دعوة للسادة المغتربين و الأثرياء

 نهاد مصطفى نـبـو

 

           ـ يبدو أن العنوان مثير وفاتح للشهية، ولكن دعوتي هذه ليست لوليمة دسمة أو لسهرة تقضونها مع ألمع نجوم الفن والطرب وهز الخصر وتبذير آلاف الدولارات في مطاعم الخمس نجوم و نوادي الأضواء الرومانسية..؟! وليست دعوتي لحضور حفل زفاف لدفع المعلوم (الخلعة ) على مضض كما هي العادة في منطقتنا..! وإنما دعوتي هذه موجهة لجميع السادة المغتربين عن أرض الوطن و الأثرياء من أبناء البلد.  فعندما تطأ أقدام أحد أبناءنا في أرض بلد غربي بقصد العمل أو الدراسة، ستتكون لديه صورة مختلفة تماماً عما كان عليه الوضع في بلده الأم، فهناك تسير الأمور كلها في فلك النظام و دوائر القانون واحترام الآخر و ثقافة المجتمع الرفيعة المبنية على مبدأ، ـ قم بواجباتك وخذ حقوقك ـ وستبهره أضواء المدينة المتلألئة والحدائق الغنّاء الصداحة وملاعب الأطفال الساحرة المنتشرة بين الأحياء الراقية والشعبية على حد سواء، ناهيك عن الشوارع النظيفة التي بالكاد أن تجد فيها قطعة ورق ضالة عن مكانها المخصص وأشياء كثيرة لم يتخيلها يوماً.

    و يعي المغترب تماماً البون الشاسع بين وطنه الأم وتلك البلاد التي هاجر إليها من حيث التقدم والرقي في شتى المجالات، و أعتقد جازماً أن جميع المغتربين يتمنون أن يروا بلدهم بتلك الصورة بل أجمل منها، ولكن بالأماني وحدها لا تتطور المدن ولا ترتقي الشعوب، بل يجب أن تقترن الآمال بالأعمال، والأعمال هنا يجب أن تنبع عن القناعة الذاتية للفرد بأهمية تطوير الخدمات في المدينة، وترسيخ ثقافة التعاون بين أفراد المجتمع و الاهتمام بتوعية الناشئة بالمحافظة على الممتلكات العامة ، وغرس قيم الجمال و السلوك الحضاري بين أفرادها، فهل هناك أجمل من أن نرى أطفالنا يلعبون في حدائق خاصة بهم و بالقرب من منازلهم و نحن مطمئنون على سلامتهم من مخاطر اللعب في الأزقة والشوارع..؟ أليس من حقوق الطفل اللعب واللهو كي ينمو سليماً ومعافى و هو رجل المستقبل..؟ و كم هو جميل أن نرى شوارع مدينتنا نظيفة والأزقة والساحات خالية من أكداس القمامة التي تجلب الأوبئة و الأمراض، وما أحلى من وجود أعمال فنية نحتية تزين ساحات المدينة التي تضفي عليها الطابع الثقافي و تعطي مدلولات عن تراث المنطقة و تسلط الضوء على فنانينا المغمورين من النحاتين وما أكثرهم.

 و المتابع لحركة البناء و التجميل في أي مدينة يلاحظ وجود العديد من الأعمال الفنية تزين الساحات والمستديرات ففي مدينة حلب على سبيل المثال هناك العشرات من الأعمال الفنية النحتية الجميلة و نوافير الماء المتدفقة بألوان الطيف،  وقد تبرع بها أصحاب الشركات الخاصة و الأفراد بكامل تكاليفها ، و هنا لا أقصد تهميش دور مجلس المدينة الذي وجد أصلاً من أجل تلك المهام، ولكن أن ننتظر أن تقوم البلدية أو الجهات الرسمية بتلك المهام حلم صعب المنال لأن هناك ما يسمى بـ ( الميزانية و المخصصات ) أي أن الحكومة تخصص للبلديات مبالغ مالية سنوية بحسب عدد السكان المقيدين في أمانة السجل المدني لكل بلدية، ومدينة عفرين يقطنها أكثر من تسعين ألف نسمة على أرض الواقع أما الأرقام الرسمية المتداولة و المأخوذة من السجل المدني لا تزيد عن الـ/45000/ ألف نسمة. ويعود السبب في ذلك الفارق الكبير إلى نزوح أبناء الريف إلى المدينة دون تسوية ونقل قيودهم من القرى إلى المدينة.

