عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الثلاثون والأخيرة)

سِفْر العبور إلى العالم الأرحب!

1 – جغرافيا التكوين.

حلب العريقة عاصمة الشمال السوري.

اِلقِ نظرة على قلعتها المهيبة العتيدة.

ثم انطلقْ شمالاً وغرباً نحو الحدود التركية.

اعبرْ سهول عَزاز الفسيحة الخصيبة.

هناك تتراءى لك عِفْرِين الوديعة الجميلة.

عفرين السهل والجبل.. والنهر والشجر.

عفرين اسم جامع مانع.

يُطلَق على المنطقة والنهر ومدينة المركز.

ولاسم عفرين جذور تاريخية عريقة جداً.

عفرين في الأصل تعريب لكلمة (آبْ رَين) Ab rain، و  Av rain

و(آبْ رين) ومختصرها (آبْ رى) تعني بالكردية (الماء الجاري).

جاء (آبْ رى) اسماً لنهر عفرين في مدوّنات العهد الآشوري.

ولا ريب أنه كان معروفاً قبل ذلك العهد بكثير.

عفرين سلاسل جبلية تتواكب، وتتالى.

سلاسل جبلية تمتد.. وتمتد.. فتملأ الأفق.

سلاسل تخترقها الوديان، وتتوسّطها السهول.

سلاسل تزدان بأشجار الزيتون يجلّلها الوقار وعبق التاريخ.

تناجيها هنا وهناك أشجار السرو والتين والكرمة والجوز اللوز.

كي ندرك جماليات عفرين ينبغي أن نعيَ جماليات الزيتون.

إذا مررتم بشجرة زيتون لا تتعجّلوا.. تمهّلوا.

توقّفوا في حضرتها هنيهة.. تأمّلوها.. باركوها.

في شجرة الزيتون تلتقي الوداعة بالمهابة والجلال.

الجمالي والمقدّس يتوحّدان في مشهد شجرة الزيتون.

كان غصن الزيتون أول رموز الحياة بعد الطوفان.

وغصن الزيتون هو رمز عالمي إلى السلام البشري.

وللزيت حضور في الطقوس والمعابد منذ أقدم العهود.

هذه الحقائق بحاجة إلى قراءات جادّة بعيداً عن التسرّع.

2 – قريتي الهاربة.

في التخوم الشرقية من عفرين تقع قريتي.

إنها تسند ظهرها إلى السفح الغربي لجبل ليلون.

تبدو كأنها مسافرة متعَبة جلست تلتقط أنفاسها.

أو كأنها تحتمي بأكناف الجبل من خطر مجهول.

في منتصف القرن العشرين كانت قريتي شبه معزولة.

جبلان متجاوران يفصلانها غرباً عن حوض النهر.

وسلسلة جبل ليلون تفصلها شرقاً عن سهول عزاز.

القرى تنعزل ما لم تقع في سهل مفتوح الجهات.

وتصبح أكثر عزلة ما لم تقع على الطرق العامة.

وهكذا كانت قريتي.

شيوخ قريتي كانوا يعشقون العزلة.

لا أعتقد أنهم كانوا حمقى.

ولا أحسب أنهم كانوا أغبياء.

كانت لهم في زمنهم حساباتهم الخاصة.

والحسابات الخاصة نتاج الظروف الخاصة.

لعلهم اختاروا العزلة ليكونوا بمنأى من رجال العهد العثماني.

وليتفادوا زيارات الدرك المفاجئة في عهد الاحتلال الفرنسي.

 

3 – هاوار!!

قريتي محاطة من الجهات الأربع بسلاسل جبلية.

في شرقيّها تمتد سلسلة جبل ليلون الأشهب الوقور.

وفي الأفق الغربي القريب تنتصب سلاسل جبال (هَشْتِيا).

على هذه السلاسل نُبصر إشراقات الشمس مع كل صباح.

ومن على قممها نودّع شمس يوم من العمر مع كل مساء.

وفي الأفق الغربي البعيد تنتصب سلسلة جبال أمانوس.

جبال شامخة.. مهيبة.. متصاعدة في السماء.

سمّاها العرب في الإسلام (جبل اللُّكّام).

جذور هذه التسمية غير معروفة.

وسمّيت في العهد العثماني جبل (گاوِرْ داغ= جبل الكفار).

لا أدري لماذا أُلبست هذه الجبال الجليلة تلك التسمية المنفّرة.

لعلها تسمية متوارثة منذ ألف سنة.

حينما دخل السلاجقة آسيا الصغرى أول مرة.

وغسلوا أقدامهم وسيوفهم في مياه البحر المتوسط.

حينذاك كان الروم والأرمن يسيطرون على تلك الجبال.

 

ويسمّي الكرد تلك السلسلة (چيايى گَوْر) chiyayai gewr.

وتعني هذه التسمية: (الجبل الأبيض).

إنه جبل أبيض حقاً.. إنه ناصع البياض.

لا تفارق الثلوج الكثيفة قمته شتاء ولا صيفاً.

للتسمية العثمانية دلالة دينية سياسية.

وللتسمية الكردية دلالة بيئية جمالية.

وشتّان ما بينهما!

وفي الأفق الشمالي تنتصب جبال (هاوار).

إنها سلسلة طويلة مكسوّة بالأشجار الجبلية.

ولا أدري لماذا أُطلق هذا الاسم التراجيدي عليها.

فلكلمة (هاوار) بالكردية دلالات تراجيدية عميقة.

وتعني من جملة ما تعني: وا غوثاه!.. يا ويلاه!.. يا لهول الكارثة!

ولا يُطلق الكرد صرخة (هاوار!!) إلا في الأحداث الأليمة الكبرى.

وفي الأفق الجنوبي تنتصب سلسلة جبل سمعان.

وفي أعلى قممها يشمخ مزار يحمل اسم (شيخ بركات).

من هو (شيخ بركات) هذا؟!.. لا أحد يدري.

كان المزار قبل الميلاد معبداً لإله وثني سوري قديم.

وفي العهد الروماني صار معبداً مسيحياً.

وفي الإسلام صار مزاراً يسمّى (شيخ بركات).

هذا هو جوهر التاريخ!

حضارات تتبادل المواقع.

وثقافات تتنافس وتتوارث.

وأسماء تتغيّر عبر القرون.

أما الجبال فباقية كما هي.

4 – ذكريات!!

في أزقّة قريتي لهوت مع الصبية.

وفي مرابعها لعبت في كل الفصول.

وفي ساحاتها شهدت الأعراس والدبكات التراثية.

وسمعت أغاني (دلال)، و(عَيْشى)، و(مَيْرُو)، و(گُلا زَرْ).

وعلى بيادرها تدحرجت، وبين سنابلها اختبأت.

تسلّقت فيها أشجار التوت والدُّلْب والحور والجوز.

ولاعبت فيها الحملان والجِداء والعجول.

وفي بساتينها تجوّلت، ومن تينها وأعنابها أكلت.

وعطورَ نرجسها وبنفسجها ووردها الجُوري شممت.

ومن جبلها جمعت جذور ال (بيفوك) وال (گيزبَلُّوكْ).

في أحضان بحيرة (عين دارا) رميت نفسي بعشق.

وفي أكنافها خضت سباقات السباحة مرة تلو أخرى.

وعلى أعشابها الطرية شاركت في المصارعات الودية.

وبجانبها جلست.. وقرأت.. وداعبت صغار السمك.

وفي جنباتها شهدت أفواج أبناء المدن المصطافين.

سيارات فارهة!..  ثياب جميلة!.

حفلات شواء سخيّة!.. ضحكات أنيقة!.

آلات موسيقية غريبة أين منها (الطبل) و(الزُّرْنا)؟!

كان أولئك المصطافون يبدون وكأنهم آتون من عالم آخر.

عرفت بعدئذ أن عالمهم كان مختلفاً حقاً عن عالمنا الريفي البسيط.

على ضفاف نهر عفرين Av rain رعينا الخراف والجداء.

وبمياهه المنحدرة من سفوح جبال الشمال اغتسلنا.

وعلى رماله الناعمة تضاحكنا وتدافعنا وتطاردنا.

ومن طينه شيّدنا قلاعاً، وفيها حفرنا أنفاقاً وكهوفاً.

وفي سهله الشرقي نثرنا عَرَقاً غزيراً.

وزرعنا خضاراً وقمحاً وقطناً.

وما حصدنا إلا التعب والكَفاف.

شهدت النهر في الصيف والخريف رقراقاً وديعاً.

وشهدته في الشتاء وأوائل الربيع غاضباً مزمجراً.

إنني في النهاية ابن السهل والجبل.. ابن النهر والبحيرة.

أجدني تارة هادئاً وديعاً ليّن العريكة كالبحيرة والسهل.

وأجدني تارة صعب المراس غاضباً كالجبل والنهر الفائض.

يقول علماء الجغرافيا البشرية: الإنسان ابن بيئته.

ويبدو أنهم على حق.

5 – أمر غير معقول!

قريتي كانت عالميَ الأصغر.

ثم كان الانتماء إلى عالم أكبر.

عفرين كانت بوّابتي إلى العالم الأكبر.

في مدرستها الابتدائية عرفت المقعد والسبّورة.

وهناك التقيت أساتذة قادمين من مدن أخرى.

أناسٌ كانوا يختلفون عن أهل قريتي!

أناس بهندام مرتّب، وشعر مصقول، وأحياناً بنظّارات أنيقة.

أناس نادراً ما كانوا يتواضعون، وكثيراً ما كانوا يتعالون.

أناس لا أستطيع أن أنسى وجوههم الوقورة الصارمة.

أناس لا تمرّ أخيلتهم بذاكرتي إلا وأجد العصي في أيديهم.

أستاذ بلا عصا؟!!.. أمر غير معقول!

كنا صبية مساكين.

كنا مرميِّين بين أضراس الزمن.

لا حول لنا ولا قوة.. لا رأي لنا ولا إرادة.

رمانا أهلنا بين أيدي الأساتذة قائلين: اللحم لكم.. والعظم لنا!

كانت الفلسفة التربوية تقوم على مبدأ: العصا أولاً والعصا ثانياً والعلم ثالثاً.

كان أستاذنا فتحي يعدّ سماع أصواتنا، وهو قادم إلى الصف، جريمة نكراء، وكانت العقوبة الطبيعية لهذه الجريمة هي (الفَلَق) للجميع، المذنب منا والبريء، كان يأمرنا جميعاً أن نضع أرجلنا على المقاعد، ثم يمرّ علينا واحداً واحداً، وهو يهوي على أقدامنا الصغيرة المتّسخة المرتجفة بما طاب له من ضربات بعصاه القاسية.. عدالة ولا مثلها عدالة!..هنالك كان البكاء وصرير الأسنان!.. لم تكن تجدي التوسّلات الحارة، ولا النشيج العميق، ولا صرخات الاستغاثة، لم أكن تلميذاً مشاغباً قط، كنت على الدوام تلميذاً نموذجياً.. لكن ثقافة القهر كانت قد هيّأتني بجدارة لقبول كل ما يحيق بي من مظالم.

وكان أستاذنا سعد الدين خبيراً بفنون الترهيب، ضليعاً في طرائق بثّ الرعب في النفوس، كانت عصاه الطويلة المجنونة تتفاعل مع عباراته الموزّعة بين التهديد والسخرية اللاذعة، فتجعل القلوب تخفق، والأعين تجحظ، والأبدان ترتجف، والألسن تتلعثم، والأيدي تحمرّ، والأقدام تتلوّى، والصرخات تتعالى، والدموع تتطاير في كل اتجاه.

وكان.. وكان!

لم يسألنا أحد عن بطوننا الخاوية.

ولم يرثِ أحد لأجسادنا المتعبة.

ولم يقرأ أحد وجوهنا الشاحبة.

ولم يتفهّم أحد آلامنا المكبوتة.

ولم يُعنَ أحد بأحلامنا المهدورة.

الجميع مهتم بامتلاك هياكلنا المكدودة.

اللحم لهم.. والعظم لأهالينا!!

ولا شيء لنا!!!

6 - ثقافة العصا.

لا أزعم أن جميع أساتذتنا كانوا هكذا.

كان بعض الأساتذة يأخذوننا بالرفق واللطف، لكنهم كانوا قلّة.

كان المناخ العام هو مناخ السخرية والتهكّم والضرب والقهر والقمع، كان التعليم يتمّ بالقوة والإكراه.. أقول بصدق: كان التعليم تعذيباً.. كان سلباً للإرادة ومحقاً للشخصية، ومن يتمرّد كان يُضرَب ويُضرَب، ثم يُرمى به خارج المدرسة.. إن تقصيراً بسيطاً في حفظ درس، أو حركةً لم يرض عنها الأستاذ، أو ابتسامةً لم يعرف الأستاذ سببها، أو خطأً في عملية حسابية أو في إعراب كلمة؛ كان ذلك كله كفيلاً بأن يجرّ علينا الإهانات والعقوبات.

واكبتنا العصا طوال رحلتنا التعليمية من الابتدائي إلى الثانوي، كنا نكبر، وكانت العصا تكبر معنا.. عرفت بعدئذ بسنوات كثيرة أن للعصا في تراث شرقنا موقعاً مرموقاً، علمت أنها ثقافة قائمة برأسها، وأن ثمة أقوالاً شهيرة في شأنها؛ منها: "العصا لمن عصى"، و" العصا من الجنّة"، و"الابن يحمل عصا أبيه"، و"فلان يريني العصا من تحت العباءة". وجاء في الأمثال أيضاً: "هذه العصا من تلك العُصيّةْ، ولا تلد الحيّة إلا الحيّةْ" ! وقال أحد الشعراء:

           العبــدُ يُقرع بالعصا      والحرُّ تكفيه الإشــارةْ

وقال المتنبي:

     لا تشتر العبد إلا والعصا معه     إن العبيد لأنجاس منـاكيدُ

وكنا نقرأ أن أحد الحكماء رغب في حثّ أبنائه على الاتحاد، فجاء برزمة من العصيّ، وطلب من كل واحد منهم أن يكسرها، فعجز الجميع، ثم وزّع على كل واحد منهم عصا واحدة، فكسّر كل منهم العصا بسهولة. هكذا إذاً!.. الحكمة تؤخذ من العصا!!.. ولم أعجب بعدئذ حين علمت أن الجاحظ شمّر عن ساعديه، وأتحف المكتبة العربية بصفحات حول (فضائل العصا)!

أقولها بمرارة: نحن خرّيجو ثقافة العصا!

وهل تخرّج ثقافة العصا إلا الأشباح والعبيد؟!

7 – إيديولوجيا القمع.

بلى .. كنا نتشرّب رغماً عنا ثقافة العصا، وكانت ثقافة العصا هذه جزءاً من  إيديولوجيا القمع، كنت أظن أن عصر زياد ابن أبيه والحجّاج بن يوسف الثَّقَفي قد انتهى، لكن كنت على خطأ، وبعد نحو ألف وثلاثمئة وخمسين عاماً كان التاريخ يعيد نفسه، ففي سنة (45) هجرية دخل زياد البصرة والياً، وأبدع خطبته القمعية المعروفة باسم (البَتْراء)، وقال فيها من جملة ما قال: " وإنّي لأقسم بالله لآخذنّ الوَلِيّ بالوَلِيّ، والمُقيم بالظّاعِن [الراحل]، والمُقبِل بالمُدْبِر، والصحيح منكم بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه، فيقول: انجُ سعدُ فقد هلك سعيد!".

وفي سنة (75) هجرية دخل الحجّاج الكوفة والياً على العراق، وأمر باجتماع الناس، واعتلى المنبر متلثّماً، ثم أزاح اللثام عن وجهه وهو يتمثّل بقول الشاعر:

      أنا ابنُ جَـلا، وطلاّعُ الثنايا     متى أضعِ العمـامةَ تعرفوني!

وقال من جملة ما قال: " وإنّي لأرى رؤوساً قد أينعت، وقد حان قطافها، إنّي لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى".

كان بعض أساتذتنا يجسّدون زياداً والحجّاج وغيرهما من مبدعي إيديولوجيا القمع، كانت أجسادنا ثماراً يانعة، وكان لهم أن يعملوا بها ما يشاؤون، وكنا بالنسبة لهم حقلاً مفتوحاً لتجريب إبداعاتهم القمعية، ولا عجب؛ إن أساتذتنا أنفسهم قد مرّوا- ولا ريب- بالتجربة نفسها عندما كانوا تلامذة مثلنا، وكان أساتذتهم قد مروا بالمحنة ذاتها أيضاً، وهكذا دواليك.

يا لبؤسنا!

ريثما تعلّمنا دفعنا ثمناً باهظاً جداً.

كان علينا أن نتعلّم ونتعذّب ونهان.

كان علينا أن نبتسم وقلوبنا تبكي.

وأن ندخل عالم المعرفة عبر بوّابة القمع .

8 – سِفْر العبور.

أقدام الجبال منغرسة في الوديان والوهاد العميقة.

لكن قممها تتشامخ أبداً نحو النجوم، وتتعالى على السحب.

جذوع الدّلْب والحور والسرو والصفصاف غائصة في الطين.

تنهشها الديدان، وتعبث بها الحشرات، وتستخفّ بها الثعالب.

لكن ذراها العالية تحتضن النسور، وتعانق الهواء والضياء.

الحجر الذي يرفضه البنّاؤون قد يصبح رأس الزاوية.

ومن يدري؟!!

قد تكون قريتي الهاربة.. وعفرين المنزوية..

وثقافة العصا.. وإيديولجيا القمع..

جسراً للعبور إلى العالم الأرحب؟!

 (أشكر كل من قرأ هذه الحلقات، والنية قائمة على أن تصبح كتاباً مطبوعاً خلال الأشهر القادمة بعون الله، وإلى لقاءات أخرى مستقبلاً).

  15 - 8 - 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

========================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة التاسعة والعشرون)

سِفْر الخروج إلى مكان تحت الشمس!

1 – بطولات وهزائم.

بعض ما أقوله قد يكون قاسياً.

وأعلم أن بعضه قد يكون مزعجاًً.

هذا رغم نفوري الشديد من القسوة، وكرهي الشديد للإزعاج.

لكن ما يشجّعني على القول هو أمران:

-      أولهما أني لم أتعمّد في حياتي قط أن أقسو على الآخرين أو أزعجهم رغبة في التشفّي أو حباً للإيذاء، وأعدّ هذه السلوكيات شكلاً من الضعف وضرباً من الانحطاط.

-      وثانيهما أن ما قد يبدو في بعض أقوالي من قسوة هو في جوهره محاولة للتطوير، وسعي إلى الارتقاء، أفلا ترون أن صعود القمم الشامخة يتطلّب تحمّل شيء من القسوة؟!

وقد اعتدنا – نحن الجيل الموجِّه والمرشد وجيل القدوة؛ سواء أكنا آباء أم كنا في أي موقع ريادي آخر – أن نجود على أولادنا وحفدتنا بالحديث عن الجانب البطولي في أشخاصنا: كيف تغلّبنا على الصعاب والمشقات؟! كيف أصبحنا أغنياء بعد أن كنا فقراء؟! كيف انتقلنا من حضيض الجهل إلى قمم العلم؟! كيف صمدنا للتحديات؟! كيف ألحقنا الهزائم بمن أراد لنا الشر؟! كيف؟!.. وكيف؟!.. إلخ.

ولا ريب أن الحديث عن البطولات – إذا كانت حقيقية، وإذا عرضناها بأحجامها وفي فضاءاتها الواقعية- أمر مفيد، ومن الضروري أن يعرفها الأجيال، ففي ذلك تحفيز لهم إلى السير قُدماً في مراقي الفلاح، وتشجيع لهم على الصبر والثبات وقوة العزيمة وشدة المراس، وفيه بثٌ للأمل في نفوسهم حين تجتاحهم الشدائد من كل حَدَب وصوب.

ولا ريب أيضاً أن مسيراتنا الحياتية لا تخلو من الإخفاقات، وفيها كثير من الهزائم، وأحسب من جانبي أنه من الضروري الوقوف وقفة واقعية نقدية عند بعض هذه الإخفاقات والهزائم على أقل تقدير؛ إذا لم نجرؤ على الوقوف عند جميعها، وأن نستعرضها أمام أولادنا وحفدتنا كما هي، من غير تعديل ولا تجميل، ولا تحوير ولا تزوير، وحتى من غير شعور بالنقيصة أو الهوان.

وأحسب أن ممارسة كهذه شكل راقٍ من أشكال البطولة أيضاً.

2 – سِي السيّد!!

ومنذ أن كنت في عهد الشباب لفت انتباهي شخصية (سيّد عبد الجواد) – ولعلي لم أنس اسمه الصحيح- في ثلاثية الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ، فإن (سِي سيّد)- كما يقول الإخوة المصريون بلهجتهم الظريفة- هو من أبناء الطبقة القاهرية المتوسطة، وهو يحرص كل الحرص على الظهور أمام أسرته بصورة ملؤها الوقار والرزانة والفضيلة والتقوى، إلى درجة أن الجميع كان يشعر إزاءه بالهيبة والرهبة، وينظرون إليه كما كان القدماء ينظرون إلى أشباه الآلهة.

أما في خلواته الخاصة مع أصحابه المقرّبين، وفي سهراته الليلية بعيداً عن الأسرة، فكان (سي سيّد) ينسجم مع نفسه، ويظهر على حقيقته، ويطلق العنان لنزعاته الفردية، بل كان ينساق خلف شهواته، ويعبّ من الخلاعة والتهتّك حتى الثّمالة.

وأحسب من جانبي أن نجيب محفوظ كان ذكياً في تركيز الضوء على هذا الجانب العجيب من الشخصية الشرقية، بل أعتقد أنه كان من خلال (سيّد) يفضح تلك الشخصية، ويندّد بها، وينفّر منها. وبالنسبة لي أفهم من نمط (سيّد) أنه يجسّد ثلاث صفات انحطاطية بارزة، تتمثّل في:

-      أنه لا يمارس ما يؤمن به.

-      وأنه نتاج مجتمع الخوف.

-      وأنه يعيش حالة انفصام في الشخصية.

3 – كيس إسحاق!

وكان هذا النمط الانحطاطي، على الدوام، عرضة للهجوم الشديد من قبل أصحاب النظرة الارتقائية، وكثيراً ما تناوله الأقدمون - ولا سيما الشعراء- بالقدح والتنديد؛ فهذا الشاعر العباسي عبد الصمد بن المعذَّل يقول في أخ له اسمه أحمد:

    يُري الغُزاةَ بأنّ اللهَ همّـتُه     وإنّما كان يغزو كيس إسحاقِ

وكان أحمد هذا قد أراد الغزو في سبيل الله، ضمن جيش إسحاق بن إبراهيم قائد جند بغداد، ثم ما لبث أن أنشد القائدَ قصيدةً عصماء يمدحه فيها، فمنحه هذا مئتي دينار [وهذا مبلغ كبير في ذلك الوقت]، ولما رأى أنه استغنى ترك المشاركة في الغزو، وغادر المعسكر عائداً إلى بيته.

وهذا شاعر آخر يسمّى محمود الورّاق [والوِراقة قديماً هي مهنة طباعة الكتب وبيعها] يقول في بعض من نهجوا النهج النفاقي الانحطاطي:

       أظهروا للنـاس دِيناً       وعلى الدينـار داروا

       وله صـاموا وصلّوا       وله حجّـوا وزاروا

       لو بدا فـوق الثُّريّا        ولهم ريش لطـاروا

        [الثريا مجموعة من النجوم].

وقبل هذا وذاك قال أبو العتاهية في قصيدته الشهيرة التي وعظ فيها هارون الرشيد:

      أحسنَ الله بنــا       أنّ الخطايا لا تفوحُ

      فإذا المستورُ من       بين ثوبَيه فَضُـوحُ

4 – نحو التأسيس.

وأعلم أن لكل عصر هويته وخصوصيته.

وأن لكل طور تاريخي مقتضياته ومتطلّباته.

فهاتان حقيقتان لا يجوز القفز فوقهما بأي حال من الأحوال.

لكن ها نحن قد اجتزنا عتبة القرن الحادي والعشرين، فلا ينبغي أن نعيش بأجسادنا في هذا القرن، وننتمي بعقولنا وسلوكياتنا إلى القرن التاسع عشر، مع ضرورة الأخذ بالحسبان أن الزبد يذهب جُفاءً، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وبعبارة أدق: ينبغي أن نأخذ بالاعتبار أن قيم الحق والخير الجمال هي صالحة لكل عصر بهذا القدر أو ذاك، ومفيدة لكل جيل بهذه النسبة أو تلك.

وأحسب أنه حان لنا- نحن الآباء والأجداد والمعلمين والمرشدين والموجّهين والمنظّرين- أن نجتاز البرزح الذي تاه فيه (سي سيّد) سابقاً، وأن نكف عن الظهور بمظهر المعصومين أمام الأجيال اللاحقة، إننا بحاجة ماسّة إلى التأسيس لثقافة جديدة هي نقيض ثقافة (مجتمعات الخوف)، وتربية أجيالنا من خلال سلوكياتنا على تلك الثقافة، وفي سبيلنا إلى تحقيق هذا الهدف نحن بحاجة إلى جرعات من الواقعية، وإلى جرعات من التواضع، وإلى جرعات من الصدق، وإلى جرعات من الشجاعة، وإلى جرعات من الثقة بالنفس.

ولو تتبّعنا سِيَر الحكماء والعظماء لوجدنا أنهم كانوا يمتازون بهذه الخصال، وكانوا يمتلكون الشجاعة على استعراض هفواتهم وجوانب النقص في أشخاصهم ومواقفهم، بل كانوا يتلقّون إشارات الآخرين إلى ذلك النقص بطيب خاطر، وأذكر في هذا الصدد أن الحكيم الصيني الشهير كونفوشيوس (كونغ فودزه = المعلم كونغ) كان يسير ذات مرة منتقلاً من ولاية إلى أخرى وهو ينشر مبادئه وأفكاره  وتبعه تلميذ له باحثاً عنه، ومر التلميذ في الطريق بفلاح صيني فسأله:

-      هل رأيت كونفوشيوس؟

-      لا أعلم .. لكن مرّ بي شخص طويل القامة، أعجف الجسم، كبير الأذنين، كان منظره يشبه منظر الكلب الضالّ.

أدرك التلميذ أن ذلك الشخص هو أستاذه كونفوشيوس، فلحق به، وروى له وصف الفلاح، فما كان من كونفوشيوس إلا أن قهقه ضاحكاً وهو يقول: " ما أروع هذا الوصف "!!

5 – الحبّة قبّة!!

وبطبيعة الحال لا أنسى القول المأثور – ولعله حديث نبوي صحيح-: " إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا ". ولا أنكر أن لكل إنسان في حياته هفوات قد تصغر أو تكبر، وأخطاء ربما أنه وقع فيها بسبب الجهل أو بتأثير نزوة من النزوات، وما أكثرها في الطبيعة البشرية! ولست ممن يطالب الناس بفضح أنفسهم، أو التشهير بها على رؤوس الأشهاد، فكل امرئ هو سيد نفسه، وله وحده الحق في أن يقول عن نفسه ما يشاء، وبالقدر الذي يشاء، وبالكيفية التي يشاء.

ولا أنسى أيضاً أن غالبية البشر، ولا سيما في مجتمعاتنا، يزهدون في نقل حسناتك، ويتوقون إلى إذاعة هفواتك، بل ثمّة من يتربّص بك، وينتظر بفارغ الصبر أن تبوح بنقيصة فيك، أو تذكر سلبية في شخصك، وحينذاك لا يعبأ ذلك المتربّص بما تتميّز به من صدق وصراحة ونبل وشهامة، ولا يقدّر لك رغبتك- عبر ذلك البوح- في إرشاد الآخرين إلى الأفضل، وحرصك على تجنيبهم مغبّة ما جنيته. وإنما سرعان ما يجعل من (الحبّة قبّة)، ويطير بما قلته فرحاً، ويبثّه شرقاً وغرباً على كل الموجات، بعد أن يضيف إليه من (التوابل) ما يشاء. وفي مثل هؤلاء قال الشاعر طُرَيح بن إسماعيل الثَّقَفي:

     إن يسمَعوا الخيرَ يُخفُوه، وإن سمِعوا

                      شراً أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذَبوا

بلى، إن هذا الصنف من الناس قد يضطرك إلى البقاء في برزخ الخوف، وإلى الاستمرار في العيش بشخصيتين، إحداهما واقعية، والثانية مختلَقة، إن هؤلاء وأمثالهم هم صنّاع (مجتمعات الخوف)، وهم سدنته وكهنته، وهم الذين يشدّون البشرية إلى الخلف، ويحولون دون تقدّمنا بثبات نحو الإنسان الأعلى (السوبرمان)؛ الإنسان الذي دعا إليه الرسل والأنبياء والحكماء والفلاسفة العظام عبر مراحل التاريخ، ووصفه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بطريقته على لسان النبي الميدي زَرْدَشت، في كتابه (هكذا قال زرادشت)! 

6 – مكان تحت الشمس!

ومنذ سنوات قليلة فقط قاربتُ مشارف الحقيقة.

أدركت أن أثمن ما نهديه إلى أجيالنا هو (المعرفة الصائبة).

لا شيء أعظم من (المعرفة الصائبة).

ولا شيء أقوى من (المعرفة الصائبة).

ولا شيء أجدى من (المعرفة الصائبة).

منذ ذلك الحين حاكمت نفسي، وقررت الانخلاع من النمط الانحطاطي الذي رمز إليه نجيب محفوظ بـ (سيّد عبد الجواد)، وبدأت أجالس أولادي بين حين وآخر، وأكفّ عن سرد البطولات التي أزعم أني أنجزتها، وشرعت أسرد نقاط الضعف في شخصيتي، وأحلّل الهفوات والأخطاء التي وقعت فيها، وكنت ألاحظ أن الدهشة تتملّكهم أحياناً، ولعلّهم كانوا يقولون في سرّهم:

هل من المعقول أن والدنا كان ضعيفاً إلى هذا الحد؟!

وكان جاهلاً إلى هذا الحد؟!

وكان متهوّراً إلى هذا الحد؟!

وكان أحمق إلى هذا الحد؟!

وكان غبياً إلى هذا الحد؟!

بلى لعلهم كانوا يقولون هذا وأكثر في سرّهم، ولعل نظرتهم السابقة إليّ كانت تتعرّض للزلازل والانهيارات والانكسارات، ولعل صورة البطل الذي لا يُقهر، والحكيم الذي لا يُخطئ، والملا ك الذي لا يُذنب، كانت تفقد جزءاً من بريقها أو كل بريقها، ولعلها كانت تتفحّم.

لكن ما يسعدني أنني بهذه الكيفية استطعت الخروج من (دائرة الخوف)؛ الخوف من نفسي، والخوف من أن أعرف نفسي كما هي، بكل ما فيها من مساحات مضيئة ومساحات مظلمة، وأنني بهذه الكيفية استطعت أن أعرف نفسي (معرفة صائبة).

إننا بقدر ما نثق بأنفسنا نكفّ عن تضليل أجيالنا.

وبقدر ما نصارحهم بحقيقتنا نخرج بهم من (مجتمعات الخوف).

ونساعدهم على أن يجدوا لهم مكاناً مرموقاً تحت الشمس.

 (وإلى اللقاء في الحلقة الثلاثين والأخيرة).

  3 - 8 - 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 ====================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الثامنة والعشرون)

لوحات عتيقة لا تفارق الذاكرة!

1 – بين عهدين!

لكل محطة في تاريخنا – نحن البشر- مذاقها ونكهتها وأهميتها.

ومن الخطأ تقويم (تحديد قيمة) زمن ما بعيداً عن شروطه التاريخية.

ولعقد الخمسينيات من القرن الماضي في قرانا أكثر من دلالة.

إنه كان زمناً فاصلاً بين عهدين:

- عهد القرية المنجمعة على نفسها إلى حد الالتصاق بالذات.

- وعهد القرية المنفتحة المنفلتة المندلقة إلى حد الهرب من الذات.

قبيل الخمسينيات من القرن الماضي كانت قرى منطقتنا- وربما معظم القرى السورية- أشبه بالجمهوريات الإغريقية، أقصد أن كل قرية كانت كياناً مجتمعياً قائماً برأسه، كان لها شخصيتها وسمتها الخصوصي، فالقرية الفلانية معروفة بالكرم، وقرية كذا مشهورة بالبخل، وأهل قرية كذا ثرثارون، وأهل قرية كذا معروفون بحب الفكاهة، وأهل قرية كذا شرسون أكثر مما ينبغي، وقرية كذا مشهورة بحفلات أعراسها, وهكذا دواليك.

بل وصل الانكفاء على الذات حداً أن أغلب الزيجات كانت داخلية؛ الأقارب من الأقارب، والقرية من القرية، ونادراً ما كانت عروس (تُستورد)، أو عروس (تُصدَّر)، وفي الحالة الأخيرة كان شباب القرية يستنفرون بقيادة (شيخ الشباب)، ويقطعون الطريق على القادمين من القرية الأخرى لأخذ العروس، ولا يسمحون لهم بالخروج من القرية والعروس معهم إلا بدفع (خُوّة) تعادل ثمن خروف، وكان هذا الإجراء رمزاً تقليدياً مألوفاً وسنّة متّبعة، وكان يتمّ في الغالب بصورة ودّية، لكن الأمور كانت تتحوّل إلى مشكلة حقيقية، حينما كان والد الصهر الغريب يتهرّب من القاعدة، ويفتقر إلى الحصافة الكافية.    

2 – بركات المشاعية!

وقد قال شاعر صيني، عاش قبل الميلاد بقرون:

" أعمل حين تشرق الشمس.

وأنام حين تغيب.

أزرع حقلي لآكل.

وأحفر بئري لأشرب.

ففيم يهمّني سلطان الإمبراطور"؟!

والحق أن هذا القول يذكّرني بالحياة في قرانا خلال الخمسينيات من القرن الماضي.. لقد كانت كل قرية شبه مكتفية ذاتياً؛ فالنبعة كانت تزوّدنا بالماء العذب ليلاً ونهاراً.. البشر والحيوانات والشجر أحرار في أن يعبّوا من مياهها ما يشاؤون، لا عدّادات تحصي كل نقطة ماء، ولا فواتير حساب آخر كل شهر، بل كانت النبعة تراعي أحوال الطقس، فكانت في الصيف تقدّم لنا المياه باردةً، وفي الشتاء القارس كانت تنعم علينا بالمياه دفيئة.

وكانت الحقول تزوّدنا بالحبوب والخضار، وبقليل من الفواكه، وكانت قطعان الغنم والماعز والبقر تزوّدنا بالحليب واللبن والجبن والسمن وسائر المشتقات، إضافة إلى اللحم في مناسبات الأعياد والأعراس وحفلات الختان وفي المآتم. وما كان فناء بيت في القرية يخلو من الديكة والدجاج.

وكان معظم أثاث المنازل يُصنع ذاتياً أيضاً، كانت جداتنا وأمهاتنا وأخواتنا يقمن بتلك المهمة إلى جانب المهمات الأخرى الموكولة إليهن بحسب العرف والعادة، فكن يستغللن الأصواف والقطن لصنع الفرش والملاحف والمخدات والبسط وبعض أنواع السجاد والملابس.

وعلى الإجمال كانت العلاقات المعيشية في القرية تقوم على نوع من التكافل العفوي والمشاعية الفطرية، فمن يملك شيئاً كان لا يبخل به على من لا يملكه، هذا يفيض على الآخر من لبنه، وذاك من عنبه، وثالث من تينه، ورابع من زيتونه، وخامس من خضاره، وسادس من جبسه وبطيخه، وكانت العادة أن تتولّى كل أسرة أقاربها وجيرانها في الدرجة الأولى.

صحيح أن ظلمات الحرمان والشقاء كانت تخيّم على الحياة في قرانا.

لكن روحية التكافل كانت تفتح للمرء آفاقاً إنسانية مريحة.

3 – مسامير الرُّكَب!

وكان لكل فصل في قرانا حملاته، وأذكر منها حملات (دقّ البرغل) لفصل اللب عن القشر، ولا أجد تسمية أدقّ من هذه، إذ تسمى بالكردية (دانْ كُتانْ)، فالمعروف أن أهل القرى، في المجتمع السوري عامة، كانوا يعتمدون على خبز القمح والبرغل غذاءً رئيساً، وما كان الأرزّ يقدَّم إلا في الحفلات والمناسبات الخاصة، وفي هذا المناخ ولدت أمثال عامية، منها: (العز للرز)، والمثل القائل: (الخبز الحافْ بِعرّض الأكتاف)، [الحاف الذي يؤكل بلا إدام]، والمثل القائل: (البرغل مسامير الرُّكَب).

وجاء في كتب التراث العربي أن وفداً من العرب، قبل الإسلام، زار كسرى ملك فارس، وتكلّم زعيم الوفد فأحسن الكلام، فسألهم كسرى: ما هو طعامكم في بلادكم؟ فقالوا: البُرّ [القمح]. فقال كسرى: " هذا عقل البُرّ "!

وكان إعداد البرغل يمر بمراحل متعبة، إذ يجب غسل القمح جيداً، ثم تجفيفه، ثمّ طبخه يسيراً في قدر كبيرة جداً، ويسمّى حينئذ بالكردية (دانِهْ)، وبعد أن ييبس ال (دانه) يُنقل إلى ساحة ينتصب فيها جرن منقور في حجر ضخم يسمّى بالكردية (سُوقي)، ويقف كل مرة شابان حول الجرن مواجهةً، ويحمل كل منهما مهدّة خشبية ضخمة تسمّى بالكردية (ماكُوت)، وتُملأ الحفرة إلى منتصفها بالبرغل، ويُبلَّل بقليل من الماء، ثم يهوي الشابان عليه بالمهدّة، على نحو متتابع وبإيقاع منتظم.

ولم تكن هذه العملية تمر بصمت، بل كان الشابان يتبارزان، ويتبادلان نوعاً من الغناء الشعبي المتوافق مع إيقاع الضربات، الأمر الذي كان يضفي الحماس على العمل، ويبدّد الرتابة والشعور بالملل.

4 – للوجاهة ثمنها!

وكان للقرية رجالاتها، فالمختار هو الزعيم، وكان يُختار بالتوافق بين أهل القرية، آخذين بالاعتبار التقاطعات الفئوية في القرية، وكان من الضروري أن يكون المختار ثرياً على الغالب، راجح العقل، مسموع الكلمة، وأن يكون من العائلات القوية بعلاقاتها وامتداداتها.

ويساعد المختار في مهمته هيئة اختيارية مؤلفة من بعض الكبار المتصفين بالرزانة والحكمة، وكان من الضروري أن يتّخذ المختار (مضافة) [تسمّى بالكردية: أُودَهْ]، يقوم على الخدمة فيها شخص يسمّى (بَگْجي= حارس)، وهذه ال(أُوده) تكون مفتوحة لأهل القرية وللغرباء، سواء أكان المختار موجوداً أم غائباً، وتقدّم أسرة المختار للزوّار وللضيوف المأكل والمشرب وما يحتاجونه للنوم.

   وإذا ابتلي المختار بزوجة بخيلة غير حصيفة كان عليه الإسراع بالزواج من أخرى كريمة لبقة، وإلا فسرعان ما كانت سمعته تهوي إلى الحضيض، ليس بين أهل القرية فقط، بل بين القرى الأخرى أيضاً، وعند رجال الدرك وموظّفي الضرائب.

وكان بعض الطامحين إلى الشهرة ينافسون المختار أحياناً، فيتّخذون مضافة، تمهيداً لأن يكون مختاراً في المستقبل، وقد زار أحد الظرفاء مضافة كهذه، وكان الوقت ظهراً، فقدّم له صاحب المضافة الشاي، وحان العصر، والضيف ينتظر الطعام، فجاءه الشاي مرة أخرى، فما كان من الضيف إلا أن نهض، وراح يقيس المضافة طولاً عرضاً بخطواته، فسأله صاحب المضافة متعجّباً:

- ويحك يا فلان! ماذا تفعل؟!

- أريد أن أعرف كم طول مضافتك وكم عرضها؟!

- ولِمَ تريد معرفة ذلك؟!

- لأبني واحدة مثلها، وأكون وجيهاً؛ فالوجاهة أصبحت سهلة.. مضافة وكأس شاي!

 5 – زوّارنا!

وكان يرتاد قريتنا زوّار دوريّون، كانوا في الغالب ربيعيين وصيفيين؛ كان الإسكافي (أبو فارس) يحط برحاله تحت شجرة التوت الكبيرة إلى جانب النبع، ويبقى أياماً وهو يصلح لأهل القرية نعالهم لقاء قليل من المال. وكان الأرمني مراد يأتي مع كل ربيع لجلي القدور وسائر الأواني النحاسية، وطليها بالقصدير، وكان صحاب هذه المهنة يسمّى بالكردية (قِلينْجي).

وكان للغجر أيضاً توقيتهم الخاص، فينصبون خيامهم في ساحات البيادر، ويقوم رجالهم بصنع أنواع الغرابيل، وبعض الوسائل الزراعية الأخرى التي تدخل الجلود في صناعتها، في حين كانت نساؤهم يدرن على البيوت وهن يعرضن بضاعتهن من الإبر، والخيوط العادية والمطاطية، ومن الأزرار والأمشاط وغير ذلك.

على أن نساء قريتنا كن يبدين اهتماماً أكبر بزيارات العطار (عبد الجليل) إنه كان يرتاد القرية دورياً وقد جمع بضاعته في صندوقين خشبيين ضخمين، يحملهما حمار ضخم قوي، فتقبل النساء على ما في صندوقيه من صحون، وكؤوس وصابون وصودا وحنّاء وكبريت وخيوط، وغيرها، وكان العطار (عبد الجليل)- والحق يقال- بشوش الوجه، دمْث الأخلاق، ليّن العريكة، طويل الصبر، عفيف العين واللسان.

6 – صندوق الدنيا!

وإن أنس لا أنسى زائراً كان عزيزاً جداً على قلوبنا نحن الصبية، إنه حامل (صندوق الدنيا)، كان يأتي في العام مرة واحدة، يحمل صندوقه على ظهره، وينتقل به من ساحة إلى ساحة، فنتهافت عليه صبية وصبايا، بل كان أهلونا- ولا سيما الجدات- يشاطروننا تلك المتعة أيضاً؛ ولا عجب، فقد كنا منقطعين عن العالم، وما كنا ندرك في الأصل أن ثمة عالماً بالمعنى الذي نفهمه الآن. ولم نكن نعرف مذياعاً ولا سينما ولا تلفازاً، ولا صحفاً ولا مجلات مصوّرة.. إننا كنا نعبر إلى الدنيا عبر (صندوق الدنيا)!

وكان يكفي أن ندفع لصاحب الصندوق فرنكاً واحدًا [خمسة قروش]، فيسمح لأحدنا أن يُدخل رأسه في القطعة القماشية السوداء، ويطل عبر فتحة زجاجية صغيرة على عوالم عجيبة غريب: الكعبة بكسائها الأسود، الإمام علي بن أبي طالب وقد شطر بسيفه ذي الفَقار فارساً شطرين، عبلة في الهودج وعنترة على فرسه الأبجر ووجهه يتمعّر غضباً، الزير سالم وقد أشهر سيفه، أبو زيد الهلالي بشاربيه الغليظين المعقوفين .. إلخ.

7 – وللقرود رأيها!

ولا أنسى زائراً آخر كنا ننتظره بفارغ الصبر؛ إنه عارض القرد، لقد كان يدور على القرى صيفاً، وكان يركب في العادة حصاناً قوياً، ويمر بين البيوت بسرعة، وقد ربط القرد إلى مؤخرة السرج بسلسلة طويلة، وكان القرد يسير خلف الحصان تارة، ولكنه سرعان ما كان يقفز، ويستقر خلف صاحبه متمسكاً به، خوفاً من الصبية الشرسين والكلاب الغاضبة.

وكان منظر القرد الغريب يدهشنا، وكانت حركاته الرشيقة تستهوينا، فكنا نلاحق العارض حيثما سار، ونسير خلفه زرافات ووحداناً، ونحن نتحرّش بالقرد تارة، ونصيح به تارة أخرى بأصوات هي بين الخائفة والساخرة، فيهر القرد بغضب، ويزجرنا العارض بعصبية.

ولم يكن العارض يدور على جميع بيوت القرية، وإنما كان يقصد دار المختار والآغا فقط، فهما البيتان اللذان يستحقان الزيارة، لأنهما الأكثر ثراء، والأقدر على العطاء، وحال وصوله إلى فناء دار المختار كان ينقر على دفّه، ويغنّي للقرد، ويُصدر له الأوامر والإشارات، فيبدأ القرد بالرقص والقفز، والقيام بحركات بهلوانية مضحكة.

والفقرة الأخيرة كانت مسك الختام، إذ كان العارض يذكر اسم المختار مشفوعاً بالمديح، ثم يسأل القرد عن رأيه، فيقف القرد على رجليه الخلفيتين، واضعاً يده اليمنى فوق رأسه، شهادة منه بأن هذا المختار كريم ويستحق الاحترام. ثم يذكر العارض اسم مختار آخر، فكان القرد يحني رأسه إلى أسفل، ويرفع مؤخرته إلى أعلى، ويضع يده عليها، شهادة منه بأن ذلك المختار بخيل ويستحق الاحتقار؛ وهل كان من الممكن، أمام هذا الابتزاز، أن يتلكّأ المختار وأهله عن تقديم أفضل العطايا للعارض وقرده؟!

8 – عيب!!!

تلك لوحات عتيقة من صميم قرانا، وجدتُني منجذباً إلى تمريرها أمام مخيّلة أبنائنا وبناتنا، ليس كي يشفقوا علينا أكثر، وليس كي يسخروا منا أكثر، وإنما كي يفهمونا أكثر، وإلا فالكارثة الكبرى أن تبقى الأصول بلا فروع، وأن تنخلع الفروع من الأصول!

ولم يكن غرضي- وأنا أستعرض هذه اللوحات – هو تجميل صورة حياتنا في قرانا المنغلقة، فعالمنا ذلك كان يعجّ بالكثير من المساحات المظلمة، ولعلي أقف عندها يوماً ما بالتفصيل، ويكفي أنه كان عالماً منضوياً – بسبب ظروفه البدائية- تحت لواء الجهل والخرافة وضيق الأفق. لكن كان ثمة شيء واحد ومهم ينير تلك الظلمة الحالكة، وهو كلمة (عيب!!)؛ كان يكفي أن يقول الأب لابنه والأم لابنتها والكبير للصغير: (هذا عيب!!).

 وها نحن قد خرجنا من القرية (المنغلقة)، وكان ذلك ضرورياً، وها نحن قد اندفعنا بقوة إلى القرية (الممتدة)، وكان ذلك ضرورياً أيضاً، لكننا- وأقولها بألم- دخلنا متاهة القرية (المندلقة)، فخسرنا المنظومة الأخلاقية التي كانت تجسّدها كلمة (عيب!!).

ألا ما أروع أن ترفرف كلمة (عيب!!) في قرانا من جديد!

(وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة والعشرين ).

  15 - 7 - 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

============================

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة السابعة والعشرون)

أنت صاحب إمبراطورية.. فكيف تديرها؟!

1 – للإمبراطوريات ثمن!

الإمبراطورية دولة عظمى، تحكم شعوباً وقبائل كثيرة.

وفي تاريخ البشرية قامت إمبراطوريات،  وزالت إمبراطوريات!

إمبراطورية آشور امتدت من الخليج العربي والهضبة الإيرانية شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً.

وإمبراطورية ميديا امتدت من أفغانستان شرقاً إلى آسيا الصغرى غرباً.

وإمبراطورية فارس امتدت من حدود الصين شرقاً إلى بحر إيجة غرباً.

وإمبراطورية الإسكندر المكدوني امتدت من أواسط أوربا غرباً إلى الهند شرقاً.

وإمبراطورية روما امتدت من إنكلترا غرباً إلى نهر الفرات وأرمينيا شرقاً.

وإمبراطورية بني أميّة امتدت من حدود الصين شرقاً إلى إسبانيا غرباً.

وإمبراطورية المغول امتدت من المحيط الهادي شرقاً إلى بلاد الشام غرباً.

وإمبراطورية بني عثمان امتدت من جبال زاغروس شرقاً إلى النمسا في قلب أوربا غرباً.

وإمبراطورية روسيا احتلت ثلث الكرة الأرضية في آسيا وأوربا.

وإمبراطورية بريطانيا حكمت أقطاراً وشعوباً في القارات الخمس، وما كانت تغيب عنها الشمس.

ولا تنشأ الإمبراطوريات بسهولة.. إن قيامها بحاجة إلى جهود مضنية؛ ودموع تُسال، وجراح تَدمى، ورقاب تُقطع، وقلاع تُدمَّر، ومدن تُستباح، وأهرامات من الرؤوس تُقام، وملايين من البشر تُشرَّد، وقوافل من الأسرى تُباع في أسواق النخاسة كما تباع الأنعام.

2 – اهدأ قليلاً!!

ولعلك تهمس متحسّراً:

-  وأنا .. ماذا أملك من هذا العالم؟! أين أنا من سرجون الآشوري، وكيخسرو الميدي، وقورش الفارسي، والإسكندر الإغريقي، وهادريان الروماني، والوليد بن عبد الملك الأموي، وجنكيزخان المغولي، وتيمورلنك التتري، ومحمد الفاتح العثماني، وبطرس الأكبر الروسي، ونابليون الفرنسي، وملوك التاج البريطاني؟!

 أجل، أين أنا من كل هؤلاء؟!!  

حسناً.. اهدأ قليلاً، ولا تبتئس.. أنت أيضاً صاحب إمبراطورية.

حقاً أنت إمبراطور عظيم.. وإمبراطوريتك أكبر من جميع الإمبراطوريات؛ مع أنك لم تجرّد سيفاً، ولم تقد جيشاً، ولم تخض معركة، ولم تفتح حصناً، ولم تستبح مدينة، ولم تسفك دماً، ولم تقد أسيراً، ولم ترمل امرأة، ولم تيتم طفلاً.

إمبراطوريتك هي منحة من الله.

وكُتبت باسمك في الدنيا والآخرة.

أتدري ما هي؟!

إنها أنت.. إنها كيانك.. إنها ذاتك.

بلى.. حيثما تتنقّل إنما تتنقّل إمبراطورية بكاملها!

تتألّف إمبراطوريتك من حوالي ستين مليار خليّة، يموت منها كل ثانية حوالي خمسين مليوناً، فيحل محلّها خمسون مليوناً أخرى. وتضم إمبراطوريتك عشرات آلاف الكيلومترات من الأعصاب والأوردة والشرايين، يتجاوز طولها قطر كرتنا الأرضية. وفي إمبراطوريتك آلاف الأعضاء والأجهزة التي تعمل بنظام دقيق ليل نهار، فلا تكلّ ولا تملّ، ولا تتقاعس ولا تتهاون، ولا تطلب منك جزاء ولا شكوراً.

حقاً، أنت على رأس إمبراطورية مساحتها الكون، فلا أحد يضايقك، ومداها العمر، فلا أحد ينافسك.. فوّضك الله أن تكون فيها الحاكم الأوحد أمراً ونهياً، وإصلاحاً وتقويضاً، وتقديماً وتأخيراً.

3 – كيف تدير ذاتك؟

ولكل إمبراطورية:

-      مكوّنات مادية هي الجغرافيا والرعايا والثروات.

-      ومنطلقات مثالية روحية هي العقائد والقيم والتشريعات.

-      ومقوّمات شعورية جمالية هي الآداب والفنون.

-      وسياسات عملية هي القرارات والممارسات.

ولكل إمبراطورية مسؤوليات تتمثّل في تحقيق الانسجام والتناغم والتوافق بين هذه العناصر جميعها، وإلا فسرعان ما تتوالد فيها التناقضات، وتتفاقم فيها المشكلات، فتتمزّق وتصبح أشلاء، وتصبح الإمبراطورية بلاء على الإمبراطور نفسه وعلى الناس.

وكذلك إمبراطوريتك:

- مكوّناتك المادية هي جسدك ومظهرك.

- ومنطلقاتك المثالية والروحية هي عقيدتك وقيمك.

- ومقوّماتك الشعورية والجمالية هي أحاسيسك وعواطفك.

- وسياساتك العملية هي قراراتك وممارساتك.

و ما دمت صاحب إمبراطورية فكيف تديرها؟!

بلى.. كيف تدير ذاتك؟!   

4 – تعال أحدّثْك!

إلى أن تقعد مع ذاتك، وتلملم شتات أفكارك، تعال أحدّثك عن تجربتي؛ فقد اكتشفت في وقت متأخّر أني صاحب إمبراطورية، ووجدت نفسي كمن عرف فجأة أنه صاحب كنز ثمين، لكنه جهل قيمته، وفرّط فيه، ولم يدرك حقيقته إلا بعد حين. ومع ذلك لا بأس! فوعي الذات متأخراً أفضل ألف مرة من الغفلة الأبدية.

ولأبدأ بجغرافيا الجسد؛ فإن لإدارتها مقوّمات ثلاثة:

-      النظافة.

-      والرياضة.

-      والمأكل والمشرب.

أما النظافة فقد ربّتني عليها الوالدة- رحمها الله- منذ الصغر، وتلقّت هي تلك الخصلة من والدتها (جدّتي) رحمها الله، وبعد أن ازددت علماً تأكّد لي حقاً أن النظافة من الإيمان، وأن على المرء ألا يجعل من نفسه (سلّة مهملات) أو (كومة قاذورات)، لكن لا ينبغي أن يصبح مهووساً بالنظافة كالموسيقار الشهير محمد عبد الوهّاب؛ إذ كان كلما صافح شخصاً بادر إلى تطهير كفّه بالكحول (الإسبيرتو).

وأما الرياضة فكان لي شغف بها منذ الصبا، وكنا – نحن الصبية-نمارس في القرية رياضات فطرية؛ مثل الجري، وصعود الجبال، وهبوط الوديان، وتسلّق الأشجار العالية، وكانت هذه الرياضات تبني الجسم، وتمنحه الحيوية والمرونة، وتكسبه المتانة والصلابة.

وأذكر أن ساحات البيادر كانت (نوادي) لنا، نلتقي فيها لرياضة المصارعة، وهي رياضة حُرم منها اليوم أولادنا، وعلمت أن رياضة المصارعة كانت شائعة في قرانا سابقاً، وكان المصارعون المشاهير يدورون على القرى، ويدعون إلى المبارزة، بل كانت المصارعة من الفقرات الترفيهية الضرورية في ختام كل عرس.

وكنت - وما زلت- أنزع إلى الرياضات الفردية، كالسباحة والجري والمشي والتمارين وحمل الأثقال. وبما أن سكان القرى- بما فيهم أسرتي- كانوا يعدّون ممارسة الرياضة المنهجية ضرباً من الفذلكة، وخروجاً على الآداب العامة، كنت مضطراً إلى ممارستها ليلاً في أماكن منعزلة خارج القرية، وكان لي في كل موقع صخرة معيّنة لرياضة الأثقال.

 وأذكر أني انطلقت في ليلة صيفية إلى وادي ليلون (جنوبي القرية)، وأتممت برنامجي الرياضي، وفي طريق العودة أحسّ بي راع عجوز، فظنّني حاطب ليل، وما تخلّصت منه إلا بصعوبة، خشية أن يعرفني، وإلا فإن الجميع – بما فيهم الوالد رحمه الله- كان سيتساءل: ماذا يفعل أحمد خارج القرية في هذا الوقت من الليل؟! وكانت الظنون ستتوالد، والشكوك ستتفاقم.

وما زلت إلى يومنا هذا محتفظاً بحبي لرياضات ثلاث: السباحة، والمشي، والتمارين. وأحسب أن ذلك مهم جداً للاحتفاظ بجسدي متماسكاً ونشيطاً وفاعلاً.

وأما المأكل والمشرب فمنهجي فيهما الاعتدال، والتزام قاعدة: (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع)، أي لا نأكل إلى درجة التُّخَمَة. وأعلم يقيناً أن المأكل والمشرب ليسا هدفين، وإنما هما وسيلتان للاحتفاظ بالجسد حياً وحيوياً، وقادراً على التعامل والتفاعل مع المحيط والمواقف بكفاءة.

5 – نحو الجمال.

