الفن والثقافة والتراث هوية الشعوب ... فلنحافظ على تراثنا الفلكلوري الكردي ..... لمتابعة آغاني الملاحم الكردية والتراثية اضغط هنا  ::::   أحبتي زوار موقع تيريج عفرين ..... قريباً سيعود الموقع إلى نشاطه السابق . ::::   آخر لقطات بعدسة تيريج عفرين .... شاهد الصور  ::::    شاهد الآن كليب تيريجن عفرين 4.... تيريج روج آفا - الجزء الرابع  ::::    الوديان في منطقة عفرين ... اقرأ المزيد  ::::    سياحة من تراثنا الشعبي ..... المضافات في منطقة عفرين ودورها الاجتماعي  ::::   أهلا بكم في موقع تيريج عفرين ....... Hûn bi xêr hatin :::: 
EN
Wed - 24 / Apr / 2024 - 18:16 pm
 
 
http://www.tirejafrin.com/site/m-kamel.htm
الزاوية الأدبية »
دمعة من خريف آمد

كانت الشرفات المطلة على الساحة الكبيرة بجانب الجامع الكبير وسط مدينة " آمد " مكتظة بالناس . والأزقة الضيقة تمتلئ بمن أتوا يشهدون آخر ليلة من ليالي هذه المدينة . وخلف أحد الأعمدة الاسطوانية المهترئة في فناء إحدى الدور المطلة على الساحة  كانت يد طفل ترتعش بشدة , كان يقبض على حصاة حوارية بيضاء , يتردد في كتابة بعض الأحرف على الجدار المواجه للساحة , وكانت " آمد " حينذاك تستقبل ليلتها الموحشة بأضواء الأسرجة والمصابيح العتيقة تمتد فيها ألسنة النار كألسنة الأفاعي ,تحاول أن تبعث النور إلى فضاء الساحة , بينما باقي أطراف المدينة تتمزق في الظلام , ولعلها أنست بعض الشيء إلى هذا الظلام إذ لمحت فيه ما يستر من معاني ذلك التمزق .

وفي إحدى الزوايا الموحشة كانت مجموعة من النسوة يرقبن المشاهد التي تحدث وسط الساحة برقة قلب , ودموعهن تسيل فوق خدودهن التي لسعتها النسمات الباردة التي كانت تتسلل إلى أجساد الناس وتأبى إلا أن تترك أثرها في كل وجه . وسُمع إذ ذاك نشيجٌ وعويلٌ آتٍ من جهة النسوة , وراقب الناس حال المرأة التي خرجت عن طورها فراحت تلقي السباب على الجنود الأتراك بلغتها الكردية , وبعض رفيقاتها تحاولن أن تهدئن من روعها , بل وتسكتنها عما تند به شفتاها .

ـ كفى يا كلستان ...لا تلقي بنفسك إلى التهلكة .... هذا أمر قدره الله وما شاء فعل .

لكن امرأة أخرى تشجعت وقالت بصوت جهوري :

ـ نشكو بثنا وحزننا إلى الواحد الأحد .

وقالت أخرى : اللهم أرنا فيهم يوماً أسودا .

ولو تجولنا بين هؤلاء الناس الذين قدموا من كل حدب وصوب  وتجمهروا في هذه الساحة, لرأينا أن حالهم لا يختلف كثيراً عن حال كلستان ورفيقاتها , فقد كانوا يتحرقون غيظاً وحنقا , والأسى يمزق قلوبهم والخطب الجلل يخطف عقولهم ...غير أنهم كانوا بلا حول ولا قوة ...إلا ذلك الطفل الذي كان يراقب ما يحدث من خلف العمود , فقد كان يحاول أن يفعل شيئاً , ربما أن يكتب بحصاته أحرفاً على الجدار الهرم , علَّها تبقى بعد تداول الأيام .

كانت " آمد " في تلك الليلة تبدو كقبر كبير يستعد لأن يضم بين جنبيه أبطالاً حاولوا جاهدين أن يمزقوا ستار الظلام ويحطموا قيود العبودية ويلقنوا الأجيال بعض مقومات الوجود ويكشفوا الستار عن الطورانية الشرسة .

سكونٌ عجيبٌ يسود سماء المدينة , غابت نجومها أو تكاد , وما بقي منها كأنها مصابيح مأتمٍ فظيع , نسماتٌ باردةٌ تتسلل عبر الجدران المضعضعة , تتخلل صفوف الجندرمة التي وقفت تحرس المكان , تقبل بشغف وجوه المكبلين بقيود الظلم .

أحسَّ ذلك الطفل أيضاً بتلك النسمة التي أيقظته من غفوته, فانتبه إلى ما خطه على الجدار فإذا به قد كتب : " سعيد بيران " .

"ياإلهي ..." سرت في عروقه رعشة, رمق حبل المشنقة , وجده ملتفاً حول عنق أحدهم , داهمه هاجس مخيف , إن حبل المشنقة يقترب من عنقه , أخذته الحيرة والارتباك , ولم يسعفه عقله الصغير ماذا يصنع , وانطلقت يده المرتعشة دون إدراك تمحو بجهد ما خطته على الجدار , فلما اطمأن إلى غياب الأثر شعر بالاطمئنان لبرهة , ثم ما لبث أن عاد إليه الوجوم حين ألقى النظر إلى وسط الساحة , وحاول أن يميز الشيخ البطل من بين المكبلين  , فوجد رجلاً طويل  القامة نحيل الجسد , لفحت الشمس وجهه , شدَّ حول جسده عباءةً مهترئة ووضع فوق رأسه كوفيةً مغبرة , والبنادق الشرسة تحرسه في حذر .