لذا اوجه دعوتي هذه للسادة المغتربين و الأثرياء أبناء المنطقة إلى المبادرة من أجل تطوير المدينة بالتعاون مع المجلس البلدي و الأفراد النزيهين..؟ ؟ وأعتقد تخصيص جزء من المبالغ التي ُتنفق وُتبذرّ ـ من قبل المغتربين و عددهم يتجاوز عشرات الآلاف من أبناء البلد و أصحاب الأموال في المنطقة و هم كثر ـ على الحفلات الأسبوعية  وسهرات رأس السنة و الولائم و ما إلى ذلك من متع زائلة التي تنتهي متعتها بعد انقضائها،و لا يؤثر هذا المبلغ على دخلهم و لنفترض أن قيمة سيارة إسعاف بكامل تجهيزاتها الطبية بـ خمسين ألف دولار وبقسمة بسيطة على مائة فرد سيترتب على الواحد منهم خمسمائة دولار وهذا المبلغ الزهيد لا يكفي لتناول وجبة غداء لشخصين في مطعم رومانسي..؟ ناهيك عن التبذير والإسراف بأجور الموبايل و الهاتف الدولي وتدخين أفخر أنواع السجائر  ..الخ ولا أقصد من ذلك محاسبة الآخرين  وفرض أتاوى عليهم ، بل أهنئهم بثرواتهم التي جنوها بعرق الجبين  وأدعو الله أن يزيدهم غنىً و أحييهم لكدهم و لسهرهم على ما وصلوا إليه من نجاح و تميز في الدول الغربية .

والمتبرع سيخلـّد اسمه و تتناقله الأجيال وستكون له بصمة لا تمحى  من ذاكرة المجتمع و في تاريخ المدينة. ولمن أراد تلبية هذه الدعوة و المشاركة  في تنمية مدينته و النهوض بمجتمعه  فهناك العديد من القنوات و الخدمات الضرورية   فبالإضافة لحاجة المدينة الماسة إلى كانسات قمامة وسيارة إطفاء هناك ضرورة إنسانية ملحّـة لمساعدة الفقراء والمحتاجين في المجال الطبي بتأمين سيارة إسعاف مجانية لنقل الحالات الطارئة إلى مشافي حلب و إقامة مشفى خيري الذي سيخفف آلام الفقراء ومعاناتهم وتخليصهم من جشع وسطوة بعض الأطباء و المشافي الخاصة, أولئك البسطاء الذين لا يجدون قوتهم اليومي ولا يملكون شبراً من الأرض ولا شجرة زيتون !! و التبرع في المجال الجمالي للمدينة بإشادة المنحوتات الفنية و تزيين الساحات و المستديرات ، ليس ترفاً و لا هو  من الكماليات بل ضرورة اجتماعية وثقافية وحضارية  للمدينة . وستكون تلك المعونات و الخدمات المقدمة من أصحاب المنشآت الاقتصادية و التجارية و الأفراد بمثابة دعاية وإعلان لمنتجاتهم .  

 لذا أرجو أن نتعاون جميعاً و نقضي على مظاهر التخلف والفاقة التي تقف حجر عثرة أمام كل تقدم ٍ و تطور وبالتالي واجبٌ علينا جميعاً إبراز مدينتنا ومجتمعنا بأبهى صورة،و ألا تكون شهرة منطقة عفرين بالزيت والزيتون فقط بل بتقدمها و رقي أهلها ،   فهل من مستجيب..؟ آمل ذلك.

                                         nihadnbo@gmail.com

                                                       0933275229/7873757

تيريج عفرين 18 / 7 / 2008

=================

قصة :