  وأدركت أيضاً أنه لا ينبغي أن تكون إمبراطوريتي خلواً من الإيمان العميق، والمبادئ المثالية، والقيم السامية، وصحيح أني تلقّيت هذه الأمور في البداية، وعلى نحو اتّباعي تقليدي، من الوالد رحمه الله، لكن مطالعاتي أغنت هذا الجانب كثيراً، وجعلته أكثر نضجاً، وأجدى فاعلية.

وأعتقد أني أفدت كثيراً من قراءة سير الأنبياء والحكماء والمتصوّفة والفلاسفة، ومن تفاصيل حياة العباقرة والمشاهير في سائر المجالات، وفي ثقافات مختلف الشعوب. وأحسب أن إمبراطورية مجرّدة من المبادئ والقيم السامية، هي إمبراطورية منفلتة من العقال، وليس نهايتها إلا الخراب والوبال، إذ بالقيم السامية يصبح المرء جديراً بإنسانيته.

وكنت منذ عهد الصبا جيّاش العواطف، رقيق الأحاسيس، مرهف المشاعر، أفرح فأفرح بصدق، وأكتئب فأكتئب بعمق، وأغضب فأغضب بشدّة، وكنت أعهد هذه الصفات بوضوح في الوالد رحمه الله، ولعلّها انتقلت إليّ عبر الجينات الوراثية، إذ ألمحها في إخوتي وأخواتي أيضاً، وأحسب أن هذه الصفات كانت- وما زالت- وراء ميلي إلى العزلة، ورغبتي في تحاشي الناس الذين قد أصبح معهم في ورطات انفعالية وصدمات شعورية.

وكنت- وما زلت- أؤمن أن كل إهمال لتربية المشاعر الرقيقة والنبيلة، وكل إهمال لتنمية الأحاسيس الجمالية، إنما يعني الابتعاد عن الفطرة الإنسانية، والانسياق مع نزعات الفظاظة والجلافة والتوحّش.

وأحسب أن الطبيعة الساحرة، والشعر الأصيل، والموسيقا الرائعة، واللوحات الفنية البديعة، تسمو بمشاعرنا، وتأخذ بأيدينا إلى عالم الرقة والجمال، كما أنها تنقذنا من كوابيس الحياة، وتريح أعصابنا، وتصحّح اتّجاه بوصلتنا الإنسانية، وتمنحنا القدرة على الحياة بصورة أكثر تفاؤلاً وإشراقاً. 

6 – حكمة سيريلانكية!

وقد أدهشني في هذا المضمار قول لطالبتي السيريلانكية (نَصيحة) منذ أشهر؛ إنها كانت ضمن مجموعة من الطالبات السيريلانكيات اللواتي أعلّمهن العربية، وكنت أدرّبهن على التعبير عن الذات، فقالت (نصيحة): أستاذي! أنا أحب رؤية الأزهار، ووجوه الأطفال؛ في الأزهار أجد الجمال، وفي وجوه الأطفال أجد البراءة.

قلت في نفسي: كم أنت متقدّمة شعورياً وجمالياً يا نصيحة!

حقاً، كي ترتقوا بمشاعركم الإنسانية، وبأحاسيسكم الجمالية، اقتربوا من الطبيعة، ادخلوا في علاقات جمالية مع الأشجار والأطيار، مع الأزاهير والفراشات والجداول، مع السحب والشفق، مع الهضاب والكثبان، مع الوهاد والجبال، ارموا بأنفسكم في أحضانها، تحدّثوا إليها، استمعوا إليها. ولا تنسوا وجوه الأطفال أبداً؛ وقد قيل قديماً:

     إذا قالت حَذامِ فصدّقوها         فإنّ القولَ ما قالت حَذامِ

وأقول على القياس:

    إذا قالت (نَصِيحةْ) فصدّقوها     فإن القولَ ما قالت (نصيحةْ)

7 – في الميزان!

ولتكن وقفتي الأخيرة مع سياساتي العملية في إمبراطوريتي، وكائناً من كنت، وفي أي موقع كنت، أقترح عليك أن تقتطع شهراً واحداً من حياتك، لاحظ كم من الأفكار فيه راودتك! وكم من الخواطر جالستك! وكم من الأحاسيس لابستك! وكم من العواطف اجتاحتك! وكم من المشاعر حاصرتك! وكم من المعضلات أشغلتك! وكم من العلاقات نسجت! وكم من القرارات اتّخذت! وكم من المواقف مارست! وكم من الأعمال أنجزت! وكم من الأهداف حققت!

ستجد نفسك أمام كمّ هائل من كل هذا.

وليس ذلك فحسب، بل أنت إزاء كل ما سبق في الميزان.. فقد تكون معرّضاً للنجاح أو للسقوط، وقد تصبح في القمة أو تتدحرج إلى الحضيض، وقد يقال فيك: ما أعقله! وما أنبله! وما أرقّه! أو قد يقال: ما أغباه! وما أنذله! وما أجفاه وأغلظه!

ولا تنس أيضاً أن إمبراطوريتك تتداخل- شئت أم أبيت- مع كيانات إمبراطورية أخرى لا تحصى؛ منها المسالم ومنها المتوحّش، منها المتنوّر ومنها الظلامي، منها النبيل والجليل والجميل، ومنها الدنيء واللئيم والقبيح، منها المحب الوفيّ المخلص، ومنها الكاره المناور الغادر. ولا ريب أن إدارة هذا الكم الهائل من العلاقات، مع هذا الكم الهائل من الكيانات، مسؤولية لا  تنبغي الاستهانة بها مطلقاً، وهي بحاجة ماسّة إلى رؤية منفتحة، ومعرفة واسعة، وحكمة بالغة، وعقل راجح، وفكر متيقّظ. وكي تمتلك هذه القدرات والمزايا لا بد أن تضع لنفسك برنامجاً له ثلاثة أبعاد:

-      بعد تثقيفي معرفي.

-      وبعد تأمّلي تجريبي.

-      وبعد تقويمي تطويري.

8 – مقترحات!

وأقترح عليك، عبر ثقافتي وتأمّلاتي وتجربتي، ما يأتي:

-       لا تُرد لغيرك ما لا تريده لنفسك.

-       اعتدل في كل شيء، واحذر التطرّف.

-       كن صريحاً وواضحاً، وتجنّب النفاق.

-       لا تتّخذ قرارات مصيرية وأنت غاضب.

-       لا تتسرّع، فالحكمة كل الحكمة في الصبر.

-       تواضع، ولا تستكبر، فبقدر ما تستكبر تُهان.

-       أنصف الآخرين من نفسك، ولا تظلم، فالظلم مرتعه وخيم.

-       عليك بالرِّفق في الأمور، فمن حُرِم الرفق حُرم الخير كله.

-       أحسن النيّة، وتكلّم بصدق، واعمل بإخلاص.

-       عامل الناس: الأكبر منك كأمك وأبيك، والأصغر منك كابنتك وابنك، ومن هم مثلك كأختك وأخيك.   

-   -   -

هكذا أحاول أن أدير إمبراطوريتي؛ أقصد: ذاتي.

فأفلح حيناً، وأخيب أحياناً أخرى.

 (وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة والعشرين ).

  1 - 7 - 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 =====================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة السادسة والعشرون)

الطريق إلى النجاح!

1 – شاة الأعمش!

جاء في بعض المصادر القديمة أن الأعْمَش – وهو من التابعين والمحدّثين والفقهاء المرحين- كان إذا ضاق صدره، يُقبِل على شاة له كانت في الدار، فيحدّثها بالأحاديث والأخبار، حتى قال بعض أهل الحديث: ألا ليتني كنت شاة الأعمش!

وأنا.. ترى هل يضيق صدري، فأفعل كما فعل الأعمش؟!

هل هذه الحلقات بالنسبة لي هي مثل شاة الأعمش؟!

هل هي نافذة أطل من خلالها على ذاتي قبل أن أطل على غيري؟!

هل هي حديث إلى (الذات) لكن عبر (الآخر).

ولماذا ننجذب إلى الحديث عن (الذات) عبر (الآخر)؟!

ترى ألأننا ألفنا أنفسنا، فمللناها وملّتنا، وسئمناها وسئمتنا؟!

أم لأننا نكون عبر (الآخر) أكثر قدرة على اكتشاف أنفسنا؟!

ربما.. بل هذا ما أرجّحه.

2 – خطورة الكتابة.

ومهما يكن فإن للكتابة عن الذات خطورة من جهتين:

·  فمن جهة لا تخلو حياة المرء من جوانب مضيئة، ومن ميزات وحسنات، وكي تستكمل اللوحات جميعها، وترسم صورة متكاملة للمشهد الحياتي، لا ترى بداً من أن تعرّج على تلك الجوانب المضيئة من سيرتك، وعندئذ قد تركبك شهوة الحديث عن النفس، فتنحو من حيث لا تدري إلى (النرجسية)، وتنزلق فتقع في قبضة (الأنانية)، وتعطي في النهاية انطباعاً للآخرين بأنك امرؤ تهيم بشخصك عشقاً، وتنادي على نفسك كأنك معروض في المزاد.

وهذا ما لا أرضاه لا لنفسي ولا لغيري.

·    ومن جهة أخرى لا تخلو حياة المرء من مساحات للهفوات والسقطات والكبوات، ومن مواقع للنكسات والهزائم، وكي تكون صادقاً مع نفسك، وواضحاً مع غيرك، لا ترى بداً من ذكر بعض الهفوات والسقطات من باب النبل، واستعراض بعض تلك الكبوات والنكسات والهزائم بقصد العبرة والعظة، فينقضّ بعض (عشّاق الفضائح) على ما جُدتَ به وأفصحت عنه، فيشهّر بك، ويضرب بك الأمثال في العار والشنار، ويصحّ فيك عندئذ قول الشاعر قديماً:

            ومن دعا الناسَ إلى ذمّـه      ذَمُّوه بالحـق وبالباطـلِ

وهذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه مهما كان متواضعاً.

ولا أدري، فقد أقع- من حيث لا أريد ولا أدري- في هذا المحظور وذاك، على أن ما يجعلني مطمئن النفس قرير العين أني لا أملك النيّة المبيّتة لا في التضخيم والتهويل، ولا في التقزيم والتضئيل. بل إن ما يجعلني راضياً عما أسرده هو أني أواكبك – عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة- في اكتشاف ما في حياتي وحياة جيلي من نجاحات وسقطات.. بلى، كنت فيما مضى منهمكاً فيها، متوحّداً بها، موجوداً لها، ودعوني أقل بعبارة أكثر إيجازاً: لقد كنتُها. أما الآن فأنا شاهد عليها، ومتأمّل فيها، ومقوِّم لها.

وشتّان بين أن تكون ضائعاً في ذاتك، وأن تكون مقوّماً لذاتك!

وارتأيت أن تكون حلقتنا هذه عن النجاح، عبر التساؤلات الآتية:

-       ما هو النجاح؟

-       ما ذا كانت طموحاتي؟

-       هل نجحتُ أم فشلت؟!

-       كيف ننجح؟ ومتى نخفق؟!

3 – ما هو النجاح؟!

بداية من المفيد التذكير بأن (النجاح) مفهوم نسبي مثل معظم المفاهيم، فلكل امرئ في هذا العالم نجاحات خاصة، وضمن مجالات محدّدة، وبمستويات مختلفة، على أن ثمة معياراً عاماً يمكننا الاحتكام إليه لمعرفة مدى نجاحنا أو إخفاقنا؛ ذلك المعيار هو (الهدف).

بلى، كي تعدّ ناجحاً أو فاشلاً ينبغي أن تكون لك أهداف معيّنة، سواء أكانت معنوية أم مادية، فردية ذاتية أم مجتمعية، وطنية قومية أم أممية عولمية، وبمقدار وصولك إلى تحقيق تلك الأهداف تكون ناجحاً، وبمدى بعدك عن الوصول إليها تعدّ مخفقاً. وكلما كانت الأهداف التي حققتَها سامية وجليلة، كانت نجاحاتك عظيمة ورائعة، وكانت إخفاقاتك من ثم مأساوية ومريعة. والعكس أيضاً صحيح.

ولا ننس أنه لا نجاح من غير وسائل وطرائق، ولعلكم تتذكّرون مقولة (الغاية تبرّر الوسيلة)، إنها مقولة شهيرة في الفكر السياسي، وقد بنى عليها الكاتب الإيطالي (ميكيافيللي) كتابه (الأمير). وأحسب من جانبي أن الغايات السامية والأهداف النبيلة يحتاج تحقيقها إلى وسائل شريفة ونبيلة. أجل، ينبغي أن تكون الوسيلة من جنس الغاية والهدف، وإلا فإن النجاح الذي يتمّ بوسائل منحطة ودنيئة ولئيمة هو نجاح تافه ومخادع وزائف، لا بل هو في الحقيقة فشل ما بعده فشل، وخيبة ما بعدها خيبة، إنه مجرد زبد، [ فأمّا الزََبَدُ فيذهبُ جُفاءً. وأمّا ما ينفع الناسَ فيمكُثُ في الأرض] [سورة الرعد / الآية 17].

وقد كنت في عهد الشباب طموحاً جداً، كنت بعيد الغايات، كثير الأهداف، متشعّب التطلّعات، شأني في ذلك شأن الشباب في كل عصر، وكانت تلك الطموحات في مجملها من صنفين:

·       صنف ذاتي ذو طابع معنوي مثالي.

·       وصنف مجتمعي، جمع بين المثالية والمادية.

4 – طموحات ذاتية.

    كانت طموحاتي، بشكل عام، ثقافية فكرية أدبية كنت أطمح إلى أن أكون شاعراً كبيراً كالمتنبي والمعري، وباحثاً قديراً كعباس محمود العقّاد، وروائياً ذا أفق إنساني مثل تولستوي الروسي، وفيلسوفاً جادّاً مثل سقراط اليوناني، ومفكّراً ثائراً ومتمرداً مثل نتشه الألماني، وأديباً كأبي حيّان التوحيدي، ومنظّراً موسوعياً كأبي حامد الغزالي.

حقاً كلما كنت أقرأ ديواناً لشاعر أصيل، أو رواية لروائي قدير، أو كتاباً لمفكر رحيب النظرة، أو نظرية لفيلسوف نبيل الغاية، كنت أجدني أتحمّس للسير في الاتجاه نفسه، وأقول لنفسي: هذا ما ينبغي أن أحققه. وكنت أنهج ذلك النهج، فأسير فيه أشواطاً، ثم أعدل إلى غيره.

وأقلّب النظر أحياناً في كتاباتي الشبابية فأجدها متوزّعة على محورين:

·  محور أدبي: فقد كنت أكتب قصائد الشعر في مواقف وجدانية مثيرة.. كنت أنفّث بها عن كروبي، وأضمّنها غضبي وثورتي على ممارسات ظالمة وظلامية، وأودعها رؤيتي إلى الحياة والمجتمع، إنها كانت قصائد من الشعر العمودي تارة، وأخرى من الشعر الحديث الموزون تارة أخرى.

·  ومحور فكري فلسفي: فقد كنت أكتب كتابات رومانسية الطابع، فلسفية النزعة، ثورية الروح، تمردية الاتجاه، وكنت أجري أفكاري ومشاعري تارة على ألسنة شخصيات رمزية، وتارة على شكل شبيه جداًً بكتاب (هكذا تكلم زرادشت) لنيتشه. كان هذا دون أن أبلغ الثلاثين من العمر، وبعد الثلاثين ونتيجة انكبابي على كتب التاريخ شرعت في كتابات حول الحضارة الإسلامية، لكن ليس من منظور الرصد التاريخي للأحداث، وإنما من منظور فلسفة الحدث التاريخي.

 وقد تغيّرت الحال بعد التحاقي بالدراسات العليا، وتخصّصي في الأدب العربي والنقد الأدبي، فقد انصب الاهتمام، إلى حد كبير، على الدراسات الأدبية والنقدية، وأخذت أهدافي الفكرية طابعاً أكاديمياً منهجياً.

ويمكنني القول بأن الضوابط الأكاديمية قمعت انطلاقاتي الثورية الشبابية، وأصبحت ملزَماً بالتحرك فكرياً وثقافياً ضمن أطر محدّدة سلفاً، كما أصبحت مطالََباً بأن ألوك سلسلة من النظريات القديمة والحديثة، وآخذ بها دونما تفكير نقدي في صحتها وجدواها. وأقول بصراحة وواقعية: لقد نجحت أكاديمياً إلى حد معقول، لكني في الوقت نفسه خسرت انطلاقاتي الشبابية، وخرجت من عالم (التثوير والتجديد) إلى عالم (التنميط والتجميد). وشتان ما بين العالمين! 

5 – غايات مجتمعية.

      وإلى جانب الغايات المثالية المعنوية برزت في حياتي غايات امتزج فيها ما هو معنوي بما هو مادي، والعجيب أني ما كنت أطمح في شبابي الأول إلى غايات مادية، من النوع الذي يتطلّع إليه الشباب عادة؛ كالزواج، وامتلاك بيت فاره، وسيارة فخمة، وأملاك وعقارات، ومنصب يدرّ مالاً وفيراً، وغير ذلك.

     كنت بشكل عام ذا نزعة وجودية زهدية على الصعيد الذاتي، ولم أجد نفسي ملتفتاً بشكل جادّ إلى الشؤون المعاشية إلا بعد وفاة الوالد – رحمه الله- في بداية سنة (1973م)؛ فالآباء في الريف يتحمّلون عبء تأمين مصادر الرزق، وإدارة الشؤون المعاشية، بشكل شبه كامل، فلا يشعر الأولاد بجسامة تلك المسؤولية وخطورتها إلا بعد رحيلهم.

   أجل، أدركت بعد رحيل الوالد إلى العالم الآخر أني صرت المسؤول الأول عن أسرة كبيرة تضم عشرة أفراد، مع شحّة في مصادر العيش، وازدياد في متطلبات الحياة، ثم زاد العبء عليّ بعد أن ألزمتني الوالدة – رحمها الله- بالزواج سنة (1974م)، إذ كنت عازفاً عنه أيضاً من منظور وجودي زهدي، وازداد العبء أكثر فأكثر بعد أن رُزقت بسبعة بنين، هم على الترتيب: محمود، وصلاح الدين، وعلاء الدين، ومحمد، وشِيار، ومصطفى، وجُوان. وأراني أخاطب نفسي بين حين وآخر: انتبهوا معشر الآباء! لا يكفي أن تنجبوا أولاداً، وإنما ينبغي أن تعدّوهم للحياة، وتعدّوا لهم الحياة.. تلك هي مسؤوليتكم ما دمتم اخترتم سبيل الزواج.

     ويمكنني القول بأنني حققت نجاحات متواضعة في هذا الميدان، لكنها معقولة ومقبولة بشكل عام، ولا أدري كيف يحكم عليّ أبنائي في قرارة أنفسهم، لكنهم يدركون يقيناً أني كنت مخلصاً وجادّاً في تحمّل مسؤولياتي الأبوية، وأني اجتهدت فأصبت تارة، وأخطأت تارات كثيرة.   

6 – كيف نحقّق النجاح؟!

قلت فيما سبق: لا يُعدّ المرء ناجحاً ما لم تكن له أهداف وغايات أولاً، وما لم يصل إلى تلك الأهداف والغايات ثانياً. لكن من الوهم أن نتصوّر أن الطرق إلى أهدافنا معبّدة ومفروشة بالأزاهير، إن للنجاح عوامل ذاتية (داخلية/جوّانية)، وأخرى موضوعية (خارجية/ برّانية). وكي ننجح في تحقيق طموحاتنا وغاياتنا نحتاج- فيما علمت من تجربتي- إلى جملة من الأمور، وسأصوغها على شكل إرشادات:

1- انتقل من الطموحات المتشعّبة إلى طموحات محدّدة؛ فالطموحات المحدّدة تساعدك على التركيز.

2- اختر الطموحات المناسبة لقدراتك الذاتية، وتتوقّع أنها ستسعدك، ولا تُلزم نفسك بما لا يَلزم.

3- عندما تختار طموحاتك خذ الظروف الموضوعية (الخارجية) في الاعتبار، وإلا فأنت تحكم على نفسك بالفشل.

4- كي تكون سعيداً بنجاحاتك اختر غايات إنسانية نبيلة.

5-  كي تكون فخوراً بطموحاتك توجّه إليها بوسائل شريفة.

6- لا تخجل من الطموحات المتواضعة في البداية، لكن لا تتردّد في تطويرها وتوسيعها وتعميقها كلما أتيحت لك الفرصة.

7-  لا ترتعد أمام الطموح الكبير، جزّئه إلى مراحل متدرّجة.

8- بقدر ما تكون مؤمناً بأهدافك تكون مخلصاً وجاداً في العمل لتحقيقها، وتكون على استعداد للتضحية من أجلها.

9- إدارة الذات على نحو واعٍ هي الطريق إلى تحقيق الطموحات.

10-                    لا نجاح في الحياة، ولا تحقيق للطموحات، مع التفريط في الأوقات.

11-      كن عنيداً، ولا تستسلم للهزائم، فالهزائم الكبرى تصنع انتصارات كبرى، إذا أحسنا قراءتها وتقويمها.

12- لا تكتئب حتى وإن أخفقت في كل طموحاتك، إذ يكفي أنك حاولت، وهذا في حد ذاته انتصار لك، وقد قال الشاعر قديماً:

            على المرء أن يسعى لِما فيه نفعُه

                           وليس عليـه أن يساعده الدهرُ

وبعدُ..

جاءت هذه الموجّهات عفو الخاطر.

ولعل فيها فائدة.

(وإلى اللقاء في الحلقة السابعة والعشرين ).

   16 - 6- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 =============================

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الخامسة والعشرون)

هذا ما تعلّمته من الوالد!

1 – أنت نتاج أسرتك.

الأسرة هي (المَشْغَل) الأول والأساسي الذي ينتج (الإنسان).

واعذروني إذا استخدمت عبارات هي ألصق بميادين علم الاقتصاد منها بميادين علم الاجتماع، لكن تلك هي الحقيقة، وأراني أصبح أكثر اقتناعاً يوماً بعد يوم أن قوانين الكون والوجود تتماثل، من حيث الجوهر، في جميع الميادين، وما نراه من اختلافات فهي لا تتجاوز المظاهر والوظائف.

ولأسرتنا الكونية الكبرى قوانين تضبط مساراتها، وما أسرتنا الصغرى (العائلة) إلا جزء منها، وما كل فرد منا سوى نتاج قوانين ومُناخات ذلك (المشغل/ الأسرة)؛ وهذا ما عبّر عنه الشاعر المعتمد بن عبّاد في قوله:

          شِيَمُ الأُلى أنا منهـمُ      والأصلُ تتبعـه الفروعْ

وسبق القول أن ما أدوّنه في هذه الحلقات هو سيرة (جيل) بقدر ما هو سيرة (شخص)، وكي تكون الصورة أوضح لا بد من إضاءات عوامل أسرية لها علاقة مباشرة بتكوين شخصيتي، ولعل في ذلك تشجيعاً على البحث في المناخ الأسري، والوقوف عنده وقفة نقدية، وفي ذلك فائدة للآباء والأمهات، كما أن فيه نفعاً للأبناء والبنات، فيعدّون للأمر عدّته.

2 – إضاءات تربوية.

وأعتقد أن المبادئ التربوية والقيم الخلقية، في الإطار الأسري، تنتقل إلى الأولاد- بنين وبناتٍ وحفدةً وحفيدات- عبر ثلاث قنوات رئيسة، تستوي في ذلك الأسر سواء أكانت قديمة أم معاصرة، جاهلة أم متعلمة:

·  الأولى هي الموجّهات والإرشادات النظرية المباشرة: إذ درجت العادة أن الآباء والأمهات والأجداد والجدّات، يجودون بها على الأولاد في المواقف الحياتية المختلفة، ويصوغونها على شكل ثناءات وترغيبات ومكافآت وأوامر، أو على شكل تأنيبات وتحذيرات ونواهٍ وزواجر وعقوبات.

·  والثانية هي الموجّهات والإرشادات النظرية غير المباشرة: ويكتسبها الأولاد عبر ما يسمعون، في إطار الأسرة، من ملاحم وقصص وحكايات وأمثال وآراء وتعليقات على الآخرين.

·  والثالثة هي الموجّهات والإرشادات العملية: ويكتسبها الأولاد عبر (الاقتداء)؛ فالآباء والأمهات قدوة للأولاد في كل صغيرة وكبيرة، ولا سيما في مراحل الطفولة والصبا والمراهقة، ومن الضروري أن ينتبه الآباء والأمهات إلى خطورة (القدوة)، وإلى تأثيرها البالغ في تكوين الشخصية.

وسأقتصر ها هنا على الوقوف عند جوانب من شخصية الوالد- رحمه الله- أحسب أنها أثّرت في تكوين شخصيتي. ولن أزعم أنه كان يمتلك منهجاً تربوياً متكاملاً، ولن أزعم أيضاً أنه كان يعاملنا - نحن معشر أبنائه وبناته- وفق ذلك المنهج دائماً، أو أنه كان يراجع منهجه، فيعدّل ويلغي، ويضيف ويحذف، حسبما هو المفروض في مجال التربية المنهجية الواعية.

ولا عيب من الإقرار بأن ثقافة آبائنا لم تخلُ من بعض البدائية، إنها كانت مزيجاً من ثقافة عصر الرعي والزراعة، وكانت تقوم على الفطرة والارتجال. لكن في الوقت نفسه لن أزعم أن الوالد كان يقوم بتربيتنا على نحو اعتباطي، فهو كان على قدر متقدّم من العلم قياساً بالمستوى الثقافي الذي كان سائداً في أريافنا حينذاك، وكان لثقافته بعدان رئيسان:

·  بعد ديني: وكلنا يعلم موقع الضوابط التربوية والقيم الخلقية في التراث الإسلامي، ومحال أن تبقى تلك الضوابط والقيم بعيدة عن المسار التربوي العام للوالد.

·  وبعد علمي: إذ كان يجيد علم الحساب، وله اطّلاع على التاريخ والفلك، ولا ريب أن معارفه الضئيلة تلك كانت تصقل رؤيته الحياتية بشكل عام، ورؤيته التربوية بشكل خاص.

3 – الداء الخطير!

وحينما أراجع مسارات الوالد التربوية يتّضح لي أنها كانت تقوم على جملة من الأسس الراسخة في شخصيته هو، وهذا ما سأقف عنده بإيجاز:

كان الجد والإتقان في مباشرة المهامّ والأعمال من الصفات التي تميّز بها الوالد، وكان يقسو على نفسه وعلى غيره في هذا الباب، سواء أكان ذلك في مجال التعليم باعتباره شيخاً للكُتاب، أم في مجال ممارسة الأعمال الزراعية باعتباره كان مزارعاً.

إنه كان يلتزم الجد مع الطلبة، ويقسو عليهم، ويصرّ على أن ينفّذوا بدقّة ما يضع لهم من منهج في القراءة والكتابة والحساب، ويحاسب بصرامة على كل تقصير، بل كان يعاقب كل من يتلكّأ أو يهمل إنجاز ما كُلّف به؛ الأمر الذي كان يجرّ عليه نقمة بعض الطلبة، فتأتي أمهاتهم إلى الوالدة – رحمها الله- ناقمات شاكيات.

وكانت الوالدة تنقل الشكوى إلى الوالد، وتطلب منه التساهل والمرونة في معاملة الطلبة، فيرفض ذلك رفضاً قاطعاً، ويقول غاضباً: هل تريدين أن أكسب الرزق بالحرام؟! هل تنسين أن الله يراقبني؟! هذه هي طريقتي، فمن شاء فليأت، ومن شاء فليمض.

وأراني في كثير من الأحيان مثل الوالد، فإذا كنت بصدد كتابة بحث، أو إعداد بعض ما يتعلّق بالنشاط التعليمي، أجدني منهمكاً فيه كل الانهماك، بل تمرّ ساعات طويلة من غير أن أشعر بملل أو كلل، وقد يمر من الليل ثلثاه، فلا أخلد إلى النوم إلا بعد إنجاز ما يجب إنجازه، وأحياناً أقضي يوماً كاملاً في المكتبة، بحثاً عن مصادر ومعلومات، دونما شعور بالجوع أو بالتعب، حتى إذا عدت إلى المنزل ظهر الإرهاق بوضوح، فأعجب وأقول لنفسي: إذاً كيف كنت أعمل كل هذه الساعات؟!

ومن جملة ما لاحظت على نفسي أني لا أرتاح إذا عملت مع فريق دأبه الاهتمام بالمظاهر في أداء المهامّ، وعدم الحرص على الإتقان، فأضيق بهم ذرعاً، وأجدني مضطراً إلى معارضتهم، وما أكثر تفشّي هذا الداء في مجتمعات شرقي المتوسّط! بل لست مبالغاً إذا قلت: إن هذه العادة الذميمة من أبرز العوامل التي جعلت مجتمعاتنا قاصرة حضارياً. ومن أكثر لحظات حياتي تعاسة أن أجد نفسي ملزَماً بالعمل مع فريق كهذا، وأحسب أن نفوري من هذا النهج هو الذي جعلني أميل إلى العمل منفرداً، ليس ترفّعاً ولا تميّزاً، ولكن حرصاً على الإنجاز بالكيفية التي أؤمن بها وأرتاح لها.

كما ألاحظ حرصي على توجيه طلبتي، أينما كانوا، إلى التزام الجد والإتقان في الأمور، وعدم الاكتفاء بالمظاهر البرّاقة الخادعة، وأجد نفس عنيداً في هذا الباب، ولا أرضى من الطلبة إلا بما هو أفضل، وصحيح أن هذا النهج يزعج قلّة قليلة من الطلبة المتوانين، لكني ألمس علامات الرضا عند الغالبية العظمى منهم.

3 – مبادئ .. لا مصالح!

والناس بشكل عام فريقان:

·  فريق يلتزم المبادئ السامية، ويقدّمها على المصالح النفعية المادية، وهؤلاء هم حرّاس القيم النبيلة، وصنّاع التاريخ الإنساني الناصع، وهم الأكثر عطاء والأكثر ألماً، والمؤلم أن كثيرين منهم يلقون الاضطهاد في مجتمعاتهم، ولا يُعرف قدرهم الحقيقي إلا بعد حين.

·  وفريق يجعل الأولوية للمصالح، ولا يتردّد في التغنّي بالمبادئ في المحافل، وهؤلاء هم أتباع المنهج المكيافيللي القائم على أن (الغاية تبرّر الوسيلة)، وهؤلاء هم الذين ينحرفون بالبشرية عن المسار القويم، ويجرّون على مجتمعاتهم التخلّف والخزي والآلام.

أما الوالد – رحمه الله- فكان بحق رجل المبادئ السامية، لا يهادن في ذلك ولا يداهن ولا يجامل، وكان نهجه هذا يجرّ عليه المتاعب والخصومات، ولا سيما من قبل المتنفّذين في المجتمع.

ومن المبادئ التي رأيت الوالد متمسّكاً بها إيمانه أن الناس سواسية، وأن التصنيفات الاجتماعية مصطنعة، فالبشر كلهم خلق الله، لا فرق بين غجري وآغا، وينبغي أن يكرَّم الإنسان بغضّ النظر عن الطبقة التي صُنّف فيها. وأذكر في هذا الصدد أن أهل القرية كانوا ينظرون بضعة إلى فئتين من البشر: الغجر والطبّالة، لكن كثيراً ما رأيت الغجري الكهل (چِيلُو) وكبير الطبّالة العجوز (جابر) يرتادان بيتنا، فيقوم الوالد بضيافتهما وإكرامهما مثل إكرام أي ضيف أو زائر رفيع المقام، غير ملتفت إلى احتجاجات الوالدة والجدة مدينة.

ويعلم أبناء منطقتنا أن كلمة (آغا) لقب كردي اجتماعي، تعني الكردية (سيّد/ وجيه)، وتماثل لقب (مهراجا) في المجتمع الهندي، ولقب (سير) عند الإنكليز، ولقب (بارون) عن الفرنسيين، والآغاوات هم في الحقيقة سادة القبائل الكردية، إنهم يمتازون بالوسامة في الأشكال، وبالغنى في الملكية، إلى جانب حرص الأصلاء والعريقين منهم على التزام النبيل من الخصال والكريم من الفعال.

والغريب أن الوالد – رحمه الله- ما كان يخاطب من ينتمون إلى هذه الطبقة بلقب (آغا)، بخلاف ما اعتاد عليه الصغير والكبير في مجتمعنا الكردي، وما سمعته فعل ذلك قطّ. وأذكر في منتصف الستينيات من القرن الماضي أنه قدم ذات ليلة شتوية من (المضافة) [وهي غرفة واسعة، كان مختار كل قرية يخصّصها لأهل القرية يجتمعون فيها، فيتسامرون ويتباحثون ويتناقشون، ويتلقّى فيها الغرباء الضيافة والقِرى]. وقال لي وهو بين المبتسم والغاضب:

-       كنا في المضافة، وإذا بفلان [وهو ابن أحد كبار آغاوات منطقة جُومة] يدخل، فخاطبه الجميع بلقب (آغا)، واكتفيت بأن خاطبته باسمه مجرّداً، فظهر الامتعاض على وجهه وفي كلماته، وكدت أن أؤنّبه، لولا أنه ضيف.

ثم علّق قائلاً:

-                       ماذا يظن هذا الشاب نفسه؟! هل منحه الله لقب (آغا)؟!

وألاحظ أني أنفر من مصاحبة الكبراء والمستكبرين من أصحاب الألقاب، ولا أسمح لنفسي أن أُشعرهم بأنهم أرفع منزلة من غيرهم لمجرد حملهم تلك الألقاب، وهذا ما يجعلهم غير مرتاحين إليّ، لكني – وفي الوقت نفسه- لا أبخس الفضلاء منهم حقهم في التقدير والتكريم، إذ الأصل عندي هو: ما هي رؤيتك؟ وما هو سلوكك؟ وليس: ما هو لقبك؟

4 – الفحّامون!

وكان الكرم في الوالد طبعاً راسخاً، وشهدت من مواقفه في ذلك ما كان يدهشني حقاً، ولا سيما حينما كنت أقارنها بضيق ذات يدنا أحياناً، وبحرص الوالد على الاقتصاد والتدبير، وبكرهه للإسراف، وما كنت حينذاك قادراً على تمييز الفواصل الدقيقة بين الاقتصاد والبخل، وبين الكرم والإسراف.

وأذكر في هذا الصدد الموقف الآتي:

كان بعض سكان القرى الغربية في المنطقة يستثمرون أشجار الغابات لصناعة الفحم، ثم يبيعونه لأصحاب الأفران والحدادين في حلب، وكان بعض أهالي القرى القريبة من حلب يقومون بمهمة نقل الفحم على ظهور الدواب ليلاً، لئلا تحس بهم السلطات المختصة، فتنزل بهم العقوبات.

وكان الزمن منتصف الستينيات من القرن العشرين، وكان الفصل شتاء والوقت ليلاً، والمطر ينهمر بغزارة، والريح تعصف بشدّة، فخرج الوالد لصلاة العشاء، وبعد فترة إذا به ينادي وهو في فناء البيت: أحمد! محمد! محمود! هيا.. تعالوا! وكنا قد اعتدنا أن نسرع إلى تلبيته دون تأخير. فتركنا ما بين أيدينا من كتب ودفاتر وأقلام، وخرجنا في العتمة وإذا برجال خمسة وبغال عليها أحمال من الفحم. وسرعان ما أصدر الوالد إلينا أوامره:

-       ساعدوا هؤلاء الرجال في تنزيل الأحمال، وضعوها هناك [أشار إلى غرفة صغيرة بجانب المطبخ] ثم خذوا البغال إلى حظيرة جارنا فهي كبيرة، وقدّموا لها العلف.

أسرعنا إلى تنفيذ المطلوب، وعدنا إلى البيت ونحن نتصبّب ماء من شدّة المطر، فوجدنا الرجال وقد أجلسهم الوالد في صدر البيت على فرش وثيرة كانت تفرش عادة للضيوف.

ورأينا الوالدة في المطبخ تعمل لإعداد عشاء للضيوف، ووجدناها ناقمة، ليس لانشغالها بأمر العشاء، فهي- والحق يقال- كانت كريمة النفس، رحيمة القلب، لكن ما ساءها أنها كانت- مثل سائر نساء قرانا- تقسّم الفُرش قسمين: قسم للاستعمال المنزلي العادي. وقسم ما كان يستعمل في العادة إلا في المناسبات غير العادية، مثل قدوم ضيوف مرموقي المكانة، أو في حفلات الأعراس، وغير ذلك. لكن الوالد ألزمها بأن تفرش لهؤلاء الضيوف من تلك الفرش الخاصة، رغم ثيابهم الملطّخة بالأوحال والفحم والمطر.

وفي فجر صباح اليوم التالي أيقظنا الوالد لجلب البغال، ومساعدة الضيوف على تحميل الأحمال، وإرشادهم إلى الطريق الرئيسة خارج القرية، ثم شرح الموقف للوالدة: خرجت من المسجد آخر الناس، فسمعت لغطاً بجانب السور، وإذا بي أجد هؤلاء الفحّامين قد لجأوا إلى الجدار خشية المطر والريح، فكيف أتركهم في تلك الحال؟! قد تقولين: إن استقبال الغرباء هي من مهمات المختار! هذا صحيح.. لكنك تعلمين أنه ليس من عادتي أن آخذ ضيوفي إلى بيوت الآخرين. وأعلم أنك كنت ناقمة لجلوسهم ونومهم بثيابهم الملطّخة في الفرش النظيفة. لكن الماء والصابون كفيلان بإزالة كل شيء. أما البخل واللؤم فلا شيء يقوى على إزالتهما.

وبعد وفاة الوالد بسنين عديدة قال لي عمّي علي رحمه الله:

- كان والدك متّصفاً بالكرم منذ صباه، إنه كان يجلس على الطريق العامة في (شدود) [قرية في منطقة الباب، شمال شرقي حلب، ولد فيها الوالد وأمضى فيها شبابه] فيقتنص الضيوف، ويأتي بهم إلى البيت في أوقات صعبة مادياً أحياناً، الأمر الذي كان يوقع جدّك وجدّتك في مواقف محرجة.

ولست أزعم أني في الكرم مثل الوالد، لكني أجد نفسي أريحياً في استقبال الضيوف والغرباء والمحتاجين عامة، ومن أية طبقة كانوا، وأشعر بسعادة كبرى عندما أقدّم لهم ما أملك.    

4– المحرّمات الأربع!

وكان الوالد متمسّكاً بالمُثل العليا والمبادئ السامية، حريصاً على فضائل الأخلاق، وكان يحاول غرسها في قلوبنا وعقولنا، ويلزمنا بها إلزاماً منذ الصغر، ولا يقبل منا أي خروج عن جادّة الصواب، بل كان يحاسبنا ويعاقبنا بشدّة عند كل تهاون في هذا المجال. وأحفظ للوالد - رحمه الله- من جملة ما أحفظ له، وهو كثير، أنه ألزمني منذ الصغر أموراً أربعة:

-       أولها تجنّب الكذب: إنه كان يحمل على الكذب والكذّابين حملات شعواء، ويحذّرنا على الدوام من الكذب، ويعدّه منقصة كبيرة، موقناً يقيناً مطلقاً أن (الصدق منجاة، والكذب مهواة). وقد تأصّلت هذه القيمة الخلقية الرفيعة – بحمد الله- في نفسي، وقطفت ثمارها اليانعة في المواقف مهما كانت صعبة.

-       وثانيها تجنّب مجالس الخمرة: فقد كانت هذه المجالس تُعقد في قرانا أحياناً، وكان بعض عِلْية القوم ومحبّي الظهور ومدّعي التميّز في القرية يعقدونها في أماكن خاصة، ولا سيما في مناسبات الأعراس. ومنذ صغري كان الوالد يحذّرني من حضور حفلات الأعراس التي تُعقد فيها مجالس الخمرة، فأصبحت – بحمد الله- وبفضل الوالد بمنجاة من تلك العادة الذميمة.

-        وثالثها تجنّب مجالس القمار: فقد كانت تلك المجالس شائعة في قرانا، وصحيح أن معظم تلك الجلسات كانت من باب تزجية الوقت شتاء، لكن علمت بعدئذ أن بعض كبار القوم كانوا يتقامرون فيها حقيقة. بل علمت أن بعض الوجهاء والمخاتير كانوا يعقدونها شتاء، فتتواصل نهارًا وليلاً، وكان ثمّة من يخسر فيها حتى قوت عياله. وأذكر أن بعض نساء القرية من أمهات وزوجات كنّ يأتين إلى الوالد، فيشكون أبناءهن وأزواجهن المقامرين، فلا يتردّد الوالد في نصحهم وتبصيرهم بعواقب فعلتهم.

-       ورابعها تجنّب التدخين: فقد كان التدخين- وما يزال – شائعًا للأسف الشديد في مجتمعنا. وأذكر أني اقتنيت من باب الفضول، وبعد أن بلغت الثامنة عشرة من العمر، علبة سجائر واحدة، ودخّنت منها سيجارة واحدة إلى منتصفها، فشعرت بالنفور والتقزّز، ورميت العلبة جانباً. وما زلت أعجب كيف يبدّد المدخّنون صحّتهم وأموالهم في شيء مزعج كهذا!

-   -   -   -

هذا غيض من فيض مما تعلّمته من الوالد.

وأقدّر له ذلك أعظم التقدير.

ألا ما أسعد الأبناء والبنات الذين يحظون بأسر تعلّمهم الفضيلة!

وتضع أقدامهم على الطريق إلى حياة رشيدة وصالحة!

ألا إنها نعمة لا تقدَّر بثمن!

[ أعتذر عن التأخير في تقديم هذه الحلقة، فقد كنت أنجزت القسم الأكبر منها، لكن صُدمت نفسياً عند سماع خبر استشهاد الشيخ الدكتور محمد معشوق الخزنوي رحمه الله. ومع ذلك علينا أن نستكمل المسيرة بعناد؛ إذ بقدر ما نمتلك المعرفة الحقة نهتدي إلى أنفسنا، ونفهم الآخرين، فنحرص على وجودهم وليس إلغائهم].    

(وإلى اللقاء في الحلقة السادسة والعشرين ).

   4 - 6- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 

  

 =========================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الرابعة والعشرون)

كم هو عمرك المعرفي؟!

1 – قدرات.. لا معجزات!

المشهور أن للإنسان في هذه الحياة عمرين:

-  الأول: عمر زمني، وهو يقاس بالأيام والشهور والأعوام، فيقال: بلغ فلان من العمر كذا وكذا عاماً؛ انطلاقاً من يوم ولادته.

-  والثاني: عمر عقلي، وهو يقاس بما يمتلكه المرء من ذكاء، فقد يزيد عمر المرء الزمني على أربعين عاماً، لكنه قدرته على الفهم والتحليل والتركيب والاستقراء والاستنباط لا تتجاوز قدرات صبي في الثانية عشرة من العمر، وقد يكون العكس؛ كما هو الأمر عند بعض الصبية العباقرة الذين يحلّون مسائل عويصة في الرياضيات يعجز عنها كبار الأساتذة.

وأحسب أن لكل منا نوعاً ثالثاً من العمر، هو (العمر المعرفي).

إن هذا النوع من العمر لا يقاس بالسنين والقدرات العقلية، وإنما يقاس بالمعارف التي يمتلكها المرء كمّاً وكيفاً؛ ترى هل تقف طاقاته المعرفية عند عصره هو، أم تتجاوزه إلى عصور سابقة؟! وهل تلك العصور السابقة مداها قرون معدودة، أم أنها تمتد لتصل إلى بدايات التاريخ البشري؟! وهل تقف تلك المعارف عند السطوح والقشور، أم تتوجّه نحو الآفاق والأعماق؟!

ولا يقتصر العمر المعرفي على المعارف المنتمية إلى الماضي، وإنما قد يمضي باتّجاه المستقبل أيضاً، وقد يكون هذا التوجّه بعقد من الزمان، أو بقرن أو بعشرة قرون. وكلما كان عمرك المعرفي أطول كنت أقدر على التنبّؤ بما يمكن أن يقع، ولا علاقة لهذا الأمر بمسألة (علم الغيب) و(المعجزات)، وإنما هو حصيلة تراكم معرفي، يجعل المرء قادراً على التنبّؤ بما (قد يكون) بناء على ما (قد كان)، وهو ما يُعرف بمبدأ (الاستدلال على المجهول بالمعلوم).

وقد جسّد ألبرت إينشتاين (1879- 1955م) هذا المبدأ حين سئل بعد استعمال السلاح الذري في الحرب العالمية الثانية:

- ما السلاح الذي سيُستخدم في الحرب العالمية الثالثة؟!

- فقال: أما في الحرب العالمية الثالثة فلا أدري! لكن في الحرب العالمية الرابعة سيتحارب الناس بالقوس والنشاب.

2 – هل للعمر المعرفي ضريبة؟!

ولا ريب أن المرء لا يملك من العمر والفراغ ما يكفي لإشباع نهمه المعرفي، سوى في حال واحدة؛ وهي أن يعيش عيش الزاهدين، فلا يزاحم الآخرين في أسواق الأمجاد، ويُمضي الحياة من غير مسؤوليات أسرية، وبلا وظيفة تأخذ من عمره أزهاه، ومن طاقاته أفضلها. بلى.. كي تطيل أمد عمرك المعرفي لا بد من ضريبة تدفعها، وما من عالم متبحّر وعارف وعبقري إلا ودفع تلك الضريبة بسخاء، وإليكم بعض الشواهد:

إن الأمير الهندي سيدها جوتاما (ت 470 ق. م) لم يصبح (بوذا= المستنير) إلا بعد أن انسلخ من الإمارة مظهراً ومخبراً، واعتزل العالم سنين عديدة، وأدار ظهره لما ينشغل به العاديون من الناس، مستغرقاً في تأملاته المعرفية الرحيبة، ليخرج إلى العالم من جديد بشعاره الفلسفي الرائع:

" السلام على جميع الكائنات "!

أجل.. عندما تتعمّق معرفتك لا تقدر على مخاصمة سائر الكائنات.

وإن الفيلسوف اليوناني ديوجينوس الحكيم (عاش في القرن الرابع قبل الميلاد) عُرف في التاريخ باسم ديوجينوس الكلبي، لأنه كان يعيش حياة تعيسة بمعاييرنا نحن، فشبّهه معاصروه بالكلب الضالّ، إنه لم يكن يمتلك بيتاً، فكان يبيت أحياناً في وعاء شبيه بالبرميل، وقد مر به الإسكندر المكدوني ذات صباح، فوقف عنده يتحدّث إليه، فما كان من ديوجينوس إلا أن خاطبه وهو في قعر بيته البرميلي قائلاً: تنحّ، لقد حجبت عني الشمس!

أعتقد أن ديوجينوس كان يقصد ما هو أبعد من (الشمس) العادية.

وأحسب أنه كان يقصد (الإشراق المعرفي).

والخليل بن أحمد الفراهيدي (توفّي في أوائل القرن الثاني الهجري) هو صاحب أول معجم في العربية، ومكتشف بحور الشعر، وكان ضليعاً في الرياضيات والموسيقا، ومع ذلك كان يعيش في خُصّ (بيت من قصب) من أخصاص البصرة، ليس فيه من الأثاث إلا حصيرة وكوب للماء وماعون للطعام، في حين كان سيبويه وأقرانه من النحاة واللغويين والأدباء المشاهير  يتتلمذون على يديه، ويرتزقون بعلمه.

وكان إبراهيم بن أدهم (ت 161 هـ) من أمراء بَلْخ (في شمالي أفغانستان)، لكن رحلته المعرفية الكبرى لم تبدأ إلا بعد أن هجر الإمارة والزوج والولد، وتنازل لأحد رعاة والده عن ثيابه الفاخرة وفرسه، لقاء عباءة الراعي الصوفية، ثم ساح في الأرض، يعمل أجيراً تارة، وناطوراً للكروم تارة أخرى، وظل كذلك إلى أن توفّي في مدينة (جَبلة) على ساحل البحر الأبيض المتوسط في سوريا.

ويروى أن إبراهيم أدهم التقى الصوفي شَقِيق البلخي (ت 194هـ):

-       فقال إبراهيم لشقيق: علام أصّلتم أصولكم؟

-       قال شقيق: إذا رُزقنا أكلنا، وإذا مُنعنا صبرنا.

-  فقال إبراهيم: هكذا كلاب بَلْخ! إذا رُزقت أكلت، وإذا مُنعت صبرت. إنّا أصّلنا أصولنا على أننا إذا رُزقنا آثرْنا، وإذا مُنعنا حَمَدْنا وشكرْنا.

فقام شقيق، وقعد بين يديه، وقال: " أنت أستاذنا"!

وأخيراً كيف أصبح أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) عالماً كبيراً وعارفاً قديراً، وحاز لقب (الإمام) و(حُجّة الإسلام)؟! إنه كان رئيس (المدرسة النظامية) ببغداد، وكانت تلك المدرسة شبيهة بجامعات عصرنا هذا، وكان ذا أهل وولد ومنصب، وفجأة هجر المنصب، وترك الزوج والأهل والولد، وساح في الأرض، باحثاً عن المعرفة، حتى إنه أمضى سنوات مقيماً في إحدى منارات مسجد دمشق الكبير، وهناك ألّف أهمّ كتبه، ومنها موسوعته المعرفية الضخمة (إحياء علوم الدين)، و(المستصفى)، و(المضنون به على غير أهله)، وغير ذلك من مؤلّفاته المعروفة.

3 – أصول وفروع!

وقد يقال: لقد جعلت الأمر صعباً.. وتركتنا أمام خيارين أحلاهما مرٌّ؛ فإما أن نعيش بشكل عادي، ونتنازل إلى الأبد عن الطموح في (العمر المعرفي)، وإما أن نتنازل عن الأهل والولد والمنصب والمال، لنفوز بالعمر المعرفي.

حسناً! ها هي ذي ذاكرتي تضع أمامي قول أبي العتاهية:

      لكل شيء مَعـدِنٌ وجوهرُ     وأصغرٌ، وأوسطٌ، وأكبرُ

     وكلُّ شيء لاحـقٌ بحوهرِهْ     أصغرُه متّصـلٌ بأكبرِهْ

وكذلك الأمر في مجال المعارف؛ إن لها أصولاً وفروعاً، وأمّهات وبُنيّات، ومعظمنا لا يملك القدرة والوقت كي يتنقّل بين جميع عوالم (الفروع)، فما علينا، والحال هذه، إلا أن نحرص على السياحة في عوالم (الأصول). ولعل أبرز تلك الأصول أربعة:

·   الدين: وهو أصل معرفي خاص بنزوعنا الروحي المثالي، تبدأ مسيرته العريقة من عصر الخرافات والأساطير (الميثولوجيا)، وتنتهي بعصر الأديان السماوية.

·   الفلسفة: وهو أصل معرفي خاص بنزوعنا العقلي التأملي، وبحاجتنا إلى (تعقيل) الوجود، وتأصيل كينونة الموجودات، كما أنه تعبير عن رغبتنا الدائمة في البحث عن جوهر الأشياء وحقائق الأمور، والتعامل مع العالم ومكوّناته بمنطقية وموضوعية.

·  الشعر: وهو أصل معرفي خاص بعوالمنا الشعورية، كما أنه تجسيد لنزوعنا الفطري إلى ما كل هو جميل في الأشكال والمظاهر، وجليل في المعاني، ونبيل في المبادئ والقيم، وسامٍ في المواقف، وكامل في العلاقات.

·  التاريخ: وهو أصل معرفي خاص بنزوعنا إلى ربط الأسباب بالنتائج، كما أنه رصد دقيق لمراحل تطور الحضارات البشرية، بدءاً من العصور الحجرية، وانتهاء بعصر سفن الفضاء وهندسة الجينات؛ بكل ما تشتمل عليه تلك الحضارات من أديان وفلسفات، وإيديولوجيات وسياسات، وعلوم وآداب وفنون.

والمشهور أن وجودنا وكوننا قائمان، في الأصل، على التنوّع في إطار الوحدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعارف، فهي صورة عنا نحن، ومن ثَمّ فلا حدود فاصلة بين الدين والفلسفة والشعر والتاريخ وغيرها من المعارف، الكل يتكامل بالكل، والجميع يتقاطع مع الجميع، وإن افتراض استقلالية أصل معرفي عن سائر الأصول يوصلنا إلى نتائج غير واقعية، فضلاً عن أنه يسوقنا إلى المتاهات، وينتهي بنا إلى أحكام ناقصة.

وأعتقد من ناحيتي أن من لا يطّلع على هذه الأصول المعرفية الأربعة بشكل كاف يظل لاهياً خارج ملكوت المعرفة، ولا يحظى بعمر معرفي كافٍ، بل اعذروني إذا قلت: إنه لا يكون ممن وضع قدمه في عتبة الثقافة.

4 – ذاكرتي تتآمر عليّ!

ولعلكم تتذكّرون الحكمة القائلة: " خاطبوا الناس على قدر عقولهم".

وقياساً عليها أقول: " خاطبوا الناس على قدر أعمارهم المعرفية".

وقد ابتُليت منذ سنين بعادة أجدها تجرّ عليّ الضرر أحياناً؛ وهي أني أشهد موقفاً ما، أو أجد نفسي في موقف ما، فتتمرد عليّ ذاكرتي، ويشايعها لساني، فيلهج من حيث لا أريد بقول قد يكون عرضاً لحدث، أو مثلاً سائراً، أو حكمة، أو بيت شعر، له صلة ما بذلك الموقف سلباً أو إيجاباً.

وفي هذه الحال لا بأس إذا كنت بمفردي، فأنا قادر على فهم نفسي وإدارتها وإرضائها ومحاسبتها. لكن المتاعب تبدأ حينما أكون بصحبة آخر بيني وبينه فارق في (العمر المعرفي)، فيعجز عن إدراك مغزى ما قلت، وينتهي بي الأمر إلى حال هي شبيهة بحال الصوفي السُهْرَوَرْدي (ت 587هـ) حينما قال: " من لم يطّلع على إشاراتنا لا يفهم عباراتنا".

وقد سألني صديق لي ذات مرة: كم عمرك؟ فوجدتني أقول:

 عمري ألف عام، بل خمسة آلاف عام، بل عشرين ألف عام، بل أكثر.

وظهر الضيق على ملامح الصديق، وحقّ له ذلك، فهذا الجواب إذا لم يكن مزاحاً فلا ريب أنه بعض أشكال الهذيان.   

وكنت - والحق يقال- جادّاً فيما نطق به لساني، اعتقاداً مني أنه بقدر ما توسّع معارفك ومعلوماتك، وتؤصّلها وتعمّقها، توسّع عمرك المعرفي وتعمّقه، وحينذاك أنت تعيش الوجود ليس مرة واحدة،  بل أنت تعيش الوجود عشرات وربما مئات وآلاف المرات. وحينذاك أنت لا تعيش الحياة في منطقة جغرافية واحدة، وإنما تعيشها في عشرات وربما في مئات المناطق والساحات الجغرافية.

ثم ألست، حين تتعرّف حياة البشر في العصر الحجري مثلاً، تتعرّف كل ما يتعلّق بتلك الحياة من ظروف بيئية، ومناخ ثقافي، وعلاقات اجتماعية واقتصادية ومشكلات ومعضلات؟! ألست عندئذ تخترق العصور والدهور، وتتغلّب على المسافات، وتصبح في قلب الحدث؟! ألا تكتشف على ضوء تلك المعطيات المعرفية حقائق جديدة في حياتك وفي حياة الآخرين، وتعيد من ثَم تفسير أمور كنت قد فسّرتها أو فسّرها غيرك على نحو خاطئ؟!

وقل الأمر نفسه حينما تطّلع على المجتمع السومري (حوالي 3000 سنة قبل الميلاد)، وعلى المجتمع الفرعوني، وعلى المجتمع الهندوسي، وعلى مجتمعات الهنود الحمر في الأمريكتين، وعلى حياة الأقزام في غابات إفريقيا، وعلى سائر العصور والمجتمعات والثقافات والحضارات في أرجاء هذا العالم.

-   -    -   -

حقاً.. إذا كنا عاجزين عن إطالة عمرنا الزماني فأمام كل واحد منا فرصة لا تُقدَّر بثمن؛ إنها فرصة إطالة عمره المعرفي. لكن لا يكفي أن تسعى إلى إطالة أمد عمرك المعرفي فقط.. وإنما ينبغي أن تساعد الآخرين على ذلك أيضاً.

وإلا فإنك تحكم على نفسك بالفشل والمرارة والتعاسة.

