعف الشهوة الجنسية .

أشارت الإحصائيات،أن نسبة العنانة عند مدمني الهيروئين،قد وصلت إلى / 39 / في المائة،ومن المؤكد أن المورفين يقوم على منع إفراز الهرمون الملوتن/ Lh / ويمنع الإباضة، مما يؤدي إلى عقم المرأة المدمنة،ناهيك عن اضطرابات في الطمث وإجهاضات عفوية،وما هنالك من آثار سلبية على الجهاز العصبي عند الوليد .                

 الحشيش ، زراعته ... طرق تحضيره .. أعراضه :   

       تنتشر زراعة نبات القنب الهندي في إيران والهند ولبنان ودول شرقي آسيا، ويعتبر ذاك النبات،المصدر الأساسي لاستخراج مادة الحشيش  والقنب من القراصيات في المملكة النباتية،ينتمي إلى العائلة التوتية التي تتميز بأزهار صغيرة ومبايض وحيدة الجذور . لتلك العائلة أنواع كثيرة من الأشجار والشجيرات والأعشاب أكثرها استوائي . طريقة تحضير الحشيش تتخذ أشكالاً عدة،ففي الهند،يقوم المزارعون بالسير بين حقول القنب أثناء الحر مرتدين ثياباً من الجلد،وحينما يبدؤون بهز الزروع،تعلق المادة الراتنجية بثيابهم،فيقومون بجمعها وإعداد أقراص مستديرة منها،والبعض منهم يسير عارياً،فتعلق مادة الراتنج بأجسادهم .

    تختلف طريقة تحضير الحشيش  في الشرق الأوسط،إذ يقوم المزارعون بحصاد شجيرات القنب وتجفيفها ووضعها في مكان محكم الإغلاق ، ومن ثم ضرب الشجيرات بالعصي مما ينتج عنه انفصال ذرات المادة الراتنجية التي تجمع ويصنع منها حشيش يسمى الغبارة،يتميز بلون بني مائل للاصفرار ورائحة قوية وقوة تخدير كبيرة .

 بعد الحصول على المادة الراتنجية،يتم سحق الأوراق والقمم بحيث تنخل أولاً بمنخل ذي ثقوب صغيرة من الحرير أو السلك ثم بمنخل يحوي ثقوباً متوسطة يليه منخل ثقوبه كبيرة، وتنتهي العملية باستعمال الغربال،لتبدأ عملية تعبئته في أكياس صغيرة من القماش،تعرض بعدها للغبار فتتحول إلى عجائن،ومن ثم تتعرض الأكياس للضغط في مكابس خاصة حيث تبدأ عملية تحضير الحشيش،فيكون جاهزاً للبيع والاستعمال . يتراوح وزن الكيس المعبأ من ( 250غ إلى 350غ )،وطمعاً في الربح الوفير،يعمد مُصنِّعوا الحشيش إلى مزج محتويات الكيس بقليل من الحناء والصمغ العربي والغراء .

 تختلف أساليب تعاطي الحشيش من بلد لأخر لاختلاف المتعاطين له اجتماعياً ودينياً ومادياً وبسبب من اختلاف العادات والتقاليد،ففي شمال أفريقيا والشرق الأوسط يمزج الحشيش مع القهوة والشاي،أو أنه يؤكل مع الأطعمة أو يؤخذ مع بعض الحلويات والمعجنات،لكن معظم الحشاشين يفضلونه عن طريق لفافات التبغ أو الجوزة أو النارجيلة التي يمزج فيها الحشيش مع التنباك .

    انتشر الحشيش في أمريكا ولاسيما بين القاصرين من الجنسين،إذ يتعاطونه تدخيناً بواسطة السجائر التي يسمونها " الماريجوانا "، وقد خصصت أماكن لتعاطيه جهزت بوسائل تهوية حديثة للتمويه على رجال الشرطة،وفي المكسيك تقام جلسات عند كبار الحشاشين،يمارَسُ فيها أنواع من العربدة والمجون،يدخن فيها المدعوون سجائر " الماريجوانا "،يأخذ كل منهم نفساً عميقاً ملء الرئتين،يسلم بعدها اللفافة إلى جاره،أما في الهند  فإن تعاطي الحشيش واحد من الطقوس الدينية،يصعب على الحكومة الهندية مكافحته . وقد بدأ الحشيش غزوه لأسواق روسيا وأوربا الشرقية،من أفغانستان وبعض من جمهوريات القفقاس،وتعاظمت تجارته إلى جانب غيره من أنواع المخدرات،بعد انهيار الاتحاد السوفييتي،وقد أوردت إذاعة موسكو الناطقة بالعربية إحصائية في عام 2000م ، مفادها،أنه مِنْ بين خمسة من الشباب الروس ممن لا تتعدى أعمارهم العشرين سنة،ثلاثة يتعاطون أنواعاً من المخدرات . تتساهل السلطات أحياناً مع تجار المخدرات ومن يتعاطونها،ففي الجمهوريات الآسيوية وحيث التربة الصالحة لنمو الحشيش ونظراً لسهولة استعماله،تنتشر زراعة ذاك النبات بشكل سري أو بعلم من السلطات،مع تخصيصها بقسم من الأرباح،تحضرني في هذا المجال حادثة كنت فيها الشاهد على انحياز يقوم به بعض من رجال الأمن لرواج تجارة الحشيش،ففي طشقند ،وفي حي " يونس آباد " الذي كنت أقطنه،وفي خريف أحد أيام عام "1991م " أغارت قوة من رجال الأمن على بيت جار لي ، ينمو الحشيش في حديقة منزله،وبعد أن تم تعبئة الحشيش في كيسين اثنين ،كتبوا في محضر الضبط عثورهم على كيس واحد تم إحراقه،بينما الكيس الآخر كما أخبرني أحد المعارف ممن يعملون في قسم شرطة الحي،أعطي لأحد المروجين،لبيعه في سوق " آلا آسكي بازار " .

وفي موسكو يعتمد تجار المخدرات على الطلبة الأفارقة في بيع المخدرات بالمفرق،وقد كانت جامعة الصداقة بين الشعوب " باتريس لومومبا " يوماً ما،مرتعاً وسوقاً رائجة لتسويق الهيروئين المستورد من أفغانستان والمحضر لتجارة التجزئة في أماكن سرية من الجمهوريات الآسيوية،القوقازية منها على وجه الخصوص .

 في الشرق الإسلامي يذكر أن الحسن بن الصباح،في أواخر القرن الخامس الهجري،كان زعيماً لطائفة الحشاشين،يقدم لأتباعه طعاماً يفسد أدمغتهم ويبدل من أمزجتهم،أما المقريزي فقد رأى أن ظهور الحشيشة في العالم الإسلامي كان على يدي الشيخ حيدر من جهلاء المتصوفة وكان يدعوها بحشيشة الفقراء .  خصائص الحشيش قد وصفها علماؤنا المسلمون بدقة إذ يقول ابن حجر الهيثمي:" في أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية،منها،أنها تورث النسيان وموت الفجأة واختلال العقل ودوام الرعشة وتذهب الحياء والمروءة والفطنة وتقطع النسل وتجفف المني وتورث العنة .             

        أجرى العلماء دراسة على /20/ رجلاً مدمنين على الحشيش،ولمدة تجاوزت السبعة أشهر؛استنتجوا من خلالها أن مستويات ( التستوسترون ) لديهم أقل بكثير مما لدى الرجال الذين لا يتعاطونه وأن عدد النطف عندهم أقل بمقدار النصف ، وقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن القنب ومشتقاته،تتركز في البدن،في الأنسجة الشحمية ، كالخصيتين والمبيضين ، مما يؤدي إلى تشوهات صبغية يمكن أن ينتج عنها تخرب وراثي ، وقد تبين على أرض الواقع أن الخلايا اللمفاوية المزروعة والمأخوذة من مدمني الماريجوانا هي خلايا مشوهة .

  يؤكد العالم / كاراكوشانسكي / وزملاؤه أن مادة ( تتراهدروكانيبول ) التي يحتويها دخان الحشيشة تثبط صناعة البروتين في الخلية،وتثبط انقسام الحمضين النوويين / dna  وRna  / مما يؤدي إلى إمكانية حدوث تشوه في الأجنة وإلى إجهاض أثناء الحمل . 

     تظهر أعراض تعاطي الحشيش تبعاً لطبيعة الإنسان النفسية،فالشخص الخيالي يعيش صراع أوهامه،والقاسي يزداد قسوة،والبليد يهذي  بهدوء . يشعر المتعاطي في البداية بقوة بدنية عالية وصفاء ذهني ورغبة كبيرة في الحديث يتبعها ضحك هستيري لسبب أو بدونه، وبرهافة حس تزداد بمجرد سماع لحن أو أغنية،وآثاره في الجسم تظهر في ازدياد ضربات القلب وارتفاع حرارة الجسم وفي شعور المدمن بدوار في رأسه وطنين في أذنيه وانقباض في صدره واتساع في حدقة العين واحمرار في الملتحمة واسترخاء للجفنين،وقد يمر الزمن لدى المدمن ببطء شديد،وتختل ذاكرته بالنسبة للأحداث القريبة،ويصاب بالكسل والبلادة وفقدان الطموح وضعف الذاكرة والتبلد الذهني،وأشدُّ الخطرِ يكمنُ،في أن الحشيش والجريمة والعنف  تتواجد كلها مع بعض،فحينما يفقد المدمن السيطرة على نفسه؛يندفع غير هياب إلى عالم العنف والجريمة ى الجهاز العصبي عند الوليد .

 القات : هل هو من المخدرات ...؟

   القات،نبات أفريقي وآسيوي ،يسمى أحياناً "الشاي العربي" أو "الشاي الحبشي " أو " الشاي الإفريقي" أو " شاي رجل الغابة "،ويطلق عليه الزنوج اسم"ميرا" .وأول إشارة تاريخية إلى القات،وردت في مخطوط فريد من كتاب الأقرباذين ( العقاقير المركبة ) المنسوخ عام / 635 ه ـ 1237م /،وقد ذكر مؤلفه " نجيب السمرقندي " وصفة طبية من شأنها إحداث الانتعاش والنشوة والفرح،وذكر بأنها تفيد في علاج حالات الكآبة والسوداء .وجاء ذكر القات في موسوعة "أمين فضل الله العمري " ( 1301 ـ 1348م ) المسماة "مسالك الأبصار،أورد المؤلف بأن الملك "صيد الدين "،ملك أفيات،حارب ملك أثيوبيا "أمد أصيون "،وعندما انتصر عليه،قطع على نفسه عهداً،بأن يدمر مقر ملك الحبشة وأن يجعل منه مزرعة للقات . وذكر المقريزي،المؤرخ المعروف ( 1364 ـ1442 م) في كتاب " الإلمام فيمن بالحبشة من ملوك الإسلام "،أن في تلك البلاد شجرة يأكل الناس أوراقها،يقال لها " جات"،وهي بدون ثمر وتشبه النارنج،تفرح وتزيد الذكاء وتذكر بالماضي وتضعف الشهية والرغبات الجنسية وتنبه الأعصاب،وأن انتشارها كان بين أهل العلم بصورة خاصة .وقد أشار "ابن بطوطة " الرحالة،الذي عاش في القرن الرابع عشر،أنه شاهد الناس خلال إقامته في ظفار ومقديشو،يتناولون نباتاً له مفعول مقوٍّ،يدخل البهجة إلى النفس،حسبه نبات "التنبول"،وما أورده " ابن بطوطة " ينطبق على نبات القات بشكل كبير . ويقول الأمير مصطفى الشهابي في معجمه "الألفاظ  الزراعية "،أنه لم يجد كلمة القات في المفردات ولا في الأمهات،ويظنها كلمة مشتقة من كلمة حبشية هي " تشات "  تنبتها طبيعة الحبشة.

يُعتقد بأن زراعة القات قد انتقلت من الحبشة إلى اليمن وعدن عام / 1424م/ قبل زراعة البن في تلك البلاد . ومن الثابت أن أول من قام بدراسة علمية عن نبات القات،العالم السويدي " فورسكال "،فقد وصفه عام / 1775م/ في بحثه عن النباتات الخاصة بمصر وشبه الجزيرة العربية،وأطلق عليه اسم (  gat أو chat ) ولهذا،يضاف اسم هذا العالم إلى التسمية اللاتينية للنبات : eduls forsqal  ُCATHA" .

ينسب القات في المملكة النباتية إلى العائلة الحرابية،وهو ينمو بعفوية في المناطق الحارة والمعتدلة،في جنوب وشرق أفريقية،وأوغندة،والكونغو وكينيا وأريتيريا وأواسط آسيا، وجنوب الحجاز وشرق حضرموت ويزرع في الحبشة واليمن . يبلغ ارتفاع شجرة القات ما بين ( 100 ـ 180 سم ) في الأماكن المرتفعة وإلى ستة أمتار في المناطق الاستوائية . تتميز هذه الشجرة بخشب أصفر جميل ولحاء بني رقيق،وشكلها أشبه بشجرة الشاي،أوراقها دائمة الخضرة .والقات مثل غيره من النباتات المخدرة،يسمى بأسماء عدة تبعاً للجودة والنوع ومنطقة زراعته،هناك القات الهرري وله ثلاثة أصناف هي:القدة والقرطي والبلبليتي ، وأما القات اليماني،فمن أصنافه:الطليلي والبرعي والريمي والجحاشة والنظيري،وهناك قات رخيص موسمه شهر أيلول .

  صنفت الأبحاث المخبرية القات ضمن قائمة المواد المخدرة من خلال آثاره على الصحة ، إذ يؤدي إلى إحساس الإنسان بالقوة والتفتق الذهني وحدوث اضطرابات عصبية وهضمية وشعور بالتعب وفقدان للشهية،وتلك أعراض تشترك فيها جميع أنواع المخدرات الآنفة الذكر إلا أن تلك الأعراض لا تظهر على مدمني القات قبل مضي خمسة عشر يوماً من تعاطيه وتستمر حتى الثلاثة أشهر . إن تجارة القات تلقى رواجاً وازدهاراً وربحاً لا بأس به في اليمن،يمضغه اليمنيون ويفضلونه طازجاً،ولهم في تعاطيه طقوسهم،إذ يحرصون على تعاطيه في الأماكن العامة للتسامر وتبادل الأحاديث .

 الكوكائين ، أنواعه وأوصافه وأماكن زراعته:

 تظهر الدراسات التي قام بها عدد من الباحثين أن الهنود،سكان البيرو الأصليين،كانوا يعظمون نبات الكوكا ويعزون تأثيراته إلى قوى خفية مقدسة،وثمة ما يشير إلى أنهم كانوا يمضغون أوراقه عند أدائهم الطقوس الدينية،شأنهم في ذلك شأن الكهنة في بلاد فارس والهند الذين كانوا يعطون الحشيش لفتيات المذبح .

      تشير بعض الدراسات الميتولوجية ( الأسطورية ) أن الهنود الأنكاس،كانوا يجهلون خواص نبات الكوكا،وأن سكان البلاد التي كانت تحت حكمهم مثل بلاد الايماراس،كانوا يعلمون الكثير عنه،فهم كانوا يطلقون عليه اسم "الذهب الأخضر" .تنتمي جنبة الكوكا لجنس من الشجيرات تدعى بذات الخشب الأحمر المعروف علمياً باسم " أريثروكسيلون " ويتبع هذا الجنس،فصيلة حمراوات الخشب التي تتميز بأزهار خماسية،بلون أبيض،مائل للخضرة وسدى متحدة الخيوط وثمار وحيدة النواة  . من أنواع الكوكا،الأريثروكسيلون  تروكسيلينيس ( روسبي ) ، وتنتشر زراعة هذا النوع من نبات الكوكا في مناطق عدة من البيرو، وتعرف أوراقه باسم ( كوكة تروخيللو coca de trujillo  ) و ( كوكا دي ليبرتاد  coca de la libertad)وأكثر المؤلفات تطلق اسماً عاماً على أوراق الكوكا التي تنتج في البيرو  وهو: (coca  peruana  ) . وأما الأريثروكسيلون كوكا ( لامارك)  فهو اسم يطلق على نبات الكوكا الذي يزرع في سيلان وجاوة،ويغرس في البيرو وبوليفيا وكولومبيا والأرجنتين والاكوادور والتشيلي والبرازيل،ويوجد برياً في مناطق عدة من غربي القارة الأمريكية ومن أنواع الكوكا الأخرى،( أيرولاتم ( Areolatum  و (هيبريسيفوليوم Hyperieicifolium  ) .   تشبه نبتة الكوكا،شجيرة اللوز،يتراوح ارتفاعها بين /120و150 سم /،لها جزع منتصب خشن الملمس وفروع مستقيمة،أوراقها بيضوية،خضراء قاتمة،رقيقة،أزهارها صغيرة ومنتظمة،تتألف من خمس تويجات بلون أصفر ـ أبيض، مياسمها على شكل قلب،وكل من مدقاتها تتألف من ثلاث مبايض،وهي ذات أعضاء تناسلية ذكرية وأنثوية في نفس الزهرة،وأما ثمارها،فصغيرة متدلية،ذات لون أحمر غامق .  يستعمل الكوكا بمضغ الأوراق،بعد إضافة مادة قلوية تساعد على إذابة جدران كتلة تلك أوراق وتسهل امتصاص كوكائينها في الأمعاء الدقيقة،تموَّن أوراق الكوكا بكميات مختلفة تبعاً لمدى التعلق بعادة مضغها وبنوع العمل الذي يقوم به الإنسان . وقد سمي مشروب الكوكا كولا بذلك لأنه يحتوي على مستخرج من أوراق نبات الكوكا مطيب للطعم،بعد نزع جميع الكوكائين من المستخرج المذكور.

أضرار الكوكائين الجسدية والنفسية:

يعتبر الكوكائين من المخدرات المسببة للإدمان ويختلف عن الأفيونيات في عدم التعلق الجسدي،يشعر المدمن بالهدوء وازدياد في الجوع والتعب،يتبعها إحساس بالتهيج والانفعال الشديدين.يعمد بعض المدمنين على مزجه بالهيروئين والمورفين . ينشط الكوكائين الجهاز العصبي المركزي فيحس المتعاطي بابتهاج شديد،قصير الأمد،يتبعه خوف واضطراب وقلق مصحوب بهلوسة وهذيان ووهم وشعور كاذب بالعظمة . يسبب الكوكائين شحوباً في اللون وارتفاعاً في حرارة الجسم وزيادة في حركة الجهاز التنفسي وسرعة في ضربات القلب وارتفاعاً في ضغط الدم،وارتجافاً في العضلات وفقداناً للوزن،واستنشاق الكوكائين يسبب تلفاً في الأغشية المخاطية في الأنف،وإن استعمله المرء حقناً بالوريد أصيب بالبثور وربما بالسرطان .     

طرق العلاج من تعاطي المخدرات نوجزها في أمور ثلاثة :

أولها : إيمان الفرد بحقيقة وجود إله يدير شؤون الكون،والعمل على عبادته،فالعبادة وسيلة لتزكية نفس المؤمن،وترقية لروحه،وصيانة لعقله وعرضه ونسله ونفسه وماله.  والمرء في عبادته لله لا يخسر شيئاً،إنما يربح الهدى والاستقامة والثبات على الخير والاستعلاء على الشهوات،وأهم من ذلك فهو يربح هدوء النفس وطمأنينة الحياة .

ثانيها : رغبة صادقة ترافقها تدابير عملية من قبل مختلف بلدان العالم لحظر زراعة المخدرات واتخاذ العقوبات القاسية بحق التجار والمهربين .

ثالثها : إيجاد نوع من الثقة المتبادلة،وإبرام معاهدات واتفاقيات صداقة وتآلف بين الحكومات وشعوبها،فتحسين  مستوى المعيشة للأفراد ضروري لبناء مجتمعات تسود وتُغَلّبُ فيها نزعة الخير،وحيثما تشبع الرغبات الخيِّرة؛تصيب المجتمعات أكبر قدر من الرقي والتمدن .

 الهوامش والمراجع:

                      ـ " المخدرات " تأليف : إبراهيم غازي، دمشق ، مطبعة الحياة ،1965م .

                      ـ "الإلمام فيمن بالحبشة من ملوك الإسلام " للمقريزي .

                      ـ " الأقرباذين " لنجيب السمرقندي .

                      ـ " مسالك الأبصار" لأمين فضل الله العمري .

                                                                                   صلاح الدين عيسى

                                                              أرضي:0217875830 ـ جوال:0944989574

==================

 

  سقوط ٌ في هوى حلب

 

        حينما يخلد المرء إلى نفسه ويسترجع من ماضيه بعضاً من طفولته وشبابه،تظهر على شاشة المخيلة مشاهد وأحداث مرَّ بها لسنوات أو ربما لعقود،يحسبها قد حدثت منذ وقت قريب،فالماضي وإن طال الزمن،يظل أكثر التصاقاً بالنفس،الماضي لا يمحى بجرة قلم،أو لمجرد الرغبة في إقصائه من ساحة الذكريات،كونه يصبغ أعماقنا وجدران أنفسنا بخريف الأيام وربيعها وصيفها وشتاءها .

إنْ تذكرتُ الطفولةَ البهيجة،فأول ما يتبادر للذهنِ،أمنيات في أن تضمني حلب بين أعطافها وثنايا حواريها،في وقت كنا وأهل قريتي مرميين في سفح مطل على جبال الأمانوس .