مغارة وادي الجن

نهاد مصطفى نبو

 ـ  لم أتصور يوماً أن أغادر منزل أسرتي وأعيش بعيداً عنها في قريةٍ جبليةٍ نائية، ولكن يبدو أن لا مناص لي من العمل سنتين على الأقل في ريف المدينة، حيث تخرجت للتو من معهد المعلمين، و بعد أن يئست من البحث والتمحيص في سجلات شجرة عائلتي من العثور على ( أي شخص نافذ ) ينقذني من هذا الإيفاد ويبقيني في مدينتي مثل أبناء ذوي الأمر المطاع و أصحاب الكلمة المسموعة..!! وليس غيابي عن الأهل هو المشكلة الأهم، وإنما ما يحرجني  كيف سأتكيف مع أجواء الريف و أنا ابن المدينة..؟ حيث نشأت مع أفراد أسرتي الخمسة  في شقةٍ صغيرةٍ، محشورين فيها  كعلبة السردين بالكاد نستطيع التنفس..!  ولا أُخفيكم سراً بأني أخاف من الحيوانات الأليفة و الظلام والأصوات الغريبة..! فكيف يكون الأمر مع سماع سيمفونيات الكلاب والذئاب وبنات آوى ..؟ و كيف سأقيم في البيوت الطينية وساحاتها الرحبة والظلام المُدْلهم..؟ ناهيك عن الطريق الوعر المتعرج الذي سلكته من مركز المنطقة إلى قرية (أم الثعالب) على متن سيارة ـ جيب لاند روفر ـ التي غدت تتموج بنا يمنةً ويسرةً وتارةً في صعودٍ و أخرى في نزولٍ و كأننا في سباق تزلج على الثلج و لكن هنا على الطين..! وذكرني هذا الطريق  بطريق الوحدة العربية بيد أن الأول كان اقل وعورةً والتواءً وتعرجاً..؟!!    

  و من سوء طالعي لقد وفدوني إلى هذه الضيعة التي لم تتمتع بنعمة الكهرباء بعد ونحن في السبعينات من القرن العشرين..؟! وقد زاد في الطين بلة أحاديث الأهالي وحكايات تلاميذي منذ اليوم الأول عندما التقيت بهم عن (مغارة وادي الجن ) المرعبة القريبة من الضيعة وحذروني من مجرد التفكير بالتوجه إليها و إلا سأصاب بمكروه من قبيل بتر أحد أطرافي أو عقد لساني أو فقدان عقلي هذا إن عدت سالماً..! مثلما حدث مع ـ رشيد ( الكومرجي) الذي تحدى شباب الضيعة بأنه سيتمكن من الوصول إلى المغارة و يجلب معه كسرة آنية فخارية تثبت بلوغه، ولكن بعد يومين، عُثر عليه بين أشجار السنديان والبلوط فاقد العقل وآثار الكدمات و الرضوض جلية على محياه  و جسده، لقد ضربوه (الجن) .  حتى الحيوانات لم تسلم من غضبهم  فقد اختفى العديد من الأغنام والماعز والحمير..! ولم يبق منها إلا الهياكل العظمية وبقايا الدماء المتخثرة المتناثرة على بعد عشرات الأمتار من المغارة.. .  فأصبح رشيد بذلك مجنون الضيعة بلا منافس و أعطاك عمره قبل شهرين ونيف..!! وعلى مضض تقبلت كل ما سمعته من التلاميذ والأهالي وتظاهرت برجولة عنترة وأخفيت ما يجول بداخلي من خوف ورعب؛ وحقيقة الأمر أن صفة البطولة و الإقدام ألبسوني إياها مرغماً؛ لأن المعلم في ثقافة الريفيين هو الفنَّّي و العالم والمفكر والمهندس و.. و.. و باختصار يجب أن يكون المعلم موسوعةً شاملة..! فكيف سأكون بنظرهم عندما اظهر لهم فزعي وهلعي من أي شيء..؟!

  المختار و رجال القرية فرضوا احترامهم ومحبتهم لي وبادلتهم ذات المشاعر واندمجت معهم إلى حد انسوني بُعدي عن أسرتي، حيث قلّصت زياراتي إلى أهلي  وحرصت على مشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، وكنت على الدوام أول المدعوين للولائم والمناسبات فلا يطيب لهم مذاق الطعام إلا بوجودي بينهم، وإذا أراد أحدهم أن يقوم بأي عمل؛  فلا بد أن يستشير الأستاذ حسن ظناً منهم بأني خبير بكل علوم المعمورة، وهذه من خصائص و سمات المجتمع الريفي الذين  يمتازون بطيبة القلب ، التي قد تصل إلي حد السذاجة أحيانا ؛ واطرف تلك الاستشارات طيلة فترة عملي في الضيعة كانت ، عندما طلب مني ( أبو عزيز ) أن احدد له في ساحة داره مكاناً ليبني عليه المرحاض ..! و لم يكن أمامي من خيار إلا المثول لطلبه ، فاخترت الزاوية الشرقية لصحن الدار ، وقال أبو عزيز حينذاك و أمام الحاضرين من جيرانه : الأستاذ حسن قال هنا مكان المرحاض يعني هنا لا اقبل أي اعتراض أو اقتراح بعد ذلك ..؟ !