لا فرق في ذلك.. سواء أكنت ربّ أسرة.

أم مختار قرية.

أم قائد شعب.

 (وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والعشرين ).

   15 - 5- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 

 ==============================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الثالثة والعشرون)

صبراً علينا يا آينشتاين!

  1 – فوق سطح القمر.

إنني أنتمي إلى جيل منتصف القرن العشرين، فقد ولدت سنة (1945م)، السنة التي انتهت فيها الحرب العالمية الثانية، وأحسب أنها السنة التي استقال فيها العالم الفيزيائي الشهير البرت آينشتاين من التعليم الجامعي، كي يتفرّغ لبحوثه حول (النظرية النسبية) التي أعلن عنها سنة (1905م)، وكانت تلك النظرية فتحاً علمياً كبيراً، وعلى ضوئها دخل العالم عصر الذرة من ناحية، وعصر الفضاء من ناحية أخرى.

وكان من جملة ما أسفرت عنه (النظرية النسبية) أمور ثلاثة:

- أولها أن المكان والزمان لا ينفصمان، ومن ثَمّ لا يوجد مكان فقط، ولا زمان فقط، بل يوجد (زَمَكان).

- وثانيها أن الكون كله محدّب، ومن ثَمّ فلا وجود لخطوط مستقيمة حسبما اعتقد نيوتن، وإنما هناك خطوط أقرب إلى الاستقامة، وكل الخطوط هي في الحقيقة محدّبة.

- وثالثها أن الزمن نسبي، فمن يسافر في الفضاء بسرعة الضوء ستة أشهر سيجد، لدى عودته، أن قرناً من الزمان قد مضى على سكان الأرض، وأن حفيده قد أصبح أكبر منه سناً.

وفي النصف الأول من القرن العشرين اكتُشف الإسبرين، واختُرعت المقذوفات الصاروخية، وكان العلماء في كل من روسيا السوفياتية وأمريكا يعملون ليل نهار لغزو الفضاء، فكان الروس سبّاقين إلى إطلاق القمر الصناعي سبوتنك الأول سنة (1957م). وتبعهم الأمريكان، فأرسلوا في 38 نوفمبر/ تشرين الثاني (1964م) المركبة مارينر الرابع لاستكشاف المريخ، فمرت بالقرب من المريخ  في منتصف يوليو/تموز 1965م، بعد أن قطعت مسافة (134) مليون ميل. وكان العلماء من سكان الأرض يزوّدونها بالتعليمات، وكانت الآلات من سكان المركبة تزوّدهم بالصور والمعلومات.

ولم يقف الأمريكان عند هذا الحد، بل أطلقوا في السادس عشر من يوليو/ تموز (1969م) أول مركبة فضائية مأهولة لزيارة جارنا القمر، والسؤال عن حاله، وِلمَ لا؟! فهو جار قريب منا، لا يبعد عنا سوى بمسافة (384000) كم، وهي مسافة رمية حجر إذا أخذنا في الحسبان المسافات الهائلة بين النجوم والمجرات، والتي تقاس بآلاف بل بملايين السنين الضوئية، ولم يكن التأخير في موعد الانطلاق أكثر من (724) ميللي ثانية [الميللي ثانية جزء من ألف من الثانية]، وبعد ثلاثة أيام تحققت المعجزة، ووطئت قدما أول إنسان سطح القمر.

  2 – نحو الأعماق.

وكانت ثمة إنجازات فكرية هائلة قد سبقت الإنجازات العلمية والتقنية أو واكبتها، فقبل أن أتشرّف بأن أكون أحد ضيوف هذا العالم، كانت المجتمعات الأوربية قد أنجزت قفزات كبيرة في الفلسفة، وينبغي أن نتذكّر أن الفلسفات الكبرى هي في الحقيقة مناهج كبرى، ترسم للمجتمعات رؤاها ومُثُلها ومبادئها وقيمها وتشريعاتها وسياساتها، وهي التي تزرع بذور التقدم والازدهار، أو تصنع فيروسات التفسخ والانهيار.

وقبل أن أكون ضيفاً على الكرة الأرضية كانت الفلسفة الماركسية قد قادت الثورة البلشفية في روسيا أولاً، ومن بعد في بلدان أوربا الشرقية وفي الصين، وعملت بإخلاص كي توقف الفكر الفلسفي على قدميه بعد أن كان الفيلسوف الألماني هيغل قد أوقفه على رأسه، حسبما كان يقول ماركس ساخراً. كما عملت بعناد لإثبات أن البنى المادية هي الأصل، وما البنى المعنوية (الروحية) إلا انعكاس لها، وليس العكس.

وكانت الفلسفة الوجودية قد انتشرت في أوربا الغربية على أيدي فلاسفة ومفكرين مشاهير منهم: كِيركغارد، وهَيدجر، وسارتر، ومِيرلُوبونتي، والبير كامو، وآخرين. وراحت توجّه الاهتمام نحو علم الذات، وناضلت بعناد لتأكيد أن (الوجود يسبق الهوية) وليس العكس، وأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه، وهو المسؤول الوحيد عن ذلك التاريخ.

 وكانت الفلسفة البراغماتية (الذرائعية) قد رسّخت جذورها في المجتمع الأمريكي، بفضل جهود فلاسفة كبار منهم: وليم جيمس، وشارل بيرس، وجون ديوي. ورفعت تلك الفلسفة شعار (العقل هو ما يؤدّى)، ووجّهت الاهتمام إلى ضرورة ربط المعرفة بالممارسة، فالنتائج العملية الصائبة تعني بالضرورة مقدّمات معرفية صحيحة.

ولا أرى حاجة إلى الوقوف عند إنجازات فكرية وفلسفية أخرى هامة، مثل الأنثروبولوجيا (علم الإناسة)، والإثنولوجيا (علم السلالات) واللسانيات، وعلم النفس، وعلم الجمال، والبنيوية، والتفكيك، وغير ذلك. وكلها علوم مفيدة وفلسفات جادة، عُنيت بعلم نفس الأعماق على الصعيدين الفكري والنفسي، وراحت تستكشف الإنسان من الداخل، بجرأة لا تقل عن الجرأة التي تمّ بها استكشاف أقطار السماوات وأعماق البحار.  

كانت تلك تحوّلات علمية وحضارية عظيمة حقاً.

وكان موقعها في النصف الشمالي والغربي من كرتنا الأرضية.

ولنعد إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط.

فماذا عن التحوّلات العلمية في مجتمعاتنا؟!

3 –  القدّيسة حنيفة.

كان الزمن منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وكان الوقت ربيعاً، وذات يوم دبّت حركة غير عادية في حارتنا.. النساء يتزاورن بكثافة.. يتبادلن الأحاديث، لكن هذه المرة ليس عن مكان جديد للاحتطاب، ولا عن موقع في الجبل لجلب الحوّار الخاص بتبييض البيوت، ولا عن سفرة إلى قرية (كُشْتُعار) لجلب حجر (البَيْلُون) الخاص بالحمّام، والذي كانت الحوامل يقضمنه توحُّماً بدل الموالح، ولا عن خِطبة تُطبَخ على نار هادئة، ولا عن المعروضات الجديدة التي جاء بها العطّار عبد الجليل.

كانت الأحاديث تدور حول شيخة قدّيسة ظهرت في قرية (بَعْدِنْلي) الواقعة في الجبال الغربية، إنها تُدعى حنيفة [هكذا كان اسمها فيما أذكر]، فقد رأت النبي محمداً عليه السلام في المنام، وختم علي كفّها اليمنى بخاتم النبوّة شهادة لها بالصلاح والتقى، فأثر الختم يلمع في كفّها كالمصباح، وما من مريض ولا سقيم ولا صريع ولا مجنون يقصدها إلا ويعود صحيحاً معافًى.

 وكانت جدّتي (مدينة)- رحمها الله- محور تلك الحركة المفاجئة، وكانت جدتي لأمي هذه مغرمة بالأسفار، كانت لها رحلات شبيهة برحلات الشتاء والصيف، وفي بعض الأحيان كنت رفيقها في تلك الرحلات وأنا صبي. وقد ألحّت على والدتي- رحمها الله- للذهاب معها، لكنّ الوالد-رحمه الله- كان يرفض تصديق مثل هذه الخوارق، فما سمح للوالدة بالذهاب.

وما هي إلا أيام قليلة وإذا بسيارة تقف قرب النبع مع الضحى، ويفتح السائق بوقها المرة تلو الأخرى، وإذا ببعض النساء والرجال يتقاطرون من أطراف القرية وقد ارتدوا ثيابهم الجديدة. وانطلق الجميع للتبرّك بزيارة الشيخة حنيفة، وليعودوا مع المساء.

حدّثتنا الجدة (مدينة) بالعجب العُجاب: 

الزائرون بالمئات، إنهم قادمون من كل فج عميق، من قرى جبل الكرد، ومن قرى منطقة أعزاز، ومن حلب، ومن مناطق أخرى بعيدة، الكل يحمل معه هدايا للشيخة القدّيسة، خرفان، ديكة، سكّر، رزّ، قهوة، سمن، نقود. أما الشيخة حنيفة فكم كان مظهرها مباركاً! كانت ترتدي ثياباً بيضاً، وتتلفّع بشال أبيض، وتظهر للجموع وهي ترفع يدها اليمنى، فاتحة كفّها، فيلمع نور من كفّها، وكيف لا؟! إنه أثر خاتم النبي محمد عليه السلام!

ثم تطلب الشيخة حنيفة من الجموع أن تستلقي على وجوهها صفوفاً بعد صفوف، وتمرّ على الصفوف وهي تدوس عليهم واحداً واحداً، كانت تمرّ بسرعة، ألا كم كانت خفيفة الوطأة على الناس! كان أحدنا يشعر ببرد وسلام عندما كانت تدوس علينا.

هكذا روت لنا الجدة مدينة والأخريات.

وبعد سنين سمعنا أن حنيفة هذه كانت امرأة قروية بسيطة وطيبة حقاً، مثل معظم نساء قرانا، لكن عرف بعض الشطّار كيف يقتنصونها، ويوظّفون بساطتها وطيبتها لأغراض نفعية، فختموا كفّها بمادة فوسفورية مشعّة، وأقنعوها أن هذه اللعبة خير وسيلة لكسب المال والجاه معاً.

4 –  عشيق الجنية.

    الزمن منتصف الستينيات من القرن العشرين، الوقت صيف، زارنا ذات يوم أحد الكهول من القرية، فرحّب به الوالد – رحمه الله – على عادته، ودار بين الزائر والوالد الحوار الآتي:

-       الزائر: جئتك مستشيراً يا خوجه محمود! [خوجه لقب تركي تعني بالكردية مُلاّ، وبالعربية شيخ].

-       الوالد: تفضل.

-  الزائر: تعلم أن ولدي مريض منذ فترة، ولم تنفعه أدوية الدكتور (حسن أفندي)، ولا أدوية غيره من الأطباء، وتوجهت به إلى بيت شيخ القادر في (بابْلِيتْ) [قرية غربي عفرين بحوالي أربعة كيلو مترات]، للتبرّك بالأُوجاق [أُوجاق كلمة كردية الأصل أو تركية، تعني الجذر المبارك، والأرومة المقدّسة]، لكن لا فائدة. ونصحني بعض الناس أن آخذه إلى قرية (شاه دَير) [على مسافة عشرين كيلو متر تقريباً جنوبي عفرين].

-       الوالد: ولِمَ؟!

-  الزائر: آخذه إلى عند (شيخ عَفْدال) [عفدال بالكردية اختصار لاسم عبد الله]، إن له عشيقة جنّية تصاحبه، وهي تعلّمه المعجزات، وتصف أدوية للأمراض المستعصية.

-  الوالد (في استنكار): دعك من هذه الخزعبلات يا رجل! صحيح أن القرآن حدّثنا عن وجود الجن، لكن (شيخ عفدال) راع أمّي، لا يعرف شيئاً لا من علوم الدين ولا من علوم الدنيا.

-       الضيف: أهذا هو رأيك؟!

-       الوالد: أجل.. ابحث لولدك عن طبيب، وتوكّل على الله.

وبعد عدة أيام رجع الوالد إلى البيت عصراً، وسمعته يقول: " صدق القائل: هؤلاء الناس لا تحبّهم ولا تسبّهم [يقصد المنجّمين وأصحاب الجن]! فاليوم كنت في الكرم، فغفوت ونمت، وفي المنام حدث لي العجب؛ فقد ظهر لي شيخ عفدال غاضباً ساخطاً، وأوسعني بعصاه ضرباً مبرّحاً، عقاباً لي على ما قلت بحقه منذ أيام".

رحمك الله يا والدي، كنت تقف بصلابة ضد المتاجرين بالأولياء والكرامات، وكنت شديد الحملة على الشعوذة باسم الدين، هذا عندما كنت تسترشد بوعيك أنت، وعندما كنت تفكر بعقلك أنت. لكن عندما انفلت وعيك الباطن من عقاله- يسمّيه عالم النفس يُونغ (الوعي الجمعي)- وتسلّط عليك، اختلف الأمر، ولمَ لا؟! فمنذ كنتَ طفلاً، ثم صبياً، ثم شاباً، ثم كهلاً، و(الوعي الجمعي) يغزو كيانك بالعجائب والغرائب والكرامات والخوارق والجن الأحمر والأزرق، فكيف تنجو من كل تلك الحملات؟!

5 –  عصا الأُوجاق.

ومرت الأيام والأعوام.. والتقيت بعبد الحليم بن شيخ عفدال، وكان والحق يقال شاباً دَمْث الخلق، مرح الطبع، منفتح الفكر، محبّاً للعمل، مهتماً بالمشاريع التجارية.، فحدّثني طويلاً عن والده والعشيقة الجنية، إنها كانت ترافقه، وتظهر له في البيت وخارج البيت، فكانت تشغله عن الأهل والولد، لكن ما كان أحد يراها سواه. وزارني عبد الحليم في القرية، وطلب مني أن أزوره أيضاً، فوعدته، وذكر لي أن والده سلّمه (عصا الأوجاق) قبل وفاته، ليخلفه في المسيرة المقدّسة.

ومرت الأيام والأعوام أيضاً.. وقمت بزيارة لصديقي عبد الحليم في قريته (شاه دَير) منذ سنوات قليلة، ومعي ولدي صلاح الدين، فإذا ببضع رجال جالسون على المصطبة، وظننتهم ضيوفاً. وما إن سمع عبد الحليم بقدومي حتى خرج للقائي مرحّباً، لكنه قال بصوت خافت وبنبرة اعتذار مرحة: أنا الآن شيخ، لقد حملت (عصا الأُوجاق) حسبما أوصاني والدي، وعندي في الداخل بعض الناس بخصوص أمر، وهؤلاء ينتظرون دورهم، فأرجو الانتظار قليلاً.

ودخل الشيخ عبد الحليم غرفة الأوجاق ثانية، ولم يطل الوقت حتى خرجت من عنده جماعة فيها رجال ونساء، وهبّ إليّ الشيخ مرحّباً ثانية، وقال يخاطب الجالسين بوقار: لا مؤاخذة يا أصحابي، فالدكتور أحمد قادم من بعيد، وأمره مستعجل!

شاب ذكي حقاً، يعرف كيف يوظّف المعطيات لصالحه أفضل توظيف، فمعظم الناس في منطقتنا وفي ريف حلب إذا سمعوا كلمة (دكتور) ينصرف ذهنهم إلى (الطبيب)، باعتبار أن كل طبيب- وإن كان حاصلاً على الدبلوم فقط - يُطلق عليه في سوريا لقب (دكتور).

وهكذا فقد أحسن شيخ عبد الحليم توظيف زيارة صديقه الدكتور له، فأوحى إلى الحاضرين بأني طبيب، وأني قادم في شأن كالشأن الذي هم قادمون له، فإما أن شيئاً سُرق منّي، أريد أن يرشدني شيخ عبد الحليم إلى معرفة السارق ومكان وجود المادة المسروقة، وإما أن ولدي الذي معي مريض، أو عاشق، فجئت أبحث عن الخلاص. وإما.. وإما.. . وما دام الدكاترة – وهم من علية القوم معرفةً- يأتون من بعيد ليتبرّكوا بالأُوجاق فكيف تكون حال الناس العاديين؟!

- - - - -

قلت لنفسي وأنا أغادر قرية (شاه دَير):

نحن الشرقيين لنا أيضاً فتوحاتنا العلمية الفريدة، لكن على طريقتنا نحن، وهي طريقة تتقدّم بنا كل قرن خطوة واحدة، بلى.. نحن كالمجرات، دوراتنا الحضارية الفلكية بطيئة جداً، وما أشد ابتلاءنا بهؤلاء الأوربيين الذي يعكّرون علينا صفو حياتنا! إنهم يُكرهونا على الخروج من جلدنا، ويرهقوننا بهذه التحوّلات العلمية الجارية على قدم وساق!

ألا صبراً علينا يا آينشتاين!.. ودعنا في حالنا يا صاحبي!

نحن ما زلنا نؤمن حتى النخاع بأن جميع الخطوط مستقيمة.

لكننا ما زلنا نمارس حياتا وقضايانا حتى النخاع باعوجاج. 

 (وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة والعشرين ).

   1 - 5- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 

======================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الثانية والعشرون)

من كونوفوشيوس.. إلى نيتشه

1 – آلهة.. وقرارات.

·                    قَدَرنا هو أنا وجدنا أنفسنا في هذا العالم.

وقد جاء في الكتابات السومرية قبل الميلاد بحوالي ثلاثة آلاف عام:

     " أطلّ كبير الآلهة مَرْدُوك  يفكّر.. كانت الآلهة بحاجة إلى من يصلّي لها ويعبدها.. لتكنِ المعجزة هي خلق الإنسان!. وانحنى مردوك على الأرض، وشرع يعجن التراب بدمائه.. وصنع من الطين أناساً يقومون على خدمة الآلهة والصلاة لهم وعبادتهم.. وهكذا خُلقت البشرية ".

بلى.. خلقت الآلهة البشر، ثم ندمت على فعلتها.

أصبح البشر عنصر شغب.

فضاقت بهم الآلهة ذرعاً.

وراحت تدبّر لهم المشاغل.

·             وتقول الأديان السماوية:

هناك قرار إلهي صدر.. " كُنْ فيكون"!.. فكنا وما زلنا!.. وثمة قرار إلهي آخر سيصدر يوماً ما.. وعندئذ سيكون (الفناء).. ثم تكون (القيامة)!.. وعندئذ لن نكون في هذا العالم.. بل سنجد أنفسنا جميعاً في (العالم الآخر).

·             ويقول علماء الفلك والطبيعة والحياة:

قبل مليارات السنين ثمّة نجم هائل الحجم انفجر.. فكانت الأفلاك والمجرات.. وكان البشر وكانت الحشرات.. وقبل ذلك كان الكون سديماً.. كان غازاتٍ وغباراً ومواد أخرى.. هذه المواد الغازية الغبارية تجاذبت.. فتقاربت، فتكتّلت، فانضغطت.. الانضغاط الشديد أنتج حرارة شديدة.. الحرارة الشديدة جعلت كل شيء يتحوّل إلى غازات ملتهبة.. الغاز الحارّ فرّ من الكتلة الملتهبة نحو الخارج.. إلا أن الكتلة الملتهبة جذبتها بشدة نحو الداخل ثانية.

·    وأخيراً توازنت قوّتا الفر والجذب الكونيتان.. فكان النجم.. وتحت تأثير الانهراب والانجذاب كان الدوران.. بلى.. راح النجم يدور! (لا حظوا كم في حياتنا- نحن البشر- من انهراب وانطراد وانجذاب)!

·    النجم الكوني الهائل الأول لم يكن وديعاً مطمئناً.. كانت فيه تناقضات؛ قوى هاربة/ طاردة.. وأخرى حميمة جاذبة..التناقضات أولدت صراعات.. (لاحظوا ما أكثر الصراعات في تاريخنا نحن البشر)! سمّى العلماء تلك الصراعات (انفجارات).. الانفجارات أولدت نجوماً جديدة.. (لاحظوا ما أكثر الانفجارات في تاريخ البشر! وكم دمّرت تلك الانفجارات دولاً وأقامت دولاً)!

·    النجوم الجديدة حملت جينات أمهاتها معها.. فورثت التناقضات والصراعات ذاتها.. (نحن البشر أيضاً نحمل جينات أجدادنا الثقافية؛ لذا كم نتصارع)!.. فكانت فيها انفجارات أيضاً.. وكانت الكواكب.. النجوم شموس تُصدر الحرارة والضوء.. أما الكواكب فهي أجرام صماء.. إنها قادرة فقط على أن تعكس الضوء.

     (كم في المجتمعات البشرية من بشر شموس، وبشر كواكب)!

2 – استراحة!

كنت في الصف الأول الثانوي سنة (1963)، وكان لنا أستاذ في مادة الكيمياء اسمه (نجم)، وأشهد أن الرجل كان مخلصاً في دروسه، صادقاً في عطائه العلمي، وكان يحاول جاهداً تقريب الرموز الكيميائية المعقّدة إلى عقولنا، لكن بلا جدوى.. ولا أدري هل كانت طريقته التعليمية النظرية غير مجدية، أم أن قدراتنا العقلية كانت لا تتجاوز مدارات فكر العصر البدائي، وأحسب أن الأمرين تفاعلا على نحو عجيب.

والمهم أني كنت أخرج في نهاية الدرس وأنا لم أفهم إلا اليسير مما كان الأستاذ (نجم) يُجهد نفسه لإفهامنا إياه. وذات مرّة – والأستاذ نجم منشغل بشرح الدرس- وكزني زميلي المشاغب المرح (سعيد شاهين) سائلاً: " أحمد هل فهمت الدرس " ؟! إذ كان يهمّه جداً أن أفهم أنا الدرس وليس هو، فالرجل كان قد أعفى نفسه من تلك المهمة، ليتفرّغ للقَفْشات الظريفة، وكانت عبقريته الحقيقية تظهر أيام الاختبارات، فكان يناور ويداور ويصر على أن يملأ ورقته بما أكتبه أنا في ورقتي. وكان كرمي الريفي يساعده على الوصول إلى بغيته دون عناء، شريطة أن يجنّبني الدخول مع الأساتذة في مواقف لا تُحمد عُقباها.

في ذلك اليوم أجبت على تساؤل (سعيد) بأن كتبت على دفتري:

 سمَّوْكَ نجماً في العلومِ فأخطأوا      يا ليتهم سمَّوك فيها كوكـبا

ما كان القصد حينذاك أن أسيء إلى أستاذنا (نجم)، فأزعم مثلاً أنه لم يتمثّل المادة التي يدرّسها، فكان كالكوكب، ولم يكن نجماً حقيقياً يشعّ ألقاً وضياء. وحينما ألقي نظرة فاحصة على سيرتي مع أساتذتي، من المرحلة الابتدائية إلى مرحلة الدكتوراه، أجد أني كنت أحترمهم، ولا أخرج في علاقتي بهم عن حدود اللياقة واللباقة. إن بيت الشعر ذاك كان تنفيثاً عن كربة طالب شغف بالأدب عامة، وبالشعر خاصة، وعجز عن فهم درس علمي صعب، فوجد في الشعر ما يخفّف عنه كربته.

وبعد سنين وقع بين يديّ كتاب (مثالب الوزيرين)، ويسمّى (أخلاق الوزيرين) أيضاً، لأبي حيّان التوحيدي (ت حوالي 400 هـ/ 1009م)، وقرأت فيه أن الوزير الصاحب بن عَبّاد كان شديد الشغف بالسجع، إلى درجة أنه كان يتكلّفه ويتمحّله في كل موقف، وكتب ذات يوم رسالة إلى قاض بمدينة قُمْ (من المدن الهامة في إيران)، بشأن بعض الأمور، فكتب: " أيها القاضي بقُمْ،... ". وأراد استكمال السجعة، فاستعصت عليه، وخانته قريحته، فكتب: " أيها القاضي بقُمْ، قد أقَلْناك فقُمْ ". ولما وصلت الرسالة إلى القاضي، قال: " والله ما أقالتْني إلا السجعة "!

كنت في بيت الشعر ذاك قريباً من سجعة الصاحب بن عبّاد.

لكني كنت، من حيث لا أدري، أربط الفرع بالأصل.

وأمارس فلسفة وحدة الكون.

وهذا هو المهم.

3 – عندما اكتشفت قبيلتي.

·             وليكن عَوْد على بدء.

قلتُ: قَدَرُنا أننا وجدنا أنفسنا في هذا العالم.. وكي نفهم أنفسنا جيداً ينبغي أن نفهم هذا العالم.. وكي نفهم هذا العالم ينبغي أن نقرأه جيداً.. بلى، ينبغي أن نتأمّله، ونتعمّق في فهمه.

·    ويفيد علماء الطبيعة أن كل ما في العالم من جماد وحياة يعود إلى مجموعة من العناصر، ويعود كل عنصر إلى مجموعة من الذرّات.. أنا وكل ما في هذا العالم ننتمي إلى أسرة واحدة، وحريّ بي أن أبحث عن أصلي باهتمام، فثمة بيني وبين كل في هذا الكون صلة رحم وثيقة.

     صلة الرحم لم تعد مطلباً أخلاقياً فقط.

لقد باتت صلة الرحم ضرورة كونية.

·    ولكل ذرّة نواة.. وفي النواة نيوترونات وبروتونات.. وتدور حول كل نواة مجموعة من الألكترونات.. وتختلف العناصر بما في نواة ذرّاتها من نيوترونات وبروتونات.. أما البروتون فيحمل شحنة كهربائية موجبة.. وأما الألكترون فيحمل شحنة كهربائية سالبة.. وبفضل هذا التناقض تتعادل الذرّة كهربائياً.. فلا موجب ولا سالب.

·    وأما النيوترونات فهي كائنات لا هي سالبة ولا هي موجبة.. حسناً.. فالنيوترونات إذاً كائنات متعادلة ذاتياً.. النيوترونات كائنات حيادية؛ لذا فهي العنصر الجوهري في التفاعلات الذرية.. أرأيتم إذاً كيف أن التناقض أصلٌ في العالم الحي وغير الحي؟!.. وأن التناقضات ضرورية لوجود (الكائن المتعادل ذاتياً)؟!

أجل.. الكائن المتعادل ذاتياً هو مانح الطاقة وصانع التغيير.

العباقرة والعظماء من الكائنات البشرية هم المتعادلون ذاتياً.

هؤلاء هم الذين يرسمون المسارات الناصعة للتاريخ الإنساني.

وهؤلاء هم الذين يجيدون قراءة الذات وقراءة التجلّيات.

وهؤلاء هم الأوسع معرفة، والأعمق فهماً.

·    ويفيد علماء الحياة أن كل ما فيه حياة في هذا العالم يعود إلى الخلية.. لقد اكتُشفت جدّتنا الأولى (الخلية) سنة (1663م).. اكتشفها العالم الإنكليزي روبرت هوك.. عندئذ علمنا أن الخلية هي الوحدة الأساسية لجميع الكائنات الحية.. وأن عدد الخلايا في جسم الإنسان يُقدَّر بحوالي ستين بليون خلية.. الخلية إذاً هي جدّتنا الكبرى.

     عذراً ياجدّتنا الكبرى (الخلية)!

     لقد تأخّرنا كثيراً في الاهتداء إليك!

·    من خلالكِ – ياجدّتنا الكبرى- عرفت جميع أقاربي من الكائنات الحية.. أنا والعشبة والحشرة والفأر والفيل والحمامة والنسر من أرومة واحدة.. حقاً.. نحن ننتمي جميعاً إلى قبيلة اسمها (الخلية).

     ربّاه! كم هي كبيرة وهائلة ورائعة قبيلتي الحقيقية!

     فهل من المعقول أن أدير لها ظهري؟!

     أليس من الحمق أن أعاديها؟!

4 – بحث عن السوبرمان.

    لقد دعا الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه بحرارة إلى (الإنسان الأعلى)؛ الإنسان الأعلى في فلسفته هو (السوبرمان).. هو المتفوّق على ذاته، هو الذي يرتقي على كل انحطاط، ورمز نيتشه إلى الإنسان الأعلى بالنبي الميدي زَرْدَشْت (عاش في القرن السادس قبل الميلاد)، ودعا الإنسان الأعلى إلى أن يأخذ بأيدي البشرية نحو الأصالة، نحو النور، نحو المعرفة، قال نيتشه يخاطب زردشت: " لقد كنت تحمل رمادك إلى الجبل يا زارا!.. فهل أنت تحمل الآن نارك إلى الوادي "؟!

   الإنسان الأعلى هو الكائن الأعمق معرفة، وهو الأكثر أصالة، وهو الأكثر قدرة على التوحّد بجذره الكوني، إنه ذاك الذي يكتشف وحدة الكون، ويعمل لبناء علاقات سليمة مع ذوي رَحِمه من الأحياء. وعندما يكون كذلك تفيض الحكمة من أقواله، وتتدفّق الإنسانية في أفعاله.

   اكتشف الحكيم الصيني كونغ فو دزه المعروف باسم كونفوشيوس (ت حوالي 478 ق.م) تلك الحقيقة، فأوقف عمره على نشر الحكمة، وإرشاد الملوك والأمراء والولاة والعامة إلى الصواب، وخرج على البشرية بشعاره الرائع: " لا تفعل بغيرك ما لا تحبّ أن يُفعَل بك ".  

   واكتشف الأمير الهندي سيدهاتا غاوتاما (ت حوالي 470 ق.م) تلك الحقيقة الكونية، فهجر الترف والإمارة والحكم، وخاض تجربة معرفية كبرى تحت شجرة (بُو)، شجرة الحكمة، وأصبح (بوذا = المستنير)، وأهدى إلى العالم شعاره الرائع: " السلام على جميع الكائنات "!

    واكتشف الفيلسوف الإغريقي أنباذوقليس تلك الحقيقة الكونية، فأصبح إنساناً آخر، وأنهى حياته سنة (430 ق.م) بأن قذف بنفسه في فوّهة بركان، مصرّاً على العودة إلى أمه الأولى (الطبيعة).. إذ اعتقد أنه فُصل عنها قسراً.

5 – مهمّات كونية.

   وقديماً هوجم كل عبقري اكتشف وحدة الكون ووحدة الأحياء.. إنهم اتُّهموا بالهرطقة والضلال، وأحياناً بالكفر، وحوربوا من ثَمّ بقسوة.. ونُفوا، وحُكم على بعضهم بالموت بعد أن ماتوا.. إن أعداء القراءة وخصوم المعرفة هم الذين قادوا تلك الحملات الظالمة.. وما زالوا يفعلون ذلك بعناد وشراسة.

   ألم يحرقوا كتب الفيلسوف ابن رشد (ت 595هـ/ 1189م)؟!

  ألم يأمروا العامة بقتل محيي الدين بن عربي سنة 638هـ/ 124م).

  هؤلاء يرتعدون خوفاً من الذين يقرؤون.

  ويحقدون بمرارة على الذين يعرفون.

  إنهم يريدون مجتمعاً من المغفّلين والعُميان.

  يريدون كائنات تنخلع من جذرها الكوني.

  إنهم عشّاق الظلمات.، ومنتجو الظلاميات.

  لذا يريدون كائنات تنتمي إلى الظلمات والظلاميات.

  حقاً .. لا يكفي أن نرتقي بأنفسنا.

  ينبغي أن نرتقي بهؤلاء أيضاً.

  فهم أعضاء في قبيلتنا الكونية الكبرى.

  ولا ينبغي أن ندير لهم ظهورنا.

(وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والعشرين ).

   15 - 4- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 ===============================

==========

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الحادية والعشرون)

هذه هي قصّتي مع المعرفة

1 – المسيرة الطويلة.

حقاً.. إن لي مع المعرفة قصّة.

وما أطولها من قصة! وما أغناها!

بل ما أجملها من قصة! وما أنبلها!

وقد مررت في حياتي بغير قليل من التجارب المؤلمة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو اجتماعي، ولقِيت ما لقيت من المتاعب والمصاعب، وواجهتني العوائق زَرافاتٍ ووُحداناً، وداهمتني المنغّصات ألواناً وأشكالاً، حتّى إني لأتذكّر قول أبي تمّام في بعض شعره: " على قَدْر أهل العزم تأتي العزائمُ ". فأقول: " على قَدْر  أهل الوعي  تأتي المتاعبُ ". ولا أحسب أن المتنبّي كان مبالغاً حينما قال:

   فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ       تكسّرت النِّصالُ على النِّصالِ

على أنه كان لي طوال تلك المسيرة المتعبة، وبموازاتها تماماً، فسحات وارفة وممتعة وسعيدة، إنها كانت فسحات المعرفة، فسحات أجالس فيها الكتب وتجالسني، أناجيها وتناجيني. وفي أحيان كثيرة كانت الفسحات تغدو عوالم وفضاءات، لها ألوانها وظلالها، ولها أبعادها وآفاقها، فكانت تنتشلني مما أنا فيه من شعور بالوحدة، أو شعور بالقهر، أو شعور بالغُبن، أو شعور بالكآبة، أو شعور باليأس، أو شعور بالضياع.

كنت تارة أعيش قيم البطولة مع (فيروزشاه) و(حمزة البهلوان).

وأخرى أذرف الدموع مع المنفلوطي في (النَّظَرات) و(العَبَرات).

وثالثة أحلّق بعيداً مع جبران خليل جبران في (الأجنحة المتكسّرة).

ورابعة أصعد قمم الفكر الجامح مع نيتشه في (هكذا تكلّم زَرادَشْت!).

وخامسة أضحك مع التوحيدي من سلوك البشر في (مثالب الوزيرين).

وسادسة أرتقي على نفسي مع المتصوّفة والحكماء ولفلاسفة.

وسابعة أهيم على وجهي في مدارات الخيال والجمال مع الشعراء.

وثامنة أستكشف الجزر والمفازات والغابات والقارات مع الرحّالة.

وتاسعة أنداح بعيداً في أقطار السماوات والأكوان مع علماء الفلك.

وعاشرة أرجع عشرات القرون إلى الوراء مع المؤرّخين.

وهكذا دواليك..

2 – الخطا الأولى!

وكانت والدتي- رحمها الله- أمّية تماماً، لا تقرأ ولا تكتب، إنها كانت تتحدّث الكردية فقط، ولا أذكر أنها كانت تعرف من العربية جملة واحدة. أما الوالد – رحمه الله- فكان يجيد العربية والتركية إلى جانب الكردية، ولعله كان قد حاول في أيام شبابه الإلمام بالفارسية، إذ وجدت بين كتبه معجماً تركياً عربياً، وآخر تركياً تركياً، وثالثاً تركياً فارسياً، والعجيب أني ما وجدت بينها معجماً عربياً كردياً، ولعل هذا يعود إلى ندرة وجود معاجم من هذا النوع، وإلى عدم شيوعها، وقد يعود أصلاً إلى الإهمال والغُبن اللذين لحقا بالثقافة الكردية على نحو عام.

ولاحظت، منذ عهد شبابي الأول، أن والدي كان قد جمع كثيراً من الحكم والأمثال السائرة، بعضها كانت أشعاراً، وبعضها كانت أقوالاً نثرية، بعضها كان بالتركية، وأغلبها كان بالعربية، كان - رحمه الله- قد دوّنها بخطّ يده وبعناية في دفتر خاص، وأحياناً على حواشي صفحات بعض الكتب التي كان يطالع فيها، وكان خطّه جميلاً وواضحاً ومميَّزاً. وفي كثير من الأحيان كان يستخرج ذلك الدفتر، ويقرأ فيه بصمت.

ومن صفات الوالد – رحمه الله- أنه كان قليل الكلام، كثير الصمت، سواء أكان ذلك في المنزل أم خارجه، في حلّه وترحاله، وفي حالات صمته كانت ملامحه تبدو جادّة مهيبة، إلى درجة أني كنت أتهيّب أن أفاتحه بحديث ما، أو أسأله شيئاً ما في مجال العلم والمعرفة؛ ممّا يوحي بأن صمته ذاك كان صمت تفكير لا صمت تقتير.

على أنه كان إذا سئل في مجلس ما عن أمر أو موضوع أفاض في الحديث، وأتى بالأمثلة والشواهد، منها الدينية ومنها الواقعية، ومنها ما يتعلّق بحياته الشخصية، مع فصاحة في اللسان، وتدفّق في العبارات، ومرح في العرض، وبراعة في التصوير، وطلاقة في الوجه، وانسجام مع الموضوع، حتى إني كنت أتساءل: أحقّاً هذا هو والدي أم هو شخص آخر؟!

وبعد أن أنهيت مرحلة التعليم الثانوي كنت ألاحظ أن الوالد – رحمه الله- خرج من دائرة (مهابة الأب) بعض الشيء، فكان يذكر لي جوانب من حياته ومعاناته الاجتماعية، ويوجّهني إلى بعض المبادئ الخلقية والعملية، وكان يقرأ لي بعض تلك الأشعار والأقوال الحكيمة، ويشرح مضامينها، ويربطها بمواقف حياتية خاصة وعامة.

وحينما أدقق النظر في العشر الأُوَل من سني حياتي يتّضح لي أمران:

·  أوّلهما أن الوالد - رحمه الله - كان أوّل من وضع أقدامي على درب المعرفة، فهو الذي علّمني القراءة والكتابة قبل دخولي المدرسة، وكان في ذلك حازماً إلى درجة الصرامة، وكان يغضب أيّما غضب إذا لمس مني تهاوناً أو تهرّباً.

·  وثانيهما أن الخال عبد الرحمن رحمه الله- (توفّي منذ شهرين تقريباً، وشدّ ما حزنت على رحيله!)- كان أول من فتح لي نافذة على المطالعة العامة، وأضاء لي الطريق إلى عالم المعرفة، خارج الكتب الدراسية، وذلك من خلال إقباله هو على اقتناء الروايات التاريخية مثل (حمزة البهلوان)، و(فيروز شاه)، و(أبو زيد الهلالي)، إضافة إلى ألف ليلة وليلة.

3 – طاحونة سحقت عمرنا!

ومنذ أن امتلكت القدرة على فهم ما أقرأ، وإلى هذا اليوم، ظلّ الكتاب رفيقي الدائم، لا يفارقني ولا أفارقه، ولا يملّني ولا أملّه، إنه يصحبني في المَنشط والمَكرَه، وفي اليسر والعسر، وفي الحل والترحال، بل أصبحت حالي مع الكتب والمطالعة حال (إدمان)، ونِعم (الإدمان) هو! وما أكثر الأوقات التي ذهبت من عمري سُدًى! إلا الأوقات التي أمضيتها مع الكتب، فقد كانت كلها خيراً عميماً، ومتعة روحية وعقلية تخرج عن الوصف.

وذكرت في حلقة سابقة أن أهالينا- نحن أبناء الريف- كانوا يقضون العمر في خوض معركة (الصراع من أجل البقاء)، وكان حتماً علينا أن نشاركهم ذلك الصراع، إنهم كانوا بحاجة إلى عضلاتنا الصغيرة، وإلى قدراتنا المحدودة، كان علينا أن نساعدهم في معظم مهامّ الفلاحين: رعاية الحيوانات من خيول وبغال وثيران وأبقار وأغنام وماعز، إضافة إلى مهامّ الحراثة ونثر البذار وقطف ثمار الزيتون، وتشذيب الأشجار في أواخر الخريف، وزراعة فسائل الأشجار وغيرها من الخضراوات في الربيع.

أما في الصيف فكانت تنتظرهم مهام الحصاد بالمناجل، والرَّجاد على ظهور الدوابّ (نقل السنابل إلى مكان خاص بالبيادر)، ودراسة السنابل بالنَّوارج لتقطيعها، ثمّ الخوض في عمليات التذرية لفصل الحبوب عن التبن، ثم عمليات نقل الحبوب والتبن إلى البيوت والحظائر في أكياس تُحمَل على الظهور حيناً وعلى الدوابّ أحياناً، وما كانت مهامّ الصيف تقف عند هذا الحد، بل كانت القائمة طويلة؛ فهناك سقاية القطن والخضراوات، وتعزيقها، ثم يأتي دور حملات القطف والتعبئة والنقل إلى الأسواق.

وصحيح أن الأعباء كانت تخفّ علينا مع الخريف، حيث بدء الدراسة، لكن كان لنا منها نصيب في أيام الجُمع والعطلات الرسمية، أما في الصيف فكان علينا أن نكون مع الأهل جنباً إلى جنب في كل الميادين.

وعدا هذا كانت قرانا تفتقر حينذاك إلى الكهرباء والمواصلات المنتظمة، فقد دخلت الكهرباء قريتي في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وهذا يعني أني أمضيت مراحل دراستي الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية والدبلوم على ضوء سراج (الكاز/ الكيروسين)، ويعني هذا أيضاً أننا ما كنا قادرين حينذاك على اقتناء التلفاز والصحف، وبعبارة أدق: كنا خارج التاريخ، وخارج العالم، وكنا في قطيعة مأساوية مع عالم الثقافة والمعرفة،  وما هو أكثر مرارة أننا ما كنا ندرك ذلك.

بلى.. كانت أعمارنا تنسحق بقسوة، وما كنا نعي ذلك.

4 – اللهمّ لا حسد!

وحينما أقارن ظروف حياتنا- نحن مثقّفي الريف- بظروف أقراننا من أبناء المدن حينذاك، أخرج بنتائج تدعو إلى الاعتزاز بقدر ما تدعو إلى الإشفاق والحزن العميق، ولا أملك إلا أن أقول بحرقة:

وا حسرتاه!

كنا في عالم آخر!

كان محكوماً علينا أن نظلّ في هامش الحياة!

وإليكم شيئاً من المقارنة:

ففي الوقت الذي كان فيه قريني المدني ينعم بالسكنى في غرفة حديثة أو شبه حديثة، ويضع كتبه في مكتبة صغيرة، ويجلس على كرسي، ويقرأ على طاولة، ويستنير بضوء مصباح كهربائي، كان عليّ أن أسكن غرفة من اللَّبِن والطين، لا تختلف كثيراً عن بيوت العصر الحجري الأخير، وكان عليّ أن أضع  كتبي في كوّة، وأجلس على الأرض، وأتّخذ وسادةً ما طاولة لي، وأستنير مع العائلة كلها بسراج الكيروسين الباهت الضوء، وكم كانت مشكلات تلك السرج كثيرة! تارة تنطفئ مع هبّة هواء، وأخرى تنكسر الزجاجة بتأثير الحرارة، وأخرى ينضب الكيروسين، وأما غاز الكربون المقيت الذي يصدر عنها فحدّث عن أضراره ولا حرج.

وفي الوقت الذي كان فيه قريني المدني يتوجّه إلى مدرسته في طرق وشوارع إسفلتية نظيفة، إما على رجليه إذا كانت المدرسة قريبة من داره، وإما بوسائل النقل العامة إذا كانت المدرسة بعيدة، كان عليّ أن أقطع كل يوم خمسة كيلو مترات صباحاً وخمسة كيلو مترات مساء؛ لأحقق يوماً دراسياً واحداً، وأين ؟! وكيف؟! في طريق ترابية غير ممهّدة، تتحوّل إلى طين لجوج مع أوّل هطول للأمطار، وفي ظروف مناخية قاسية. فكم من الوقت والجهد أضعته وأنا أتنقّل بين قريتي والمدارس في (عفرين) خلال رحلتي الدراسية من الابتدائي إلى أن حصلت على الشهادة الثانوية؟!

وفي الوقت الذي كان فيه قريني المدني ينعم بالجلوس إلى التلفاز في أوقات فراغه، ويطوف من خلال برامجه عبر العالم، وتتوافر له إمكانية الاطّلاع على الجديد في مجالات الفن والأدب والعلم والسياسة، كان محتوماً عليّ أن أسمع قصص الجنّ والعفاريت والغيلان، علاوة على اجترار بعض مكوّنات ثقافة العصر البدائي الأخير، وأبقى جاهلاً بما يدور في العالم من أحداث، وبما يجدّ فيه من علوم ومعارف.

وفي الوقت الذي كان فيه قريني المدني يُمضي الصيف في المطالعة المنزلية، وفي ارتياد دور الكتب والمراكز الثقافية، وحضور المحاضرات والندوات والمعارض والمهرجانات الثقافية، كان عليّ أن أكون إلى جانب الأهل في هذا الجبل وذلك السهل وتلك الشجرة وهاتيك الشتلة، ومع هذه الدابة وذلك الخروف وتلك البقرة، وأحمل المنجل حيناً، والمجرفة حيناً آخر.

5 – بعيداً عن التهويل.

  وكان من الطبيعي أن تنعكس ظروف حياتنا الريفية على تحصيلنا العلمي من ناحية، وعلى قدراتنا الفكرية والتعبيرية من ناحية أخرى، وتحكم على كثيرين منا بالفشل في المجال المعرفي، وعلى آخرين بالاقتصار على الحد الأدنى من العلم. أما من قرّر الاستمرار، من أمثالي، واستطاع الصمود، فكان عليه أن يدفع الثمن غالياً، تارة من راحته وصحّته، وأخرى من علاقاته العائلية والاجتماعية، هذا عدا المشقّة التي عاناها، وضآلة الثمار التي جناها، وكان الجني بعد فوات الأوان.

أقول بصدق:

لست من هواة التهويل والتجميل.

ولا أستسيغ التظاهر بالبطولات والخوارق.

وأمقت الحديث بطريقة تراجيدية لاستدرار الشفقة.

لكن قصّتي مع المعرفة كانت قصة تراجيدية حقاً.

وكذلك كانت قصص سائر مثقّفي الريف من أبناء جيلي.

ولعلّي أستعرض خفايا فصول تلك القصة مستقبلاً.   

(وإلى اللقاء في الحلقة الثانية والعشرين ).

   1 - 4- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 

======================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة العشرون)

ومضات على دروب المعرفة

1 – يُورِيكا! يوريكا!

المعرفة ليست على الدوام سلسلة نجاحات.

إنها في أحيان كثيرة سلسلة من الأخطاء.

كما أنها قد تكون سلسلة من المصادفات.

الأخطاء والمصادفات في حقيقتها اكتشافات.

وبقدر ما نكتشف فداحة أخطائنا وأهمية صُدَفنا نكون نُبهاء.

وبقدر ما نتأمّلها، ونؤصّلها تصنيفاً ومقارنة وتحليلاً، نكون علماء.

وبقدر ما نستثمرها معرفياً، ونطبّقها عملياً، نكون حكماء.

وقد جاء في كتب التاريخ القديم أن ملك (سراكوزه) دفع إلى صائغ كمية من الذهب والفضة، ليصنع له تاجاً، وصنع الصائغ التاج، وقدّمه إلى الملك، لكن دبّت الريبة في نفس الملك، وأراد التأكّد من أن الصائغ وظّف كمية الذهب بالكامل في صنع التاج، ولم يجعل نسبة الفضة أكثر مما اتُفق عليه. فدعا ابن عمّه العالم أرخميدس (قتله الرومان سنة 212 ق.م)، وأوكل إليه حلّ هذه المعضلة.

أشكل الأمر على أرخميدس، وطالت حيرته، فالتاج قد صُنع، وهو في النهاية خليط من الذهب والفضة، فكيف له أن يحدّد نسبة كل من الذهب والفضة في ذلك الخليط؟! أصبح الأمر شغله الشاغل، ودخل ذات يوم الحمّام، وجلس في الحوض، وسرعان ما خرج من الحوض جارياً نحو قصر الملك بثياب الحمّام، وهو يصيح (يُورِيكا! يوريكا!)؛ أي (وجدتُها! وجدتُها!)..

لقد اهتدى أرخميدس إلى الحل بالمصادفة، إنه لاحظ وهو جالس في الحوض أن الماء يدفعه إلى أعلى، وأن ثمة كميّة من مياه الحوض تنزاح، تلك الكمية تتناسب مع وزنه هو.. إذاً يمكن أن نتّخذ الماء معياراً لمعرفة الوزن النوعي للأشياء؛ وهكذا اكتشف أرخميدس واحدة من أكثر النظريات العلمية أهمية؛ ألا وهي نظرية (الوزن النوعي) للموادّ، وبناء عليها استطاع معرفة الوزن النوعي لكل من الذهب والفضة، والتأكّد من أن الصائغ كان أميناً، وأنه وظّف الذهب بالكامل في صنع التاج.

هذا عن المصادفات.

وما أكثر الأخطاء التي هدت العلماء إلى الاكتشافات!

إنّ ما نحتاجه هو فقط أمران اثنان:

·  قدرٌ من الشجاعة لتفحّص أخطائنا.

·  وقدرٌ من الصبر لتأمّل ما في حياتنا من مصادفات.

عندئذ قد نجد أنفسنا ونحن نصرخ بين حين وآخر:

 يُوريكا!.. يُوريكا!

2 – كون أصغر وكون أكبر.

لكن (يوريكا!) هذه لا تأتي دون عناء.

إنها تحتاج إلى مُناخ معرفي أولاً.

وإلى مجاهدة معرفية ثانياً.

وإلى مراجعة معرفية ثالثاً.

لا (يوريكا!) من غير بيئة معرفية خصبة.

ولا (يوريكا!) من غير مجاهدة معرفية مخلصة.

ولا (يوريكا!) من غير مراجعة معرفية جريئة.

وأذكر أني قلت لبعض أصحابي منذ سنين:

لوجودنا كونان، إليهما ننتمي، وبهما نُعرَف:

·  كون أكبر: هو القرية، المدينة، الدولة، القارة، العالم.

·  وكون أصغر: هو البيت (الأسرة).

والكون الأصغر (البيت) هو المدخل إلى (الكون الأكبر)، فإذا كنا نريد كوناً أكبر أجمل وأنبل، وأرقى وأكمل، فلنبدأ من الكون الأصغر، من البيت، من الأسرة. وإلا فالخلل بين الكونين واقع لا محالة، ولا بد أن نعيش انفصاماً حادّاً في الشخصية الفردية والشخصية المجتمعية، وينتهي الأمر بنا إلى القصور في استيعاب (قيمة الحياة)،  والفشل في ممارسة (فن الحياة).

وكنا حينذاك نتحدّث عن العلم والمعرفة، فقلت:

ألا ترون أننا نخصّص في بيوتنا مواضع لتخزين الطحين (كانت أمهاتنا وزوجاتنا حينذاك يخبزن في البيوت)، وأخرى للبُرْغُل والماء والملح والزيت وفرش النوم؟! فلماذا لا نخصّص زاوية- ولو صغيرة- في بيوتنا، فنضع فيها بضعة كتب، ونسمّي تلك الزاوية من المنزل (مكتبة)؟!.. وكم هو رائع أن نعلّق على الحائط خريطة للعالم صغيرة!

وقلت حينذاك:

انظروا كم نُنفق المال بسخاء، بل ببذخ، في مناسبات الأعراس على الأثاث الخشبي وغير الخشبي؛ الأسرّة الفارهة، المقاعد الفخمة، الكراسي المزخرفة، الطاولات، السجاجيد، البسط، الأواني الزجاجية الثمينة، المصابيح الملوّنة...  إلخ. بل إن معظمنا يقع بين براثن الديون بسبب ذلك البذخ. فلماذا لا نجعل مكتبةً صغيرة بسيطة جزءاً من ذلك الأثاث الفخم؟! ولماذا لا تكون بعض هدايانا إلى العروسين بضعة كتب تنتصب ببهاء في تلك المكتبة؟!

وأذكر أني قلت أيضاً:

عندما نعلّق في بيوتنا خريطة للعالم أتدرون ماذا نُنجز؟! إننا عندئذ نؤكّد، في وعي أطفالنا ولا وعيهم، حقيقة الترابط بين الكونين الأكبر والأصغر، وإننا بذلك نحرّرهم من ضيق الأفق، ونفتح أمامهم إمكانية الانطلاق في كل الاتجاهات.

بلى، ما أروع أن يفتح أطفالنا أعينهم، فيجدوا في البيت زاوية تسمّى (مكتبة)، ويجدوا والدهم يتصفّح كتاباً بين حين وآخر! إننا بذلك نزرع في وجدان أطفالنا عشق (المعرفة)، ونعلّمهم كيف يبنون علاقات سويّة ومفيدة ليس بين الكونين الأكبر والأصغر فحسب، بل نهديهم إلى بناء علاقات سويّة بحقيقة إنسانيتهم، ونعلّمهم أن السبيل الحقيقي إلى (الحياة) النقية والتقيّة والرّضية والرخيّة هو (المعرفة).

3 – اجتياز البرزخ.

ولعلي قلت في حلقات سابقات:

إننا- مثقّفي الريف في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين- شهود على ثقافتين متباينتين:

·  ثقافة نهايات العصر البدائي، عصر المحراث، والمنجل، والمجرفة، ومصباح الكيروسين.

·  وثقافة عصر الذَّرّة، وأشعّة الليزر، وسفن الفضاء، وشبكة الإنترنت، وهندسة الجينات.

ويبدو أن ثمّة مُناخاً معرفياً أتيح لكلٍّ منا بالمصادفة، وأن ثمّة مجاهداتٍ معرفيةً وجدنا أنفسنا نخوضها من حيث ندري ولا ندري، ومن حيث نريد ولا نريد، فكابدناها وأنجزناها، واجتزنا، بنجاح ملموس، البرزخ الفاصل بين ثقافة العصر البدائي، وثقافة عصر هندسة الجينات.

وأحسب أن لكل منا تجربته الخاصة في هذا المجال، وله من ثَمّ قصّته وتراجيدياه وكوميدياه أيضاً. وحبّذا لو استعرض كلٌّ منا تلك القصة كما هي!.. فلا أشكّ أن فيها لأولادنا وأحفادنا نفعاً عميماً.. إنها قد تَصدِمهم.. لكن لا بأس!.. إذ ينبغي أن يعرفوا أن اجتياز البرازخ ملحمة.

ألا إن من لا يجتاز البرازخ يبقى خارج التاريخ.

ومن لا يواجهها لا تكتمل معرفته.

ولاجتياز البرازخ ثمنٌ يُدفع.

اجتياز البرازخ لا يكون بلا آلام.

اجتياز البرازخ تحوّل في الجوهر.

انتقال من كينونة إلى كينونة.

فلا بدّ من عرق غزير.

ولا بدّ من دموع صامتة.

ولا بد من توجّعات في الأعماق.

4 – معركة البقاء.

حقاً.. ما كان اجتياز ذلك البرزخ سهلاً قطُّ.

كانت ثمّة كوكبة من الصعوبات تترصّدنا على كل سبيل، وكانت حشود المثبِّطات تنهشنا ليل نهار، كان الفقر وكان القهر.. كان الشقاء شاملاً.. وفوق ذلك كان الجهل مطبقاً.. يا ويلاه!.. كان أهلونا يكافحون بعناد من أجل لقمة العيش، كانوا يخوضون رغماً عنهم معركة الصراع من أجل البقاء.. كانت القضية قضية حياة أو موت.. فكيف لهم أن يغفلوا عن توظيف طاقاتنا في تلك المعركة الحاسمة؟!

تارة كان علينا أن نرعى الخراف في الجبل.

وثانية كان علينا أن نهتم بالأبقار في السهل.

وثالثة كان علينا أن نحمل المنجل، وننطلق إلى الحصاد من السَّحَر إلى غروب الشمس.. ولا يعرف مرارات العذاب وألوان الشقاء من لم يمارس الحصاد بالمنجل، ومتى تحديداً؟! في أيام الصيف اللاهبة!

ورابعة كان علينا أن نحمل الفأس، ونعزق البستان من الصباح إلى المساء، نتحرك شبراً شبراً، وخطوةً خطوةً، من ثَلْم إلى ثَلْم، ومن عشبة إلى أخرى.

وخامسة كان علينا أن نحمل المجرفة، ونسقي الحقل طوال أشهر الصيف، وأذكر أن الوالد – رحمه الله- سافر ذات مرة، وكنت الابن الأكبر، إخوتي الآخرون (محمد ومحمود ومصطفى) كانوا صغاراً، عبد الرحمن ما كان قد ولد بعدُ، كانت أختي (فاطمة) هي الأصغر مني مباشرة، لكن تقاليد الريف ما كانت تسمح للفتاة بحمل المجرفة وسقاية الحقل. فكان عليّ أن أقوم بالسقاية ثلاثة أيام متتابعات بلياليها، أغوص في الوحل إلى ركبتيّ، ويداهمني النوم بعد منتصف الليل، فأضطجع بين شجيرات القطن حيثما كان.. فراشي الأرض ولحافي السماء.

5 – عصا والدي.