    أذكر أني كنت أهلل حبوراً وغبطة حينما يهم الوالد بزيارة حلب،فأول رغابي من هداياه،كانت،حلاوة وخبزاً حلبياً،وعلى أحر من الجمر،كنت أنتظر عودته إلى القرية، ولمّا يبدأ بالذهاب بعد . كنت أحسد من يسكن حلب لتنعمهم بالكهرباء والماء والحدائق ودور العرض،حسبتهم أناساً من طينة لم يجبل بها سكان الأرياف،وحينما يزور القرية أولاد من حلب،كنت أتمعن ملياً في أناقة ثيابهم،وأنصت بشغف لأحاديثهم،فأندفع بلهفةٍ لعقد أواصر محبة وصداقة معهم .

احتضنت حلب ربيع عمري،باندفاعه وتهوره،برومانسيته وجموح عواطفه،حضنتني دروبها وأزقتها التي خبأت في  كل ثنية قصة حب وشوق ولوعة.حلبٌ،أبَتِ الأقدارُ إلا أن أعشقها.توأمان نحن في قاموس الحب. في أعطافها قَبَّلْتُ الوجنات وشَمَمْتُ الثغورَ وتَلَمَّظْتُ رحيقَ الهوى . هجرتُها جسداً لعقد ونيف،فأبَتْ إلا أن تلازمني روحاً.حملتها في حلي وترحالي.في طشقند وموسكو،تربعت حلب على عرش قلبي، تحثني معاودة الوصل،فارشة درب العودة بضروب من الياسمين.ربما قَسَتْ عليَّ في زمنٍ أدركتُ مِنْ بعدُ،أنها قسوة مغلفة بالحب والخوف من أخطار كانت محدقة بي،أيقنت أن الحبيب لا ينبذ المحبوب،ولا يفرط فيه أبداً. هي حلبٌ إذاً،رفيقةُ دربي في هذا الزمنِ المشبعِ حزناً وفرحاً ونشوة .

صلاح الدين عيسى 1 / 1 / 2008

 

===============

 المحبةُ عنوانٌ لِرُقِيِّ الأمم

    حينما نصبحُ في مهبِّ العاتيةِ من الريح،أو في لُجَّةِ التيار،أو عندما يُطبِقٌ علينا أخطبوط الزمن وتُشَلَّ مَلَكَةُ التفكير لدينا؛يغدو أكثر همنا،البحث عن حلولٍ تقينا شرَّ المصائب والنوائب التي أُجْبِرْنا استنشاقاً للملوثِ من هواءها واجتراعاً للمرارةِ في كؤوسها .

 ولأننا نعلمُ أن الجاذبية الأرضية وحدَها من يجعلُ الأشياءَ تسقطُ من الأعلى،وأن الخالق وحده مَنْ يُمَكِّنُ الأسماك عيشاً في الماء،وأنَّ أسلوب الشرط في جزمه أو عدمه،إنما يتكونُ من أداة وفعلين،حصولُ الفعلِ الأول،شرطٌ لحصول الفعل الثاني،فإننا عند الحديث عن أيٍّ من المجتمعات،يتوجب علينا عدمُ إغضاءِ الطرفِ عن بواعث وأسباب ارتكزَ عليه تقدمها أو انحدارها .

هل أصابت مجتمعاتنا قدراً من الرقيِّ كما يحلو لنا إقناع أنفسنا ..؟؟؟.

سأدفع الثلث المتبقي من عمري لمن يثبت ذلك بالقاطع من الأدلة أو الساطع من البيان .

أَمُتحضِّرونَ نحنُ،وقد أمستْ جُلُّ فضاءاتنا،حلبات طيران،ترفرف فيها غربان نفاقٍ وزيفٍ وأنانية،أو قد عُطِّلتْ في مجتمعاتنا ـ عن سبق إصرارٍ ـ ملَكَةُ النطقِ ،فأصبحنا نقدس الصمت،ناهيك عن صدقٍ،حورِبَ الكثيرُ من خلانه،فَطُمِسَتْ كثيرٌ من معالمه..؟.

هل تتشكل في  أنفسنا مساحات ودٍّ ،تمنحنا القدرة على التحاور بالأسلوب الذي جبلنا عليه مبتعدين عن لغة القمع والدم ..؟؟.

  لن تهتز الأرض ولن يحركها الثور بقرنيه،إن نحن تقبلنا ـ ولمرة فقط ـ مجرد التفكير بالآخر فكراً أو مذهباً أو طائفة،أو إن تحاورنا معه دون ميلٍ للتعصب والاستعلاء في القول والفعل .

لن يكلفنا جهداً أو نبذله من عناء،إنْ نحنُ استَعَنّا بِ"أفعل" كاسمٍ للتفضيل، كي نؤكد،أن تنوع البستان أطياراً وأزهاراً وثماراً وألواناً وألحاناً،أفضلُ منه ارتماءً في صحراء القيظ والقحط والعزلة،وأننا لو فضلنا الصحراء،فإن قلوبنا وأنفسنا وعقولنا لن تنجو من التصحر الذي سيجعل منا بمرور الوقت،إشارات طرحٍ في مجتمعات تأمل منا عضوية فعالة تدأب على البناء ورأب الصدع، مستحثة فينا الرغبة،تمسكاً بالمحبة،لأنها وحدها المقياس في رقي أيٍّ من الأمم.

وبما أننا وبصدقٍ نمتلك وسائل تحقيق المحبة،بحيث نقوى على زعزعة أركان الجريمة والإرهاب بكل أشكاله؛فإننا ملزمون اليوم،إيجاداً لفسحة من الوقت،نبحث لأمتنا عن منابر للسيف والقلم.بالسيف ننشر الأمن في قلوبنا وربوعنا،والقلم،نرتقي على هَدْيِهِ سُلّم الرفعة والمجد،يملؤنا الزهو،أننا وبجدارة،نستحق العيش،وأننا نقوى على الإبداع في صنع الحياة وتلوينها بنفحات من التفاؤل والفرح .  

صلاح الدين عيسى 1 / 1 / 2008

 

===================

" الصراخ وحدهُ ولا خيارَ سِواه "

    لن أخفيكم سراً أني أحياناً أكتشف الخطأ في بعضٍ من سلوكياتي،فأنعت بالغباوة شخصي وبالقلة حيلتي،وأني حينما أبدأ بحثاً في الأسباب التي تضفي كثيراً من السوداوية على مشاعري وأحاسيسي وكتاباتي ،يُخيَّل إلي بأني لم أُخَيَّرْ أو أُسْتَشَرْ، إنما ألفيتُ نفسي فجأة في مجتمع يختلط حابله بنابله ،ومجتمعٍ يتسم كثيرٌ من أفراده بعلامات استقراء واستفهام وتعجب .

 ونظراً لحدسي وسبق درايتي بسريان قانون الممنوعات وباعتماد القضاة على تشريعاته في إلهاب جلودنا ومؤخراتنا بالذي يرتضونه من أحكام لا تختلف البتة عن تلك التي يتحفنا بها هذا  الزمن المهترئ كاهتراء عمري وحذائي وفروة رأسي،ولأني أُحتسب  على هذا الشرق الذي تراقب فيه الأفكار والأشعار والأسرار والرغبات والندوات والنزوات،وكل خصوصيات الأفراد ،بالقدر الذي يراقب العلماء في محطة (بايكانور) مركباتهم الفضائية بعد إطلاقها،أو بطاقة تفوق أجهزة الإنصات المبكر في إظهار عري المواطن،رغماً من أسوار وجدران وستائر ينشد من ورائها نعيم الخلوة مع الذات؛فإني فضَّلتُ وبناء على ذلك،ألا يُسلخَ جلدي وألا يُعرضَ في أي مزادٍ سري أو علني،بحيث أني لو أردت الإفصاح والجهر بما يعتمل في النفس،فإنما أختار لغة يجهل فك طلاسمها مَنْ يُسْمِعُهُ صوتي،وإن تعرضت لمؤسفٍ من المواقف،عجلت الخطى مبتعداً عن مصدر الإيلام،متلفتاً حولي،أبحث عن أقرب حديقة أستلقي على أول مقعد فيها، مصوباً ناظريَّ إلى أي شي،مستسلماً لتفكير عميق،أو أني أتصنع الوقوف أمام مخزن، مستعرضاً محتويات واجهته،وزلزالٌ عنيف يزعزع الأسس التي يستند إليها جسدي بتطاول عظمه وتكاثر شحمه ولحمه،إلى حدٍّ تعجز فيه قدماي عن حمله في واحدة من تلك اللحظات التي تتلاشى لمجرد أن يهبَّ صاحب المتجر للترحيب بي،لأبتعد عنه إلى مخزن آخر يتكرر فيه المشهد نفسه،وهكذا دواليك إلى أن تنزاح غمامة الحزن التي فوجئت بها على حين غرة.

أتساءل مراراً عن الأسباب التي دفعت بالبائع الذي احتل نصف الرصيف مروجاً لصحف تحمل كماً من الأسماء،إلى الصراخ محتجاً على تصفحي،ولثوانٍ فقط،إحدى المجلات،أملاً في العثور على واحدة من مقالاتي التي ربما احتلت حيزاً من صفحتها الثقافية،كي أندفع لشرائها والاحتفاظ بها في أرشيفي،مستعيضاً عن ربطة الخبز وعلبة التبغ اللتين،أبذل كثيراً من الجهد في ألا أحرم متعة الحصول عليهما..؟‍،وأنا،وإن أبديت احتجاجاً حينما حشر سائق العربة لأكبر عددٍ من الركاب،فهل يتوجَّبُ عليه الصراخ بوجهي والرد على تذمري،بأن العربة هي خاصَّتي وأني مُلْزَمٌ أن أهبها له في الحال،أيجدي صراخ المستضعفين ونحيبهم على حقوق مسلوبة، أضيفت إلى أرصدة مَنْ يحتمي بالساسة،وهل أُشدهُ من الساسة ومن خطبهم النارية،ومن كلماتهم التي تزلزل الأرض ومن فوقها،إن تبينت بأن أكثرهم لا يُؤمن بالذي يصرخ من أجله..؟،هل أنتهي من بعدها إلى حتميةٍ تنبئ بأن الصراخ وحده،ولا بديل سواه من أنجع الوسائل التي توصل أفكارنا،وتبسط من نفوذنا على الآخرين..؟.

إني إذاً لأمام خيارين،أحلاهما مُرٌّ،فإما أن أقبل الذوبان في بوتقة المجتمع،فأستحلي كثيراً من عاداته المشرئبة تخلفاً وجهلاً،فأشرب وآكل وأنكح بالطريقة التي يتداولها الكثيرون،أو أنه يتوجب عليَّ تأسيس جمعية للرفق بالإنسان،تخوض حرباً ضروساً مع الخفافيش التي تعمل على قتل الربيع واصطياد الحمائم وتسميم الأزهار والأفكار  لغايات في أنفسِ جاسمٍ وحمدٍ ويعقوب،أيهما عليَّ الأخذ به،هل من مُعين..؟.

صلاح الدين عيسى 1 / 1 / 2008

 

=====================

الزعامةُ والإحساسُ بالعظمة

    العودة إلى اللغة ومعاجمها، رغبة تدفع المرء إبحاراً  في عالم الكلمات مستكشفاً خباياها وبعضاً من مدلولاتها،فالزعم،بتسكين العين،القول يُشك فيه والمزعم تعني المطمع،والزعيم سيد القوم، وتَزَعَّم تدل على من أتى بالأكاذيب أو في تكلفه الزعامة واتخاذها لنفسه.

  كانت الزعامة ولم تزل مطلباً يستميت المرء وصولاً إليه،سيان إن كانت الوسائل نبيلة أو على قدر من الخبث والدهاء،فنرجسية حب التسلط داء يستشري في أنفس الكثير من البشر باختلاف خلفياتهم.

   في بلدان الشرق، تستوطن أوبئة وأنيار جهل وظلم واستبداد،توحي للمرء بأن مئات من السنين تستلزم دخولها ميدان الحضارة. فالشرقي لم يزل يمارس حماقاته واستبداده في مجال العائلة،الازدواجية لم تزل شعاراً يقتدي به،والتناقض والنفاق ،ثوبان يضفيان على نفسه كثيراً من الغوغائية والضبابية،فبينما يدعي حيناً حبه للخالق وامتثاله لأوامره،فإننا نراه لا يطبق من التعاليم الدينية إلا وما يتماشى مع أنانيته وغروره،بل وينصاع كلية للمجتمع الذي عزز لديه مواطن نفوذ أدت إلى تغليب لدوره الذكوري على حساب شريكه الأنثوي لأسباب نذكر من أهمها:اعتقاده بأن القوامة الدينية،إنما تسلُّطٌ على رقاب النساء،أو لتبججه بقدرة خارقة في إنجاب أكبر عدد من الأبناء،وإضافة ما يشاء من نساءٍ إلى دفتر العائلة.

    الرجل الشرقي،رجلٌ منذ الولادة،بعيد عن المحاسبة،مبررة أخطاؤه باحتسابها مجرد هفوات،وإلا فكيف نفسر علامات الرضى عند كثير من الآباء تجاه ظاهرة العنف التي يتسم بها أبناؤهم المراهقون في فرض سلطانهم على الأخوات وتعديهم على الأملاك العامة أو الخاصة للآخرين أو في ممارستهم لعادة التدخين،وعدم أخذهم بآراء من هم أكبر منهم سناً،بسبب من اعتقادهم الراسخ بأن كل ذلك مرده إلى علامات الرجولة المبكرة .

   أين العقلانية في تصرف الرجل الشرقي والخالق قد حضه على معاملة المرأة بما يشعرها  بكينونتها كإنسان"وعاشروهن بالمعروف"وقوله عز وجل" لا تضربوا إماء الله"،ولِمَ يُغْضِ الرجلُ طرفه من قول رسول الله(ص):"أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائه".

      أعود إلى مفهوم الزعامة فأذكر كثيراً من مخاتير القرى ،يصرفون كثيراً من طاقاتهم وأموالهم،يقدمون الهدايا ويقيمون موائد يتهافت عليها طفيليوا المدينة من كبار الموظفين وصغارهم،اعتقاداً منهم بأن إطعام الأفواه ضروري لتعتيم الأبصار والبصائر، بإبقاء المخاتير في مناصبهم المرموقة إلى أن يأخذ الله بأعمارهم،وأذكر بعضاً من مدراء المدارس،يحسب كل ٌّ نفسهُ امبراطوراً،يُدخلُ المدرسة في قائمة الأملاك الخاصة، فيستولي على نصف الحصة المجانية من المحروقات،وعلى كثير من عائدات المدرسة،الإدارة كما يرونها،ميزة منحت لهم وحدهم،جعلتهم ينتفضون كديك حبشي،مظهرين لعضلاتهم أمام المعلمين .

  الزعامة إذاً،مرضٌُُُُُُُ من أمراض القلوب،يدفع صاحبها الكثير لقاء مظهر ظاهره أنيق أو قول ظاهره سديد،أو تصرف مصطنع يدل على الحكمة. من أنجع الوسائل للتخلص من ذاك المظهر،إجماعنا واعترافنا وإفصاحنا علانية بتمادي بعض الناس إضراراً بالمصالح العامة،أن نواجه ذلك بالتذكير بالمبادئ والقيم التي تضع النقاط على الأحرف،بحيث يصبح لكل فرد،بما يحمله من مؤهلات،مكاناً مناسباً،يليق به،بدلاً من ترك الأمور تسير بمشيئة الشيطان،فنعرض أمننا ومستقبل أبنائنا لكوارث وأخطار لسنا  ملزمين على تجرع كؤوسها.

صلاح الدين عيسى 1 / 1 / 2008

==================

      " التانغو .. خطوتانِ إلى الوراء وخطوةٌ إلى الوراء "

      الرثاء،وإن لم تُثبتْ له أرصدة في مصرف حكومي أو خاص،كونه فناً من فنون الشعر العربي،الماضي منه والمصدر:رثى رثياً ورثاء ومرثاة،أي رقَّ لحاله وأشفق عليه وتوجع له؛فإني قد رثيت صاحباً،أخبرني أنه وفي هذا الزمن الوضاء،يجبر ولأتفه الأسباب، أن يشهر ابتسامته ويظهر فرحه،معللاً،خوفه من أن ينعت بالسوداوية، بينما على أوتار الشكوى والتذمر كان يعزف.

     ولأن الصداقة كنز يتوجب صيانته،ولأن الضيق يفرجه التزام الأصدقاء،فقد حبذت في صديقي أن يخوض مع الخائضين،أن يغوى ويرشد مع غزية،كي ينال قدسية الاعتراف من مجتمع،هدده بالعزلة والتهميش،إن ظلت في عقله ونفسه، تستوطن تلك الهواجس الشيطانية. هل يقوى على ذلك وقد خرج عن طوره،فأصبحت نفسي في حيرة وفزع من تساؤلاته التي حينما فوجئت بوقعها على مسمعي،تلفَّتُّ يمنة ويسرة،أستطلع العصافير إن كانت تسترق السمع،أو الجدران إن صممت لها آذان تنقل دقائق الكلام..؟:" مَنْ نحن في قاموس البشر،مستعبدون أم متحررون، حضاريون أم على قدر كبير من الجهل والتخلف..؟،هل نعيش بإرادتنا أم هي إرادة الآخرين تتحكم في أنفاسنا ومشاعرنا..؟؟،هل نتقن فن التعبير،وإن كنا،فهل نمتلك الجرأة في الإفصاح عن آرائنا ؟،أحقاً حينما نصرخ حزناً وفرحاً،إنما وبصدق،نجهر بأحاسيس الحب والكره!؟،أتعزى عضويتنا في مجموعة البلدان النامية إلى حبنا للرقص وإتقاننا لكل فنونه،أم هي وحدها رقصة التانغو التي عشقناها،فأصبحنا نمارسها من الشفق إلى الغسق"خطوتان إلى الوراء وخطوة إلى الوراء"..؟،أو ليس الرجاء مفقوداً من مجتمع، يقدس من الشعارات:اكتسب مالاً تحظ بمركز مرموق وحاشية تصفق وحشد من الطفيليين والطبالة والمزمرين..؟؟.

  لم يكن من بٌدٍّ وقد وجدت صاحبي متطرفاً في آرائه أن أنصحه بالهجرة إلى هناك، حيث الفكر والمبدأ والقيم منارات،على هديها يعبر الناس إلى بر الأمان،ما أن فاتحته بالأمر،وكأن من الجنون مساً أصابه،انتفض وسهام الشرر تنطلق من جحاظة عينيه، مكوراً قبضة أهوى بها على الطاولة،مدخلاً إياي ومن جديد في بحر تساؤلاته :

ـ هل هاجرت،هل تعرف ما هي الهجرة،أليست نتشاً للإنسان من الجذور أو  انسلاخاً للروح عن الجسد، هل تدرك ماهية أن يظل المرء بلا قلب هائماً على وجهه في بلاد الغربة..؟؟ ، أول ما يسألك الناس هناك،إن كانت بغيتك في أرضهم نشداناً لحرية أو بحثاً عن كسرة خبز،كلنا يبجلهم ويقدم لهم يد العون إن حلوا في أرضنا وجلهم يزدريك ويراك دونياً حينما تكون هناك،شرقي أنت على أي حال ،وشرقيتك بالنسبة إليهم،استبداد واتكالية وانغلاق وتسلط وفكرٌ مشوه وإيديولوجية هدامة.

 صعقني جملة ما أنبأني به،فحاولت أن أثمن له حب الأرض وحب الناس،وأن الجلد لن يحكه إلا ضفر المرء،وأن..؟،لكنه ومن جديد لوح بيديه،فحسبت أن سيلكمني:

ـ دعِ الوطن ولا تزاودني عليه،اتركِ البشر في شأنهم،فإني أدرى من أي معين ينهلون ،بيت القصيد،أن تعلم بأني مذ حللت على ثرى هذا الوطن الفسيفسائي  وإلى ساعة لقائنا،لم أهنأ بالطمأنينة والاستقرار،من دائرة لأخرى،أستجدي عملاً، قادتني قدماي تلقفتني فوقية كبار الموظفين،أصبت بالمرارة والسأم من وعود كاذبة ومجاملات مبطنة بالازدراء والسخرية،سأسر إليك بأمر،أرجو كتمانه عن القراء:هل أعلمتك العصفورة، بأني تقدمت إلى مسابقة لانتقاء المستخدمين،أوَ تدري النتيجة ماهيتها..؟،لم أحظ بشرف القبول،لفانوس علق على رأسي كمنحوس صنفت من عباد الله،لم أنجح في المسابقة،بالرغم من حلفاني وبأغلظ الأيمان،بأني أتقن فن الصمت وأكتم أسرار المدراء،وأني بارع في تحضير الشاي والقهوة وتقديمهما بطريقة حضارية اكتسبتها أول الشباب من عملي كنادل في فنادق ومطاعم رُقِّيَتْ لنفيس الأثاث والمزيف من ابتسامات روادها وأولي الأمر فيها،لم أُقبل من بين المتقدمين لمؤهل جامعي أحمله وهاأنت تحدثني عن مثاليات لا تروي ظمأً ولن تُسكت البتة غائلة جوع ..!!.

صلاح الدين عيسى 1 / 1 / 2008

========================

 

إبحارٌ في عالمِ القراءة

 كنت في صغري أعشق القراءة،كنت مغرماً بالقصص المصورة ،ومجلةُ أسامة بالذات،غذَّتْ فيَّ ونمَّتْ روح المطالعة،كنا وأخي وابن الجيران نضمُّ فرنكاتنا إلى بعضها البعض لتصبح ربع ليرة،نطير والفرح يغمر طهارة قلوبنا لشراء المجلة التي كنا نفترشها على الأرض، ورؤوسنا الثلاثة متقاربة، تلتهمُ أعيننا صفحاتها بنهم،يتخلله بعض من النكات البريئة وكثيرٌ من توبيخات الوالدة بالكف عن إزعاج الوالد الذي يخلد للقيلولة .