 و نتيجةً لقيامي بواجبي في تعليم التلاميذ على أكمل وجه وصدق تعاملي مع الجميع ورفضي مبدأ يوم بين العطلتين عطلة كما كان يفعل أسلافي من المعلمين.  تكونت عند أهالي الضيعة ثقةٌ وقناعةٌ تامة ، بما أقوله و وُصِفتُ برجاحةِ العقل واتزان المنطق ، وخلال فترة الشهرين لبدء العام الدراسي، أصبحت اشهر من نارٍ على علم في أم الثعالب و القرى المجاورة، وتجاوزت بسهولة مشكلة التأقلم مع الريف، حيث أخذت جرعة من الشجاعة و الرجولة من قسوة و جمال تلك الجبال الساحرة  المتباهية بعلوها ومعانقتها للغمام، والتي اتخذت من أشجار الزيتون والسنديان كسوة لأطرافها المنسابة بشوق إلى الوادي السحيق؛ تلك الجرعة والشحنة الروحانية خولتني بالاعتماد على ذاتي في التنقل ليلاً بين غرفتي في دار المختار وأماكن تواجد الشباب ( شلة الطرنيب ) حيث كنا نتسامر حتى ساعات متأخرة، ولم يبق في نفسي أي اثرٍ ( لفوبيا) الظلام و الحيوانات، إلى درجة كفت الكلاب و أعرضت عن النباح ومطاردتي عند خروجي وعودتي إلى البيت، وكأني أصبحت واحداً من أهالي الضيعة. ومن خلال انخراطي مع هذا المجتمع الطيب، بدأت اشعر بمسؤولية كبيرة تجاههم وعليَّ أن أقدم لهم شيئاً أو أقوم بعمل ما أفيدهم به إضافة لواجبي المدرسي .  ونتيجةً لاحتكاكي بهم وسبري لأغوار ذاتهم و خلفياتهم،  تولّدَ في داخلي إحساس و علامات استفهام عن أربع أخوة  غرباء وفدوا إلى الضيعة بدت عليهم علامات الثراء و مبالغتهم في الإسراف و التبذير للأموال، وتمتعهم بوسائل الرفاهية، وتقصدهم الدائم بعدم تواجدهم في المجلس الذي أنا فيه وان صدف والتقيت أياً منهم أخذ يبدي خوفه الشديد وتحذيري بشكل مبالغ من المغارة ، وقد أثارني هذا الإلحاح المتكرر منهم بعدم اقترابي من وادي الجن.

  فضربت أخماسي بأسداسي، وقاطعت المعلومات المتوفرة لدَي عن هذه الأسرة الثرية فتبين لي بأن تلك النعمة هبطت عليهم في غضون أربعة  أعوام خلت !! فعملت على تسخير خبرتي الغضّة في الحياة؛ وبعد دراسة مستفيضة خرجت بنتيجة مفادها: أن هناك سراً غامضاً يكمن وراء الأخوة والمغارة والجن المزعومين، و أن هناك لغزاً لم يحاول أحد فك طلاسمه.  ولكون الإنسان  فضولياً بفطرته  و عدواً لما يجهل، ثابرت على البحث والتقصي لمعرفة الحقيقة التي شحذت همتي،  فاتخذت القرار دون تردد لإيماني وحدسي بأن هناك ما خفي وراء الأكمة. و على تلك الأسس نويت الدخول إلى عالم المجهول مجازفاً،  فحملت إرادتي وتسلّحت بعقلي واتجهت نحو مغارة وادي الجن. كان ذلك في الصباح الباكر من أحد أيام الجمعة .