واحسرتاه!

لقد طحنت معركة الصرع من أجل البقاء مستقبل كثيرين من أبناء الريف وبناته، إنها استنفدت طاقاتهم، وقذفت بهم- رغماً عنهم- بعيداً عن دائرة المعرفة والثقافة.. كانت قريتنا صغيرة حينذاك، لكن كان من أبناء جيلي ما لا يقل عن عشرة ممّن بدأوا التعليم في (عفرين)، وكنت أول من حصل على الشهادة الثانوية (البَكَلوريا) – الفرع العلمي- سنة (1965). وفي الجيل السابق عليّ كان اثنان فقط قد حصلا على الثانوية الزراعية.

هل كنت الأذكى من بين أبناء جيلي في القرية؟!

لا .. مطلقاً.

وإنما لعبت المصادفة دورها.

وكان (المُناخ العرفي) هو المصادفة.

فقد فتحت عيني على الحياة في بيت كانت فيه نواة مكتبة، كانت مكتبة موزّعة بين ربطات من الكتب على رفّين خشبيين طويلين، وكتبٍ أخرى موضوعة في كوّة، وبضعةِ كتب في صندوق صغير، وقد ذكرتُ ذلك في (مثقّفو قريتي الأوائل). وكنت، وأنا صبي ثم يافع ثم شاب، كثيراً ما أجد والدي يقلّب صفحات تلك الكتب، وأتذكّر أنه – رحمه الله- كان يُمضي أكثر أوقاته في المنزل وهو يقرأ أو يكتب.

وأحسب أن المُناخ المعرفي الذي أتيح لي- رغم بساطته وبدائيته- كان مصادفة مباركة، وأن تلك المصادفة أنقذتني من الانسحاق بين فكّي شقاء (القرية/الضَّيعة)، ووضعتني على أول الطريق في رحلتي الطويلة مع (المعرفة). وثمة مثل كردي قديم جداً، يعود إلى عهود أيام الرعي، يقول:

" الابن يحمل عصا أبيه، والفتاة تحمل مغزل أمها".

وهكذا قُدّر لي أن أرث (عصا) أبي.

وكانت عصاه (الكتاب/المعرفة).

وها أناذا أحملها منذ خمسة وأربعين سنة.

تارة أتوكّأ عليها.

وأخرى أهشّ بها على قَدَري.

ولي فيها مآرب أخرى.

  (وإلى اللقاء في الحلقة الحادية والعشرين).

   15 - 3- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 

 

=============

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة التاسعة عشرة)

بالمعرفة وحدها يحيا الإنسان!

1 – مقولة عريقة.

" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان".

مقولة عمرها قُرابة ألفي عام.

ولعل النبي عيسى أول من أعلنها.

وهي مقولة مفتوحة النهايات.

ولكلٍّ منا أن يكملها على طريقته.

يمكن لأحدنا أن يقول مثلاً:

 " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بالحرية أيضاً".

ولثانٍ أن يقول: " بل بالإنسانية أيضاً".

ولثالث أن يقول: " بل بالأخلاق أيضاً".

ولرابع أن يقول: " بل بالسيادة أيضاً".

ولخامس أن يقول: " بل بالقوة أيضاً".

ولسادس أن يقول: " بل بالسعادة أيضاً".

ولسابع أن يقول: " بل بالجمال أيضاً".

ولثامن أن يقول: " بل بالمال أيضاً".

وهكذا دواليك..

وأما بالنسبة لي فأقول: " بل بالمعرفة أيضاً".

2 – المعرفة طاقة.

وقد تأكّد لي بالأدلّة التاريخية والواقعية القاطعة أن (المعرفة) هي وحدها الطريق إلى تمثّل قيمة الحرية والدفاع عنها، وبالمعرفة نمارس إنسانيتنا على النحو الأكمل، كما أننا بالمعرفة نهذّب أخلاقنا ونرتقي بسلوكياتنا نحو الأنبل، وبالمعرفة نحوز السيادة والقوة، وبالمعرفة ترقّ أحاسيسنا الجمالية، وبالمعرفة نبدع الطرائق والوسائل التي تحقّق لنا اقتصاد الوفرة والرخاء. 

وكتبت ذات مرة في عنوان إحدى هذه الحلقات: " أمة لا تقرأ.. أمة بلا ملامح ". بلى.. إن أمة لا تقرأ هي أمة تتقاعس عن امتلاك المعرفة، وهي أمة تفتقر من ثَمّ إلى إرادة (وعي الذات)، وتخطئ الطريق إلى (وعي الحياة)، وتحكم على نفسها بالتخلّف فالاضمحلال فالانمحاق، وإذا قُدّر لها أن تستمر في الوجود فلا تكون إلا من سَقَط المتاع.

المعرفة قوة سحرية مدهشة.. المعرفة طاقة هائلة لا حدود لها.. طاقة تصنع المعجزات.. وتعلمون بلا ريب أن أشد السرعات المكتشفة إلى الآن هي (سرعة الضوء)، وتُقدَّر بحوالي ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، وتعلمون أيضاً أن أعظم طاقة اخترعها البشر إلى الآن هي القنابل الانشطارية (النووية والهيدروجينية)، وأن من أغرب الأشعّة، وأشبهها بما كان يُروى سابقاً عن الجن، هي أشعّة (الليزر).

وأقول لكم بصدق:

ما تنجزه المعرفة للفرد والأمة أسرع من الضوء.

وأعظم من الانشطار النووي.

وأغرب من الليزر.

بالمعرفة يكون خلاص الفرد، وخلاص المجتمع، وخلاص الأمة، كانت (اِقرأْ) أول كلمة نزلت على النبي محمد عليه السلام، وليس المقصود بكلمة (اِقرأْ) هذه فعل (القراءة) بالمعنى السطحي، إنها تعني بالمعنى الأكثر شمولية (اِعرفْ).. تقدّمْ نحو (المعرفة).. امتلك (المعرفة).. عمّق (المعرفة).. جسِّد (المعرفة).. وظِّف (المعرفة).

وعندئذ فقط تهتدي إلى الله.

وعندئذ فقط تتمثّل ذاتك.

وعندئذ فقط تتوحّد بالعالم.

إن القبائل المتصارعة في صحارى شبه جزيرة العرب، المتنافسة على موارد المياه النادرة، المتقاتلة على مرابع الكلأ القليلة، القبائل التي كانت تشكو الجوع والعُري، ألحقت الهزيمة بأكبر إمبراطوريتين في العالم القديم؛ الإمبراطورية الفارسية شرقاً، والإمبراطورية البيزنطية غرباً، وكوّنت دولة تمتد من حدود الصين إلى ساحل المحيط الأطلسي، وهل كان إنجاز ذلك إلا بفضل كلمة (اِقرأْ) التي تعني (اِعرفْ)؟!

ألا من كانت له عينان فلْيُبصر!

ومن كانت له أذنان فلْيَسمع!

ألا إنّ أضعف الشعوب قوةً، وأشدّها مظلوميةً وهواناً، وأكثرها تشرذماً وضياعاً، وأشقاها استلاباً وغياباً عن الساحة العالمية، لقادرةٌ بالمعرفة أن تستجمع قواها، وتوحّد صفوفها، وتسير بخطاً واثقة ورصينة نحو استرداد هويتها، وترتقي مواقع متقدّمة في ميادين التحضّر.

3- العصر المعرفي الأسطوري.

وللمعرفة مجالات كثيرة ومتشعّبة، إن مجالاتها هي مجالات الحياة نفسها، بكل ما تعنيه الحياة من بنى روحية ومادية، وبكل ما تشتمل عليه من مستويات نظرية وتطبيقية، وبكل ما تقتضي من حاجات جمالية ونفعية، وبكل ما تستلزم من متطلّبات فردية ومجتمعية. أما حدود المعرفة فهي حدود الكون نفسه، بكل ما يعنيه الكون من حجر وشجر، وحيوانات وبشر، وأرض وسماوات، وكواكب ونجوم ومجرّات.

وأما عن فروع المعرفة فحدّث ولا حرج.

ففي السابق كانت البشرية تبتكر كل قرن، وربما أكثر، فرعاً أو فرعين من المعارف. لكن بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين بتنا نجد أنفسنا، خلال عَقْد من الزمان، إزاء بضع فروع جديدة من المعارف؛ حتى إن المرء المتعطّش إلى المعرفة، الراغب في الإحاطة بمعظم العلوم الأساسية، كما كان بعض القدماء يفعلون، يجد نفسه عاجزاً كل العجز عن مواكبة الجديد من المعارف، بل يكاد يشعر بالإحباط التام، ويرى أن اليوم الواحد، بساعاته الأربع والعشرين، أضيق من أن يتّسع لما ينبغي أن يُلمّ به من معلومات، ويحيط به من معارف.

وأحسب أن (الفلك) كان أمّ العلوم في العصر المعرفي القديم جداً، وتحديداً في الألف الثاني قبل الميلاد، سواء أكان ذلك عند السومريين وورثتهم الأكّاديين والغُوتيين والبابليين، أم كان عند المصريين القدماء، أم كان عند الآريين الشرقيين (الهنود، الكرد، الفرس)، أم كان عند الآريين الغربيين (الإغريق)، وأرى أن نسمّي هذا العصر باسم (العصر المعرفي الأسطوري).

في هذا العصر نجد تشابكاً وتلاحماً وتضايفاً عجيباً بين الآلهة والأجرام والطبيعة والبشر، كانت الآلهة وأشباه الآلهة محور المعرفة، وكان الإنسان لا يجد نفسه، ولا يعي ذاته، ولا يعي الطبيعة، إلا عبر الآلهة؛ ففي الأساطير السومرية كان (أنكي) إله السماء كبير الآلهة، وكذلك كانت (أبسو) إلهة الماء عندهم، وكان (آنو) إله السماء عند البابليين، و(آشور) من آلهة الشمس عند الآشوريين، و(ميثرا) إله الشمس والنور عند الآريين الشرقيين، و(هيليوس) إله الشمس عند الإغريق، و(زيوس) إله السماء عندهم، و(رُعْ) هو الإله الشمس عن المصريين القدماء، و(يَهْوَه) الإله الذي يتجلّى في الصاعقة عند اليهود.

4- العصر المعرفي الفلسفي.

ومع حلول الألفية الأولى قبل الميلاد تراجع (العصر المعرفي الأسطوري) رويداً رويداً، وحلّ محلّه (العصر المعرفي الفلسفي)، وجرى هذا التحوّل المعرفي الهامّ على أيدي الإغريق في الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى [غربي تركيا الآن]، فظهرت (الفلسفة الطبيعية)، ومن أشهر فلاسفة هذه المرحلة: طاليس (624-545 ق.م)، وأناكسيمندروس (610-546 ق.م)، وهيراقليطس (535- 475 ق.م)، وزينون (490- 430 ق.م)، وفيثاغورس (588-503 ق.م). وانصبّ الاهتمام المعرفي في هذه المرحلة على البحث في جدلية العلاقة بين الإنسان ومظاهر الطبيعة والأعداد، ولكن على نحو أكثر عقلانية.

وفي النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد انتقل مركز الثقل المعرفي إلى جنوبي بلاد اليونان، وطوّر الإغريق هناك استكشافاتهم المعرفية الخلاّقة، فأبدعوا ما يُعرف بمصطلح (الفلسفة الإنسانية). ومن أشهر فلاسفة هذه المرحلة: بروتاغوراس (485-411 ق.م)، وسقراط (427- 399 ق.م)، وأفلاطون (427- 347 ق.م)، وأرسطو (نحو 367- 322 ق.م).

وقد انصبّ الاهتمام في هذه المرحلة على البحث في الإنسان فرداً ومجتمعاً؛ تارة برؤية هي مزيج من المثالية والواقعية كما هي عند سقراط، وتارة أخرى برؤية مثالية كما هي عند أفلاطون، وتارة ثالثة برؤية مادّية كما هي عند أرسطو. وكان للبحث الفلسفي الإنساني ثلاث دوائر متكاملة متفاعلة هي: دائرة الحق، ودائرة الخير، ودائرة الجمال.

5 – خارج العماء.

وأحسب أن أعظم ما قدّمته الفلسفة الإغريقية، بشقّيها الطبيعي والإنساني، وبوجهيها المثالي والمادّي، للبشرية هو تحرير (الوعي) من ضبابيّات المعرفة الأسطورية، وتحليل الوجود الإنساني والبحث في مشكلاته بعيداً عن هيمنة الآلهة وأشباه الآلهة، وتحرير البشرية من تسلّط الإيديولوجيات الكهنوتية المؤسسة أصلاً على البنى الأسطورية، والتي تختلق شرعية تنسبها إلى الآلهة وأشباه الآلهة، وتتّخذها جسراً إلى التحكّم في مصائر المجتمعات.

والحق أن المعرفة الفلسفية الإغريقية ما زالت تفعل فعلها في الفكر البشري، فالمعرفة الأوربية التي سادت في القرن العشرين، وجعلت البشرية تتّخذ الكرة الأرضية منصّة انطلاق نحو الكواكب والنجوم والمجرّات، إنما تعود في الأصل إلى الفكر الفلسفي الأوربي الذي نما وترعرع في عصر النهضة، وهل تأسّست المعرفة في عصر النهضة إلا على أركان الفلسفة الإغريقية؟!

وكانت البشرية محظوظة عندما خابت محاولات الملك الفارسي الأخميني دارا الأول وابنه أحشويرش في السيطرة على بلاد الإغريق، كان ذلك في سنتي (490 ق.م) و(479 ق.م)، ولو أفلح الفرس في محاولاتهم تلك لأجهضوا عملية تحرير الوعي البشري من قيود العصر المعرفي الأسطوري، ولحال الكهنوت الشرقي المؤسطَر دون ولادة الفلسفة الإنسانية، ولُرمي بأجيال البشرية مرة أخرى في برازخ العماء.    

. . . . . .

 

كانت النية معقودة على الحديث عن الحكماء والفلاسفة.. وكنت- وما زلت- أعدّ الحكماء والفلاسفة أساتذتي الأوائل.. ولي مع بعض هؤلاء الأساتذة الأجلاّء رحلات عرفانية مديدة، وأحسب أنها كانت رحلات مفيدة بقدر ما كانت ممتعة.. وأجزم أنه لولاها لكنت أدور إلى الآن في فلك الثقافات البدائية التعيسة.

وها أناذا أرى أن الحديث سار نحو (المعرفة).. وهذا ما عهدته من نفسي في كثير من الأحايين.. فقد أبدأ بفكرة، ثمّ أرى أفكاراً أخرى تتزاحم، وتتسابق إلى الحضور، فلا ألجمها ولا أقمعها، بل أطلق لها العنان، وأرسلها كما هي.. وهذا ما وجدتُني أفعله في هذه الحلقة، ولست بنادم على ذلك ولا آسف.

ومهما يكن فلا حديث عن الحكماء والفلاسفة خارج (المعرفة).

ولا بد من العودة ثانية إلى أساتذتي الحكماء والفلاسفة.

  (وإلى اللقاء في الحلقة العشرين).

   28 - 2- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

=====================

=========

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الثامنة عشرة)

الغجر سادة العالم!

1 – لوحاتٌ عزيزة.

الزمن منتصف القرن العشرين.

كانت قرانا حينذاك بائسةً حقاً.

لكنها كانت رابضة بثبات كما هي أشجار الزيتون.

منتصبة بعناد كما هي أشجار السنديان والصفصاف.

متشبّثة بذاتها كما هي جذور التوت والدُّلْب والجوز.

كانت قرانا- وما زالت- تنتثر هناك.. على سفوح وقمم جبال لَيْلُون وشٍكاك شرقاً، وعلى مناكب جبال هَشْتِيا غرباً، وعلى منحدرات جبال هاوار شمالاً، وفي أحضان سهول جُومة جنوباً.. كل قرية كانت عالماً تراجيدياً خاصاً.. لكنها كانت تراجيديا خارج الوعي.

وها هنا المفارقة..

إذ لا يكفي أن يكون المرء في موقف تراجيدي.

وإنما المهم أن يعي المرء أنه في موقف تراجيدي.

وكان للحياة في قرانا لوحات ولوحات.. أسمّيها لوحات بعد أن ابتعدتْ عني أكثر من أربعين عاماً. أما حينذاك فكانت تلك اللوحات شطراً من حياتنا، بكل ما كان في حياتنا من إشراقات وظلمات.. وها هي ذي اللوحات تتزاحم أمام عينيّ.. إنها تودّ الانفلات من قبضة الماضي السحيق.. إنها تريد الاغتسال ثانية بوهج الحضور.

وجميعها لوحات عزيزة عليّ.

عزيزةٌ تلك اللوحات التي أسعدتني فأضحكتني.

وعزيزةٌ تلك التي أحزنتني وآلمتني فأبكتني.

وعزيزة تلك التي هدتني بصمت إلى معرفة (الآخَر).

2- لوحة السنونو!

مع إطلالة كل ربيع كنا نستيقظ صباحاً، فنجد طيور السنونو (بالكردية Meqesok) تملأ فضاء القرية، كانت طيوراً وديعة رشيقة الشكل، دقيقة المناقير، سمراء الوجه، سوداء الريش، عدا بعض البياض في الصدر، كانت تندفع في الجو على ارتفاعات منخفضة وبسرعات كبيرة، مع انعطافات مفاجئة، وانزلاقات هوائية حادّة يَمنةً ويَسرةً، وارتفاعاً وهبوطاً، كما كانت تتميّز بزقزقاتها العجيبة، كانت الزقزقة تبدأ بتقطّعات سريعة، وتنتهي على الدوام بمقاطع مديدة.

ومن غرائب السنونو أنها ما كانت تبني أعشاشها على فروع الأشجار، أو في شقوق الجدران الخارجية للبيوت، وإنما كانت تصّر على أن تشاركنا السكن داخل البيوت، وتصبح من أعضاء الأسرة.

ولم أجد مثل السنونو طيوراً نشيطة، دائبة الحركة، منكبّة على العمل، سريعة الإنجاز، ولو نهجت أمةٌ نهجها لسبقت الأمم تقدّماً وازدهاراً في فترة قصيرة. كان كل زوجين يتوزّعان على أحد البيوت، ويشرعان في بناء العش، كانا يسرعان إلى إحضار الطين، ويضمّان إليه قطع القش، فيلصقانه بجانب أحد الأعمدة الممدودة أفقياً في السقف، ويدأبان على ذلك من شروق الشمس إلى وقت الغروب، بلا كلل ولا ملل.

حتى إذا اكتمل العش بادرا إلى تأثيثه بأنواع من القش اللطيف، ثم تضع الأنثى البيض، وتجثم عليه ساعات طويلة كل يوم، وبعد مدة كنا نسمع زقزقة الفراخ من العش المعلّق بالسقف فوق رؤوسنا، وكم كان منظر الزوجين رائعاً وهما ينطلقان لجمع الديدان، وتقديم وجبات شهيّة لفراخهما! وكم كانت الفراخ مبتهجة بتلك الوجبات، إنها كانت تتسابق إلى مدّ رقابها من العش، فاتحةً أفواهها الصغيرة، وهي تُصدر زقزقات رقيقة ملحّة، وكانت اللقمة تستقر في حلق أحدها كلَّ مرة.

وكانت زائراتنا الوديعات في الغاية من اللطف، إنها ما كانت ترمي فضلاتها من الطعام وغيره إلى الأسفل، وما كانت تَغِير على ما في المنزل من حبوب وأطعمة وأشربة، كانت طيوراً نظيفة، ولا أشك أنها كانت تقوم بتنظيف عشّها بانتظام، وكانت طيوراً مهذّبة، تخلد مع غروب الشمس إلى الهدوء التام، فلا تصوّت ولا تزعج، حتى إذا أشرقت الشمس هبّت إلى الخروج بحثاً عن الرزق بكل همّة.

ومع أواخر الصيف كانت زائراتنا المهذّبات يرحلن، كان الرحيل من غير وداع، ولعلها كانت تودّعنا من حيث لا ندري.. إن (المركزية البشرية) تسلبنا متعةَ التواصل مع (الآخر) في عالمنا، وها هو ذا التمدّن يدفعنا إلى المزيد من القطيعة مع شركائنا من الطيور والأشجار والصخور، ومنذ أن هدّمنا بيوتنا المسقّفة بالعواميد الخشبية، وبنينا بيوتاً ذات سقوف إسمنتية، غابت السنونو عن قرانا.

قلت لأولادي ذات مرة: "عندما أنتهي من هذا التشرّد، وأعود إلى القرية، سأبني بيتاً هناك على الجبل، بيتاً متواضعاً مسقوفاً بالخشب".

صمت أولادي.. أحسب أنهم استغربوا مشروعي (التراجعي)هذا.

أما أنا فكنت - وما زلت- أتطلّع إلى عودة السنونو. 

3- لوحة الغجر!

ومع بداية كل ربيع كنا نستيقظ ذات صباح فنجد على فسحات البيادر بعض بيوت الشعر، كانت بيوتاً بسيطة المظهر، وأحسب أنها من بساطتها ما كانت تردّ حَرّاً ولا قَرّاً، وإنما كانت تقوم على الغالب بوظيفة الساتر.

لم تكن بيوت الغجر فارهة، كانت منخفضة محدودة الحجم، ولم تكن تشبه بيوت الشعر عند البدو، ففي بيوت البدو كنا نجد حاجزاً من أعواد الخيزران الرفيعة، يجعل جغرافيا البيت قسمين: قسم مغلق خاص بالنساء، وقسم مفتوح للزوّار وللضيوف.

وكان أثاث بيوت الغجر قليلاً وبسيطاً جداً، بل رثاً ومتّسخاً وغير مرتّب.. مواعين بدائية مبعثرة.. فرشٌ قطنية عتيقة مخرَّقة باهتة الألوان مكوّمة في زاوية، أين منها تلك الفرش الصوفية الوثيرة النظيفة التي كانت جدّاتنا وأمهاتنا يجهدن أنفسهن لإعدادها؟! وخارج البيوت كانت مرابط للحمير، وفي الأغلب كانت الحمير هي مراكب الغجر في حلهم وترحالهم، كما أنها كانت من مصادر رزقهم عبر المتاجرة بها. وكثيراً ما كان الغجر يصطحبون معهم كلاباً، منها العادي ومنها السلوقي الخاص للصيد، وكان من العادي أن يضطجع الكلب داخل بيت الشعر في المكان الذي يشاء.

4- بحث في الجذور.

     كنا- ونحن صبية- نسأل: من هم الغجر؟ من أين يأتون؟ لماذا ليست لهم قرى؟ لماذا لا يسكنون بيوتاً حجرية؟ ما كنا نتلقّى إجابات شافية، سوى أنهم (قُرْبَتْ) و(چُولِكْ)، هكذا كانوا يُسمَّون بالكردية، وأنهم من الصنف الأدنى، بل سمعت في صغري رواية مفادها أن الله خلق البشر كلهم من تراب، ما عدا (القُربَتْ) و(المُرْتُبْ= الطبّالة) فقد خلقهم الله من القمامة. ولا عجب في مثل هذا التعليل.. إن قرانا كانت تنتمي حينذاك إلى ثقافة أواخر العصر البدائي.

     والطريف أن الغجر أنفسهم ينظرون إلى بقية الناس نظرة ازدراء، ويسمونهم (گاجو) gadjo، وتعني فلاح أو مزارع, تماماً كما تعني كلمة جِلْف وغير مهذب, أما هم، بملايينهم الستة تقريباً، فيعدّون أنفسهم سادة العالم كله, يجولون فيه كما يشاؤون قبل أن تُبتدَع الحدود والجوازات.

    وأحسب أن الغجر أقدم الفاتحين العالميين، وأعرق من مارس (العَوْلَمة)، ولكن ليس على صهوات الخيول، ولا بامتشاق السيوف، وتدمير الحواضر، واستعباد البشر، وقمع الشعوب، وإلغاء الثقافات، وإقامة أهرامات الرؤوس، كما فعل الإسكندر وجنكيز خان وتيمور لنك وأتيللا، وسائر الغزاة قديماً وحديثاً، وإنما غزوا العالم على صهوات حميرهم الصغيرة العجفاء مثلهم، وأوصلوا إلى الفلاحين والرعاة بعض منجزات الحضارة من المدن البعيدة، وزرعوا الفرح في القلوب، ولذلك كانوا أطول الغزاة العالميين عمراً.

   وتُنسب إلى الفِرْدَوْسي كبير شعراء الفرس رواية، مفادها أن الملك الفارسي بَهْرام جُور أراد الترفيه عن شعبه, فأرسل وفداً إلى أحد المهراجات في الهند، راجياً أن يرسل له أشخاصاً يجيدون الغناء والرقص والمرح, فأرسل له المهراجا اثني عشر ألف مغنّ جوّال من الرجال والنساء، فخصّص بهرام لهم أرضاً، ومنحهم بذوراً وماشية ليحصلوا على رزقهم بالزراعة والرعي، مقابل الترفيه عن شعبه.

    لكن أولئك الهنود كانوا يأنَفون من الزراعة والرعي، فاستهلكوا البذور، وباعوا بعض مواشيهم وذبحوا بعضها الآخر، فغضب عليهم بهرام، وأمرهم بالتجوال في البلاد، للحصول على معيشتهم بالرقص والغناء، فانتشروا في إمبراطورية فارس الفسيحة، يغنّون ويرقصون، ثم انتشروا منها إلى بلدان شرقي المتوسط وأوربا.

   ولا أدري مدى صحة هذا الخبر، لكن ما أذكره جيداً أن سحنة الغجر الذين كانوا يرتادون قرانا لم تكن شرق أوسطية ولا إفريقية ولا أوربية، كانوا أشبه ببعض شعوب القارة الهندية، كانوا متوسّطي الطول، وأقرب إلى القصر، عجاف الأجسام، في وجوههم وشعورهم صفرة خفيفة، وكانت أزياء نسائهم تختلف كثيراً عن أزياء نساء الكرد، وكنا- نحن الصبية- نندهش لنبرات لغتهم التي تكثر فيها تداخلات حرفي الراء واللام، فكنا نحاول تقليدهم، فنثير استياءهم.

5 – قراءة الكف!

وبقدوم الغجر كانت تدبّ في قرانا حركة غير عادية، فمع الضحى كانت الغجريات يدرن على البيوت بيتاً بيتاً، كن يحملن في أيديهن عصيّاً طويلة لردّ هجمات الكلاب، ويعلّقن على أكتافهن جَعَبات قماشية فضفاضة، فيها ما هبّ ودبّ من اللوازم الخفيفة: خيوطٌ عادية ومطّاطية، إبرٌ، شكّالات، حبّاسات للشعر، علكة طبيعية، خواتم وأساور فضية ونحاسية، عقود ملوّنة، خرز صغير ملوّن. وكن يقايضن كل ذلك بالطحين والبرغل والزيت والسمن والدبس، وغير ذلك.

والأهم من هذا كله أن بعض الغجريات كن يمارسن (قراءة الكف)، وهذا ما كان يجعل نساء القرى أكثر احتفاءً بهن، وكانت الغجريات ماهرات في حبك تلك القراءات، كانت الغجرية تمسك بيد المرأة أو الفتاة، وتديم النظر في الكف المفتوحة، وهي لا تنبس ببنت شفة، في حين كانت النساء يدققن النظر في وجه الغجرية، ويقرأن ما يظهر عليها من ملامح الانقباض والانبساط.

كانت الغجرية قارئة الكف تبدأ بسرد توقّعات عادية، ثم تبدأ بالتصعيد، وتصل إلى العقدة، لكنها كانت تجعل الخاتمة مشرقة على الدوام؛ سيتقدّم خطيب إلى طلب يد هذه الفتاة، (الأم متوجّسة!) ستتمّ الخِطبة (الأم مرتاحة!)، لكنّ أحداثاً مزعجة ستقع (الأم مذعورة!)، وتنفصم الخِطبة (الأم تلطم وجهها برفق!)، لكن بعد فترة قصيرة سيظهر شاب جديد (الأم قلقة!)، إنه أكثر وسامة وأوفر مالاً وأرفع جاهاً (الأم مستبشرة!)، ستصبح ابنتك أماً لسبعة بنين (الأم تكاد تطير فرحاًً). وها هنا تركض الفتاة لتدسّ المزيد من الطحين في جعبة الغجرية.    

وقبيل غروب الشمس كانت نساء الغجر يقمن بجولة ثانية على البيوت، وهن يعلّقن على أكتافهن علباً معدنية متوسّطة الحجم، ويحملن عصيّهن الطويلة، فيحصلن من كل بيت على قسم مما أُعدّ للعَشاء. وكنا نعجب من قدرة الغجر على تناول ذلك الخليط العجيب الغريب.

وأما الرجال فكانوا يلزمون البيوت لرعاية الأطفال والصبية من ناحية، ولصنع ما يحتاجه الفلاح من لوازم يدخل في صناعتها الجلد الطبيعي، مثل الغرابيل، والمذاري، إضافة إلى صنع السلال المختلفة الأحجام من أغصان نبات (الگز).

 6 – أغنية الغجري المشرد!

على أن أكثر ما كان يجذب انتباهنا في الغجر أمران: الألعاب البهلوانية التي كان يجيدها الغجر. وتعلّق الغجر بآلة (الكمان) الموسيقية. وما زلت إلى الآن أتذكّر الأنغام الشجية التي أبدعها غجري عجوز، وهو يداعب كمانه البسيط عصر يوم ربيعي، كان يدندن مع اللحن.. من يدري؟! لعله كان يغني أغنية الغجري المشرَّد التي تقول:

" لم أعرف أبي.. وليس لي أصدقاء.

ماتت أمي منذ زمن.. وتركتني حبيبتي غاضبة.

وأنت وحدك، يا كماني، ترافقني في هذا العالم".

لم أفهم العجوز الغجري حينذاك.

إننا نكتشف الحقائق الكبرى بعد فوات الأوان.

وتلك هي مشكلتنا الأبدية.

  (وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة عشرة).

   14 - 2- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 

=============================== 

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة السابعة عشرة)

يا حكماء قريتي.. كم كنتم رائعين!

1 – مفارقة!

" بِياكُلْ قُضامَهْ، وبِيحْكي في الفلسفة "!

مثل شعبي حلبي قديم، يُضرب لمن يحاول الجمع بين أمرين: أحدهما هامشي عابث، والآخر جادّ جليل. وقد يصحّ هذا المثل في عنوان هذه الحلقة؛ فالمعروف أن القرى مواطن الفلاحين والرعاة والبسطاء من الناس، فكيف تكون قريتي المنزوية على السفح الغربي من (جبل لَيْلُون) موطناً للحكماء؟!

حسناً.. دعونا نسترح قليلاً من عبودية المصطلحات.

  فالحكيم فيما أعلم هو من يفهم الحياة بعمق، ويتصرّف برزانة، ويعمل بما يؤمن به، وانطلاقاً من هذا المعنى المبسَّط لكلمة (الحكمة) أجد الشجاعة لأن أسمّي بعض أبناء قريتي (حكماء)، ولم لا ؟!.. إنهم كانوا أصحاب رؤى حياتية عميقة تتناسب والمرحلة التاريخية التي عاشوها، وكانوا يجسّدون تلك الرؤى في أقوالهم ومواقفهم بصدق وعفوية رائعة.  

2-  صداقة غير مألوفة!

وحين بلغت الصف الثالث الثانوي كانت علاقة الصداقة قد توطّدت بيني وبين اثنين من حكماء قريتي: كان الأول شيخاً في السبعينات، وكان الثاني كهلاً في الخمسينات.. وهذا ما لم يكن مألوفاً في مجتمعنا القروي، وأحسب أن هذا الاستثناء على القواعد الريفية الصارمة كان لأسباب:

منها أني كنت كثير الانكباب على المطالعة، وكان أولئك الشيوخ والكهول يلقون عليّ أسئلة تاريخية ودينية وعلمية، فكنت أجيب عمّا أعرف ببساطة ووضوح، وأعتذر عما لا أعرفه، فكانوا يجدون في إجاباتي ما يشبع نهمهم إلى المعرفة.

ومنها أن الوالد- رحمه الله- كان إمام المسجد في كثير من الأوقات، وكان شيخ الكُتّاب في فترات عديدة، وتعلمون أننا - معشر الشرقيين- كثيراً ما نتوسّم الخير في أبناء شيوخ الدين.

ومنها أيضاً أني كنت، منذ شبابي الأول، أتجنّب السلوكيات الفجّة، وكنت حريصاً على التمسّك بالآداب العامة، معروفاً بالهدوء والتعقّل، وكان الفضل في ذلك كان للنهج التربوي الحازم الذي التزمه الوالد إزائي. وأحسب أن هذه الصفات شجّعت الكهول والشيوخ على صرف النظر عن الفوارق العمرية، وجعلتهم يطمئنون لي ويثقون بي.

3-  أمثال تركية.

أما الشيخ الحكيم السبعيني فكان العمّ علي مراد (بافى علي).. ومرّ في الحلقة السابقة أن (بافى علي) كان يقوم في قريتي مقام المهاتما غاندي في الهند.. إنه كان يأخذ بمبدأ اللاعنف في وسط ريفي يؤمن بالعنف إلى حد الجنون، وكان صاحب فلسفة اجتماعية مسالمة، دعامتها ابتسامة وديعة، ومرح مهذّب، وهدوء جمّ في أشد اللحظات حرجاً.

كان (بافى علي) قد تعلّم في صباه بالتركية على يدي شيخ كُتّاب قادم من الأناضول، شأنه في ذلك شأن القلّة القليلة ممّن تعلّم حينذاك، إنه كان ينقل حكمته إلى الآخرين عبر بعض الأمثال والعبارات السائرة بصيغتها التركية. فإذا أراد أن يداعب أحد الكسالى، ويشجّعه على العمل قال له: لا تكن مثل تنابل السلطان عبد الحميد! فنسأله: ومن هم هؤلاء؟! فيقول: هم جماعة من الكسالى المتواكلين، إن أحدهم كان يتمدّد تحت شجرة المشمش، فتقع عينه على الثمرة فيشتهيها، فلا يقوى من كسله على النهوض وقطف الثمرة، فيخاطبها قائلاً: " مِشمش! مِشمش! گَلْ بُوغازِنَهْ دِشْ". Mishmish! Mishmish! gal bogazineh dish  (يا مشمشة! يا مشمشة! تعالي ادخلي إلى حلقي).

وإذا أسرف أحدهم في بذل الوعود الجوفاء قال (بافى علي) المثل التركي " بوش أنبار، ديفسيس كُولَك.. ها أُولْج! ها أُولْج"، Bosh Anbar divsis kolek ha olch ha olch (مستودع فارغ، ومكيال بلا قاعدة، فكِلْ وكِلْ قدرَ ما تشاء)!

4 -  فَرَمان سلطاني!

وكثيراً ما كنت أزور (بافى علي) في بستانه في أويقات الضحى تارة، وفي أوقات العصر تارة أخرى، حاملاً معي دفتراً وقلماً.. كان مشروعي حينذاك هو تعلّم التركية، وكان (بافى علي) بارعاً فيها، وكنا قد اتفقنا على أن يروي لي بعض قصص الحيوانات بالتركية، ويترجمها إلى الكردية.. كانت قصصاً شبيهة، إلى حد كبير، بما جاء في كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفَّع.

وروى لي (بافى علي) في ضحى يوم ربيعي القصة التالية:

" ذات يوم التقى ثعلبان جائعان.. بحثا معاً عمّا يسدّ الرمق، فكلاب القرية شرسة، ولا تترك لهما المجال للسطو على الديكة والدجاجات.. كان الوقت صيفاً.. وكانت الأعناب قد نضجت.. مرّا بجانب كرم، عناقيد العنب الشهيّة تسيل اللعاب.. لكن ما العمل؟! فالناطور يراقب من أعلى الخيمة.. رأى أحد الثعلبين ورقة على الأرض، التقطها.. حدّق فيها.. تهلّل وجهه بشراً.. التفت إلى صاحبه قائلاً:

-  لا عليك بعد الآن! بإمكاننا الدخول إلى أيّ كرم دونما اعتراض.

-  وكيف ذلك يا صاحبي؟!

-  خذ! هذا فَرَمان (قرار) من السلطان العثماني.. اقرأه!

-  يا لتعاستي!.. أنا لا أعرف القراءة.. ماذا يقول الفرمان؟

-  فيه أن رعاية جلالة السلطان خاقان البرَّين والبحرَين شملت رعيته بشراً وحيوانات، وبناء عليه سُمح للثعالب الجائعة أن تدخل إلى أي كرم تريد، وتتناول ما تشاء من الأعناب.

-  إنه لفرمان رائع حقاً! أدام الله سلطاننا العادل!

دخل الثعلبان الكرم.. نهشا بعض العناقيد.. أحسّ بهما الناطور فأهاج الكلب.. نبح الكلب بقوّة وانطلق نحو الثعلبين.. جرى الناطور خلف الكلب.. قفز الثعلب حامل (الفرمان) هارباً.. تبعه الثاني مندهشاً.

-  الثعلب الجاهل (صارخاً في المتعلم): فَرْمانَهْ جِقْدِرْ! فرمانه جِقْدر! (أبرزْ الفرمان! أبرزْ الفرمان!).

-  الثعلب المتعلم (متضايقاً): يا هُو! أُونْقِيانْ كِي؟! دٍنْكِيانْ كِي؟! (ويحك! من يقرأ؟! ومن يستمع؟!).

ومنذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا كم من مرّة وجدت نفسي وأنا أردّد بالتركية: " يا هُو! أُونْقِيانْ كِي؟! دٍنْكِيانْ كِي؟!". فالمرء في عالمنا هذا كثيراً ما يجد نفسه في مواقف حرجة، فلا يملك فرصة للدفاع عن نفسه والتعبير عن مشكلته، كما أنه على الغالب لا يجد الشخص الذي يسمعه، وهكذا لا يبقى له سوى أن يجري ويجري من غير توقّف.

5 – الآغا الحكيم.

كان الحكيم الآخر من حكماء قريتي هو الحاج شكري نسيب آغا رحمه الله، ومعروف أن لقب (آغا) بالكردية يماثل لقب (السيّد) ولقب (شيخ القبيلة) بالعربية. وتمتاز طبقة الآغاوات الكرد بأمور؛ منها الغنى وكثرة الأراضي الزراعية، وطرائق العيش المتحضّرة، والتزام التقاليد الأرستقراطية، وفراهة المنازل، وأناقة المظهر، ووسامة الرجال، وجمال النساء، إضافة إلى شيء من التعالي في التصرف.

أما صديقي الآغا الحكيم هذا فكان له في الحياة مسار آخر، كان نادراً ما يختلف عن الفلاحين في المظهر وطرائق العيش، وكنت ألاحظ من مجمل سيرته أنه أقرب إلى الفلاسفة الزهّاد منه إلى الآغا المتعالي، كان قليل الكلام كثير التأمل، وكان إذا تكلّم ينتقي عباراته بعناية، ويعرض أفكاره على نحو متّسق أنيق، وكانت حركات يديه ورأسه الهادئة غير المتشنّجة، وإيماءات عينيه المعبّرة، تُضفي المزيد من الرونق والجاذبية على أحاديثه.

ولا أذكر الآن كيفية نشأة علاقة الصداقة بيني وبين صديقي الآغا الكهل هذا، لكن كنت أعرف أنه كان يجلّ والدي رحمه الله، وكان الجميع في القرية يخاطبه بلقب (آغا)، وما وجدت والدي يفعل ذلك، وإنما كان يخاطبه باسمه (شكري)، وما كان صديقي الكهل يتضايق، ربما لأنه كان قد تتلمذ حيناً على والدي في عهده الأول.

كان لهذا الحكيم الريفي سمت فكري خاص، ومزاج حياتي متميّز، كنت أجده مهتماً على الغالب بالقضايا الكلية، سواء أكان على الصعيد التاريخي أم الديني أم الوجودي، ولكن ضمن النطاق المبسّط وأحياناً الميتافيزيقي والأسطوري المناسب لفترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين في أريافنا.

لم ألاحظ أن الآغا الحكيم كان مهتماً بالأبّهة والمظاهر، كان يجلس بتواضع لا يخلو من وقار، ويأخذ بهدوء نفثات عميقة من سيجارته، وكان حريصاً على القيام سنوياً برحلة مديدة لصيد الحجل (بالكردية: كَوْ Kew)، وكم كنت أجده مشغوفاً بسماع هديل تلك الطيور، وقد وضعها في قفص إلى جانبه، وزوّدها بما تحتاج من ماء وحبوب!

  6 – الشاعر الجوّال.

كان لشيوخ القرية وكهولها- ومنهم شكري آغا- ثلاثة مجالس معروفة: شجرة التوت المعمَّرة بجانب النبع (قُطعت للأسف)، وشجرة الدُّلْب الكبيرة المنتصبة غربي النبع بجانب الطريق العام، وهي ما زالت قائمة، وشجرة السنديان المعمّرة المعروفة بـ Darai Zaretai (شجرة الزيارة)، شمالي القرية، وهي ما زالت قائمة أيضاً.

وذات يوم كان الوقت ضحى.. وكنت أستمع إلى حكاية يرويها لي العم شكري (هكذا كنت أناديه).. كنا جالسين تحت شجرة الدُّلْب الوارفة الظل.. ومن بعيد لمحت رجلاً يمتطي حماره ويتقدّم باتجاهنا.. اقترب الرجل أكثر، عرفته.. إنه الراوية والمغنّي الجوّال العجوز (جَوْهر)، كان جوهر يزور قريتنا كل عام قادماً من الشرق، كان يروي الملاحم الكردية العريقة؛ مثل (ممى آلان)، و(جَبَلي)، و(دَوْريش)، وغيرها.

حاد جوهر عن الطريق العام.. اتّجه نحونا.. اقترب من الشجرة.. نزل من على ظهر حماره الفاره.. لم يحيّنا.. أمسك برسن الحمار وراح يربطه إلى فرع متدلّ من الشجرة وهو يقول بصوت مسموع: "هكذا سيُعلَّق الناس الآغاوات على المشانق". ثم جلس منفرداً، وأخرج علبة التبغ المعدنية من جيبه، وراح يلفّ سيجارة غليظة.

فاجأتني عبارة (جوهر).. أذهلتني.. ما كنت سمعت شخصاً غريباً يوجّه إهانة بهذه الطريقة القاسية إلى (آغا) كردي.. صحيح أن (العم شكري) كان معروفاً بطول البال ورحابة الصدر، لكن الناس العاديين في القرى يُسيلون الدماء في مثل هذه المواقف.. فكيف والإهانة تُوجَّه من شخص وضيع بالمقاييس الاجتماعية إلى (آغا) مرموق المكانة؟!

دققت النظر في ملامح العم شكري.. في جبينه العالي.. في عينيه السوداوين.. في شاربيه الصغيرين المدبّبين.. في شفتيه الرقيقتين، في ذقنه اللطيفة.. في جلسته الوقور.. في بندقية الصيد ذات الفوّهتين إلى جانبه.. تخوّفت أن كارثة ما ستقع..  تُرى كيف سيردّ (الآغا) على هذه الإهانة الرهيبة بالمعايير الريفية؟! وماذا يمكنني أن أفعل إذا خرج الأمر عن الحدود المعتادة؟!  

لم ألمح في هيئة العم شكري ما يدلّ على أنه غضب.. سوى رعشات بسيطة بدت على شاربيه.. أخذ نفثة عميقة من سيجارته.. تطلّع بهدوء إلى الأفق الغربي.. ثم التفت إليّ يكمل الحكاية برزانة، ولينهيها بقوله: " كلُّ امرئ بعقله راضٍ، أمّا بماله فلا "!.

بعد سنين كثيرة فهمت العم شكري على نحو أعمق.

وعلمت أن رأس الحكمة هو الحِلم.

وأن سلوكاً أنبل يعني عالماً أجمل.

  (وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة عشرة).

   27 - 1- 2005   الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

         =======================       

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة السادسة عشرة)

 سياحات في الزمن الكوني

1 – بعيداً عن الحَذْلَقة.

لا أملك مشروعاً لكتابة مذكّرات.

المذكّرات توقفنا عند الساعة واليوم والشهر والسنة.

المذكّرات تؤطّرنا.. المذكّرات تعتقلنا..

إنها تجعلنا نتشرّد داخل الزمن المُؤَرْخَن.

الزمن المُؤَرْخَن أشلاء بائسة..

إنه ركام هائل من التفاصيل المملّة..

كثير من تلك التفاصيل ذات نوايا ماكرة..

وكثير منها غوايات تسلبنا القدرة على التركيز..

إنها باسم أنفسنا تقودنا بعنف خارج أنفسنا..

الإبحار عبر الزمن الكوني هو ما أنجذب إليه..

الزمن الكوني هو وحده الذي يمنحني متعة الانطلاق..

الحقائق هناك أكثر وضوحاً.. واللوحات أكثر صدقاً.

ويبدو أن السياحات الحرة هي مشروعي المفضّل..

إنها سياحات في كوننا التراجيدي.. أنا وأبناء جيلي.

وهي لوحات قد لا تكون برّاقة .. ولا ذات أهمية.

بل قد تبدو ساذجة.. وأحياناً ساذجة جداً..

لكنها مع ذلك عزيزة علينا.. وعزيزة جداً.

إنّني لا أملّ من تأمّلها.. ولا عجب!.. إنها ضحكاتنا ودموعنا.. سعادتنا وشقاؤنا.. نشوتنا وانكسارنا.. حكمتنا وأخطاؤنا.. معرفتنا وجهلنا.. وعينا وذهولنا.. وأحسب أني سأكفّ عن الكتابة إذا خرجت من عالم (السياحات) ودخلت عالم (المذكّرات).. أشعر أنني أكون عندئذ قد انتقلت من دائرة (العفوية) إلى دائرة (الحذلقة والتنميط).

أعرف عن نفسي أني لا أرتاح إلى التنميط.. وحينما أضطر إلى التفكير أو التعبير أو التصرف على نحو نمطي أشعر بالضيق، وأجدني أُدخل بعفوية شيئاً من التجديد – وليس الفوضى- على الحالة النمطية، ولا أزعم أني أُوفَّق في ذلك دائماً، ولكني أشعر مع ذلك أن المحاولة ضرورية، وإلا فإن الرضا بالنمطية عن طيب خاطر كارثة لا أستطيع القبول بها.

وأذكر أني منذ أن كنت في المرحلة الثانوية اقتنيت دفتراً، وكتبت على الصفحة الأولى بخط كبير: (مذكّراتي)، ثم شرعت في نهاية كل يوم أدوّن فيه أهمّ الأحداث، سواء أكانت على الصعيد الدراسي، أم على الصعيد الاجتماعي، أم على الصعيد الذاتي.. كان التدوين على شكل إضاءات سريعة.. ومع ذلك وجدتني بعد أسابيع أهمل تلك (اليوميات).. ولو استمررت لكانت عندي الآن مجلدات من المذكرات.. لكني لم أستمر.. ولست بنادم.

2 – الآلام الكبرى.

ولعل من عوامل طيّ ذلك المشروع أني لم أستطع الصبر على توصيف الأمور من الخارج.. شعرت أني أرسم هياكل بلا حياة.. وقد كنت- وما زلت- أنجذب إلى جوهر الحياة.. ويعجبني التحليق في الأعالي بقدر ما يستهويني الغوص في الأعماق.

للحقيقة قطبان: الأعالي.. والأعماق.

والمحزن أننا غالباً ما نعجز عن التحليق والغوص. 

ولعل من تلك العوامل أيضاً ما يتعلّق بهجمة العصر الحديث علينا دُفعة واحدة.. نحن- جيل الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين- عشنا كل إرهاصات وطموحات وخيبات ومشكلات وكوابيس التحوّل من ثقافة العصر النيوليثي إلى ثقافة عصر اكتشاف الذرّة وغزو الفضاء.. وها أنا ذا أُكثر من الإشارة إلى عصرنا (النيوليثي).. ولكن تلك هي الحقيقة.. ولا أرى مبرّراً لتجميلها.

مؤلم هو الخروج من ثقافة (الكهوف).

صعب هو التحليق في آفاق الثقافة الكونية..

لقد عشنا الآلام الكبرى..

وها نحن نفخر بذلك!..

فالآلام الكبرى هي إنجازات عظمى.

لقد دفعنا ثمناً كبيراً من نقائنا ومن براءتنا ومن بساطتنا.. كنا كمن يتلقّى وردة من جانب ولكمة من جانب آخر.. وكنا كمن يحلّق في الآفاق الرحيبة تارة، ويسقط في المنحدرات ويضيع في المنعرجات والمتاهات تارات أخرى.. ولا أظن أننا قد أصبحنا بمنجاة من ذيول تلك التحوّلات الهائلة.

أقول لكم هامساً:

أشعر أننا ما انتهينا بعدُ من اجتياز البرازخ..

إننا ما زلنا نعيش تلك الآلام الكبرى.

3 – اعرف نفسك.

ويبدو أنه بقدر ما تتّسع مساحة وعينا تكبر آلامنا.

وتلك هي المفارقة الرهيبة!.. الوعي يعني الألم!!..

لقد دفع والدنا (آدم) الثمن منذ أزمان سحيقة..

كان الخروج من الجنة هو ثمن عشق (المعرفة).

ونحن سلالته.. ولن نستطيع إلا أن نفعل مثله.

ومنذ أن تعرّفت (سقراط)، ذلك الفيلسوف اليوناني الكبير بحق، تعلّمت أن الطريق إلى (الوعي) النقي هو العمل بحكمة (اعرف نفسك)، وتعلّمت منه أيضاً أنه بقدر ما نجهل أنفسنا نجهل (الآخر)؛ مع الأخذ بالحسبان أني أفهم من (اعرف نفسك) البحث عن الذات واكتشافها، وأقصد بـ (الآخر) مجمل العالم من حولنا (البشر وسائر الكائنات).

كانت صلتي بأفكار (سقراط) مبكّرة إلى حدّ ما، أحسب أنها بدأت في أوائل العشرينيات من عمري، ولا أذكر الآن كيف بدأت تحديداً.. وقد عرفت هذا الفيلسوف من خلال كتبنا الدراسية، ولا ريب أن ثمة شيئاً ما جعلني أتوجّه إليه.. ولعل نهايته البطولية كانت ذلك الشيء.. فالشباب أكثر تعلّقاً بالشخصيات البطولية.

وتوطّدت صلتي بسقراط وبعض الفلاسفة التأمليين الآخرين أكثر يوماً بعد يوم.. كنت وما زلت أعدّ هؤلاء رسل (المعرفة)، فاسترسلت في مطالعة أقوالهم وآرائهم، ولا أزعم أني كنت أفهم حينذاك كل أفكارهم فهماً دقيقاً، لكني كنت أشعر أني أهتدي عبر كلماتهم إلى الرؤى التي ينطلقون منها والآفاق التي يحلّقون فيها، وأشعر أني أقف على تخوم عوالمهم الجليلة والغريبة، فكنت أعيش حالات من الدهشة، مشوبة بنشوة مقاربة تلك العوالم، والقدرة على ملامستها.

4 – جلسات.. وومضات.

ومنذ ذلك الحين نمت عندي هواية الانفراد بالنفس في أحضان الطبيعة الهادئة، والاسترسال في صمت تأملي أشعر معه وكأني ألامس السحب حيناً، وأخترق الأعماق حيناً آخر.. وما زالت تلك الهواية تلازمني، وكم أنا سعيد بما فيها من ومضات!.. وكانت تلك الهواية تغدو رائعة في الربيع والصيف وأوائل الخريف، وكان لها في كل فصل مذاقها الروحي الخاص، وموضوعها التأملي المتميّز.

كنت أمارس هوايتي تلك تارة بالجلوس وقت الأصيل على صخرة في كرمنا الجبلي الواقع غربي القرية.

وأخرى بالجلوس على حافة جرف صخري، يطلّ على (وادي ليلون) الهادئ المهيب، الواقع جنوب شرقي القرية.

وثالثة بالاتجاه أصيلاً نحو قرية (عين دارا) القريبة، لأطلّ منها على البحيرة الفضية، ومن ورائها على السهل المتوشّح بالاخضرار.

ورابعة بالجلوس بُعيد الغروب على صخرة ملساء في جبل (ملا موسى)، متأملاً القرية التي كانت تغيب رويداً رويدأ في ظلمة الغسق.

وخامسة بالتمدد على سطح المنزل في الليالي المقمرة.

5 – الرومانسي والجمالي.

وخلال تلك الجلسات – وأفضل أن أسميها: سياحات- كنت أشعر كأني أجالس العالم أجمع والكون كله.. حالة غريبة حقاً!.. وما لا شك فيه هو أني أجهل إلى الآن كثيراً مما يتعلّق بنفسي، لكن ثمة أمور أخرى أشعر، خلال هذه السياحات، أني أعيها بوضوح كاف، ومنها على سبيل المثال ميولي التي هي مزيج من الرومانسية والتأملية.

والشائع أن الرومانسية من خصائص فترة الشباب، لكني أجد الرومانسية عندي تتوحّد بالتأملية إلى هذا اليوم، وأجدها تغالبني في بعض المواقف فأنساق معها، وأجدني من ثَمّ أقول عبارات، أو أتخذ مواقف، قد تبدو غير مفهومة، بل قد تبدو غريبة حيناً.

ومن حسن الحظ أن أفراد عائلتي هم أكثر من يشهد تلك العبارات والمواقف.. وصحيح أنهم كانوا يُفاجَؤون بها في البداية.. لكنهم راحوا يتفهّمونها.. بل أشعر أنهم بدأوا يشاطرونني بعضها.. فلا يستغربون إذا كنا في نزهة خارج المدينة أن أوقفهم بين الحين والحين، لأقول:

"تأمّلوا ألوان هاتيك الغيمة في الأفق الغربي!.. تأمّلوا جمال الشمس وهي تغرب!..  انظروا إلى تلك الأعشاب الزاهية اللون!.. ما أجمل عناق هذه النخلة مع شجرة السدر!.. لاحظوا هاتيك اللوحات الرائعة على الكثبان!.".

وأجدني أقول لهم ونحن في زيارة لحديقة الحيوان:

" يا لِجمال عيني هذا القُريد!.. لماذا تبدو نظرات هذه الأفعى باردة بهذا الشكل!.. كم تبدو رشاقة ذلك الظبي متوهّجة! يا لمهابة ذلك الأسد الرابض!.. لاحظوا الروعة في انسيابية هذا الدلفين!.. تأملوا السكينة الصوفية في ملامح هذا الفيل!.. يا لغرابة رأس فرس الماء ذاك؟!".

يبدو لي أن ما هو رومانسي هو الجمالي.

وأقول بيقين تام: الجمالي والتأملي لا يفترقان.

6 -  الشاب الكهل!

وكنت أظن أنه لا أحد يعلم ميولي التأملية، لكن يبدو أنها كانت تظهر عليّ منذ عهد الشباب بشكل هدوء مجلّل بالوقار.. كان طلبتي يشيرون إلى ذلك عَرَضاً.. لكن صديقي الأستاذ الشيخ إبراهيم خليل عيسى- وهو عالم شريعة مثقّف في منطقة (عفرين)- لفت انتباهي إلى ذلك بوضوح، حين قال لي ذات مرة: مرحباً بالشاب الكهل!

حينذاك كنت دون الأربعين.. وكان ذلك القول تنبيهاً لي إلى أن ميولي التأملية تلقي بظلالها على هيئتي وملامحي، فتجعلني أبدو- بالرغم مني- رزيناً وقوراً كما هم الكهول والشيوخ.

وأحسب أن ميولي التأملية ترجع إلى مراحل متقدمة من عمري.. ولعلها هي التي جعلتني، وأنا دون العشرين، أصبح صديق حميماً لبعض الكهول والشيوخ في قريتي، بخلاف ما درجت عليه العادات والتقاليد في قرانا حينذاك.

  (وإلى اللقاء في الحلقة السابعة عشرة).                

23- 12- 2004     الدكتور أحمد الخليل dralkhalil@hotmail.com

 

  ================

============

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الخامسة عشرة)

 السلام على جميع الكائنات!

1 – الكلمات حالات.

في هذه الحلقات لست كاتباً فقط.

وإنما أنا كاتب مرة واحدة وقارئ مرتين.

في المرّة الأولى أنا قارئ مثلكم للحياة.

قارئ لهذا البحر..

لسنا نحن الذين اخترناه.

وجدنا أنفسنا فيه بالصدفة!

لم نكن.. فكيف نمارس الاختيار؟!