   وبسبب من عجزي عن استيعاب كلّ الظواهر التي أحاطت بإنسان يبلغ ذاك المستوى من العمر، أو هو الشوق لمعرفة كل ما يجري من حولي،أوهي القناعة توصلت إليها آنذاك،بأن جميع العلوم والمعارف تسكن في رأس والدي؛فإني كنت أبذل  جهداً كبيراً  في تقمصي لشخصيته حينما يخلد إلى مكتبته،أسترق النظر إلى طريقة إمساكه للكتاب وطريقة جلوسه، وربما قد انتبه إلي وأنا في مثل ذاك الجهد وذاك الصمت وربما كانت رغبته في أن أرافقه إبحاره في عالم القراءة في ابتسامة عريضة ،كانت تزين جبينه،يتحفني مِن بعدها ببعض من القصص التاريخية المصورة.

 كنت أتصفحُ الجريدة الرسمية أثناء مرافقتي للوالد إلى " السجل العام للموظفين "،فترتسم عناوينها في مخيلتي وسيلٌ جارفٌ من الرغبات يدفعني لمشاهدة تلك الآلة التي تُحوِّلُ الأحرف إلى كلمات تحمل، في طياتها معانٍ تؤثر سلباً في قارئها أو إيجاباً،وذاك كله لم ينسني وأولاد الجيران موعدنا بداية كل شهر لنقطع المسافة من"وادي الشياح" إلى"الشيخ محي الدين"بقفزات بهلوانية،وشوقٌ ينتابنا لمعرفة ما يتحفنا به محرروا مجلة أسامة من أحداث،تغني عالمنا الطفولي ببعض من خيال وكثير من براءة .

 الفضلُ إذاً،يعودُ لتلك المجلة،التي لم نكنْ نحصلُ عليها إلا بشق الأنفس وبتصميدٍ لقدرٍ أكبر من الفرنكات،في وضع اللبنة الأولى لتفتح الوعي ودخولي عالم القراءة الذي أضفى على تفكيري ونظرتي  ونظرتي للحياة طابعاً جديداً مميزاً،رافقني كظلي،وبعد أن أصبحت ملماً بكل قواعد القراءة وفنونها،وبدون سابق إنذار،هجرت تلك المجلة إلى عالَمَيْ جبران والمنفلوطي حينما وَطئَِتْ قدميَّ عتبة  المراهقة .

انتقال مسكن العائلة إلى مدينة"منبج".ارتياد مركزها الثقافي الذي كان يزخر بأمهات الكتب، وبسبب من تشجيع الشاعر " محمد منلا غزيل " الذي وكأنه كان يعيش في ثنايا مكتبتها، فإن القراءة قد أخذت مني جلّ الأوقات. كنت أقرأ حتى في أوقات الأكل،ألتهم الكلمات ومما تجود به والدتي رحمها الله من أطايب الطعام.إحساس جديد داهمني على حين غرة، ازدادت قدرتي  التعبير عن الأشياء،توسعت آفاقي،وأما أنماط تفكيري وسلوكياتي،فقد أصابها الكثير من تنمية وتطوير وتحديث،ناهيك عن رومانسية ومثالية،اكتسبتهما من جبران ودوستويفسكي،أصبحت أتساءل عن الجدوى من حرمان وذل  يُلقي الإنسان أخاه في غياهبهما،لأكتشف بعد حين أن الفضيلة والرذيلة،قد وُجدتا منذ بدء الخليقة،لأتبين بأنّ نوازع النفوس من خير وشر  متأصلة في بني البشر،فما من أحد يتصف كمالاً،وما مِنْ آخر لا يرغبُ إلا في التدمير .

  ورغم أني لم أنكرُ فضل الكتب المدرسية في تحسين النطق ورسم الحروف،فإني قد وجدت فيها عبئاً ثقيلاً مَرَدّهُ أسلوب الحشو الذي سار عليه المؤلفون وأسلوبُ التلقين الذي اتبعهُ المربون،كدت أصاب بالإحباط،أنجاني منه بحثُي المستمر عن كتبٍ تبعدُ الملل،ما أن كنت أتلقفَ واحداً منها  حتى أبادر إلى شمّ الغلاف،شمّ بعض من الصفحات،وكأني أشتمُّ  رائحة أبطال كنت أجدهم قريبين مني أو أني كنتُ أتصورُ نفسي واحداً منهم .                                                                    كلّ القصص والروايات التي اخترتُها كنتُ أحَدَ الأبطال فيها،كثيراً ما تقمصت شخصياتها يملؤني الزهو والخيلاء،وفي أحيان أخرى،كنتُ أعيدُ قراءة رواية أحببتها لأعيش في حيثياتها من جديد مستخدماً أسلوب المناورة مع نفسي،تدفعني إلى ذلك رغباتٌ ملحة في استعادة لحظات سعادةٍ ونشوةٍ ،أردّتُ تكرارها .

 أوّلُ ما يُلفتُ انتباه المرء وهو يتجولُ في شوارع موسكو،ذاك الكم الهائل من دور بيع الكتب فبينَ كلِّ دار للكتب،دارٌ أخرى،وفي كلّ حيّ موسكوفي،مُجَمّعٌ مُحالَ أن يخلوَ من جناح تباعُ فيه الكتب،الكتاب في تلك البلاد جزءٌ مهمٌ في حياة البشر،فقلما يخلو بيتٌ من مكتبة تغذي عقول أفراد الأسرة وتهذبُ من نفوسهم.كل الناس هناك مثقفون دونَ تمييز،أسواق الكتب  تشهدُ رواجاً مماثلاً لأسواق الأغذية والألبسة والماجن من الأشرطة في بلادنا,وبينما يتهادى الناس هنا،في مناسباتهم،ما يُمَتِّعُ الجسد؛فإنّ الكتاب يتصدر قائمة الهدايا هناك.

  كل شيء هناك يدعوا إلى الحياة بتغذية العقول وكثيرةٌ هنا الأشياءُ،تدعونا إلى إشباع الغرائز،فأين نحن من كلمات رب العالمين ( وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) وهل نعزوا حالات التفسخ والتفكك التي تعيشها مجتمعاتنا،نَبْذَها للكتاب..؟؟!.

 

                                                          صلاح الدين عيسى

                                          أرضي:7875830 ، جَوّال:0944989574

 

 قصة

" الدَجّالْ"

كان يخاف المدينة،تُرْهِبُهُ الإيجارات وشروط المؤجرين.في أطراف المدينة، يطلب المؤَجِّرُ ثلاثة آلاف ليرة عن كل شهر،مشروطة بالدفع لستة أشهر مقدَّم. في وسطها يُخَيَّر المستأجر بين سبعة آلاف كأجرة شهرية أو ما يزيد عن الثلاثمائة ألف كرهن للدار،وقلما يعثر المرء على مأوى يكتفي مؤجره باستلام الأجرة نهاية كل شهر.
كان يُطلُّ على المدينة التي تبعد عن قريته ثلاثين كيلومتراً،يركز البحث في جنباتها عن جدران إسمنتية وسقف يبعد عنه غضب الطبيعة وشرور الخلق. مما دفعه للتفكير بالهجرة إلى المدينة،هروب من وحشة الهدوء في الريف،ورغبة في إقصاء النفس عن مللٍ قاتلٍ يطوي البشر في ثناياه،والتلال والوديان والأشجار   والصخور،وربما هو اشتياق القدور إلى خضار تطهوه بعد قحط وجفاف أصيبت به المعدة بفعل الزيت  والزعتر .
أهداه القدر إلى مُؤَجِّر أسكنه قبواً ملحقاً بمنزله.في القبو غرفة يتيمة خصصها لممارسة طقوس الحياة مع شريكة تاقت نفسها،إلى رخاء،انتظرته طويلاً من رجلٍ أدمت جسدهُ سياط العوز والفاقة.لا من شكٍّ بأن الحاجة أم الاختراع، فهاهو يندفع لشطر المطبخ بستارة إلى نصفين،اقتطع لعالمه شطراً ـ منحه حيزاً من الخلوة مع نفسه ومع كتبه ويراعه ـ ضمَّ سريراً عتيقاَ ومكتبة رصفت على أرففها مجلات وكتب وأوراق،المكتبة جيء بخشبها من مستودع بيتٍ هجره أصحابه إلى المدينة الكبيرة طلباً للرزق .
    لم تُعْرَض الأعمال عليه في القرية،كما هي البضائع في السوبر ماركت،يختار المرء ما تشتهيه النفس. كان مخيراً أن يرعى الماشية في السهول والتلال المحيطة ،لقاء مئة وخمسين ليرة في اليوم،أو أن يقوم بمهام إمام المسجد،لقاء سكن  مجاني ومبلغ زهيد وأعطيات يجود بها بسطاء الفلاحين،يرفقها أغنياءهم بدونية واستخفاف.درس الخيار الأول عن كثب.الماشية يخرجها أصحابها إلى مشارف القرية حيث يكون بانتظارها معتمراً قبعة،تُخفي عينيه نظارة سوداء ،تُنْجيهِ من هولِ وقَسْوةِ شفقةِ مَنْ يصادفهم من الأهالي،يقود القطيع إلى الوادي المفضي إلى سهل حدودي تكاثرت فيه الأعشاب والشجيرات الصغيرة،مُسَلِّماً أنه ما من عنزةٍ ولا من تيسٍ يقوى على تخطي الأسلاك الشائكة إلى الجانب الآخر من الحدود،مدركاً أن الأغنام وحدها تستحق كل احترام، لأنها رهن الإشارة،ترعى في مكان لا تغادره إلا حينما يأمرها بذلك،خلافاً لماعزٍ يقفزُ كالعفريت منتصباً على قدميه الخلفيتين،ملتهماً ثمارَ الزيتون،فتحل الكارثة حينما يشكوه أصحابها،ويذيع صيته بأنه لا يصلح حتى لرعي الماشية، وأن النحس إنما يلاحقه،لأنه لا يتقنُ شيئاً في هذه الحياة .
لم يكن الخيار الثاني،وإن أقنعَ النفسَ على تقبله،أفضل وأسهل من سلفه.. تمثيلُ دور الإمام في قرية كتلك،يتطلبُ تغييراً في السلوك والملبس واتباعاً لطرقِ حديثٍ،تختلفُ عما هي بالنسبة للآخرين،كَأَنْ يُكرر ذكرَ الإلهِ في كل ما يتناوله من مواضيع،مثلما هو الفنان حينما يؤدي أدواراً على خشبة المسرح. الفنان هنا،يستبدل ثيابه وكلماته وطرق تعامله مع الآخرين لمدة محدودة، تتطلبها أدوارٌ يؤديها على مسمعٍ ومرأىً من جمهورٍ صامتٍ يَتَتَبَّعُ حركاته وهمساته،أما الإمام فالأمر يختلف بالنسبة إليه،يتوجب عليه تجسيد شخصية الواعظ الديني في كل الأوقات التي يكون فيها خارج البيت.بمحاذاة المسجد، تكون سكنى الإمام،يصرف الأهالي في بعض القرى كثيراً من المال على مكان إقامته،إغراء له بدوام البقاء،فالمتعارف بين أهل القرى،أنه من أكبر الكبائر أن تخلو قرية من إمام يؤدي الشعائر الدينية في مسجدها.وأما الإمام فإن شاء أن ينحرف عن شرعة الخالق أملاً في زيادة الدخل دون أن يفطن الآخرون لذاك النكوص بتعاليم الدين.كان عليه أن يخصص إحدى الغرف لإقامة طقوس الشعوذة وصنع الطلاسم والأحاجي.
ولأن وظيفة الإمام تقوم على الوعظ والإرشاد،كان عليه كسب ود أهل القرية والقيام ببعض التصرفات التي تلبسه ثوب التقوى،وربما يبيح لنفسه الزواج ممن شاء من بنات مريديه،قاصراتٍ كُنَّ أمْ يصلحنَ للزواج،يستغل عواطف والدها بأنه رأى في الحلم أن ابنته ستنجب ولياً إن كانت من نصيب إمام القرية،ولا ينس البتة أن يمتنعُ عن حضور الأفراح،مستعيضاً عنها بالمآتم ولكن،لابد وأن يحاربُ السفور متوعِّداً المتبرجات بأنَّ الخالق سَيُعَلِّقُهُنَّ من نُهودهن وأن يهدِّدُ العاقات أوامر الأزواج بالحشرِ مع الكافرين يوم القيامة،وأن يُحَلِّلُ النظرة الأولى وأن يكفُّ عن تأمل المؤخرات النافرة والنهود العامرة لصبايا القرية،وأن يهجر التلفاز و"الساتالايت "،مؤكداً أن البيت الذي يدخله التلفاز؛لن تدخله الملائكة ،وقد يمتنع عن معاشرة جارةٍ التهبتْ منها الجوارح واكتوى الفؤاد من بعد أن هجرها زوجها لِما وراء الحدود.في الجمعة عليه أن يعتلي المنبر وفي مجالس العزاء يصغي إليه الجميع،يتوددون في طرح الأسئلة،يلزمون الصمت،إن أقنعتهم أجوبته أم لا..فإن شاء أن يُنعت بالحكمة وبراعة الخطابة،كان عليه أن ينطق بما لا يفقهه قرويون،استوطنوا تلك الجبال الوعرة،يشقون الأرض ويصارعون الأشواك،يكوي لَهَبُ الشَّمْسِ جلودهم منحدرين مع انبلاج الفجر إلى السهول، يقفلونَ قبل أن يَدْلَهِمَّ الليل ودوابهم مُحَمِّلَةٌ حُزَماً منْ حطب يستعملونه وقوداً للتدفئة والطهي وتسخين الماء لإزالة الأدران عن ثيابهم المرقعة،أو للاستحمام مرة أو مرتين في الشهر.
     أغراه الخيار الثاني لأنه يرفع عن عاتقه كثيراً من الأعباء الحياتية.أجرة  البيت وفاتورة الكهرباء والماء لن يفكر من بعد في دفعها،ناهيك عن أنه ما من مجهود عضلي يبذله،إنما تبديل لمواعيد راحته وتغيير لمظهره مستهيناً برهبة تهيمن عليه كلما تذكر بأنه سيخطب بالملأ.أدرك بأن مثالية يعيش في فيئها لن تمنحه الدفء في الشتاء،إن ظل بها متشبثاً،فإنه حتماً سيحرم من متعة احتساء القهوة صباحاً،وأنه لن يقوى على دفع أجرة المنزل بداية كل شهر ولن يعانق من بعد لفافات علبة"الشام"التي تخدر جسده لبرهة يستريح فيها من نحس يهيم به عشقاً وولهاً،وأنه سيعود إلى جمع أعقاب السجائر لإفراغ متبقياتها من التبغ وصنع لفافات جديدة،وأنه لن ولن ..؟. أقر العزم على زيارة المدينة للحصول على حاجيات تتطلبها مهنته الجديدة،عليه بشراء عباءة وقبعة بيضاء ومسبحة طويلة،وجهاز هاتف نقال،بهذه الأشياء يكون الإتقان في أداء عمله الجديد،العباءة والقبعة والمسبحة لأداء الشعائر الدينية وجهاز الهاتف تتطلبه الطلاسم والأحجية،فإن زاره مريض استعصى عليه علاجه،أرشده إلى دجال آخر أكثر منه خبرة،وما أن يغادره المريض حتى يهتف لصاحبه بأن زبوناً سيأتي إليه،مزوداً إياه بتفاصيل عن حياته،ما أن يطرق المريض باب ذاك الدجال،حتى يبادره بذكر اسمه وتفاصيل عن حالته المرضية،يفاجأ المريض ويذهل مما يسمعه،فيقتنع أنه وأخيراً قد التقى بمن يقوى على شفائه،يمنح الدجال ما ملكت يداه بنفس قانعة راضية.
صنَّفَ مولانا البشر في نوعين،أحدهما،عادي وثانيهما خارق.العادي منحه أحقية المأكل والمشرب والتناسل،وحتمية الانصياع لمشيئة القوانين.أما الخارق فخوَّلَهُ بتحطيم بعض القيود وتخطي بعض الحواجز التي يراها عقبة كأداء في طريق تحقيق فكرة إنسانية يعمل من أجلها.بنى كل آماله معتمداً على ذاك التصور،فمضى غير واجس من أن يؤنبه أو يردعه ضميره.دربه بعض الخلان على أداء الإمامة بالمصلين في أوقات الصلوات الخمس.حفظ بعض السور القصار وبعضاً من الأدعية يتوجب الإجهار بها نهاية كل صلاة.لم يدم التدريب طويلاً ،أسبوع واحد أهله قياماً بالمهمة دون أخطاء تذكر ،ولأن أغلب مساجد  القرى تخلو من إمام يتولى إقامة الشعائر الدينية،فقد وجد ضالته في قرية تبعد عن المدينة زهاء ربع ساعة تقطعها دراجته التي لم يسلم فيها سوى العجلات والمكابح.كل المساجد في القرى،بنيت بتبرعات أهل الخير،يقوم أهل القرية بدفع رواتب الإمام بينما الأوقاف تدفع فاتورة الكهرباء.كان يوم الجمعة بالنسبة إليه كارثة بل امتحاناً كبيراً لمقدرته في الوقوف على المنبر،وإلقاء الخطبة. صباحاً وقبل أن تبدأ شعائر صلاة الجمعة بنصف ساعة وضع في آلة التسجيل العائدة للمسجد شريطاً لعبد الباسط،وحينما التأم شمل المصلين ارتدى عباءته واعتمر قبعته وبدأ يؤذن للظهر وبينما يعتلى الدرجات المفضية إلى المنبر شعر برجفان في الركبة،هو  الآن في امتحان رهيب،كل الحاضرين يرمقونه وأجمعهم سيلاحق مدى قوته في الخطابة،ناهيك عن أهل القرية نسوة وشيباً ممن يقبعون في بيوتهم أو يعملون في الحقول المجاورة،كلهم يصل إليه صوت الخطيب لأربع مكبرات وضعت في أعلى المئذنة.لم يكن الأمر بهذه السهولة فلأربع عشرة سنة قضاها في التعليم لم يشعر بمثل تلك الرهبة،ومما زاد في الأمر تعقيداً أنه كان ملزماً بعد قراءة الأحاديث النبوية والنصوص القرآنية،أن يقوم بشرحها بلغة مبسطة،مؤثرة،تجعل المصلين بين الحين والآخر يقاطعونه بذكر اسم الله.حينما تفحص جاهزية"الميكروفون"المنتصب على المنبر،أحس بتماس كهربائي،ألقى به إلى الخلف.سارع المصلون إلى مناولته أوراق الخطبة وكرسياً تدحرج مع تناثر الأوراق إلى فناء المسجد،استعاد رباطة الجأش وبدأ بتلاوة الصلوات والانتقال منها إلى مضمون الخطبة وبين الحين والآخر كان يحرك يديه ويبدل من طريقة الوقوف متحاشياً النظر في وجوه المصلين كي لا يخونه اللسان فيعجز عن نطق الكلمات بشكل سليم،وتلك نصيحة أسداها إليه والده الذي وقبل أن يصبح خطيباً مشهوراً في البلدة وقراها،كان يصعد إلى شجرة زيتون في"خربة راشك" فيبدأ خطبة مطولة في أشجار زيتون يعتبرها إِنْساً،لم ينس أبداً معلم اللغة العربية في أواسط السبعينيات،حينما طلب منه قراءة أبيات من قصيدة لابن زيدون،تلعثم واحمر وجهه أمام الطلبة،أنجده المعلم:
ـ لِمَ أنت خائف،هاه،عليك بأن تعتبر هؤلاء،وأشار إلى زملائه،رؤوس قرنبيط، هيا أفصح في النطق ولا تخف.
كان يستجمع قواه ويقرأ الأبيات مُشَكَّلَةً وبتلحين يدخل الطرب إلى نفس معلم يصيح من شدة تذوقه للشعر:يا الله !.
ألقى خطبته الأولى وأمَّ المصلين،سارع إلى البيت يتنفس الصعداء وكأن حملاً ثقيلاً انزاح عن كاهله.كان كل صباح ينشغل في مراجعة كتيب يطلعه على طريقة تكفين الميت،يرجو ربه ألا يفاجئه أحدهم فيخبره أن عزيزاً له قد لفظ أنفاسه الأخيرة،حينها يدرك أن امتحاناً آخر في الانتظار،فالإمام في القرى يوكل إليه غسل وتكفين الميت والصلاة عليه من ثم وتشييعه إلى مثواه الأخير حيث يقوم بتلقينه،والعودة إلى مجلس العزاء الذي يخصصه بأولوية الحديث والترتيل لبعضٍ من الآيات يختتمها بالدعاء للميت،داعيا ًالمعزين،قراءة الفاتحة على روحه.
كان غريب الأطوار أحياناً فحينما يولى اهتماماً زائداً من قبل الناس،يعتقد أنه ليس مقصوداً بالاحترام وأن خطأ ما قد وقعوا فيه،لم يتعود أن يحترمه الآخرون .في الابتدائية كان مجال سخرية من رفقائه،من الألفاظ التي كانوا يهزؤون بها منه"أبو رأسين"،لم يك تهكمهم عن عبث،فقد كان الرأس كبيراً على جسد هزيل ملتصق جلده بالعظم،كان يجترع إهاناتهم وينزوي جانباً دون أن يرد كيد الأطفال إلى نحورهم،وأما تسميتهم له ب" 55 " فمبعثه رقعتان دائريتان على مؤخرته. كانت الوالدة ترقع ثيابه وثياب إخوته وحينما تبلى تلك الأسمال تماماً،تعمد إلى تجميعها لتصنع منها وسائد وفرش.كم كانت أمه ماهرة في تدبير شؤون المنزل،مَنْ كان يصدق أن تعمد إلى الخباز مستجدية منه أكياس الطحين الفارغة،وهل كان الخباز يدرك أنها إنما تخيط بتلك الأكياس ثياباً داخلية لصغارها،أم هل يعقل أن يذهب به التفكير،أن تتحول تلك الأكياس وبمهارة الأم إلى وجوهٍ لوسائد وفرش ينام عليها أفراد العائلة ليلاً ويرقد عليها ضيوفهم نهاراً!؟ .
لُقِّنَ في أول الشباب حينما تفتقت ذكورته،أنَّ مجرد الحديث مع النساء جريمة تجلب الوبال له ولعائلته.كان الشارع المفضي إلى ثانوية الذكور يمر من أمام ثانوية البنات،فحينما يتوجه إلى مدرسته صباحاً يجده مزدحماً بطالبات شركسيات يزهون بلباس الفتوة .كان يترك مسافة بينه وبين من تتقدمه المسير، يتصنع هيئة الرزانة والعفة،منتصباً يمشي دون أن يتلفت من حوله،وحده من يعاكسه المسير يتبين أنَّ عينيه تتملقان خلفية الفتاة،وفجأة وبلا شعور،يحث الخطى،متعمداً محاذاتها من بعدٍ،يسرق منها ملامح الوجه ليبقى في المدرسة والبيت محلقاً وإياها في عوالم الفرح والنشوة.كثيراً ما يتشدق فاهاً وتجحظ عيناه وينظر شذراً إلى رفقاء يحدثونه عن غرامياتهم،إلى أن جاء اليوم الذي تعرض فيه لحادثة اعتداء من إحدى الفتيات،كان ذلك في قريته أثناء زيارته للجد في العطلة الصيفية،ولما يبلغ الخامسة عشرة من عمره،كانت فاطمة تكبره بثلاث سنوات،صبية تنضج أنوثة،وبينما الأهل في الحقول يجنون ثمار الزيتون، انفردت به وضمته إلى صدرها حتى كادت أنفاسه تتقطع،أذهله هول ما فعلته وأربكه،ظل صامتاً وهو يدفعها عن نفسه،بينما تواصل هي ضمه وتقبيله على عجل،تحيطه بيديها،وبلا أدنى حياء تمرر يديها ممسدة كل قطعة في جسده اللدن. داهمه الخوف حينما اقتربت منه أول مرة ومع ذلك،كان يحس بالألفة فيأبى مفارقتها،وبمرور الوقت كان كل ما تفعله فاطمة يسعده ويبعث الحبور في أعطافه.كانت تلك،الوحيدة من أبدت إعجابها به من بين النساء،لم يلق بعدها من تُكِنُّ له المودة،معظم الفتيات كن ينفرن منه،منهن من كن ينعتنه بالأبرص، لشقار شعره،وتكاثر النمش على وجهه،وأخريات كن يكرهن فيه أناقة مفقودة كونه لم يدخل قطُّ متجراً ولم يتعود زيارة حائك يخيط له سروالاً يناسب موضة ذاك الوقت .
الزيارة الأولى إليه كانت من فتاة في الثلاثين من عمرها ترافقها أمها،تحدثت الأم عن عنوسة ابنتها،عن والدها الذي يقف في طريق سعادتها كلما طرق الخطابون باب البيت توسلت الأم بأن يجد لابنتها حلاً،طلب خمسة آلاف، ولكي يقنع الأم بمصداقيته وعفته،اشترط ألا تدفعها له إلا حينما يتقدم شاب لخطبة ابنتها،ولكي يفرج عن كربة الفتاة،فإنه اشترط عليها أن تتقيد بما يمليه عليها دون إبطاء وإحجام،أمرها بأن تعامل أباها بقسوة،أن تكون فظة،غليظة اللسان، أن تدعو الله جهاراً في الأخذ بعمر أبيها.حينما أظهرت الفتاة رفضاً، أنَّبَها وشاركته الأم:
ـ يا بنيتي عليك أن تنفذي ما يراه مولانا،وإلا فإنك ستظلين عانسة أبد الدهر، قبلت الفتاة على مضض.بعد شهر من الزيارة،أقسم الأب أنه سيهبها لأول عابر سبيل،جاءت الأم تنقد علو مبلغ الخمسة آلاف ليرة،تزف إليه البشرى بأن ابنتها قد خطبت وأن موعد الزفاف سيكون مع انتهاء موسم الزيتون.الزيارة الثانية كانت لرجل في الخامسة والثلاثين،سبب الزيارة كان في زوجته العاقر، اشترط عليه أن يحضر ست كيلو غرامات من العسل الأسود الخالي من السكر سيتناوله مولانا خلال عام،فتنجب الزوجة من بعدها،اقتنع الرجل بأقواله،نفذ ما أشار عليه ومضى في شأنه.
يقسم مولانا أمام الزبون أن غلاء البخور هو من يدفعه لمطالبة زبائنه بالمال،إن أحضر الزبون البخور معه أوهمه أنه ليس من النوعية التي يطلبها لطرد الأرواح الشريرة من أنفس مرضاه،سيظل يجلب المريض له أنواعاً من البخور ويزداد هو رفضاً لها إلى أن يمنحه الزبون مبلغاً من المال يتوسل إليه شراء ما يلزم بنفسه.
 من أطرف ما عرض عليه من حالات مرضية،أن فتاة يصيبها مسٌّ من جنون كلما تقدم لخطبتها شاب،حينما جاؤوا بها إلى مولانا،طلب من ذويها الانتظار خارج الغرفة،أخبرها بعدم اقتناعه لجنون تدعيه،اعترفت له،بأنها قد تعرضت لحادثة اغتصاب وخوفاً من أن ينكشف أمرها،كانت تعمد إلى تلك الحيلة، أبدى مولانا استعداده لإنقاذها.حينما أخبر الأهل،أن جنياً يسكن جوفها وأن طرده ينتج عنه فض لبكارة الفتاة،تشاور الأهل،فيما بينهم،رق لها قلب ابن العم فقبل الاقتران بها ،طلب مولانا عصى طويلة،كانت الصبية تقفز وتصرخ كلما أهوى بها على الأرض،وبعد مضي ربع ساعة من ذاك المشهد،قبَّلتِ الصبية يديه ممتنة،خرج مولانا من الغرفة تتبعه الفتاة،أعلن اندحار الجني وخروجه من جوف الفتاة،تعالت الدعوات والابتهالات بأن يحفظ الله مولانا من كل سوء.
في صبيحة يوم خريفي استفاق مولانا على قرع متسارع لباب الدار،لما فتحه، فوجئ بالجار يستنجده حلاً لمعضلته،فقد أمضى الليل دون أن يطرق النوم جفونه،كان جاره ثرياً،وخوفاً من أن يسطو اللصوص على أمواله فقد التجأ إلى مولانا،ليصنع له حجاباً يحصن أمواله،طلب منه مولانا أربعين ألفاً سيدفعها للجن الذين سيتولون حراسة أمواله،وأربعين ألفاً أخرى له،إذ أنه سيظل من الصباح إلى المساء ولمدة أربعين يوم،يعمل في صنع ذاك الحجاب،بعد موافقة الثري،عدَّ مولانا رزمة المال وشكر ربه الذي يرزق عباده من حيث لا يحتسبون.
في الطريق الذي يتوسط المدينة وبينما كان يقطع الشارع في زيارة لأحد أصدقائه كانت سيارة مكشوفة تطارد حماراً أسود اللون،علت جبينه ابتسامة ساخرة :
ـ هاهم أولئك الأغبياء ممن طلبت منهم أن يحضروا لي ست شعيرات من ذنب حمار أسود أُحرِقها أمامهم لأطرد الأرواح التي تسكن في أعماق عزيز لهم،هاهم يلاحقونه لينزعوا من ذنب ذاك الحيوان الأليف ما أشرت إليه،يالها من سعادة وما أروع أن أكون للناس بمثابة بوصلة أوجههم إلى حيثما أشاء .
       لم يكن يوليه الأب أي اهتمام بل وينهال عليه بالضرب لكل هفوة يقوم بها،أو  يلصقها به أخٌ يكبره سناً يتمتع بكثير من الخبث والدهاء.جلسات التأديب تلك كانت تقام أحياناً أمام الضيوف،فيشعر بنظرات شذر تبدر منهم لعقوق يُلْبِسُهُ الوالد إياه.كل ما يحدث من مشاكل وأياً مما يصيب العائلة من انتكاسات معيشية ونفسية،سببها هذا الولد العاق،هذا ما يؤكده الوالد في أي سهرة تضم الأقرباء والخلان،الذين يحمدون الله،أن لم يرزقوا بولد سيئ مثله. كان حينما يتحدث أمام  الكبار يتلعثم ويكرر الكلمات فلا يقوى على نطقها سليمة إلا بصعوبة بالغة.
لم يكن،موضع اهتمام من أحد،لذا،فإنه يدهشه اليوم أن ينتصح الناس بما يشير عليهم،ورغم أنه كان يعلم أن من يقدس سره اليوم،ثلةٌ كبيرة من الحمقى ،لكن السرور كان يدب في ذات أقصيت عن دائرة الاحترام.
أيقن أن مهنته الجديدة تتطلب نوعاً أكبر من الدهاء.أكثر الحالات التي تعرض عليه،فتيات لم يطرق بابهن عريس،فكر في استئجار شاب ينقده ألف ليرة لكل مهمة يقوم بتنفيذها،فحينما تشكوا إليه فتاة عنوستها،يطالبها بمبلغ أربعة آلاف ليرة،معللاً سبب عنوستها إلى أن إحداهن،ليست بالبدينة ولا النحيلة قد كتبت في حقها طلاسماً،وأنه سيقوم بإحراق ما كُتِبَ من أوراق،مؤكداً أنه وفي غضون أسبوع سيزورها من يبحث عن شريكة عمر،فإن وافقت الأم،أرسل مولانا ذاك الشاب بعد يومين أو ثلاثة،بلا علم منهما أو معرفة مسبقة له،لزيارة ذويها وإبلاغهم أنه يبحث عن نصفه الآخر،بعد تقديم القهوة واحتسائها،يقفل الشاب ليستلم منه مبلغ الألف ليرة.في اليوم التالي تهرع الأم،فتمنح مودتها ونقودها إلى مولانا الذي ذاع صيته في دانيات القرى وأقاصيها.
كان يدرك خطورة ما يقدم عليه،من جريمة بحق الدين والمجتمع،يعلم أن حاله في جمع المال يوازي حالة التاجر الذي يسرق قوت الفقراء،لكنه كان دائماً يعلل بأنه مادام إنساناً خارقاً فلا بد له من الهدم ليبدأ الإعمار ممتلكاً جميع أدوات البناء،معللاً أن الله سيقبل توبته النصوح لسعة رحمته بالعباد .
قرر أن يترك الشعوذة ولكن؟بعد أن يتمكن من شراء منزل يبعد عنه تعسف المؤجرين ومطالباتهم الدائمة للأجرة.بعد شراء المنزل عليه أن يفكر باقتناء حاسوب جيد يوصله بالانترنيت الذي يطلعه على ما ينشر في الصحف العالمية، حينها سيقوم بعمليات الترجمة،فتنقده الصحف والمجلات ودور النشر،ما يعينه على تجميل وضعه المعيشي.يفكر من بعدها  النزول إلى العاصمة لمقابلة رجال الأدب والفكر وإجراء المقابلات معهم في أروقة الأندية،دون هياب  بمصاريف الانتقال،أو دفع أثمان الغداء والمشروبات لأولئك النخبة الذين لابد وأن يعترفوا بالجميل فيتوسطوا له لدى محرري الصحف والمجلات،في إدراج مواده وبزخم كبير في عمليات النشر التي ستضمن له دخلاً يمنحه استقراراً في خريف العمر .
لم يكن يومه كباقي الأيام،أصرت عليه الزوجة،أن يشتري دجاجة مشوية رغماً من اعتراض أبداه لفكرتها :
ـ ألا ترأفين بحالي أيتها المرأة،هاه؟ ألا تدرين بأن أصغر دجاجة تساوي مئتي ليرة،هل تعرفين ما أستطيع شراءه بذاك المبلغ،وعاءاً من اللبن يؤمن فطورنا وعشاءنا لمدة عشرة أيام؟.
ـ أوووف،إلى متى نظل نتمنى ويحجمنا الجيب عن الإقدام،هل تذكر آخر مرة تناولنا فيها الدجاج،منذ عام ونيف،هيا يا عزيزي لا تخف،ما من نملة تدب على الأرض إلا ورزقها على رب الخليقة.
في الصباح الباكر وقبل أن يخرج الدجاج من قنه، وقبل أن تصدح في المساجد تكبيرات،تحث المصلين لأداء صلاة الصبح،استفاق على صراخ زوجته تهزه بعنف:
ـ قم يا عزيزي واستلق على ظهرك لتنام بسكينة.
ـ هاه،ماذا،أين!!؟ .
استعاد رشده،شكر خالقه بأنه في البيت،أيقن بأن انصياعه لرغبة الزوجة في تناول الدجاج المشوي،كان سبباً في ليلة امتلأت بالكوابيس .ارتسمت على جبينه علائم الدهشة،حينما استفسرته الزوجة عن كلمات كان يكررها في سباته،الأغنام،الدجاج،التعاويذ،الجن،الدجال...!!
                                 