    وعند بلوغي قمة الجبل المطل على المغارة من الجهة الخلفية كانت شمس كانون الثاني ترسل بخيوطها الذهبية متسللة من بين وريقات أشجار السنديان البراقة و المشبعة بقطرات الندى وكأن سحابة من اللآلئ قد نثرت فوقها، ومن خلال سيقان أشجار السنديان والبلوط الكثة تمكنت من اختلاس بعض النظرات على المغارة وكأني في مهمة استطلاع على موقع للعدو في ميدان معركة !! فتخفيت خلف الجذوع، وقد انتابني الذعر و الرعب  فتسارعت نبضاتي وانتصبت شُعيرات جسدي وتصلّبَ شعر رأسي كأشواك القنفذ..! عندما رأيت الهياكل العظمية المتناثرة حول المغارة و سمعت أصواتاً غير مألوفة على مسمعي.. ( صفير متقطع.. دوو..  دو.. هاوو ... هوو..ها ها...) لم استطع الحراك على أثرها وشعرت بان جسدي و كأنه  في ثلاجة وأن أطرافي قد شُلت عن الحركة.. و أصواتاً داخلية تناديني.. هيا يا حسن.. أرجع يا حسن.. ما الذي جاء بك إلى هنا يا مجنون..؟  تقوقعت حول نفسي ودفنت رأسي بين ساقي مثل النعامة، استجمعت قواي وحاولت النهوض رويداً.. رويداً..حتى تمكنت من الغروب عن مشهد المغارة،  وعدت أدراجي من حيث أتيت.

 وٍٍٍِِِِِبُعيد عودتي إلى الضيعة لاقاني المختار في (حاكورة ) البيت مندهشاً لهيئتي فسقط المعول من يده و اخذ ينظر إليّ متفحصاً قامتي من أعلى رأسي إلى أخمص قدميَّ فاستدركت الموقف وأجبته قبل أن ينبس ببنت شفة  :

 ــ لا تشغل بالك يا مختار فأنا على ما يرام وكل ما هنالك بعض أعراض المغص نتيجة تعرضي للبرد عند ممارستي الرياضة، كما هي عادتي في كل صباح . 

 لم اقل له الحقيقة، خشية من تقريعه لي و منعي من الذهاب إلى المغارة ثانية. تركت المختار لمتابعة عمله ، و ولجت غرفتي واستلقيت على ظهري استدعيت ذاكرتي و فنّدت بتركيز ما حدث في مغامرتي الجنونية التي لم اطلع عليها أحد، تناولت المرآة وتفحصت سحنتي و أطرافي ولم أجد أي نقص أو بتر لأعضائي كما زعموا، و حواري مع المختار كان الدليل القاطع باني في كامل قواي العقلية وتأكيد بأني لم أصب بأي مس.  مرت أيام الأسبوع بطيئة على غير سابقاتها من الأيام، غدت المغارة هاجسي الوحيد و شغلي الشاغل، وتملكني حب المعرفة فزاد تشوقي لمعرفة الحقيقة، فقررت معاودة الكرّة ولكن هذه المرة بشحنة أقوى من الجرأة والإقدام.

     وصلت إلى المكان ذاته و تقدمت نحو المغارة أكثر.. فأكثر وهذه المرة لم أسمع أي صوت، ولفت انتباهي تغيير في  مواقع الهياكل العظمية، فتيقنت أن أيادٍ بشرية فعلت هذا التغيير، ولأجل الحيطة والحذر من الحيوانات المفترسة تسلقت شجرة بلوط ضخمة أخفيت جسدي النحيل خلف أغصانها بحيث أرى ولا  أُرى وقد تبدد شعوري بالخوف إلى حد كبير وشرعت في المراقبة والترقب وكأن شيئاً ما سيحدث، جُلت ببصري نحو الفضاء دُهشت لأسراب الطيور المحلقة التي كونت لوحةً رائعةَ الجمال و فجأة وأنا غارق في تأمل ذاك السرب عادت الأصوات المرعبة تكسر حاجز الصمت و تملأ الفضاء خوفاً و رعباً و لكن سرعان ما توقف هذا الصخب ببطء متسلسل ( دووو...هوههوو ...ووو..) سُررتُ كثيراً وتنفست الصعداء لهذا التوقف البطيء؛ لأنه كان الدليل القاطع و الدامغ أن مصدر الصوت هو من آلة تسجيل قد ضَعَُفت بطارياتها. . !!   تشبثت بقراري ولم ابرح مكاني حتى لو تطلب الأمر بقائي إلى المغيب لأكتشف الحقيقة. ولم تمض بضع دقائق حتى عاد الصوت بسرعته الطبيعية وأعقبه اهتزاز الأغصان والأعشاب اليابسة المرمية على مدخل المغارة..