كان ذلك الرجل هو الشيخ سعيد بيران بعينه , كان ينظر بعينيه الثاقبتين إلى تلك الجموع المحتشدة عند أطراف الساحة , فتنحدر من عينيه دمعتان تسيلان فوق خدوده المجعدة , ويقول في نفسه متألماً " ترى هل أنرت لهم الطريق  ؟ "  , كان يتمنى لو يبقى حياً فيزرع في رأس الكردي بذور الثورة ,ويقنعه وأن الآخرين لن ينفعوه في شيء , فيقلب ثورته للكرد ثورة عليهم . وهزَّ رأسه بكثير من الأسى فالطعنة التي تأتيك من ابن أمك أشد ألماً وأبلغ جرحاً من تلك التي تأتيك من غريب . وتمنى بعدها أن  يكون هو تلك الشعلة التي ستضاء في هذه  الليلة لتنير للأجيال القادمة , ومهما يكن فإن الطفل الواقف هناك سوف يتخلص من الخوف الذي يمزق أحشاءه وسوف يخطُّ نفس الاسم على ذلك الجدار .

توجه الشيخ سعيد في تلك الأثناء إلى رئيس محكمة الاستقلال وقال له :

ـ " أتمنى لكم الخير , ولكن سوف نصفي الحساب يوم القيامة " .

لكن رئيس المحكمة لم يشعر بثقل هذا الكلام , ولا بالرعب الكامن في معناه , بل كان ينظر إلى الشيخ كميت حي أو كحي ميت , لا يلبث أن ينتهي إلى الأبد , وتنتهي معه كل معاني الخوف التي كان يشعر بها في الأيام الماضية , ولو كان الأمر على غير هذه الحال لحسب للشيخ ألف حساب , ومَنْ مِنَ الأتراك لم يحسب للشيخ ألف حساب , ومن منهم لم يسهر الليل الدجوجي ليتآمر على خطورة معاني القوة التي تضاء في أدمغة أولئك المشايخ .

وظل رئيس المحكمة يعالج في نفسه ما يقصده الشيخ من قوله : " يوم القيامة ",  وربماينتظر أن يسعفه الشيخ بالتوضيح , غير أن الشيخ تركه وتوجه مرفوع الرأس إلى القائد العسكري الذي كان منتشياً بانتصاره , يمني نفسه بالليالي الحمراء التي تنتظره ويتلهف شوقاً إليها , إذ مُنع منها طيلة أيام الثورة , وتراه الآن قد نفد صبره ولا يريد إلا أن ينفذ حكم الإعدام في هؤلاء المكتوفين الذين يتجاوز عددهم الأربعين رجلاً من بينهم تسعة شيوخ .

قال الشيخ سعيد للقائد العسكري :

ـ " تقدم أيها الجنرال وقل لعدوك إلى اللقاء " .

تقدم أيها الجنرال وأسدل الستار فوق الأيام الشاقة التي أمضيتها في مواجهة الأبطال  , وعد إلى همجيتك وحيوانيتك , واترك لنفسك العنان للهو مع القين الكواعب في الجنان , أعلن الليلة بداية الفلتان , ولا تنس أن لهوك هذا لن يدوم .

رأى الناس في تلك الليلة هدوء القائد العسكري أمام الشيخ , ورأوا وجوم رئيس المحكمة , كما رأوا الشيخ البطل يقف بهدوء بين جنديين تركيين يلفان حبل المشنقة حول عنقه , مسيطراً على لواعج نفسه ...لا يرى بعيونه التي في رأسه بل يرى بأعين أخرى ملايين الشيوخ هبوا من كل حدب وصوب يحطمون قواعد الظلم وأركان المشنقة , ويرى شبان الوطن الموعود يتكلمون الكردية بطلاقة وجرأة بعد أن كانت محرمة عليهم , ويتأبطون أسلحتهم مرتدين الزيَّ العسكري في جيش لَجِبٍ يثير الغبار كالغمام ,  ويرى الأطفال يمسكون بأقلامهم الصغيرة يخطون على دفاترهم ويقولون لأهليهم مبتهجين : " لقد قرأنا في المدرسة بالكردية !! "   ويرى الأقلام التي ستقبل وجوه الصفحات تكتب قصته للأجيال .

كان الشيخ سعيد حينذاك يرى أبعد مما يراه هؤلاء الناس من حوله , وتراه الآن يلتفت إلى الناس الذين بدأوا يُخفون وجوههم خلف أكفهم , يريد أن يشير إليهم أن لا استسلام ولا خنوع , بل نضالٌ حتى الموت .

لحظات كانت ثقيلة الوطأة على القلوب الرقيقة , حاولت النسوة أن يلفتن وجوه أطفالهن عن المشهد الجلل غير أن فضول الأطفال كان أقوى ورغبتهم في معرفة الدنيا كانت جامحة , ولم يستطع أحد من الرجال أو النساء أو حتى الأطفال  أن يغمض عيونه عن الشعلة التي توهجت حين أزاح الجندي التركي الكرسي الخشبي من تحت أرجل الشيخ  .