                          ===================

 

  "  القِطَطُ السِّمان  "  

 
هو قدر المثقف الملتزم،أن يعيش صراعاً مع الفقر والحرمان،هو سوءُ طالعٍ ألقى به في خِضَمِّ مجتمعات،تقدسُ وتعظِّمُ وتنعتُ بالقدرة والذكاء والفطنة،كُلَّ مَنْ يقتني المال ويخزنه،ليفاجئنا بين ليلة وضحاها وتحت سلطانه جمعٌ لا يستهان به من العمال،ما أن ينتهوا من بناء عمارة حتى يدفعهم إلى أرض،سيان اخضرارها أو قفرها،رصدَ لها الملايين،فيبدؤوا ومن جديد،عملية الإعمار لتتحول تلك الأرض وخلال برهة وجيزة من الزمن إلى بناء متعالٍ آخر،تتهافت القطط السمان على شراء الشقق فيه،مستبدلة حواريها القديمة بأحياء راقية ترفع من مقاماتهم. تلك القطط سرعان ما تنسلخ عن جلدها القديم،بِتَصَنُّعِها لسلوكيات جديدة وتقمصها لمفاهيم وليدة الساعة،تستميت دفاعاً عنها بما أوتيت من قوة وجاه ونفوذ،مزهوة بانتصارات أنجزتها في مجال الكسب.المتدين من هؤلاء الموسرين ممن فُتِحَتْ عليه أبواب السماء،يوهم الآخرين،بأن الله أحبه وفضله، فاختاره من بين البشر ليصبح ثرياً بوميض البرق،والعلماني يعزو ثراءه في وقت قياسي إلى قدراتٍ أظهرها من بعدِ كُمون،ومن المحال أن نجد من بين هذين الصنفين،مَنْ يندد بالفساد أو يعشق العدل،ولن يبدل في الأمر،إنْ تَلَبَّسَ أولئك ثوب الدين أو  العلمانية،فأكثرهم يبني قصوره على أحلام الفقراء،جُلُّهم يستعبد الأنفس ويسخر القيم والمبادئ ليجعل من خزائنه أكثر تخمة.لا غرابة من بعد، ولا من أدنى شك،في أن أثرياء المجتمعات النامية إنما يميزهم عن أقرانهم في المجتمعات الراقية،شدة تخلفهم وجهلهم وحدَّة إمعانهم في  القسوة.
القسوة بركان يثيره الجهلة وأولوا الأمر لتنصب حممه على أنفس الأنقياء من المثقفين،الجهلة يخاصمون المثقف لأنه يمس أعرافهم وتقاليدهم،فلا يرضيهم
تغيير أو تجديد في نمط الحياة يدعو له.والنخبة في البلدان النامية ولسياسات قائمة على"جِعْ كلبكَ يتبعكَ"،يعتبرون المثقف النظيف خنجراً في الخاصرة، يهابونه رغماً من جبروتهم،يدركون بأن المضي في طريق التجهيل والتجويع والتخويف لن يكتب له الاستمرار ما لم ينضوي ذاك المثقف في قائمة الخانعين.
  الظلم يثقل كاهل الجاهل،يحسبه قدراً إلهياً، ينصاع له بكامل الإرادة.يختلف المثقف عنه في اعتبار الظلم سلوكاً مشيناً، مستشهداً بخالقٍ حرم الظلم على النفس والعباد.يحاول المثقف جاهداً أن يعصم النفس عن الزلل،يظل باحثاً عن سبلٍ تؤمن له لقمة تمنحه البقاء وتحفظ له ماء الوجه،فمِنْ مدرس بالوكالة ٍإلى مستخدم مؤقت إلى حارسٍ إلى بائع متجول إلى هائمٍ على وجهه في دروب الحياة يبحث عن أي عمل،تسعفه القوة أن يقوم به غير آبه لسخرية أو استخفاف يبطن نظرات الجهلاء إليه.
كلاهما،الجاهل والمثقف الملتزم،يلبس الشقاء والبؤس ثوباً،الأول،ولأن الرهبة تعصف به لانتهاكاتٍ في الحقوق،تحدث هنا وهناك،فإنه يختار النوم على  الطوى،محافظاً على سلامة الجلد وفروة الرأس،مفضلاً إبقاء القدمين في مقاسٍ منحه الخالق،عاكفاً إلى صمت ثقيل.الثاني يود العيش بسكينة وأمن،لكنه يصطدم بجدار كبير،يفصله عن رغبته في الرقي بمجتمعه،يعتصره الحزن حينما يرى الفضائيات وباسم التحضر والتحديث تعمل على تشويه الفن والأدب والخلق،تكويه الحرقة من تتبع الصحف وما تحمله الأسطر من كلمات جوفاء ومساحات صماء تغضي الطرف عن شتاءات،تعصف بأعطاف النفس،فترفع من وتيرة الإذلال إلى حد يجعل القلوب والأضلاع مرتعاً لكثير من أمراض مستعصية ،تدفع بالمرء استسلاماً للأوهام والهواجس،مفتقداً الحول والرغبة في أداء واجباته تجاه نفسه وعائلته ومجتمعه وعالمه.
المثقف خلافاً للجاهل،وإنْ تُكْلِمُهُ ضربات الواقع المر،لكنه يظل مقاوماً عنيداً، لكل ما يعكر صفو الحياة ورونقها،و لا ينفي ذلك أنه وفي لحظات ضعف،يحسد نعيماً فيه أهل القبور،فما من اشتراكية في الكون إلا اشتراكيتهم.المساكن على مقاسات متساوية وما من أموال تنفق على المأكل والمشرب،ولا من أجرة للمسكن أو من فاتورة للهواء والضوء والدفء والدواء والهاتف و الكهرباء،وما من ضريبة للكلمة الحرة يدفعونها في ذاك الملاذ الآمن.لا ينكر المثقف أنه وفي أحيانٍ كثيرة يخلد إلى قيلولة العزلة،يمنح الأعصاب راحة من ضباب يحجب الرؤيا.قيلولةٌ يشحذُ من خلالها القوى معاوداً الصراع مع خفافيش تبث السموم في الأوصال منتهكةً هدأة الليل وسكونه .
وكيف لا ينجرف المثقف إلى العزلة،وما يطفو على السطح يُنَكِّدُ ويُنّغِّصُ عيشه :(إن مقدار ما تتقاضاه هيفاء وهبي لحفلة واحدة يوازي ملايين  الاستكتابات لمئات المثقفين في الصحف والمجلات العربية.الأديب يشكو من استمرار سياسة استغباء البشر في البلدان النامية.لا احترام يكنه رؤساء التحرير للكلمة،تطفلٌ على أعمدة الصحف وأبوابها الرئيسية لأسماء مرموقة،تحتل مراكز أرمق في عوالم الثراء والمسؤولية. "محسوبية" في عمليات النشر،تقديم في مواد أولئك النخبة وإهمال لمواد الصحفيين الممتلئين صدقاً وعفة المنتوفين مادة ونفوذاً.
وبدلاً من احترام تعلنه الحكومات لشعوبها،وأملاً في كتم كل الأصوات التي تدعو للإصلاح،فإنها تغلق كل الأبواب التي تأتي منها الريح الصرصر، تولي  المشاكسين والمنددين مناصب مرموقة،تُدْخِلُهم في جوقة الفساد؛فينتقلون وبقدرة قادر من التشهير إلى التمجيد،إلا من عفَّت نفسه فاختار الانزواء في عالمٍ يقيهِ شَرَّ الفتنة.يعمد كثير من المعلمين إلى التقصير المتعمد في أداء واجباتهم التربوية بهدف تحويل الطلبة إلى مكاتب استثمروها للتعليم وبأسعار لا تخضع لإشراف
القانون.أبناؤنا،جيل الغد،مستعدون لتعلم كل شئ إلا العلم.حملة الإجازات الجامعية،يئسوا طرقاً للأبواب فاكتظت بهم المقاهي.فلانٌ شبه الأمي، وبوساطة أبيه،عَيَّنَهُ الوزير معلماً في قريته.طار الوزير،وتشكلت لجنة لانتقاء المعلمين، توجَّس الأب خيفةً،أنجده الوزير الجديد،بأن ابنه قد عُيِّنَ في لجنة انتقاء المعلمين.من أنكر أصله،أيّانَ من أصلٍ له،وبناء عليه فإن المناهج المدرسية قد
حافظت على أصل كلاسيكي قائم على التلقين والحشو والملل.أكثر من نصف البشر في البلدان العربية يعيش في فقر مدقع.البطالة:شبح يطل بطيفه الثقيل على معظم الأسر العربية.مكاتب التشغيل تأبى التشغيل إلا لمن يدفع.اللحام يقل  احترامه لصاحبكم لأنه قرر أن يكون نباتياً.الغلاء يتناول كل شيء في هذه الحياة خلا الإنسان ." الكلاب تشكو نباحاً تفوَّقَ الكثيرون فيه عليها.القططُ تنظر شذراً إلى كثير من البشر،سلبوها مهمة البحث عن الأرزاق في الحاويات".تتزايد الفضائيات التي تمنح الجسد حرية التعبير والتنفس والحركة بينما تُكتم الأفواه المناهضة والمنددة لكل مناحي الفسق والمجون.فلانةٌ القاصر،يقتص منها المجتمع القبلي،يُسْجَنُ الجاني لِشَرَفٍ ظَنَّ أحداً قام بتدنيسه،وعارٍ خاله أن مُحِيَ،  يُخَفَّفُ الحُكْمُ لِتَوَسُّطِ العرف الجاهلي،دون مساسٍ بمَنْ هتك بكارتها،لا لشيء، إنما لذكورةٍ يُحصنهُ بها المجتمع لا الدين!. موضة الاحتشام لهذا الموسم:نفورٌ للمؤخرات،إبرازٌ للنهودِ،سترٌ لعورة الرأس ).
أصاب الناس في أحد البلدان مسٌّ من الجنون لينبوعِ ماءٍ شربوا منه،اتَّحَدَتِ الآراء على تغييرِ الملك وحاشيته،متهمين إياهم بالخرف والجنون.استشار الملك وزراءه،فقرروا أجمعهم أن يشربوا من ذاك الينبوع.هلَّلَ الشعبُ مِنْ بعدها فرحاً وعظموا في الملك نباهةً وعبقرية .
هنا نتساءل،إن كان على المثقف أن يحذو حذو الجميع،أم أن عليه عزل نفسه عن المحيط،كي لا يُذابَ في بوتقته؟.كلاهما مرٌّ ذينك الخياران،لن يَمُتَّ إلى
الثقافة إن اختار الانزواء،ولن يرضيه اضمحلال للقيم والمثل،ولكن،أو ليست صائبة نظرته إلى الفرد في المجتمعات الشرقية،يتلقفه الأقوياء فيعجنونه بالطريقة التي تحافظ على ديمومة الاستقرار،استقرار المال في خزائن اللصوص،استقرار القطط السمان والمرتشين،يتنعمون يما نهبوه من جباه المستضعفين،يُعِدّونَ العُدَّةَ للاستحواذ على ما تبقى لديهم من رمق الحياة..؟.
يرى المثقف في الإنسان الشرقيِّ طبيخاً مطهواً بأعلى جودة في قدور الأقوياء:    ( قليلٌ من ملح العلمانية والدين،وكثير من بهارات الانصياع والرضوخ للنخب الحاكمة )،فإن اتُّهِم الشرقيُّ بالتعصب والتخلف،ادَّعى العلمانية وإن نُعِتَ بالإلحاد،أظهر مودة بالغة لخالقه وإن وُشِّيَ به،سرعان ما ركع متوسلاً أن يمد الله في أعمار الأقوياء،كونهم رمزاً للعفاف والتقوى ..!!
لا مَنْ يَمْنَحُ المثقف تفاؤلاً وشموخاً وعزة،لا مَنْ يجعل الليل يبدده ضياء القمر، أو مَنْ يُمَكِّنُ الشمس إشراقاً في موعدها،لا مِنْ ربيعٍ يملأ السماء زرقة والأرض اخضراراً،إلا عدلٌ،مفقودٌ أثرهُ في قوانيَن عرفيةٍ ووضعيةٍ،تتحكم بمصائر البشر على كوكبنا الُمطَعَّمِ بألوانِ قوس قزح،المزركشِ بشتى ألوانِ الزيفِ والنفاقِ والأنانية.
                                                 صلاح الدين عيسى
                            عفرين ، ص.ب :96جوال : 0944989574 


