"إبراهيم تركو" .. من المطربين التراثيين القدماء في منطقة عفرين

نضال يوسف

في منطقة "عفرين" الجبلية المشهورة بالأنهار والينابيع وجداول المياه, والمكسوّة بالغابات الخضراء من صنوبر وزيتون وسنديان وبلّوط , في هذه المنطقة الريفيّة التي عنوانها البساطة والكرم والأصالة وحبّ الحياة ولد المطرب الشعبي المعروف "إبراهيم يوسف" المعروف ﺒ(إبراهيم تركو), عاش مطربنا جلّ حياته في منزله في قرية جقللي جوم التابعة لمنطقة عفرين, ذلك المنزل الذي شهد معه كل ذكرياته الحلوة والمرّة, وقد تحوّل ذات يوم إلى صالة فنية وموسيقية ومعهد لتخريج مطربي ذلك الزمان وعازفيه.

وبغية التعرّف على حياة ذلك المطرب المعروف زرنا منزل ابنته الكبرى" كليزار" (أم عبدالرحمن)  في قرية "كوردان" – ناحية "جنديرس"، التي ما زالت تمارس فن الغناء رغم أنّها تجاوزت الخامسة والتسعين من عمرها، وتعتبر أكبر مغنّية في محافظة "حلب".

وبعد أن رحّبت بنا في بيتها الريفيّ الجميل، سألناها عن حياة والدها فقالت: « لقد كان والدي مطرباً شعبياً مشهوراً، ولد في قرية "جقاللي جوم" – منطقة "عفرين" في العام /1881 / ، عمل منذ طفولته بالزراعة كباقي أبناء منطقةٍ زراعية, حيث قضى فيها طفولته ومعظم شبابه».

 وعن بداياته الفنية قالت: « لقد تأثّر كثيراً بمجالس السهر التي كانت تُعقد في بيته, حيث كان المطربون المحليّون والجوالون - الذين كانوا يجوبون القرى لعرض فنونهم - يقدّمون فيها أجمل ما لديهم من فنون وإبداعات في الغناء بشكل شبه يومي, وكذلك تأثّر بالموالد والاحتفالات الدينية التي كانت تُقام في أيام الأعياد والمناسبات الدينية, كليلة القدر وعيد المولد النبي الشريف, حيث كان يؤديها رجال دين ذو أصوات جميلة وحزينة ، وعندما بلغ سن الشباب رافق المطرب الجوّال حينها " سيدي برازي" وتعلّم منه المقامات الفنية وأصول الغناء والعشرات من الأغاني الملحمية والتراثية الكردية ، فقد كان والدي يمتلك ذاكرة فولاذية وحنجرة قوية ورئتين ذات قدرة فائقة على التحمل في مجال أداء الأغاني والملاحم التراثية والفلكلورية, فقد حفظ  العشرات منها في ذاكرته وكانت الواحدة منها تطول لمدة تزيد عن ست ساعات غناءً» .

وأضافت " كليزار": « في الثلاثينات من القرن الماضي أصبح مختاراً لخمسة قرى هي ( مسكة فوقاني – مسكة تحتاني – آشكان شرقي - سنديانكي – جقللي جو م) ووكيلاً لأعمال أحد أغوات المنطقة "خليل أغا سيدو ميمي" فتفرّغ للغناء ومارسه على نطاق واسع حيث كان يدير بأغنياته التراثية الرائعة والفلكلورية الخفيفة جميع الحفلات في قريته والقرى المجاورة حتى ذاع صيته في منطقة عفرين, وتحوّل منزله الريفيّ المقنطر إلى صالةٍ فنيّةٍ يجتمع فيه مطربو ذلك العصر من كل حدبٍ وصوب, ولكن محدودية النقل والإعلام وحتى انعدامه في تلك المناطق الريفيّة جعله أسير تلك المناطق فلم يبلغ الإقليمية والعالمية».