في هذه الليلة طغى قانون واحد على كل القوانين في أرض " آمد وأرضروم وخنس وبالو وبيران " وداس عليها كما يدوس النمل َ فيل ٌ هائج , لا هو يشعر بالنمل ولا النمل يجد فرصة للنجاة , ولايزال يدوسها حتى يسحقها ويغيبها في طبقات الأرض . وانقلب الوجود إلى ساحة واحدة تمتلئ بالدماء مع إسفار الصبح وزُلف الليل , تستقبل ضوء الشمس ببريق يسطع من دماءٍ تسيل من جراح جثةٍ تفترش تراباً ندياً يشع نوراً , وتستقبل الليل البهيم بدموع امرأةٍ فقدت أسباب العيش ومطامح البقاء وفلذات الكبد . يوم تحول كل شيء إلى ضده إذْ تحولت العمامة إلى قبعة , فأسفرت القبعة من الرأس ما أسفرت  الأيام من الأحقاد , وصارت القبعة ناموساً من نواميس الكون بينما تطايرت العمامات مع الرياح الهوج القادمة مع أتاتورك , وتطايرت معها بقايا الحنان الشرقي والرفق الشرقي والأخوة الشرقية , وسرعان ما تطاير معها الشرق بأسره ليظل متطايراً أبد الدهر لا يجد له من قرار . وصار وجهٌ للطبيعة غير وجهها الطبيعي حين ازدانت بحلة الدم وتبهرجت ببريقه , وقد كانت تزدان بضحكات الطفولة وحنان الأمومة وتتبهرج ببريق العمامة تنير ممرات الحياة , وصارت لها أنغامٌ شجية ترددها حناجر الأيامى واليتامى وقد كانت ترددها أبلغ البلابل لحناً وأعذبها صوتاً, وحين صارت اللحى التي وَخَطَها الشيب كالأعشاب تفرش أعالي الجبال ودروب القرى  وأزقة المدن . ومع أولى صرخات البنادق والمدافع قررت السماء أن تمسك عن هدير الرعود ووميض البروق وهطل المطر , وقرر القمر في حجرته السماوية أن لايبعث جمال نوره إلى الأرض إلا ما ينعكس من دمعة براقة في أهداب امرأة فاقته جمالاً .

ماذا حصل يا آرارات ويا ديرسم ويا شرف الدين و يا آغري .....؟

لماذا يقلق الأموات في ظلمات قبورهم ويرتعدون ارتعادة من لم يذقْ طعم الموت ؟

لماذا ترتعش الجمادات كأن بها روحاً تخشى فراقه , وتبقى قلوبٌ بشريةٌ جامدةً لا تهتز لبكاء اليتامى وأنينهم ؟

يا للموازين كيف انقلبت ! , ويا للقوانين كيف تكمشت وتقلصت لتظهر في قانون واحد ! ويا للأيام كيف تبدلت على سفوح آرارات فأمسى بها العربيد حاملاً للواء الشريعة قادماً بوجه جديدٍ لها , راغباً في تربية جديدة للرؤوس الشرقية , تربية تنمُّ عن سرٍ من أسرار القبعة . أيحكم على هاتيك الجبال أيضاً  أن تلبس القبعة وتخلع عمامتها الأزلية ؟  أتلبس ساحة " آمد " أثواب الزينة وقد شهدت ما شهدت هذه الليلة ؟

أيحكم على هؤلاء البسطاء المحتشدين على أطراف الساحة أن ينسوا هذه اللحظات ما عاشوا ؟

تراجعت كلستان وقد خارت قواها واتكأت على إحدى رفيقاتها وطلبت منها أن تعينها على السير , فقد قصمت الأحداث ظهرها ونالت منها كل منال , وقررت أن تنطلق  مع إشراقه الشمس من الغد قاصدة ًقريتها القابعة في أحضان جبال آرارات , مع كوكبة من رجال القرية ونسائها الذين التجؤوا إلى هذه المدينة بعد أن داهمهم الخطر في كل مكان .

وفي الطريق إلى القرية تذكرت كلستان أن عمها الحاج إبراهيم أحمد ينتظرها على أحرِّ من الجمر ليقيم عليها الحد , وقد أبلغها من قدم من القرية أنه لا يزال يعتبرها آثمة وهو يتحرق غيظاً وحنقاً , و قد أعلن للملأ أنه سوف يقتل ابنة أخيه جزاء جريرتها, ولن يعدل عن عزمه ما دام في جسمه بقيةٌ من روح .

" أتراه على قيد الحياة ؟ " ... هكذا كانت تسأل نفسها ... ألم تأخذه الأحداث ؟ ألم يقعده الكبر فيعجز عن قتلها ؟  فتراه شيخاً قد بلغ من الكبر عتياً , وقد أصابه من الصمم وكلِّ البصر ما إنَّ عدوه ليشفق عليه , فتلقي بنفسها بين يديه تطلب منه الصفح عن أمرٍ لا تعتبره إثماً ولا تجد نفسها مستحقةً لعقاب , ثم داهمها هاجسٌ مخيف  , لقد سمعت بالقرى التي سحقت عن بكرة أبيها , أترى ...  هل طال ذلك قريتها ؟ لكنها أبعدت هذا الهاجس حين تذكرت أن عمها الحاج إبراهيم كان أبعد الناس عن الاتصال بالثورة , وكان يغذي رجال القرية بآرائه ويحاول جهده أن يبعدهم عن كل ما من شأنه أن يجلب وجع الرأس للقرية .