تيريج عفرين 6 / 11 / 2007

 

" المثقف وأزمةُ البحثِ عنْ هوية "

 

بما أن الكتابة تهدف إلى تهذيب النفس وتنوير الآخرين بحقائق الأمور، وأن المثقف وحده من تناط به مهمة إيصال الكلمة إلى عقول الناس ؛ فإنه يتوجب علينا تعظيم تلك المهنة المتعبة للروح والجسد بآن واحد ، علينا تبجيل من اختار الصدق منجاة لنا .. من فضَّل الحقيقة على زيف يدفعنا إلى الهاوية .

       المثقف ... سيّانَ التزامه بالصمت حيال كثير من الأمور ، أو تنديده بها ... مستبيناً الإيجابيات والسلبيات في سلوكيات الأفراد والنخبة ؛ فإنه وفي كل الحالات ، لن يسلمَ من أذية مَنْ يستكثرُ فيه عبقرية الإحساس ودقَّةَ الملاحظة ، وعدم الرضوخ لما أُسمِيَ بواقع مفروضٍ يتوجَّبُ قبوله .

ربما من مثقف يندبُ  حظهُ بأن وطئت قدماه المدرسة .... يلعن عزوفه عن تعلم صنعة ، تضمن  استقراره المادي . الندب والعزوف ، مردهما : حالاتُ ضعفٍ تنتابه أحياناً... مَردُّها تآلف قوى الظلم وتوحُّدِها ، واستنباطها أحدث الأساليب للحدِّ من قدرته على الكتابة والإبداع ،كأن يوهموه ـ مثلاً ـ بأنهم ، وعلى الدوام، بالمرصاد ، لكل نسمة يستنشقها ....لكل لوحة شعرية أو نثرية يُسَطِّرها يراعه ... لكل فكرة تختمر وبصمتٍ ، لِتَنْضُجَ فتُدْخِلَ الرَّهبَةَ في أنفس من  ـ وباسم العدل ـ يهتكون بكارة الفضيلة كل يوم ألف مرة  .

 من المثقفين مَنْ تُضْعِفُهُ وعورة الدرب فيَعرِضَ بأبخسِ الأثمانِ فكرهُ وإحساسهُ لأوَّلِ عابر سبيل فرداً كان أم جماعة . منهم من يعزف على أوتار القوى المهيمنة ، فإما أن يحصل على الفتات ، أو أن تُفتحَ له أبواب النعيم حينما يُسَخَّرُ له الإعلام المقروء والمسموع والمرئي  ...  يصولُ ويجولٌ مُعَظِّماً ... مُقَدِّساً قُدُرات الأفراد والنخبة .

 من العوامل التي أقصت الأفرادَ عن دائرةِ الثقافة والتثقيف إصابتهم بالإحباط كونهم لم يروا فيها صوتاً يُدَوّي في عالمٍ .. تتكالبُ فيه الذئاب على وليمةٍ دفعوا أنفسهم ثمنها ..    ( حرمانهم من الضوء والنعاس والحب والهواء والدواء ).

    لا مِنْ أحدٍ يمتلكُ الحجة والإقناع بأن الفطرة وحدها ، تدفع المرء لتهميش الثقافة والمثقفين ؛ إنما انعدام الثقة بأكثر المثقفين وإتخام السوق بنتاجات غير ملتزمة لمتطفلين على الثقافة ، وزجُّ العبادِ في أتون النكبات والنوائب ، وحدها من جعل الثقافة بمعزل عن اهتمامات الأفراد.

هنا نلحظ التمييز بين كاتبٍ يغوصُ في أعماق الحقيقة، وآخر يحالفُ الشيطانَ إنْ توَسَّمَ منه ارتقاءً في المنصب وكسباً للمال .

أمام هذا التحدي وهذا الإقصاء ، يحاول الكاتب الحقيقي أن يشق طريقاً  إلى قلوب أُصيبتْ بالتشوه ، فبدلاً من أن يكون شمساً تسطعُ في سماءِ الحقيقة ، فإنه يُمضي الوقتَ في لملمةِ جراحٍ أُثخنَ بها وأقرانه ، مِمَّنْ طحنتهم عجلة المجتمع بهوس الحضارة وزيف التمدن.

المثقف الحقيقي ، لا يبرِّرُ الصمتَ باستبدادٍ يطفو على السطح ، لأنهُ ذاتهُ من يمتلكُ الحريةَ ويهبها للآخرين .. دونَ هيّابٍ بسلطة الأقوياء وإرهابهم ،فكَمْ من أمم خلَّدَتْ مثقفيها الملتزمين ، وأيُّ قَدْرٍ َلقِيَهُ لصوص الأدب وكتابُ البلاط وأشباهُ المثقفينَ مِمَّنْ يتسكعونَ على أرصفةِ اليأسِ ويتسولون في أروقة الثقافة ..؟!.                  

                                    " صلاح الدين عيسى "  عفرين ـ ص.ب96 

31 / 7 / 2007

=========

 

قصة قصيرة

" ثمار الصَّبار"

 

قفل عائداً إلى القرية بعد زيارة سريعة للمدينة ...تزود خلالها بالضروريات مما يفتقد الريف منه الكثير . ألح عليه السائق أن يحاذيه الجلوس لتجاذب أطراف الحديث ، وبينما العربة تشق الجبال والتلال في طرق ملتوية متعرجة تعلو وتنخفض ؛ أسند رأسه على راحتيه متفحصاً بين الفينة والأخرى سهولاً تنبسط في أسفل الجبل ، مخضرة كبساط سندسي متموج الألوان ، ومن بعيد ، وعلى أطراف الوديان ظهرت أخاديد متعرجة شقها سلسبيل مياه أخرجتها الأرض من جوفها كي تبعث الحياة في الكائنات .

     ظهرت على السائق علامات زهوٍّ وثقة كبيرة بالنفس خلافاً لجليسه . استعلمه عن مقدار ما يكسبه لقاء تدريسه للساعات الإضافية ، أرعدت السماء فلاح وميض البرق ، أينع القلب بثمار الصبار . اقتحم الشوك جدار النفس فانطفأت قناديل الأمل  . قبل الوصول إلى مشارف القرية ، هشَّ السائق بابتسامة ساخرة ، خفَّت حدة حفاوته واحترامه له ، أكد بأنه يكسب لقاء عمله في نقل الركاب من القرية إلى المدينة وبالعكس ،ولثلاثة أيام فقط ، أضعاف ما يكسبه هو في الشهر الواحد .

17 / 5 / 2007

===============

 

( رِبْطةُ عُنُق )

قصة قصيرة

صلاح الدين عيسى

 

  مما يتوافدُ إلى ذاكرتهِ منْ أحداث ومواقف وعبارات ، مقولةٌ أسمعَهُ إياها معلمهُ في أواخرِ السبعينيات ، حينما كانَ غضَّ العود : " منْ شبَّ على شيءٍ شابَ عليهِ " .

 لعبتِ  الأسرة والمدرسة أكبر دور في صياغةِ أفكارهِ وتلوينها، لمْ تُنْقَشْ نفسُهُ بفسيفساءِ المفاهيمِ والأفكارِ  التي زينتْ خارطةَ الكون . أحبَّ منذ الصغر كتابة الأرقام وقراءتها ، قراءتها مرسومةً على قطعِ النقود " قرشان ونصف ، خمسة قروش ، ليرة ، خمسٌ ، خمس وعشرون،خمسون ، مئة " وما أن وطئت قدماه مدرسة " قاسيون " ألفى نفسه فجأة ، يكره الرقم خمساً وخمسين ، ومبعث ذاك الكره ، أنَّ رفاقه قد استبدلوا اسمه بذاك الرقم  لرقعتين مدورتين من الجلد زينتا مؤخرة سرواله .

 يَذكُرُ أنهُ حينما كانَ في التاسعة من العمر..كان دائم الترددُ إلى مسجد "أبوالنور " الذي يقع في حيٍّ دمشقيٍّ يحاذي الأطرافَ الجنوبيةَ لجبل" قاسيون "، يذكرُ مسابقةً أجراها شيخٌ كان يُحَفِّظُ القرآنَ ويَغرسُ محبة الإله في قلوب أطفالِ الحارةِ ... منْ يأتِ بحديثٍ عن طلبِ العلم ؟ سؤالٌ ألقاه الشيخ على أطفال افترشوا  ساحة المسجد . ارتفعتْ أيديهم وتعالى صراخهم ، أشار إليه الشيخ ، بعد إجابة موفقة ؛ خُيِّرَ  بينَ القلمِ وربطةِ العنقِ كهديةٍ يودُّ مكافأتهُ بإحداهما ، اختارَ ربطةَ العنقِ وقلبهُ يطيرُ منَ الفرح . مرَّتْ أربعةُ عقودٍ ولم تزلْ ربطةُ العنقِ تحتلُّ الصدارةَ بين مقتنياته .

   هي الفاقة رافقتهُ منذُ نعومةِ أظفارهِ ، أرَّقَتْهُ في سنوات الطفولةِ وأوَّلِ الشبابِ ولم يزل ، فكرةُ ولوجِ ما يشاء من المخازن ... رميُ النقودِ في وجوهِ أصحابها ... يختارُ ما يناسبهُ منَ الثيابِ والحاجيات ... يخرجُ مِنْ ثمَّ مزهواًّ ، وتباريك الباعة وراءه تزيده صلفاً وتكبراً  .

     دفعهُ الحرمانُ مراراً إلى عراكٍ متواصلٍ معَ أطفال الحارة . ما أن يطلعه أحدهم على لعبة جديدة أو قميص اشتراه له أبواه بمناسبة العيد ، حتى يركبه عفريت ، يندفع لتهشيم اللعبة وتمزيق القميص منهالاً بالضرب على الصبي تاركاً إياه منتحباً ، يُلَمْلمُ ما تبقى من اللعبة المهشمة ، منسحباً من ساحة المعركة والدهشة ترتسمُ على جبينه . وذات مرَّةٍ ، انتخبه رفاقه  زعيماً عليهم ، ربما لأنه الأضخم جثة أو أنه كان الأكثر صراخاً أولجرأة قد اصطنعها ، أفصح من خلالها عن رغبته في أن يكون واحداً من أبطال  " الكاوبوي " الذين من أجل مشاهدة أفلامهم كان يكرر ضرب قدميه بالأرض ، يفتعل البكاء والنحيب ، متوسلاً أمه كي تمنحهُ بعضاً من الفرنكات يقفزُ بعدها كالقِرَدَة إلى دار ٍللسينما محاذيةٍ لساحة " المرجة " لم تزل تعمل إلى يومنا هذا .                                      

  كان ورفقاءه يغيرون على الحارات الأخرى ، يقاتلون أطفالها ، يدفعهُ شعورٌ في بسط النفوذ عليهم  . يعودون عند المساء إلى الحِمى إما منصورين أو مقهورين ـ  في أغلب الأحيان ـ يستندُ الواحد منهم إلى رفيقه ، وقمصانهم بعضها ممزقٌ  أو تطايرتْ أزراره ، فإن أفلَحَ الغزوُ ، انتابهُ هلعٌ شديدٌ ... يصرُّ في اليوم التالي أن ترافقه الوالدة إلى باب المدرسة والعودة به في نهاية الدوام ، أما أولئك الصبية ممن استشعروا الهزيمة من الحارات المجاورة ، فكانوا يتربصون به في النواصي والأزقة المؤدية إلى المدرسة ، يمر بهم ، يخرج اللسان في تهكم ويدخله من ثمَّ في فمه ، محتمياً بالوالدة التي تدأب على نهره وإمساكه من أذنه أو صفعه على مؤخرته متوعدةً إياه بإخبار الوالد .

كان يدركُ بأن ضآلةَ حجمهِ وصغرَ سنه قياساً بأبيه وبقيةِ رجال الحارة من العوامل التي حدَّتْ من استيعابه لكثير من الأمور ، أنبأه حدَسُهُ  أن الكبارَ بتطاول قاماتهم وكِبَر سنهم ، أكثر قدرة وتحليلاً لمختلف الظواهر المحيطة به، تاقتْ نفسهُ لمعرفة كثير من الأمور ... كيف يفسر ـ مثلاً ـ انخراط بعضٍ من نسوة الحي في ملاسنات ومشاحنات تتشابكُ فيها الأيدي ، ينهين خلافاتهن  بتهديد المنهزمات ، ممزقات الثياب ، منفوشات الشعر ، بعودة الأزواج من العمل  والثأر لهن ؟!

 لِمَ يصفعهُ الوالدُ وينهالُ المعلم بالعصا على رجليه رغمَ إدراكهما لصغره وكبر سنهما ؟! لِمَ يختلفُ الكبارُ رغمَ كِبَرِهِم ولِمَ يتقاتلون ويتباغضون ؟؟  

تساؤلاتٌ طرقتْ بابَ المخيلة ، لمْ تُسْعِفْهُ اللغةُ في تكوينِ مفردات أو جمل من خلالها يعبرُ عن مأساة طفلٍ صبغَ الحرمانُ عالمه بغيوم داكنة كوَّنتْ مصادرَ بؤسه وشقائه .                     

           ************************************

17 / 5 / 2007

 

  وجهات نظر

صلاح الدين عيسى

 

 

                                        -  1  -

         اختلاف الناس في الطباع يقابله تباين في أفكارهم ووجهات نظرهم فقلما نجد اتفاقا على فكرة واحدة يأخذ بها الكل فما الأسباب المؤدية للاختلاف الفكري  أهو التنوع في الخلفيات الاجتماعية والثقافية أم هي طبيعة المفاهيم المتداولة تاريخية كانت أم سياسية أم معتقدية ..؟

      قديماً تحدث العالم الإيطالي ( لومبروزو)عن أثر البيئة في ولادة الأفكار ونموها وتلوينها وتوجيهها  فالإنسان الذي نشأ في بيئة علمانية وتبنى أفكارها يرفض يعادي كل من يعارض العلمانية والأمر كذلك بالنسبة للمتدينين إلا أن حدة الخلاف مهما اشتدت فمن المنطقي لها أن لاتصل إلى مرحلة التصادم .

                                    -  2  -

      ثمة أمور تتطلب منا التعامل معها ومعالجتها بذكاء وحكمة وأخرى تستعصي على الحل  تلك كانت حالي مع صديقي الذي سيطرت عليه الحيرة فقد وصلت معه إلى طريق مسدود  الظروف دفعته للهجرة إلى هناك وحينما حط به الرحال في ذلك المكان لاحقه الذل والنظرات الدونية لأهالي تلك البلاد  فقد هاجر إلى موسكو منذ خمسة عشر عاماً وانتقل إلى طشقند فدول البلطيق وحكايته مثل حكايات الكثير من الشبان ممن طرقوا أبواب الهجرة علهم يجدون هناك ما افتقدوه هنا فأصيبوا بالصدمة جراء استمرار رحلة العذاب وبأشكال مختلفة وعادوا إلى الوطن لكنهم ومن ج! ديد أخذت تنتابهم مشاعر وهواجس تدفعهم للرحيل فلا حيلة لديهم سوى أن يبقوا هنا أو أن يهاجروا إلى هناك مثل سفينة تمخر عباب البحر بلا وجهة معينة .

أتساءل مراراً عن دواعي وضع المواطن في العالم الثالث بين المطرقة والسندان فهو إما أن يتقبل مرارة الواقع في بلده أو أن يرتضي المهانة في البلدان الأخرى ؟؟

      المواطن في حيرته بين الهجرة والبقاء  لم يوقف عقارب الزمن فالعمر يمضي ويأخذ معه الفتوة والعنفوان وفجأة يرتمي في أحضان الشيخوخة فلا هو انتفع ولا انتفعت أمته به ..!!

 

                                     -  3  -

     أصيب الفكر بكثير من التصدع والانهيار في بورصات العالم الثالث فكيف بالإنسان أن يفكر وأن يبدع وهو مقيد من رأسه حتى أخمص قدميه بحبال من الخوف والرهبة والحيرة .

       أفكارنا وآراؤنا ووجهات نظرنا تحتاج لغربلة ... ما ارتأيناه البارحة قد ندرك فداحة خطئه اليوم أو غداً.

         الإعلام محق في تمجيده للماضي العريق لكنه يغضي الطرف عما آلت إليه الأمور في يومنا هذا فنحن حضاريون - بحسب الإعلام - ومتطورون إلى أبعد الحدود ، ونحن كانت لنا حضارة زاهية مشرقة ، ونحن .. ونحن .. نكتفي بالحديث عن الماضي كلما حلت بأمتنا مصيبة دون أن تدفعنا أنفسنا للتساؤل عما يمكننا عمله للحاضر والمستقبل !!

 

                                    -  4  -

      الوطن بيت الإنسان ...شجرة يستظل بها الأبناء . المثقف ، تقع على عاتقه مهمتان : إحداهما تدعيم لأركان هذا البيت ليصبح عتياً على الرياح الهوجاء  والأخرى رعاية لهذه الشجرة كي تتسع بفيئها لنا جميعاً .