 وسألناها عن رصيد المطرب الراحل الفنيّ، تأوّهت قليلاً وأغرورقت عيناها بالدموع ثم قالت وهي تمسح الدموع عن خديّها: « في العام / 1961/ توفي المطرب الشعبي "إبراهيم يوسف" في مشفى الدكتور"أحمد الصيرفي" في مدينة حلب عن عمر ناهز الثمانين سنة, دون أن يتمكّن من تسجيل رصيده الفنيّ الكبير, تاركاً وراءه عشرات المطربين والعازفين من تلاميذه, الذين استطاعوا فيما بعد من تسجيل معظم أغنياته ولكن بأصواتهم وعزفهم كخطوةٍ مهمّةٍ لحماية فنه الغزير وبالتالي حماية تراث وتاريخ منطقة عفرين من الضياع والاندثار، ووسط حشد جماهيريٍّ كبير من أهله وذويه وعشّاق فنّه, دُفن في مقبرة قريته المتواضعة " جقللي جوم"مخلّفاً ثلاثة بنين ومثلهم من البنات».

ويعتبر حفيده الفنان التراثي المعروف "عبدالرحمن عمر" (أبو صلاح )أحد أبرز تلامذة الفنان الراحل الذي يقول عن تأثير المطرب "إبراهيم يوسف" على فنّه فقال: « لقد كان المرحوم بحق موسوعة تراثية وفلكلورية، إضافةً إلى امتلاكه صوتاً جبلياً رائعاً ولذلك كان من الطبيعي أن يتأثّر به وبفنّه الذي كان يتسم بالأصالة العديد من المطربين، وأتشرّف بأنني واحد منهم لقد كان له حضور بارز في العديد من المناسبات الاجتماعية ( الأفراح والأعراس) وكذلك في السهرات التي كانت تُعقد في منزله حيث كان يؤدي أغانيه الملحمية حتى ساعات الصباح الأولى».

وعن فنّه قال المطرب الشعبي عبدالرحمن عمر: « أنا أغني التراث والفلكلور متأثراً بالفنان الراحل، ولديّ في هذا المجال مجموعة من الكاسيتات الغنائية التي لاقت رواجاً كبيراً في الأسواق الفنية ».

ابنٌ من هذا البلد, استطاع بصدره الواسع وذاكرته الجبّارة أن يساهم بفعّالية في حماية فنّنا وتراثنا العظيمين, ونقله بأمانة وصدق إلى الأجيال اللاحقة, ليكملوا مسيرة التطور الفني في بلدنا فإليه / إليهم جميعاً كل التحية والإكبار.  

تيريج عفرين 9 / 11 / 2008

==========    

  

والدة الفنان ( بافه صلاح ) و غناء التراث

نضال يوسف


أم عبدالرحمن امرأةٌ من ريف هذا الوطن,شربت من ماؤه وأكلت من خيراته,وتعلمت منه الشموخ و الإباء.
حفرت السنين أخاديداً في وجهها وكلّ جسدها,قوّس ظهرها,و لكن ذلك كله لم يقعدها عن ممارسة أعمالها اليومية من جلب الحطب اليابس من الجبل المجاور,وحلب عنزاتها الثلاثة والطبخ على النار الطبيعية إضافةً إلى أعمالها المنزلية الأخرى.
أم عبدالرحمن,ودّعت قبل حوالي الشهرين عقدها التاسع دون أية مشاكل صحية أو جسدية تذكر,وهي ما زالت تمارس هوايتها المفضّلة في الغناء,هذه الهواية التي رافقتها منذ الصغر,ولكن الظروف الاجتماعية في المجتمع منعتها من المشاركة في المناسبات و السهرات التي كانت تعقد في قريتها وفي القرى المجاورة,و لكن التقدم الاجتماعي والتطور الفكري الذي حصل في المجتمع حقق لها جزءً من حلمها ولو جاء متأخراً,فقد صعدت قبل أيام خشبة المسرح في زفاف أحد حفدائها,لتغني مقاطع رائعة من تراث و فلكلور المنطقة,فأطربت الحضور وأمتعتهم في سهرة نادرة قد لا تتكرر.
قبل فترة كنت في ضيافتها,في منزلها الريفي في قرية كوردان الجبلية حيث تسكن, قريتها جميلة لم يطلها الزحف العمراني الحديث بعد, غابات الزيتون و البلوط و السنديان,البيوت الطينية القديمة تطغى على المشهد و تضفي عليه المزيد من الروعة و الجمال.