وارتاحت نوعاً ما إلى هذا الرأي , لكنها ظلت تتذكر مرَّ الأيام التي قضتها في القرية , والأيام الأمر التي عاشتها خارجها . وبدأت تشعر بخفوق قلبها وهي تصعد الأكمة حيث تظهر خلفها القرية التي تحتضن كل ذكرياتها وآلامها , ولا تدري ما ستلقاه فيها بعد . فإنها مقدمة على أهم أيام عمرها والتي قد تلقى حتفها دونها , فإنها اليوم غير الأمس , لقد غيرت فيها أحداث الثورة الشيء الكثير , برغم أنها كانت قابعةً بين جدران أربعة تنتظر قدوم زوجها , لقد وعدت زوجها أنها ستعود إلى القرية لتطالب بحقها وتواجه عمها الحاج إبراهيم بأية وسيلة تستطيع إليها سبيلا , وأنها ستفضح جريرته على الملأ وتكشف للناس الذين بهتوها وافتروا عليها أنها لم تكن بغياً , وتكمل لهم من سيرة زوجها ما جهلوا , لقد وعدت زوجها أنها ستكمل الحكاية , وتنقل المأساة للأجيال لكي لا يغفل الأحفاد عن تضحيات الأجداد .

كانت القرية تدعى " كسروان " تحفها بعض حقول الزيتون في أطرافها الجنوبية والشرقية , وتمتد على أطرافها الغربية أراض شبه سهلية غير مخدمة , وفي أفقها الشمالي تشمخ جبال آرارات بعمامتها البيضاء المخددة التي صارعت نائبات الأيام  . كانت جدران القرية الطينية المضعضعة تسجل أحداث التاريخ و نائبات الدهر .

ولو فتحنا سجلها لوجدنا الشيخ مصطفى كالو يأخذ مجلسه بين نفرٍ من رجال القرية في المضافة التي خصصها الحاج إبراهيم لمثل تلك المجالس , والتي كانت تضاء في الليالي المظلمة بنورين , نورٌ مصفر خافت ينبعث من المصباح الموجود فوق الرف الحجري في زاوية المضافة , ونورٌ لا يعرف له لون , يشع من أحاديث الشيخ مصطفى كالو , وترى النورين يتركان أثرهما في نفوس أولئك الرجال المعدودين .

ولطالما حنَّت تلك النفوس إلى مصباح المضافة ,حيث يظل مشتعلاً يبدد ظلام الليل الموحش , ولطالما حنَّت إلى سراج الشيخ يبدد ظلام النفوس المتقوقعة . ولقد تعبت الأيام وكلَّت من وطأة الظلم وجور الفقر , ووجد الرجال ملجأهم في المضافة , يلوذون إليها فارين من نواح امرأة ٍأو أنين طفل ٍجائعٍ أو ظلامٍ موحشٍ لا شعلةَ  تبدده , وكما كان لسراج المضافة  فضلٌ على الناس , فكذلك كانت أوانيها تصف على الخوان مليئة بالطعام كل يوم . ولا نقول إن الحاج إبراهيم كان إقطاعيا أو آغا أو زعيم عشيرة , بل كان من صغار الملاك في ضواحي أرضروم , ومن كبارهم في قرية " كسروان " ,حين كانت الأرض لا تجود بأكثر من لقمة العيش , وكان يبدو أكثر الناس جوداً وطينته جبلت بالشح . رجلٌ في الخمسين أو يزيد , فارع العود, لفحته الشمس ككل الفلاحين , ورسمت الأيام في وجهه أخاديد الشقاء , وقُطِّبت حاجباه من مرارة العيش وكثرة الكد , وبقيت شرارة الحقد تنبعث من نظراته , كما بقي العرج وصمةً طالما كرهها مع أن له بها شرفٌ أي شرف . فما أصابه العرج إلا من رصاصة جنود السلطان ,حين قدموا القرية يجبون الإتاوات , وقد دخلوا إلى البيوت فما وجدوا فيها سوى الأثافي , فأبوا أن يذهبوا خاليي الوفاض حتى بلا خفي حنين , ففرضوا على أهل القرية ضريبةً أرطالاً من القمح ,عندها برز لهم الحاج إبراهيم كالأسد , ووقف قبالة رئيس الجند وقد فقد رباطة جأشه, فراح يصيح :

ـ أيها العصاة لا يجد أطفالنا ما يطعمون , وإن منهم من يموت جوعاً أمام أعيننا فلا نقوى على سد  رمقهم , أتريدون أن نحول لكم التراب قمحاً ؟

لطمه صاحب الجند لطمة جعلته يدور حول نفسه . لكن الدم فار في عروق الحاج إبراهيم وصاح في وجه صاحب الجند :

ـ فلينتقم الله منكم أيها الكلاب .