ما نستطيعه فقط هو أن نقرأ الحياة/ البحر.

إننا نترجم الحياة إلى أحاسيس، ومشاعر، وأفكار، ومعارف، وقيم، ومبادئ، وقوانين، ومُثل عليا، ومُثل سفلى، وأيديولوجيات، وفلسفات، ومواقف، وسلوكيات، وارتقاء، وسقوط، وانتصارات، وهزائم، وابتسامات، ودموع.

أجل.. قرأت الحياة/ البحر، وما زلت..

وها أناذا أحوّل القراءة إلى رموز تسمّى (كلمات).

إنني أمارس تجسيد قراءتي للحياة في (الكتابة).

وأعود ثانية لأقرأ تلك (الكتابة).

 بلى.. أقرأ معكم ما أكتبه.

أرحل ثانية مع الكلمة واللوحة والخاطرة والفكرة.

أشعر أن حالتي وأنا (قارئ) هي غير حالتي وأنا (كاتب).

أكتشف أني – في حال الكتابة- أكون تحت تأثير حالة شعورية مبهمة، يمكن أن أسمّيها حالة (جَذْب)، أو حالة (شَطْح)، أو حالة (سياحة) على غير هدى، أو حالة (انسجام) مع الذات، أو حالة (انسلال) من متطلّبات الحياة اليومية.. وهكذا ترون أني عاجز عن الوصول إلى العبارة الأكثر دقّة.

 الكلمات نفسها حالات.

ومن الصعب السيطرة عليها دائماً.    

ولا أريد ها هنا أن أوحي إليكم بأني أعيش تلك الحالة المبهمة التي كانت تعيشها عرّافة جزيرة (دِلْفي) اليونانية، حينما كانت تغيب عن الوعي في عبق البخور، فتتلقّى الوحي من كبير آلهة اليونان (زِيوس)، وتجود بالإشارات الإلهية على الحجّاج القادمين من شتى بلاد الإغريق، والمتجمهرين بخشوع أمام المعبد المقدّس.

ولا أكون سعيداً البتّة إذا صوّرتْ لكم هذه الحالات أن لي صاحباً من الجنّ، يجالسني بين الحين والحين، فيلهمني بما يشاء من الخواطر والأفكار.. كان العرب القدماء يظنون أن الإبداعات الشعرية ليست من صنع البشر، وإنما لكل شاعر شيطان (جنّي) يصاحبه، فيوحي إليه بتلك الأشعار.

اعتقدوا أن الإبداع بحاجة إلى قوّة خارقة.

وأن الكائن الإنساني أعجز من أن يُبدع.

أحسب أنهم أخطأوا الطريق إلى الحقيقة.

عندما يكتشف الآخرون أنك أبدعت.

فذلك يعني أنك قرأت الحياة بصدق وبعمق.

2- شجرة الحكمة.

 ولعل الحالات التي أشرت إليها هي قريبة من حالة الاستنارة (النيرفانا)، لقد فاز بها (بُوذا) تحت شجرة (بُو) المقدّسة، شجرة الحكمة.. كان ذلك قبل أكثر من ألفين وخمسمئة سنة.. لقد رأى فيها معاصرو (بوذا) مجرّد شجرة من أغصان وأوراق، ولا أحسب أن بوذا كان متفقاً معهم في ذلك، أعتقد أن شجرة (بو) المقدّسة كانت بالنسبة إلى بوذا شجرة (الوجود/ الحياة)، كان يتوحّد بها، يلقي بنفسه في أعماقها، يصعد بقوّة إلى قممها، يحلّق بعيداً في الأعالي، يندغم في الأعالي، فيكتشف ويستنير.

حقاً.. كي نكتشف الوجود علينا أن نتوحّد به.

عندئذ يمكننا أن نقول مع بوذا: " السلام على جميع الكائنات"!

وقد كان- وما زال- بي شوق عميق إلى الاكتشاف عبر التوحّد، لكن الحياة تأخذ بخناقنا منذ أن نستيقظ صباحاً وإلى أن نأوي إلى فُرُشنا، ولا تكاد تترك لنا ولو فُسحة بسيطة نلتقي فيها بأنفسنا، وننسجم فيها مع ذواتنا، ونلبّي فيها رغباتنا الشخصية.

لقد ولّى زمان (بوذا)..

لم نعد نملك الوقت كي نجلس طويلاً في أي مكان.

نحن في عصر القلقلة.. عصر التحوّلات السريعة.. كانت التحوّلات في الماضي بطيئة، فكان إيقاع الحياة – خارجية كانت أم داخلية- أكثر هدوءاً، وأقل توتّراً. أما الآن فالأمر مختلف جداً، وإذا توقّفتَ، ولم تتلاءم مع التحوّلات المتجدّدة، وجدت نفسك مهدَّداً بانهدام مرتكزات وجودك الأساسية.

3 – اختلاف المدارات.

حقاً.. كانت هجمة ثقافة العصر الحديث علينا مباغتة وشرسة لا ترحم، ولا تدع لنا المجال لنلتقط أنفاسنا: آلات جديدة.. أزياء جديدة.. معلومات جديدة.. أفكار جديدة.. شعارات جديدة.. قيم جديدة.. مواقف جديدة.. مشاعر جديدة.. أحلام جديدة.. نكسات جديدة.. هزائم جديدة.. كنا نعتقد حيناً أننا مركز العالم، ثم نكتشف فجأة أننا نعبث خارج التاريخ.

ومع ذلك كنا قادرين على أن نعيش أحياناً حالات استنارة (نرفانا).. كنا في الغالب لا ننتبه إلى ذلك، كان إيقاع الحياة الجديدة يستلبنا، يغيّبنا عن أنفسنا، يغيّب بعضنا عن بعضنا الآخر، يُحدث في كياننا شرخاً عميقاً بين ممارسة الحياة ووعي الحياة، وما يؤسفني، بل يحزنني ويؤلمني، أني كنت ألتقي في دروب هذه الحياة وساحاتها بعض أولئك القلّة الذين عاشوا حالات الاستنارة (النرفانا) على طريقتهم، وفي إطار الشروط التاريخية والذاتية التي حدّدت مسارات وجودهم، لكن لم أكن أنتبه إليهم، وما كنت أفهمهم إلا بعد فوات الأوان، كانت قدرتي على الارتقاء إلى مداراتهم الوجودية أقل مما ينبغي.

كي نفهم الذين يحلّقون في المدارات العظمى

     علينا الارتقاء برؤيتنا إلى المدارات ذاتها.

ولعلي لست مبالغاً إذا قلت:

إن الاختلاف في المدارات هو الأصل في كثير مما يدور في عالمنا من خلافات وتناقضات وخصومات بين الناس، ولا سيما على الصعيد المعرفي.

4 – غاندي في قريتي!

ولعلّكم تذكرون العمّ (علي مراد) رحمه الله.. إنه أحد رجالات قريتي الذين تركوا أثراً عميقاً في نفسي، لقد تحدّثت عنه باقتضاب في بعض الحلقات الأولى، وأحسب أن (العم علي) كان من الذين جلسوا بعض الوقت تحت شجرة الحكمة، ووصلوا إلى تخوم الاستنارة (النرفانا). 

ذكرت أننا- نحن الصبية- كنا نخطّط للسطو على ثمار التفاح والمشمش في بستان العم علي، كان بستانه يقع أمام القرية مباشرة، على بعد مئتي متر تقريباً من النبع، كان يسقيه من مياه النبع الجارية طوال فصول السنة، كنا نسطو بعناد على ثمار بستانه، كنا نشنّ حملات السطو في الربيع على ثمار المشمش، وفي الصيف على ثمار التفاح،  وفي الخريف على الرمان.

كان العم علي يتوجّه في الصباح الباكر إلى بستانه وهو يعرج، متوكّئاً على عكّازته البنّية الملساء الأنيقة، وكان يوجّه الماء إلى الأشجار والخضار، ثم يعود مع الضحى ليتناول طعام الفطور، كنا ننتهز تلك الفترة، فنشنّ الغزو على بستانه، وكان يرانا أحياناً، فيتوجّه إلينا وهو ويصيح بنا: " لاوْ!.. لاوْ!..أَزْ هاتِمْ ". Law..Law..Az hatim، وتعني هذا بالكردية: (يا هؤلاء! يا هؤلاء! أنا قادم! ).. إشعاراً منه لنا بأنه قد رآنا، وعلينا الابتعاد.

كنا حينئذ ننكشف عن الأشجار، ونبتعد قليلاً، ثم نقف ونردّد معاً في جوقة واحدة: " بافى علي!.. بافى علي!" Bavai Ali.. Bavai Ali، وتعني: (بابا علي.. بابا علي).. فكانت الابتسامة تملأ وجهه، ويقول لنا: " ابتعدوا!.. الثمار لمّا تنضج بعد.. حينما تنضج ستأتون لمساعدتي في قطافها، وستأخذون حصصكم". فننخرط في ترديد الشعار نفسه من جديد، لكن بأصوات أكثر قوّة، ونبتعد رويداً رويداً، ليس خوفاً من عكّازة (بافى علي)، وإنما استلاماً لابتسامته ودماثة خلقه.

5 – الشيطان معتقَلاً!

كان العم علي جاراً لنا، وكان من عائلة (كَلَپْچَكْ) التي تنتمي إليها والدتي، أي أنه كان – حسب العرف القَبَلي والقَروي- من أخوالي، وأحسب أنه كان في العقد السادس من عمره حينما عرفته في صباي، كان متوسّط القامة حنطيّ اللون، وكان الكبار والصغار في القرية ينادونه بالاسم المعبّر عن الودّ والتقدير (بافى علي)؛ أي (الأب علي)، وكان هذا اللقب يُمنح لمن يتميّز برجاحة العقل، وبُعد النظر، وسعة الأفق، ونبل الموقف، وحسن التصرّف. وكانت ثمّة قلّة، وفي حالات نادرة تنمّ عن السخط، تسمّيه (عَلْ كُلَكْ)، أي (علي الأعرج).

ومثل سائر قرويي منطقة عفرين كان (بافى علي) يرتدي سروالاً أسود فضفاضاً، وقميصاً، ومعطفاً قصيراً (جاكيت)، ويضع على رأسه عمامة بيضاء لطيفة، أذكر أن مظهره – حتى وهو في الحقل- كان يتّسم بالأناقة والنظافة، علمت من والدتي – رحمها الله- أن زوجته العمة زكية كانت شديدة الاهتمام بالنظافة إلى حدّ الهَوَس، لكن لا أعتقد أن أناقة العم علي كانت بضغط من العمة زكية، كانت الأناقة فيه طبعاً، وكانت لا تتجلّى في مظهره فقط، بل تبدو في مواقفه وفي تصرفاته وفي أفكاره أيضاً.

كان (بافى علي) كهلاً له سمته الخاص، وبعد أن بلغت مرحلة الشباب، وتحديداً حين كنت في الصف الثاني الثانوي، قرأت كتاب (عند قدمي غاندي) لجواهر لالْ نِهْرُو، رئيس وزراء الهند الأسبق، وكنت وأنا أطّلع على حياة غاندي وفلسفته ومواقفه – حسبما رسمها تلميذه نهرو- ألمح صورة (بافى علي) من وراء وجه غاندي؛ الابتسامة العذبة هي هي، الملامح الطيبة هي هي، النظرة البريئة هي هي، مبدأ اللاعنف هو هو، الفرق أن (بافى علي) لا يضع نظّارة صغيرة على عينيه كنظّارة غاندي، ولا يصطحب معه عنزة حيثما حلّ وارتحل حسبما كان يفعل المهاتما.

كانت عائلة (كَلَپْچَكْ) معروفة بكثرة الخصومات، وبالتسرّع في خوض المنازعات (تغيّرت الحال الآن)، وفي السنة الواحدة كنا نشهد عدداً من المشاجرات العنيفة فيما بينهم، كانت المشاجرة إذا طالت أكثر من الوقت المعهود علم الجميع أن (بافى علي) غير موجود في القرية، أو أنه بعيد عن ساحة الشجار؛ فالمعتاد أنه كان يُسرع إلى المتخاصمين، فتظهر عرجته بوضوح أكثر، والابتسامة تملأ وجهه المدوّر، وهو يخاطب من يمرّ بهم مازحاً: " سبحان الله! مرّة أخرى انفلت هذا الملعون؟! كنت قد اعتقلته، وربطته بالسلاسل، ولا أدري كيف حرّر نفسه، وراح يعيث فساداً؟!".

كان الجميع في القرية قد اعتاد أن يسمع منه هذه العبارات المرحة، ويعلمون أنه يقصد (الشيطان)، باعتبار أن التراث الديني السماوي أسند إلى هذا الكائن مهمّة إثارة الشر والخراب في العالم، فكان (بافى علي) يزعم - مازحاً- أنه يعتقله، ويشدّه بالسلاسل والأغلال، ليرتاح الناس في القرية من شرّه، ولا سيما أهل الحارة الجنوبية (حارة كَلَپْچَكْ).

ولا تكاد تنقضي فترة قصيرة على وصول (بافى علي) إلى ساحة الشجار حتى تبدأ صرخات الغضب بالتضاؤل، ثم تغيض بشكل نهائي، فنعرف أن (بافى علي) أفلح في تهدئة الثائرين، وتبديد المتشاجرين، وبعد حين يعود إلى البيت أو البستان، ينزل ويطلع في مشيته، ويقول لمن يلتقيه بمرح وثقة: " قبضت عليه ثانية! لن يفلت هذه المرة بسهولة، قيّدته بسلاسل خاصة يعجز عن تقطيعها"! فكنا نعلم أنه يقصد (الشيطان). وما كان يكتفي بفضّ الشجار، بل كان يسعى إلى قطع دابر الشر، واقتلاع الخصومة من جذورها، فكان يُتبع جهوده في التهدئة بجهود تفاوضية بين الفريقين المتخاصمين، فيزيل الأسباب التي أثارت الخصومة، ثم يجمع الفريقين في جلسة ودّية يسودها العتاب، ويكون التسامح والعناق ختامها.

       6 – البحث عن المنقذ.

حينذاك كنت أدرك أن للعم علي مسلكاً خاصاً، لكن كنت عاجزاً عن فهم رؤيته الحياتية، حينذاك ما كنت أستطيع الربط بين السلوك والرؤية، كنت أقف عند حدود فهم الموقف والتصرّف. وقد علمت بعد زمن ليس بالقصير أن لكلٍّ منا رؤية محدّدة، وإن شئت سمّها فلسفة، وأننا ننطلق منها في التعامل مع الآخرين بشراً وحيوانات وأشجار وجمادات، وتلك الرؤية هي في الأصل منظومة متكاملة من العقائد والمعارف والأعراف والمُثل والمبادئ والقيم. وقسم من تلك المنظومة موروث، وقسم منها مكتسَب، وعلى أساس منها تنتظم مسيرة الفرد الوجودية والاجتماعية، وبتأثير منها تتحدّد مواقفنا وسلوكياتنا وممارساتنا.

وكنت بعد أن كبرت أتساءل:

ما مصدر القوّة التي استعان بها (بافى علي) للاحتفاظ بهدوئه وسط الزوابع؟!

وكيف استطاع الاحتفاظ بابتسامته الوديعة في قلب المشكلات والمنغّصات؟!

ومن أين استمد لطفه ودماثته مع الآخرين صبية وجهلة وطائشين وسفهاء؟!

ومن أين له هذا الحرص على السلام في بيئة طوّقتها محرّضات العنف؟!

مرّة أخرى أتذكّر بوذا وغاندي وأنا أسترجع ذكرى (بافى علي)، وأحسب أنه كان من القلائل الذين استطاعوا الارتقاء برؤيتهم إلى المدار الإنساني الأعظم، مدار (السلام على جميع الكائنات)! أما كيف استطاع ذلك؟! فلا أدري.. لكن ما أعلمه هو أنه منذ أن غاب عنا (بافى علي)- رحمه الله- غاب عنا شعاع كان ينير دروبنا في الظلام. بل أراني أخاطب نفسي وأنا أجد عالمنا يعصف به العنف وتفترسه القسوة:

-  آه يا (بافى علي)! لقد خسرنا ابتسامتك الهادئة!

    كم نحن بحاجة إلى أمثالك لنردّد معه:

    " السلام على جميع الكائنات"! 

         (وإلى اللقاء في الحلقة السادسة عشرة).

                    في10-12-2004م           الدكتور  أحمد الخليل

 

 ================

===== 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الرابعة عشرة)

 نحو المدارات العظمى!

1 – كتـابات!

منذ قرون قال شاعر قديم:

" وللناس فيما يعشقون مذاهبُ ".

ولعل الكتابة من تجلّيات العشق.

فللناس فيما يكتبون مذاهبُ.

وأحسب – فيما بيني وبين نفسي – أن:

أنقى الكتابات هي ما تكتبها البراءة.

وأنبل الكتابات هي ما يكتبها الألم.

وأصدق الكتابات هي ما يكتبها الحب.

وأجمل الكتابات هي ما تكتبها الحرية.

وأعتى الكتابات هي ما يكتبها الغضب.

وأسمى الكتابات هي ما يكتبها الشموخ.

وأتعس الكتابات هي ما يكتبها الخوف.

وأقبح الكتابات هي ما يكتبها الحقد.

وأردأ الكتابات هي ما تكتبها العبودية.

وأنذل الكتابات هي ما يكتبها اللؤم.

2- الجمرة المقدّسة!

الكتابة جمرة.. والكتابة روضة.

الكتابة جمرة متوهّجة ملتهبة متضرّمة.

       جمرة تتفجّر براكينَ.. وينابيع.

      جمرة تنبثق فيها رياضٌ.. ورياض.

      غديرٌ.. وخرير.

      عَبَق.. وأزهار.

      فراشات.. وأطيار.

الكتابة جمرة قدسية..

هي نار نبي الله إبراهيم الخليل التي أُوقدت في (أُور).

كانت - وستظل- برداً وسلاماً على المقهورين.

وستظل ملاذاً لمنكسري القلوب.. وللمتعَبين.

3 –  شجرة الخلد.

قد يقال في استغراب:

" جمرة.. في قلبها روضة " ؟!!

بل قد يُهمَس بإشفاق:

" وا أسفاه!.. أضاع صاحبنا السبيل "؟!

الحقَّ أقول:

" كي نهتدي إلى أنفسنا.. فلنتحرّر أحياناً من عقولنا ".

قالها (عمر الخيّام) قبلي بألف عام.

فقهقه منه الجالسون على ضفاف المعرفة.

وسخط عليه المرتزقون بالإيمان.

وهزئ به الذين نصبوا أنفسهم حُجاباً على باب (الله).

أما الذين باركوه فهم عشّاق الكتابة.. الجمرة.

المهتدون إلى [شجرة الخُلْد ومُلكٍ لا يَبْلى].

الماضون صُعُداً في آفاق (العِرفان).

     الداخلون بفرح في ملكوت (الإنسان).

الحقَّ أقول:

" من لا يفرح بالإنسان.. لن يدخل مملكة العرفان ".

4 – دقيقة صمت!

هبّ الجميع وقوفاً!

الرؤوس مطأْطأة.

الملامح خاشعة.

الأجفان مسبَلة.

المكان يغتسل بالسكينة.

الوقار يفيض على القامات المنتصبة.

الكون توقّف..

إنّا في حضرة التاريخ واقفون.

علمتُ أنها (دقيقة صمت)!

الناس يقفون (دقيقة صمت) احتراماً لراحل عظيم.

كم هو مثير هذا النمط من (الصوم)!!

ذات مرة وجدتُني أخاطب نفسي:

" يا صاحبي.. ألا تقف على نفسك دقيقة صمت" ؟!

صحيح أنت لست من (العظماء).

لكن.. ألم تفارق جغرافيا كينونتك!

ألم ترحل عن حقيقتك منذ دهر طويل؟!

أقول لك:

تعال نخرجْ من مملكة (العقل) حيناً.

دعنا نُبحرْ في مملكة (اللامعقول).

5- يا ويلاه!!!

صعباً كان القرار..

وصعباً كان الفرار..

بعناد حاولت الوقوف..

المحاولات تُهزَم.. تُهزَم.

لم نعتد تجربة مخيفة كهذه.

      مخيفٌ أن يقف المرء على نفسه (دقيقة صمت).

     شاقّ هو الخروج من عالم الخرائب.

مهيبٌ هو الصعود نحو الإشراقات.

اعتدنا أن نهذي..

أن نتحدّث عن أنفسنا بشغف.

أن نمجّد أنفسنا بكبرياء.

أن نراهن على أنفسنا بثقة.

أن ننسلّ من أنفسنا بصفاقة.

أن نتخلّى عن أنفسنا بنذالة.

أن نسوق أنفسنا إلى أسواق النخاسة.

اعتدنا هذا وأكثر.

نمارسه كما نشرب الماء ونتنفّس الهواء

لكنا نخشى الوقوف على أنفسنا (دقيقة صمت)؟!

الحقَّ أقول:

" ما لم نبرح مملكة الخوف.. لن نبرح فلك العبودية ".

6- الدوائر!

قلت لنفسي:

حسناً يا صاحبي!.

حاولتَ.. وهذا رائع!

فشلتَ.. وهذا رائع! رائع!

الفشل انتصار إذا وقفنا عليه (دقيقة صمت) نقية.

وها أنت ذا حائر.. زائغ البصر.

تبحث عن ذريعة تبرّر بها (الفشل).

تلك هي العادة!.

أمضيتَ زمناً طويلاً في دائرة [ وتَحْسَبُهمْ أيقاظاً وهمْ رُقُود ]!.

فأصبحت في دائرة [ يا ويلًنا مَن بَعَثَنا مِن مَرْقَدنا هذا ]؟!.

وخرجت منها بعد جهد جهيد.

لكنك دخلت عميقاً في دائرة [كأنّهم خُشُبٌ مُسَنَّدة]!

ومنها عرجت بسرعة إلى دائرة [ كَمَثَلِ الحمار يَحمِلُ أسفاراً]!   

وانتقلت بعد دهر طويل إلى دائرة [ يَحْسَبُه الظمآنُ ماءً ]!

 ثم انجذبت بعناد إلى دائرة [ وهمْ يَحسَبون أنّهمْ يُحسِنون صُنْعاً]!

وأمضيت سنين متصعلكاً في دائرة [ قلْ هاتوا بُرهانَكمْ ]!

أخيراً.. حططت الرَّحال في دائرة [ شغَلَتْنا أموالُنا وأهلِينا]!

وهناك ضربت أطنابك..

وقلت: ( ليس في الإمكان أحسن مما كان ).

7 -  المدارات السبعة !

قلت لنفسي:

" ما هكذا تُورَد– يا سَعدُ – الإبل "!

أنتَ ما زلت هائماً في دائرة[بل رانَ على قلوبِهِمْ]!   

تلك هي الحقيقة.. ولن أجاملك.

ومن هناك انجررتَ إلى دائرة [ فأَوْجَسَ منهمْ خِيفةً ]!    

الحقَّ أقول لك:

دعك من هذه الدوائر..

توجّه بقوة إلى الدائرة الأكثر خطورة.

الدائرة الأكثر خطورة هي الأعظم إشراقاً.

انطلق بقوة إلى دائرة [ ونُفِخ في الصُّور]!

ومنها بسرعة إلى دائرة [ إذا زُلزِلتِ الأرضُ زِلْزالَها]!

من هناك تابع..صعوداً.. صعوداً.

انطلق إلى الدائرة الأكثر عذاباً وعذوبة.

إلى دائرة [ فاصدَعْ بما تُؤْمَرُ]!

حينئذ.. أنت في الدائرة الأنبل والأسمى.

ومن هناك تجد الطريق إلى المدارات العظمى..

الأول مدار [ واللهُ أحقُّ أنْ تَخشاه]!

والثاني مدار [ إنّي أرى ما لا تَرَون ]!

والثالث مدار [ بلْ عَجِبْتَ ويَسْخَرون]!

والرابع مدار [ لعلّي آتيكمْ منها بِقَبَسٍ ]!

والخامس مدار [ فسالتْ أوْديةٌ بَقَدَرِها]!

والسادس مدار[ ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلكَ]!

والسابع مدار[ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عندَ مَليكٍ مُقتَدِر ]!

8 – إشراقات !

خرجتُ من مملكة الخوف.

وقفت على نفسي (دقيقة صمت).

البرازخ الظلامية.. اجتزتُها.

المتاهات المزروعة شوكاً.. قطعتُها.

حلّقتُ فوق السحب الراعفة ظُلمة ودماً.

عشت الإشراقات العظمى.

اللوحات الأكثر روعة غابت في سماجات القبح.

اللوحات الأكثر قبحاً فاضت جمالاً وجلالاً.

اكتشفتُ حافّات الكون الأخرى.

اكتشفت كم كنا أنقياء.. وعظماء!

وكم أصبحنا مشوَّهين.. وتعساء!

كم غدونا مسلوبين.. وممسوخين!!

مشاريع الاستنساخ الخفية لم تتوقّف.

النعجة (دُوللي) جاءت متأخرة عنا بقرون.

نحن كائنات بلا ملامح.

نحن أبطال.. نصنع الهزائم الكبرى.

نمارس بعشق غريب إلغاء هوياتنا.

ننسلخ بعناد عجيب من إنسانيتنا.

نرتمي بقوة خارج (أزمنة البراءة).

نعيش خارج أنفسنا!.. يا ويلاه!!

تذكّرت..

قال نبيل روماني لإسكافي مغرور:

" الإسكافي لا يرتفع فوق الحذاء "!

والحقَّ أقول:

" سننجز عالماً أجمل وأنبل.

لذا.. دعونا نرتفع عن منحدرات السقوط ".

         (وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة عشرة).

 

                في23-11-2004م            الدكتور  أحمد الخليل

 

 ==============================

================

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الثالثة عشرة)

أمّة لا تقرأ.. أمّة بلا ملامح!

1- تراث من الفرمانات!

قد تستغربون هذا العنوان.

وكيف لا؟!..

إنه حكمٌ مطلق قبل أن يكون عنواناً بريئاً.

وليس هذا فحسب، بل يبدو شبيهاً بالفرمانات السلطانية.

وتعلمون كم نحن الشرقيين مشغوفون بإصدار الفرمانات!

وكم نحن مهووسون بالأحكام المطلقة والتعميمات الفضفاضة!

     حسناً.. ولِمَ لا نكون مشغوفين ومهووسين بذلك؟!

     فنحن الشرقيين بحمد الله مخلصون لتراثنا.. وإصدار الفرمانات تراث عريق في ثقافتنا، ورثناه من عهود قديمة جداً.. ورثناه من لوغال السومري، ونارام سين الأكّادي، وحمورابي البابلي، وتيغلات بلاسير الآشوري، وقُورش الأخميني، وأمنحوتب الفرعوني، وكِسرى الساساني، والحجّاج الثقفي، وجنكيز خان المغولي، والبادشاه العثماني.. فكيف يمكنني أن أتخلّص منه دفعة واحدة وأدير له ظهري؟!

بلى خطرت لي كل هذه الخواطر وأنا أكتب هذا العنوان، وكدت أشطبه لأريح وأستريح، لكني تراجعت، وأبقيت عليه، اعتقاداً مني بأنه صحيح قلباً وقالباً، وأنه صائب ظاهراً وباطناً؛ على أنني أريد بعبارة ( أمة بلا ملامح)  أمة أضاعت هويّتها.. أمة بلا مواقف مجيدة في التاريخ البشري.. أمة بلا مواقع مرموقة في سلم الحضارة الإنسانية.

2- من الإنجيل .. إلى القرآن.

ولعلكم- معشر القرّاء- تعلمون أن الآية الأولى في كتاب الإنجيل هي " في البدء كان الكلمة ". وتعلمون جيداً أن أوّل كلمة أُنزلت على النبي محمد عليه السلام في غار حِراء هي " اقرأ ". ولا تخفى عليكم العلاقة الوثيقة بين كل من (الكلمة) و(القراءة). ومن جملة ما اكتسبته من رحلتي الثقافية ألا أمرّ بما أقرأه وأراه وأسمعه مرور المستعجل. وإنما لا بد من التأنّي والتدقيق والتفحّص والتأمل.

ومن خلال اطلاعي على حركة الحضارة البشرية منذ العهد النيوليثي (بدء اختراع الزراعة وتدجين الحيوانات)، ومروراً بعهود بناء المدن وتكوين الممالك في أحواض الأنهار الكبرى (النهر الأصفر في الصين، والغانج في الهند، ودجلة والفرات في ميزوبوتاميا، والنيل في مصر، والمسيسبي في أمريكا) حوالي (3000) عام قبل الميلاد، وانتهاء بالانتشار المعرفي الهائل في العصر الحديث، تأكد لي أن (الوعي) كان هو السبيل، وأن الوعي المتقدّم بحاجة ماسة إلى (المعرفة/ العلم)، فالمعرفة سلسلة من الخبرات المتكاملة، والعلم أطر ذهنية تنتقل عبرها تجارب الأجداد إلى الآباء والحفدة، و(القراءة/ الكتابة) هي السبيل الأمثل لتحقيق ذلك الانتقال.

وإلا فإن على كل جيل أن يبدأ تجربته الوجودية والتاريخية من نقطة الصفر؛ أي عليه أن يبدأ من مقدّرات وإمكانيات العهد النيوليثي، فيكرر الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها الأجداد والآباء، وينتهي إلى النتائج نفسها التي انتهوا إليها، وهي بالتأكيد نتائج متواضعة وهزيلة، تناسب الشروط التاريخية التي نشأت في إطارها، وهكذا تحدث القطيعة بين الأجداد والحفدة، وتنشأ بين الفريقين هوّة معرفية وحضارية مريعة، تضع العصي في عجلات تقدم الأمة، وتجعلها في النهاية أمة متكلّسة شبه محنّطة، أمة ضائعة في دروب هذا الوجود، أمة عاجزة عن تحديد موقع لها في تاريخ البشرية، أمة متخلّفة عن ركب التقدم، أمة بلا هوية وبلا ملامح حضارية.

3- ما العمــل إذاً؟!

بلى.. ما العمل والحال هذه؟!

ها نحن نعود مرّة أخرى إلى مربط الفرس كما يقال؛ إلى (الثقافة).

ولا أشك مطلقاً أن (القراءة) هي الطريق الأقصر والأكثر جدوى.

أن تقرأ يعني أن تضم عقول الآخرين إلى عقلك.. أن تمتلك (العقل الكلي)، فبدلاً من أن تكون صاحب عقل واحد، تصبح مجهّزاً بملايين من العقول الجادة المبتكرة، بدءاً من العقول التي ابتكرت اللباس واستأنست النار والحصان، ومروراً بالعقول التي اخترعت العجلة والرافعة والنار الإغريقية، وانتهاء إلى العقول التي اخترعت المحرك البخاري والإسبرين والهاتف والسفينة الفضائية.

وأن تقرأ يعني أن تعرف تجارب الآخرين في مجالات الحياة عبر تاريخ البشرية كلها، فتعرف أين أصابوا وأين أخطأوا، وكيف نجحوا ولماذا أخفقوا، ومتى كانوا ضعفاء وكيف أصبحوا أقوياء، وما الذي جعلهم سادة أنفسهم، وما الذي جعلهم عبيداً لغيرهم، وعندئذ يمكنك أن توفّر الجهد والوقت، وتتجنّب مزالق الخطر، وتهتدي إلى سبل التقدم.

وهذا في اعتقادي هو السر في أن الباحثين المحققين جعلوا اختراع (الكتابة) نقطة فاصلة بين عهود ما قبل التاريخ والعهود التاريخية، فأن (تكتب) يعني أن تجعل الآخر (يقرأ)، أي أنك بالقراءة والكتابة تعقد جسراً متيناً بينك وبين من هو بعدك، بينك وبين ولدك، بينك وبين حفيدك، بينك وبين صديقك، بينك وبين عدوك، بينك وبين الناس في أقاصي هذا العالم وأدانيه؛ أي أنك بالقراءة تفسح المجال للآخرين كي يعرفوك، فلا يكونون جاهلين بك غرباء عنك، وتمنح نفسك إمكانية معرفتهم، فلا تكون جاهلاً بهم غريباً عنهم.

4-  حياة نيوليثية!

ودعوني أقل بصراحة: كانت ثمة هوّة معرفية عميقة بيننا- نحن جيل الخمسينيات- وبين آبائنا وجدودنا الأقربين، بيننا نحن الذين أتاحت لنا ظروفنا التاريخية أن (نقرأ) وننطلق من دائرة (القراءة) إلى دائرة (الثقافة) وبين جذورنا الذين لم تتح لهم ظروفهم التاريخية أن يمارسوا فعل (القراءة)، وأن يبقوا من ثمّ خارج حدود الثقافة والمعرفة. ونتيجة لذلك كان صراع صامت يدور بين الطرفين، وكان الطرفان مجبَرين على خوض ذلك الصراع.

أما الجيل السابق (القديم) فبحكم انتمائه العتيد إلى منظومة ثقافية شبه بدائية، منظومة ثقافية لم تكن، من حيث رؤيتها الوجودية ومستويات الوعي وآليات التفكير، بعيدة عن رؤية ومستويات وآليات العصر النيوليثي.

وأما الجيل اللاحق (الجديد) فبحكم انتمائه إلى عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، عصر اكتشاف أشعة الليزر، واختراع القنبلة الذرية والهيدروجينية، عصر الفلسفات الوجودية القادمة من أوربا الغربية، وعصر الفلسفات الاشتراكية القادمة من أوربا الشرقية، وعصر الفلسفة البراغماتية القادمة من أمريكا.

أجل، يذكر علماء الأركيولوجيا أن العصر النيوليثي بدأ في تاريخ البشرية مع اختراع السكة (المحراث)، واستئناس الحيوان ليجر المحراث، واختراع المنجل ليحصد به الزارع ما زرع. وكان ذلك انتصاراً كبيراً على تقنيات العصور الحجرية، فقد تخلّص إنسان العصر النيوليثي بذلك الابتكار من المجاعة، وتحرر من تبعات عصر القنص والبحث عن الجذور، فاستقر وبنى الأكواخ، وصنع الأدوات الفخارية.

وكذلك كانت الحال في أريافنا حينما فتحنا أعيننا على الحياة، وحينما كنا صبية، ثم حينما شببنا عن الطوق. كان آباؤنا يقضون الخريف بطوله وهم يمشون وراء المحراث جيئة وذهاباً من الصباح الباكر إلى غروب الشمس، ليزرعوا ما نحن بحاجة إلى أن نأكله، وليبيعوا الفائض منه ويبتاعوا الملبس وحاجات العيش الأخرى.

وكانوا يقضون الشهر الأخير من الربيع وأشهر الصيف بطوله وهم يحملون المناجل، وينازلون حقول القمح والشعير من الفجر إلى غروب الشمس، ظهورهم منحنية، قاماتهم متضائلة، وجوههم متجعّدة، نظراتهم غائرة، يتوحد الغبار النافر من صولات المناجل مع العرق السائل على جباههم والمتفجّر من كل خلايا أجسادهم المنهكة، فكان كل واحد منهم لوحة نيوليثية حقيقية.

5- يقينيات!

بل دعوني أكن أكثر صراحة.

وأستميح جدودنا وآباءنا العذر في ذلك.

فما أرويه ليس الغرض منه هو الاستخفاف، ولا الاحتجاج. وهل يبلغ بي العقوق درجة أستخف معها بمن شقوا لنسعد، وبمن جاء لحم أكتافنا من عرق جبينهم؟! أو هل تبلغ بي الحماقة درجة تجعلني أحتج على من كانوا مسيَّرين في بؤسهم وما كانوا مخيَّرين قط؟!

إنني أروي ما أرويه للتاريخ.. وكي يعلم أبناؤنا وحفدتنا الذي يجلسون الآن إلى شبكة الإنترنت، ويلفّون العالم من أقصاه إلى أدناه في سويعات، أنه ما كان يفصلهم عن منظومة العصر النيوليثي، منظومة السكة والمنجل وصناعة الفخاريات، منظومة غياب (القراءة/ الثقافة)، سوى خمسين عاماً.

وإليكم لوحات عشوائية من تلك المنظومة الثقافية:     

كان أبناء تلك المنظومة الثقافية يعتقدون اعتقاداً مطلقاً أن الأرض غير كروية، وأنها تقف على قرني ثور، وأن الثور يقف على صخرة، والصخرة تقف على بحر، والبحر يقف على الريح، وحينما يهز الثور رأسه تحدث الزلازل.

   ● وكانوا يؤمنون أن (الإمام علي) يسوق الغيوم، ويضربها بسيفه المشهور (ذو الفَقار)، فتزمجر الغيوم وترعد، وتبكي مطراً!

   ● وسمعت الكهول والشيوخ من تلامذة تلك المنظومة الثقافية يقولون بيقينية مطلقة: كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني من أولياء الله، إنه كان يبسط سجادته على ماء البحر ويصلي!  

   ● وكانوا يرون أن (القراءة) طقس مخيف، فذات مرة في السبعينيات من القرن الماضي قال لي أحد كهول قريتي (وكان من المتنوّرين بالقياس إلى جيله): يا ابن أختي! سمعت أنك تواصل القراءة.. أنصحك أن تقلّل من ذلك.. فمن يكثر من القراءة يُخاف عليه من الجنون!

   ● وكانوا غير قادرين على استيعاب أن الشمس نجم وأن القمر كوكب، كانوا يرون أن الشمس والقمر كانتا أختين في قديم الزمان، وكانت (القمر) جميلة جداً، فغارت (الشمس)، فلطخت كفها بهباب ساج التخبيز، ومسحت بها خد (القمر) لتشوّه جمالها؛ وذلك هو سبب اللطخة السوداء في وجه القمر.

6 -  الزلزال!

إن جدودنا وآباءنا النيوليثيين – وأقولها باحترام- كانوا عاجزين عن فهم أن الأرض كروية، وأنها تدور حول الشمس، وأن القمر كوكب أصغر منها يدور حولها، ذات مرة في سنة (1964م) تقريباً قال لي والدي- رحمه الله- بهدوء، وكان يطالع أحياناً في كتبي المدرسية، وكان آرمسترونغ الأمريكي قد دار حينذاك حول الأرض فيما أعتقد:

-  يا بني! أصحيح أن الأرض تدور؟!

-  نعم يا والدي، إنها تدور.. العلم هكذا يقول.

-  لكن لماذا يبقى جبل (ملا موسى) في الاتجاه الغربي نفسه الذي يتجه إليه باب بيتنا؟! أليس من المفروض أن يصبح في جهة أخرى؟!

-  والدي، عندما تركب السيارة وتتجه إلى حلب، وتجلس في الكرسي الواقع خلف السائق يكون السائق أمامك على الدوام، أليس كذلك؟!

-       بلى.

-  وعندما تغيّر السيارة اتجاهها هل يتغيّر موقع السائق بالنسبة إليك؟!

-       لا.

-  حسناً.. كذلك نحن ودارنا والجبل والأرض.. الأرض هي السيارة.. نحن والدار و(جبل ملا موسى) وجبال أمانوس الشامخة البعيدة المكللة بالثلوج (چياي گَوْر) والغيوم كلنا داخل تلك السيارة الهائلة (الأرض).

صمت والدي على نحو تأملي تصوّفي، ولا أدري مدى اقتناعه حينذاك بما قلته. لكنه ما كان يعارضني حينما كنت أحاول إقناع زوّاره من الكهول والشيوخ بكروية الأرض ودورانها، بل كان – رحمه الله- يستمع باهتمام واضح.

--  --  --

التساؤلات العفوية إشارات تلمع كالبروق.

هاهي ذي المنظومة الثقافية النيوليثية تتزلزل.

القراءة (الثقافة) تفعل فعلها بشجاعة.

العصر النيوليثي طال أكثر مما ينبغي.

أيها المبجّل! قمت بما ينبغي أن تقوم به.

تجاوزت ذاتك.. وآن لك أن ترحل بصمت.

لقد حان زمن الخروج إلى العصور الحديثة.

       (وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة عشرة).

           في 6-11-2004م             الدكتور أحمد الخليل

 

=============================

========

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الثانية عشرة)

ماذا جنيت من الثقافة؟!

للثقافة في تكوين شخصيتي فضائل جمّة.

وأكتفي اليوم بالوقوف عند أمرين اثنين، هما:

·  الثقافة ووعي الذات.

·  الثقافة والإحساس بالزمن.

1 – فلتات .. ومراجعات.

علّمتني الثقافة ألا أدع (ذاتي) منفلتةً من عقالها، تخبط خبط عشواء.

وعلّمتني ألا أدعها تتصرّف على أساس أنه (لا حسيب.. ولا رقيب).

ولا أزعم أني قد بلغت الغاية مما أريد في هذا المجال.

فثمة بين الحين والحين (فلتات) و(سقطات) و(شطحات) و(تهويمات).

لكن ما يحملني على الاطمئنان في النهاية هو أن هذه (الخروقات) لا تمرّ دون مراجعة دقيقة، ولا تمضي دون محاسبة صارمة، ولو عشتم معي تفاصيل تلك المراجعة والمحاسبة لضحكتم طويلاً.

فكم من مرّة وجدتُني أسخر من نفسي قائلاً: 

" ويحك يا رجل! كم كنت أحمق حين قررت كذا وكذا!.. هل ثمة حصيف يتخذ قراراً كهذا؟! أين تجربتك وفطنتك؟! أين صبرك الجميل وصمتك الطويل؟! اسمع! تحدّثني نفسي أن أصفك ليس بالحماقة فقط، بل بالغباء أيضاً ".

وكم من مرة وجدتُني أحاكم نفسي وأغضب عليها قائلاً:

" ويلك يا رجل!.. أما كنت تملك ذرة عقل حين فعلت كذا وكذا؟! هل أصابك مسّ من الجنون؟! أين كان علمك وحِلمك؟! أين كان هدوءك ورزانتك؟! أين الِحكَم التي جمعتها من بطون كتب الأدب ودواوين الشعر؟! أين الأمثال التي كنت ترددها وتهيم بها حباً؟! أذهبتْ كلها أدراج الرياح "؟!

وكم من مرة وجدتُني أُقبل على نفسي مهنّئاً، وأنا أقول:

" أحسنت يا رجل! وحيّاك الله وبيّاك!.. لقد فعلتَ ما ينبغي فعله، وقلت ما ينبغي قوله..  حاول أن تكون هكذا على الدوام ".

وأصدقكم القول أن أعداد (ويحك!) و(ويلك!) كانت فيما مضى أكثر بكثير من أعداد (أحسنت!)، لكن النسب راحت تتقارب رويداً رويداً، وشرعت المسافة بين النقيضين تضيق أكثر فأكثر، وأعتقد أن (الثقافة) هي التي ساعدتني على الوصول إلى هذه الحالة الواعية والحازمة من (مراقبة الذات)، وأجدني في ذلك قريباً من مواقع أساتذتي وأصدقائي الصوفية الأوائل، أمثال إبراهيم أدهم، والفُضَيْل بن عِياض، وشقيق البَلْخي، والجُنَيْد.    

2 – تحوّلات لها معنى.

تساؤل لجوج يأخذ بخناقي كلما حدّثتني نفسي بالكتابة:

 " لماذا تكتب هذه الحلقات " ؟!

أقول بصدق: لا أريد لهذه الحلقات أن تكون هوساً بالذات.

والأسباب عديدة:

o  منها أن من جملة الصفات التي أستهجنها وأنفر منها هي (النرجسية)، والانكباب على (الأنا) انكباباً فيه ما يشبه تقديس الذات وعبادتها.

o  ومنها أني لست ذلك الرجل الذي يمتلك حياة تزدان بالأحداث المثيرة، مثلما هي حياة مشاهير الساسة والقادة والعظماء، أضف إلى هذا أن رحلتي في الحياة متواضعة وبعيدة عن أن تقارب، من حيث الجاذبية، ما في حياة المغامرين من إثارة.

o  ومنها أيضاً أنه حتى لو كان المرء يحظى بحياة مثيرة فمن العيب أن ينادي على نفسه، ويستعرض منجزاته مفتخراً مستكبراً، إذ في قرارة كل فخر بالذات انتقاص من (الآخر)، وفي ثنايا كل استكبار شكل من أشكال النظر إلى الآخرين بعين الاستصغار والاحتقار.

إن حياتنا- نحن جيل مثقّفي الخمسينيات والأربعينيات وما قبلها-  لا تختلف عن حياة غيرنا في كثير من الأوجه، لكن لها قيمة واحدة، تتمثّل في أننا الجيل الذي عاش (التحوّلات الحضارية الكبرى) في الشرق، ومارس بالضرورة، وبفضل الثقافة، فن (الاكتشاف)؛ اكتشاف الذات واكتشاف العالم.

ودعوني أقل بعبارة موجزة: نحن جيل (البرزخ) التاريخي الفاصل بين العصور القديمة والعصور الحديثة، كان برزخاً هائلاً، وكان علينا أن نجتازه شئنا ذلك أم لم نشأ، وإلا فإنا كنا سننقرض كما انقرضت الديناصورات التي كانت سيّدة العالم في الأزمنة القديمة.

وكانت قيمة الزمن من أهم ما اكتشفته عبر حياتي البرزخية، وكان ذلك الاكتشاف مدخلاً إلى التحوّلات الكبرى في حياتي، وكان للثقافة الفضل الأكبر في هذا وذاك.

3 – الشرق.. والزمن الضائع.

والحق أن قصتنا في هذا الشرق مع (الزمن) قصة عجيبة.

كان بعض أجدادنا القدماء جداً يؤلّهونه، وكانوا يسمّونه (الدهر).

وكانوا يتعاملون معه بطريقة ميتافيزيقية (صوفية)، تستدعي ألف وقفة ووقفة، وتثير ألف تساؤل وتساؤل. هذا إذا أحسنت الظن، والتزمت اللباقة في الحديث، وإلا فإنهم كانوا يتعاملون مع الزمن بطريقة هلامية سائبة، وبكيفيات غير مسؤولة، وبكثير من الإسراف والتبذير، وكانوا يتصرّفون من منطلق أن أرخص ما في هذا الوجود هو (الزمن).

ومن جملة ما شهدته في هذا المجال أن الأعراس كانت تقام في قرانا على مدى سبعة أيام ليلاً ونهاراً، وطوال هذه الأيام كانت الألحان والرقصات نفسها تُكرَّر، وكانت الأطعمة نفسها تُقدَّم. وإلى عهد قريب كنت أجد أناساً يُمضون ساعات طويلة وهم يلعبون النِّرْد (طاولة الزهر)، ويظلون يركضون وراء (شيش، بيش)، وكنت من هذا الفريق لمدة ثلاث سنوات فقط في عهد الشباب، وكان آخرون يسمرون ليالي الشتاء الطويلة وهم يلهون بلعبة (الورق) التي لانهاية لها.

وما عاتبت قطّ الأميين المنصرفين إلى قتل الوقت بهذه الوسائل العابثة، وإنما كان عتبي- وما زال وسيظل- منصبّاً على من يستطيع القراءة والمطالعة، ثم يرضى بهذه المبذّرات وأشباهها بديلاً.

وقد تبيّن لي أن أغلى ما نمتلكه – نحن البشر - في الوجود هو (الزمن). وحسبنا دليلاً من المنظور الديني أن الرسول محمداً عليه السلام ذكر أن المرء مسؤول " عن عمره فيمَ أفناه "؟! وحسبنا دليلاً من المنظور العلمي أن سرعة الضوء في الثانية الواحدة تساوي قرابة ثلاثمئة ألف كيلو متر! أرأينا كم هي (الثانية) مهمة؟! فما بالنا بالدقيقة فالساعة فاليوم فالشهر فالفصل فالسنة فالعقد فالقرن؟!

وحين اطّلعت على سير الأنبياء ومشاهير الفلاسفة والقادة والساسة والعلماء والمخترعين أدركت أنهم أنجزوا للبشرية ما أنجزوا بفضل إدراكهم العميق لقيمة الزمن، ولأنهم أحسنوا التصرّف فيه، وحاولوا أن يستثمروه على النحو الأفضل بكل ما هو مفيد وثمين.

4 – مأساة الحلاّج!

ومنذ أن أدركت ذلك أصبحت أحرص على الوقت أشد الحرص، فأحاول جهدي أن ألتقي بالأقارب والأصدقاء في المواعيد التي أضربها لهم، وكم أؤنّب نفسي إذا تأخرت عن الموعد المضروب لأمر طرأ، أو لمفاجأة لم تكن في الحسبان! وكم أنزعج بيني وبين نفسي حين يضرب لي أحدهم موعداً ثم يقدّمه أو يؤخّره! وكم أتميّز غيظاً – على نحو خفي- حين أُبتلى بزائر على غير موعد، فأضطر إلى إنفاق ساعة أو أكثر في الاستماع إليه، أو البحث عن موضوعات للحديث أملأ بها الفراغ معه!

ولا أخفي أننا- معشر المثقفين في الريف- كثيراً ما كنا معرّضين لمثل هؤلاء الزوّار، وهم كانوا معذورين فيما يبدّدونه من أوقاتنا من حيث لا يشعرون، ونحن كنا معذورين في مجاراتهم رغم غيظنا المكبوت، وكانت حالنا في ذلك حال الصوفي الشهير أبي منصور الحلاّج، حين حكم عليه فقهاء بغداد بالموت صلباً، فكان يقول للمكلّفين بتعذيبه وصلبه: أنتم معذورون فيما تفعلون، وأنا مأجور على ما أعاني.

5 – همسة على الهامش!

وقد تعلّمت من رحلتي مع الثقافة من ناحية، ومع الحياة من ناحية أخرى، أن للنجاح في أيّ مجال كان شروطاً ثلاثة:

o       تحديد الهدف.

o       التخطيط الدقيق.

o       التنفيذ الجادّ.

ولا يمكن لهذه الشروط أن تؤتي ثمارها في غياب إدراك القيمة الوجودية والعملية للزمن، وفي غياب الإحساس بأهمية الثانية والدقيقة والساعة، وكم يعجبني في هذا المجال رأي لمفكّر أوربي لا يحضرني اسمه! لقد قال ذات مرة لأصدقائه:

-  "أحسنوا التصرّف فيما تبقّى لكم من زمن "!

وأقول لكم القول نفسه.

(وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة عشرة).

                          15-10-2004             الدكتور أحمد الخليل

 

=============================

========

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم

(الحلقة الحادية عشرة)

من هو المثقّف؟.. وما هي الثقافة؟

1- وجهة نظر!

إخوتي.. أخواتي.. أبنائي .. بناتي.. الأعزاء!

آمل أن تتّسع صدوركم لوجهات نظري في هذه الحلقة.

إنها قد تكون غريبة!

بل قد تكون مرفوضة!

بل قد تكون ممجوجة!

لكن..آمل أن تسمعوها أولاً.

وتفكّروا فيها بهدوء ثانيًا.

ولكم بعد ذلك أن تقبلوها..

وأن تُغنوها بما عندكم من إضافات.

أو إذا شئتم أن ترموها في البحر.

أو تذروها مع الرياح.

فلا مانع أيضًا..

فأمّا الزَّبَد فيذهبُ جُفاءً.

وأمّا ما ينفع الناس فيَمكُثُ في الأرض.

2- متعلّمون أم مثقّفون؟!

وبداية أرى من المفيد تدقيق النظر في مصطلحين معرفيين شائعين هما: (المتعلّم) و(المثقّف). وكي أكون أكثر دقة ووضوحًا دعوني أقل: هما (حامل الشهادة العلمية) و(المثقّف).

بلى، أحسب أن حامل الشهادات العلمية- بدءًا بالثانوية وانتهاء بالعالمية (الدكتوراه)- ليس إلا متعلّمًا، ولا أجد كبير فرق بينه وبين أيّ بنّاء أو خبّاز أو خيّاط أو نجّار أو غير هؤلاء من أصحاب الصناعات، إن كل واحد من هؤلاء جدّ واجتهد لامتلاك معلومات وخبرات في مجال مهنته، ثم وظّف تلك المعلومات والخبرات في المجال المطلوب، وبالكيفية المطلوبة، فكان ناجحًا بهذا القدر أو ذاك.

وكذلك الأمر بالنسبة لنا نحن حملةَ الشهادات العلمية؛ وأبدأ بنفسي، فقد درست وكافحت لمعرفة اللغة العربية وقواعدها نحوًا وصرفًا، ولامتلاك ناصية الأدب فهمًا وتذوّقًا ونقدًا، وها أنا ذا أوظّف تلك المعلومات والخبرات، منذ سنين طويلة، في تدريس الطلبة، وهم – فيما أعلم – يشهدون لي بالنجاح في هذا المضمار. ومع ذلك، وفي هذه الحدود وضمن هذه الدائرة، لا أرى أني أستحق لقب (المثقّف)، بل أستحقّ بجدارة لقب (المتعلّم) الذي وصل إلى درجة (المعلّم)، لكن بالمفهوم المهني لمصطلح (المعلّم)، وليس بالمفهوم المعرفي الرحيب.

3-  ماذا تعني الثقافة؟!

للثقافة في عصرنا هذا دلالتان رئيستان:

·  الأولى: دلالة حضارية، تشمل كل البنى الفوقية والصيغ والأشكال المعنوية (الروحية) الخاصة بحضارة مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم؛ مثل الميثولوجيا، والأديان، واللغات، والعلوم، والآداب، والفنون، والعادات، والتقاليد.

·  والثانية: دلالة معرفية، وهي تعني امتلاك معرفة واسعة وعميقة في حقل من حقول المعرفة المعاصرة، إلى جانب امتلاك كثير من المعلومات في المجالات العلمية والأدبية والدينية والتاريخية والجغرافية والفنية.

وبطبيعة الحال لا تعني الثقافة مجرد امتلاك المعلومات، فهذه مزية يمكن أن يشاركها فيها الحصول على (الشهادة العلمية) أيضًا، إن الثقافة تعني القدرة على المتابعة، والرصد، والتصنيف، والربط، والمقارنة، والموازنة، والاستقراء، والاستنباط، والتقويم، وكل هذا يهيّئ المرء لأن يمتلك القدرة على (التوقّع) وعلى (التنبّؤ)، والانتقال بالمجتمع من حالة حضارية معيّنة إلى حالة حضارية أرقى، وهذا- في تقديري- هو أروع إنجازات الثقافة.

4- كيف نصبح بالثقافة؟!

ومن هنا فالثقافة – حسبما أرى -دائرة معرفية أرحب.

إنها دائرة معرفية أرقى من دائرة (الشهادة العلمية).  

بالشهادة العلمية نحوز المناصب، ونبدو عظماء في أعين الناس.

لكنا بالثقافة نرتقي فوق ضعفنا، ونصبح أكثر قوة.

بالشهادة العلمية نصبح أكثر وجاهة، وأكثر بريقًا.

لكنا بالثقافة نصبح أكثر إنسانية، وربما أكثر تراجيدية أيضًا.

بالشهادة العلمية يعرفنا الآخرون، وقد يُشار إلينا بالبَنان.

لكننا بالثقافة نمتلك القدرة على فهم الآخرين فهمًا صائبًا.

بالشهادة العلمية قد ننجو من قبضة الفقر، وقد نملأ جيوبنا بالمال.

لكنا بالثقافة نملأ قلوبنا حبًا، ونفوسنا نقاء، وأفكارنا طهرًا.

بالشهادة العلمية نتعلّم التعايش مع الآخرين.

لكنا بالثقافة نمارس الانسجام مع أنفسنا، والتوحّد مع الآخرين. 

5- ما هي سمات المثقّف؟!

المثقّف الحقيقي أكبر من أن يحصر اهتماماته العلمية في مجال معرفي معيّن، إنه هاوي قراءة من الدرجة الأولى، لا تنتهي رحلته مع الكتب بانتهاء حصوله على الشهادة العلمية، ولا بحصوله على وظيفة أو فوزه بمنصب، إن القراءة بالنسبة إلى المثقف مشروع متجدد مع كل صباح، حدوده الكون بأسره، وعمره الحياة كلها، وأهدافه هي:

o  اكتشاف الذات أولاً.

o  اكتشاف الآخرين ثانيًا.

o   التوحّد بالعالم ثالثًا.

إن المثقّف أكبر من أن يكون جامعًا للمعلومات.

إنه هاوي تأمّل من الطراز الأول.

يرى في حبّة رمل من العجائب ما يراها في المجرّات.

وينشغل بتاريخ نملة كما ينشغل بتاريخ إمبراطور شرقي.

ويكتشف الجمال فيما يُعدّ قبحًا، والقبحَ فيما يُعدّ جمالاً.