 و  حدثت المفاجأة التي انتظرتها لقد أخرج رأسه مثل ( الحر دون ) ليتحرى من وجود أحد ما، ولا اعتقد بأنه رأس جني لأن الجن هم بغنى عن الاستطلاع،   وبعد اقل من دقيقة خرج من وكره بعد أن تأكد خلو المكان من الناس، عرفته من هو.. يا الهي انه ـ حمشو  ـ أحد أفراد الأسرة الثرية،  لقد صدق حدسي كما توقعت . وعند ترجلي عن الشجرة أثار انتباهه حفيف الأغصان،   لقد رآني فهرول مسرعاً نحوي وبيده أداة حديدية لا بد أنه يريد قتلي ويرميني على مدخل المغارة لأصبح عبرة لغيري ؛  فركضت باتجاه الضيعة وأنا على ثقة بأنه لم يستطع الإمساك بي؛ لأني كنت دائماً أحرز المركز الأول في اختراق الضاحية أيام الخدمة العسكرية. وعند مشارف الضيعة وسماع ضوضائها رمى ما بيده و أبطء الخطى كما فعلت أنا لأني وصلت إلى بر الأمان، تتبعني حتى مسافة قريبة من البيت وقال:  يا أستاذ حسن لحظة لي حديث معك، سأعطيك أي مبلغ من المال تحدده وستكون شريكاً معنا.. !                            

ـ وهل المبلغ مقابل تستري على جرائمكم أنت وأخوتك.؟ ضميري وإنسانيتي ليستا سلعاً معروضة للبيع ولا يمكن ذلك ولو أعطيتني كنوز الدنيا ولن أكون مجرماً مثلكم 

ـ ستندم كثيراً يا أستاذ .. 

ـ أندم على ماذا..؟ على رفضي سلوك طريقكم المعوّج المتعارض مع القيم الأخلاقية و القانونية..؟ و كن على يقين يا سيد حمشو ما من عاقل ندم على سلوك الطريق القويم، وأجزم بأنكم أنتم النادمون على فعلتكم و ستنالون جزاءكم العادل.                    

تابعت سيري نحو البيت بخطى متسارعة لأبلّغ المختار بما رأيت،  وعند بلوغي مدخل فناء الدار يئس حمشو  من إقناعي فأدبر مسرعاً ليبلغ أخوته ليستعدوا للفرار.

    دخلت البيت دون أن اطرق الباب كما هي عادتي، لأزف البشرى للمختار، وكانت نشوة النصر تفيض و تملأ جوارحي، و رأيت المختار وزوجته جالسين في وضع رومانسي..؟ لقد خجلت من تصرفي هذا، فاستدركت بقولي:

  ـ أنا آسف جداً.. جداً يا مختار،  لشدة فرحي لكشف عصابة القتل و الإجرام، دخلت مستعجلاً  لأبلغك أن حمشو وأخوته وراء قتل رشيد والأغنام والحمير وكل مصائب الأهالي في هذه الضيعة..!! وعليك إبلاغ السلطات بأسرع وقت ليلقوا القبض على هذه العصابة قبل أن يلوذوا بالفرار.

 ذُهل المختار بما سمع و وقف منتصباً وشفتاه ترتجفان:

ــ ما..ما.. ماذا تقول يا أستاذ..؟

ـ كما سمعت يا مختار و إذا لم تصدّقني هيا بنا إلى المغارة لترى بنفسك  آلة التسجيل التي كانت تصدر الأصوات المرعبة. ضمني المختار و قبلني بحرارة و قال:          

ــ حقاً أنت منتصر يا بني و تستحق هذا اللقب بجدارة وأنا أثق بكلامك كما تعلم، هيا بنا لنخبر الأهالي صعد المختار إلى سطح البيت ونادى بأعلى صوته: يا أهالي الضيعة المغارة ما فيها لا جن ولا عفاريت و القصة كلها أن حمشو وأخوته هم الجن و العفاريت.!!