     المثقف ، لا مَنْ علق شهاداته على جدران المكاتب ترفعاً أو تبججاً أو رغبة في الكسب .. كسب السمعة والمال أو المركز المرموق ؛ بل من شرع الأبواب المحكمة الإغلاق .. من أوصل فكرته إلى الآخرين وأقنعهم بها .

      المثقف : قدر يستوعب كل الأفكار ليطبخها على ناره الهادئة .

 

*****************************************************

 

التنوع ونظرية الإلغاء 

 

       أيهما تودّ زيارتهُ ... الساحلُ بتنوعِ تضاريسهِ وأشجارهِ وبساتينهِ أم الصحراءُ بطبيعتها القاسية ... وأيّ البساتينِ تودّ دخوله .. بستانٌ متنوعُ الثمارِ والخضارِ والألوان ، أم بستاناً يتميز بلون ونوع واحد من الثمار ؟ أيهما يلفتُ نظركَ .. بناءٌ متعددُ الألوانِ والأضواء والتصاميم أم بناءٌ قديمٌ متهالكٌ تخيمُ عليهِ الظلمة ...؟

  الإجابة واضحة على تلك الأسئلة ، فالتنوع هو الثراء الذي يضفي على الحياة نفحات جديدة ، وإنك مهما بلغت من العلم والمعرفة ... إن اعترضتك مشكلة ، لابد وأن تلجأ إلى من تجدهم أهلاً لثقتك لتحصل على جملة من الآراء توازن بينها وتختار منها ما يناسبك .

 من مقدمتي تلك أود تسليط الضوء على نظرية العقلية الإلغائية ، فنحن نلغي الطرف الآخر فرداً أو جماعة إن اختلفت وجهات نظرنا حول موضوع ما . الإلغائية تتعدى حدود الأسرة التي تشهد نوعاً من استبداد الرجل معظم الأحيان ، لتشمل جوانب كثيرة من حياتنا ، فنحن وفي هذا العالم الذي يشهد صراعات وتوترات وحروب وحالات من الإحباط ، تتكون لدى المرء آراء ومواقف مختلفة تجاه ما يحدث وهذا لا يعني تبرماً وتذمراً وانفعالاً بل احتراماً للرأي الآخر وكذلك فإن ما يطرح من وجهات نظر ليس بالضرورة تسليم الكل واقتناعهم بها ! أو تبنيها من جميع أفراد المجتمع فقد تكون غير مستوفية للمواصفات والمقومات التي يرجى منها خدمة الوطن والمواطن ، وقد يخالف المرء بوجهة نظره العادات والتعاليم الدينية وكل ذلك لا ينفي وجهاتَ نظرٍ جديدة يستحسن قبولها وإيلاؤها قدراً من الاهتمام .

  لن تسير الأمور على ما يرام لو أننا وضعنا إشارة ( اكس ) على من يخالفوننا الرأي ، ومن غير المنطقي ألا نرى إلا سوداوية الآخرين ، فهل ورد في أي شرع سماوي نص يدعو إلى إلغاء الآخر فكراً أو جسداً .

    علينا بالتسامح وسعة الصدر والقدرة ُعلى احتواءِ الآخرين واستيعابهم ، فاختلاف الآراء لا يؤثر سلباً، ما دامتِ الثوابت خطوطاً حمراء لم تمس .

  مَنْ يبغي إلغاءَ الآخر... يعيشُ في وهم ٍ يتوجبُ عليهِ الخروجَ منهُ ُبإعادةٍ لصياغةِ أفكارهِ كي ينعمَ أجمعنا بمجتمع ٍ متمدن ٍ تسودهُ لغة الألفة ُ والودّ وإلا فإننا سنبقى تائهين في بحور ٍ من الظلمة .

 

================

 

الأدبُ والبحثُ عنْ الهوية

 

     تشهد الصحف والمجلات طفرة في الأعمال الأدبية لبعض من الأدباء الشباب ... أحاطوا أنفسهم بأسوار وبروج عزلتهم عن محيطهم وواقعهم  فحينما نتابع نتاجاتهم في القصة والرواية والشعر نجدهم يصرخون في وديان بعيدة كل البعد عن البيئة التي يعيشون فيها ويعمدون بقصد أو بدون قصد إلى تشويه الأدب حتى أنفه وابتعد عنه الكثيرون ممن وجدوا فيه كلاماً فارغاً لا يلتصق بمشاعرهم ولا يعبر عن طموحاتهم وآمالهم إذ أن الكثير من الأدباء قد انصرف لدراسة آداب وافدة لا تمثل الرؤى المحلية ولا تصور الواقع المعاش بما يحتويه من صور كئيبة ومفرحة .

      أراد أولئك الأدباء تكوين مجتمعات غير مجتمعاتهم فانتهوا  إلى عزلتين : إحداهما مكانية تمثلت هروب من الهوية والأخرى مكانية تجسدت في نبش الماضي والبحث فيه عن وجودهم المفقود وأحلامهم الضائعة .

    دواعي العزلتين يتمثل في عدم الرغبة بتكوين أحلام خاصة بل بالتبعية للآخر والاستسلام لبريقه .

   إن قراءة الآداب الأخرى بشكل غير سليم ولجوء الأدباء الشباب إلى تلوينها بألوانهم المختلفة وتقليدهم لها - من بعد  -  وعدم الإجادة في التقليد ؛قد نتج عنه أدب مشوه لا يمت للواقع بصلة ، كما أن الأديب من يدفعه إحساسه بالغربة : طرق أبواب التاريخ .. باحثاً عن مستقبله ؛ أشبه بمقامر مفلس ، فالماضي لا يصنع المستقبل والعكس صحيح .

    الرقي بالأدب يتطلب منا انفتاحاً على ثقافة الآخرين بشرط الاستفادة لا التقليد . كما أنه لا ضير من عودتنا للتاريخ بقصد الإطلاع على الماضي واتخاذ العبر بشرط ألا ننسى من خلاله حاضرنا ومستقبلنا .     

 

 

 الفانوس السحري

 

أقسم بأني لم أر في حياتي مثيلاً لإقبال الناس على الشراء كالذي شهدته حينما وطئت قدماي المدينة لمرة في شتائي ممطر من الأيام ، فقد حثني التزاحم والصراخ أمام أحد المخازن لمشاركة الجموع دون أن أعلم أسباب تجمهرهم ذكوراً وإناثاً ومن مختلف الأعمار . وكما هن الجارات حينما يغادر للعمل أزواجهن ، يعقدن الندوات وحلقات البحث ، يطلعن بعضهن مزالق الأخريات وقليلاً من محاسنهن ، غاضات الطرف –ذاتهن – عن كثير من سقط الأخلاق هن ّ فيه ، ولأن صغار الموظفين وكبارهم يرتأون في الرشوة ، أفضل وسيلة لتسديد فواتير رفاهيتهم وأن الموبايل والانترنيت وكل الفضائيات لم تُدرك غايتها إرضاء للخلق أجمعين ، فإن الأفاضل من العلماء ممن صيروا الكون قرية أو كوخاً صغيراً قد انصاعوا مجدداً لأهواء البشر ونزواتهم ، فقد أخبرني من يتقدمني دوراً ، ب! أن الذي يباع جهاز صغير الحجم ، زهيد الثمن ، يعمل بالطلق من الهواء أو الفاسد منه بالماء النقي والفاسد على حد سواء .... يثبته المرء    

على مرآة البيت أو الجيب وبلمسة من أزرار التحكم يسترجع ماضيه بكل دقائقه ، بالصوت والصورة وبكل ألوان ( بال سيكام ) وبلمسة أخرى يدخل عوالم الآخرين ينيط اللثام عن كل خصوصياتهم... متنكراً للخالق الذي قبح التجسس في سلوكيات الإنسان .

  ونظراً لأن مجتمعاتنا خير من تواكب التقنية والتطور والتحديث ولأننا نستنبط أفضل الوسائل في تنمية قدراتنا ومهاراتنا ورغماً من كيد الكائدين فإن معظمنا قد نال حصته في اقتناء أنواع من ذاك الفانوس السحري ، فالنسوة قد عكفن عن تشمم الأخبار والمراهقات.... اختارهن المراهقون من مشرق الوطن لمغربه ، نجمات لامعات ، يزيّن سماواته ، رغم أنف اللجنة التحكيمية لستار أكاديمي ، وأما شركات الاتصال فقد أتخمت خزائنها بأموال قد صُبت في محيطاتها من كل حدب وصوب ، والعجائز بدورهن ... استعدن بفضل الجهاز شبابهن المفقود والكهول أقعدهم الفانوس أمام المرآة فاسترجعوا فتوتهم وغرامياتهم أيام الصبا ، وأما المدراء فقد خصصوا بالمشفر من المرايا والأجهزة كي يشرفوا من مقاعدهم الوثيرة وبروجهم ال! عاجية على الكثير من شؤونهم وبعض من شؤون الوطن ... منغمسين  بالملذات في لياليهم الملاح مع صاحبات الغنج والحسن والدلال .

     أي تخلف إذاً ينعتنا الغرب به وأي استبداد نعيشه وقد نبذنا جمودنا وجلّ قيمنا ومبادئنا ، وفتحنا بعضاً من نوافذ عقولنا وكثيراً من ثغرات أنفسنا وأجسادنا ،فأمسينا نمارس فنون البغاء أسوة بإخوتنا في الجانب الآخر من كوكبنا البائس ؟؟ بل وأي سبات نحن فيه وقد كنا من قبل ( ننام مع الدواجن ونتناسل كالأرانب ؛ فأصبحنا لا نغفو إلا بالمهدئة من الحقن ؟؟!! )

7 / 4 / 2007

هاتف989574 -094 عفرين

=================

 

استمارةالتكليف

قصة قصيرة

صلاح الدين عيسى

 

  كاد يطيرُ فرحاً ويرقصُ طرباً ، وقد أمسكت موجهةُُ اللغةِ الفرنسية ؛ تستفسرُ أياً من المدارسِ يودُّ الحصول على ساعاتٍٍ إضافية فيها ، فلن يكون بعد اليوم .. ذكر نحلٍِ ؛ كالذي ينعتهُ من يقبعُ أعماقه.

 لما أخبرها عن شواغر في قريته وثلاث متقاربةِ من القرى؛ تتوضعُ مثل حبات اللؤلؤ في عقود جبال عفرين ، التي تتشممُ في الأمانوس ثغورهُ وتقبل في سهل العمق وجناته... وقبل أن تسألهُ القدرة في ملء الشواغر كلها ، في الخمسة من أيام الأسبوع .. وبعد أ ن حدثها عن دراجة نارية تدخلُ وقهره وإذلاله وتنتيفه وإقعاده وتهميشه  في أمواله المنقولة وغير المنقولة ؛ اندفعت وبثقة في تسويد استمارة التكليف ، مذيلة إياها باسمها وتوقيعها، متمتمة حمداً وثناء أن وبعد طول انتظار.. قد جاء من يبغي تعليم الفرنسية في ذاك المنتأى..

ألبس حمو.. ثوب القناعة والرضى فأيقن بأن  الدراجة لن تخيب ظنهُ ..أن توصلهُ إلى مراكز عمله.. رغماً من تعطيل إنارتها وكوابحها واهتزاز كل شيء فيها أثناء المسير كجوقة اختلطت عليها العلاماتُ الموسيقيةُ؛ فبثت ناشز الألحان.. لكنهُ سرعان ما لملم قناعاته وأتلف أوراق ثقته واعتماده.. وقد أصبح كلاهما يتناوبُ عملية الدفع..  فغالبا ما كان  ممسكاً بالمقود يسير بمحاذاتها علّهُ يصادفُ جراراً زراعياً  ينقلهما  إلى الناحية سوية؛ ليبدأ الفنيُّ إصلاح الأعطال فيها، فيقفل في عتمة الليل، وقد أنهكهُ سغوبٌ ولغوبٌ إلى كوخ بائس أوصله إليه زمن مهترىء كما فروةُ رأسه .. رديءٌ كأنعال أحذيته ، التي يتعمدُ وأثناء الاستراحة في إدارة المدرسة أن يلصق مشطي قدميه بالأرض كي يخفي من تشققا ت النعلين عن أعين زملائه المعلمين، أو في قاعة الدرس .. حينما يبطىءُ الخطى لئلا يتناهى إلى مسامع الطلاب.. زقزقة الأصوات المنبعثةُ من الحذاء كلما هطل الغيث .                

ولأنهُ أعيى حيلة وأفقد حولاً... وكونهُ ألف النحس فرضع - منذ المهد -  حليبهُ .. ونظراً لقدراته الخارقة في  إفراغ المحيطات وتنشيف البحار؛ فقبل  أن يشارف الفصل الأول على نهايته..  استضافت الأربع من تلك المدارس .. مدرسين صنفوا في خانة الانتماء - داخل الملاك - .. أزاحوا بجلال قدرهم ، كل المتطفلين من عالم اللا انتماء - خارج الملاك - .....                          

للمرة الألف يقحمُ نفسهُ في مهن يختصُّ بها البشر .. لكنهُ سيقرّ اليوم بهزيمته ؛ فيعلن للملأ ، وبأعلى صوته ، ويبصمُ بكل أصابعه ، وكل حوافره .. قرار العودة إلى خليته ؛ لأنها وحدها من يمنحه  (ذكرنحل) وظيفة ثابتة.  

.............................................................................

قصة قصيرة

طهارة الحب

اصطبغ بالحياء وجههُ حين ضمهمُ المصعدُ ثلاثة ،هو والشقراءُ التي أوسعت ضيق المكان وجملتهُ بحسنها وعطرها وأريج أنفاسها ، وصاحبٌ يتسمُ بخفة في الظل وقدرة عجيبة في اختلاق الطرفة ..ناهيك عن جرأة في محاورة الجنس الآخر ، لم يعهدها حمو في نفسه ؛ سيما وأنه للتو.. قد وصل مدينة موسكو مدججاً بالعيب والحرام .

      ألحّ صاحبهُ أن يبدي حمو إعجابهُ بالفتاة حينما وجدهُ يرمقها بين الحين والآخر ، ونزولاًً عند رغبته أوهي الرغبةُ في داخله ...  تجرأ وحدثها عن رقة وانسدال شعر وملائكي من الوجه ..  تلعثم عند الكلمة الأخيرة ؛ منتظراً توبيخاً أو لائمة ، أو حتى صفعة ، فأخذ يثبت قدميه في الأرض ... مستعيداً رباطة الجأش لئلا تهزهُ ردّة فعلها التي لن يحرك حمو لها ساكناً ؛ لذنب أقدم على اقترافه بكامل وعيه وإدراكه .

 لشد ما أدهشه ذاك الملاك حين أشرق الكون في ابتسامته .. شكرهُ على صدق مشاعره ومضى في حال سبيله حينما فتح باب المصعد الذي تمنى ألا يفتح أبد الدهر.                                                  أعادتهُ الذكرى إلى الوطن حينما غزا العشق يوماً أسوار قلبه ، كيف أنه وطهارة الحب التي سكنت أغوار النفس ؛ قد أنب النفس لمقتل أصيبت به كرامته ؛إذ نعت بالسوء والانحطاط في خلقه ؛ فازداد غرابة لكثير من المعتقدات وطرائق التفكير تغلفُ أدمغة البشر هنا وهناك.. !ّ

.........................................................................ِِ

أهمية الحرية في الإبداع الأدبي

 في انتساب الأديب لكلية الحياة وتخرجه منها بامتياز .. اكتسابٌ لطاقات تخولهُ ترجمة ما يحيط ُبه من ظواهر وأحداث ، وإمكانيات...  يبحرُ من خلالها في عالم النفس ، لاستكشاف مواطن ضعفها وقوتها .  الكتابة ُبالنسبة للأديب ... وعاءٌ يصبّ ُفيه خلاصة انفعالاته وعصارة أفكاره .... صندوقٌ يودعُ فيه أسراره ... حبيبةٌ يبحرُ معها في عالم كلهُ شفافية وصدق ، القلمُ سلاحهُ ، والعواطفُ والأفكار .. جناحان يحلقُ بهما في  فضاءات الحزن ، يقرعُ الأجراس ؛ كي يوقظ في البشر جحيم الغفوة ؛ ليطير بهم في عوالم الفرح ناثراً رماد الحب والأمن في قلوب الأنقياء منهم .. زارعاً بذور البسمة في وجوه الأطفال ،مشاركاً إياهم قسطاً من البراءة .. مقتحماً بعدها معتكف العذارى .. يرتشفُ من شفاههن رحيق الحياة ، قاطفاً من بساتينهن ثمار الشهوة.          

حينما يتنبأ الأديبُ أو حينما ينتقدُ أو يعارضُ؛ إنما يهدفُ لتغيير في المجتمع ، وإعادة لخلقه من جديد،وعلى أسس سليمة  ، فالأديبُ لا يكتبُ لنفسه ؛ إنما عن قضايا تشغلُ الناس . دعوة ُالأدباء إلى انتفاء الاستغلال ، وتوفير أكبر قدر من حرية الفكر والعقيدة والنشر والتعبير ؛ إنما تأكيدٌ لأهمية الحرية في أي إبداع أدبي أو سواه ، وما تناولُ الأدباء لمشاهد القبح في المجتمعات ؛ إلا والهدفُ منه، لفتُ الأنظار إليها وضرورة محاربتها .. في حين يتصدرُ الجمالُ جلّ كتاباتهم .

  الجمالُ - كما يراهُ الأدباء -  صدقٌ ... لو تحلت به المجتمعات ؛ لأصابت قدراً أكبر من الرقي والتمدن .

 الأدباءُ والمحيط ُالذي يعيشون في طياته ، بجماده وكائناته ، ظلان متلازمان كلّ  منهما  يمد ألآخر بمقومات  الاستمرارية والبقاء ، لكن... ؟  يا لها من انتكاسة ويا لهُ من  شرخ ... قد ازداد اتساعاً في تفاعل الأدباء مع بعض المجتمعات ...! فبينما يسكنُ أدباءُ الدول المتقدمة ثنايا البشر وأضلاعهم وأفئدتهم ؛ يتعذرُ على أدباء الدول النامية  إيجاد أواصر مودة وثقة مع مختلف شرائح مجتمعاتهم .

عملية ُإخضاع الأدباء في المجتمعات النامية لقوانين العيب والحرام ، ولنظرية انتقاء الكلمات التي تماشي الأعراف السائدة والذوق العام والواقع المفروض، وتزاحم ُالنظم والتشريعات التي تعرضّ ُكلماتهم للغربلة والتصفية ؛ أشبهُ بصبّ الزيت على النار؛ إذ  ترفع ُإلى حد كبير من وتيرة التخلف ؛ فإن سلمنا بأن الآداب مرآة تعكسُ حقيقة الشعوب وتوضح ُصورتها بجلاء ؛ فإنّ الرقي والتخلف يرتبطان كلية بالكيفية التي يعاملُ بها الأدباء في أي من المجتمعات الإنسانية .

أوّلُ الوحي : اقرأ

 لمرتين في حياتي أشدقتُ فاهاً وجحظت عيناً وحلقتُ مع الذهول في عالم أظن – وما زلت – البديهية في غموضه وتناقضه وازدواجيته .

 أولاهما : عندما أجريتُ استطلاعاً للرأي فيما يقرؤهُ الروس ؛ فوجدتُ بأن (آجاتا كريستي ) وسواها من كتاب العنف والجنس – ممن ترجمت أعمالهم إلى الروسية  - قد احتلت الصدارة في إقبال القراء عليها ، أما كلاسيكيوُ  روسيا - أمثال فيودور دوستويفسكي الذي تدرّسُ كتبهُ في المرحلة الابتدائية  - فإنهم لم يجدوا لدى القراء حيزاً من الاهتمام ، إذ أكد معظمُ الشباب الروس ممن حاورتهم ؛ بأن كتب دوستويفسكي تبعثُ على الملل وأنهم يفتقدون القدرة على فهمها واستيعابها ، وقد أنحى الكثيرُ - ممن جاوز الأربعين – باللائمة بأن دوستويفسكي لم يجد في المواطن الروسي سوى البؤس والظلم والسوداوية ، خلافاً لما هو عليه حقيقة الأمر .

 ثانيهما : في اكتشافي لسر أفضّلُ كتما نه .. بأني لو خيّرتُ ارتماءً في أحضان الطبيعة برتابةِ مناظِرها وموحش هدوئها وقاتل مللها ، أو نزولاً إلى المدينة التي يخنقُ الدخانُ والضجيجُ أنفاس البشر فيها ؛ لاخترت ألا تقع أنظاري على ما لا يحسّهُ الإنسانُ العاديّ ممن تلتهمهُ طرقاتُ المدينة وأزقتها الملتوية ودروبُها المتعرجة .

 أي مأساة تعيشها مجتمعاتنا في انزوائها عن اللب وتشبثها بالقشرة وعبادة المظهر ..!!؟؟  وما بالنا نرى الناس يندفعون زرافات ؛ فيهجمون كالجراد على مخازن الألبسة والمأكولات ومحلات بيع الماجن من الأشرطة التي انتشرت كالسم في الجسم العليل ؛ بينما تندب حظها أكشاك بيع الصحف التي لم تتعدّ أصابع اليدين في هذه المدينة الكبيرة..!!  لم يزل الكتابُ متصدراً واجهات المكتبات ، يلذعهُ الشوقُ اقتحاماً للعقول  إعمالاً في غربلتها  ..مداهمة للأنفس بتنقيتها من كل شائبة  لكني متوجسٌ طول انتظار  يعرقلُ مهمتهُ ، إذ يندرُ أن نصادف شخصاً يتأبط ُجريدة أو خليلاً يحدثنا عن آخر كتاب قرأه ، ونعجزُ إيجاداً لمقعد في صالات الانترنيت والملاهي بينما تخلو  نصفُ مقاعد الصالة لأية ندوة ثقافية من الزوار .