ووقف الناس حينها مشدوهين , كانت مثل هذه الأحداث تحبس أنفاسهم وترعد قلوبهم وترعش فرائصهم . لقد فهموا السلطان قدراً كالموت لا يرد إذا أتى , وفهموا صاحب الجند سيلاً جامحاً لا يُصد إذا انهال . امتدت البنادق صوب الحاج بينما تراكض الناس ليلتفوا حوله وأسرعت رصاصة لتصيب ساقه قبل أن تضج القرية وتهيج وتميج . وسرعان ما اجتمعت القرية بقضها وقضيضها مسلحين بالعصيِّ والحجارة وعويل النساء وصرخات الأطفال , بينما كانت الأحصنة تبتعد بجنود السلطان عن قرية " كسروان" دون أن يحصلوا على شيء . ومن يومها صار الحاج الأعرج بطل القرية ورمزاً من رموزها التاريخية . أما في هذه الليلة فإن الرجال يسترقون النظر إليه تحت ضوء السراج المصفر حيناً بعد حين , وقد علموا ما أصابه من هم وحزن , وكيف جارت عليه الأيام في الآونة الأخيرة , وربما بدأ هؤلاء الضعفاء يشفقون عليه ويدعون الله أن يأخذه برحمته ويحيطه بلطفه ويهون عليه مصابه .

أجل ... مصابه في أخيه رشيد الذي كان يأخذ مكانه في المجلس واجماً كأن على رأسه الطير, لا ينبس ببنت شفة ,  ولا أحد يجد في نفسه إقداماً على التحدث معه . كان يضع رأسه الأسود على كفه الصلبة ,ويحدق بعينيه في زاوية المضافة كأنه يقابل ما بينها وما بين زاوية قلبه , زاويتها تجمع نور السراج , وزاوية قلبه تجمع ظلام القدر وسوء الطالع . لقد اخبروه آنفاً أن مرضه هو ( الذي لا يسمى ).

وقطع وجومه سعال عنيف لازم الشيخ مصطفى منذ فترة , فجال ببصره في وجوه الرجال يتفحصها كأنه يستغرب من وجودهم في عالمه الذي كان به للتو , وأراد أن يستدرك المجلس ويصطنع ابتسامة مقتولة يرحب بها بضيوفه , لكن الشيخ مصطفى فاجأه حينما قال :

 ـ اسمع يا رشيد : إن الخير كله من عند الله , وإن حكمه ماضٍ فينا و لا اعتراض على حكمه وهو أعلم بنا منا , لا نسأله ردَّ القضاء ولكنا نسأله اللطف فيه , وهذه امرأتك تعالج آلام المخاض فلندعو الله أن تضع حملها بسلام  .

تنحنح الحاج إبراهيم وقال بلهجة ساخرة :

ـ بل ادعوا بأن يكون المولود ذكراً .

قال الشيخ وقد أدرك ما أصاب رشيد من وخز كلام أخيه : ولا تيأسوا من روح الله , ولا تكن يا رشيد ممن قال عنهم الله تعالى " وإذا بُشر أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجههُ مُسوداً وهو كظيم , يتوارى عن القوم من سُوء ما بُشر به , أيُمسكه على هُون أم يدسُّه في التراب , ألا سَاءَ ما يحكمون " . وهنا تمتم رشيد بكثير من الحسرة  " لن أكون منهم إن شاء الله "  .

قال الحاج إبراهيم وهو يهز برأسه ساخراً : لكنك كنت منهم حين ولدت كلستان .

فصمت رشيد ولطالما كان يصمت إذا تكلم أخوه الأكبر , وفهم الشيخ مصطفى ما تركه كلام الحاج إبراهيم من أثر في نفس أخيه , وكانت أصابعه تعبث بحبات السبحة الطويلة , فتوقفت جامدة واختفى ضجيج السبحة وعلقت الأنظار ما بين رشيد والشيخ .

ـ قلتَ كلستان ؟ ... الطفلة التي لم تتجاوز السنتين بعد ؟

فأجاب الحاج مؤكداً : نعم ... كلستان ، أي نعم  .

ـ أعلم أنه كظم غيظه حين ولدت , لكنه بعد أن رأى محياها الباسم وسمع ضحكتها العذبة و رآها تحبو ثم تدرج , نما حبها في صدره وابتهج بها أيما ابتهاج .

وكان الشيخ صادقاً فيما يقول , إذ سرعان ما تحول حنق رشيد وبؤسه إلى فرح وقبول , وما أن فهم ذلك المعنى البعيد الكامن في الذرية , معنى ديمومة الحياة وسلسلة الأجيال حتى وجد فيها قطعة من البركة واليمن تنزلت على بيته , وقطعة من الرحمة الإلهية ملأت فؤاده.

والتفت الشيخ إلى رشيد وأردف قائلاً :

ـ الم يكُ ذلك يا بني ؟

صورٌ كثيرة تعاقبت على مخيلة رشيد , وأحاسيس شتى تقاذفت شعوره ما بين الغيظ والحنق وما بين السكينة والبهجة, ما بين صورة أخيه القاتمة وصورة كلستان المضيئة , تشتتت أفكاره أيضاً , ولم يزد على قوله :

ـ بلى مولانا .

زعيق باب المضافة جذب انتباه الجميع , انتصب رشيد واقفاً في حين ميز الجميع صوت المرأة التي نادته , ولم يغب أكثر من لحظات , عاد والفرحة تملأ وجهه واتجه صوب الشيخ وراح يقبل يديه و يبللهما بدموع الفرحة . وقف الحاج إبراهيم مستغرباً , غاب أيضا يستوضح الأمر , ثم عاد دون أن يجد الناس في وجهه ما يفسر معاني الفرح . أما رشيد فكان يقول للشيخ مصطفى :

ـ رزقني الله ولداً يا شيخ مصطفى .