والمثقف الحقيقي لا يكتفي بأن يقول: ما هذا؟!

بل يسعى بإخلاص إلى أن يعرف: لمَ هذا؟! وكيف هذا؟!

إن المثقّف أذكى من أن يقيم حاجزًا بين ما يعلم وما يفعل.

إن ما يؤمن به المثقف حقيقة هو ما يمارسه فعلاً.

إن كل معلومة جديدة تعني بالنسبة للمثقف ممارسة جديدة.

وإن كل معرفة جديدة تعني بالنسبة للمثقف أداءً أفضل، وخُلقًا أنبل، وسلوكًا أرقى، وأهدافًا أسمى، ومنجزاتٍ أكثر نفعًا لنفسه ولشعبه وللبشرية.

وبقدر ما يكون المرء أكثر ثقافةً يكون أرحب أفقًا، وأوسع رؤيةً، وأنصع إنسانيةً، وأنفذ بصيرةً، وأعمق تحليلاً، وأحسن تأويلاً، وأقوم حكمًا.

ولعلي انسقت مع العموميات!..

بل لعلّي شطحت بعض الشيء!..

حسنًا.. سأكون أكثر تحديدًا.

وسنقف معًا عند فضائل الثقافة.

لكن.. سندع ذلك إلى الحلقة القادمة.

                    في 1-10-2004             الدكتور أجمد الخليل

 

=============================

========

عفرين بوّابتي إلى العالم

(الحلقة العاشرة)

رحلتي مع الثقافة

1-  لا تنسوا أجسادكم!

منذ سنين قلت لبعض أصدقائي:

نحن- المثقّفين من أبناء الريف المنتمين إلى جيل الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي- لنا تاريخنا الخاص، تاريخنا هو مزيج من مرارة الشقاء وعذوبة التحدي، حفرنا دروبنا في شعاب هذه الحياة بأظافرنا، اجتزنا ألف خندق وخندق، وتغلّبنا على ألف عائق وعائق، وعبرنا ألف برزخ وبرزخ، كَبَوْنا وكبونا وكبونا، الكبوات في حياتنا لا تحصى، لكننا كنا ننهض بعد كل كبوة، وكنا نستمرّ في التقدّم، كان شيء ما يجعل الثقة بالنفس تسري في كل خلية من خلايا أجسادنا الشاحبة، ولولا تلك الأجساد التي خاضت امتحان (البقاء للأقوى) بنجاح لما عشنا إلى هذا اليوم. ولعل هذه الذكريات المتجذّرة بجدارة في صميم كياني هي التي تجعلني أقول لأولادي بين حين وحين:

_ في زحمة مشاغل هذه الحياة لا تنسوا أجسادكم يا أولاد! 

بل أذكر أني كنت أقول لأصدقائي أيضًا:

نحن أشبه بتلك الشجرة الجبلية المنسيّة في متاهات الجغرافيا، المرميّة خارج التاريخ، تعصف بها أعاصير الشتاء، وترميها شمس الصيف بشواظها، وتحاصرها الصخور القاسية، وتنهال عليها السيول، فيزخر جسدها بالجراح، وتتكسّر أغصانها، ويتشوّه مرآها، وتكفهرّ ملامحها، لكنها تظل واقفة بعناد، وتظل تشمخ بقامتها الصلبة وبرأسها المشدوخ، حتى إذا أقبل الربيع أورقت ثم أزهرت ثم أثمرت، فصنعت الظلال الوارفة للرعاة وللمتشردين ولعابري السبيل، وأصبحت هي الجغرافيا، وأصبحت هي التاريخ.

وبالنسبة لي كان ثمّة عامل آخر.. إنه الثقافة.

فكيف كانت رحلتي مع الثقافة؟!

2- الكوّة- المكتبة.

بدايةً آمل أن يلاحظ القارئ الكريم أني أقول: رحلتي مع الثقافة، ولا أقول: رحلتي مع التعلّم، ولعلّي أتناول في حلقات قادمات الحديث عن (رحلتي مع التعلّم)، و(رحلتي مع التعليم)، أما الآن فلنقتصر في حديثنا على الثقافة.

وقد يكون من الغرابة القول بأن خطوتي الأولى مع الثقافة بدأت من القرية.. وتحديدًا من (كوّة) مضافة الجد إبراهيم كلبچك (كالى إبرام)، فالاعتقاد السائد أن المدارس والمعاهد والجامعات هي وحدها التي تخرّج المثقّفين.. وكم هو خاطئ ومضلِّل هذا الاعتقاد!

بلى، إن (كوّة) مظلمة في جدار غرفة بسيطة، تنتمي إلى قرية مثل قريتي، متواضعة جدًا، ومرمية في الشمال على سفح (جبل ليلون)، وبعيدة من مراكز العلم والحضارة، يمكن أن تكون بوّابتك إلى العالم، ويمكن أن تقلب شخصيتك رأسًا على عقب، ويمكنها أن تأخذ بيدك إلى اكتشاف ذاتك وهويتك وانتمائك ونقاط قوّتك وضعفك، وبالتأكيد لست حالة فريدة في هذا المجال، إن معظم المثقّفين المنتمين إلى جيلي والأجيال السابقة علينا في النصف الأول من القرن العشرين انطلقوا من هذه البدايات المتواضعة.

ومرّ بنا في الحلقة التاسعة أني كنت أجد في كوّة مضافة الجد إبراهيم ركامًا من الكتب المختلفة الأحجام، معظمها ذو ورق أصفر، وبعضها قديم متهرّئ الغلاف، وبعضها متشقّق الصفحات من كثرة الاستعمال، لقد عرفت بعد حين أنه كان لتلك (المكتبة) البدائية روّادها وعشّاقها من رجال القرية، كانوا قلّة قليلة جدًا، ربما اثنان أو ثلاثة على الأكثر، لكنهم كانوا يُدخلون الحركة على محتويات (المكتبة).

ويبدو أن الجد إبراهيم كان كريمًا عليهم، ولعل الشيخوخة كانت تحول بينه وبين الاستمرار في تلبية رغبات محبّي الاستماع إلى قصص (حمزة البهلوان)، و(فيروز شاه)، و(ذات الهمّة)، و(تغريبة بني هلال)، و(عنترة بن شدّاد)، و(الزير سالم)، فشجّعته على البحث عمّن يريحه من عناء القراءة بالعربية والشرح بالكردية للسمّار في ليالي الشتاء الطويلة.

3 – الخال عبدو.

كان أبرز المرشّحين لتلك المهمّة التثقيفية خالي عبد الرحمن (عبدو)، وكان فيما علمت بعدئذ من أكثر روّاد المكتبة- الكوّة. إن الخال عبدو كان أكبر أولاد الابنة الكبرى للجد إبراهيم، أقصد جدتي لأمي (مَدينة)، وكان كثير التَّرداد على جدّه، مقرّبًا إليه، ونادرًا ما كانت الفرص تتاح لي في حضور جلسات الاستماع إلى ما كان يرويه الجد إبراهيم بنفسه، وأحسب أن ذلك كان ناجمًا عن صغر سنّي من ناحية، والانشغال باللعب مع الأقران والتبكير في النوم شتاء، من ناحية أخرى، كنت حينذاك كالظل للمرحومة والدتي، وقلّما كانت النساء يحضرن تلك المجالس القصصية.

وكنت حينذاك واقعًا بالكلية في قبضة منهاج المرحوم والدي على الصعيد التعليمي، كان يحرص بحزم، ودون أيّ تساهل، على ختم القرآن الكريم تلاوة، إلى جانب حفظ السور الواردة في (جزء عَمّ)، ولم يقف الأمر معه عند ذلك الحد، وإنما كان يُلزمني بتعلّم المبادئ الأولية في علم الحساب من جمع وطرح وضرب وتقسيم، مع بعض قواعد اللغة العربية، الأمر الذي كان يُحدث الخلل في برامج اللعب التي كنا نتّفق عليها نحن الصبية، ويثير في النفس تبرّمًا دفينًا وغضبًا خفيًا.

وكان من أولى مكاسب التحاقي بالمدرسة الابتدائية أن قبضة منهاج الوالد خفّت، فقد اقتصر على الاستمرار في تلاوة القرآن تحت إشرافه، إذ تبيّن له أن من بين كتبي المدرسية كتابًا للحساب، وآخر لقواعد العربية، إضافة إلى كتب خاصة بالعلوم والديانة والتاريخ والجغرافيا، إذن ثمّة من يقوم مقامه في تنفيذ المنهاج على نحو موسّع، كما تبيّن له أني بحاجة إلى وقت مديد لدراسة تلك المواد وفهمها، فالمسألة باتت صعبة، إنها قضية نجاح ورسوب، وكم سيكون مزعجًا بالنسبة له أن يقول أهل القرية في نهاية السنة: انظروا! ها قد رسب أحمد ابن (خوجة محمود)!

بلى.. منحني الوالد قدرًا وافياً من الحرية في التعامل مع الكتب، ومتَّسعًا من الوقت، وكانت تلك فرصة سانحة لأن أبدأ خطواتي الأولى مع المطالعة الحرة، كنت أتطلّع بشغف إلى القصص التي كنت أسمعها من الخال عبدو، ولا سيما أحداث قصة حمزة البهلوان وقصة فيروزشاه، كانت جميعها أحداثًا بطولية خارقة، كنت لا أملّ سماعها ثانية وثالثة ورابعة، وها قد تعلّمت في المدرسة قراءة موادّ غير آيات القرآن، وغير دروس الحساب.. وها أنا ذا أجد بين يدي الخال عبدو القصص المستعارة من (كوّة) الجد إبراهيم.. فلماذا لا أستعيرها بدوري منه؟!

4 – جسور.. وعوالم.

كان يومًا رائعًا ذلك اليوم الذي أعارني فيه الخال عبدو إحدى القصص البطولية، إني لا أتذكّر عنوانها على وجه التحديد، لكنها كانت واحدة من القصص التي مرت أسماؤها آنفًا. لم يعد بيني وبين حمزة البهلوان وفيروز شاه وأبي زيد الهلالي ودياب حاجز أو مسافة، لقد انهمكت في قراءتها انهماكًا كليًا، بل إن حمزة البهلوان وأصحابه من فيروز شاه وأبي زيد وغيرهم شغلوني عن متابعة كتبي الدراسية على النحو المطلوب، ولولا الخوف من غضب الوالد وردود فعله على رسوبي من ناحية، والخوف من لسعات عصيّ الأساتذة من ناحية أخرى، لرميت بالكتب المدرسية جانبًا، ولجعلت قراءة القصص والروايات شغلي الشاغل ليلاً ونهارًا.

كانت تلك الملاحم، بالنسبة لي، جسورًا إلى عوالم جديدة خارج قريتي، عوالم نائية وغريبة، عوالم تحفل بكائنات بشرية وحيوانية ما كنت أعرفها، وكانت تشتمل على معلومات جغرافية كنت أجهلها جهلاً تامًا، كانت جغرافيا هائلة السَّعة، تمتد من بلاد الهند شرقًا، إلى بلاد المغرب غربًا، والحقيقة أني كنت أتعرّف جوانب من تلك الجغرافيا في المدرسة، لكن تحت تهديد عصا المعلّم وهربًا من الرسوب، كنت أتعرّف في كتب الجغرافيا المدرسية خرائط جامدة ومعقّدة لهذه البلدان، خرائط تتشابك فيها الخطوط وتتقاطع فيها الأشكال، وكنت ملزمًا بحفظ حدودها شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا، وبمعرفة مساحاتها، وأعداد سكانها، وأهم الصناعات والحيوانات والنباتات فيها، كما كنت ملزَمًا في كتب التاريخ المدرسية بحفظ أسماء الأباطرة والملوك والوزراء والقوّاد، وأسباب قيام الحروب وتواريخ نشوبها وانطفائها، وسلسلة البنود الخاصة بالاتفاقيات والأحلاف.

أما في هذه الملاحم فكنت أتعرّف تلك البلدان والمجتمعات على نحو ممتع ومتكامل، كنت أعرف أسماء ملوكها ووزرائها، فأدخل مع الراوي قلاعهم وقصورهم، وأحضر مجالسهم التي كانوا يعقدونها للبتّ في شؤون الحرب والسلم، وفي حالات السخط والرضا، وأصاحبهم في رحلاتهم للصيد والغزو، وأتعرّف عاداتهم في الملبس والمطعم والمشرب، وأعرف مناسباتهم الاجتماعية في الأفراح والأحزان، إلى جانب اشتمالها على مكائد القصور ورومانسيات الحب، وتهاويل العفاريت والمردة، وأعاجيب البطولات الخارقة، وبعيدًا عن تدقيقات المعلّمين في الأسماء والتواريخ والأحداث، وعن تلويحات العصا، وقتامة الاختبارات، ونكد الدرجات المنذرة بالرسوب.

5 – الراوي الصغير.

وانضاف عامل خارجي إلى العوامل الذاتية المشجّعة على مطالعة تلك الملاحم، ألا وهو أني سردت ذات مرة ما علق بذهني من تلك الملاحم على بعض أقراني من الصبية، فتعلّقوا بي، وتوسّلوا إليّ أن أجود عليهم بالمزيد، وأنزلوني منزلة شيخهم الذي لا يُعصى له أمر، وزعيمهم الذي لا يُرفَض له طلب، وغابت الترّهات والثرثرة التي كانت تهيمن على أحاديثنا ونحن راجعون على الأقدام من المدرسة في عفرين إلى القرية، وأصبحت أحداث تلك الملاحم هي موضوع السرد، فنصل القرية ونحن لا ندري كيف قطعنا مسافة الكيلو مترات الخمسة.

وبطبيعة الحال اقتضت هذه المهمة الجديدة أمورًا عديدة؛ منها أن أستزيد من قراءة الملاحم لأمتلك وفرًا من المعلومات القصصية، وأن أقرأ الملاحم بدقة أكثر وبتركيز أشد، لأوضّح كل استفسار، وأنير كل غامض، كما أنها تطلّبت مني  ممارسة فن جديد ما كنت أمارسه سابقًا إلا في حالات نادرة، ألا وهو فن الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الكردية، فالملاحم كانت مطبوعة بالعربية، وكان عليّ أن أسردها على الأقران بالكردية.     

وبعد هذا الانهماك الكلي بقراءة الملاحم والقصص لم أعد أوافق على مشاريع اللعب التي كنت في السابق أتفق عليها مع أقراني بسهولة، وخرجت ليالي البيادر واتفاقيات اللعب في ليالي الربيع والصيف والخريف من برنامجي وحسابتي، أجل، منذ ذلك الحين اكتسبت أفقًا وجوديًا جديدًا؛ وهو الإحساس الدقيق بالزمن، ويمكنني القول بأني كنت – كغيري من أبناء جيلي- أتعامل مع الزمن بشكل منفلت وغير منضبط، كنت أعرفه على أنه كتل وقتية مديدة (شروق الشمس، غروب الشمس، وقت الغداء، وقت العشاء، الأعياد، الفصول، ...). أما الآن فأحسست أني أكثر لصوقًا بالزمن، ورحت أشعر أن ساعات اليوم الواحد غير كافية لإنجاز ما يجب أن أقرأه، وإلى يومنا هذا أعيش الإحساس نفسه، فأجدني بين حين وآخر أقول لأمّ أولادي (أم محمود) بعفوية:

ـ مشكلة حقيقية.. اهتماماتي ومشاغلي أكثر من وقتي.

وأحسب أن القدرة على وعي الزمان بهذه الحميمية من أولى فضائل المطالعة.

   (وإلى اللقاء في الحلقة الحادية عشرة).             

     - 17-9-2004                  الدكتور أحمد الخليل

 

=============================

========

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم!

(الحلقة التاسعة)

1- مثقفو قريتي الأوائل.

بعض الأمور الصغيرة في بدايات حياتنا كم هي خطيرة!

إنها نقاط جوهرية لحدوث التحولات وأحيانًا الزلازل الكبرى في كياننا.

وقد تحدّر المسارات الأكثر حميمية - وربما الأكثر تراجيدية- في مستقبلنا.

ومن هذا المنظور أفهم الانتصار على الذات، بالعبور من رَهَبوت (الوعي الأسطوري) بكل ما يعنيه من بدائية وانقماع وانخذال، إلى مَلَكوت (الوعي الواقعي) بكل ما يعنيه من عقلانية وانفتاح وجراءة، وما كان ذلك الانتصار ليتحقق لولا رحلتي مع الثقافة.

وكنت وما زلت أعتقد أن ثقافة متقدمة تعني وعيًا متقدمًا.

وأن وعيًا متقدمًا يعني منظومة متقدمة من المبادئ والقيم والمواقف.

ويعني أيضًا آليات معرفية متقدمة للتأمل والتفكير والتحليل والتقويم.

ويعني من ثَمّ فهمًا متقدمًا ومتعمّقًا للذات.

كما يعني تفسيرًا متقدمًا ومتجددًا للعالم.

لكن كيف كانت بدايات رحلتي الثقافية؟!

ببساطة تامة: كانت البداية مع مثقفي قريتنا الأوائل.

وقد يستهجن القارئ الكريم استخدامي مصطلح (مثقف) لأناس من قريتي عاشوا في النصف الأول من القرن العشرين، الزمن الذي هيمن فيه التفكير الأسطوري والبدائي على معظم مداخل وعينا ومخارجه، والزمن الذي كانت بعض القرى فقط تحظى فيه بوجود ممثل الثقافة الوحيد (شيخ الكتّاب) القادم من غربي تركيا، أومن جهات (مَلَطْيَة) في تركيا العثمانية.

لكن دعونا نتذكر أن حقائق عالمنا نسبية، وكذلك أحكامنا، وأن لكل عصر مستوى من الجهل يتوافق مع معطياته البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وله أيضًا مستواه الثقافي الملائم لتلك المعطيات، والمثقف في كل عصر هو طليعة المجتمع، إنه الأغزر من حيث المعلومات، والأقدر على الربط والمقارنة، والأعمق في التحليل والتنظير، والأكفأ لاستخلاص النتائج، والأكثر قدرة على التوقّع والتنبّؤ، والأشد تمسّكًا بالمبادئ الجوهرية، والأكثر إقدامًا وبسالة في الدفاع عن القيم السامية.

والحق أن كثيرًا من هذه المزايا كانت متوافرة في مواقف وممارسات وسلوكيات مثقفي قريتي الأوائل، إنهم كانوا ثلاثة:

1- الجد إبراهيم كَلَبْچَكْ.

كان المعهود في قرانا أن تتغيّر الأسماء؛ تارة للاحترام والإجلال، وأخرى للتحبّب، وثالثة للدعابة، ورابعة للسخرية، وخامسة للاحتقار. وبالنسبة للجد (إبراهيم كَلَبْچَكْ) - رحمه الله- كان الصغير والكبير في القرية يسمّيه (كالى إبْرام= الجد الكبير إبراهيم)، تعبيرًا عن الاحترام والإجلال. كان قد قارب الثمانين حينما أدركته، هذا ما أرجّحه.. وتوفّي على الغالب في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين.

كان مظهره يذكّرني- من غير مبالغة- بما كانت تختزنه مخيلتي من صور الأبطال العظام الذين قرأت عنهم في روايات (حمزة البهلوان)، و(فَيْرُوزشاه)، و(أبو زيد الهلالي)، وكان- رغم تقوّس ظهره بعض الشيء تحت وطأة السنين- طويل القامة، كبير الهامة، واسع الصدر، عريض المنكبين، ضخم العظام، أبيض اللون تخالطه شقرة خفيفة، واسع العينيـن، أقنى الأنف، جهوري الصوت، جليل المظهر، مهيب الهيئة.

وقد عاصر (كالى إبْرام) أواخر العهد العثماني، وعهد الاحتلال الفرنسي لسورية، وعهد الحكومات الوطنية بعد الاستقلال، وعرف الحياة بحلوها ومرّها، ودخل السجون، وتشرّد في الجبال، وكان من أبرز زعماء الثائرين على السلطات العثمانية في منطقة (جُومَهْ) والذين عُرفوا بلقب (چتَهْ)، ثم كان من الثوّار على السلطات الفرنسية، إنه كان صديقًا حميمًا للثائر (مُحُو إيبُو شاشُو) الذي أطلق أول رصاصة في سورية ضد الفرنسيين، وأول من خاض المعارك ضدهم في سهل العَمْق ومنطقة (جُومَه)، وسمعت من معمَّري قريتنا أن الثائر (محو) نزل ضيفًا على (كالى إبْرام) في قريتنا بصحبة مقاتليه، حينما كان يخوض الكفاح ضد المستعمر الفرنسي، وقد ألقت السلطات الفرنسية القبض على (كالى إبْرام) وبعض مرافقيه، ومنهم جدي لوالدتي (قَرَه محمد = محمد الأسمر) رحمه الله، وسجنوا عدة سنوات.

إن (كالى إبْرام) كان ذا سمت خاص، كان قليل الكلام، رصين العبارات، عميق التفكير، صائب الرأي، يجيد من اللغات الكردية والعربية والتركية، إنه كان جدّ والدتي لأمها، وكثيرًا ما كانت والدتي تزوره، وتقوم برعايته، فكنت أرافقها في تلك الزيارات، وكنت وأحفاده الصغار ننتهز فرصة غيابه عن الدار، فندخل غرفة (المضافة) الخاصة به، ونغلق الأبواب والنوافذ، لنبدأ بمطاردة طيور السنونو التي كانت تبني أعشاشها في سقف الغرفة، وقد لفت انتباهي حينذاك وجود عدد من الكتب في كوة كبيرة، كانت كتبًا ذات ورق أصفر، جلودها عتيقة، وقد تهرّأت جوانبها من كثرة الاستعمال.

وأذكر أن كثيرين من رجال القرية كانوا يزورون (كالى إبْرام) في ليالي الشتاء، فيشرع في قراءة صفحات من بعض الكتب، بعضها بالتركية وبعضها بالعربية، ويشرح لهم مضامينها، وكانت الكتب التاريخية الواقعية والروايات التاريخية ذات البعد البطولي الأسطوري هي الغالبة على مكتبته الصغيرة. وبطبيعة الحال ما كانت التقاليد الاجتماعية تسمح لنا نحن الصبية بحضور تلك الجلسات التثقيفية العفوية.. بلى كان من المعيب حينذاك أن يحضر الصبية والشباب الصغار مجالس الكبار، وأحسب أن هذا التقليد كان من أبرز آليات تغييب المعرفة النظرية والعملية عن النشء حينذاك.

2- المختار أبو حسن.

ما زلت أتذكّر ذلك الرجل الذي عرفته في صباي كهلاً، ثم عرفته في شبابي عجوزًا، أقصد مختار القرية (أبو حسن)، كان اسمه- رحمه الله- (محمود ملا محمد عثمان)، وقد عاصرته سنوات أطول من تلك التي عاصرت فيها (كالى إبْرام)، كان يتميّز بقيافته المرتّبة وهندامه الأنيق، ويعتمر قلنسوة حمراء اللون من النمط الذي كان يعتمره الآغاوات وتجار حلب حينذاك، والذي كنا نجده في الكتب المدرسية على رؤوس الشخصيات الوطنية والسياسية الشهيرة في النصف الأول من القرن العشرين، من أمثال السلطان العثماني عبد الحميد، والملك فاروق، وأحمد عُرابي، وسعد زغلول، وشكري القُوَّتلي. لكن المختار (أبو حسن) كان يلف حول قلنسوته عمامة بيضاء رقيقة مزركشة بخطوط صفر، فكانت تبدو أكثر بهاء

 ومن أبرز سمات المختار (أبو حسن) هدوءه الجمّ، وتأمله العميق، ومظهره الوقور، وحِلمه البالغ، وفطنته الدقيقة، ورؤيته الرحيبة، وحكمته العملية، وسياسته المرنة، وإدارته التي كان يجمع فيها بين الحزم واللين. وقد يتعجب القارئ الكريم قائلاً: هل كان هذا الرجل يقود دولة أو رئاسة وزارة أو كان وزيرًا؟!

بطبيعة الحال إنه كان مجرد (مختار) للقرية، لكن لعل أبناءنا وبناتنا اليوم لا يعلمون بدقة أهمية مكانة المختار وخطورة وظيفته وفاعليته الاجتماعية في النصف الأول من القرن الماضي.. كان المختار حينذاك- ويسمى في مصر (العُمدة)- بمثابة رئيس القرية وقائدها وزعيمها، وكان يفترض فيه أن يكون ثريًا، وحصيفًا، وكريمًا، وطويل البال، ويمتاز بقدر من العلم أو المعلومات، وخبيرًا بحل المعضلات، وله دراية بخفايا الأمور، كما يمتلك القدرات التي تؤهّله لحفظ التوازنات العائلية في القرية، من خلال تشكيل لجنة شبيهة بمجلس شورى مصغّر من زعماء تلك العائلات، يستعين بها في حل الخلافات وفض النزاعات، وكل ما يمكن أن يؤزّم العلاقات بين أفراد المجتمع القروي.. بل إن مؤسسات الدولة كانت تستشيره وتأخذ برأيه في كل موضوع يصل إلى المحاكم ودور القضاء.

 كان المختار يجيد من اللغات الكردية العربية والتركية، وكان الطابع الغالب على ثقافته هو التاريخي الديني من ناحية، والديني الفقهي (الحلال والحرام) القانوني من ناحية أخرى، ولا ريب أن لهذا التوجّه علاقة وثيقة بوظيفته كزعيم لمجتمعه القروي. ولذا كانت مضافته مقصد الرجال من أهل القرية، يؤمونها على مدار ليالي السنة، وأما في الشتاء فكانوا يرتادونها معظم أوقات النهار والليل، يتطارحون فيه الحديث في شؤون الزراعة والرعي، ويسألونه عما دق وجل من أمورهم الخاصة والعامة، فلا يبخل عليهم بالنصيحة الرشيدة والتوجيه السديد.

ورغم أن المختار كان يصغر (كالى إبْرام) بأكثر من عقد من الزمان، وكان من أبناء عمومة الوالد- رحمه الله- إلا أني كنت أتهيّب مقاربته وحضور مجلسه، شأن كل فتية القرية حينذاك، إن قلنسوته المتميّزة، وحلول رجال الدولة (القائم مقام، الحاكم، الطبيب الشرعي، مدير المالية، رئيس المخفر، الدرك) ضيوفًا عليه، إضافة إلى مظهره الجادّ الدائم، وصمته الغامض، كل هذا كان يجعلنا نتهيّب ارتياد مجالسه، إن هدوءه الحازم يذكّرني برئيس ألماني في بدايات القرن العشرين، ولعله هندنبرغ، سأله الصحفيون ذات مرة:

- ماذا تفعل عندما تغضب؟!

- أصفّر.

-  لكنا لم نسمعك تصفّر أبدًا!

- وأنا لا أغضب أبدًا.

    وكذلك كان المختار (أبو حسن) إلى حد كبير.  

3- الوالد.

كان الوالد- رحمه الله- هو الشخصية المثقفة الثالثة في قريتنا، ومن المفيد أن نأخذ بعين الاعتبار نسبية مصطلح (المثقف) كما مر بنا سابقًا. وقد فتحت عيني على الحياة وأنا أرى على جدران بيتنا صفّين من الرفوف الخشبية الطويلة، تصطفّ عليهما رزم مختلفة الألوان والأحجام، وبعضها ملفوف بأوراق الصحف ومشدود بالخيوط، كما كنت أجد كوّة كبيرة في الجدار تتكدّس فيها كتب متنوعة، بعضها كبير وبعضها صغير، وبعضها قديم ومتهرّئ الجوانب، وبعضها يبدو من شكله أنه متوسّط العهد، ومعظمها ذات ورق أصفر اللون، أضف إلى ما سبق أني كنت أجد في زاوية البيت على الدوام صندوقًا خشبيًا صغيرًا، يُخرج منه الوالد- رحمه الله- في فترات شبه منتظَمة، ولا سيما صباحًا باكرًا وعصرًا، بعض الكتب، ثم يضعها على الصندوق ويشرع في قراءتها.

وبعد أن بلغت سن الرشد علمت أن ما كان على الرفوف، وما كان في الكوّة، وما كان في الصندوق الخشبي، هو مكوّنات ما نسميه (مكتبة خاصة)، وقد جعلها الوالد ثلاثة أقسام بحسب حاجته إليها: أما ما اطّلع عليه في سابق أيامه، ولم تعد له حاجة ماسّة إليه، فقد ربطه على شكل حزم، ووضعه على الرفّين، وأما ما كان يحتاجه أحيانًا فوضعه في الكوّة، وأما ما كان يحتاجه يوميًا فوضعه في الصندوق وجعله في متناول يديه.

وكان الطابع الغالب على مكتبة الوالد هو الطابع الديني والطابع اللغوي (معاجم تركية – تركية، معاجم عربية- تركية، نحو)، والطابع الطبي الشعبي وتفسير الأحلام، وبعض كتب التاريخ الخاصة بالعهد العثماني، وبعض كتب الحساب. ويبدو واضحًا أن لهذا التنوّع علاقة وثيقة بطبيعة عمل الوالد رحمه الله، إنه أمضى أكثر من ثلثي عمره (1910-1973م) وهو يعمل (شيخ كتّاب) وإمام مسجد القرية وخطيبها.

ويبدو أيضًا أن الوالد كان حريصًا على أن يكون في مستوى موقعه الديني والتعليمي، فشيخ الكتّاب شبه الجاهل لا يمكن أن يعلّم الطلبة كما ينبغي، ثم إن مجتمعات القرى كانت تتوقّع من من الإمام والخطيب أن يجيب عن كل سؤال، ويوضّح كل مبهم، ويفسّر الآيات الكريمة، ويتناول المسائل الفقهية، ولا سيما أمور الحلال والحرام والميراث، كما عليه أن يجيد العمليات الحسابية، وإلا فكيف يمكنه حل الإشكالات الناجمة عن قياس مساحة الأراضي المشتراة، أو الموزّعة بين الورثة، أو المختلف على حدودها بين جارين؟! وكيف يمكنه تذليل صعوبات توزيع حصص الشركاء في مزارع القطن بدءًا بالمصاريف وانتهاء بالأرباح؟!

وإني إذ أذكر هذا أشعر بالأسى العميق حقًا، فقد احتاجت الدار بعد وفاة الوالد- رحمه الله- بفترة إلى الترميم، وكنت حينذاك ملتحقًا بالخدمة العسكرية، فجمع الأهل تلك الكتب في كيسين كبيرين أو أكثر، ووضعت في غرفة أخرى صغيرة ملاصقة للدار، غير أن حريقًا أتى على تلك الغرفة وما فيها، ولم يسلم من تلك الكتب إلا النزر اليسير جدًا.    

-         -  -

 هؤلاء كانوا مثقّفي قريتي الأوائل.

وصحيح أن جهودهم التثقيفية تعدّ متواضعة بمعايير عصرنا هذا.

لكنها- والحق يقال- كانت جهودًا متقدّمة في النصف الأول من القرن العشرين.

ومن تلك الجهود بدأت خطوتي الأولى في رحلتي الطويلة مع الثقافة.

(وإلى اللقاء في الحلقة العاشرة).

 2 - 7 – 2004م        الدكتور أحمد الخليل  

 

=============================

========

عفرين .. بوّابتي إلى العالم!

(الحلقة الثامنة)

ليلة الانتصار على الذات

1- إضاءة!

عاملان اثنان أحسب أن لهما تأثيرًا هامًا جدًا في تكوين شخصية الإنسان:

- البيئة الطبيعية (الأساس المكاني).

- الثقافة الشعبية (الأساس المعرفي).

      أما بالنسبة إلى البيئة الطبيعية فقد أكد المختصون في علم (الجغرافيا البشرية) أن أبناء الجنس البشري يتأثرون– شاؤوا أم أبوا- بطبيعة البيئة التي فيها يولدون وفيها يعيشون، ويظهر ذلك التأثير في الخصائص الثلاث للشخصية البشرية:

- الخصائص الجسمية (الفيزيولوجية).

- الخصائص النفسية (السايكولوجية).

- الخصائص المعرفية (الثقافية).

    وبطبيعة الحال لا يدور حديثنا في هذا المجال عن (الأفراد)، وإنما عن (الشعوب) ولا سيما في بدايات التاريخ البشري، حينما اكتمل إلى حد كبير تكوين ملامح وخصائص كل شعب، وفي الدراسات التي تدور حول هذا الموضوع حقائق طريفة، وعلى سبيل المثال يربط المختصون بين صغر عيون الأسكيمو وضيق فتحات أنوفهم من ناحية، ونور الشمس المبهر الذي تعكسه الثلوج، وبرودة الهواء معظم أيام السنة من ناحية أخرى، كما يربطون بين سعة عيون الزنوج الأفارقة وسعة فتحات أنوفهم من ناحية، وضعف سطوع الشمس في ظلال الغابات الاستوائية، وتمدد الهواء نتيجة الحر من ناحية أخرى.

    وأما بالنسبة إلى الثقافة الشعبية فيكفي أن نلقي نظرة مقارنة على عادات الشعوب وتقاليدها وآدابها وفنونها وسلوكياتها في الأفراح والأحزان لنغدو واثقين من وجود هذه الحقيقة. وأحسب أن الشاعر الإنكليزي (كِپْلِنْغ) انطلق من هذه الحقيقة في تحديد الفروق الجوهرية بين (الشرق) و(الغرب)، وقال بيته الشهير:

" الشرق شرقٌ، والغربُ غربٌ.. ولن يلتقيا أبداً ".

2- روايات .. ومشكلات!

وقد ذكرت في الحلقة السابقة أني كنت في عهد الصِّبا مسكونًا بقصص الخرافات والأساطير، مثل أغلب الناس في ذلك الوقت، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: مثل كل الناس. وكانت الثقافة الشعبية السائدة في بيئتنا هي التي أوصلتنا إلى تلك المأساة، وقد تضافرت قدراتنا المحدودة على تفسير العالم من حولنا تفسيرًا علميًا مع تلك الثقافة الشعبية، فأصبح الخوف من الكائنات الخرافية الغامضة- ولا سيما الجن- خوفًا مركّبًا شديد التعقيد.

وأذكر جيدًا أنه وصل بي الأمر حينما كنت صبيًا أني ما كنت أجرؤ على تجاوز باب البيت ليلاً إلا إذا صاحبني أحد الكبار مثل والدي أو والدتي رحمهما الله، وظل هذا الخوف من الكائنات الخرافية يلازمني حتى بدايات عهد الشباب، وأصبح مشكلة من أكثر المشكلات تعقيدًا بالنسبة لي، وما كنت أفصح عنها للآخرين، إذ كان من المعيب بالنسبة لي أن أفصح عن ذلك.

وأمضيت سنوات الدراسة الابتدائية وأنا أحمل هذا الخوف معي، وكنت حينذاك بدأت أنكب على مطالعة القصص، ولم تكن في عفرين حينذاك مكتبة عامة، وإنما كنت أقرأ بنَهمٍ قصص (ألف ليلة وليلة) و(سيف بن ذي يزن)، و(تغريبة بني هلال) و(حمزة البهلوان) و(فَيْروز شاه)، كنت أجد أخوالي (عبد الرحمن) و(نوري) و(شكري) ينكبون على قراءتها فرحت أستعيرها منهم، وكان أبرز ما يعجبني في تلك القصص أمران: 

-    الكائنات الأسطورية (العفاريت والمردة).

-    القدرات البطولية للشخصيات البشرية الرئيسة فيها.

وأذكر أني كنت أقرأ تلك القصص مرات ومرات، وليس هذا فحسب بل كنت أرويها لأصدقائي بحماس شديد، ولا أعتقد أن طريقة سردي للأحداث كانت هي الوحيدة التي تأخذ بألبابهم، وتجعلهم يلحّون عليّ أن أرويها لهم، وإنما كان لوقوعهم مثلي في أسر البعد الأسطوري لثقافتنا الشعبية تأثير كبير في ذلك الاهتمام، وأحسب أن روايتي للأحداث بحماس كانت عاملاً إضافيًا لأن تتغلغل أحداثها الأسطورية إلى اللاوعي عندي، وتترسّخ فيه، وتتسلّط من بعد على آليات التفكير عندي، وتلقي بظلالها على طريقة فهمي للعالم من حولي، وعلى صياغة مواقفي وردود أفعالي.

بلى في المرحلة الابتدائية كنت أعاني من مشكلة واحدة، هي الخوف من الجن ليلاً غالبًا، وأحيانًا نهارًا في الأماكن الموحشة، لكن بعد انتقالي إلى المرحلة الإعدادية وتقدّمي في الدراسة ظلّت هذه المشكلة تلازمني، وانضافت إليها مشكلة جديدة، ألا وهي (إدراكي) بأني أعاني الخوف من الجن، كان هذا الإدراك يجرحني ويؤرّقني جدًا، إنه كان ينتقص- بيني وبين نفسي- من شعوري بأني قوي، ويفتح ثغرة في شعوري بالزهو والثقة بالنفس.

3- الشجيرة المرعبة!

وكنت في المرحلة الإعدادية بدأت الاطلاع على ألوان من الثقافة غير قصص ألف ليلة وليلة والروايات الأسطورية الأخرى التي ذكرتها، وأذكر أن المدارس كانت مزوّدة بمكتبات صغيرة، لكنها كانت بالنسبة لي كنزًا لا يُقدّر بثمن.. كنت كثير الإقبال على ما فيها من كتب، وكنت مشغوفًا حينذاك بسير المشاهير وحياة العظماء والأبطال، وبدأت أطلع على شخصيات وبطولات لها نكهة أخرى، ولها طابع مختلف عن طابع الشخصيات والبطولات التي كنت أعجب بها في القصص والروايات ذات البعد الأسطوري، كنت ألمح في الأبطال الجدد قدرات بشرية واقعية، إنهم لا يختلفون عني وعن غيري من البشر في الهيئة والشكل، وكلما كنت أزداد اطلاعًا على هذا النمط الجديد من القراءات كان إدراكي لما أعانيه من (الخوف الأسطوري) يصبح أكثر إيلامًا.

وكنا حينذاك ننتقل من القرية إلى عفرين على أرجلنا في فصلي الخريف والربيع، وكان الأهل يستأجرون لنا سكنًا في عفرين خلال فصل الشتاء فقط، بسبب كثرة الأمطار والثلوج وقسوة البرد، وكان النظام في المدارس حينذاك أن يكون الدوام اليومي على مرحلتين: الأولى من الصباح إلى الثانية عشرة، والثانية من الساعة الثانية إلى الرابعة مساء.

أذكر أن الوقت كان خريفًا.. ولعلي كنت في الصف الثالث الإعدادي، وتأخرت ذات يوم عن زملائي من الطلبة، فكان عليّ أن أعود إلى القرية وحيدًا.. انطلقت من عفرين مع أذان المغرب، فأسرعت الخطا.. وتجاوزت قرية (طُرِنْده)، وبدأت ظلمة الليل تزداد رويدًا رويدًا.. كان أكثر الأماكن في الطريق رهبة هو المسافة الواقعة بين طرندة وقرزيحل، وتحديدًا أكثر منطقة بحدود كيلومتر تقريبًا، نسميها نحن سكان قرزيحل منطقة (دارْ پاچكْ = شجرة الخِرَق).. في هذه المنطقة تغيب عن السائر مشاهد بيوت طرندة وقرزيحل تمامًا، ويشعر المرء بالوحدة والعزلة والوحشة.

غير أن الأمر ما كان مقتصرًا على الشعور بالوحشة.

إن (دارْ پاچكْ) هذه كانت شجيرة جبلية شوكية، تتكوّم أغصانها الكثيفة على الأرض بارتفاع قامة الإنسان.. كانت واقعة وسط رجم من الحجارة، وكانت معظم فروعها الشوكية المنتصبة مزدانة بمزق من الأقمشة مختلفة الألوان، وكنا نسمع أن سكان قرى منطقة (شَيرَوان) في أعالي جبل ليلون- ولا سيما النساء- يحرصون على التبكير صباح يوم الأربعاء (يوم البازار) للوصول قبيل شروق الشمس إلى تلك الشجيرة. ثم يعلّق كل واحد مِزقة رفيعة من قماش ما على أحد فروعها، ويطلب من الله جلب خيرٍ ما أو دفع أذىً ما. وبعد اطلاعي على أساطير الشعوب وثقافاتها البدائية تبيّن لي أن هذه الممارسة كانت من الطقوس السحرية الغامضة القديمة جداً.

وجملة القول أنه انتقل إلينا عبر الموروث الشعبي أن هذه الشجيرة تمتلك بعض خصوصيات القداسة الغامضة. لكن لماذا، وكيف؟! لا ندري. وفي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تعرّض كثير من الأماكن المبجّلة (شعبيًا) والأثرية إلى سطو الباحثين عن الآثار والذهب، وكانت (دارْ پاچكْ) إحدى ضحايا تلك الغزوات، وتبين أنه تحت ذلك الرجم من الحجارة كانت حفرة منحوتة في الصخر على شكل  قبر صخري قديم، وبطبيعة الحال اقتُلعت الشجرة وأزيل الرجم، وبنيت الآن بيوت بالقرب منها. لكن ما زال اسم (دارْ پاچكْ) قائمًا إلى يومنا هذا.

وإضافة إلى الخوف من (المقدس الغامض) إزاء منطقة (دارْ پاچكْ) كان هناك الخوف من الجن، فثمة عدد من النساء والرجال والشباب والصبية كانوا يؤكدون على الدوام أنهم رأوا في تلك البقعة بعد هبوط الليل أشباحًا وحيوانات غريبة، وكان التفسير الذي يتفق عليه الجميع هو أن المكان مسكون بالجن.

في ذلك المساء الخريفي راح الخوف يغزوني من كل جانب، وشرع يزداد مع كل خطوة أخطوها نحو (دارْ پاچكْ)، وأذكر الآن جيدًا أنه على بعد حوالي مائتي متر تقريبًا منها بدأت الوساوس تهاجمني بقوة، فرحت أشجع نفسي، وألتمس الثقة من وعيي (العلمي) الجديد، وتقدّمت أكثر.. لكن الوساوس لم تنقص بل ازدادت أكثر، وعلى بعد حوالي مئة متر تقريبًا شعرت بضربات قلبي تدق بعنف، ورحت أتلفت حولي بقلق شديد.

كانت الجهة الغربية على يمين الطريق جبلية، فيها بعض الصخور والنباتات البرية، ولا سيما نبتة (الخِنْت).. بدأت أتصوّر أمامي كائنات في قامة الإنسان، وكائنات أخرى غريبة الأشكال.. أحسست أن شعر رأسي ينتصب.. أصبح الخوف ذعرًا.. لكني رحت أتشجّع وأستعين بتلاوة المعوّذتين وأنا أرفع صوتي، وكأني ألقي خطبة في جمهور كبير، ورحت أتقدّم إلى الأمام فأجد تلك الكائنات إما أنها صخرة أو أنها شجرة (خِنْت)، وكان لا بد لي من التقدّم.. أصبحت بمحاذاة (دارْ پاچكْ).. هنا كان الذعر قد بلغ مني كل مبلغ.. توقعت أن يخرج من بين أغصانها الشوكية عفريت ما أو كائن غامض ما.. ازددت من تلاوة ما أحفظ من الآيات القرآنية وأنا أسرع الخطا.. اجتزت المنطقة بسلام، وسمعت صوت راع على سفح جبل ليلون وهو يعود بقطيعه إلى القرية.. فاستأنست به.

4- نقمة على الذات.

مع تقدّمي في الثقافة والمطالعة بشكل عام شعرت في قرارة نفسي بالنقمة على ذاتي.. كانت نقمة مشوبة بالخجل، ويبدو أن الأمر تطور ليصبح مشكلة نفسية فكرية ذات طابع فلسفي بدائي.. كنت أشعر بين الحين والحين أنه علي أن أضع حدًا نهائيًا لهذه المشكلة.

وحينما اجتزت المرحلة الإعدادية، وانتقلت إلى المرحلة الثانوية حظيتْ مدينة عفرين بمكتبة عامة سميت (المركز الثقافي)، وكانت وزارة الثقافة قد استأجرت غرفتين كبيرتين إحداهما مفتوحة على الأخرى، وكانت ثمة طاولات وكراسٍ كان المكان ضيقًا جدًا، لكن كان عدد الطلبة في عفرين حينذاك قليلاً أيضًا، وأذكر أني كنت من روّاد تلك المكتبة في معظم أوقات الفراغ.

ومن حسن الحظ أن تلك المكتبة كانت تضمّ كثيرًا من القصص والروايات الرومانسية، وكثيرًا من كتب التراجم، وبعض كتب التاريخ، والكتب ذات المعلومات العلمية الحديثة، إلى جانب كثير من كتب الشعر والأدب، فوجدت نفسي مقبلاً على القصص الرومانسية ودواوين الشعر وكتب الأدب والتراجم. ورحت أزداد بُعدًا عن قصص ألف ليلة وليلة وأمثالها، ويبدو أن البعد الواقعي والعلمي شرع يحتل مساحة أكبر في إدراكي، ويبدو أيضًا أن البعد الخرافي راح يتراجع بعض الشيء، لكنه كان يضايقني بقوة في بعض المواقف، ويبدو أن صراعًا خفيًا وضاريًا كان يدور بين هذين النمطين من الإدراك في كياني، وظهر الصراع إلى السطح ذات ليلة بكيفية عجيبة لم أفكر فيها، ولم أخطط لها.

5- المغامرة!

كنت حينذاك في الصف الثاني الثانوي فيما أذكر، وكان الوقت شتاء، وكان الأهل قد استأجروا لنا سكنًا في عفرين.. وذات مساء كان المطر ينهمر والريح تعصف، ولست أذكر الآن بدقة تفاصيل الأحاسيس والمشاعر التي كنت أعيشها ذلك المساء، لكني أرجّح أنها كانت تتعلّق بمشكلة الصراع الدائر في ذاتي حول الخوف من الجن ومن ظلمة الليل. فوجدت نفسي أرتدي ثيابي، وأحتذي (الجَزْمة)، وأتدثّر بمعطف شبه جلدي ينتهي من الأعلى بغطاء (قلنسوة) للرأس، ثم وجدت نفسي أنحدر نحو السوق، وأركب الطريق باتجاه قريتي (قرزيحل).

لم يكن ثمة أي مبرّر منطقي وواقعي للذهاب إلى القرية في تلك الليلة الماطرة الظلماء، والقيام بتلك المغامرة الطائشة، فالأهل كانوا يزوّدوننا بحاجتنا من الثياب والطعام والنفقات بما يكفينا لمدة أسبوع.. ولا أذكر الآن بدقة الخواطر والأفكار التي سيطرت عليّ حينذاك، لكن كل ما أذكره هو أني كنت أقوم برحلة للانتصار على نوعين من الرهبة: الرهبة من ظلمة الليل، والرهبة من الجن.

كان وقت انطلاقي قبيل صلاة العشاء.. ولا يخفى أن الظلمة تحلّ بسرعة في ليالي الشتاء الماطرة بسبب كثافة السحب.. كنت قد تسلّحت بخنجر فقط.. وكانت رغبتي الجامحة تلك الليلة هي رؤية أحد الجن.. كنت أحدّث نفسي: إذا كان ثمة جني فلا بد أن ألتقيه هذه الليلة، فالزمن شتاء، والوقت ليل، والظلام كثيف، والطريق موحشة.. وأتذكر إلى الآن الأصوات الأربعة الوحيدة التي كنت تزاملني في تلك الليلة: انهمار المطر، والريح العاصفة، قصف الرعود، خبطات قدميّ على الطريق.

كانت الطريق من (طرنده) إلى (قرزيحل) ترابية تربتها غضارية تلتصق أوحالها بالحذاء فتصبح عبئًا على السائر، هذا إضافة إلى ضياع معالم الطريق في ظلمة الليل، فقررت السير مع الطريق العام المرصوف المتوجّه إلى قرية (عين دارا) ثم إلى قرية (باسوطا) فإلى (قلعة سَمْعان)، والمار عبر السهل، ويبدو أن ما صرفني عن السير في الطريق الترابية ليس هو تجنّب الأوحال فقط، وإنما مخافة الوحوش الكاسرة في تلك الليلة الشتوية أيضًا، فتلك الطريق تمر بالقرب من سلسلة جبل ليلون. وكنا في الخريف والشتاء وأوائل الربيع نلمح على سفوحه بعض الذئاب، لكن كانت الضباع هي التي تخيفنا أكثر، وكان ذلك أيضًا نتيجة القصص المرعبة التي كان الكبار يجودون بها علينا بين الحين والحين.

سرت في الطريق العام.. تجاوزت (طُرِنْدَه).. تقدّمت باتجاه (عين دارا).. المطر يخِفّ تارة ويتساقط بغزارة تارة أخرى.. كنت ألتفت حولي بحرص وتوجّس، وأدقق النظر فلا أرى أية كائنات غريبة.. كانت موجات من الخوف تنتابني موجة تلو الموجة.. كم مرة حدّثتني نفسي بالعودة والتخلي عن المشروع (البطولي).. لكني كنت أتخلّص من الخوف عبر حوار مع الذات من منطلقين: الأول الشكوك التي بدأت تخامرني إزاء تصورنا البدائي عن الجن. والثاني هو اتخاذ القرار بالانتصار على هذا الخوف، وكنت أشعر بالعار أمام نفسي إذا تراجعت. وهكذا لم أر بدًا من الاستمرار في خوض المعركة. وعلى بعد ثلاثة كيلو مترات من عفرين تقريبًا كان عليّ الاتجاه شرقًا عبر الممر الواقع بين جبلي (ملا موسى) و(زيارة).. فالطرق الجبلية أوحالها قليلة جدًا، والسير فيها أسهل شتاءً.

كنت وأنا أتقدّم أنتظر في كل ثانية أن أرى جنيًا ما.. لكن لم يكن ثمة شيء سوى الظلمة والمطر والريح ولمعان البروق بين حين وآخر.. وتبدّد الخوف من الجن رويدًا رويدًا، لم أشعر أن ضربات قلبي تدق بعنف،  كما لم أشعر أن شعر رأسي ينتصب، وأن القشعريرة تدبّ في أوصالي.. بدلاً من ذلك رحت ألوم نفسي على هذه المغامرة الطائشة، قائلاً:

ترى ماذا سيحلّ بك لو هاجمك سرب من الذئاب في هذه الليلة الظلماء؟!

وماذا يكون مصيرك لو صادفتك بعض الضباع؟!

ماذا ينفع خنجرك هذا؟!

كيف يمكنك التصدي لهجماتها؟!

ومن الذي سينقذك من مخالبها وأنيابها؟!

حقًا.. تبدّد الخوف من الظلمة والكائنات الغامضة، وحلّ محلّه الخوف من الوحوش المفترسة.. لكن لم يكن أمامي خيار سوى الاستمرار.. أطللت على القرية.. الظلمة تلفّها من كل جانب، ومع ذلك تنفست الصعداء، وشعرت بالسكينة تسري في نفسي.. وصلت القرية.. دققت باب البيت.. فتح إخوتي الصغار الباب.. وكم كانت مفاجأة الوالدة والوالد- رحمهما الله- شديدة! سألاني عن سبب قدومي في هذا الليل العاصف.. زعمت أني نسيت بعض الأوراق الخاصة بالدروس.. ورحت أقلّب الأوراق في كوة جدارية كانت خاصة بكتبي ودفاتري.. زعمت أني وجدت الورقة، وألحّا عليّ بالبقاء، لكني زعمت أيضًا أن ثمة واجبات مدرسية تنتظرني ولا بد من العودة.. لم يدم مكوثي في البيت أكثر من نصف ساعة.. ودّعت الأهل.. واندفعت عائدًا إلى عفرين.

6- انتصار على الذات.

في رحلة العودة كنت قد تخلّصت من هاجس الخوف من الجن، كانت المشكلة الجديدة هي الخلاص من قبضة الوحوش المفترسة.. وبدأت أتعامل مع هذا الخوف من منظور واقعي، فالوحوش تنشط عادة مع منتصف الليل (هكذا كنا نعتقد)، وليس من المعقول أن تخرج من أوكارها الجبلية في هذه الليلة العاصفة المطيرة، وما عليّ سوى الإسراع بالعودة.

عدت.. ووصلت إلى عفرين سالمًا.

وعبر هذه المغامرة تعلّمت درسًا أفادني طوال حياتي وهو:

إذا كنت أخاف شيئًا ما فما عليّ سوى مواجهته.

إن ما سأخسره في المواجهة هو الخوف فقط.

ومنذ تلك الليلة تحررت من رهبة (الجن) ومن رهبة (الظلمة).

وبعد سنوات أدركت الحقيقة.

الانتصار الذي أنجزته لم يكن على الجن والظلمة.

كان إحدى محطات  الخروج من مملكة الخوف.

كان انتصارًا على (الذات).

ـــــــــــــ

                     (وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة).

                                             الخميس 20/5/2004                الدكتور أحمد الخليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عفرين..بوابتي إلى العالم

(الحلقة السابعة)

كم كنا مسكونين بالأساطير!

كيف يفهم أحدنا نفسه؟

وكيف يفهم العالم من حوله؟

وما هي مداخل رؤيته إلى (الوجود) جملةً وتفصيلاً؟!

ما هي الخلفيات الأسطورية التي يصدر عنها في تفسير العالم؟

وما هي نسبة الخرافة في إدراكه للموجودات، وفي طرائق تفكيره؟!

تأكّد لي، بعد طول تأمّل في مسيرة التاريخ البشري، أن الإجابة عن هذه التساؤلات تلقي الضوء على الكيفيات التي نصوغ بها حياتنا؛ سواء أكنا أفرادًا أم جماعات، وتجعلنا أكثر فهمًا لتفاصيل سلوكنا ومواقفنا، بل إن آمالنا وأحلامنا ونجاحاتنا وخيبات آمالنا وشعورنا بالسعادة أو بالتعاسة لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بهذه الأمور.

1- هزائم واكتشافات.

وأحيانًا أمسك بنفسي متسائلاً:

-       لماذا تلحّ على السفر في الماضي؟!

-       ولماذا السعي إلى نبش الخفايا؟!

-       ولماذا الانسياق وراء (المضحكات المبكيات) الخاصة بحياتك وحياة جيلك؟

-       أهو هروب من الانطلاق نحو المستقبل؟!

-       أم هو إقرار بالهزيمة الشاملة وانكفاء على الذات باستعراض (الذكريات)؟!

ثم أراني أخاطب نفسي قائلاً:

ـ وهل تجرؤ على الادّعاء بأنك أنجزت الانتصار الشامل؟! وهل يجرؤ على ذلك كل من يمتلك القدرة على مواجهة الذات بواقعية وحيادية؟! لماذا نبحث بكل وسيلة عن الفوز بوسام (البطولة)؟! لماذا لا نتحلّى بفضيلة التواضع، فنتحدّث ولو قليلاً عن هزائمنا؟! ثم من قال: إن الهزائم في الحياة هي سلبيات فقط؟! أليست الهزائم نفسها جزءًا جوهريًَا من الحياة؟! ألم تكن الهزائم في بداياتها مشاريع كبرى للبطولة، لكنها مشاريع أخفقت لأسباب خارجة عن إراداتنا؟! ألا تعني الهزائم أنه كانت ثمة إرادة وعزيمة وجهد ومحاولة وكفاح؟! أليس توافر الإرادة في حدّ ذاته من أهم الإيجابيات ومن أسمى الفضائل؟!

إن من أولى مزايا الهزائم أنها (اكتشافات).. والحياة في جملتها، وبمجموع نجاحاتها وإخفاقاتها، سلسلة اكتشافات.. وأحسب أن ما أرويه هو سرد لبعض تلك الاكتشافات، وأذكر أني أطللْت ذات مرة- في أواخر الثمانينيات- من قمة جبل (ليلون) على السهل الواقع في حوض نهر (عفرين)، كانت هي المرة الأولى التي أقوم فيها بتلك الإطلالة من تلك المنطقة العالية جدًا، وكم كانت دهشتي كبيرة! وأذكر أني حينذاك قلت لنفسي ولمن كان معي: يا ربّاه! طوال هذا العمر كنت أعتقد أننا نعيش على سطح الأرض.. وها أنا ذا أكتشف أننا كنا نعيش في قاع بئر!