 لن يصيبنا العجب ُفي بلاد العجائب إن تبينا بأن التحصيل العلمي عند النشء ؛ قد أصبح وسيلة للترقي وتعديل المصالح بدلاً من كونه مصدراً للتفكير والتثقيف، فهل يعزى انصرافُ المواطن في مجتمعاتنا عن الثقافة في قدرته الخارقة على تولي المنصب الذي يريد في الوقت الذي يرغب ..!؟

أوّلُ الوحي .. اقرأ ؛ فحينما نقرأ ُنصيبُ هدفين  بسهم واحد .. نصالح ُأنفسنا فننتشلها من عتمة الكراهية والحقد أولاً ، ونحالفُ - من ثم – مجتمعنا وعالمنا ، بموالاتنا للمحبة والتعمير بعد أن كنا حلفاء للعنف وسفك الدماء .

هاتف989574 -094 عفرين

25 / 3 / 2007

 

التصحر الفكري وإستهلاكية الثقافة

صلاح الدين عيسى

 هل يعزى تراجع الفكر في البلدان النامية إلى جملة من الأزمات المفتعلة، ينفق المرء جلّ العمر إنقاذاً للنفس من شركها؟!... أم أن تسليع الثقافة وهيمنة أولي الأمر على المثقفين وأدواتهم ورغبتهم في أن تنار مصابيح العقول، باستطاعة يشاؤونها، كانت سبباً رئيسياً في إهمال متعمد للثقافة والتثقيف ؟!..

من طرح ذينك السؤالين، نود معرفة الأسباب التي حولت ساحات الفكر من مناطق خضراء إلى صحار قاحلة، تتكاثر فيها شوكيات تنخر في أدمغة البشر وعقولهم مع تذكيرنا والذكرى تنفع أولي الألباب؛ بأن خيطاً رفيعاً .. يشكل عاملاً مشتركاً بين المآسي التي حلت بالأمة .. يلوح كبرق لامع في سماواتنا... إنه الصدق الذي نفتقده؛ فنكتشف كل صباح أننا نغوص في أعماق الوحل دون دون أن نكلف النفس عناء البحث عن طوق النجاة .... الصدق الغائب؛ مبعثه فقداننا للشجاعة في تعاملنا مع الأزمات التي تصبح بمرور الوقت أشد تعقيداً وأكثر فتكاً ....

التصحر الفكري – في مجتمعاتنا – يكونه ويزيده اتساعاً وامتداداً ... عوامل ثلاثة

-    أولها : يتعلق بالمثقفين الذين يكتفون بإصدار الكتب والمجلات وكتابة المقالات وافتعال الحوار مع أقرانهم لتسييد وجهات نظرهم مع لهفة شديدة في أن تسلط الأضواء عليهم .

جلّ المثقفين يهتم بالشأن الخاص دون أن ترف لهم أجفان على مصائب ونوائب وأخطار تحدق بالعباد!!.. القتل والاستبداد ... الجشع والفقر المدقع والغنى الفاحش؛ قلما يحرك –أكثر المثقفين – لها ساكناً ، رغم كونها عاجلاً أم آجلاً ستدفعهم للاعتراف بمسؤولياتهم تجاه مايحدث؛ فتخرجهم من واقع مزر يعيشونه اليوم في تعاملهم مع الثقافة والأدب من خلال المواقف لا القيم .

-    ثانيها : يكمن في صبغة سياسية يضفيها الإعلام في تناوله لأي من المناسبات الثقافية؛ إذ أصبح ظهور السياسي فيها تقليداً متبعاً، دون دراية بأن وجوده يسلب الإنجاز الأدبي كثيراً من مكانته بدلاً من تعزيزها ... السياسي ينافس الأديب في معظم الأحيان؛فحينما تسلط الأضواء عليه، يظل الأديب مفتشاً عن موطئ قدم بينه وبين مرافقيه فتضيع معالمها كلها في تلك المناسبات ...

ثالثها : تمثله نظرة قاصرة لجمهور كبير من الناس؛ بأنه يمكن العيش بمعزل عن الثقافة، إذ يرونها نوعاً من الكماليات ... فيعمدون إلى تهميشها موقنين أنهم بذلك لن يجعلوا الأرض تكف عن الدوران .... أو ربما  عزوف الخلق عن الثقافة يعزوه دورانهم كحجر الرحى بحثاً عن كسرة خبز ... أو هو الحذر والتوجس من كون المرء مثقفاً؛ سيما وأكثر الناس عرضة للقمع في المجتمعات النامية هم المثقفون !!. ذاك القمع – الذي أصبح مرضاً مزمناً يعانيه رجال الفكر – قد فرّخ خوفاً والخوف ضاعف من لغة القمع التي أدت بدورها الى تعميق الخوف وترسيخه بشكل مذهل تقشعر له الأبدان ...

 ربما تحيد سهام البعض عن دريئة الحقيقة أو قد يصيب الآخرون فيما يرتئون ولكن ... ؟! أو لا تجتمع الأسباب في تقهقر الفكر.... إلى وهن تعانيه الثقافة مؤثرة ؟!..

أو لم تصبح ثقافتنا اليوم، أكثر استهلاكية بدلاً من أن تكون ثقافة منتجة مؤثرة ؟!.

================

عزفٌ على أوتار الفضيلة

يشتكي جلُّ الأهل والمربين تدنياً في مستوى التعليم لدى الأبناء، يتبعون الشكوى بالغرابة من سلوكياتهم والتنوع في تزيين أبدانهم، ومن ثم يقارنون أنفسهم بجيلٍ تتقاذفه الأمواج، فتعصِفُ بسفينتهِ رياحُ الفرقة والتشرذم والانحلال .

أُسائِل النفسَ وإياكم ؟:

.....أ لأنها نرجسيتنا تجعلنا نغضُّ الطرفَ عن مساوئنا فنمضي وبلا هوادة تنديداً بسلوكيات الأبناء ؟....

نعم كانَ أكثرنا محصناً بالشرفِ الرفيع، وبجملة من المبادئ والمثل والقيم ... مُنِحنا سكينة النفس في بُرعم طفولتنا وأول الشباب .... استلقينا مراراً على ضفاف الفضيلة، نَعبُّ من سلسبيل مائها ..فأنعشنا عند الأصائل ِ اعتلالُ نسائمها ... لم تكن متسعة الهوة بين الفقراء والأغنياء، ولم نكن نعرف التلفاز والحاسوب وسواهما من مبتكراتٍ أبدعها الإنسان في ثورتهِ العلمية أواخرَ النصف الثاني من القرن الماضي ... ولكن ..هل نُسلمَ ولمرة بأن الجيل المعاصرَ إنما يُجَبرُ تسديداً لفواتير باهظة ألزمته إياها طبيعة الحياة بتنوع مبتكراتها ؟...

لو أنّا خلقنا في هذا الزمن، أكنا أقل شذوذاً وأكثر تصوفاً ونبالة ؟ لو أنّا دأبنا في النشء إنكارً نشازَ سلوكه وخلقه، وإلهاباً بالسوط جلدهُ وفروةَ رأسه، هل نقمعُ في أنفسهِ بذورَ الانفلاتِ والانحدار؟

لن أشاطِرَ المشتكين شكواهم، أو المتباكين بكاؤهم لأني أرى في إهمالهم سبباً في تهافت النشء على الموبقات، فنحن كأفراد ومجتمعات، تعودنا العزف على أوتار الفضيلة، بينما أوسعنا للفسق معابراً، عشعش من خلالها في بلداننا وأحيائنا ومضاجعنا وثنايا أفكارنا .

نبذر في الأرض ونتوسل الخالق  نأياً من هلاكٍ يحدقُ بالذرة، فنتغافل وعن عمد بأن الله يحثنا إعقالاً، وتوكلاً من ثمَّ على جلالته ...

نسيء إلى الأبناء بمحض إرادتنا، ومحض جهلنا وتخلفنا، نتبجح بتفوقنا عليهم في كل المناحي الحياتية، فننسى فوارق السن وظروف التنشئة، ونأبى وبتذمرٍ أن نهبط إلى مستوياتهم العقلية والخلقية لنعلوَ بهم إلى مراتب نأملهم فيها تُشرَعُ الأديان غرائزهم وتنظمها، توجهها نحو قدسية الزواج، وحينما يجدون الزواج في مجتمعاتنا  مرهوناً بالقوة الشرائية ينتابهم الكبت والإحباط ...

نحدثهم عن الديمقراطية فيلفون استبداداً راسخ الجذور يستوطن بنية المجتمع، يطرقون أبواب السياسة، لكنهم سرعان ما يهجرونها، حاقدين، ناقمين، فالسياسة يرتأونها فناً للكذب والخداع والساسة جلهّم يُغلب المصلحة على المبدأ ...

نطالبهم صحوة علمية، فنلقنهم منذ نعومة أظافرهم بأن العلم بالصغر كالنقش في الحجر وانه بالعلم ترقى الأمم، وحينما ندفعهم إلى المختبرات للكشف والابتكار، فإنه يتعذر عليهم أن يكتشفوا ما استعصى على كولومبس كشفه من مجاهل الأرض، ومن المحال أن يبتكروا أدوية تشفي من الايدز وأنفلونزا الطيور، إنما الكشف قد تمثل تبايناً للتناقض بين النظرية والتطبيق، فنحن ندفعهم ليروا بأمهات الأعين جيشاً من العاطلين عن العمل – من حملة الإجازات الجامعية – يبحث عن فسحات على الأرصفة  وردهات المقاهي، نعزز لديهم رسوخ القناعة بأن المرء في أي من البلدان النامية إنما يؤهله اعتلاء المنصب الذي يبتغيه: حجم الرافعة وما تمتلكه من قدرةٍ في العلو به عنان السماء، بغض النظر عن مؤهل يحمله أو عدمه .

نكيلُ في تعاملنا مع الأبناء بمكيالين، فبينما نحثهم عفةً وطهراً واستقامةً فإننا نترك الحبل على الغارب لقنواتٍ فضائية تحرك وتوقظ في أعماقهم نزعاتَ شرٍ أخمدها تشريعُ العرفِ والتقليد في مجتمعنا الشرقي .

الهوة تزداد بيننا وبينهم والشرخ يتسع يوماً بعد يوم، يهجرنا أبناؤنا، ينقمونا فينا عجزنا عن استيعابهم وفهمهم، ينقمون قلة حيلتنا في إيجاد الحلول لمعضلاتهم ...

يهجرنا فلذات الأكباد، يفتشون عن مهربٍ فلا يلفونَ إلا أحزاباً تكاثرت تكاثر النجومِ في عليائنا... فمنهم من يتشرَّفُ اليوم بعضويته في الحزب الروبي ومنهم من يستظل براية الهيفاء، وقسم كبير قد تقمص أفكار نانسي، والباقي يبحث عمن يصهره في بوتقته !!..

لِمَ التباكي إذاً وقد تشبهنا بجرذِ الحقل، نحفر الأرض بأيدينا وندفن بالتراب أنفسنا؟؟؟.. أو ليست نوائبنا صورةً لواقعٍ مأساويٍ يُقاسمنا الأبناءُ تخبطاً في شركه؟ كيف ندعوهم أن يستعينوا بالجنَّ أو أن يعتمروا قبعةَ الإخفاءِ أو أن يمسحوا على مصباح علاء الدين ليأتونا بالمعجزة تِلوَ الأخرى في وقت هم يعانون فيه تشتتاً وضياعاً تعكسه سلسلةٌ من الهزائمِ والانكساراتِ والنكباتِ ؟!...

================

من الذاكرة

إيه ياصديقي...

في واحدٍ من تلك البيوت المتسقلة كدوالٍ من عنب سفوحَ جبل قاسيون .. في تلك الحارة الدمشقية .. كنت ورفاق، أكلَ الذباب عيونكم؛ تحتسونَ الهواء وتعتصرون البؤس والحرمان، في كؤوسٍ؛أُترِعتم بها حتى الثمالة. ولّما تطأ الحول السادس أقدامكم؛ كنتم تنشدون وطناً ممثلاً في لعبةٍ جديدة وبنطال جديد.. لم يك على وجه البسيطة من مخلوق بشري أشد شقاء منكم .. في العيد كنتم تدبون أرض الحارة دباً رقيقاً.. كتلاً من الكائنات تبعث في الروح أعظم المسرات.. تنثر في الجوانح مشاعر البهجة والفرح .

أصواتكم كانت مملوءةً بالبشر والجبور ووجوهكم قد اصطبغت بدمامةِ الفقر.. وحينما يدلهمُّ الليل؛ كنتم تتساقطون من السغوب واللغوب على فرش أتقنت أمهاتكم صنعتها من أكياس دقيقٍ محشوًّ بالرديء من الأصواف والأقمشةِ ..

نعم رفيق الدرب.. تذكرُ بالطبع، أواخر الستينيات من القرن الماضي؛ كيف تسارع أهلُ حارتك لطلاء زجاج النوافذ بالأصبغة الزرقاء، وتذكر كيف توقف المذياع الصغير – فجأةً – عن ترفيهك ، مستبدلاً ببرامجهِ أناشيداً؛ حفظتها عن ظهر قلب (موطني .. موطني) (بلادي .. بلادي.. لك حبي وفؤادي).. قد أرهبك هديرُ الطائرات كثيراً، لكن الأمر قد أثارك إلى حد ما، تخيلتَ نفسك طياراً تدخل الرعبَ في قلوب الآخرين، تمنيت حينها؛ أن تضمكَ قائمة النازحين؛ فتلتهم وبنهم شديد، معلبات وأجباناً، كانت تنهال على أقبيةٍ التجئوا إليها، من منظمات إنسانية لم تعرف ماهيتها آنذاك..كذُكاءٍ شقَّت طريقها وسط الغيومِ الداكنة؛ لتقذفنا بحزمٍ من الذفء..كمحراثٍ يشق تلماً في الأرض الصلدة لتنبجس ينابيع العشق والهيام؛ شدَدتَ الرحال ياصاحبي إلى هناك؛ علك تجد ما افتقدته هنا منذ بدءِ الخليقة.. هجرت وطناً، وأماً تجرعت غصص الوحشة ومرارة اللوعة.. حملتَ وسائد الهزائم والنكبات.. تنتقل بها من بلد إلى آخر، من بحرٍ إلى محيط، من صحراء إلى واحة.. رحلتَ مفتشاً عن أقباء وأمكنة تغفو في أعطافها، حاملاً كماً من حلو الذكريات وكثيراً من انهار تتدفق فقراً وجوعاً وقمعاً ورهبة.. لكنك ومع أول بارجة حبّ وشوقٍ؛ لملمت أشياءك وقفلت إلى مرابع الطفولة البهيجة، كسمكةٍ أقصيت عن بحيرة الوجد والهيام..

ومن جديد.. امتشقت سيف دون كيشوت؛ تصارع خفافيش العتمة.. من جديد!! هواجس الرحيل أثقلتك بصدأ القيد وذلّ الأنكسار..

لاحيلة لديك سوى أن تبقى هنا،حيث النزف يزداد عمقاً، أو أن تهاجر إلى هناك، تنشد على أرصفة اليأس وطناً مشبعاً بشعارات العدل والمساواة!!

وها أنت، وقد أفلَ الشباب لم تزل متلفعاً عباءة الصدق تفتش عن أثواب الكرامة في حوانيت امتلأت حتى النخاع  بأردية الزيف والنفاق..

ظللت وقد انتهكت بكارة القيم والمثل؛ ترتشف رحيق الأمل.. تشحذ البسمة في أروقة التسكع والتيه والضياع.. مازلت تشرع الأوكار.. لتمتلئ السماء بأبيض الحمائم وزرقة القلوب.. لتزدان – في فصل الخليقة – أزقتنا ودروبنا وأقبيتنا وأعطاف مدننا وقرانا بزعيقِ الأطفال.. بصراخهم وبكائهم وشدوهم..

نعم خليليَ

لعلك إبحاراً في معتكفات العذارى؛ وددت مقاسمتها عناقيد فرح، وإشراقة شمس على قلوب أنهكها  تعسف العرف الجاهلي وأضناها تناحر الذكور على ثمار رياضهن.. ولكنّ، لمَ طاح بك الخيال فأعلنت وبكل قواك الأخلاقية؛ بأن من دخلت دارك وردهات نفسك؛ فهي آمنة؟؟!!

هل تقوى – حقاً – إقامة مصادات رياح، وبأم عينيك ترى النساء في بلادنا، وعلى مقصلة الشرف الرفيع؛ يُنحرنَ قرابيناً ، في أعياد تخرج عن دائرة الزمان والمكان؟؟!! هل تقرٌ بعجزِك عن مواجهة إعصارٍ يقتلع من أنفسنا ألق الربيع وإشعاعَ الحياة؟؟

مهلاً سليل الكآبة

لن تقوى البتة مادمت تائهاً في عصر مصاب بأبشع حالات التصدع والانكسار.. لن تدرك الشمس وقد أشبعت حليب الخيبة والهوان.. بتَ تقدس الصمت إلا في تمجيد الأوطان والخلان..

مطالبٌ أنت  يا صديقي:

أن تضحك ملء أشداقك.. أن تتألم بأسارير منفرجة (وإن حرمت الضوء والهواء والغذاء والدواء والنعاس).

مطالبٌ أن تبحث عن (سوسنة أمل وسنبلة حب) في صحراء مجدبة.. في شتاءات تعصف الرياح بالكتاب فتدفعه لانتقاء الكلمات التي تناسب الأذواق الرفيعة!!

مطالبٌ أنت أيها الإنسان؟؟!!

صلاح الدين عيسى 19 / 2 / 2007

عفرين - موبايل 094989574

=====================

يحيي العظام وهي رميم

نجبر في أحيان كثيرة أن ننصاع - مكرهين - لمشيئة المجتمع الذي يشبعنا بأفكار ورؤىً ... أكثرها لا يوافق طموحاتنا وما نصبوا إليه . إرث كبير من العادات والتقاليد ؛ جَسَّدَ - إن قليلاً أو كثيراً - من حياة الآباء والأجداد في مختلف سلوكياتنا وأنماط تفكيرنا , رغماً من التطور و التبدل الذي أحدثه الابتكار العلمي في حياة الإنسان على هذه البسيطة .

عقدت العزم في مرة ؛ أن أركن إلى عربة صفراء تجوب الشوارع بي والحارات , أستمتع بمشاهدة المارة وجمال الأبنية متسرعاً قراءة لوحات ولافتات حَوَتْ ما هبّ ودبَّ من دعوات لولوج مخزن يجعلنا نستغيث بالجني الأزرق تمتلئ جيوبنا نافذة الحزقٍ... أو عيادة طبيب قد زيًّنً يافطته بكثير من عبارات الإبداع والتفوق...خلا عبارة واحدة قد أغفل عنها بجلال قدره((يحيي العظام وهي رميم))...

وربما يتوقف البصر على لافتة تدعوني وسواي من خلق الله لزيارة ملعب يتقاذف اللاعبون الكرة فيه كما يتقاذف البعض أحلامنا وأبسط رغابنا لتتناثر شظايا تطفئ مواقد حبنا وقناديل فرحنا...عندما استوقفت السيارة ؛ استفسرت من ربانها إن كان العداد حكماً بيننا ؟... وبضغط من إصبعه على أحد الأزرار ؛ أرفقها السائق بسهام سخرية وامتعاض ، اتخذت في العربة مكاناً ... ولأننا قوم لا نسكت عن ضيم ونرفض الذل والهوان ؛ فقد نبهني السائق بحدة لا مبرر لها ؛ بأني قد أسأت إليه ... فمن المعيب أن أعتمر قبعة وأتزين بهندام أنيق ؛ وأشترط - من ثمَّ- العداد حكماً في دفع الأجرة ؟!! ... ونظراً لأني- العبد الفقير- قد تشبعت بالمأثور من الأقوال واعتمدت الخالق في كل معضلة ومأزق ؛ فإني فضلت أن أحصل على الذهب من سكوتي وآثرت كريماً أن أمر باللغو ...ربما يحتج البعض التزاميَ الصمتَ في موقف كهذا؟! ولكن.. هل أٌجهِِرُ القول فأعلن للملأ بأن الغزارة في الشعر ... إنما طالت ذقني وحده ؛ بينما القحط والجدب أصيب الرأس بهما ، وأن القبعة ... احتشاماً أعتمرها كي تستر عورة رأسي وبيدائه ؟!!..

أم أنني مجبر على الإفصاح بأني حينما أرغب زيارة إحدى الدوائر الرسمية - ونادراً ما تنتابني تلك الرغبة مسلحاً بأناقتي ومحفظتي إنما أودُّ أن يعاملني أولوا الأمر بحضارية ؛ أشعر من خلالها بالنشوة لهنيهة، سيان إن تلاشت حينما يكتشف ذو الشأن لهفتي إلى عمل أبعد عن النفس غائلة العوز والفاقة؟!!..

أم أنه عليَّ البوح بسرائر النفس معترفاَ بأن ما يدفعني للتجمل ... هي الرغبة في أن يهش الناس بوجهي؛

فأكون مرحَّباً به في مجالسهم !!...

ما أشبه اليوم بالأمس؟!!..