سبحان الذي يعطي و يمنع , سبحان الذي لا يعلم البشر معاني عطائه ولا أسباب منعه, أهو الدواء لقلب اطلع على ظلمة القبر , أم هي الرقة جاءت تمسح غشاوة الفظاظة عن قلب المسكين ؟ سرعان ما امتلأت المضافة بهجةً , وقام الرجال يهنئون رشيد , بينما كان الشيخ مصطفى يرفع يديه شاكراً الله تعالى على نعمته  .

على مشارف جبال آرارات كانت أحلام الصغار ترفرف بسلام , وفي أعماق هاتيك الجبال كانت البنادق الفتية تنثر بذور الغد . عندما كانت العمائم متوطدة على الرؤوس الشرقية الصافية . وكانت القرية الكردية آنذاك تحتفظ لنفسها بالكثير من معاني الرفعة والإباء , احتفاظ الأم بولدها الذي ترفع به رأسها وتسند به ظهرها في حالكات الليالي . في حين كانت الإمبراطورية العثمانية تهترئ شيئا فشيئا حتى لتبدو وكأنها تلفظ آخر أنفاس العظمة .  وتحدث الشيخ مصطفى كالو عن ذلك فقال :" اعلموا أيها الناس أنه ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" . لقد طوى الدهر من أيام المجد  أكثرها , وها نحن نخلع النعلين أمام أيام سود لا ندري ما أخفي فيها من شر . لقد استكانت النفوس للظلام حتى نسيت معاني النور , واستراحت للعبودية ورضيت بها حتى نسيت معاني الحرية , فهذه النفوس وإن سطعت عليها أنوار الحرية انكمشت انكماش الخفاش داهمه النور , وحنَّت إلى عهود الظلام حنينَ السمكة أُخرجت من بحرها " . هكذا كان الشيخ يبدأ حديثه لرجال القرية , وقد كان التهكم طبعاً من طبائعه , والسخرية ممزوجة بدمه الثائر المنتفض , يرى كل ما حوله يسير إلى الخطأ , وعبثاً يحاول أن يصلح ما يفسده الدهر . سرق الدهر من عمره عقوداً أربعة فتوجته العقود الأربعة هذه بلقب " الشيخ " .  إلا انه لم يستأنس يوماً بهذا اللقب . رجلٌ شريف الجانبين قد وَخَطَه الشيب فتواضع له , وعلم أن الشيب علامة من علامات الموت تتبدى له وتنذره حتى شابت نفسه وفقدت أكثر معاني شبابها وحيويتها , ثم تقهقر كبرياؤه حتى استقر في فكره ورأيه , وتقلصت آماله حتى خرجت عن مطامح الدنيا إلى مطامع الآخرة , واستقامت كلماته حتى تركزت في معاني الصلاح . ولما التصق به لقب " الشيخ " شعر بثقل جبلٍ يهوي على كاهله . فالشيخ وإن دلَّ معناه اللغوي على الطعن في السن , فإنه يدلُّ في قواميس الناس على الارتباط بمعاني الدين …  أما الشيخ مصطفى فقد أدرك أن الشيخ في معناه الدقيق ليس نفسه لابس الجبة والعمامة و طويل اللحية والسبحة , بل هو الروح الذي تستقيم به الأرواح ,  وهو الذي أثره في الناس كأثر المنارة على الشاطئ ترشد السفن الضالة , ومعناه للناس كمعنى الماء للظمآن ومعنى النار للبردان ومعنى الهدى للضليل . بل هو الدين مصوراً وهو الشريعة منتصبة وهو الحق ماشياً وواقفاً .  ولا يدرك الناس معنى الشيخ إلا إذا أدركوا تلك المعاني فيه . ويلبس الشيخ مصطفى كما يلبس الناس ولا يتميز عنهم بما يتميز المشايخ عن السواد .  وإذا سُئل في ذلك  قال : " إنه لحملٌ ثقيل " . وامتلك قطعة أرض في طرف من أطراف " كسروان" كان يكتسب منها , ولم يقبل أن يكتسب من عمله في مسجد القرية . وكلما عرض عليه الناس شيئاً كأجر له على قضاء جُلَّ وقته في المسجد , كان يقول لهم : " ألِلَّهِ الصلاةُ ومنكم الأجر؟ ... إنما أطلب أجري من الله ."

 ضف إلى ذلك كله أن الشيخ مصطفى كالو كان على صلة مباشرة بالأحداث السياسية والعسكرية , وكانت تصله قصاصات من المنشورات والصحف التي كانت تنشر آنذاك , ولم يكن يتحدث في هذه الأمور بعمق في مضافة الحاج إبراهيم , غير أن بعض شباب القرية كان يجتمع به في داره  وكان الشيخ يلقي عليهم ما يستحصله من تلك القصاصات . وكان من أكثر ندمائه آنذاك  رشيد  شقيق الحاج إبراهيم أحمد .   كانت الأيام تزحف ببطء وكان الظلام أثقل شيء يهبط على القرية, حين لم يكن لدى الناس سوى المصابيح والأسرجة العتيقة يردون بها ظلام الليل وكآبته ووحشته , إلا أنهم لم يجدوا ما يردون به ظلام القلوب , والقلوب هذه كانت أظلم ما تكون في تلك العائلة التي يتسيدها الحاج إبراهيم , والتي اشتملت على كل معاني الحياة , فكانت صورة مختزلة من الإنسانية , ونمطا ً مصغراً من الصراع بين القوى , وأنموذجاً حياً للطبيعة الهائجة تضاربت فيها قواها حتى أكدت قانونها الطبيعي " القوي يأكل الضعيف " ... وأي عائلة عنكبوتية هذه , تمزقت فيها وشائج الحب وانعدمت منها الحميمية المفروضة . لقد تقمصت تلك الطبيعة لتبدو في هيئة أسرة , وتكمشت لتظهر في رهط منها , وتشوهت حتى لا يرى الناس فيها ما هو فيها , وتزينت من الزينة حتى ظهرت أنموذجاً ومثالاً حياً عن أسمى معاني الوفاق .