وعندما ألقي الآن نظرة على حياتنا الماضية أتذكّر ذلك الموقف بوعي عميق.. أرى أننا كنا نعيش في زاوية محدودة جدًا من هذا العالم، وكنت أنا وكثير من أبناء جيلي نحيا على هامش هذا الوجود، ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا أنا كنا نعرف كل الحقائق. بلى.. ها أنا ذا أكتشف بعد خمسة عقود من الزمان كم كانت حياتنا دائرة في فلك الوعي الأسطوري! وكم كنا نتعامل مع الخرافة على أنها جزء من صميم الواقع!

2- جيراننا الجن.

وقد اخترت أن أجعل كيفية فهمنا للعلاقة بالجن محور هذا (الاكتشاف).. وقد تستغربون- أيها الأعزاء- اختياري هذا.. لا، بل قد تستنكرون ذلك.. لكن لا أحسب أنكم توافقون على تزوير الواقع، قد يبدو تزوير الحقائق فنًا جميلاً وممتعًا بعض الوقت، لكن يبقى الصدق أجمل وأكثر متعة في كل الأحوال.

وأقول بصدق: كان (الجن) جزءًا من واقعنا الحياتي، بل كان جزءًا خطيرًا، إن الجن كانوا جيراننا، وكان أجدادنا وجدّاتنا وآباؤنا وأمّهاتنا مسكونين بالخوف من الجن بشكل هائل. ويبدو أن والدي- رحمه الله- ما  كان يعاني من هذه المشكلة، ولا أذكر أنه روى لنا ذات يوم أو لمن كان يحضر مجلسه أية قصة من تلك القصص التي كنت أسمعها من غيره حول أعاجيب الجن والعفاريت. وأذكر أنه كان يسافر بعض الأحايين في الليالي المظلمة وعبر أماكن موحشة، لكنه لم يأت على ذكر ما يتعلّق بتلك الأعاجيب لا من قريب ولا من بعيد، عدا الأخبار التي جاءت عن الجن في القرآن الكريم، وما يتوافق مع الموروث الديني الموثوق.

أمّا والدتي- رحمها الله- فكانت، كغيرها من نساء قريتنا، تروي لنا بعض الأحداث الدائرة حول الجن، حسبما سمعتْها هي ممن تقدّموها.. وما أودّ قوله هو أننا فتحنا أعيننا على الحياة ونحن نعتقد اعتقادًا لا يتطرّق إليه الشك بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم.. هناك الملائكة، وهي كائنات تحمل الخير حيثما حلّت، وتحفظنا من كل سوء.. وهناك الجن، وهي كائنات غامضة ومخيفة قادرة على إلحاق الأذى بالبشر، لا يمنعها من ذلك جدار ولا سقف.. شيئان فقط كانا يمتلكان القدرة على التحصين ضدها، هما: الآيات القرآنية ولا سيما المعوذتين. والحُجب (التمائم) والرُّقى التي كان يكتبها العارفون بهذا الباب من العلم.

ولم يكن في خيالنا تصوّر معيّن حول الجن.. كنا نشكّل تصوّراتنا من القصص والروايات التي كان الكبار رجالاً ونساءً يجودون بها علينا.. والمهم أننا كنا نعرف أن الجن موجودون، وكنا نتصوّر الجنّي مرة على شكل عملاق هائل الخلقة، مرعب المنظر، له أنياب طويلة حادة كالمعاول، وأظافر كالمذاري. وأحيانًا كنا نتصوّر أن له ذيلاً غريب الشكل، وآذانًا طويلة كالحمير، وقرونًا متشعّبة. وأحيانًا تصوّرنا الجنّي على أنه مخلوق بشع المظهر، ينفخ نارًا ودخانًا من شدة الغضب. وكنا نعلم علم اليقين أنه يخترق الجدران، وينبثق فجأة من الأرض؛ وإضافة إلى هذا كله فقد ارتبطت صورة الجني في خيالنا بالليل، والأماكن المظلمة، والكهوف، والخرائب، والبقاع الموحشة.

3- مملكة الخوف.

وبالنسبة لي منذ بدأت أحظى بنعمة إدراك موجودات هذا العالم من حولي ابتُليت بمشكلة الخوف من الجن.. وحينما أعود بالذاكرة إلى أيام صباي- إذ لا أذكر من عهد الطفولة شيئًا- لا يمكنني أن أتجاهل ذلك الخوف الغامض والقابع بصمت وعناد في قرارة ذاتي. وأعتقد أن ثمة ثلاثة عوامل تضافرت فأوصلتنا- نحن أبناء تلك الأجيال- إلى هذه النتيجة:

أما العامل الأول فهو دور الأمهات، إنهن كن مسكونات بالخوف من الجن والعفاريت، لقد انتقل ذلك التراث المرعب إليهن من الجدّات، فنقلنه إلينا بأمانة ما بعدها أمانة، وبدقة ما بعدها دقة، وكان ذلك التراث سلاحًا خطيرًا في أيديهن، يستعملنه بإسراف ضدّنا لردعنا والحيلولة بيننا وبين ما كنا نصبو إليه. فإذا أحببنا الخروج للعب ليلاً قلن لنا: سيأتيكم الجن! وإذا تمرّدنا عليهن في أمر ما قلن لنا: سندعو الجن ليهاجموكم! وهكذا دواليك.

بل أذكر أن الوالدة وغيرها من الأمهات عندما كن يرغبن في إدخال الرعب إلى قلوبنا ليلاً، ويمنعننا من تجاوز باب البيت، كن يقلن لنا: هناك (گارِيگان) واقف خلف الباب من الخارج، وبمجرد خروجكم سيفترسكم. وهذا (الگارِيگان) كان- حسبما يصفنه- حيوانًا خرافيًا، نصفه حيواني، ونصفه الآخر جنّي، له فم كبير جدًا، وأنياب طويلة وحادة، وذنب طويل وبراثن مرعبة، وزمجرة يقشعرّ لها البدن.

وأما العامل الثاني فهو دور الخيال، فقد تبيّن لي بعد أن تجاوزت مرحلة التفسير الأسطوري للعالم، أنه بقدر ما يكون الخيال ناميًا عند الصبي يكون خائفًا من الكائنات الغامضة، فالخيال يمدّه بالقدرة على خلق التصوّرات وتوليدها. وأحسب أن الخيال بالنسبة للإنسان نعمة، فلولاه لما كانت الحضارة أصلاً، وهو في الوقت نفسه نقمة، إذ يُسهم إلى درجة كبيرة في تكوين الخوف وتضخيمه. ويبدو لي أن الحيوانات محظوظة من هذه الناحية، فهي تفتقر إلى الخيال، وصحيح أنها عجزت عن تحقيق النصر الشامل على البيئة وإنجاز الحضارة، لكنها ظلّت بعيدة عن الخوف المؤسس على الخيال.

وأما العامل الثالث فهو دور المناخ الأسطوري المحيط بالصبي، وإتخام ذاكرته بكثير من الروايات الأسطورية الموثّقة على الدوام، كأن يُحدَّد المكان، ويُذكَر اسم الشخص الذي جرى معه الحدث، بما لا يدع عنده مجالاً للشك في صحّة المرويات.

4- لوحات أسطورية.

وأذكر  فيما يأتي بعض معطيات ذاك المناخ الأسطوري:

كان لبيت العم (مصطو)- رحمه الله-  كلب أسود، كان يغيب كل مساء مع العشاء تقريبًا، ولا يرجع إلاّ في صباح اليوم التالي. فارتاب العم (مصطو) في أمر كلبه، ترى لماذا لا يقوم بمهمة حراسة الدار ليلاً؟! وأين يذهب كل مساء؟! وذات مساء قدّم العم (مصطو) للكلب رغيف الخبز الذي كان يقدّمه له كل مساء، ثم شرع في مراقبته، فإذا بالكلب يخرج من فناء البيت بعد حلول الظلام، ويتوجّه إلى خارج القرية، ويرتقي سفح جبل (ملا موسى) المنتصب أمام القرية، ويقصد كهفًا هناك، فيدخل فيه.

واقترب العم (مصطو) من الكهف فإذا به يسمع دقّات طبل وأنغام زمر وأصوات غناء، فاقترب العم (مصطو) أكثر، واختلس النظر إلى داخل الكهف، ويا لدهشة ما رأى!! ثمة في الداخل مجموعة من الجن يغنون ويرقصون، وإذا بكلبه يخلع شكله الكلبي، وإذا بالقوم يحيّونه قائلين: أهلاً وسهلاً پارناس آغا! لماذا تأخرت علينا اليوم؟! فاعتذر الكلب عن التأخّر، وانخرط مع صحبه في حفلة الطرب.

وعاد العم (مصطو) أدراجه والرعب يتملّكه، وفي الصباح ترقّب عودة الكلب، وإذا به يدلف إلى فناء الدار، فحيّاه العم مصطو قائلاً: أهلاً وسهلاً پارناس آغا! لماذا تأخّرت علينا؟! واختفى الكلب منذ ذلك اليوم، ولم يعد.. وكيف يعود وقد انكشفت حقيقته؟!

كان العم (بَكُو)- رحمه الله- عائدًا ذات يوم من الجبل.. الوقت ليل، والظلام قد خيّم على كل شيء حوله، وفي وادي (ليلون) الواقع جنوب شرقي القرية وجد جَدْيًا تائهًا، فلم يشك أنه تخلّف عن أحد القطعان، ولئلاّ يصبح فريسة للذئاب، قرر العم (بَكو) اصطحابه إلى القرية، لا بد أنه لأحد أهل القرية. وعمد إلى الجدي فتأبّطه، وسار به صاعدًا من الوادي، وإذا به يحسّ أن الجدي بدأ يثقل، فنظر إليه، فإذا به قد طال وكبر، فأدرك أنه جنّي ظهر له في شكل جدي ليخدعه، فدبّ الرعب في نفسه، ورمى الجدي، وهرع إلى القرية مذعورًا، وأصبح طريح الفراش بضعة أيام، ثم انتقل إلى العالم الآخر.

رغم قرب منزلنا من الكهف الذي تتدفق منه مياه النبع في القرية، فقد كنا نتحاشى السير بالقرب منه ليلاً، بل كنا إذا مررنا به نهارًا كنا نشعر بالخوف، ونلقي عليه نظرة فيها كثير من التوجّس. وكيف لا نفعل ذلك وقد سمعنا الرجال والنساء في قريتنا يتحدّثون عن جنّي على شكل عبد أسود بشع المنظر يخرج منه ليلاً، فيخيف كل من يعبر من هناك؟!

كان ثمة كهف يقع في الجبل جنوبي القرية يسمّى (كهف الجن)، كانت هذه التسمية متوارثة جيلاً عن جيل، ولا ريب أن أحدهم توهّم أنه رأى فيه بعض الجن، فشاعت هذه التسمية بين القوم. وإذ أكتب هذه الكلمات أعود بالذاكرة إلى الأعوام الخالية، فلا أذكر أننا معشر الصبية اقتربنا ذات مرة من ذلك الكهف، بل لا أذكر أننا كنا نتّجه إلى المناطق القريبة منه، رغم كثرة ارتيادنا للجبل؛ سواء لمصاحبة الأمهات في جمع (البَلاّن) والزعتر البرّي وبعض الأعشاب العطرية، أو حينما كنا نصاحب الكبار في رحلات الصيد.

5- الإنس والجن.

وحينما أدقق التفكير في مسارات حياتنا تلك الأيام يتأكد لي أن ثمة أمرًا كان يتغلغل رغمًا عنا في تفاصيل مواقفنا وسلوكياتنا وأفكارنا وقيمنا؛ ألا وهو الرهبة من الكائنات الغامضة، وهذا دليل واضح على توافر نسبة كبيرة من البدائية في وعينا حينذاك، كما أنه برهان على تخلّف قدراتنا المعرفية، ولأقل باختصار: كنا ما نزال أسرى النزعة الأسطورية في تحليل الأحداث، وكانت الخرافة مهيمنة على طرائق تفسيرنا لبعض الوقائع الغامضة.

وبطبيعة الحال لا أنكر وجود (الجن)، فهذا الكون مليء بالكائنات، وقد عرفنا القليل منها، ومازلنا نجهل الكثير. وكلمة (الجن) في اللغة العربية نقيض (الإنس)، سمّوا بذلك لاستتارهم عن الناس، والإنسي من الأشياء يعني كل ما هو مرئي ومعروف، والجني من الأشياء يعني كل ما هو مجهول أو غامض. وإن فهمي للجن اليوم يختلف اختلافًا كبيرًا عن الفهم الذي كان شائعًا في مجتمعنا حينذاك، إنه اتّسع ليشمل كل كائن غير مرئي أو غامض، فالحشرات غير المرئية يمكن أن تُعدّ من (الجن)، وكذلك الأشعة السينية والأشعة تحت الحمراء وأشعة الليزر.

6- توظيف الخرافة.

والحق أن النسبة النامية للنزعة الأسطورية وللخرافة في تفكير الناس قديمًا هي التي جعلتهم يضخّمون بعض الأحداث، وينسبونها إلى الجن، بل إن كثيرين استغلّوا الخوف من الجن بوعي لتحقيق أغراض مادية ومعنوية.

فالذين يبحثون عن المال والجاه والشهرة، من بعض المرتزقة باسم الدين ومعدومي الضمير، ما الذي يمنعهم من تسليط الخوف من الجن على رقاب البسطاء من الناس؟! فالبسطاء يهرعون إليهم ويستنجدون بهم ليعصموهم من ذلك العدو الغامض، فيجودون عليهم حينئذ ببعض التمائم والأكاذيب، ويسلبونهم أموالهم.

واسمحوا لي أن أذكر لكم في هذا المجال روايتين:

 إحداهما قديمة.. والأخرى حديثة.

أما الأولى فقرأتها في بعض مصادر التاريخ الإسلامي، ولا يحضرني اسم الكتاب الآن، ومفادها أنه في عهد الدولة العباسية انتشر الخبر أن ثمة جنيًا غريب الأطوار يظهر ليلاً في منطقة موحشة من بعض الطرق الموصلة إلى (بغداد)، ويثير الذعر في قلوب المسافرين. فتحاشى الناس المرور بتلك المنطقة ليلاً.

وذات ليلة مرّ أحد المسافرين الشجعان بتلك المنطقة، فظهر له ذلك الكائن الغريب، كان له شكل غير عادي، وكان يصدر أصواتًا غريبة، ويقوم بحركات مريبة، لكن الرجل تماسك، واستلّ سيفه، وانقضّ على ذلك الكائن الغامض، وسرعان ما تراجع الكائن هاربًا، وطارده الرجل، وأمسك به، وسرعان ما انكشفت الحقيقة.

إن ذلك الجني لم يكن سوى امرأة، ورجت الرجل ألا يقتلها، وذكرت أنها جارية لبني فلان، كانوا يظلمونها، ففرّت إلى تلك البراري، ولجأت إلى ذلك الكهف القريب من ذلك المكان، وراحت تتظاهر ليلاً بأنها جنية، وتقطع الطريق على المسافرين، فيولّون فرارًا، فتأخذ بعض ما يتركونه وراءهم من متاع وأموال، وكانت تجمع تلك الأشياء في الكهف.

وأما حديثًا فقرأت في كتاب موسوعة حلب للمرحوم (خير الدين الأسدي) أنه كان في حلب- خلال بدايات القرن العشرين- أحد القصور القديمة.. كان قصرًا فخمًا ومع ذلك تحاشى الناس السكن فيه شراء أو استئجارًا؛ إذ شاع الخبر أنه مسكون بالجن.

وذات مرة تزوّج أحد شطّار حلب المعروفين بالرجولة يدعى (عُزّو) فيما أذكر، وقرر أن يتخذ بعض غرف ذلك القصر مسكنًا له ولعروسه، فحذّره الناس من الجن، لكنه لم يلتفت إلى أقوالهم، فهو يعمل عتّالاً ولا يملك دارًا، وليس عنده من المال ما يستأجر به دارًا مناسبة.

وفي بعض الليالي خرج (عُزّو) لبعض أموره، وبقيت زوجته وحدها في الدار، وبعد حلول الظلام- ولم تكن حلب منارة بالكهرباء حينذاك- إذا بها ترى من زجاج النافذة شبحين يظهران في فناء القصر، ويقومان بحركات غريبة، ويصدران أصواتًا غامضة، فدبّ الذعر في قلب المرأة، وكادت تموت رعبًا، ولم يبق عندها شك أن هذين الشبحين من الجن، ولما رجع (عُزّو)، ذكرت له الخبر، ورفضت البقاء في ذلك القصر، لكن (عُزّو) طمأنها، وأكّد لها أنه سيجد مخرجًا لهذه المشكلة.

وفي الليالي التاليات لزم (عُزّو) الدار.. وفي منتصف الليل إذ بالشبحين يظهران ثانية، ويقومان بما قاما به سابقًا، ويقتربان من النافذة والباب، وسرعان ما انقضّ عليهما (عُزّو) من خلف الباب، وأمسك بأحدهما، وإذا به يستغيث قائلاً:( دخيلك يا عُزّو! لا تقتلني.. أنا فلان!)، وإذا هو أحد الشطّار أيضًا. وسأله (عُزّو) عن السر فيما يقوم به هو وصاحبه. فذكر أن أحد الأغنياء في الحارة يريد شراء القصر بثمن زهيد، فأشاع الخبر أن القصر مسكون بالجن، وقد استأجرهما ليظهرا ليلاً لكل من يشتري القصر أو يسكنه على أنهما من الجن، فصدق الناس الإشاعة، ولم يجرؤ أحد على شراء القصر أو استئجاره.

7- السرّ!!

وحينما أتفحّص الآن الروايات التي كانت شائعة حول الجن في بيئتنا الريفية، وأدقّق التفكير في تفاصيلها، أجد نفسي منشغلاً بتفسيرها من منظور واقعي صرف، كما ألمح في طياتها الأغراض الساذجة والخادعة التي غيّبت الجوانب الواقعية، وأضفت على الأحداث رداء الخرافة والأسطورة.

فالجني الذي أشيع أنه مختفٍ في كهف النبع، والذي كان يظهر لبعض الناس على شكل عبد أسود حسب الروايات، كان وراء اختراعه والترويج له أمران:

الأمر الأول هو تخويف الناس من الكهف لئلا يرتادوه، ويفسدوا مياه النبع من مصدره الأساسي، وكي يقتصروا على أخذ حاجتهم وسقاية حيواناتهم من المنافذ الخاصة بذلك؛ وقد مرت الإشارة إلى تلك المنافذ في حلقة سابقة. ولولا قيام (العبد الأسود/الجني) بتلك الحراسة الفريدة من نوعها لكان من الصعب جدًا إقناع بعض أهل القرية بلزوم ما يلزم.

والأمر الثاني أنه كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شيخ للكُتّاب تركي الأصل، يعلّم صبيان القرية بالتركية، ويقرئهم القرآن الكريم.. كان الشيخ غير متزوّج، وكان قد اعتاد بعض الليالي أن يغتسل قبيل الفجر بالمياه المتدفّقة من باب الكهف، ورغم أن المياه كانت تجري لكن أهل القرية لم يستسيغوا تصرّف الشيخ، بل امتعضوا لذلك أيّ امتعاض، فكمن له ذات ليلة أحد المشاغبين، وقد عرّى النصف العلوي من جسمه، ودهنه باللون الأسود، ولفّ على رأسه جلد شاة، ولما اقترب الشيخ من باب الكهف ظهر له ذلك الرجل بهيئة غريبة، وهو يصدر أصواتًا غريبة، فما كان من الشيخ إلا أن تراجع هاربًا، وفي النهار أكّد للجميع أنه نجا من (العبد الأسود/ الجني) بصعوبة بالغة.

وأما فيما يتعلّق بالجني (پارناس آغا) الذي تجسّد في كلب العم (مصطو) فالحقيقة أن بعض الحيوانات السود- سواء أكانت كلابًا أم قططًا أم أفاعي- كانت متّهمة عند جميع أهل القرية بأنها في حقيقتها جنّ، وكان العم (مصطو) مشهورًا بحبه للدعابة والفكاهة، وببراعته في اختراع القصص العجيبة الغريبة، وقد رأى الفرصة سانحة لاستثمار الرأي العام حول الكلاب السود، فاخترع تلك الرواية حول كلبه الأسود (الجني).

وأما ما يتعلّق بالجدي (الجني) الذي التقاه العم (بكو)، فلا أشك مطلقًا أن الجدي المسكين كان ضالاً حقًا، وكان بأمسّ الحاجة إلى أن يحضره العم بكو معه إلى الحظيرة، وينقذه من براثن الذئاب التي كانت تنشط ليلاً. لكن الروايات المتراكمة في ذاكرة العم بكو حول الجن وتقمّصها أشكال الحيوانات في الأماكن الموحشة والليالي المظلمة، هي التي صوّرت له أن الجدي طال، وغدا أثقل مما كان.

8- الجذر الخرافي.

إن التفسيرات الواقعية التي أسوقها حول الروايات الأسطورية كانت بعيدة جدًا عن أذهاننا في الخمسينات، ولو نطق بها أحدهم حينذاك لاتّهمه الكثيرون بالغباء أو المروق من الدين، وكيف لا يتّخذون منه هذا الموقف وقد جاءت سورة بكاملها حول (الجن) في القرآن الكريم؟!

أجل، كان للجذر الخرافي حضور طاغٍ في آليات تفكيرنا.. كانت الأسطورة أحد مداخلنا إلى فهم العالم من حولنا، وكان غياب الخرافات والأساطير من حياة أبناء الريف حينذاك يعني دمار رؤيتهم الوجودية، وتركهم معلّقين في الفراغ.

وفيما يتعلّق بي كنت بحاجة إلى مزيد من الوقت، وإلى كثير من الصراع مع المناخ الثقافي السائد من ناحية، والصراع مع الذات من ناحية أخرى، للخروج من دائرة الفكر الأسطوري، وامتلاك رؤية ممتنعة على الخوف من الكائنات الخرافية، والتعامل مع مكوّنات هذا العالم بقدر أكبر من الثقة والأمان والواقعية.

             (وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة) 

            الخميس 4/3/2004                 الدكتور أحمد الخليل

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

عفرين..بوّابتي إلى العالم

(الحلقة السادسة)

ليلة أنقذْنا صديقَنا القمر!

1 – مفارقات!

كان الفصل صيفًا، والوقت ليلاً.

لكن كان لليالي الصيف- ولا سيما المقمرة منها- في قرانا معنى يختلف كثيرًا عما هو عليه الآن.. صحيح أن الناس في القرى ما زالوا يعقدون في ليالي الصيف جلسات السَّمر على المصاطب أمام المنازل، لكنه سَمرٌ يتمّ على ضوء المصابيح الكهربائية، وينقضي على الغالب مع التلفاز، وأنتم أدرى بالتلفاز ونوعية السمر معه!

حروب تندلع هنا وهناك.

ملاكمان ضخما الجثّة يخوضان صراعًا طاحنًا.

طائرات تسقط بركابها في البحر أو على قمة جبل.

قطاران في بلاد الهند مكتظّان بالركّاب يتصادمان.

مسلسلات فيها ما هبَّ ودبّ ممّا يسرّ ولا يسرّ.

أغنيات كثيرة، قليلاً ما تُطرب، وكثيرًا ما تُزعج.

لاعبة سيرك أحبّت أن تؤكد للجمهور الودّ القائم بينها وبين النمر، فأدخلت رأسها الصغير الجميل في فمه الفاغر، فما كان منه إلاّ أن أنشب أنيابه في رقبتها الرقيقة، وأودى بها إلى عالم الأموات.. كان في شعرها شكّالة وخزت حلقه فآلمته!

رجل قرّر تخليد اسمه في (موسوعة جينز) للأرقام القياسية، فربّى شاربين طول كل واحد منها يزيد عن المتر، وأمضى الأعوام وهو يعتني بهما تزييتًا وتدليكًا وفتلاً.

2 –  رحيل البراءة !

بكل تأكيد ثمة في التلفاز أمور جيدة ومفيدة أيضًا.

لكن أين هذا كلّه من روعة ليالينا الصيفية المقمرة الخالية من المذياع والتلفاز؟!

إنني لا أنكر أن سكّان قرانا اليوم أكثر وعيًا وعقلانية، لكن المشكلة أنهم أصبحوا أكثر حزنًا.. إنهم كثيرًا ما يخطئون الطريق إلى الفرح البريء، والفكاهة العذبة، والضحكة النقيّة.

كانت ملامح أبناء الريف في الماضي أكثر وداعة.. ووجوههم أكثر بشاشة.

كانت أصواتهم أكثر دفئًا.. وأحاديثهم أوفر صدقًا.. وضحكاتهم أكثر براءة.

 ترى لماذا حدث هذا الانقلاب الذي يبعث على التشاؤم؟!

يبدو لي أنهم خسروا كثيرًا من علاقتهم الحميمة مع الطبيعة.

أصبحت رؤيتهم إلى شركائهم في البيئة أكثر ماديّة وأقلّ جمالية.

كان الفلاح كثيرًا ما يداعب بودادة جبهة حصانه أو بغلته أو ثوره أو حماره.

وإذا غضب أحدهم لأمر ما على حصانه أو بغله أو حماره، وانهال عليه ضربًا، كان الآخرون من أبناء القرية ونسائها يهرعون إلى تقريعه وزجره، وإنقاذ الحيوان من سطوته.

كان العم (كالى أحمد) يخاطب ثورَيه وهو يحرث أرضه قائلاً: " ها.. قُرْبانْ! ها.. حَيْرانْ!"، كان يعي بعمق مقدار الجهد الذي يبذله الثوران، فكان يشجّعهما ويواسيهما، ويفديهما بنفسه، ويقدّم لهما أفضل العلف، إنهما كانا صديقيه وشريكيه في درب الحياة الزاخرة بالتعب.

وكانت الخالة (بَسى) تعيش كل صباح حالة وَجْد مع بقرتها الشقراء قبل أن تحلبها، كانت تنتقي لها أزهى باقات العشب، ثم تحكّ لها جلدها برفق، وتمسح وجهها بحنان، فتُصدر البقرة حركات لطيفة برقبتها صعودًا وهبوطًا، وتذبذب ذيلها ذات اليمين وذات الشمال في هناء، وتُصدر أصواتًا خافتة تعبّر عن طمأنينتها وسعادتها.

كنا نحن والخراف والتيوس والعجول والمهور أصدقاء وشركاء.. نداعبها وتداعبنا.. نلاعبها وتلاعبنا.. نطاردها وتطاردنا، كانت تعدو خلفنا وهي تُخفض رؤوسها، وتُوحي بأنها ستنطحنا بقرونها، فنستلقي على الأرض تعبيرًا عن الاستسلام ورفع الراية البيضاء، فتتراجع في رقّة، أو تنطحنا نطحات خفيفة، توحي من خلالها إلينا أنْ تعالوا نلعب ثانية!.. كنا نعقد صداقات حميمة حتى مع الكلاب والقطط أيضًا، فتتبعنا بحب حيثما انتقلنا، وتداعبنا وتلاعبنا ببراءة.  

كانت أشجار الزيزفون والزنزلخت وشجيرات الورد الجوري وأزهار النرگز (النرجس) الصفراء والبيضاء وأزهار (الگُورَّشْ) البنفسجية تنتشر في أفنية البيوت، وعلى جنبات الحقول، فكان النسيم العطر اللطيف يداعبنا- ولا سيما ليلاً- من كل حَدَب وصوب.

والآن .. ها هي ذي الرؤية المادية النفعية قد تسلّلت إلى عقول أبناء ريفنا وإلى نفوسهم، وزحزحت الرؤية الجمالية بعيدًا.. وبات الاهتمام منصبًّا على زراعة أفنية الدور بدوالي العنب وأشجار الدرّاق والإجّاص، فهي تدرّ مالاً أكثر. وحلّت السيارات والجرّارات محلّ الخيول والبغال والأبقار والحمير في إنجاز الأعمال.. ولا شكّ أن في هذا التحوّل خيرًا كثيرًا وراحة كبيرة، وتوفيرًا للجهد والشقاء، لكني أشعر – من ناحية أخرى- أنها قلّصت تواصلنا مع شركائنا في هذا العالم، وحدّت من تفاعلنا معهم، وبتنا غرباء عنهم وعن أنفسنا إلى حدّ كبير.

3 – بيادر.. وبيادر!

حسنًا.. لنعد إلى ما بدأنا به.

قلت: كان الفصل صيفًا، وكان الوقت ليلاً.

بيادر القمح والشعير والعدس انتصبت بمختلف أحجامها على جانبي القرية، شمالاً وجنوبًا، وراحت النوارج تدور حولها من الصباح إلى المساء، تجرّها الأحصنة أو البغال أو الحمير ببطء، فتُصدر دواليبها المسنّنة أنغامًا موسيقية متباينة ومتداخلة ورتيبة، وكان لكل نورج أنغامه وإيقاعه ونوطته الموسيقية المتميّزة.

وفي الليل كانت البيادر ملاعبنا وفرشنا معًا، كنا نتطارد حولها ونتقافز فوقها، ونتدحرج من أعلاها إلى أسفلها، ونختبئ في طيّات سنابلها، غير عابئين بالأشواك التي كانت تتسلّل مع السنابل إلى البيدر، وتلسعنا بوخزاتها على حين فجأة في أيدينا وأرجلنا وظهورنا وبطوننا.

كنا من أعمار شتّى، فينا الشباب والصبية.. كان الشباب سادتنا وقادتنا وشيوخنا.

منهم من كان يروي قصة فيها من الغرائب والعجائب ما تشاء وما لا تشاء؛ كهوف جبلية مخيفة، عفاريت مرعبون، حيوانات خرافية تطير، شباب فقراء تحبهم بنات الملوك أو الوزراء لأمر ما، فإذا بهم يصبحون بقدرة قادر ملوكًا أو وزراء.. عجائز ماكرات يدبّرن المكائد..إلخ.

ومنهم من كان ينشد مقاطع من أغنيات فولكلورية شهيرة، مثل (دَلال)، و(سيامند)، و(جَبَلي)، و(لى مَيْرُ! لى مَيرَمى!)..أغنيات فيها كثير من العشق وخيبة الأمل والأسى، كان يغنّيها بصوت شجيّ وقلب محروق، وكأنه هو (دلال) وهو (سيامند)، وهو (جبلي).. لكننا -نحن الصغار- كنا أعجز من أن نفهم الخلفيات الواقعية لتجربته العاطفية.

ومنهم من كان ينفخ في مزماره، فلا يجد الجميع أنفسهم إلا وقد عقدوا حلقة الدبكة، وراحوا يتمايلون يَمنة ويَسرة، وإلى الأمام والخلف، وهم يخبطون الأرض بأقدامهم الحافية.

4 – فتيان إسبارطا!

لكن ليالي البيادر ما كانت تقف عند هذه الأنشطة.

في بعض الليالي كان الزعماء الشباب ينظّمون صفوف الصغار باعتبارهم جنودهم المطيعين، ويضعون خططًا للسطو على الفواكه الصيفية، وكانوا يوزّعون عليهم الأدوار، ويتقدّمونهم في ميدان التنفيذ مثل كل القوّاد الشجعان.. فليلة كان الهدف كرم العنب للحاج حسن، وأخرى كرم العنب لشكري نسيب آغا، وثالثة بستان البطيخ للعم (مصطو)، ورابعة شجر المشمش للعم (علي مراد) أمام القرية.

بل إن غزواتهم كانت تتجاوز أحيانًا حدود القرية، فكان الزعماء يقودونهم ليلاً عبر الأراضي الشائكة إلى بستان التفاح القريب من (تل عين دارا)، وكان للغزو الليلي استراتيجياته الخاصّة، منها اختيار الليالي غير القمراء، وتنفيذ المهام بدقّة، والتزوّد بكيس أو أكثر لحمل الغنائم، وتجنّب الحديث إلاّ همسًا، وتجنّب السير في الطرق المعتادة؛ إذ قد يصادفهم أحد أبناء القرية ويكتشف خطتهم، وأن يكون خطّ سير الإياب غير خطّ سير الذهاب.

وكان القادة يخبّئون الغنائم من العنب والبطيخ والتفاح وغير ذلك في أعماق البيادر الكبيرة، وفي كل ليلة كانوا يجتمعون ، فيخرجون شيئًا من هذا وذاك ليأكلوه معًا، وهم يتذاكرون بفرح المصاعب التي واجهتهم، والمفاجآت المضحكة التي داهمتهم.

والعجيب أنه بعد مرور أعوام، وفي المجالس التي كانت تعقد ربيعًا وخريفًا في ظل شجرة التوت الكبيرة بجانب النبع، كثيرًا ما سمعت أولئك الشباب الذين غدوا رجالاً يصارحون أصحاب تلك البساتين بالغزوات التي شنّوها وهم يضحكون، فما كان من أولئك الكهول إلاّ أن ينخرطوا في الضحك بدورهم، ويقولوا: حلال عليكم!. حلال عليكم!. كنا نفعل مثلكم عندما كنا صغارًا. ثم يسترسلون في سرد أمجاد غزواتهم الليلية التي تبيّن أنها كانت أكثر طموحًا وجرأة؛ إذ كانت تصل إلى بساتين الرمّان في سهول (باسوطة) وكروم العنب الجبلية في (كِيمار).

إن حديث أولئك الكهول يذكّرني الآن بموقف الكبار من الصغار في الجمهورية الإغريقية الشهيرة (اسبارطا)، كانوا إذا أمسكوا بهم وهم يختلسون الثمار من الحقول يُنزلون بهم أشدّ العقاب، ليس بسبب أنهم يختلسون، وإنما لأنهم لم يجيدوا فنّ الاختلاس.

5 – صراع مع الحـوت!!

والآن عودة على بدء..

في تلك الليلة القمراء كنا مستغرقين في النوم على قمم البيادر، وقد انغرزت أجسادنا بين أحضان السنابل اليابسة، بعد أن طرح كل واحد منا تحته كيسًا من الخيش أو ما شابهه، واستيقظنا قرابة منتصف الليل فجأة على أصوات البواريد، وصرخات بعض الرجال ولغط بعض النساء.

يا للمصيبة!.. لا ريب أن ثمّة خصومة شرسة اندلعت بين عائلتين من القرية! تُرى من هما العائلتان؟! لكن العادة جرت أن يبدأ المتخاصمون بتبادل الشتائم وإطلاق عبارات التهديد والوعيد عن بُعد، ثم كانت الخصومة تتفاقم، فيتراشق الجمعان بالحجارة، ثم تتصاعد أكثر فتبرز العصي الطويلة الثخينة، ويصل التصاعد إلى القمّة، فيمتشق القوم الفؤوس والمجارف والمذاري.. أما البواريد فكان الجميع يتحاشى استعمالها، لأنها تعني الموت المحقّق، وهذا مالا يريدونه.

ثمّ إن الخصومة كانت تندلع على الغالب في إحدى حارات القرية.. أما تلك الليلة فكان دوي البواريد واللغط يعمّان كل حارات القرية، وها هو ذا والدي يرفع صوته بالأذان باعتباره إمام المسجد، وثمّة ضرب على الصفائح الفارغة (التَنَكْ)، وقرقعة ناجمة عن الضرب على المواعين الكبيرة.. بل هاهو ذا طبّال القرية (جابر) قد انضمّ إلى هذه الجوقة الصاخبة، فشرع يدق الطبل دقات سريعة شبيهة بإيقاع دَقّة (الحربية) التي كانت تُقرع بشكل تقليدي في العرس بعد ظهيرة يوم الخميس، إيذانًا بانتهاء حفلة العرس، والتوجّه إلى بيت أهل (العروس) لنقلها إلى بيت أهل (العريس).. ويبدو أن الحيوانات فوجئت أيضًا بذلك الضجيج والعجيج، فراحت الكلاب تنبح والحمير تنهق.

أجل.. استيقظنا فجأة على ذلك الصخب والدوّي والقرقعة، وفركنا أعيننا نحن الصبية، ورحنا نتطلّع حولنا في ذعر، إذ لا أهدأَ من ليالي الصيف في القرى، حتى الحمير تكون قليلة النهيق، والكلاب تكون قليلة النباح.. فماذا هناك يا ترى؟! وما الذي يجري؟!

وسرعان ما عُرف السبب وبطل العجب.

قال لنا أحد الشباب: إنه الحوت يبتلع القمر! انظروا! هاهو ذا القمر يغيب في فم الحوت رويدًا رويدًا!.. كان وقع هذا الخبر علينا كالصاعقة ومرعبًا.. حدّقنا في السماء.. وإذا بالظلمة تغشى صفحة القمر ببطء.. وبطبيعة الحال ما كنا نعرف عن القمر حينذاك ما نعرفه اليوم، كنا نعرف أنه قمر وحسب.. وأنه كائن سماوي مضيء أصغر من الشمس وألطف منه، وأكبر من النجوم.

دبّت المخاوف في نفوسنا، وساورتنا الوساوس.. ترى إذا ابتلع هذا الحوت الغامض المرعب قمرنا الجميل، فكيف ستكون حالنا؟!.. وإذا كان هذا الحوت قادرًا على الوصول إلى القمر وابتلاعه فما الذي يمنعه من الهبوط إلى الأرض وابتلاع كل من عليها؟! وكنا نعرف أن الحيتان مسكنها البحار.. فكيف وصل هذا الحوت إلى القمر؟! لكن الشباب أكّدوا لنا أن ثمّة بحارًا هائلة في السماء.. وإلا فمن أين ينزل المطر؟! وزاد الشباب الطين بلّة حين تفتّحت قرائحهم، وشرعوا ينذروننا بأن ابتلاع الحوت للقمر يعني نهاية الدنيا وخراب العالم وبدء القيامة.

يا الله! ما لنا ولهذا الحوت الظالم؟!

وأكمل الشباب بقية الرواية: إن الناس يطلقون الرصاص ويحدثون هذا الدوي والقرقعة، ويكبّرون ويهلّلون لإخافة الحوت، وإرغامه على الابتعاد، ومساعدة القمر على الخلاص.

وسرعان ما تحمّسنا جميعًا لهذه المهمّة الكونية، أقصد مساعدة القمر على الإفلات من فم الحوت، وهرعنا إلى الصفائح التي نضع فيها مياه الشرب في البيادر، فأفرغناها ورحنا نطرقها بالحجارة ونحن نصرخ في الحوت ونهدّده.

وبعد قليل من الوقت، زال الهم وانكشف الغم.

تخلّص القمر رويدًا رويدًا من فم الحوت.

راح يستكمل مسيرته الهادئة باتجاه الغرب.

وعاد السكون ليخيّم مرة أخرى.

يا صديقنا القمر.. كنت سميرنا في السهرات الليلية.

فهل من المروءة أن نتخلّى عنك؟!.

أليس الصديق وقت الضيق؟!

                                   (وإلى اللقاء في الحلقة السابعة).

                              14 / 2 / 2004                          الدكتور أحمد الخليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عفرين.. بوّابتي على العالم

(الحلقة الخامسة)

ليلة أقفلنا أفواه ذئاب جبل ليلون!

" أنا أفكّر.. إذًا أنا موجود "!

هذه هي مقولة الفيلسوف الفرنسي الشهير(ديكارت).

إن (التفكير) بالنسبة لديكارت هو المدخل إلى (الوجود).

والموجود هو(أنا) و(أنت) و(الآخر) والعالم من حولنا.

فكيف كنا نفهم (الوجود) في منتصف القرن الماضي؟

وكيف كنا نتعامل مع (الموجود) بشرًا وحيوانات وشجرًا وحجرًا؟

وبعبارة أخرى:

ماذا كانت مداخلنا إلى (الوجود)؟

وكيف كنا نمارس تقنيات (التفكير)؟

1- مشاهد من حياتنا.

اسمحوا لي- أعزّائي- أن أقدّم لكم مشاهد من حياتنا في الخمسينيات من القرن العشرين، وفيما قبلها، وربما في الستينيات أيضًا، وأعتقد أننا سنكون قادرين معًا على الإجابة عن التساؤلات السابقة.. وأعدكم بصدق أنني لن أجري وراء الخيال طمعًا في إضفاء الجاذبية على المشاهد، ولن أختلق الأحداث أو أضخّمها رغبة في إثارة الدهشة، لو فعلت ذلك لخدعتكم، ولا أرضى لكم أن تكونوا من(المخدوعين)، كما لا أرضى لنفسي أن أكون من(المخادعين).

وإليكم بعض المشاهد والمواقف:

كان الفصل شتاء، والوقت بعيد المغرب..

كان الوالد قد عاد من الصلاة في المسجد، وكنت قد انتهيت توًّا من إعداد الموقد الحميم.. وأحسب أنكم تتخيّلون الآن مدفأة عصرية معدنية، تنتصب فوقها طاسة كروية ملوّنة، تتساقط من أسفلها قطرات من الوقود (المازوت)، فتظهر ألسنة النيران الحمراء والوردية عبر باب زجاجي صغير، ويتصاعد الدخان فيمر عبر أنابيب أسطوانية، لينتشر في الجوّ خارج المنزل.

بلى.. أحسب أنكم تتخيّلون الآن مدفأة من هذا النوع.

لكن لا يا سادتي.. كان موقدنا بدائيًا مثلنا.. وبسيطًا مثل حياتنا.

كنا نأتي بالصاج (سيْلْ) الخاص بصناعة الخبز، فنضعه خارج المنزل على ظهره، ونضع على الوجه المقعّر صفيحة (تنكة) قديمة مفتوحة من الأعلى والأسفل، ثم نضع في القعر قطعًا من شوك (البَلاّن)، ثم نصفّ فوقها فروعًا يابسة من الزيتون أو التوت أو(الگز) أو(اللُّول)، ثم نضع فوقها قطعتين أو ثلاثًا من حطب الزيتون اليابس، ونشعل النار في البلاّن، فينتقل اللهب إلى الفروع الصغيرة، فالحطب اليابس، وتندلع النيران عالية، حتّى إذا خفّ اللهب، وخفّ الدخان المتصاعد أدخلنا موقدنا الظريف إلى داخل الدار، ووضعناه على فوّهة إناء واسع ممتلئ إلى منتصفه بالماء، لغرضين: الأول تجنّب احتراق البساط. والثاني تسخين الماء لاستعماله في أغراض شتّى .

وبما أنني كنت الولد الأكبر في الأسرة كنت المكلّف بهذه المهمة.

2- شتاء جبلي.

حسنًا.. قلت: كان الفصل شتاء، وكان الوقت بُعيد المغرب.. لكن أشعر أن كلمة (شتاء) وحدها لا تكون دقيقة بما فيه الكفاية.. إن شتاء ذاك الزمان كان غير شتاء هذا الزمان.. إنه كان أقسى وأمرّ، بل كان شديد القسوة أحيانًا كثيرة، كانت الأمطار غزيرة الهطول، وكان الثلج كثير السقوط، وكانت الرياح العاتية الباردة تهبّ من الشرق تارة ومن الشمال تارات أخرى، فتُحدث أزيزًا مخيفًا، وتثير القشعريرة في أجسادنا الصغيرة المفتقرة إلى الكساء الدافئ.

  في أحيان كثيرة كانت أسقف البيوت الطينية أعجز من أن تتصدّى للمطر المنهمر ليلاً ونهارًا، فتتسرّب مياه المطر عبرها إلى داخل البيوت على شكل قطرات متتالية، وكثيرًا ما كنا نستيقظ ليلاً بعد أن تتساقط القطرات على وجوهنا، فتبلّل فرشنا، فتهرع الوالدة إلى بعض الأواني المنزلية صغيرها وكبيرها لتضعها تحت مناطق ( الوكْف )، فكان أرض البيت – حينما تتالى الأمطار أيّامًا عديدة- يبدو شبيهًا بمعرض غير منظّم للأواني المنزلية.. صحون هنا، وطاسات هناك، تتخلّلها بعض المواعين بمختلف الأشكال والأحجام.

وبطبيعة الحال ما كانت قطرات المياه المتفلّتة من السقف تسقط في وقت واحد، وبنسب واحدة، كان لكل واحدة منها لحنها الخاص وإيقاعها المتميّز، فالقطرات المتساقطة في قعر صحن تُحدث لحنًا غير اللحن الذي تصوغه القطرات المتساقطة في قعر ماعون نحاسيّ كبير.. والقطرات المتساقطة في قعر الماعون كان إيقاعها غير الإيقاع الذي ينجم عن القطرات المتساقطة في  قعر صفيحة (تنكة)، كما أن هذه الإيقاعات جميعها كانت تتغيّر رويدًا رويدًا بارتفاع نسب الماء المتجمّع في قاع تلك الأواني.

ومع ذلك.. ورغم ذلك.. كانت حياتنا تسير بوتيرتها المعهودة.

كنا قادرين على أن نتسامر، ونأكل، ونلهو، ونضحك، وندرس، وننام.

هذا داخل البيت.

وأما في الخارج.. فكانت الجداول الصغيرة الجارية في طرقات القرية تتجمّع، وتتحوّل إلى سيول قوية تجرف جوانب من (الأحواش)، وتقتحم البيوت الواقعة في البقاع المنخفضة، وكثيرًا ما كان الوادي الصغير الذي يمرّ بالحارة الجنوبية يتحوّل إلى سيل غزير، يحول دون التنقّل من جهة إلى أخرى، ثم يحاصر بعض البيوت، ويهاجمها من كل جانب، ويصرخ سكّان تلك البيوت طالبين الغوث، فيُسرع الجيران إلى مساعدتهم بشتّى السبل، لتحويل مجرى المياه، أو للتخفيف من وطأتها.

ومهما يكن فإن هذا الوادي ما كان ليقاس بوادي ليلون الذي يمرّ جنوبي القرية على بعد كيلو مترين تقريبًا، [الآن وصلت بيوت القرية إلى حافاته الغربية]، إن هذا الوادي هو ملتقى لثلاثة وديان كبيرة أخرى: هي (گلِي بِرْقى = وادي البرق)، و(گلِي كُشْتِيا = وادي القتلى)، و(گلِي حاوُدْ = وادي الفحل) ، لذا كانت المياه المتدفّقة فيه أغزر بكثير، وأشدّ اندفاعًا، وكانت أصوات المياه الهائجة تختلط بهدير الصخور المتدافعة، فتتحوّل إلى زمجرة رهيبة تصل إلى أسماعنا في القرية ، فكنا نصاحب بعض أهالي القرية نهارًا للوقوف على حافات الوادي العالية، والتمتّع عن قرب بمرآى الأمواج المتراكبة، وسماع دويّها الراعد.

وأحسب أنكم تفهّمتم الآن صفة (الحميم) التي أطلقتها على موقدنا البدائي.

3- قرعٌ على الباب.

في ذلك المساء الشتوي جلسنا نحن الصبية الذكور مع الوالد، نتناول العشاء إلى جانب الموقد، وعلى ضوء السراج الذي يعمل بالكيروسين (الكاز)، في حين جلست الوالدة والأخوات في الجانب الآخر من الدار قرب بقايا النار في المدخنة الجدارية.

كانت التقاليد المتوارثة في بيئتنا تقتضي حينذاك أن يأكل الأب والأولاد الذكور معًا أولاً، ثم تأكل الأم والبنات معًا، ولعلّكم تهزّون رؤوسكم الآن عجبًا وأنتم تقرؤون هذه العبارة، بل لعلّكم تشعرون بالغضب من هذا (التمييز الطبقي) داخل الأسرة الواحدة.. وهذا من حقّكم، لكن كان القوم جميعًا راضين بذلك، وأحسب أنه كان شكلاً من أشكال التراتب الاجتماعي الذي إذا انفرط عقده دبّ الخلل إلى المجتمع كله. والعجيب أن النساء أنفسهنّ كن حريصات على استمرار ذلك البناء التراتبي، فكن يرين من العيب أن تجلس المرأة لتأكل مع الزوج، أو أن تمشي بموازاته في الطرقات، وإنما يقتضي العرف أن تسير خلفه بحوالي خطوة أو اثنتين.

وبينما نحن جلوس إذا بالباب يقُرع، ورجل ينادي: (خُوجة محمود!.. خُوجة محمود!)، كان الوالد يعمل حينذاك شيخ كُتّاب وإمامًا في مسجد القرية، وكان اللقب السائد لمن يمارس هذه المهنة هو(خوجة) بدلاً من (مِلاّ = شيخ)، وعلمت فيما بعد أن لقب (خوجة) تركي الأصل يعني (المعلَّم)، وهو من الألقاب التي كانت متداولة في العهد العثماني.

فتحتُ الباب، ودخل العم (خَلِّكْ) [تصغير لاسم خليل]، فرحّب به الوالد، وقرّب الموقد المتحرك نحوه.. كان العم (خلّك) يملك قطيعًا من الماعز، وكان طوال عمره – رحمه الله- معروفًا بلطف المعشر ودماثة الخلق.

4- هموم قرويّة.

والحقيقة كنا– نحن أفراد أسرة الخوجة-  قد اعتدنا أن يزور بيتنا نهارًا أو ليلاً، صباحًا أو ظهرًا، وفي كل فصول السنة، نساء ورجال من القرية ومن القرى الأخرى، على غير موعد، ودون سابق إعلام.

فهذان رجلان تشاركا في زراعة القطن، وهما يثقان بدقة الوالد في العمليات الحسابية، وبعدالته في تحديد الحصص وتوزيع الأرباح، وما على الوالد إلا أن يمضي قسمًا كبيرًا من الليل وهو يحسب بدقّة نصيب كل منهما، ويسلّم كلاًّ منهما ورقة فيها تفاصيل حصّته.

وهذا رجل تجاوز جاره حدود أرضه في الفلاحة.. ودرءاً للخصومات والشرطة والمحاكم مطلوب من الوالد أن يتدخّل بينهما، ويعيد لصاحب الحق حقه، مستعينًا بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية، وبالترهيب من نار الجحيم التي تنتظر الظالمين يوم القيامة.

وهذا العم (حمّاده) يجلس وهو شديد الحزن.. ثمّة مرض غامض بدأ يتفشّى في حقله المزروع قطنًا والواقع في (الدَّشْت= السهل).. كم كان سعيدًا برؤية شجيرات القطن وهي تنمو بشكل رائع يومًا بعد يوم، إنه لم يقصّر في فلاحة الأرض قبل نثر البذور، وهو حريص كل الحرص على أن يسقي الحقل بانتظام، لكن هذا المرض عكّر عليه صفو سعادته، إن المحصول سيذهب هباء، ولن يقدر على تحصيل المال اللازم لزواج ولده البكر (سعيد)، ولا سيما أن أخاه الكبير - والد العروس- حمّله الكثير من النفقات، ويصرّ على أن يُشترى (الجهاز) من حلب.. وعلى الوالد أن ينظر في (الكتاب)، ويبحث عن حلّ لإيقاف المرض.

فيكتب له الوالد عدّة (حُجُب) صغيرة، ويطلب منه أن يعلّقها في رؤوس بعض شجيرات القطن هنا هناك على امتداد الحقل، وينصحه ألا ينسى أن  يسمّي بالله عندما يعلّق كل حجاب، ولا ينسى أيضًا أن يُخرج صدقة، ويقدّمها سرًا لأحد الفقراء أو الأرامل أو الأيتام.. ذاكرًا له قول الرسول عليه السلام: " إنّ الصدقة تدفع البلاء ".

وهذه عجوز تشكو آلامًا غامضة في الركبتين.. إنها لم تعد قادرة على نقل (قادوس) الماء من النبع كما كانت تفعل سابقًا، وأصبحت تقعد عدّة مرات في الطريق حينما تذهب لحلب الأغنام في الجبل، هذا عدا أنها لا تستطيع النوم طوال الليل بسبب تلك الآلام المبرّحة، فترجو الوالد أن ينظر في (الكتاب) ليبيّن لها السبب، وليدلّها على ما يعيد لركبتيها الحيوية والقوّة.

وهذه أرملة كهلة، وخّط الشيب شعرها، وتغضّن خدّاها، وبانت عروق يديها، رحل زوجها الشاب حينما كانت في مقتبل العمر إثر مرض عُضال، وترك وراءه طفلاً صغيرًا، إنه لم يترك لها قطعة أرض.. كان فقيرًا.. ترك لها بقرة واحدة فقط، وتقدّم إليها بعض الرجال يخطبونها، لكنها فضّلت البقاء أرملة، والقيام على تربية ولدها الوحيد.. وللحصول على لقمة العيش كان عليها أن تستعين بما تدرّه البقرة من حليب، وبما تجود عليها دجاجاتها من بيض.

ألا كم عملتْ مع الناس في حصاد القمح والشعير صيفًا! وكم تعبت في العمل بين حقول القطن خريفًا! وكم شقيت في جمع المال اللازم لتربية ولدها ولزواجه! وكم فرحت ودبكت وزغردت بجنون يوم عرسه! لكن هاهي ذي الكنّة (الماكرة) قد سيطرت عليه ، وحملته على اضطهاد الأم المسكينة.. ترى كيف تحوّل ابنها البارّ إلى ابن عاق ّ؟! لا ريب أن الكنّة وأمها تآمرتا على الأرملة، وذهبتا إلى من يمارس السحر، وسحرتا الابن البارّ.. وتنهمر الدموع من عيني الأرملة، وترجو الوالد أن ينظر في (الكتاب)، ليعرف السرّ، وينقذها من قبضة تلك الكنّة الظالمة.. وما على الوالد إلا يطيّب خاطرها، ويوصيها بالصبر، ويعدها بأنه سينصح ابنها العاق، بل سيؤنّبه، فهو شيخه، وقد تعلّم تلاوة القرآن على يديه.

وهذا كهل يخرج من جيبه رسالة لولده الجندي في ضواحي القُنَيْطرة (في جنوبي سوريا)، بدأها بالديباجة الشهيرة:(إلى الوالد العزيز، والذهب الإبريز). ومطلوب من الوالد أن يقرأ الرسالة ويشرحها كلمة كلمة، ثمّ يبدأ بكتابة رسالة جوابية، تبدأ بديباجة مشابهة، وتنتهي بسلامات مرسلة إلى الابن من كل أخ وأخت، ومن كل عم وخال، ومن كل عمة وخالة، ومن كل جار وجارة.

وهذه جارتنا (فاتى) شاهدت في الليلة الماضية حلمًا مليئًا بأحداث ومشاهد عجيبة.. رأت غمامة سوداء تقطر دمًا، وعبدًا أسود قبيح الخلقة يخطف طفلتها الصغيرة من حضنها غير عابئ بتوسّلاتها وبكائها، وأفعى سوداء كبيرة.. كبيرة جدًا.. تدخل فناء بيتها ولها فحيح مخيف.. كانت ملامح الجارة (فاتى) منقبضة وتقطر خوفًا، إنها قلقة أشدّ القلق.. لا بدّ أن ضرّتها (مرُّوش) تدبّر لها مشكلة جديدة، لتؤلّب عليها زوجهما العجوز (أحمد)، فيشبعها شتمًا وضربًا. لذا فهي ترجو الوالد أن ينظر في (الكتاب)، ويحول دون تحقيق نوايا الضرّة..

فيطلب مني الوالد أن آتي له بكتاب (تفسير الأحلام) لابن سيرين، ويشرع في تقليب الصفحات، والقراءة بصمت، ثم يحاول أن يهدّئ الجارة (فاتى)، ويحاول إقناعها بأنه كثيرًا ما يأتي الواقع على عكس ما توحي به الأحداث في الحلم.

وهذا كهل وزوجته قادمان من قرية (عين دارا) القريبة، إنهما تركا ولدهما الشاب طريح الفراش، ويرجوان الوالد أن ينظر في(الكتاب)، ليرى إذا كان نجمه مازال حيًا، أم أنه مائل إلى الانطفاء؟!. إنهما يعلمان مسبقًا أنه إذا كان نجمه قد انطفأ أو على وشك أن ينطفئ فهذا يعني أنه لا رجاء في شفاء ابنهما. وهنا على الوالد أن يلجأ إلى كتاب خاص آخر، ويحدد الأرقام الفلكية الخاصة باسم الولد واسم أمه، ويحدد البرج الذي ولد فيه، ثم يجمع ويطرح ويضرب ويقسّم، ويخرج بنتيجة تبعث على الطمأنينة.

وهذا رجل آخر هبط من قرية (كِيمار) الجبلية، متوجّهًا إلى عفرين يوم (البازار/ الأربعاء) ، ورأى أنه من الضروري المرور في طريقه على (خوجة محمود)، ليسأله عن كيفية توزيع ميراث أخيه الذي توفّي، ولم يترك ولدًا، فاستأثرت زوجته بكل شيء.

5- ذئاب بأفواه مقفولة.