في رحلة إلى ماضٍِ قريب ؛ كان الآغا يستأثر لنفسه ثروات القرى التي يمتد إليها سلطانه ، ومن ضمنها الإنسان ، الذي تلقى على يديه صنوف المهانة والإذلال ، فالخطب جلل ، إن تناهى إلى مسمع الآغا بأن فلاناً من الفلاحين يعتمر قبعة ويتأنق في مظهره ، أو أنه يتناول القهوة في منزله ويكرم بها ضيوفه ...

يُجلبُ إليه الفلاح قسراً ؛ فيذكر بضآلة حجمه ، وينذر بالويل والبثور وعظائم الأمور ؛ إن تطاول على مقامات سادته مرة ثانيه ....

أن نعانق الحرية لا يعني انفلاتاً من عقال القيم والمثل ... بل هي الرغاب في أن نمنح بقعَ ضوءٍ في عالم تلبدت سماؤه بد كانة الغيوم وقتامة السحب .

لن يضيرنا القفز فوق المألوف ؛ إن كان المألوف حجر عثرة في طريق رقينا ؛ فلن نفلح البتة لو اعتمدنا الجمود والتحجر والزهد ..

مراكب تطيح بنا في مهاوي الردى ... الجهل وحده يعكر صفو حياتنا والجاهل متديناً كان أم علمانيا ً

دودة تنخر في شجرة العلمانية والدين .......

من الغبنٍِ ؛ أنْ يطالَ المجتمع خصوصيات الفرد ، فالخصوصيات - ما لًمْ تخدش الثوابت والمقدسات- منحةُ الإله لعبده ، بل هي مقدسات بحد ذاتها ، يُحظُّر المساس بها .....

 إن كان الأمر خلافاً لما أ سلَفتُهُ ؛ فإني أقترح على مُصنِّعي محافظ (( السمسونايت )) وحائكي البذات والقبعات وربطات العنق ، أن يرفقوا منتجاتهم أسوة بشركات التبغ والتنباك ، بعبارة مفادها (( يمنع على المنتوفين والمسحوقين وصغار كسبة ، استعمال منتوجاتنا )) أو بعبارة أدق : (( مصنوعة خصيصاً لذوي النعمة والجاه والنفوذ ومن دار في فلكهم من كبار الملاكين ورجال الأعمال والأطباء والمحامين))!!!.....

صلاح الدين عيسى 2 / 1 / 2007

 

هذا من فضل ربي

من المستحسن أحياناً عودتنا إلى اللغة لاستجلاء الغموض من مفرداتها والعود أحمد، وأحمدُ هذه من الفعل، ما يُحمدُ عليه ، ومنه الحمد والحماد أي الثناء بالجميل والمبالغ في حمده للأشياء، أما العطل فيعني خلواً وفيه قولنا : عَطلتِ المرأة، أي خلت من أدب أو حلي أو مال، عطل الرجل ، أي أبقي بلا عمل رغم قدرته على ممارسته ، عطلت الإبل : أي خلت من راعٍ يرعاها وفي التنزيل العزيز " وإذا العشار عطلت ".

النتفة كالحمد والعطل فك النحويون طلاسمها ، فهي النبت قد انتزع من جذوره ، أو الشيء قد أخذ من كل ، كقولنا : نتفه نتفاً أي اقتلعه ونزعه نتشاً .

والمنتوف كمفرد واسم للمفعول : كائن بشري أعطب عن العمل أو أقعد عنه فشلت حركته ، أو أن بنتاً من بنات الدهر قد هشمت عظامه ، دون أن يلعب الذكاء والغباء دوراً فيما آل إليه .

غالباً ما يتمتع المنتوف ببنية سليمة، بإتقاد فكر واتساع أفق لكن مصيبة تكمن في تسمية الأشياء بحقيقية المسميات أو ربما هيئته وأنماط سلوكياته وتفكيره لم ترق لمن بيدهم قطع الأرزاق وبتر الأعناق فانتهى إلى تلاحم وتآخ مع الشقاء والحرمان حاقداً على كل سلطات المجتمع وكل الحركات، دينية كانت أو ليبرالية أم علمانية ؛ لقناعة وإيمان لا ينازعه أحد فيهما بأن كل ما حوله يعمل على تنتيفه وقهره وإذلاله.

الحديث عن السلطة يدفعنا لتعريفها ؛ فالسلطة قوة .. شرعية هي إن اتسمت بالعدل وإلا فنارٌ تحرق نفسها وما حولها وإرهاب يسلط على رقاب العباد .

سلطة الحكومة.. واحدة من السلطات التي ترتكز للدين أو العلم أو القانون ؛ فالحكومات التي يستظل بفيئها جمهور من المثقفين، يسهر على برمجة أفكارها ، إضفاء للشرعية عليها كي يتقبلها المواطن متغاضياً عن كل سقوط هي فيه : تدأب على الوعظ والإرشاد ، وتلح على البشر أن يكونوا أكثر قومية ووطنية ، أو أشد تعصباً للماركسية أو الدين ، ولكن .. إن تعلق الأمر بخطر يحدق بالوطن ، فالبسطاء وحدهم ، يعول عليهم تضحية بالذي يملكون ، وإن تخطاه إلى فقر مدقع وغنى فاحش وذلٍّ يعيشه الناس ، فالأمور مرجعها للخالق ، إذ تنبري ثلة مثقفة تؤكد بأن الله يرزق ويذل وينتف من يشاء، وأن العباد في انصياعهم للاساءات وفي تقبلهم للمصائب إنما يمارسون أنواعاً من عبادات ؛ فطاعة أولي الأمر في معصية وسواها من طاعة الخالق كما تدعيه تلك المثقفة من النخب !! ....

معظم مثقفي اليسار في بلدان الشرق ، يعيش حالة غزل مع السلطات الحاكمة فالكتب والصحف تسود صفحاتها بتوجيه تحيات نضالية لرفاق ما في بقعة ما، من كوكبنا المترامي الأطراف ، أو نعياً لرفيق درب قد حشد في معاركه المفتعلة مع الآخرين جموعاً من اليافعين ، انهال المجتمع عليهم بحرابه ، فأغواهم بفلسفة لم يقتنع ذاته بها لعبثيتها وانتفاء مصداقيتها .

صحفُ اليسار تزينُ بعضاً من زواياها وهوامش صفحاتها بتوسلات خجولة لاصلاح درب وإنشاء حديقة ، داعية من هب ودب نضالاً دؤوباً وبذلاً وتضحية في سبيل الوطن ، فالوطنية كانت ولم تزل قميص عثمان، أو هي معزوفة محببة لصحف الجهات الأربع ، أو أنها خوذة يعتمرها من أراد سلباً ونهباً وتدميراً للمواطن .

الإعلام في شرقنا الأبي يصيغ طرائق تعبير ، تبغي إقناعاً للمواطن بأن الحكومات في صلاحها وطلاحها.. في حسن تدبيرها أو تنتيفها للبشر؛ إن هي إلا اقدار إلهيةٌ، فأكثرها لا يتطرق بكوارث ومآس يكتوي العباد بنارها إنما العكس نلحظه ، فرغماً من انحطاط يعيشه البشر ، فإنّ الاعلام يدأب على طمأنة المواطن ، بأن الأمور كلها بخير ، وأنه على قيد أنملة من مدينة أفلاطون المثالية !!

أولاً يتشبه الإعلام حقاً بأولئك المتلبسين ثوب الدين، ففي الوقت الذي يمعنون في الناس غشاً ورياء؛ فإنهم يزينون أبواب قصورهم وحوانيتهم بلوحات قد كتب فيها :

" هذا من فضل ربي " " لئن شكرتهم لأزيدنكم " ؟!!

=====

المرأة والعرف الجاهلي

قد يلجئنا تغليب العقل وتغييب الهوى إلى محكمة العدل والإنصاف فنشاطر الأنثى حذرها وتوجسها من ذكور أكثرهم يحاصرها بأنانيته ، فيشبعها بأحكام صارمة ، تشوه في نفسها وشخصها كثيراً من الروعة والجمال ...

هل يخفى على المرأة بأن المجتمع الذي يعتلي الرجل فيه سدة الحكم ، فيستأثر بسلطتي التشريع والتنفيذ : على أهبة الاستعداد في أي وقت ، أن يزهق من روحها إن ارتأى العرف الجاهلي نشازاً في مسلكها وتفكيرها؟! ..

ما أن تزل المرأة قدماً ، لإغواء وإغراء ، حتى تلتئم مجالس القضاء مستظلة بفيء الأعراف والتقاليد.. يتداول أمرها ، من تلبَّس الطهر ثوباً واعتمر الجهل قبعة والتفع التخلف عباءة! .. يتوافد الشهود.. من جار صدته عن نفسها أو قريب أبت به اقتراناً أو من مغرضات يكرهن فيها تفوقاً أنثوياً .. أو من؟؟ !

ينتهي المشهد الأخير بإسدال الستار على قربان جديد ينحر على مقصلة الشرف الرفيع !! ..

أين العدل في نظرة الأهل إلى الأبناء من الجنسين ، فبينما تقمع في الفتيات جمالية الأحاسيس وإنسانية المشاعر أو يحرمن أحياناً من نور الحياة ؛ فإن الأبوين وسلسلة من الموبقات يرتكبها الابن يكتفيان بمعاتبته ولومه !! .. أوَ كان الرسول الكريم في قوله " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " يعني الذكور دون الإناث؟!.. إذاً فما المانع أن تفتح للمرأة أبواب التوبة أسوة بالرجل ، فننعم جميعنا بثمار الحب في بستان الفضيلة ؟!

مدعوون - نسيج هذا الوطن - أن نهتدي بقنديل الحق ونبراس العدل .. أن نتفيأ بظلال حرية تنبثق من العلم والدين لا العرف والتقليد ..فلنشحذ الهمم ، ولنحث الخطا إلى رقي وتمدن وإنسانية، تنأى بالأنفس عن أوار الجاهلية التي تبغي الإجهاز على ما تبقى لدينا من دفء الذكاء وألق الحياة ...

=======

المواطن ونقمة الاستثمار

المقارنة .. إحساس ينتاب المرء على حين غرة ... جمع بين ظاهرتين أو موقفين أو شخصين ، وإجراء موازنةٍ بينهما لاستبيانِ رجحان أحدهما على الآخر .

بينما كنت متجولاً في حي شعبي ، أستنجدُ من زحمة السيارات والعربات بالأرصفة ، ألفيتها قد استثمرت من قبل أصحاب الحوانيت وباعة الخضار دون أدنى اعتبار لمشاعر المواطن واهميته في هذا البلد المعطاء ، وحينما حاذيت بالعربة يوماً حديقة المنشية .. المأسوف على أشجارها وأنسامها .. وصورتها لم تزل مطبوعةً في ذاكرتي، وجدتها أثراً على عين ؛ فحدثتني نفسي، أن ربما نقلت ملكيتها لسلاطين المال الذين نخروا في خضارِ تربتها وأشجارها ، مثلما دأبوا نخراً في أنفسِ المستضعفين من عباد الله ، وحينما يممتُ وجهي شطرَ سوق الهال هرباً من جحيم الأسعار في حوانيت الحي، استوقفتني بيادر القمامة ؛ فلم أحسب الظاهرة عرضيةً ولم يفاجئني الأمر ، فالقمامة وزعماً من ندرة مكباتها في أحياء المدينة أو عدم كفاية الأموال المرصودة لجمعها ونقلها ؛ لكني لم أجد ما يبرر سلوك البعض في رمي الأكياس من الطوابق العليا والدنيا لتحط على رأس آدمي أو سيارة عابرة أو بائع يرفع عقيرته إلى السماء مصوباً قذائف الكاتيوشا إلى أهداف غير معلومة.

تغلبني الحيرة أحياناً وينتابني التساؤل مراراً، إن توجب على المواطن في مدينتنا ؛ أن يحمل أثناء خروجه من المنزل .. سقف بيته يتّقِ شرَّ قنابل عنقودية تنهمر عليه حينما يدلهمٌّ الظلام ، أم أنه ملزم أن يحتمي بكمامة كي ينعم بالأوكسجين هرباً من نتانة تنبعث من أكياس متناثرة .. تُظهرُ شديدَ عطف الخلق وعظيم رأفتهم بجرذان لطيفة المعشر تخرج من جحورها كلما هطل غيث القمامة من بيوتات الحي؟!..أو أنه يحتم على المرء - كحاله في اقتناء " ريسيفر " يطلعه على مباهج النفس وفسوق إخوته في الجانب الآخر من كوكبنا ، أن يقتني طائرة تنقله بين المنزل والعمل والسوق، ممتلئة بالقطن أذناه .. هارباً من ضجيج السيارات والتحامها في شوارعنا الفارهة .. مبتعداً عن زعيق تحدثه سيمفونيات ناشزة .. تصدح بليلاوات وروبيات وهيفاوات ؛ يتغنى بهن باعة الخضار والوقود والغاز !! ..

وحدها الذكرى تبعث في ذاتي المضطربة بعضاً من سكون النفس وطمأنينة القلب .. وحده الخيال يحلق بي إلى عوالم أنشدها وأرجوها لمدينتي بأهلها وأشجارها وأحجارها، فحينما هممت - لمرة - أن أقطف وردة من حديقة موسكوفية ؛ فوجئت بطفلة - لم تبلغ العاشرة - تزجرني مؤنبة سوء مسلكي ، فالوردة كما أفهمني ذاك الملاك الصغير .. زرعت كي تمتع بأريجها وروعتها رواد الحديقة أجمعين .. ما زلت أذكر السير على أرصفة زادت في عرضها عن العشرة أمتار .. مستسلماً لأفكاري وتأملاتي دون خشية من أن يصدمني واحد من خلق الله أو يعرقل سيري بائع حلل لنفسه رصيفاً استثمره وبالمجان وأذكر دهشتي حينما خالفني شرطي للفافة تبغ ألقيت عقبها على الأرض، وإشارة مرور لم آبه لاحمرارها ، فقطعت رصيف المشاة بعد أن تبينت خلوه من السيارات العابرة.

تمنيت - والأمنيات للفرد حق لا مساومة عليه - أن يكفَّ الباعة في مدينتنا عن الصراخ .. أن يثبتوا التسعيرة لكل بضاعة يعرضونها ، كي ينعم المواطنون بالسكينة أثناء خلودهم للراحة في بيوتهم التي تشهد لكثير من تجارنا الأفاضل مكرهم ودهاءهم وعبقريتهم في التلاعب بأسعارها وتضيق أحجامها .. يبهجني أن تمتنع ربات البيوت - عظم الله أجرهن - عن تموين الجرذان والبعوض أسوة بتموين عوائلهن ، بالثوم والبصل والجبنة والمكدوس ... تمنيت أن يعتلي المواطن صهوة النشاط .. أن يمتشق سيف الهمة فيزور حاوية الحي لمرة واحدة في اليوم .. أن يرأف ذوو النعمة بمدينتي فيمتنعوا عن سرقة اخضرارها كعهدهم في سرقة فقرائها ضياء الأنفس وشعاع الأمل .. أن يدركوا أن الاستثمار .. إنما نعمة تعم جميع الشرائح، لا نقمة على المنتوفين ممن لا صوت لهم في زمن دخلت فيه القيم والمثل والمبادئ منظومة التجارة .. تمنيت .. ؟؟ ..

صلاح الدين عيسى

هاتف989574 -094 عفرين

عفرين 7/12/2006


=====================

 

أنا والأنثى والمجتمع ثالثنا

من هي المرأة ؟

دميةٌ يلهو الرجل بها ؛ فيلفظها إن دبَّ الملل في نفسه ، أو أصيب بالوهَن عقله...؟ أم سلعةٌ نعرضها في خلواتنا وفضائياتنا ؛ لتوقظ فينا ذكورةً كلّلتنا بالغار ولم تزل ، ذكورةً .... بذلنا من أجلها ما ملكت وما لم تملك أيماننا؟.. هل يُسيِّرنا ربان الحكمة فنؤمن بمناصفتها إيانا سفينة الحياة فنوليها قدرها وآدميتها ، أم أننا أصبحنا أسرىً لأهوائنا وتعسفنا ؛ فأمسينا نمضي _ وبلا هوادة _ في سحقها مثلما ألِفْنا أن نسحق في أنفسنا ألق الحياة وإشعاع نورها..؟

ألفيت المرأة في بُرعُمِ طفولتي كائنا يختلف عني طبعاً واهتماماً ... في المدرسة كنت أقاسم ابنة الجيران عروسة الزيت والزعتر ، وأدافع عنها أذى المصيبة...المضاجع وحدها من فرق طراوة أجسادنا وبراءة أحلامنا وصفاء أفكارنا ...كنا نمضي سحب الأيام في اللهو والقراءة والرسم ، ولم يفتنا _ أحياناً _ أن نؤدي أدواراً في مسرحيات أكون العريس فيها ؛ فيُحبَّبُ إليها أن تكون المدلَّلةُ من عرائسي...كلانا قد جَهِلَ حقيقة الإنجاب ، وحينما كنا نسأل الأهل عن مصدر الأولاد ؛ يُفاجِئنا تغامزهم وتهامسهم وإيهامهم بأنا قد أحضرنا من السوق أو من باب المسجد ؛ فأوقعنا في تيه وتخبط وتساؤل عن إمكانية وجود أسواق ومساجد يباع الصبية فيها والبنات؟؟؟؟!..حينما تفتَّقْتُ وعياً وذكورة أيقنتُ كذباً أبيض مارسه الأهل ؛ فأصبحت أمارس الأبيض منه والأسود على حد سواء . لم يُستُهجَن ذميمُُ خلقي ذاك ؛ لعضويتي في مجتمع يُحبَّذُ الكذِبُ فيه ؛ فيتَّخذُ وسيلةَ تعايشٍ بين أفراده.

أدخلني نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وسواهم من عباقرة الأدب العربي ، عالم المرأة في مكتبة _ لزميل مدرسي _ تضم كماً من الروايات وكثيراً من النساء يغفون في طياتها....وجدتها مخلوقاً وديعاً ...محطماً ...مسلوب الإرادة...يُجهَدُ في اقتناص آدميته وإفراغ شحناتهِ ...وما أن أستعير رواية ، حتى أكرر قراءتها فتشدني مشاعر النساء فيها ، أو مشاهد الغرام التي توقظ فيَّ رجولتي.

ظننت المرأة _ أول الشبابِ نوعين من البشر : أحدهما ، يعيش في ثنايا الروايات والقصص والأفلام.

وثانيهما ، يسكن حارتنا ويتنقل بين البيت والسوق والمدرسة ، لم أخفِ _حينها_ غيرتي من سعة دراية الأدباء بشؤونها أو قربهم من عالمها ،بينما كنت على النقيض أحاذر مجرد النظر إليها ، وأني حينما أفاجأ بالجارات يطرقن باب البيت ، أتلعثم لمرآهن ؛ فأستعين بالوالدة مرحبة بهن ؛ فأعجب لقدرتها على محاورة تلك المخلوقات اللطيفة ، مسارعاً الولوج إلى غرفتي ، محكماً إغلاق الباب ، مستلقياً على ظهري ، معتمداً على وسادة تغطي الوجه كله ، متشبهاً بالنعامة تخفي الرأس حينما يداهمها الخطر.

في أواخر السبعينات من القرن الماضي ، انتصب نزار قباني في منصة لأمسية شعرية؛ أعدت خصيصاً لمن أجهر حبه للمرأة مثلما أجهر مؤازرتها، التفتَ حوله؛ فأدهشه امتلاءُ القاعة بالأنوثة، وحينما أفصح بأنه عن حلب، قد غاب خمساً وعشرين سنة، وأنه يحتم شوقاً ينتاب نساء حلب إليه، اندفعت الملائكة، مصفقةً قلوبهن، يهتفنَ مِلءَ حناجرهن...أُ دهِشتُ حينها لمفارقة من علقم بؤسها لعقتُ مراراً، فبينما وجدت نزاراً يحاور الأنثى بأريحية في أشعاره دون أن يُحجِمه النعتُ بالصدأ تفكيره أو أن يثنيه الوعيدُ والتنديدُ بِمَسلكه،وفي حينٍ كانت المواخير فيه والحانات تَعُجُّ بمن سحقتهم الأقدار فأطاحت عجلة الفقر بكثير من ميادئهم وقيمهم؛ فإن المجتمع الذي تكاتفت لقهري سلطاته؛ قد استشاطني حقداً وغضباً فغلت المراجل .... أحاطني بجملة من المحرمات جلّها يحدد علاقتي بالمراة: (( لا تنظر... لا تر...لا تسمع...لا تفعل...لا ترافق...!!..كانت تعاليم الأسرة توجهني نحو خلاص فردي))

فقد لقنتني الوالدة _ رحمها الله_ بأني حينما أسلك درب المدرسة الثانوية كل صباح وأُصادَفَ بالطالبات يُزيّنَّهُ؛ يحتم عليَّ إعماء لعيني من رؤية أطيافهن، لكني وما أن كنت أحاذيهنَّ والجدُّ أتصنّعه بجبين أقطِّبه، والسير أستقيمه برأسٍ مرفوعٍ وظهرٍ مشدود ، حتى تدفعني الرغبة أن أسرق من طوَّالة ٍ ، حسانةٍ، ملامح وجهها؛ فأعيش مع الوجه وصاحبته أحلامَ يقظةٍ، جدَّدتها مراراً؛ كي أبعث الحيوية في نفسي وفي جسدي؛ معوضاً نقصاً فرضه عليَّ مجتمع يقمع خيرية النزعات...مجتمعٌ يتقمص التعصب والتناقض والاستبداد من رأسه حتى أخمص قدميه.

صلاح الدين عيسى

8 / 11 / 2006

العودة إلى الصفحة الرئيسية