ولم يكن هذا التقمص والانكماش والتشوه والزينة إلا انبثاقاً من دهاء الحاج إبراهيم , وتعبيراً حياً عن بعد حيلته وشدة حذاقته ومكره ومدى إحكامه وضبطه لمعاني هذا الانقلاب , بل قل إنه كان نوعاً مصغراً من الطغاة قد اكتسب قسوة ودهاءً وخبثاً , صنع من جميعها نفسه لتبدو شيئاً أشبه ما يكون بنفوس الطغاة . فلما بلغ بنفسه هذا المبلغ ظن أنه بلغ مطمحه وحقق مراده . ولم يمكنه من بلوغ طموحه إلا قلة الطموح لدى ذويه . وما سلطه عليهم إلا لجبنهم واستعدادهم للرضوخ . .... يقولون  :   " ما علَّم اللص َّ السرقةَ إلا المالُ السائب " !!! أو كما كان دارجاً  : " يا فرعون من فرعنك ؟  فأجاب : لا أحد ردني " .

ولقد زين طغيانه بصورة من بعد الفكر ورجاحة العقل وهدوء البال والاتزان في المجالس والهيبة والوقار التي يسكبهما على نفسه . ورأى فيما رأى أن المجدَ لا ينالُه إلا إذا ذكر الناس محامده , فراح يصنع فيهم ما يمدحونه عليه وهو منصرف إلى الانتشاء بأي نوع من المديح كان .

ومرت الأيام وصنعت من الحاج إبراهيم شيئاً يشبه الزعيم ,  وإن كانت القرية لا تتسع لهذا المنصب و لكن " الأعور في بلد العميان ملك " , لكن بلد العميان كان صغيراً جداً . وإذا قلت إن القرية كلها كانت بلد العميان , فإنها لم تكن يومئذ ٍ تحوي بين أكتافها غير بعض العوائل الرقيقة التي ما اعتادت يوماً أن تنظر إلى فوق , وبعض الرجال الذين انصرفوا إلى  تربية الأغنام أو الكد في أراض صخرية وعرة أو قضاء وقت طويل في ألعاب طفولية تسري عن نفوسهم المكتئبة . وإذا قلت إن عائلة الحاج إبراهيم هي بلد العميان فإنها كذلك كانت ضيقة للغاية , وكان للحاج إبراهيم ولد اسمه "  جومرد  " يكبر كلستان بعامين , وابنتان صغيرتان إحداهما عائشة من لدات كلستان والأخرى  روخاش تصغرها بعام واحد . ولقد كانت كلستان الصغيرة تهاب من عمها الحاج إبراهيم كما يهاب الطفل من وحش الحكايات المخيفة , وكذلك كانت ابنتا عمها . وما خافت كلستان من أبيها قط خوفها من عمها . لقد كان أبوها ملاذها الوحيد في عالم الخوف , فهو الوحيد الذي كان ينقذها من الحاج إبراهيم حين يشتد غضبه وتقوى ضرباته , أما أمها فكانت تقف بعيدا ًلا تملك سوى البكاء على مضض . وما أشد بكاؤها هذه الأيام بعد أن علمت مرض زوجها . وها هي ذي على بعد أيام أو أشهر لتفقد شعلة النور التي تضيء حياتها وباعث الحياة في جسدها وسيفها المسلول في وجه نائبات الدهر . وماذا هي بدون رشيد ؟؟ نهر بلا ماء ؟ أم سماء بلا نجوم ؟

حتى في هذه الأيام العصيبة لم يكن رشيد يجد من أخيه شفقة الأخوة . كان يكبح جماح نفسه الملتهبة ويحبس كل الهموم في قفص ضيق جاعلاً  من أساه درباً للفناء . وإن الهم لا يكون ثقيلاً إلا إذا كان كسلسلة تتعلق حلقاتها بعضها ببعض , لا يكاد الرجل يهم قائماً حتى تثقله فتوقعه , والمسكين كان ممن تعلقت الهموم بكل خلية من خلايا جسمه فانهار حتى لم يكن له من حراك , وقد أمدَّه الله بشعلة من الأمل بولادة ابنه شيار , فقد كان هذا الولد هو الشعاع المأمول , وكان الحلم الذي يمتد لعشرات السنين وكان الصفحة التي تحفظ اسمه بعد الممات , وكان الميراث الذي يدَّخره للغد , وكان الحزنَ الجاثم في أعماق القلب . ظلت الأحزان تخسف بقلب المسكين حتى أوقعته عليلاً , ويئس منه الطبيب . ولعله إذ ذاك تناول جرعةً من الموت فاستساغها فطمع في المزيد . وإن الموت ليكون أطيب ما يراه الإنسان في عالمه إذا استبد به عالمه, وضيقت الأحزان حصارها على قلبه المتوجع , واشتدت الخصاصة وشظف العيش , وزاد البؤس عن حده . فإذا بالإنسان حينها ميتٌ حي , يرى من الدنيا بأقل مما يُرى من خلال سَم الخياط . ولعل المصاب يكون أشدَّ إذا فقد الإنسان مع حاله تلك سلاحه المخصوص لمثل تلك الحال وهو الصبر , فإذا بالشيطان يدخل من أوسع الأبواب فيسطو على القلب اليائس والعقل المشلول والأعطاف المترنحة , فيأخذ بها شر مأخذ .