بعد أن رحّبت بي,جلسنا في ظل شجرة دلب كبيرة على كرسيين من جذع الصنوبر,وبدأ حديث شيق بيننا استهلته بالسؤال عن عمرها فقالت: العمر لا يقاس بالسنين!
قبل عشرين سنة توفي أبو عبدالرحمن وتركني وحيدة ً أكمل ما تبقى من عمري,كان رجلاً شهماً و كريماً .
ثم أضافت,أعيش في هذا البيت منذ سبعين سنة,منذ يوم زفافي,وأنا متعلقة به شديد التعلق,أبنائي و بناتي يعيشون في المدينة و يأتون لزيارتي كل أسبوع,حاولوا مراراً إقناعي بالعيش معهم و لكنني رفضت.
أنا أعشق رائحة الزعتر البري و الزعرور و الصنوبر,ولا أقبل فكرة تحمل صخب وضجة المدينة وهوائه الملوّث.
انتقلنا إلى داخل بيتها,حيث ذكرياتها,الحلوة والمرّة حكتها لي بشيءٍ من التفصيل اللا ممل.
طال الحديث وتشعب في اتجاهات مختلفة دون قدرتي السيطرة على وجهة الحديث وتوجيهه كما أريد احتراماً لمشاعر هذا المخزون التاريخي والتراثي, ورغبتي في منحها الحرية الكاملة للتحدث والتعبير عن آرائها وانتقاداتها وهمومها.
وبعد حوالي الساعتين توقفت عن الحديث,عرفت بأنها أفرغت جزءً من طاقتها المحبوسة منذ سنين,طلبتُ منها– و نحن نحتسي الشاي- أن تغني.
تأوهت... و صمتت قليلاً.. ثم قالت:
إنّ الأخاديد التي تراها على وجهي,تسرّبت إلى حنجرتي أيضاّ و لا أستطيع الغناء بحرية ٍ كسابق عهدي,فعندما كنت في مقتبل العمر كان لي صوت عذب و كل أبناء القرية يشهدون,كان والدي– و الكلام ما زال لها – هو الفنان الراحل المعروف في كل أنحاء المنطقة إبراهيم تركو,وقد تعلمت منه العشرات من الأغاني الفلكلورية والتراثية.
بعيونٍ رطبةٍ, وبحنجرة ٍ متعبةٍ قسا عليها الزمان ما قساه,لبت مضيفتي طلبي وراحت تغني أجمل ما لديها من التراث الشعبي في منطقة عفرين,افتتحتها بالقصة الغنائية الرائعة " ممو وزين " المشهورة في الفلكلور الكردي ,لحنٌ جميل ٌوكلماتٌ موزونة ٌورائعة ٌ تنمّ عن عبقرية القدماء في الإنتاج الغنائي الشفهي.
بين الفينة و الأخرى كانت تتوقف عن الغناء لتكمل بعض مقاطعه كلاماً,وهذه ميزة من ميزات الأغنية التراثية, كنت أستمع إليها وأنا أراقب كل حركاتها,فاليدين والعيون و الرأس في تناغم كامل ناتج عن انسجامها الصادق وهيجانات مشاعرها لما تتضمنه الأغنية من مقاطع حماسية وبطولية.
إن معظم الأغاني القديمة كانت تمتد لأكثر من ست ساعات,وكان من الشروط التي يجب توفرها في مؤديها قوة في الحنجرة والرئتين وذاكرة فولاذية تساعده على تذكر وحفظ الآلاف من الكلمات و المئات من الألحان و المقامات.
أم عبدالرحمن أرشيفٌ نادر, وموسوعةٌ فلكلورية,ومغنية من الطراز الأصيل,تحتاج منا جميعاً الرعاية,و التوثيق,والتنقيب,ففي صدرها تخبئ تاريخاً صادقاً,و ذكرياتٍ نقية ٍّ من ماضي هذا الوطن.

يذكر أن أم عبدالرحمن هي والدة الفنان الكبير ( بافه صلاح .... صوت جبل الزيتون الأخضر )

نضال يوسف / تيريج عفرين 26 / 10 / 2008

العودة إلى الصفحة السابقة