أجل.. كنا قد اعتدنا أن يكون بيتنا مفتوحًا للناس.. ما كنا نتبرّم ولا نتذمّر، وظننت ذاك المساء أن العم (خَلِّكْ) جاء كعادته ليعرف (الزكاة) التي يجب عليه دفعها عن قطيع الماعز الذي يملكه، أو يسأل الوالد كتابة (حجاب) يغسله في طاسة ماء، ثم يمزج ذلك الماء (المقدّس) بالمياه التي يسقي بها القطيع، ليحصّنه ضد مرض الـ (تَبَك) الذي ظهر في قطعان الآخرين.

وكانت المفاجأة أن ما جاء له العم (خلّك) ذلك المساء كان أمرًا مختلفاً، لقد تبيّن أن عنزتين من قطيعه تخلّفتا في الجبل ذلك المساء، إنه لم يجدهما في الحظيرة، ويخاف أن يأكلهما الذئب، ويرجو الوالد أن يقوم بقفل أفواه الذئاب تلك الليلة، لئلا تفترس العنزتين، ويبدو أن العم (خلّك) كان يعرف لوازم هذا الطقس سابقًا، إذ أخرج من جيبه موسى حادة الشفرة، ووضعها بين يدي الوالد.

أخذ الوالد الموسى، وراح يتلو آيات من القرآن الكريم وهو يقلّبها، أذكر من بينها قوله تعالى:" وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشيناهم فهم لا يُبصرون"، وآيات أخرى ورد فيها اسم الذئب من سورة (يوسف)، ثم ختم تلك الآيات القرآنية بعبارات من الدعاء فيها ابتهال إلى الله بصون العنزتين، ثم أرجع الموسى إلى العم (خلّك).

بدا الارتياح الواضح على وجه العم (خلّك).. إنه الآن مطمئن كل الاطمئنان، فذئاب جبل (ليلون) ستبقى مقفلة الأفواه طوال تلك الليلة، ولن تقدر على افتراس العنزتين.. أتذكّر جيدًا أننا جميعًا كنا حينذاك مقتنعين تمامًا بهذا النمط من التفكير، وكنا مطمئنين إلى سلامة هذه المداخل الفكرية في علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين وبالعالم.. لم نكن نخدع أنفسنا.. ولم يكن بعضنا يخدع بعضنا الآخر.

كان هؤلاء الرجال والنساء مؤمنين بهذه الحلول الروحانية الميتافيزيقية.. كانوا يلحّون عليها بصدق، وكان الوالد بدوره مؤمنًا بصحّة ما يقوم به.. كان يشعر أنه يكون مقصّرًا أمام الله إذا لم يهبّ إلى مساعدتهم.. إنه كان يرفض تلقّي أيّ مبلغ من المال لقاء عمله ذلك رغم حاجته أحياناً.. وكثيرًا ما سمعته يقول: أنا أعمل لله.

لم يكن ذلك النمط من العلاقة بالعالم هو الصواب.

لكنّه كان النمط الوحيد حينذاك.

             (وإلى اللقاء في الحلقة السادسة).

                                    26 / 1 / 2004                    الدكتور أحمد الخليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

عفرين.. بوّابتي إلى العالم

( الحلقة االرابعة )

رحلة مــع المقدّس  

1- السعال الديكي.

استشرى مرض السعال الديكي في قريتنا أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وشرعنا نحن الأطفال والصبية نسعل - ولا سيما في الصباح - بأصوات مديدة شبيهة بصياح الديكة.

 فكيف تصرّف الأهل إزاء هذا الوباء؟!

في عصر أحد الأيام عقدت الأمهات اجتماعًا تحت شجرة التوت، منهن من ترقّع ثوبًا، وأخرى تغزل الصوف، وثالثة تنقّي حبّات البرغل من الشوائب قبل أن تطبخ (الگيرمِي)، ورابعة تغسل بعض نبات الخبّيز الذي جمعته من أطراف القرية، فيما كنا نحن الصبية نتقافز حولهنّ، غير عابئين بنوبات السعال التي كانت تهاجمنا بين حين وآخر. وكم كان قلقنا شديدًا حينما علمنا أنهن سيأخذننا صباح اليوم التالي إلى (چِيلْ خانَهْ)، لعلاج ذلك السعال المزعج.

لم نكن نعرف شيئًا عن (چِيلْ خانَهْ)..

تخيّلنا أنها عجوز من أولئك العجائز اللواتي كن يمارسن معالجة المرضى بطرائقهن البدائية، وما دام عجائز قريتنا أخفقن في التصدي لهذا السعال المقيت، فلا ريب أن العجوز (چِيلْ خانَهْ) هي الأكثر دراية، والأقدر على المعالجة.

2- عجائز قريتنا.

كنا قد اعتدنا على أشكال عجائز قريتنا، وعلى أصواتهن وطرائقهن في معالجة الأمراض، كانت العجوز ( زَيْنَه حَمْ ) متخصّصة في أمراض وجع الرأس، وكانت جدّتي (الحاجّة مدينة) تعالج أمراض الحنجرة، إنها ورثت ذلك من والدتها ( مَيْرما زارُو). وكانت العجوز (رَحْمَه قاضي) تعالج أوجاع البطن، وكذلك العمّة (مَرُّوش)، وكانت الخالة (أمينة) مختصّة بمرض (السُرّة)، وكانت والدتي تعالج احتقان البلعوم (اللوزتين)، باعتبارها ولدت توأمًا، وكان الاعتقاد سائدًا أن كل من ولدت توأمًا مؤهّلة لمعالجة هذا المرض.

ففي حالة الصداع الشديد كانت الوالدة تأخذني صباحًا باكرًا إلى العجوز (زَيْنَه حَمْ)، فتتلمّس العجوز بيدها العجفاء الرقيقة جبهتي، ثم تضغط على جوانب رأسي بكلتا يديها، ثم تمرّر سبّابتها على الهباب الناعم في الوجه الداخلي لصاج الخبز المعروف باسم (سيْلْ)، وترسم بالهباب الأسود إشارة ( + ) على جبيني، وتوصي والدتي أن تشدّ عصابة حول رأسي، وتدفئني جيدًا.

وكانت العجوز (رَحْمَه قاضي) تعالج وجع البطن بما كان يسمّى بالكردية (پتِكْ)، إنها كانت تتلمّس بطن أحدنا لتحدّد مكان الوجع، ثمّ تأتي بخرقة فتُشعل فيها النار، ثمّ تطفئ شعلة النار، وتأخذ الخرقة- وبقايا النار ما زالت فيها- فتلذع بها مكان الوجع لذعات خفيفة، وكانت في الوقت نفسه تحاول تهدئتنا لنتحمّل وخز ال (پتِكْ)، في حين كنا نحاول جهدنا التفلّت من أيادي أمهاتنا، ونحن نملأ الجو بكاء وصراخًا.

وعلى أية حال كنا في قرارة أنفسنا راضين باللذعات الخفيفة من ال (پتِكْ)، وإلا فإن رحلة المعالجة كانت ستنتهي بنا إلى العمّة (مَرُّوش) المتخصّصة في معالجة آلام (الريح) أي (الروماتيزم)، وكانت طريقتها في المعالجة أكثر إيلامًا، وكثيرًا ما كان الكبار فقط هم الذين يلجأون إليها للتخلّص من الأوجاع الغامضة في الظهر والبطن والصدر.

كانت العمّة (مرّوش) تمارس أحد أشكال الطب القديم المعروف بالحجامة، كانت تأتي ببضع كؤوس زجاجية متوسّطة الحجم، ثم تمزّق قطعًا صغيرة من الورق، وتطلب إلى المريض الكشف عن منطقة الوجع، ثمّ تشعل النار في كل قطعة ورقية وترميها في قعر الكأس، وتُلصق فُوّهة الكأس بمنطقة الوجع، وكنا – ونحن نشهد هذه العملية – نعيش مشاعر الخوف والدهشة معًا، بلى كانت القطعة الورقية سرعان ما تنطفئ، ويبدأ الجلد واللحم بالتجمّع داخل الكأس على شكل كرة، وكنا نعجب من منظر تلك الكؤوس وهي ملتصقة بجسد المريض، وكنا لا نصدّق أن الكؤوس ستفرج عن تلك الكرات البشرية المعتقلة داخلها، لكن بعد بضع دقائق كانت العمة (مرّوش) ترفع الكؤوس بلين، وتتفلّت الكرات اللحمية منها وهي تصدر أصواتًا غير مألوفة.

 وأما والدتي، وكل امرأة ولدت توأمًا، فكانت تطلب من أحدنا- إذا عانى آلامًا في الحلق- أن يفغر فمه، ثم تضع إصبعيها السبّابة والوسطى في الحلق، وتضغط بقوّة على المكان الذي عرفت بعد ذلك أنه موقع اللوزتين، وهي تقول: كِخْ.. كِخْ! ثمّ تدلك الحلق من الخارج.

وعلى العموم كانت (طبيبات) قريتنا لطيفات معنا، إنهن كن يتغلّبن على تمنّعنا وتمرّدنا عليهن بعبارات رقيقة وحنونة، ثمّ إنهن ما كن يأخذن أجرًا على جهودهن. أما هذه العجوز (چِيلْ خانَهْ) فلا ندري عنها شيئًا، وقد تفرض علينا ألوانًا من الشراب المرّ المصنوع من بعض النباتات، أو تكوي أجسامنا بحديدة محمرّة في النار، أو ربما تجرح أجزاء من جسدنا لإسالة شيء من الدم.

أليس هذا هو البلاء الأعظم ؟!

أليس من حقّنا أن نقلق ؟!

3- المفاجأة.

ما كنا نقبل السكوت على ما يقلق.. فأمطرنا الأمهات بوابل من التساؤلات، وسرعان ما انفرجت أساريرنا، وانقلب القلق فرحًا طاغيًا، لقد علمنا أن السيدة (چِيلْ خانَهْ) ليست عجوزًا، إنها وادٍ يقع جنوبي قرية (عرش قيبار). يا الله!.. إذًا هي نزهة في منطقة جبلية لم نعرفها سابقًا، سنتقافز على صخور غير التي ألفناها، وسنتسلّق أشجارًا غير تلك التي كنا نتسلّقها، وسنكتشف كهوفًا غير التي دخلناها، بل ربّما نجد هناك بعض الأرانب البرية، ولعلّنا نجمع المزيد من جذور ال (پِيفُوك ) وال (كَرَنْك)، وال (گيزبَلُّوكْ) اللذيذة.

وأخلدنا إلى النوم بعيد العشاء ونحن نحلم برحلة إلى (چِيلْ خانَهْ).

وفي الضحى توافدنا مع الأمهات إلى شجرة التوت الكبيرة المنتصبة بجانب نبع الماء، لم يستطع الآباء مرافقتنا، كانوا منشغلين، وبعد قليل انضمّ العمّ (عبدو) – غير عبدو الراعي- إلى ركبنا، يبدو أن الآباء ندبوه إلى تلك المهمّة، بلى .. إذ كيف يُعقل إرسال النساء والصبية والأطفال في رحلة إلى منطقة جبلية معزولة من غير الاطمئنان على أمنهم.

كنا نعرف العمّ (عبدو) جيدًا، كان معتدًّا بنفسه، مديد القامة، بارز الصدر، شامخ الرأس، أنيق المظهر، يعتمر قلنسوة بيضاء مخروطية، ويلفّ على وسطه شالاً (حزامًا)، وقد أصبحنا أكثر شعورًا بالأمان حينما وجدناه متنكّبًا بندقيته، وغارزًا الخنجر الفضي اللون في حزامه، وحاملاً عصاه الطويلة الغليظة.

كما انضم إلى الركب حماران أو ثلاثة لحمل الأمتعة واللوازم من طعام ومياه. وانطلق الركب شمالاً نحو (عرش قيبار) بموازاة جبل (لَيْلُون)، وبعد بضع مئات من الخطوات تركنا الطريق للأمهات والأطفال والحمير، أما نحن الصبية فكنا نتمرد على الطرق حيثما كانت، ورحنا نتراكض على سفح الجبل شرقًا، ونتطارد بين حقول القمح والشعير في السهل غربًا.

4- رموز شرقية.

وصلنا إلى وادي (چِيلْ خانَهْ) أخيرًا، وساعدنا الأمهات في وضع الأحمال تحت أشجار السنديان الظليلة، ولا أحسب أن أحدًا من قرى عفرين الجبلية ينسى روعة الوديان وجمالها في شهر الربيع .. كيف ينسى وجوه الصخور النقية وقد اغتسلت طويلاً بأمطار الشتاء والربيع؟! وكيف ينسى الأعشاب الخضر الزاهية التي تحف بالصخور من كل جانب؟! كيف ينسى جمال الزهور الصفر والبيض والحمر التي تنتشر هنا وهناك؟! كيف ينسى أسراب الطيور التي تحطّ على الأشجار، ثم تطير ثانية محلّقة في الجو، وهي تداعب النسيم العليل؟! بل كيف ينسى الفراشات بألوانها الزاهية وهي تتأرجح في الهواء وتلثم هذه الزهرة وتداعب تلك؟!

إن ما يميّز وادي (چِيلْ خانَهْ) هو احتفاظه بكثير من أشجار السنديان، رغم أن سفوح جبل ليلون وقممه ووديانه باتت جرداء من الأشجار البرية، وكثيرًا ما سمعت من المعمَّرين والمعمَّرات في قريتي أن جبل (لَيْلُون) كان غاصًا بأشجار السنديان وغيرها من الأشجار سابقًا، لكن قطعان الماعز وفؤوس الحطّابين قضت على تلك الأشجار.

لكن كيف نجت أشجار (چِيلْ خانَهْ) من شراهة الماعز وسطوات الحطابين ؟!

ها هنا يبرز أثر الرموز المقدسة في الشرق، فكثير من الأشجار والينابيع والأماكن أصبحت في حصن حصين بفضل ( التابو/المقدّس )، وكان الفضل في ذلك للمزارات، فقد شاع اعتقاد راسخ أن من يرعى قطعانه على الأشجار الواقعة في حمى المزارات يسلّط الله المرض والموت والذئاب على قطعانه، وكل من يقطع غصنًا من تلك الأشجار يجرّ على نفسه غضب صاحب المزار، ويُصاب بأنواع البلايا.

وإلى يومنا هذا تنتصب أمام دارنا في الحارة الشمالية من قريتنا شجرة سنديان ضخمة جدًا، وقديمة جدًا، ولا أشك أنها البقية الباقية من غابات السنديان التي كانت تغطي قمم جبل ليلون وسفوحه في القرون السابقة، ولم تفلت هذه الشجرة من تلك المجزرة إلا بفضل اعتقاد سكان القرية أنها تقوم بجوار مزار، ولذا يسمّونها شجرة الزيارة (دارى زارتى)، ويمتنع جميع أهل القرية من تكسير أغصانها أو قطع فروع منها، بل وجدت قبل عام بعض الأغصان المتكسّرة بفعل الرياح مرميّة تحتها، من غير أن يجرؤ أحد على استعمالها حطبًا.

5- في رحاب المقدَّس.

لا أذكر أننا وجدنا آثارًا لأي مزار في وادي (چِيلْ خانَهْ)، فقد اعتدنا أن نجد في المزار قبرًا أثريًا، لُفّت حول (الشاهد) المنصوب عند الرأس قطعة قماشية خضراء، أو أن يكون القبر نفسه مغطًّى بالقماش الأخضر، وأن يكون القبر في غرفة واطئة السقف تنتصب فوقها قبّة صغيرة ... بلى، لا أذكر أنني وجدت شيئًا من ذلك في الوادي. ترى هل ذهبت الأمهات إلى المزار حينما انشغلنا بالتراكض في مرابع الوادي ؟! لست أدري.

ويبدو أن الأمهات كن اصطحبن الجدات - حين كن صغيرات - إلى زيارة (چِيلْ خانَهْ)، إنهن تصرفن كمن يعرف مسار الطقوس جيدًا؛ فقد طلبن منا التجمّع، ثم توجّهن بنا إلى كهف ما كنا عهدنا أمثاله في كهوف قريتنا؛ إنه لم يكن واسعًا جدًا، لكن ما إن دخلناه حتى شعرنا ببرودة لطيفة، وكم كان عجبنا شديدًا حينما وجدنا سقف الكهف مليئًا بالأثداء الحجرية، (هكذا سمعنا الأمهات يسمّين الزوائد الكلسية المخروطية المتدلّية من سقف الكهف)، بعضها كان قصيرًا، وبعضها كان يزيد على الشبر، وكانت قطرات من الماء تسقط من رؤوسها المدبّبة على نحو متقطّع وبطيء، لتتجمّع في حفرة صغيرة أسفل كل زائدة حجرية.

وسرعان ما أصدرت الأمهات الأوامر إلينا بحزم أن نمتنع عن لمس (الأثداء)، قائلات لنا: " لا تلمسوها بأيديكم ، ذلك حرام.. إنها ستجفّ " ! وعندئذ فهمنا لماذا وقفت الأمهات أمام مدخل الكهف بشيء من الرهبة وهن يتمتمن بعبارات غامضة، علمنا أنها أدعية إذ كان يتكرر فيها لفظة (خُدا = الله) لفظة ( پَيْغَمْبَرْ = النبي)، والمقصود النبي محمد صلّى الله عليه وسلم.

وأذكر أننا تخلّينا بعفوية عجيبة عن هرجنا ومرجنا، وخيّمت علينا رهبة غامضة، ورحنا ننتقل من (ثَدْي) إلى آخر ونحن ندقق النظر، أما الأمهات فأخرجن مناديل بيضًا نظيفة، ورحن ينقعنها في الحفر الصغيرة حيث تجمّعت قطرات المياه، وشرعن يعصرن المناديل المبلّلة بالماء في كؤوس، ثم طلبن إلينا أن نقول: (بسم الله) ونشرب جرعات من الماء، وكن حريصات على أن يقلن (بسم الله) وهنّ يقدمن لنا تلك الجرعات، وصحيح أن القطرات المتساقطة من (الأثداء) الحجرية كانت بطيئة جدًا، لكن كنا نتوقع أن نجد وفرة من المياه في قاع الكهف، وهذا ما لم نجده، وعلمنا بعد ذلك أننا لم نكن الوحيدين الذين يزورون الكهف للحصول على المياه (المقدسة)، وإنما كان العديد من أهالي القرى المجاورة يفعلون ذلك.

وبعد شرب جرعات قليلة جدًا من الماء المقدّس خرجنا من الكهف، وتبعنا الأمهات إلى صخرة متوسّطة الحجم فيها فتحة دائرية، لم ندقق النظر حينذاك في الفتحة، ترى أهي من فعل الطبيعة أم من صنع البشر؟! ومرة أخرى أصدرت الأمهات الأوامر إلى كل واحد منا أن يقول (بسم الله)، ويُدخل رأسه في الفتحة الدائرية، ويحبو ليخرج من الطرف الآخر.

وتُوّج هذان الطقسان المقدسان بالطقس الذي لا بد منه عند معظم المزارات، إلا وهو (إهراق الدم) المعروف في الكردية بمصطلح (خُونْ رِژانْدِن)، والحقيقة أن هذا الطقس يرجع إلى أصول ميثيولوجية ضاربة في فجر التاريخ البشري، لكنه يأخذ في كل عصر، ومع كل عقيدة، شكلاً خاصًا، أما في العقيدة الإسلامية، فهو تجسيد لقصة النبي إبراهيم عليه السلام حينما اختبره الله فأمره بذبح ولده إسماعيل عليه السلام، ولما أذعن إبراهيم لأمر الله، حمل إليه جبريل عليه السلام كبشًا من السماء ليذبحه فداء عن إسماعيل.

أمّا خرافنا المقدّسة ذلك اليوم فكانت الدجاجات اللواتي حملتها الأمهات معهن، لقد قام العم (عبدو) بذبحها واحدة واحدة متوجّهًا إلى القبلة، وهو يقول كل مرة (بسم الله والله أكبر). ثم قامت الأمهات بسلق لحوم الدجاجات، وطبخن (الگيرمِي) أيضًا، وقدّمن لنا وجبة لذيذة لم يغب عنها اللبن الرائب (الدَّوْ).

والعجيب أننا نحن الصبية تنازلنا عن التشاطر والتمرّد ذلك اليوم، فلم ندخل الكهف من وراء ظهر الوالدات لنعبث بالأثداء الحجرية، ولم نتقافز على الصخرة المقوّرة، كما كان عهدنا مع الصخور الغريبة الأشكال سابقًا، وكان الفضل في ذلك التعقّل لكلمة (حرام!).. أجل كان  لكلمة (حرام) فعل سحري فينا نحن الصغار، أكثر بكثير من كلمة (عيب)، إنها كانت تشتمل على دلالات (الخوف) الغامض.

ألا كم كان (الخوف) يرسم مسارات حياتنا وحياة غيرنا حينذاك! ..

وكم جعلنا (الخوف) نحيا خارج التاريخ!

                     (وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة).

                          21 – 1- 2004                        الدكتور أحمد الخليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عفرين .. بوّابتي إلى العالم!

( الحلقة الثالثة )

داخل العالم.. خارج التاريخ !

1 – لوحات.. لا مذكّرات!

لست أكتب مذكّرات.. ولا يوميّات.

فأنا لم أعش في بلاط ملك..

ولم أخض حروباً عالمية..

ولم أقم برحلات استكشاف في أصقاع مجهولة..

ولم أزامل المشاهير من الرياضيين والفنانين والفنانات..

إن ما أحاوله هو استعادة لوحات من صميم الحياة..

لوحات بسيطة كما كانت حياتنا، وأحياناً ساذجة كما كان وعينا لأنفسنا وللعالم من حولنا، لوحات عشتها وعاشها كثير من أبناء جيلي، كنا نعتقد حينذاك أننا نعيشها اختياراً، وتبيّن لنا فيما بعد أننا عشناها اضطراراً.

ولا شك أن بين المذكّرات واللوحات فرقاً كبيراً.

وكي أسترجع تلك اللوحات بنكهتها الحقيقية، وبإيقاعها الواقعي، وكي أقدّمها للأجيال صادقة ونقيّة، وبعيداً عن التجميل أو التشويه، لا بد أن أسمّي الأشياء بأسمائها، من غير تضخيم ولا تقزيم، ولا تلميع ولا تزييف. وأستميح القارئ الكريم عذراً إذا وجدني أضع التدرّج التاريخي جانباً، فغاية ما أطمح إليه هو تصوير المواقف والمشاعر، وليس تدوين الأحداث وتأريخها.  

2 –  قريتي!

فتحت عينيّ على الحياة في قريتي (قرزيحل) في خريف سنة (1945م) حسبما هو مدوّن في سجلّ القيد الخاص بي.. وتقع قريتي هذه على بعد خمس كيلومترات جنوبي مدينة (عفرين)، إنها تتّكئ على السفح الغربي لجبل (لَيْلُون)، تجاورها قريتا (طُورِنْدَه) و(عَرْش قِيبار) شمالاً، وقرية (باسوطا) جنوباً، وقرية (عَين دارا) غرباً، وينتصب أمام القرية جبلان صغيران يفصل بينهما مضيق، يدعى الجبل الشمالي (جبل زيارة)، إذ تبدو في قمته قبّة متواضعة مبنية على قبر قديم لرجل مجهول الهوية يسمّيه أهل القرية (شيخ صالح)، ويدعى الجبل الجنوبي (جبل ملا موسى).

وبمناسبة الحديث عن (شيخ صالح) فإن كثيراً من ذكور الأجيال السابقة في قريتي كانوا  يحملون اسم (صالح)، تيمّناً باسم (شيخ صالح)، وقد لاحظت هذه الظاهرة- أقصد العلاقة بين الأسماء والمزارات- في كثير من قرى منطقة عفرين؛ ففي القرى القريبة من قلعة (النبي هُوري) الواقعة بين (مَيْدانكي) و(بُلْبل) تكثر أسماء (هُورُو) و(هُورِيك) و(أُوريا). في حين تكثر أسماء (عبد الحنّان) و(عبد المنّان) في القرى القريبة من مزار (حنّان ومنّان) في قرية (مَشْعَلا)، كما يكثر اسم (عبد الرحمن) في القرى القريبة من مزار (عبد الرحمن) الواقع في سهل (جنديرس).

الأسماء في حدّ ذاتها كون ثقافي مدهش.. لعلّنا نقوم برحلة عبره ذات يوم.

كانت بيوت قريتي – وما زالت- مبنية على السفح الغربي لجبل (ليلون) في شكل مدرّجات، كما هو شأن معظم قرى (عفرين) الجبلية.. الآن بيوت قريتي حديثة وعصرية.. كانت حينذاك بيوتاً من الحجارة والطين، ومسقوفة بأعمدة خشبية من جذوع الأشجار، ولا سيما أشجار الحُور (قَواق)، وكان أهلونا يأتون بفروع شجر (الكَز) من ضفاف نهر عفرين، ويبسطونها على جذوع الحور الممدودة على السقف بانتظام، ثمّ يفرشون طبقة من التراب على تلك الفروع، وينتهي السطح الخارجي للسقف بطبقة طينية رقيقة، لتمنع تسرّب مياه الأمطار إلى الداخل شتاء.

كانت بيوتاً متواضعة المظهر، لكن الجدّات والأمهات والأخوات كنّ يحاولن جهدهنّ إضفاء مسحة من الجمال على ذلك المظهر المتواضع، بوساطة تقنيات طبيعية متواضعة أيضاً، فكنّ في كل ربيع أو صيف يجلبن (الحَوار)- وهي تربة بيضاء اللون- من المناطق القريبة، ويضفن إليه الماء مع قليل من صبغ أزرق اللون يسمّينه (زَراق)، ثم يقمن بدهن جدران البيوت من الداخل بذلك السائل الذي تخالطه زرقة سماوية خفيفة، فيكتسب المنزل رونقاً خاصاً، ويوحي مرآه بالنظافة والأناقة والراحة النفسية، هذا علاوة على أنهنّ كنّ يحرصن على ترتيب الأثاث البسيط والمقتنيات بشكل منظّم، ويعلّقن على الجدران بعض السجاد المشرق اللون، أو بعض الزخارف التي كنّ يمضين ليالي الشتاء وهن ينسجنها على القماش الأبيض بخيوط زاهية الألوان، ويسمّينه بالكردية (قَناوِيج).

وما كان الذوق الجمالي للجدّات والأمهات يقف عند هذا الحدّ، وإنما كنّ يقمن بدهن واجهة المنزل من الخارج أيضاً بذاك السائل الحواري الناصع البياض المشوب بالزرقة الخفيفة، فكم كنت أتمتّع وأنا شاب بمنظر واجهات تلك البيوت في أُويقات الأصيل، حينما كنت أجلس على صخرة من صخور جبل (ملا موسى)، وتصبح القرية كلها أمامي! بل كم كان ذاك المنظر يغدو أجمل ربيعاً وصيفاً بعد اخضرار أشجار التوت التي كانت تزدان بها أفنية معظم البيوت!

في أسفل القرية كان ثمّة كهف صغير منخفض، يسيل منه الماء، ويتوزّع من بعد على أحواض حجرية متعدّدة، تنتشر على طرفي قنطرة رومانية مقوّسة الشكل، وتبدأ من الأعلى بحوض خاصّ لغرف مياه الشرب، ثمّ يتلوه حوض لغسل الملابس، هذا في الجهة الشرقية من القنطرة، أما في الجهة الغربية من القنطرة فكانت هناك ثلاثة أحواض خاصة لشرب البهائم من خيول وأبقار وحمير، وتسيل المياه بعدئذ في مجرى ضيّق لتتجمّع في بركة كبيرة، وكان أصحاب الحقول القريبة يستثمرونها في سقاية أشجار الرمان والمشمش والتفاح والجوز وبعض الخضار. وكانت ثمّة أحواض حجرية مستقلّة يملأها الرعاة بالمياه أيام الصيف لسقاية قطعان الغنم والماعز.

3 – سباقات ماراثونية!

كنت حينذاك، مثل غيري من الصبية، أرتدي ثوبًا واحدًا يلفّ جسدي من العنق إلى الكعبين، وأنتعل (تاسومة) حمراء، بلى.. كانت حمراء رائعة في البدايات، وسرعان ما كان ذلك اللون المثير يضيع بين لطخات أوحال السواقي والأمطار، فتصبح (تاسومة) لا أكثر! غير أننا كنا نتمرّد على (التاسومة) صيفاً، فنرميها جانباً، وننطلق حفاة في دروب القرية وعلى جنباتها، بل في الحقول أيضاً.. نلهو ونلعب.. نتراكض ونتدافع ونتسابق.. غير عابئين بالحجارة والأشواك والخدوش. وأحسب أن هذا التمرّد على (التاسومة) كان لا يثير الآباء والأمهات، فهو كان يريح جيوبهم، ويوفّر عليهم ثمن أحذية جديدة في كل فصل، ولا يكلّف الأمهات سوى إصدار الأوامر بضرورة غسل أقدامنا كل مساء، قبل أن ندخل المنزل، ونأوي إلى فرشنا.

كنت كغيري من الصبية أعرف الحياة لعبًا فقط.. لا شيء غير اللعب!

كنا نحوّل أكثر المهام جدّيةً إلى لعب، وهذا ما كان يزعج الأهل أحيانًا، فكانوا ينهمرون علينا بالتأنيب حينًا، وبالوعيد حينًا، وأحيانًا كان اللعب يجرّ علينا الأذى، وعلى الأهل الضرر، فكانوا يسرعون إلى معاقبتنا بالزجر تارة، وبقرص الآذان تارة، وأحيانًا قليلة كان الأمر يخرج عن المعتاد، فنتلقّى من الكبار صفعة على الخدّ، أو ضربة بفرع شجرة على الظهر، وفي هذه الحال كنا نجد في أكناف الجدّات والأمهات ملاذنا الآمن، ونحن نخفي في الوقت نفسه استغرابنا لكل هذا الغضب، ودهشتنا من هذا الهياج.. كن نعتقد بيقين مطلق أننا نمارس أموراً طريفة وبديعة وممتعة.

بلى.. كنا لا نفهم الكبار.. كنا نعجب من ردود أفعالهم غاية العجب.

فما هي المشكلة مثلاً إذا ركب أحدنا ظهر البقرة وهو يعود بها من الحقل! صحيح أن البقرة تُقتنى فقط لجرّ المحراث وللحصول على العجول والحليب، لكن أليس في ركوبها نوع من التجديد والإبداع والعبقرية؟! ثمّ أليس القعود على ظهرها العريض أبعث على الراحة؟! أليست مشيتها الوئيدة أدعى إلى الاطمئنان؟!

وما المشكلة إذا (امتطى) أحدنا ظهر الحمار، ووقف عليه منتصبًا، آخذًا بالرسن بين يديه، ثم راح يحثّ الحمار على الإسراع في المشي، ليسبق غيره من الصبية وقد انتصبوا جميعهم وقوفاً على ظهور حميرهم؟!

كان نعدّ من يفوز في هذا السباق بطلاً لا يقلّ عن شرف البطولة التي يحوزها بعض الناس هذه الأيام في مسابقات الأولمبياد، ونتحرّق غضبًا على أنفسنا لفشلنا وسقوطنا من على ظهر الحمار، وكنا نحمّل الحمار مسؤولية فشلنا، فننقضّ على أذنيه عضًّا، وعلى ظهره لكماً، ونصبّ عليه العذاب بالضرب صبّاً.. ما كنا لنفهم الحمار المسكين أبداً، وما كان الحمار ليفهمنا أبداً.

4 – العم أبو حميد!

ثم ما هي المشكلة إذا وقع أحدنا من على ظهر جواده الأولمبي – أقصد حماره- فانكسرت يده؟! فالنتيجة معروفة.. ستقرّعه أمّه قليلاً، ثم ستبحث عن قطعة صابون وبيضتين أو ثلاثة، ثم ستأخذه مساء إلى بيت العمّ (أبو حميد) – مدّ الله في عمره وعافاه إذ علمت أنه مريض الآن- فهو، كما درجت عادة الرعاة، لا يعود بقطيعه من المرعى إلا عند مغيب الشمس.

وهناك ستشرح الأم للعم أبي حميد قصّة (البطل الصغير)، وهي تسمّيه (إبليس) تارة، و(شيطان) تارة أخرى، و(قرد) أحياناً، وهي صفات ظاهرها تعبير عن الاستياء، وباطنها تعبير عن الإعجاب بنشاط ولدها وبحيويته وحبه للمغامرة، وترجوه أن يتفحّص يده. وما كنا نجد أنهم يدفعون للعم أبي حميد مالاً، وإنما هي بضع كلمات تعبّر عن الشكر والتقدير والامتنان، مثل: " أمدّك الله بالصحة وطول العمر"، " ليكن الله معك"، " ليرزقْك الله حجّة مباركة"، " ليحفظ الله أولادك". 

وما كنا نجد العمّ أبا حميد يتذمّر أو يتبرّم.. كان يخلع عباءته بهدوء فيضعها جانبًا، ثم يشرع في لمس مكان الإصابة بلطف، وكم كنا نسرع إلى الصراخ تعبيرًا عن الألم في مثل تلك الحالات! وما كان العم (أبو حميد) يعير اهتمامًا بتلك الصرخات، وإنما كان يمضي جادًا في تحديد نوع الإصابة، ترى أهي خلعٌ أم رضٌّ أم كسرٌ؟! ثم ينهمك في إعداد الجَبِيرة إذا كان كسراً.

كان ُيخرج موساه الحادّة من جيبه، ويقوم أولاً بتشذيب عيدان خشبية صغيرة مستطيلة، ثم يكشط قطعة الصابون، فيجعلها شرائح رقيقة، ويضيف إليها سائل البيض، ويخلط قشر الصابون وسائل البيض جيداً، ثم يمدّد ذاك الخليط على قطعة قماش، ويضع عيدان الخشب المشذّبة حول المنطقة المصابة بعد القيام بالجبر، ويلفّ قطعة القماش بأناة وعناية حول العيدان، ثم يشدّ اليد المجبرة إلى العنق بمنديل كبير، ويحدّد الفترة التي ينبغي مراجعته فيها للنظر ثانية، وفك الجبيرة إذا تبيّن أن اليد عادت كما كانت.. وخلال إجراء تلك العملية الطبية ما كانت الابتسامة تفارق وجه العم أبي حميد، وما كانت (عيادته) البسيطة تخلو من الدعابات اللطيفة.

شتّان بين وداعة العم أبي حميد وجهامة وجوه بعض أطبّائنا المعاصرين!

5 – غزوات مباحة!

 وما المشكلة إذا سطونا عند الظهيرة على ثمار التفاح اليانعة في بستان العمّ (علي مراد) ؟! كان العم علي مراد قريباً جداً إلى قلوبنا نحن الصبية، كانت الابتسامة الطيبة تنداح دائماً على ملامح وجهه، وكثيراً ما كان يداعبنا ببراءة إذا التقيناه، ويسرع إلى إنقاذنا من غضبة الآباء حينما كانوا يهمّون بضربنا، عقاباً لنا على الإيغال في عصيانهم، وإهمال بعض المهام الموكولة إلينا.

بلى.. كان العم علي مراد قريباً إلى قلوبنا، لكن التفاحات اليانعة كانت تتغلّب على خجلنا وخوفنا، وتدعونا إلى السطو عليها حينما كان يخلد إلى الراحة وقت الظهيرة، فنعود بالغنيمة حيناً، ويفاجئنا العم علي أحياناً، فيصرخ من بعيد مهدّداً: "لاوْ.. لاوْ ! ماذا تفعلون؟! ".. إنه كان يعلم ما نفعل.. فكان يتوجّه نحونا وهو يعرج ويتوكّأ على عكّازته، فينبّه بعضنا بعضاً، ونسرع إلى الفرار كالبرق ونحن نتضاحك ونتدافع، ويُحمّل كل منا الآخر المسؤولية عن فشل (الغزوة).

كنا نبتعد عن العم علي.. فنجتمع تحت شجرة.

ونعقد جلسة مغلقة.. ونخطط لغزوة جديدة.

6 –  حدود عالمنا!

كان لنا حينذاك عالمنا الخاص وتاريخنا الخاص.

أما عالمنا فكانت حدوده بيادر القرية وحقولها في السهول الغربية ومراعيها وكهوفها في الجبال الشرقية، وضفاف نهر عفرين، وجوانب بحيرة (عين دارا).. عالم كنا نتواصل فيه مع أهالينا بكل ما كانوا يتميّزون به من حنان وحَدَب، وبكل ما كانوا يقاسونه من كدح وبؤس، وبكل ما كانوا يعيشونه من جهل وضيق أفق، نتيجة الظروف التاريخية التي كانت تحيط بهم.

عالم كنا نتواصل فيه بحميمية، وأحياناً قليلة بعدوانية - ومن حيث لا ندري- مع شركائنا الآخرين، أقصد الحيوانات الأهلية والوحشية، والأطيار والأشجار والحجارة، والشمس والقمر والنجوم، والنسائم والرياح والعواصف، والبروق والرعود والأمطار والثلوج والسيول.

وأما تاريخنا فكان يتوزّع على مدار العام بين ارتياد غرفة (الكُتّاب) مرغمين، لتلاوة القرآن الكريم، وتعلّم أصول الحساب، وتجنّب لسعات تلك العصا الطويلة، وبين مساعدة الأهل في الحقول في حدود طاقاتنا، ورعي الأبقار والخراف، والانصراف إلى اللعب البريء.

7 – كوميديا الدبّ!

كانت مناسبات الأعراس أجمل أزمنتنا وأعذبها.. كانت حفلات الأعراس تقام في الهواء الطلق.. كنا نتوجّه إلى البيوت لنغتسل من الأتربة والأوحال، ثم نرتدي ثيابنا الجديدة على قلّتها، ثم نندفع إلى الساحة الخاصة بالأعراس.. هناك كنا نملأ الأجواء صخباً وحركة.. جرياً وقفزاً حول حلقة العرس، ووثباً من فوق النيران المشبوبة ليلاً في ساحة العرس.

على أن أكثر اللحظات إثارة لنا نحن الصبية كانت تمثيلية (القَشْمَر)..

في العادة كان العرس ينتهي مع ظهيرة يوم الخميس، وقبيل ذلك بساعات كان بعض الشباب يجتمعون في أحد البيوت سراً، كانوا يرتدون ألبسة هزلية شبيهة بما يرتديه الناس اليوم في الحفلات التنكّرية.. كان أحدهم يمثل دور الدب، ويسمّى بالكردية (هُرْچ)، فيرتدي فروة مقلوبة بحيث يكون الصوف إلى الخارج، ويضع على رأسه قُبّعة من الجلد غريبة، ويكون (المخرج) قد دهن وجهه بالسُّخام (سواد أسفل القدر)، فيبدو مخيف المنظر.. وشاب آخر كان يرتدي ثياب فتاة، فيبدو كأنه فتاة حقيقية، وشاب ثالث كان يردي ثياباً أنيقة، ويتسلّح بخنجر في حزامه، وبعصا غليظة.. إنه حامي الفتاة من الخطف.

كان الفريق التمثيلي يدخل ساحة العرس مصحوباً بجمهور من الشباب، كانت الحلقة تتوقّف عن الرقص.. ها هنا على الطبال والزامر أن يبدآ بألحان خاصة بالتمثيلية.. في البداية تظهر الفتاة وهي تمشي في الساحة بصحبة حاميها.. يغير عليها الدب فجأة من أحد جوانب الساحة، يأخذها من يدها، يشدّها.. الحامي يجعل نفسه مشغولاً بشيء ما.. الفتاة تتمنّع.. الدب يشدّها بقوّة وهو يزمجر.. الفتاة تزداد تمنّعاً.. الدبّ يجرّها.. الفتاة تستغيث.. ينتبه الحامي فيتوجّه نحو الدب بعصاه.. الدب يحاول حمل الفتاة وخطفها.. الفتاة تصرخ (هاوار!.. هاوار= الغوث!.. الغوث!).. يستل الحامي خنجره.. يهاجم الدبّ.. يلوذ الدب بالفرار.. وتنجو الفتاة.

يختفي الدب برهة قصيرة.. تطمئن الفتاة، تواصل الرحلة.. ينشغل الحامي ببعض الأمور.. الفتاة تبتعد.. ينتهز الدب الفرصة، فينقض عليها.. يحملها ويهرب بها.. الفتاة في وضع مأسوي.. ينشب الصراع من جديد بين الدب والحامي. في الغالب كان الحامي هو المنتصر.. ونادراً ما كان الدب يفوز بالفتاة.

كنا نحن الصبية ننسى أنفسنا، فلا نميّز بدقة بين التمثيلية والواقع.. كنا نصرخ منبّهين الفتاة إلى الخطر.. ونصرخ في الدب مهدّدين.. ونهيب بالحامي إلى الدفاع.. في حين كان الكبار رجالاً ونساء يستغرقون في الضحك.

ذلك كان عالمنا.. وذاك كان تاريخنا.  

ولم نكن نشكّ حينذاك أننا نعيش داخل العالم.

لكن علمت فيما بعد كم كنا نعيش خارج التاريخ!

           (وإلى اللقاء في الحلقة الرابعة).

                            10- 1- 2004                             الدكتور أحمد الخليل

  

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم!

(الحلقة الثانية)

 طريق نحو الشمال!

1- أمهات عظيمات.

للخريف في قرانا الجبلية لون خاص وطعم متميّز..

كانت والدتي صباح ذلك اليوم الخريفي على عجلة من أمرها.. وكعادتها رشّت قبضة من حبات السمسم الذهبية على ما تبقّى من العجين، وقسّمته إلى قطع أكبر من تلك التي كانت تعدّها للأرغفة العادية، ثمّ مرّرت عليها تلك العصا الأسطوانية الرشيقة المعروفة في الكردية باسم ( تِيرْ )، فانداحت القطع واحدة تلو الأخرى وتوسّعت، ثمّ ألصقتها الوالدة بالصفيحة الحديدية المحدّبة المحمّاة على النار (سَيْل= صاج)، وهي تعلم مدى حرصنا- نحن الصبية- على التهام ذلك الخبز السُّمسمي المقمّر كل صباح.

ثم هبّت مسرعة لمباشرة مهامها الأخرى.

عندما أستعرض تفاصيل حياتنا حينذاك أدرك كم كانت أمهاتنا عظيمات!

كان على والدتي ذاك الصباح أن تعدّ لنا طعام الفطور من ناحية، وتعدّني للتوجّه إلى (عفرين) من ناحية أخرى، كما لا ينبغي لها، بأيّ حال من الأحوال، أن تتخلّف عن جاراتها في حملة الاحتطاب.. كانت تلك الحملة تتفاقم وتصل إلى الذروة في الخريف.. إن حزم شوك (البلاّن) الضخمة التي نقلتها النساء على ظهورهن – بلى.. على ظهورهن- من الجبل غير كافية، فشوك البلاّن يشتعل بسرعة وينطفئ بسرعة، وكم من مرّة سمعت الشيوخ والعجائز يشبّهون الإنسان السريع الغضب والسريع الرضا بنار شوك (البلاّن)!

لم يكن ثمة مجال إلى التقاعس في ريفنا.

المرأة التي كانت تتقاعس عن استكمال حاجيات بيتها كانت تبدو أقل شأناً.. كانت النسوة يستهجنون تقاعسها.. وهكذا فلا بدّ من استكمال حملة الاحتطاب، تارة بجمع عيدان الذرة، وأخرى بجمع عيدان نبات القطن، وثالثة بالتوجّه زرافات إلى ضفاف (نهر عفرين) لجمع أغصان شجيرات (اللُّول) و(الكَز) وغيرهما.

2- حكمة عجوز.

في ذلك الصباح كان على الخال (شكري) أن ينتظرني بعض الوقت، لأقذف بضع لقيمات في جوفي، ولأرتدي دشداشتي، وأنتعل (التاسومة) التي أسمّيها حذاءً من باب التلطيف.. وكم فوجئت بدهشة خالي وهو يتساءل مبتسماً:

ـ " أبهذه الهيئة تريد الذهاب إلى المدرسة يا أحمد "؟!

 ثم التفت إلى والدتي قائلاً:

" يا أم أحمد! أين بنطاله؟! أين حذاؤه؟! " .

كان الخال يقصد بالحذاء ما كنا نسميه بـ (القُنْدَرَة)!

ما كانت والدتي تعرف شيئاً عن هذه الأمور، أقصد المظهر الذي تتطلّبه مسألة الالتحاق بالمدرسة، وما كانت تحبّ هذه التعقيدات.. أما أنا فقد أحببت والله هذه (التعقيدات!).. ولِم لا؟! فلكم تحرّقت شوقًا إلى انتعال (القندرة)!..

تذكّرت ما سمعته من العطّار المتجوّل (عبد الجليل).. قال: ذات مرة زار شاب امرأة عجوزًا في إحدى قرى (جبل سمعان).. كان يبتغي خطبة ابنتها، وكان قد ارتدى أجمل ثيابه، وانتعل (قندرة) فاخرة، فأعرضت عنه العجوز قائلة له: " يا بنيّ! بِدْنا طنجرة تُبَقبِق، ما بِدْنا قندرة تُزقزق! ". وهي تقصد أنها تريد لابنتها زوجاً يهتم بتأمين ضروريات الحياة، وليس زوجاً ينشغل بالكماليات والأمور الثانوية.

لكن ما لي وللعجوز والطنجرة والبقبقة! فالمهم الآن هو (القندرة)!.. ثم كيف آخذ برأي تلك العجوز وأنا أرى الدكتور (حسن أفندي) يزور مختار القرية قادمًا من عفرين، وهو يرتدي البنطال وينتعل (القندرة)؟! وكذلك كنت أرى الحاكم الذي كان يأتي إلى القرية لحلّ الإشكالات المعقّدة، وأرى جابي الضرائب يفعل الشيء نفسه! فهل تلك العجوز أعقل من كل هؤلاء؟!

لم يكن الوالد في المنزل حينذاك.. فانتهزت ملاحظات الخال الساخرة، ورحت أنهمر على الوالدة بالاحتجاج تلو الاحتجاج، وطوّرت الأمر أكثر، فشرعت أعصر عينيّ كمن يهمّ بالبكاء.. غير أن تلك المحاولات ذهبت أدراج الرياح.. واكتفيت مرغمًا بالوعود التي أنعمت بها الوالدة عليّ.

وسرعان ما انطلقت مع الخال.

3- لوحات خريفية.

النساء يتقاطرن من الطرق المتعرّجة مسرعات.

إنهن يتّجهن بقواديسهن الفارغة إلى (النبع) ليملأنها ماء.

أخريات وضعن القواديس المليئة على رؤوسهن، وتوجّهن إلى البيوت.

جارنا (عبد الله) يصفّر لحصانيه، ليرتويا من الماء قبل التوجّه إلى الحراثة.

 الإسكافي (أبو فارس) الذي كان يقدم كل عام من قرية (نُبُّل) [هي الآن مركز ناحية] قد حطّ رحاله إلى جانب جذع شجرة التوت الكبيرة قرب النبع.. إنه جالس على كرسيّه العتيقة المكسوّة بجلد خروف أبيض.. الأحذية القديمة منثورة أمامه.. أحذية رجال ونساء وصبية.. وها هو ذا قد انكبّ على حذاء قديم، يخيطه تارة، ويدقّ فيه المسامير تارة أخرى.. إلى جانبه عجوز وخّطه الشيب.. يتحادثان بمودّة.. يضحكان.. ولا ينسى (أبو فارس) بين حين وآخر أن يمرّر قطعة الشمع الأصفر على خيوطه المتينة، فتصبح أكثر متانة.. كان الجميع يحرص على الإتقان. 

بائع العنب القادم من القرى الجبلية الغربية في (ناحية راجو) قد وصل إلى القرية قبيل إطلالة الشمس من خلف الجبل.. إنه وضع صندوقيه تحت شجرة التوت الكبيرة نفسها.. شجرة التوت هي مركز القرية.. أظهر البائع بعض العناقيد الذهبية والخمرية اللون.. الحبّات غضّة بضّة.. انتصب البائع بقامته الفارعة، وسوّى قلنسوته البنيّة على رأسه، وراح ينادي بصوت جهوري:

ـ " تعالوا على العنب.. ها! بالنقود .. ها! بالحنطة.. ها! بالشعير..ها "!.

ما زلت أتذكّر إلى الآن جمال عناقيد العنب الخريفي ولذّته.. يُقبل أهل القرية على شراء العنب.. يقايضونه بالقمح وبالشعير.. النقود في جيوب الناس قليلة.. كنا في نهايات عصر المقايضة.. بائع العنب جذلان.. لن يتأخر في العودة إلى قريته.. سيأتي بعد أيام قليلة بحمل آخر. 

حماره الضخم ينصرف عن كيس العَلِيق.. يحرّك ذيله بعصبية.. يدفع بأذنيه الطويلتين إلى الأمام.. ينخرط في نهيق مديد البدايات متموّج النهايات.. إنه يردّ تحية الصباح بحماس على حمار آخر ينهق من أطراف القرية.. الحمير أيضاً تتعارف وتبني الصداقات.

جارنا العم (علي مراد) منشغل بفتح فوّهة بركة النبع، وتوجيه المياه إلى بستان الرمّان والمشمش.. إنه لا ينسى في الوقت نفسه أن يعبّ أنفاسًا عميقة من سيجارته الغليظة.. وينأى بسرواله عن رشقات الماء الملوّث بالطين.. زوجته العمة (زكية) مشهورة بحرصها على النظافة.

طفل يملأ الجو زعيقًا..

يتفلّت من بين يدي أخته الصغيرة..

يندفع في الطريق باكيًا حافي القدمين..

يريد اللحاق بأمه الذاهبة إلى الحقل.

ديك زاهي الريش تحيط به رعيّته من الدجاجات والفراخ.

ينبش التراب برجليه..

يصفّق بجناحيه..

      يمدّ عنقه إلى أمام..

     ينخرط في صيحة فخورة مديدة.

غجريّتان نحيفتان ترتديان ثياباً فضفاضة.. إنها ثياب ذات خطوط سود وصفر.. إنهما تتحدّثان بلغة غريبة.. تمرّان قرب النبع بسرعة.. تدلفان إلى بيت الجدة (مدينة).. تبيعان إبراً وخيوطاً، وحبّاسات شعر، وخواتم، وعلكة طبيعية.. تقايضان كل ذلك بالطحين والزيت.. النقود في جيوب الناس قليلة.. كنا – كما سبق القول- في نهايات عصر المقايضة.. الناس لم يفقدوا كرامتهم.. المقايضة خير من التسوّل!

صبيّ يجري بحدّة خلف نعجة تخلّفت عن القطيع.

عجوز تحلب بقرة..

شيخ يسعل..

لم أكن منشغلاً بهذا المشهد القروي..

كان مشهداً مألوفاً.

كان الخال (شكري) سريع المشي.

     وعليّ أن أتّجه معه شمالاً.. نحو (عفرين).

                 (وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة)   

                          8 – 12- 2003                               الدكتور أحمد الخليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

عفرين .. بوّابتي إلى العالم!

(الحلقة الأولى)

 القارة الجديدة.. والخبر المدهش

ليس هذا العنوان ضربًا من المبالغة.

وليس القصد منه هو الإثارة والتهويل.  

وإنما هو يجسّد الحقيقة بكل نصاعتها ونقائها وصدقها.

وحين أرجع بالذاكرة إلى ما قبل التاسعة من عمري لا أذكر أشياء كثيرة عن مدينة (عِفْرين)، وكأنما كانت تقع في قارة أخرى، رغم أن قريتي (قرزيحل) لا تبعد عنها سوى مسافة خمسة كيلو مترات فقط.

بلى، لا أذكر عن (عفرين) تلك الأيام إلا أمورًا ثلاثة:

·            كسوة الثياب الجديدة التي كان الأهل يشترونها لنا.

·            أنواع السكاكر والحلوى التي كانوا يتحفوننا بها.. وكم كنا نجدها لذيذة!

·    دويّ المدفع (الطوب) الذي كنا نبتهج لسماعه، كان دويّه الراعد إيذاناً ببدء شهر رمضان، وبشرى بقدوم عيدي الفطر والأضحى.. كان ذلك الدويّ يدخل الفرحة إلى حياتنا نحن الأطفال والصبية.. إنه كان يعني – من جملة ما يعني- ثيابًا جديدة، وكثيرًا من الكعك والشراب والحلوى، ومزيدًا من اللعب والأراجيح، وكثيراً من حلقات الدبكة على الأنغام الشجية لمزمار الراعي العم (عبدو) رحمه الله، وعلى دقات طبل العم (جابر) رحمه الله.

أما علاقتي المباشرة بمدينة (عفرين) فبدأت في خريف سنة (1954م)، حينما بلغت التاسعة من عمري، وصدّقوني أن تلك العلاقة كانت – بالنسبة لي- شبيهة باكتشاف كولومبس قارة أمريكا.. أذكر أن والدتي- رحمها الله- أعدّت مساء ذات يوم خريفي من تلك السنة دشداشتي (ثوب واحد طويل) الجديدة، واعتنت بتنظيف حذائي (التاسومة)، ثم أخبرني والدي – رحمه الله - أن عليّ صباح الغد الذهاب مع خالي (شكري) إلى عفرين، لأسجّل اسمي في المدرسة الابتدائية.

يا الله!.. كم كان وقع ذاك الخبر عليّ مدهشًا!

شعرت حينذاك بمزيج غريب من الفرح والخوف معًا!

أما الفرح فبالانتقال من القارة القديمة (قرزيحل) إلى القارة الجديدة (عفرين).. الفرح بالخلاص من لسعات عصا شيخ الكُتّاب الطويلة (كان والدي رحمه الله يقوم بالتعليم في الكُتّاب أحيانًا)، وبارتداء البنطال بدل الدشداشة، وبانتعال الحذاء بدل (التاسومة).. الفرح بمقاربة أكياس الكعك الشهي، ورؤية علب السكاكر الملوّنة المعروضة في الحوانيت، وكم كنت في شوق إلى رؤية ذاك المدفع (الطوب) الذي كثيرًا ما كنا نطرب لسماع هديره، ونجهل شكله وكيفية عمله!

وأما الخوف فكان من الحياة الجديدة التي ما كنت أعرف لونها ولا طعمها ولا إيقاعها، ومن البيئة الجديدة التي كنت أجهل مداخلها ومخارجها، ومن الأساتذة الذين كنت أسمع عنهم أخبارًا جعلتني أتصوّرهم على نحو غير مريح.

لقد علمت من الجيل الذي سبقنا إلى الدراسة في عفرين – ومنهم الخال شكري - أن معظم الأساتذة من أبناء المدن (حلب وغيرها).. لهم هندام مرتّب، وشعور مصقولة، وبعضهم يضع نظارات أنيقة.. لكنهم نادراً ما يبتسمون، وكثيراً ما تبدو ملامحهم متجهّمة، ويحملون على الدوام عصيّاً لسعاتها لا ترحم، ثم إنهم يسرعون إلى الغضب، ويتفنّنون في السخرية منا- نحن أولاد الفلاحين - ويكثرون من العقاب، ويقتّرون في الثوب.

وعلى أية حال.. لم يكن ثمة مفر من تنفيذ أوامر الوالد.

وكان لا بد من أن أرمي بنفسي في ذلك العالم الجديد المفرح المخيف.

وفي صباح اليوم التالي أقبل عليّ الخال (شكري) بابتسامته المعهودة، قائلاً:

هيا بنا إلى عفرين يا أحمد!..

    (وإلى اللقاء في الحلقة الثانية).

                             24-11- 2003                                الدكتور أحمد الخليل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدكتور أحمد الخليل في سطور:

اسمه الكامل (أحمد محمود شَمُّو الخليل)، ولد سنة (1945) في قرية قرزيحل - منطقة عفرين – محافظة حلب- سوريا. حصل على درجة الإجازة في اللغة العربية، وعمل مدرّساً في التربية والتعليم، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد، وعمل محاضراً  في جامعة حلب، وبعدئذ في جامعة الإمارات العربية المتحدة، نُشر له عدد من المقالات الأدبية والنقدية والتاريخية في المجلات المتخصصة وغيرها. من مؤلفاته:

1 - ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي

2 - في النقد الجمالي.

3 - فلسفة الجمال وجغرافيا الذات.

4ـ الشعر الجاهلي (قراءة في سيكولوجية القلق والقيم والميثولوجيا)، طبعة أولى، 2005.

5ـ الميثولوجيا والهوية في شعر الهنود الحمر(ترجمة ودراسة)، طبعة أولى، 2005.

 

 

(إعداد التعريف :  تيريج عفرين )