ودرجت الأيام على رشيد وهو على حاله تلك حتى لم يجده الناس يوماً ينبس ببنت شفة . وأجمع القوم أن الرجل مفارقهم لا محالة , وبدأت الدموع تبرق في العيون الحزينة , وبدأ الذعر يرتسم بخطوط سوداء على وجه الطفلة المسكينة . والطفلة هذه في أيامها تلك كانت أحوج ما تكون إلى حنان أبيها والى قوة أبيها . صحيح أنها لم تحظ بالكثير من هذا الحنان كونها أنثى ,لكنها كذلك لم تلق من أبيها الفظاظة والغلظة ما تلقاهما من عمها . وما كان الذي بينها وبينه إلا كالذي بين صخر وحجر صامتين هذا قوي ضخم وذاك صغير ضعيف . ولعلها كانت تأمل أن تفهم معنى الأبوة من خلال معاني الأمومة , فأدركت أن  الأبوة ما هي إلا نفحة من نفحات الأمومة , فاطمأنت لذلك ولم تبال لنفحة من النفحات غابت  . إن الطفلة وهي طفلة تستطيع أن تقرأ في عيون الكبار أحاسيس الحياة , فينبض قلبها بهذه الأحاسيس , فهي تبتهج حيناً وتكفهر أحياناً . وما رأت أباها وهو طريح الفراش إلا صخرة ستتحطم فتخف وطأتها على الأرض التي تحملها , وما رأت الناس من حوله إلا متفرجين يشهدون معنى هذا الانهيار , فينظرون عبره نظرة إلى نهايتهم , هذه النهاية التي تظل تجر أولها عبر أيام اسمها العمر , وكلٌ يسعى إلى حتفه . وإذا بصيحة قوية تهتز لها أركان الدار فتنتفض القلوب وتبلغ الحناجر , وتنكمش النفوس خلف الوجل .  وإذا بالصيحة تتوالد وتنتشر حتى تملأ زوايا الدار فتخرج منها إلى أطراف القرية فتنتفض القرية عن بكرة أبيها للمصاب الجلل . وطريقة الموت دائما تحدد كمية الأسى , وحال الميت يحدد كمية الدموع , وما أكثرها تلك الدموع التي ستراق على رشيد . لقد حوت القلوب أكثرها جزءاً من حزن قلبه , فهي تبكيه اليوم بحزنين , فإذا اشتد صراخ المرأة المنكوبة في حضنها طفل رضيع زاد حزنا على الحزنين , فإذا تلكأت الطفلة الباكية تتقاذفها الأحضان الغريبة وتمسح دموعها أيدٍ خشنة بلغ الحزن أوجه  .

ودرجت هنيهات كانت أثقل ما درجت على هذه القرية . صاح الشيخ مصطفى من بين الدموع : " إكرام الميت دفنه , كفى نواحاً أيتها النسوة , إن نواحكن يزيده عذاباً " .

كان الحاج إبراهيم يقف جامداً قاطب الجبين يتكلف في إظهار الحزن فيفشل  , لم يجده الناس حتى يومه هذا باكياً , فأراد ألا يجدوه كذلك أبداً . وحملت أكتاف الرجال  نعش الفقيد ثم واروا جثته تحت الثرى , وعادوا أدراجهم إلى الحياة التي ستبدأ بحلة أخرى .


تعليقات حول الموضوع

DIAB Mahmoud | الزميل القديم السيد عماد الكوسة
الزميل القديم السيد عماد الكوسة المحترم في الليلة الماضية تذكرت زملاء الجامعة و لدى محاولتي البحث عنهم باستخدام غوغل و لقد بدأت بالدكتور علي فؤاد ابراهيم باشا فوجدت و( للأسف) انه انتقل الى رحمته تعالى و فشلت في الوصول الى نتيجة فيما يخص البعض واما انت فوجدتك و رواياتك التي تصفحت منها دمعة من خريف آمد انا (و اعوذ بالله من قول انا) ا لان في فرنسا منذ عشر سنوات اعرف ما يجري الان بسوريا و اتمنى ان يصرف الله البلاء و اتمنى ان يصلك هذا الميل و ان ترد علي و اذا اردت ان تبعث لي رقم تلفونك (اذا امكن) و رقم تلفوني هو 0033611023225 محمود دياب جامعة حلب قسم الجيولوجيا 1994حتى2000
00:10:15 , 2013/02/21


هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟

إسمك :
المدينة :
عنوان التعليق :
التعليق :


 
 |    مشاهدة  ( 1 )   | 
http://www.tirejafrin.com/index.php?page=category&category_id=204&lang=ar&lang=ar