ولم تمضِِِ ِبضع دقائق كانت ساحة دار المختار تغص بأهالي الضيعة، مستفسرين عما سمعوه، أعّتلى المختار (المصطبة ) وعلامات السرور والرضا كانت جلية كما كانت شمس ذاك اليوم و قال:

ــ يا جماعة الأستاذ حسن أطال الله عمره لقد خلّصنا من وهم الجن الذي رافقنا طيلة الأعوام الخمسة الماضية، وقد شرح لي الأستاذ كيف راقب المغارة وتعّرف إلى هوية الجناة، انه بطل و واجب علينا مكافأته و إكرامه، والآن من يرغب منكم بزيارة المغارة برفقة الأستاذ ليرى بنفسه آلة التسجيل التي وضعها حمشو و أخوته ليرهبوننا بها، وأنا سأسرع بالذهاب إلى مركز المنطقة لأبلغ السلطات قبل فرار العصابة.

      لأول مرة في حياتي اشعر بسعادة كهذه، وقد مرت بي العديد من المناسبات السعيدة بدءاً من حفل زواج أخي الأكبر ونجاحي في الثانوية وتخرجي من المعهد ..و كل هذه المحطات كان لها طعم خاص، ولكن اليوم له طعم آخر و نشوة ما بعدها نشوة، حيث أقف وسط هذا الجمع الغفير من أهالي هذه الضيعة الطيبين وقد توحّدت كلمتهم في تكريمي بمناسبة تخليصهم من كابوس صنعه الأشرار من اجل نهب الآثار وبيعها  دون رادع أو تأنيب ضمير للجرائم التي اقترفوها، و منحي امتيازات لا احلم بها إذا ادخرت راتبي لخمسين سنة قادمة..!! و راتب والدي المتقاعد بالكاد يكفي لتسديد ضرائب و فواتير الحكومة..! 

ولكن قبل أن أعلن موافقتي على اقتراحاتهم بمنحي قطعة أرض زراعية وتزويجي من الفتاة التي أحب من الضيعة  قاطعت آخر المتحدثين بالقول: يا أهالي أم الثعالب إن اكتشافي لهذه الفئة المجرمة  جاء من مشاركتكم ولم أكن وحيداً في ذلك. قاطعني أحدهم   بالقول: كيف ذلك يا أستاذ و أنت الذي اكتشفت العصابة  منفرداً دون أن يعلم بك أحد..؟

 ــ لقد اكتسبت منكم الجرأة والشجاعة و من تضاريس جبال ضيعتكم عرفت معاني القوة والإقدام؛ وأياً منكم كان باستطاعته أن يقوم بما قمت به وأكثر، فقط كان ينقصكم العلم والإرادة والتصميم،  والله لو ملكتم هذه الخصال مجتمعة لانهارت أمامكم أعتا قوة وانهزمت قوافل الجن والعفاريت...!!

 و بُعيد الانتهاء من الحديث مع الأهالي كانت سيارة الشرطة قد وصلت وبداخلها حمشو مكبلاً ليرشدهم إلى مكان وأدوات الجريمة.

                                                                        #                   #                      #

 الكومرجي  :   باللغة الكردية  هو من يقوم بتحضير الفحم  أي الفحام

  الحاكورة    :    وتسمى أيضاً في بعض القرى بـ ( العنكورة ) وهي قطعة أرض ملحقة بالبيت الريفي  مخصصة لزراعة الخضر    

                          للاستهلاك المنزلي.                                                                                

  نهاد مصطفى نــبــو   ـ  عفرين

 7873757/021    ــ   0933275229       

  nmn-1964@maktoob.com  

 

تيريج عفرين / 26 / 3 / 2008

=============

 

مازلت انتظر
 



مازلت انتظر

ذاك اليوم لعله يأتي ‏

سأنتظر حتى تنفد بقايا روحي ‏

وتتبعثر أشلائي ‏

سأنتظر على نار هائجة ‏

فليأت ذاك اليوم كما يحلو له ‏

مغبراً.. ممطراً.. عاصفاً.. ‏

مشمساً... ‏

عندها يبدأ تاريخي ‏

وتعمل ساعات أيامي ‏

وتنتظم نبضاتي ‏

ويكتب اسمي في قائمة الأحياء ‏

وسأتوج ملكاً في مملكة السعداء ‏

بل سأغدو عملاقاً بامتياز عندما ‏

أحط بمرساتي على شاطئك ‏

وأصبح قزماً.. منهاراً.. منكسراً.. ‏

بل أصبح جسداً بلا روح ‏

عندما تقرين بأن ‏

زورقك لايبحر بشخصين‏

نهاد مصطفى نبو  - تيريج عفرين 16/3/2006

العودة إلى الصفحة الرئيسية